باسم سليمان's Blog, page 17

November 23, 2022

في التقبيح والتجميل.. هل ثمة أصول لعلم جمال عربيّ؟ – مقالي في ضفة ثالثة – باسم سليمان

لا نستطيع، إلّا أن نقول، بأنّ علم الجمال غربي المنشأ! وخاصة بعد أن قعّد منطلقاته الفيلسوف ألكسندر بومغارتن، في القرن الثامن العشر، منطلقًا من المهد اليوناني إلى عصر الأنوار الأوروبي، حاصرًا بحثه في الجماليات الأوروبية، مستبعدًا غيرها من الجماليات لدى الشعوب الأخرى. هكذا حكمت التصوّرات الغربية مفهوم الجمال بها، ووسمت بقية الشعوب بالمفهوم المضاد للجمال، ألا هو القبح، إلّا أنّ النقد الذي ابتدأه نيتشه: “بأقوى ما في الحاضر من قوة علينا تفسير الماضي” فتح الباب على إعادة النظر في مفاهيم الجمال الأوروبية وضمنًا القبح، بعدما أصبح إحدى حالات الجمالية. يشرح الأنثروبولوجي الفرنسي جاك ماكيه(1): “إنّ وجود كلمات عادية تنطبق على القيمة البصرية في لغة ما، وعلى تفكّرات ثقافية عن التجربة الجمالية، يشير إلى أنّ الإمكان الجمالي قد تحقّق في عدد واسع من المجتمعات، سواء عرفت الكتابة أم لا، أكانت مجتمعات بسيطة أو مركبة، قديمة وحديثة”. هذه النظرة الجديدة لتوسيع مروحة الجماليات عبر العالم، استند إليها د. شربل داغر في كتابه: (مذاهب الحسن، قراءة معجمية-تاريخية للفنون في العربية)، مثبتًا نظرة ماكيه، حيث درس الجماليات في الدار والزينة والخطّ والشعر، وغيرها من تجليات الحسن المضاد للقبح في معجم العين للخليل بن أحمد. وقد استنتج بأنّ مذاهب الحسن وما تشمله من صفات ونعوت قادرة، وإن لم يتم تعيينها في التراث باسم علم مخصوص، بأن تقوم بدورها في الكشف عن أصول علم جمال عربي وفق نسقه الخاص. 

يأتي بحث داغر ليشتبك مع النظرة السائدة عن التراث، حيث لا نقع في المصنفات التي وضعها الفارابي والكندي وابن خلدون وغيرهم، لأجناس العلوم، على تصنيف خاص بعلم الجمال. وفي الوقت نفسه وسّع من نظرة مفكّرين عرب، كانوا قد تنبّهوا لوجود العناصر التي كانت ستؤسس لعلم جمال لو قيض لها الانتظام. وهذا ما لحظه د. جابر عصفور(2)، بأنّه لو وضع العلماء العرب التجربة الجمالية ضمن حيّز متعيّن بها، كغيرها من العلوم، بدلًا من أن يتركوها مبثوثة في طيات العلوم الأخرى، لكنّا تحصّلنا على علم جمال يندرج مع بقية العلوم التي بُدِئ في تصنيفها منذ أواخر القرن الثالث هجري. وفي نوع من الجدل المتنامي لذات الفكرة، يقول د.علي زيغور(3) بأنّ إسقاط التصنيف لعلم الجمال من المدونة التراثية العربية، لا يعني أنّ النظر الفلسفي فيه، ولا سيما الماورائي، كان غير مفعّل. لكنّ تبحّرًا أكثر في هذا الموضوع، كما يرى داغر(4) يكشف لنا، أنّ أخوان الصفا وفق تقسيمهم للعلوم والصناعات، قد وضعوا فرعًا لما يُسمى صناعات الزينة والجمال. 

مهما يكن، فإنّ الجماليات تستدعي ضدها، أي القبح، وبناءً على تشتت الدراسة المنهجية العلمية للجمال في تراثنا، فهذا بالضرورة سيكون حاكمًا على النظرة إلى  القبح، فهي الأخرى متفرِّقة، ويحتاج ضبطها إلى ذات المجهودات التي لحظت تواجد علم الجمال، لكن كما أدركت غريِتشن. إي. هنْدِرْسن(5) بأنّه كثيرًا ما نُظر إلى القباحة كحالة جامدة مستبعَدة، أمام مركزية وحيوية الجمال في التاريخ، لذلك نستطيع أن نقول بأنّ حال القباحة كان ذاته في التراث العربي، فهي المضادة للحسن بالقول والسلوك والفعل والشكل، ومستبعَدة من الدراسة في الوقت ذاته. وتؤكّد هندرسن بأنّ القباحة لم تكن جامدة أبدًا، فهي تتوسّط العلاقة بين الإنسان ومحيطه، وتدفعه إلى إعادة التمعّن في سؤال الجمال وتعيين أسسه. ومن هنا، سيكون منطلق المقال في التقاط تلك الإشارات التي مارستها القباحة في تراثنا عبر تغيير مفهوم الجمال، أكان ذلك بتقييمه الأخلاقي والفلسفي والثقافي والفنّي، وذلك عبر الكشف عن بنيتها التي تعمل على تفكيك النظرة الجمالية النمطية، وتفتح الحياة على تقبل الآخر الموسوم بالقباحة.

بثينة في مواجهة الكاهنة ديوتيما: 

“دخلت بثينة على عبد الملك بن مروان، فقال لها: والله يا بثينة ما أرى فيك شيئًا، ممّا كان يقول جميل. قالت: يا أمير المؤمنين، إنّه كان يرنو إليَّ بعينين ليستا في رأسك”! إنّ الكاهنة ديوتيما هي من اتبعها أفلاطون بعدما أنطق سقراط في محاوراته بحثًا عن كيفية سلوك سبل الجمال. والفكرة تقوم على أنّ الباحث الجمالي يبدأ سعيه نحو الجمال المطلق من شخص جميل، إلى أشخاص جميلين. وذلك بدءًا بالجمال الجسدي وصولًا إلى الجمال الفكري، ومن ثم مثال الجمال المثال. تذكر هندرسن بأنّ سقراط كان يعدّ من القبيحين! هذه المفارقة التي غيّبها أفلاطون تلقّفها الفيلسوف كريسبن سارتويل منتقدًا مفهومية أفلاطون عن الجمال قائلًا: “…الحبّ هو انفتاح  الذات على خصوصية الآخر، لذلك لا يمكن أن يكون تجريدًا ينأى عن القباحة، بل سماح لها بأن توجد”. إنّ إجابة بثينة تفضح وهم معيار الجمال المطلق، وتقرّ بأنّ النسبية هي الجمال المشتهى الذي يسمح بقبول الآخر، الذي تم نفيه من دائرة الجمال بموجب القبح، الذي يعني في إحدى دلالاته الإبعاد. وهنا، لو انفتح عبد الملك على خصوصية بثينة وجميل، لم يكن ليسألها هذا السؤال الجمالي الذي لم يكن نظيفًا أبدًا؛ كما تقول الفيلسوفة كاثلين ماري هيغنز: “بأنّ الجمال ليس بريئًا”، ولكي نفهم أكثر ما تقوله، لنتذكّر مقولة أرسطو، بأنّ النساء ذكور مشوهون! فمن الأولى بالإتباع ديوتيما أو بثينة بعد ذلك؟

إنّ مفهوم القبح بقدر ما يتم تهميشه، لكنّه يعود ليظهر من قلب الجمال الذي هو بطبعه حكم تقييمي- أكان أخلاقيّا أو فنيًّا أو ثقافيًّا- على كائن أو شيء. لا ريب أنّ بثينة لم تتخلَ عن حكمة الصحراء التي تزدهر بالنبات والأزهار، ما إن يلامسها المطر، فأتى جوابها من الطبيعة المخاتلة للصحراء، التي تارة تكون الموت، وتارة أخرى الحياة. قد يكون الإعرابي الذي يسكن البادية شختًا مهزولًا، ومقرقمًا ضئيلًا، فيجعل ذلك دليلًا على كرم أعراقه، وشرف ولادته. قال الأصمعي(6): “قلت لغلام أعرابي: ما لي أراك ضعيفًا نحيفًا، وصغير الجسم، قليلًا مهزولًا؟ قال: قرقمني العزّ!” فكيف بعد إجابة الفتى أن ينتقصه الأصمعي ما دام العزّ -أحد متطلبات الجمال- هو السبب في ما انتهى إليه الفتى من سوء حال.                                                     يقول دعبل الخزاعي: هي النَّفسُ مَا حَسَّنْتَهُ فمحسَّنٌ/ لديها وما قبحته فمقبحُ.                        ينطلق الخزاعي من ميزان الذائقة في تقبل الجميل والقبيح وبالتالي ينفي تدرج أفلاطون الجمالي ذي الصبغة الموضوعية. ويثني على معنى الخزاعي أبو فراس الحمداني:                                     فجميلُ العدوِّ غيرُ جميلٍ/ و قبيحُ الصديقِ غيرُ قبيحِ.                                                   ولكي نستوعب أنّ مفهوم القبح، أيًّا كانت تجلياته، كان يخلخل دومًا المعايير القارة للجمال ويبدع جمالياته الخاصة، لا بدّ أن نستشهد بمقولة أبي نواس. لا ريب أنّ الخمر بتحريمه الديني أو بتغييب عقل متعاطيه، كان مدارًا للتقبيح، لكن لنتوقّف عند أبي نواس في خمرياته حيث يقول: لا تلُمْني على التي فَتنتْني/ و أرَتْني القَبيحَ غيرَ قبيحِ. فهو ينطلق من الحكم الجمالي الديني والأخلاقي ليعيد موضعة قباحة/ جمال الخمر في الجمال الشعري.

وعلى ما تقدّم من تلك الشذرات نجد أنّ مفهمة القبح كمضاد للجمال لم تكن ثابتة، فكما أنّ الضد يظهر حسنه الضد، فالتحسين لم يطل الجمال فقط من خلال ضده القباحة، بل إنّ القباحة اكتسبت جمالياتها من خلال ركود الجمالي في التعيينات، فالموضوعية المرغوبة للمقياس الجمالي جعلته متخلفًا عن حركة التاريخ، بحيث أصبح ما يعتبر قبيحًا جميلًا لتتحوّر المقولة، فتصبح: الضد يظهر حسنه الضد؛  تمنح الجمال والقبح لكل من الضدين نسبيًّا، ما دامت النفس وفق الخزاعي، هي سيدة الحكم في المفاهيم. 

 القبيح الجميل:

إنّ مقياس أفلاطون للجمال قد نطلق من الجسد البشري، قبل أن ينتشر في الفنون من رسم ونحت والآداب بأنواعها. إنّ مبتدأ أفلاطون الجمالي كان قد تجسّد عند الرسّام زيوكس(7) عندما رسم هيلين التي خطفها باريس وتسبّب بحرب طروادة. لقد أحضر زيوكس خمسًا من الفتيات الجميلات ليأخذ من كل واحدة منهن الجزء الأكمل فيها، منتجًا من خلاصة جمالهن لوحة للجميلة الفائقة هيلين. ولكي تكتمل ثنائية الجمال والقبح المتضادة والمؤتلفة في الوقت نفسه، كان يجب أن يموت زيوكس بسبب نوبة ضحك هستيرية، بعد أن طلبت منه عجوز أن يتخذها نموذجًا للوحة لأفروديت. وعليه كما كان الجمال معبّرا عنه بالجمال الجسدي للإنسان، كذلك كانت الشذوذات والعاهات في الجسد الإنساني موضعًا تتجلّى فيه القباحة بأبهى صورها، فكثيرًا ما اعتبر الجسد المشوّه والملوّن مرآة لما يعتمل في نفس الإنسان، فليس غريبًا أن يطلب أفلاطون من أهل مدينته، أن لا يربّوا أطفالهم المعوّقين وأن تعمل أسبارطة على قتلهم.

عرف العرب التقبيح بالمثالب في الأنساب والأعمال والصفات غير الأخلاقية والخلقية. ويعتبر   زياد بن أبيه أول من ابتدأ بجمع مثالب العرب ومن بعده الكلبي. ويعدّ الهيثم بن عدي أكثر من كتب في المثالب. وقد تناول في جانب من كتبه القباحات الناتجة عن العاهات الخلقية والجسدية، إلّا أنّ الجاحظ في تقديمه لكتابه؛ البرصان والعرجان والعميان والحولان، رفض منهج الهيثم بن عدي في تقبيح أصحاب العاهات، بل ذهب إلى تقديم صورة مشرقة لذوي العاهات الذين لم تكن عاهاتهم لتحول بينهم وبين تسنّم الذرى(8): “وقد خفت أن تكون مسألتك أياي كتابًا في تسمية العرجان والعميان والصّمّان والحولان، من الباب الذي نهيتك عنه وزهدتك فيه. وذكرت لي كتاب الهيثم بن عدي في ذلك ، وقد خبرتك أنّي لم أرض بمذهبه”. ينطلق الجاحظ في كتابه من أشعار القدماء وكيف كانت لهم القدرة على نقل العاهة الخلقية إلى حيز الجمال. لقد كانت العرب تفخر بالعمى كما أورد بشار بن برد:                                                                                               إِذا وُلِدَ المَولودُ أَعمى وَجَدتَهُ/ وَجَدِّكَ أَهدَى مِن بَصيرٍ وَأَجوَلا                                             عَميتُ جَنيناً وَالذَكاءُ مِنَ العَمى/فَجِئتُ عَجيبَ الظَنِّ لِلعِلمِ مَعقِلا.

يتابع الجاحظ في عرضه لكتابه بإيراد الأمثلة عن قدرة الأعرابي في نقل ما يشين من خانة القبح إلى خانة الجميل: “وإذا كان الأعرابي  يعتريه البرص، فيجعله زيادة في الجمال، ودليلًا على المجد، فما ظنك  بقوله في العرج والعمى، وهما لا يستقذران ولا يتقزّز منهما ولا يعديان، ولا يظن ذلك بهما، ولا ينقصان  من تدبير، ولا يمنعان من سؤدد”.

هذه النسبية في الحكم الجمالي التي لحظها الجاحظ من خلال تعداد أشراف العرب والمسلمين الذين أصابتهم العاهات، كانت قادرة على تدوير مفهوم الجماليات المرتبط حكمًا في تلك الأزمنة بالأخلاق والقيمة. يقول أبو طالب بعد أن عيّرته بعض نسائه:                                               قالت عرِجتَ فقد عرِجْتُ فما الذي/ أنكرتِ من جَلَدي وحسن فعالي. 

ننتقل بعد الجاحظ إلى أبي منصور الثعالبي في كتابه؛ تحسين القبيح وتقبيح الحسن. وتكمن قيمة هذا الكتاب على صعيد المفاهيم الفكرية الجمالية، فالعقل والعلم والمعرفة والكرم هي مفاهيم قد تم مدحها دومًا، لكن أن نجد من  يقبّحها ويجمّل قبائح أخرى من مثل: تحسين قول لا، والمرض، وسواد اللون والموت والكذب وغيرها الكثير من القباحات، فهذه التبادلات بالمواقع بين الجميل والقبيح تهز القناعات وتغير سمت النظر وتفتح الحياة على المختلف/ الهامش بمقابل المؤتلف/ المركز. يذكر الثعالبي مقولة أحد الفلاسفة في تجميل الموت وأنّه به تتم الإنسانية: “لا يستكمل  الإنسان حدّ الإنسانية حتى يموت، لأن الإنسان حيّ ناطق ميت”.

تخصص هندرسن سطور قليلة للنظرة إلى العاهات في العصور الوسطى الإسلامية استنادًا إلى كتاب: الاختلاف والإعاقة في العالم الإسلامي في القرون الوسطى(9) وترى في عمل الشاعر تقي الدين البدري الدمشقي ما يشبه خطة زيوكس في لوحته لكن بشكل معكوس، فقد جمع تقي الدين أشعارًا مع إدخال التعديل عليها بذكر العاهات، لكن ليصنع منها جسدًا مثاليّا(10):                                                                                                 سألته عن يده ما الذي يوجعها/ فقال كسرت أجبته وكذلك قلبي. 

إنّ القدرة على تعديل النظرة إلى القبيح ومنحه سمات الجمال، كان لها ميزة توطين أصحاب العاهات في مجتمعهم. تجادل هندرسن بأنّ الجمال لم يكن بريئًا أبدًا عبر التاريخ وكان منطلقًا لممارسات عنصرية وعرقية وجنسية وفكرية ودينية وسياسية. وتذكر أنّ بعض القوانين التي لم تكن تسمح لأصحاب الإعاقات في الغرب من الظهور في الساحات العامة، لم تلغ إلّا في أوائل السبعينات من القرن الماضي. وتستشهد بتجربة فنانة الأداء ماري دافي التي ولدت من دون ذراعين والتي أدّت دور فينوس دي ميلو المقطوعة الذراعين، وتسأل من الذي يحدد الجمالي؟

إنّ اتخاذ هذا المنحى في دراسة جماليات القباحة في التراث العربي من خلال العاهات الجسدية قد تأتّى بداية من منع التصوير والنحت، وهما أحد المنطلقات التي استند عليها علم الجمال، لذلك اعتبرنا الجسد الإنساني بديلًا عن اللوحة والنحت، فرأينا كيف تم مداورة مفاهيم الجمال والقبح وتشاكلهما من خلال النظرة إلى العيوب الخلقية. ونستطيع أن نعتبر الثعالبي رمزيّا في طرحه على الصعيد الفكري، وتقي الدين انطباعيّا على صعيد التصوير. وهذا بدوره يقودنا إلى الجزئية الثانية في دراسة الجمالي في التراث العربي، ألا وهي القبح، بحيث قد تبيّن لنا أنّ مبحث جماليات القباحة كان متواجدًا، ولكنه مشتت في طيات تراثنا. لذلك نختم مع مقولة المغني فرانك زبا: ماهو أقبح جزء من جسدك/ البعض يقول أنفك/ البعض يقول أصابع قدميك/ لكنّني أقول أنّه عقلك.

المصادر:

– مذاهب الحسن، شربل داغر. المركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع- بيروت 1995.مجلة الفكر العربي، العدد 67 العام 1992.نفس المصدر السابقمذاهب الحسن، شربل داغر. المركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع- بيروت 1995.التاريخ الثقافي للقباحة، غريِتشن. إي. هنْدِرْسن. دار المدى 2020.كتاب البرصان والعرجان والعميان والحولان، الجاحظ، تحقيق وشرح عبد السلام هارون. دار الجبل – بيروت 1990.https://www.wikiwand.com/ar/%D8%B2%D9%8A%D9%D9%D8%B3.كتاب البرصان والعرجان والعميان والحولان، الجاحظ، تحقيق وشرح عبد السلام هارون. دار الجبل – بيروت 1990.https://www.h-net.org/reviews/showrev.php?id=37135.لم تحقق مخطوطة تقي الدين البدري الدمشقي بعد لذلك تم الاستناد في إيراد الشاهد على ما جاء في كتاب هندرسن.

باسم سليمان

خاص ضفة ثالثةhttps://diffah.alaraby.co.uk/diffah/opinions/2022/11/23/%D9%D9%8A-%D8%A7%D9%D8%AA%D9%D8%A8%D9%8A%D8%AD-%D9%D8%A7%D9%D8%AA%D8%AC%D9%D9%8A%D9-%D9%D9-%D8%AB%D9%D8%A9-%D8%A3%D8%B5%D9%D9-%D9%D8%B9%D9%D9-%D8%AC%D9%D8%A7%D9-%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A-

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 23, 2022 02:15

November 4, 2022

“مُعَنْبَرة خضراء مثل الزّبرجدِ”… الحشيشة في التراث العربي – باسم سليمان – مقالي في رصيف22


 باسم سليمان

الجمعة 4 نوفمبر 202212:07 م

أسّس طبيب الأعصاب والنفس جاك جوزيف مورو مع آخرين، في القرن التاسع عشر، نادياً للحشّاشين، كي يختبروا تأثيرات الحشيش والمخدرات على النفس البشرية. وقد ضم النادي أعضاء من النخبة الفرنسية المثقّفة، نذكر منهم شارل بودلير وفيكتور هيغو. ولا ريب أنّهم كانوا يدخّنون الحشيش على مذهب المخمّسة في العصر الأيوبي!

لم يغب الحشيش عن تراثنا، فقد كان له شعراؤه وظرفاؤه وصناع حلوياته، إضافة إلى متعاطيه، فكُتبت عنه الأخبار والرسائل. ولربما كان أشملها ما ذكره الأديب تقي الدين البدري الدمشقي في القرن الخامس عشر في رسالته “راحة الأرواح في الحشيش والرّاح”.

نبات القنّب، الحشيش، هو غصن من أغصان شجرة الزقوم، وله ثمانون اسماً؛ ففي الهند كان اسم الحشيشة “السكينة”، وفي اليمن “بنت الجِراب”، وعند أهل الشام “الصحيح”، وفي مصر “زيه”. كما تعدّدت أسماء الحشيشة حسب كلّ بلد وشعب وطائفة، فلدى الصوفية هي “لُقيمة الفقراء”، وأسماها الفلاسفة “لُقيمة الفكر”، فإن طلبتموها من صنّاعها عليكم باسم “البشبيشة”. وأمّا البائعون لها، فيسمونها “الكحل”، وعند إبليس وجنوده “المصيدة”. وقد قال عنها ابن النجار: “هات بنت البقول، وغنّي وقول، إن كان لك معقول”. وهو الذي نقل عنه تقي الدين البدري الدمشقي العديد من أسمائها.

الحشيش، نبات القنّب وهو من أول النباتات التي دجّنها الإنسان، واستخدمها في صناعة المنسوجات والزيوت والطعام والطب. ويعود أول تسجيل لظهور نبات القنّب في الاستخدام البشري إلى الألف الثالث قبل الميلاد في الهند. وفي مقبرة صينية تعود إلى 2500 سنة قبل الميلاد، حيث وُجدت آثار تدل على استخدام القنّب للتأثير النفسي عبر استنشاق دخانه. وقد ذكر المؤرخ هيرودوت الحشيش في أحد نصوصه التي تعود إلى ما قبل الميلاد.

انتشرت الحشيشة عبر العالم منذ العصور القديمة، وقد لحظها العلماء والكتاب العرب مثل الرازي وابن عساكر، واختلفوا قليلاً في زمن معرفتها في بلاد العالم الإسلامي، ما بين القرن الخامس والسابع الهجري، وأرجع الحافظ بن كثير ظهورَها إلى التتار.

أمّا من نُسب إليهم إظهارها، فقد قال بعضهم، بأنّ الشيخ قَلَندر، هو من ابتدأ باستعمالها، في حين قال البعض الآخر، بأنّ الشيخ حيدر الخُراساني، هو من أظهرها لتابعيه. وما بين الشيخين تعدّدت الروايات، إلّا أنّ الحضّ على كتمان تعاطي هذا السرّ، كان من كليهما.

وجاء في التراث، بأنّ الشيخ حيدر الخُراساني، ومقامه في نيسابور من بلاد خُراسان شرق إيران، كان قد خرج من إحدى خلواته إلى الصحراء في ساعة القيظ، فانتبه إلى نبتة تميس بخفّة، كأنّها سكرانه، نشوانه، فنادى عليه منادي الكشف، أي هاتف لا يُرى بأنْ: “كُلْ من ورق النبات، فإنّه أعظم القربات، فهو طعام المتفكّرين في معانينا، ومُدام المعتبرين بمغانينا”. وعندما أكل الشيخ منها أصابه الوجدُ والطرب، فتحقق من سرِّها وحكمتها، فعاد إلى أصحابه وعرّفهم بها، وطلب منهم سترَ تعاطيها. وقد زرعها تلاميذه على قبره تكريماً له لتعريفهم بهذا السرّ.

وقد ذكر بعض الشعراء نسبتها له كالشاعر الدمشقي محمد بن علي بن الأعمى الدمشقي: “دع الخمر واشرب من مُدامة حيدر/مُعَنْبَرة خضراء مثل الزبرجد”. واتبعه بذلك الشاعر أحمد بن رسام: “واشكرْ عصابة حيدر إذ أظهروها/لذوي الخلاعة مذهبَ المتخمِّس”، الذي ذكرناه أعلاه في نادي الحشّاشين الفرنسي. ويذكّرنا مذهب المتخمّس بالعادة بين متعاطين الحشيشة بأن يتشارك السيجارة أكثر من مدخّن، كما في أغنية فرقة عائلة البندلي في الثمانينات: “دورها دور دور”.

أمّا الشيخ قلندر فقد وضع قواعد تعاطيها: “اعلمْ أنّه يجب على العاقل الأديب الفاضل، إذا أراد استعمال هذا العقار أن يطهِّر من النجس جثمانَه، ومن الدنس قمصانَه، ويتحلّى باكتساب الفضائل، ويتخلى عن اِرتكاب الرذائل”، وأن يتناولها بيده اليمنى قائلًا: “بسم الله ربّ الآخرة والأولى الذي أخرج المرعى”. ويتابع الشيخ قَلَندر بتعداد الواجبات والاحتياطات على متناول الحشيشة، كأن يكحل أسنانه بالإثمد حتى يخفى عن الأخشان شأنه، ويقصد بالأخشان الذين لا يفقهون سرّّ هذه النبتة الذي بها يفاض على متعاطيها من علم الله القديم، فينفصل عن ناسوته، ويتصل بمعنى لاهوته.

وتُنسب الحشيشة إلى صوفي هندي يسمى “البيررتن”، وهو أول من أظهرها في الهند، ومن هناك انتشرت إلى العالم. ويقال بأنّ هذا الصوفي كان على زمن الرسول محمد، وقد عاش إلى القرن السابع هجري، لكنّ ابن شاكر صاحب كتاب “فوات الوفيات” ينكر هذا الحديث بالمطلق.

وتتكرّر ذات القصة لدى تقي الدين البدري الدمشقي عندما أنكر ما نسب إلى الشيخين حيدر وقلندر استناداً إلى نصر الله بن محمد الشيرازي في كتابه “رياض العارفين”، الذي كتب سيرة الشيخين وأكد أنّهما لم يتناولا الحشيشة أبداً، لكنّ أتباعهما قد فعلوا ذلك، وأنّ من أدخلها إلى خُراسان رجل أسود كشفةِ الشيطان يتبع صوفيّاً في الهند، يُدعى “بيرنطن” كان يتعبّد للشيطان في صنم، فأظهرها له الشيطان، ومنه انتشرت. حيث نرى القرابة اللفظية بين اسم البيررتن وبيرنطن.

بين الخمر والحشيش داحس وغبراء

كان بين المُدام وبنت البقول حرب شعواء على ألسنة الشعراء، جنّدوا فيها التشابيه والاستعارات، كلٌّ يريد أن يسحب البساط نحوه كما جاء في كتاب دراسات في الشعر في عصر الأيوبيين. يقول محمد بن علي بن الأعمى في فضل الحشيشة على الخمر:

دَع الخمر واشرب من مُدامة حَيْدَر/مُعَنْبَرَة خضراء مثل الزبرجدِ

هي البِكر لم تُنكح بماء سحابةٍ/ولا عُصِرَتْ يوماً برجْلٍ ولا يدِ

ولا عَبَثَ القِسيس يوماً بكأسها/ولا قَرَّبوا من دَنِّها كُلَّ مَقْعَدِ

ولا نَصَّ في تحريمها عند مالكٍ/ولا حَدَّ عند الشافعيِّ وأحمدِ

ولا أَثْبَتَ النعمانُ تنجيسَ عينها/فخُذْهَا بحَدِّ المشرفي المهنّدِ

يفاضل الشاعر بين الخمر والحشيشة، فيأخذ لها صفة المُدام بعد أن يسلخها عن الخمر. ويثبت لها عذرية لا تتمتع بها الخمرة التي يتوجب خلطها بالماء حتى ترق، ويبعدها عن وطء الأرجل عند العصر ولعب الأيادي، وما يفعل بها القسيسون الذين اشتهروا بخمورهم. ومن فضائل الحشيشة على الخمر أنّها نجت من فتوى الأئمة الأربعة في الإسلام فلم تحرّم من قبلهم.

أمّا الشاعر زين الدين البكري: فيقول: غنَيتُ بها عن شرب خَمْر معتَّقٍ/وبالدّلقِ عن لبسِ الجديد المزوَّقِ

يشنّ ابن الصائغ هجوماً ضارياً على الخمرة عبر مقايستها بفضائل الحشيشة، قائلًا:

أعطِني خضراء كافوريةً/يكتب الخمر لها من جُندها

أَسْكَرَتْنَا فوق ما تُسْكِرُنا/وربحنا أنفُسًا مِنْ حَدِّهَا.

لقد أصبح الخمر جندياً في جيش الحشيشة المنسوبة إلى بستان في القاهرة على أيام الأيوبيين يسمى “الكافوري”، وإليه نسبت الحشيشة التي من مميزاتها أن لا يحدّ متعاطيها، كما يحدّ شارب الخمر. ويزيد فيقول في قصائده: يفعل منها درهمٌ فوق ما/تَفْعَل أرطالٌ من الخمرِ.

لم يسكت شعراء الخمر على تجنّي شعراء الحشيشة، فردوا لهم الصاع صاعين، فقال جمال الدين النجار نقيب أشراف الإسكندرية في القرن السابع هجري:

لحا الله الحشيش وآكليها/لقد خَبُثَتْ كما طاب السلافُ

كما تسبي كذا تُضْنِي وتُشْقِي/كما يشقى وغايتها الخرافُ

وأصغر دائها والداء جمّ/بغاءٌ أو جنونٌ أو نشافُ

لقد شبّه الشاعر آكليها بالخراف، الذين تقودهم إلى التهلكة بالتعهر أو الجنون أو المرض. أمّا الأسعردي، فأنشأ قصيدة طويلة أظهر فيها مزايا الخمرة على حشيشة الخراف: أترضى بأن تمسي شبيه بهيمةٍ/بأكل حشيش يابس غير أرغدِ

فدع رأيَ قوم كالدواب ولا تَذَرْ/سوى درة كالكوكب المتوقدِ

إلّا أنّه بدّل رأيه، وقال قصيدة أخرى يعلي الحشيشة فيها على الخمرة:

لك الخير لا تسمع كلام المفندِ/ودونك في فتياك غير مقلدِ

سألْتَ عن الخضراء والخمْرِ فاستمِعْ/مقالةَ ذي رأيٍ مصيبٍ مسدَّدِ

وحقِّكَ ما بالخمر بَعْضُ صفاتها/أتشرب جهراً في رباطٍ ومسجدِ؟

نستطيع أن نقول بإنّ أول حادثة إتلاف لمحصول الحشيشة، كانت في زمن الأيوبيين في مصر، بعد أن فشت الحشيشة بين الناس، إذ انتقلت إليهم من خلال المتصوفة. فأمر السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب أن تمنع الحشيشة في بستان الكافوري.

وذات يوم دخل البستان فوجد فيه الكثير منها، فأمر أن يجمع ويحرق، فقال أحد الشعراء راثياً:

للَّه دَرُّكِ حية أو ميتة/من منظر بَهِجٍ بغير نظيرِ

أُودِيتِ غيرَ ذميمة فسقى الحيا/ترباً تَضَمَّنَ منكِ ذوب عبيرِ

عندي لذكركِ ما بقيت مُخلداً/سحّ الدموع ونفثة المصدورِ

حلاوة الشريف بالحشيش

يقال بأنّه قد جاء أعجمي إلى الشام يدعى بالشريف، فنصب تحت قلعتها خيمتين، يبيع في إحداهما الحلوى، وفي الثانية وضع نباتات مختلفة، يأخذ منها ما يشاء، ويخلطها بالحلوى، حتى شاع خبره ووصل إلى مصر، فأرسلوا له قائلين: يا رائحاً لدمشق تحت قلعتها/سلّمْ على بائع المعجون بالخيمي. علم العجمي بتلك الدعوة، فيمَّم وجهَه نحو مصر، وفتح حانوتين بين القصرين على باب الأمير تمر المحمودي والي القاهرة، وبدأ بصناعة أنواع الحلوى المخلوطة بالنباتات، فاشتهر جداً، وخاصة بعدما قدّم إلى سلطانها.

وهكذا فتن أهل القاهرة بحلْواه التي أصبحت أشهر من نار على علم، فأصبح المصريون لا يتهادون إلا بها. ويندر أن يوجد أحدٌ ليس في جيبه بعض منها، حتى أتلف أغلب مصر من رجال ونساء وأطفال. وحدث أن اشتكت عليه إحدى نساء الأمراء بعد كارثة أصابتها في الحمام إثر تناولها من حلاوة الشريف، فاجتمع الأمير بمحتسب القاهرة الذي طلب الشريف وقال له: أتجعل في الحلوى حشيشاً؟ فقال: لا! فأمره المحتسب بصنع الحلوى أمامه، فلم يجد المحتسب من النباتات التي طلبها من العطار أي قنّبٍ، فحكم ببراءة الشريف، وصار من خدم الأمير. وأصبح له في كلّ شارع فرعٌ يبيع فيه الحلويات، فاختلف الناس في أمره، وقالوا بأنّه يخلط نقيع ماء وضع فيه حافر حمار.

ومنهم من قال بأنّه يضع في الحلوى بعضاً من نبتة الداتورة التي تسبب الهلوسة، وتعني فخّ الشيطان. ومنهم من قال بغير ذلك من النباتات المخدرة. ومهما يكن فإن خدعة الشريف قد وجدت لها في أساليب توزيع المخدرات في عصرنا باباً للمهربين وللمتعاطين. لكن تقي الدين البدري الدمشقي صاحب رسالة “راحة الأرواح في الحشيش والراح” رأى بتحليلات الناس عن هذا الهوس بحلويات الشريف أصلاً في شجرة الزقوم.

تُسقى من الحميم وتهبّ عليها اليحموم

يُذكر في أن الحميم، شراب أهل النار، وهو ماء أسود منتن. أمّا اليحموم، فهي ريح شديدة مقتمة. في هذا الجو تنمو شجرة الزقوم طعام أهل النار، وهي تطلق أبخرةً سامة تسربت من تحت سبع أرضين إلى سطح الأرض، فنبت منها القنّب وغيرها من النباتات الرديئة. وجاء في الحديث كما ذكر تقي الدين أن أعرابياً اجتاز بالنبي والزبد طائر من فمه، فقال: “يا رسول الله، إنّ لي إبلاً، وقد ضلت عني، ولي خمسة أيام أدور عليها، فلقيت حشيشة ذات سبع أصابع محدودة الرأس، زكية الرائحة، حمراء العود، فأكلتُ منها، فغمّ علي كما ترى. فقال النبي: تلك من شجرة الزقوم، أبعد الله أكلها، ثلاث مرار”.

وقال الإمام علي راوياً عن الرسول: “إياكم وخمرة العجم، لئلا تنسيكم الشهادة”، وجاء في الشرح أن الرسول نسبها للعجم، لأنّها من هناك فشت بين الناس وأرجعها للخمرة، لأنّها تسكر، وكلّ مسكر حرام.

لم يثبت تحريم صحيح للحشيشة لكنهم حرّموها بالقياس إلى الخمر. واختلفوا إن كان متعاطيها يحدّ بالجلد أو يعاقب بالتعزير.

وفي الختام نذكر قول ابن الشماع في القرن الثالث عشر ميلادي في الحشيشة:

في خُمار الحشيش سرٌّ خفي/دقّ تعبيره عن الأفهامِ

حرّموها من غيرِ نقلٍ وعقلٍ/وحرامٌ تحريمُ غير الحرامِ.

https://raseef22.net/article/1090163-%D9%D8%B9%D9%D8%A8%D8%B1%D8%A9-%D8%AE%D8%B6%D8%B1%D8%A7%D8%A1-%D9%D8%AB%D9-%D8%A7%D9%D8%B2%D8%A8%D8%B1%D8%AC%D8%AF-%D8%A7%D9%D8%AD%D8%B4%D9%8A%D8%B4%D8%A9-%D9%D9%8A-%D8%A7%D9%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-%D8%A7%D9%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A https://raseef22.net/article/1090163-%D9%D8%B9%D9%D8%A8%D8%B1%D8%A9-%D8%AE%D8%B6%D8%B1%D8%A7%D8%A1-%D9%D8%AB%D9-%D8%A7%D9%D8%B2%D8%A8%D8%B1%D8%AC%D8%AF-%D8%A7%D9%D8%AD%D8%B4%D9%8A%D8%B4%D8%A9-%D9%D9%8A-%D8%A7%D9%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-%D8%A7%D9%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 04, 2022 03:42

November 2, 2022

“ليس الباب حائطًا أبكم”.. عن الإنسانية والأبواب – مقالي في ضفة ثالثة – باسم سليمان

كما لا يُوجد حضارة من غير نار، كذلك لا إنسانية من دون أبواب. لقد عُبدت النار، وجُعلت للأبواب آلهة، من هرمس الإغريقي إلى يانوس الروماني، وذلك لعظمة الدور الذي تلعبه هذه الأبواب في حياة الإنسان. إنّ نظرة فاحصة إلى بوابة عشتار التي تزّين الآن إحدى قاعات متحف بيرغام في ألمانيا، تمنحنا الفرصة لإدراك أهمية الباب في الثقافة الإنسانية، أكان مجسدًا بشكل مادي أم رمزيّ. هكذا بنى نبوخذ نصر بوابة عشتار العابرة للأزمنة لتعبّر عن مناعة بابل وعظمتها. لقد شرعنت الأبواب برتوكولات الدخول والخروج في الحضارة الإنسانية التي تنمو باضطراد، والتي كثيرًا ما خُرقت بواباتها بأحصنة طروادة، وصولًا إلى جريمي بنتام ورؤاه حول السجون ذات الحيطان والأبواب الشفافة، حيث لا يبقى للسجين من إنسانية أبدًا.                                                                  نطرق على الأبواب، أو نغلقها خلفنا، نتلصّص من ثقوب مفاتيحها، نرقّمها في سعينا المعماري لضبط حركة الإنسان. نكرهها ونحبها، نفلسفها ونمثلها دينيًّا عبر سَمّ الخِياط الذي سيكون بابًا للجنّة يمنع الأغنياء من دخولها، لكنّ ابن القارح في رسالة الغفران للمعري، وجد ما يشبه صكوك الغفران التي كانت الكنيسة تمنحها كمفاتيح مدفوعة الثمن، حتى لا تغلق أبواب الجنّة في وجهه. صوّر دانتي في كوميدياه أبواب الجحيم بأنّها واسعة وكبيرة، لتستوعب أعداد الخطأة الذين أوردتهم أعمالهم السيئة إلى العذاب الأبدي، لذلك كان لا بد أن ينحت الفنان رودان بوابة الجحيم. هذه الأبواب على الرغم من وسعها لم تكن تسمح لأحد بالهرب من ويلات الجحيم، كذلك أقفلت أبواب الجنّة على من استحق ورودها خالدًا فيها.                                                           نأتي إلى هذه الدنيا عبر بوابة الجسد، ونخرج منها عبر بوابة الطين. أمّا أرواحنا، فنجد لها أبوابًا وهمية قد رُسمت على حيطان الأهرامات تمثّل عبور الروح إلى عالم الماوراء، كما تعبر الشمس ظلمة الليل إلى إشراقة جديدة.  فليس غريبًا أن يطلق عالم المصريات غاستون ماسبيرو على أحد الكتب التي وجدت في مقابر الفراعنة كتاب الأبواب، حيث كان الفراعنة أكثر من اعتنى ببوابات الحياة الآخرة.

لم تكن الفلسفة تعلي من حواس الإنسان إلّا العين والأذن/ البصر والسمع، وتعتبرهما الأبواب الحقّة للفكر الإنساني، فيما تزدري بقية الأبواب من شمّ وتذوق عبر آلتيهما الأنف والفم، أمّا أبوابنا الحميمة الخفيّة، فقد عدّتها من الأبواب الحيوانية. لم تختلف الأديان عن الفلسفة في هذا التقسيم، فقد ظلّ هذا التقسيم ساريًا بعنفه الظاهر وتسامحه الموارب مع أبواب الجسد السفلى، إلى أن جاء سيغموند فرويد، وفتح عالم اللاشعور الإنساني من خلال فتحات الجسد الحميمة المحروسة بمفاتيح الكبت الاجتماعي. هذا الضبط المنظّم لتلك الفتحات/ الأبواب، جذّر الإبداع الإنساني في تصعيد الدافع الجنسي المكبوت، عبر تحويل تلك الغرائز إلى نتاجات إنسانية مقبولة اجتماعيّا، خاصة في الجانب الفني والأدبي. وعليه لولا تلك الفتحات الحميمة لم نكن نستطيع أن نقف موقفًا نقديّا من تاريخنا الفكري، كي نفهم ما يخفيه لاشعورنا من ثقافة لم يُنطق بها، ولم تُكتب.

افتح يا سمسم:   

لم يخبرنا كتاب العين، أقدم معجم عربي عن أصل الباب، فكل ما قاله الخليل: بأنّه معروف! إنّ البحث عن جذور كلمة الباب يردنا إلى بابل/ باب إيل. ومهما يكن من شبهة عجمة كلمة الـ(باب) إلا أنّ رسمها الحروفي في اللغة العربية يؤشر تمامًا إلى رمزية الباب، من حيث هو حدّ بين حيّزين، يسمح بتبادل الدخول والخروج بينهما أو يمنع. فكلمة الــ(باب) تقرأ من اليمين ومن الشمال. هذا الإزدواج الدلالي للباب والعملي أيضًا، مكّنه من أن يكون حمّال أوجه؛ أسطورية، دينية، سياسية، اقتصادية، ثقافية.

استندت سوزان ستيتكيفيتش في دراستها للقصيدة العربية على دراسات الأنثروبولوجي       (فن جنب) عن طقوس العبور لدى الشعوب القديمة. وقد رأت بأنّ الوقوف على الأطلال وذكر الحبيبة والرحلة التي يقوم بها الشاعر، ومن ثم عودته إلى قبيلته، هو تعبير عن طقس العبور من خلال أبواب رمزية، والذي بموجبه يستحق الشاعر الانتماء إلى قبيلته بعد القيام بتلك الرحلة الشاقة. هذا العبور الرمزي الذي وجدناه عند الشعراء الجاهليين نما ليصبح بوابات تتحكّم من خلالها عواصم مثل دمشق وبغداد والقاهرة وغرناطة بحركة السياسة والاقتصاد في العالم. إنّ قصة علي بابا والأربعين حرامي ذات شهرة لن تخبو، فكيف تُنسى تلك الجملة السحرية: افتح ياسمسم، لكن تلك البوابات أصبحت في الزمن العباسي بعيدة عن الرعية، ألهذا وجدت تلك القصة لتخبرنا بأنّ بوابات القصور البغدادية أصبحت بعيدة المنال عن الشعوب، ولن تفتح إلّا بالسحر. ظهر أدبٌ في القرن الثالث والرابع هجري أشبه بحصان طروادة، حيث يفاجأ الخليفة بمجنون أو صاحب كرامة يحادثه، لا يمر عبر البوابات ولا يستوقفه البوابون والحجّاب. يقول محمد حيان السمان في كتابه؛ محكيات الباب العالي، بأنّ هدف هذه القصص كان كسر برتوكولات الدخول على الخلفاء، كي تصل كلمة الرعية نظيفة من رقابة الأبواب. ففي حكاية سعدون المجنون مع المتوكّل نرى خطابه التقريعي للخليفة، بأن حُجب الأبواب قد حالت بينه وبين الرعية، لذلك كان لا بد من تذكيره: “كأنّني بكَ، وقد أتاك فظّ غليظ، فجذبك عن سرير بهائك، وأخرجك عن مقاصير علائك، فلم يستأذن عليك حاجبًا ولا قهرمانًا، حتى أخرجك إلى ضيق اللحد وفراق الأهل والولد”.                                                                                        انتقل خيال الظل إلى تركيا بعدما مثّل المخايلون واقعة شنق طومان باي على باب زويلة، أحد أبواب القاهرة أمام السلطان سليم الأول الذي أعجب بذلك كثيرًا، فأخذ معه المخايلين إلى بلاده، لكنّه حمل معه، في الوقت نفسه، سلطة باب زويلة ونحلها إلى اسطنبول والباب العالي. إنّ الأبواب هي تاريخ السلطة، لذلك كان على النفري في مواقفه، أن يكرّس موقفًا للأبواب ليبيّن من خلاله، لمن تكون السلطة الحقّة: “والأبواب بينك وبيني. أنت لي، والأبواب لي. فأنت والأبواب بين يدي. أوقفك منها فيما أشاء”.

بوابات النسيان والذاكرة:

على الساحل الغربي لقارة أفريقيا بُنيت بوابات مفتوحة على أمواج المحيط الأطلسي تخليدًا للذكرى السيئة في تاريخ الإنسان، بأنّه كائن يستعبد أخاه الإنسان. لقد ازدهرت تجارة العبيد باتجاه أمريكا، فقد كانوا يدًا عاملة مجانية. مات الكثير منهم لكن الذكرى باقية. كان المستعبَدون قبل أن يرموا في قاع السفن التي ستنقلهم إلى العالم الجديد، يطوفون حول شجرة دُعيت بشجرة النسيان عدّة مرات كي ينسوا جذورهم. وبالمقابل كان هناك شجرة العودة التي إذا طافوا حولها لربما سيعودون. من هاتين الشجرتين استلهمت بوابات النسيان، والأولى أن نسميها بوابات الغفران تجاه التاريخ البشري. لقد بنى أحفاد هؤلاء العبيد تلك البوابات، ليذكّروا العالم كم هو سهل أن ينحدر الإنسان مجددًا إلى العبودية.

نستطيع أن نعتبر الإنسان الفلسطيني إله أبواب جديد، لم تكرسّه الأسطورة ولا الحكايات، بل هذا المفتاح الذي يحمله في عنقه، كي يجعل الحلم بباب بيته حقيقة، فمادام المفتاح موجودًا، فلا بدّ أنّ باب بيته ينتظره في فلسطين مهما طال النزوح. لا يمكن للنسيان أن يُصدئ مفاصل أبواب البيوت المشرعة على العودة، فالذاكرة باب بكلّ يد مضرجة يدق، وتغني مع فيروز: “لن يقفل باب مدينتنا فأنا ذاهبة لأصلي. سأدق على الأبواب وسأفتحها الأبواب”.

في أفلام الغرب الأمريكي صوّر باب الحانات، بلا أقفال ولا مفاتيح. باب أشبه بجناحين مفصولين يدخله رعاة الكاوبوي بعنف، ليطلقوا النار، أو ليرووا ظمأهم بالمشروبات. هذا الباب لا يحمي، لا يخفي سرّا، أشبه بأبواب جيرمي بنتام. إنّه رمز العولمة التي تريد أن تجعل من العالم قرية صغيرة من دون أصالة. كتب كافكا روايته المحاكمة مستبصرًا مآلات الإنسان في العصر الحديث، حيث سيقف الإنسان أمام باب القانون، وسيمنعه الحراس من دخول المحكمة. إنّ أغلاق أبواب العدالة سيفتح أبواب الاستبداد على مصراعيها.

يقول الفيلسوف الألماني جورج زيمّل: “ليس الباب حائطًا أبكم”، لكن قليلًا ما تكلمت الأبواب في المدونة الإنسانية عن ذاتها. إنّ السعي وراء حفريات الأبواب، لا يمكن أن يمنحنا بعض نتائجه إلّا اهتداء بما قاله غاستون باشلار عن الباب بأنّ: “الباب هو كون كامل للموارب”.  هذه المواربة لحظها الشاعر رينيه ريشار نقلًا عن أسطورة ألمانية تتحدث عن أنّ هناك طفلين توأمين، أحدهما يفتح الباب بلمسة من يده اليمنى، والآخر يغلقه بلمسة من يده اليسرى. إنّ ما تعنيه تلك الأسطورة، بأنّ الباب: هو كائنان، أو إله بوجهين، كالإله جانوس، إله الأبواب والبوابات والطرق عند الرومان الذين صوّروه بوجهين؛ أحدهما ينظر إلى الغد، والآخر يحدّق في الماضي، وكأنّ الباب هو لحظة الحاضر الآتية بسرعة من المستقبل، لتنغمس بسرعة أكبر في الماضي. هذا التصوّر المزدوج الذي لعبه الباب في تاريخ الإنسان تأتّى من أنّ الإنسان كائن الصِلات –من صلة- كما شرح جورج زميّل، فالإنسان لا يمكنه أن يربط من دون أن يفصل؛ يفتح ويغلق. هذه البرزخية التي تشكل علاقات الإنسان بالوجود، مثّلها الباب أفضل تمثيل، فهو عبر فعلي الفتح والغلق، يفصم الحيز الإنساني إلى قسمين: داخلي وخارجي، والإنسان بينهما كالشفرة، كما عبّر المسرحي صموئيل بيكيت. هكذا كان الباب، أول فعل مادي رمزي قام به الإنسان لتصور الوجود الذي يعيش فيه، بين داخل حميم وخارج عدائي، بين داخل مقيّد وخارج حرّ، بين الأنا والآخر، بين ما يملكه والمشاع. لقد صنع الإنسان الباب وفي الوقت نفسه أصبح بابًا، وكم هي قليلة أبواب الحرية وكثيرة أبواب الاستبداد.

باسم سليمانhttps://diffah.alaraby.co.uk/diffah/opinions/2022/11/2/%D9%D9%8A%D8%B3-%D8%A7%D9%D8%A8%D8%A7%D8%A8-%D8%AD%D8%A7%D8%A6%D8%B7%D8%A7-%D8%A3%D8%A8%D9%D9-%D8%B9%D9-%D8%A7%D9%D8%A5%D9%D8%B3%D8%A7%D9%D9%8A%D8%A9-%D9%D8%A7%D9%D8%A3%D8%A8%D9%D8%A7%D8%A8

خاص ضفة ثالثة

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 02, 2022 05:54

October 18, 2022

ديواني الجديد: خال كصفر تهب فيه ريح الأعداد، صدر عن سلسلة الإبداع في الهيئة العامة للكتاب في مصر

صدر حديثًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب برئاسة الدكتور هيثم الحاج علي، ضمن سلسلة الإبداع العربي، ديوان “خالٍ كصفر تهب فيه ريح الأعداد”، للشاعر السوري باسم سليمان…كل الشكر للأستاذ سمير درويش وللقائمين على الهيئة.
الأعمى لا يثقُ بالضّوء
يغلقُ عينيه
من فداحة الظلّ
يتحركُ بؤبؤاه
كأنّهما رجل وامرأة، يخمّران جسدهما تحت الغطاء.
يرى أحلامًا
لا يقصُّها إلّا لعصاه
يمشي بثقة كطفل تعلم العدّ على أصابع خياله
يُتأتئ صلاته، فعثراته مسبحته.
يذكر أن باسم سليمان حاصل عل إجازة جامعية في الحقوق من جامعة دمشق، يكتب مقالات نقدية وإبداعية في العديد من المجلات والصحف والجرائد السورية والعربية، ويقوم بتغطية النشاطات الفنية والأدبية، صدر له العديد من الكتب الإبداعية:
قصة:
• تماماً قبلة – 2009 دار كيوان – وطبعة ثانية عن دار سين 2019– 2019.
شعر:
• تشكيل أول، نصوص – 2007 دار البيرق – دمشق.
• لم أمسس – 2011 دار أرواد – طرطوس.
• مخلب الفراشة – 2015 دار أوراق – دار ديلمون الجديدة – دمشق.
• الببغاء مهرج الغابة – 2016 دار الروسم – بيروت العراق. وطبعة ثانية عن دار دلمون- دمشق 2021.
رواية:
• نوكيا – 2014 دار ليليت – مصر وطبعة ثانية عن دار سين – دمشق – 2018 .
• جريمة في مسرح القباني/ الحد والشبهة. صدرت عن دار ميم – الجزائر2020.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 18, 2022 09:06

October 17, 2022

ديوان الليل.. شعر وتحدٍّ وحبّ وحزن ولايقين – مقالي في ضفة ثالثة

باسم سليمان 17 أكتوبر 2022

تعدّدت دلالات الليل في قصائد الشعراء، فلم يبق مجرّد حيّز زمني مضاد للنهار، بل أمسى سفيرهم إلى ذواتهم ينيرون ظلمته بأنوار القصائد، كما تضاء ظلمته بمصابيح السماء. كان الشعراء الجاهليون سبّاقين في استخدام ثيمة الليل في قصائدهم، فتلوّن الشعر بعدهم، بما أبدعته قرائحهم، فلا يمكن أن يستحضر الليل، إلا وتشابيه واستعارات الشعراء الجاهليين حاضرة في الأحاسيس والمشاعر والأقوال.

جاء في كتاب؛ الجماهر في معرفة الجواهر، تعليلًا يفيد لماذا سُمي الليل بالليل: “لأنّه يلألئ حتى يتشكّك فيه الناظر إلى الشيء، فيقول: هو هو، ثم يقول: لا لا، فقد لألأ الأشياء عليه”. ومن معاني كلمة: لألأ؛ الاضطراب؛ تلألأ النجم، لمع في اضطراب مع ضوء خفيف متقطّع. ولألأت النوائح؛ قلّبن أيديهن ممّا نالهن من حيرة في المصاب. إنّ الليل هو اللايقين، فالناظر متحيّر فيما يراه، فإن أثبت معرفته بشيء ما، أعقبه في اللحظة الثانية بالنفي. وفي تعريف لماذا سمي اللؤلؤ باللؤلؤ، جاء في الجماهر كما يقول الجوهريون: “إنّه ليس من مرّة يقع بصرك عليه -أي اللؤلؤ- ثم تراه مرّة أخرى إلا تراءى لك على غير هيئته الأولى”. هذا هو الليل، لؤلؤ الظلمة، الذي قال عنه النابغة الذبياني:                                                                        فإنّك كالليلِ الذي هوَ مُدركي / وإنْ خلتُ أنّ المنتأى عنكَ واسعٌ.

هذا البيت من اعتذاريات النابغة للنعمان، وفيه تظهر سلطة الملك غير المتناهية، فمهما نأى النابغة أدركه الملك، وبذلك استوى لدى النابغة الفعل من عدمه، فقد لألأه النعمان وفرض سطوته عليه، فما يكاد يطمئن لأمر حتى يصبح مصدر شكّه وقلقه، فجاء تشبيه النعمان بالليل لأنّه هو المانح والمانع، وما النابغة إلا متلق للألآت الليل/ النعمان.                                                    أدرك  الليل الشعراء وتخلّل قصائدهم ولوّن صورهم الشعرية، فأصبح ثيمة مهمة في الشعر العربي. وإن كان مبتدأ الشعر جاهليّا في تراثنا، فإن الوقوف على ما قاله الشعراء في الجاهلية عن الليل، يكشف لنا بأنّهم تعاملوا مع الليل ليس كزمن فقط، بل كتجلٍّ لأحاسيسهم وأفكارهم وقلقهم وعواطفهم، فأبدعوا لوحات شعرية عن الليل لألأت شعر الذين جاؤوا من بعدهم.

النائي بكلكل:

قال النقاد القدامى عن امرئ القيس، بأنّه من مهّد للشعراء أرض الشعر. وعندما نقتفي أثر صوره الشعرية عن الليل، نجد أنّ صوره كانت في قلب كل تشبيه واستعارة ومجاز، قد قالها الشعراء من بعده:

وليلٍ كمَوجِ البحر أرخى سدولَه/ عليّ بأنواع الهموم ليبتلي

فقلت له لمّا تمطّى بصُلبه/وأردف أعجازًا وناء بكلكل

ألا أيها الليل الطويلُ ألا انجلي/بصبح وما الإصباحُ منك بأمثلِ

فيا لك من ليل كأن نجومَه/بكل مُغار الفَتلِ شُدّتْ بيَذْبُلِ

كأن الثريّا علّقت في مَصامها/بأمراس كّتّان إلى صًمّ جندَلِ.

إنّ التدقيق في هذه الأبيات، يسمح لنا باستخراج خمس صور كانت مدار اشتغال الشعراء: الليل متتال، متتابع، لا يفتر يحيط بالشاعر، كما يحيط موج البحر بالغريق – الليل زارع الهموم وجاني المحصول، وما الشاعر إلّا عبد يختبره الليل بما يريد – الليل كائن أسطوري ضخم أو جمل هائل انتصب في وجود الشاعر، فأصبح كقبة السماء لا مفرّ منها – الليل الطويل، فلا تنتهي ساعاته أبدًا، وما الصبح حيث الأمل، إلا امتداد له – هذا الليل طويل، فكأن نجومه لا تتحرك مقيّدة  بالحبال إلى جبل يذبل أو إلى صخرة عظيمة.  

تتبدّى عبقرية امرئ القيس بالمشهدية الكلية لأبياته، في مواجهة هذا الليل الجهنمي، فبعد أن يصفه ويعري مقاصده بابتلائه بالهموم شاخصًا أمامه كجمل هائل، يصرخ به امرؤ القيس، بأن ينجلي بصبح، ولكن هيهات أن ينكسر الشاعر حتى لو كان هذا الصبح امتدادًا لليل الشاعر الزماني والنفسي، فالقدرة على وصف هذا الليل بتلك اللمحات الفنية الشعرية العالية المستوى دلالة قطعية على أنّ الشاعر وبالرغم من الهموم مازال صاحب المبادرة تجاه سطوة الليل.    

انتقلت صفات الليل الأسطوري أو الجمل العملاق إلى قصائد الشعراء، فأصبح  امتحانًا يخوضونه ليثبتوا شجاعتهم. ولأنّ الليل جمل، فلا يمكن مجابهته إلا بجمل آخر يجعل الظلمات المدلهمة لليل مفازة ينجو الشاعر بها، مثبتًا شجاعة وإقدامًا بعد أن هتك ستر الليل الذي ألم بامرئ القيس، يقول المرقش الأكبر:

ودَوِّيَّةٍ غَبْراءَ قد طالَ عَهْدُها/ تَهالَكُ فيها الوِرْدُ والمَرْءُ ناعِسُ

قَطَعْتُ إلى مَعْرُوفها مُنْكَراتِها/بِعَيْهامَةٍ تَنْسَلُّ واللَّيْلُ دامِسُ

ترَكْتُ بها لَيْلاً طَويلاً ومَنْزِلاً/ ومُوقَدَ نارٍ لَم تَرُمْهُ القَوابِسُ.

يرسم الشاعر إطار رحلته في الليل عبر صحراء قفراء تأبّدت، فتناكرت عليه، فليس بها معرّف ومألوف، لكنّه يقطعها بعيهامة؛ وهي الناقة الكبيرة الشديدة، السريعة، النجيبة التي تأتي مواصفاتها كي تناسب المواجهة مع ليل امرئ القيس الذي تبدى له بجمل كبير.

ومثله فعل الأعشى في معارضته لليل امرئ القيس، عبر ناقة سهلة السير في ظلمة الليل التي لا يستبان من معالمه شيء كظهر الترس، كأنّها لا تعيره انتباهًا على الرغم من صياح الجن من حوله:

وَبَلدَةً مِثلِ ظَهرِ التُرسِ موحِشَةٍ/لِلجِنِّ بِاللَيلِ في حافاتِها زَجَلُ

جاوَزتُها بِطَليحٍ جَسرَةٍ سُرُحٍ/في مِرفَقَيها إِذا اِستَعرَضتَها فَتَلُ.

إنّ فخر الشاعر بنفسه لا يتم إلا إذا كان شجاعًا، وشجاعته ليست في الوغى فقط، بل في مواجهة الطبيعة مهما استشرست. والشاعر عندما يقتحم الليل البهيم  على ظهر ناقته، يرمي نفسه في تهلكة ظلماء، لا يكاد يستبين فيها موته من هولها، يقول دريد بن الصمة:

وقد اجتاز عرض الحزن ليلًا/بأعبس من جمال الغيد حلس

كأن على تنائقه إذا ما/ أضاءت شمسه أثواب ورس.

الليل طقس عبور:

لقد رأت سوزان ستيتكيفيتش بالقصيدة الجاهلية  أحد مظاهر طقوس العبور وفق رؤية الأنثروبولوجي فن جنب، حيث يتم بها انتقال الشخص من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الرجولة، فيصبح ركيزة أساسية في بنية مجتمعه. واعتبرت أنّ الرحلة التي يقوم بها الشاعر أحد تجليات تلك الطقوس، حيث يواجه الشاعر الطبيعة والحدثان، لكي يثبت أحقيته في الموقع الجديد في مجتمع قبيلته.

إنّ اقتحام أهوال الليل ميزة تغنى بها الشعراء، ولا يمكن لعنترة أن يفوتها، وهو الباحث الدائم عن الانتماء لقبيلته، ممنوع منه، بسبب عبوديته، فكان ذكر الليل لديه مجازًا يجوز به الصحراء العقيمة، ويؤكّد به شجاعته ويطالب بحقه في الانتساب إلى القبيلة. فالليل الذي يرعب الآخرين لن يردعه مهما تعاظمت ظلماته. ولقد استحضر عنترة ذكر الليل مقرونًا بالمعركة وأنّه بسريانه  في معتكر الليل يشق طريقه عبر سيوف ورماح الفوارس مثبتًا أحقيته بالانتساب إلى القبيلة:                                                                                                        وَدُرنا كَما دارَت عَلى قَطبِها الرُحى/وَدارَت عَلى هامِ الرِجالِ الصَفائِحُ

بِهاجِرَةٍ حَتّى تَغيَّبَ نورُها/وَأَقبَلَ لَيلٌ يَقبَضُ الطَرفَ سائِحُ.

يُكثر عنترة من استخدام ثيمة الليل، وكأنّه مجرّد تمرين على وحدته التي لا يؤنسها غير السيف:                                                                                                    أَطوي فَيافي الفَلا وَاللَيلُ مُعتَكِرُ/وَأَقطَعُ البَيدَ وَالرَمضاءُ تَستَعِرُ

وَلا أَرى مُؤنِساً غَيرَ الحُسامِ وَإِن/قَلَّ الأَعادي غَداةَ الرَوعِ أَو كَثِروا.

 إنّ الليل ينزع أداة البصر من الوجود الإنساني، فيستوي فيه البصير والأعور، و ها هو أعشى قيس يبدع مفارقة ذكية، فالأعور له ميزة على البصير بأن عينه العوراء مجازًا قد ألفت ظلمة الليل، فإن كلّت عينه البصيرة استنجد بالعوراء، إلا أن الأعشى قد بزّ قومه البصراء والعوران وتركهم خلفه حبيسي بيت الليل المشادة جدرانه وسقوفه من ظلمة:

وَلَيلٍ يَقولُ القَومُ مِن ظُلُماتِهِ/ سَواءٌ بَصيراتُ العُيونِ وَعورُها

كَأَنَّ لَنا مِنهُ بُيوتاً حَصينَةً/ مَسوحٌ أَعاليها وَساجٌ كُسورُها

تَجاوَزتُهُ حَتّى مَضى مُدلَهِمُّهُ/وَلاحَ مِنَ الشَمسِ المُضيئةِ نورُها.

يجابه الأسود الجعفي ليلًا يبث الذعر والخوف في النفوس، فلا يجبن ويكلّف نفسه بهذا التحدّي وكأنّه واجب لا بد فاعله، فلا تراجع أو نكوص عنه:

ومِنَ اللَّيَالِي لَيْلَةٌ مَزْءُودَةٌ/غَبْرَاءُ لَيْسَ لِمَنْ تَجَشَّمَهَا هُدَى

كلَّفْتُ نَفْسِي حَدَّها وَمِرَاسَها / وَعَلِمْتُ أنَّ القومَ ليسَ لهُمْ غِنَى.

ليل الحزين الطويل:

تقدّم لنا اللغة تناصًا فريدًا بين الحَزن الذي خلق منه الإنسان، والحُزن كأقسى المشاعر النفسية التي يعانيها الإنسان، وكأنّه مجبول منه فلا فكاك له، كما لا فكاك للإنسان من جسد الطين إلا بالموت. والحُزن الذي نفخ بصلصال الليل فجعله جملًا أسطوريّا في أبيات امرئ القيس أعلاه يعاود ذكره مخلّقًا من ليل الحُزن، ليل أشد وقعًا على النفس والجسد، هو ليل الأرمد الذي تؤلمه عيناه:                                                                                                             تطاول ليلك بالإثمد/وبات الخلي ولم يرقد

وَبَاتَ وَبَاتَتْ لَهُ لَيْلَةٌ/ كَلَيْلَةِ ذِي العَائِرِ الأرْمَدِ.

إنّ تأمل هذين البيتين يوضّح مقدار الحُزن الذي يعانيه، فالإثمد هو الكحل. و قد أتى به امرؤ القيس كمكان قد حلّ به، هو وصاحبه، فاجتمع عليه زمن الليل مع اسم الموضع وكليهما يحيلان إلى السواد والحزن، وهذا حال امرئ القيس، مؤلم ومقلق ومسهر له، لكن لا يوقف سعيه، فليل الإثمد هو ليل من يجدّ إلى طلب المعالي.

لا يختلف ليل النابغة عن ليل امرئ القيس، فهو ليل طويل ليس له نهاية، محيط به من كل جانب:

كِليني لِهَمٍّ يا أُمَيمَةَ ناصِبِ/ وَلَيلٍ أُقاسيهِ بَطيءِ الكَواكِبِ

تَطاوَلَ حَتّى قُلتُ لَيسَ بِمُنقَضٍ/ وَلَيسَ الَّذي يَرعى النُجومَ بِآئِبِ

وَصَدرٍ أَراحَ اللَيلُ عازِبَ هَمِّهِ/ تَضاعَفَ فيهِ الحُزنُ مِن كُلِّ جانِبِ.

ومثل النابغة، قد طال ليل ابن عبّاد بعد مقتل ابنه بجير:

قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي/ طالَ لَيلي عَلى اللَيالي الطِوالِ.

وفي سجن النعمان، صرخ عدي بن زيد العبادي لعل صبحًا يأتيه بخير بعد ليله الطويل:

 طـالَ ذا اللَّيـلُ علينا فاعتَكَر/وكــأَنِّي نــاذرُ الصُّبــحِ سَــمَــر                                                                                                 وكأَنَّ اللَّيلَ فيه مِثلُهُ/ وَلَقِدماً ظُنَّ باللَّيلِ القِصَر                                                                                                                       لَم أُغَمِّض طولَهُ حتَّى انقَضَى/أَتَمَنَّى لَو أَرَى الصُّبحَ جَشَر.

هذا الليل الطويل كثيرًا ما عبّر عنه بليل التمام، وهو أطول ليلة في السنة. ولذلك استحضر كتعبير زماني ونفسي عن وطأة وامتداد الهموم التي تلقي بثقلها على الشاعر، يقول امرؤ القيس:                                                                                                  أَعِنّي عَلى التَهمامِ وَالذِكَراتِ/ يَبِتنَ عَلى ذي الهَمِّ مُعتَكِراتِ

بِلَيلِ التَمامِ أَو وَصَلنَ بِمِثلِهِ/ مُقايَسَةً أَيّامُها نَكِراتِ.

لكن ليل التمام الذي تستوطنه المنكرات من ظلمة، ووحشة، ووحدة قاسية، غدا محكًّا للكرم حيث يسهر الشاعر فيه منتظرًا عابرًا تقطّعت به السبل كي يقريه ويكرمه. يقول متمم بن نويرة تعبيرًا عن كرمه الكبير الذي يضيء به هذه العتمة الكونية والوجودية:                     لعمري لنعمَ المرءُ يطرقُ ضَيفُةُ/ إذا بانَ من ليلٍ التمام هزيعُ

بَذولٌ لما في رحله غيرُ زُمَحٍ/ إذا أبرزَ الحور الروائعَ جوع.

ليل الحبّ:

هو ليل قد روضّه الشاعر بالخيالات والأطياف والذكريات، فكان له مطيّة واقعية وخيالية يرتحل بها إلى أحبابه وخلانه. ومن جديد يوطّد امرئ القيس للشعراء سرير الليل الناعم:                                                                                              لِمَن طَلَلٌ أَبصَرتُهُ فَشَجاني/ كَخَطِّ زَبورٍ في عَسيبِ يَمانِ

دِيارٌ لِهِندٍ وَالرَبابِ وَفَرتَني/ لَيالِيَنا بِالنَعفِ مِن بَدَلانِ

لَيالِيَ يَدعوني الهَوى فَأُجيبَهُ/وَأَعيُنُ مَن أَهوى إِلَيَّ رَواني.

إن الليالي التي يذكرها الشاعر قبل أن تشتجر الحدثان في حياته بعد مقتل أبيه، ليالي جميلة هانئة قد تنّعم فيها بصحبة الحبيبة ودفئها.

والليل ساتر يأخذ الأحبة بين ثناياه، فحتى خيالاتهم تأتي في ظلمته، فيأنس الشاعر بها حتى لو كانت فراقًا أو بعادًا، يقول المرقش الأكبر:                                                                     سَرى لَيْلاً خَيالٌ مِنْ سُلَيْمى/فأَرَّقَني وأصْحابي هُجُودُ

فَبِتُّ أُدِيرُ أَمْرِي كلَّ حالٍ/وأَرْقُبُ أَهْلَها وهُمُ بعيدُ.

ويجد عنترة في سهر الليل أملًا يطل منه على حياة يشتهيها ويرغبها:                            سَأُضمِرُ وَجدي في فُؤادي وَأَكتُمُ/وَأَسهَرُ لَيلي وَالعَواذِلُ نُوَّمُ

وَأَطمَعُ مِن دَهري بِما لا أَنالُهُ/ وَأَلزَمُ مِنهُ ذُلَّ مَن لَيسَ يَرحُمُ.

كان الليل بالنسبة إلى الشعراء الجاهليين حالة تجاوزوا فيها بعده الزمني المتعارف عليه من حيث هو وقت للراحة والخلود للنوم، فخلّقوا منه صوتًا داخليّا يعبر عن مخاوفهم وقلقهم وعواطفهم وشجاعتهم وكرمهم، فلم يأت في أشعارهم مجرد صورة طبيعية مزخرفة، بل ظهر كمحرك نفسي لبواعثهم الداخلية، فأظهروها عبره جليّة واضحة، وكأن ظلمة الليل صفحة سوداء كتبوا عليها بمدادهم الأبيض أجمل الأشعار.

باسم سليمان

خاص ضفة ثالثةhttps://diffah.alaraby.co.uk/diffah/revisions/2022/10/17/%D8%AF%D9%8A%D9%D8%A7%D9-%D8%A7%D9%D9%D9%8A%D9-%D8%B4%D8%B9%D8%B1-%D9%D8%AA%D8%AD%D8%AF-%D9%D8%AD%D8%A8-%D9%D8%AD%D8%B2%D9-%D9%D9%D8%A7%D9%8A%D9%D9%8A%D9?fbclid=IwAR3g7qtv9C57NGvBjQbVomd0a03cS_9NtGPQ_sHYOHd537fOv9wsZrQunkU

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 17, 2022 02:59

October 10, 2022

عندما تحوّل الخليفة هارون الرشيد إلى شرلوك هولمز – مقالي في رصيف22 – باسم سليمان

عرفنا الرواية البوليسية وتأصيلها التاريخي من الغرب، فقد كانت رواية إدغار آلان بو؛ جريمة في شارع مورغ، الفاتحة لهذا الجنس الروائي. حيث تم استنباط الأسس الثلاثة منها والتي أقيمت عليها هيكلية هذا الجنس من السرد الأدبي، وتتجلّى هذه الأسس، أولًا بوجود جريمة قتل بالأعم الأغلب، وثانيّا، مرتكب الجريمة المجهول، وأمّا الركن الثالث فيظهر بالمحقّق الذي يفكّ شفرات غموض الجريمة، ويكشف عن مرتكبها بأسلوب مشوّق يتنامى تدريجيّا حتى لحظة انكشاف الحقيقة. وقد اعتبر التحرّي أوغست دوبان الي أبدع شخصيته إدغار آلان بو، الأب الشرعي لمن جاء بعده من شخصيات المحقّقين، كشرلوك هولمز مع المؤلف آرثر كونان دويل، وهيركل بوارو مع أغاثا كريستي، وروبرت لانغدون مع دان براون. وفيما بعد تم التنويع على هذه الأركان وعلائقها ببعضها البعض، فظهرت الرواية السوداء ورواية التشويق.                                                                                 عرفت الرواية البوليسية ازدهارًا كبيرًا في القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، ومن ثمّ تراجع الاهتمام بها بعد ذلك، لكن مع رواية وشم الوردة لأمبرتو إيكو، وشيفرة دافنشي لدان بروان، وآخرين غيرهم عادت الرواية البوليسية للتربّع على عرش اهتمامات القراء. لحظ النقّاد وعلماء النفس أهميّة الرواية البوليسية، حيث نجد جاك لاكان يحلّل قصة الرسالة المسروقة لإدغار آلان بو، ويكشف من خلال الغوص في تفاصيلها ما يحمله هذا اللون من الأدب من خصائص قادرة على الغوص في النفس البشرية. تعمّق الاهتمام بالسرد البوليسي وتتبّعها كبار النقّاد كتزفيتان تودوروف، لكنّ المفكّر الفرنسي بيير بيّار خطا خطوة جبارة في الكشف عن مضمرات هذا السرد، فلقد ذهب عكس المتوقّع، فبدلًا من تحليل الأدب وفق مذهب التحليل النفسي طفق يحلّل علم النفس بموجب الأدب مستندًا إلى قصص وروايات أغاثا كريستي، فقد بيّن أنّ النص الأدبي يسمح بفهم  أكبر لبعض المفاهيم في منهج علم النفس التحليلي، بل وإغنائها. 

وكما عرفنا الرواية البوليسية من الغرب، فقد تبنّينا أيضًا الموقف النقدي السلبي الغربي منها، ووقفنا عند لحظة تاريخية وصمت بها هذه الرواية بالسلب، وبأنّها أدب رديء. وعندما غادر النقد الغربي تعنّته تجاه هذا الجنس الأدبي، ظلّ أدباؤنا عند تلك النظرة الدونية للرواية البوليسية، فعفّوا عن كتابتها مع أنّهم حاموا حولها كنجيب محفوظ في رواية اللص والكلاب، وغسان كنفاني في رواية من قتل ليلى الحايك وآخرين غيرهم. أمّا النقّاد العرب الذين صدمهم قلّة النتاج في هذا الجنس، فقد ذهبوا إلى تفسير ذلك بالواقع العربي، وأنّ المدينة العربية مختلفة عن المدينة الغربية، كذلك الأنظمة العربية السياسية تحتكر آلية التحقيق وتحضّ على سريّته. ومهما يكن من أسباب نقدية تبدو من الوجاهة بمكان في تحليلها لواقع الرواية والقصة البوليسية، لكنّها تسقط عندما يكشف لنا تراثنا العربي الإرهاصات الأولى لما عدّه الغرب الجذور العميقة لهذا النوع الروائي في الأدب العالمي، وعلى الرغم من ذلك  تنكرنا له.

قلنا بأنّ الأدب البوليسي قد كانت بدايته مع بو، لكنّ الناقد فرانسيس لوكسان قال بأنّ بو استلهم روايته من مؤلف لفولتير بعنوان؛ زاديك، حيث نجد أنّ الفراسة والفطنة التي اتسم بهما المحقّق دوبان عند بو مستنسخة من شخصية البطل في زاديك. ويتابع لوكسان بأنّ فولتير استند في قصته إلى مؤلف بعنوان الأمراء الثلاثة لسرنديب الذين يكتشفون صفات جمل من آثاره، مع أنّهم لم يروه، فهو أعور لأنّه يرعى في جهة واحدة من الحقل، أي من جهة العين السليمة، وأنّه أبتر الذيل لأنّ بعره كان مجتمعًا، والجمل يوزّع بعره يمنة ويسرة بتحريك ذيله. وبأنّ إحدى رجليه زوراء لأن آثار رجليه في الأرض مختلفة. وهو شرود لأنّه يتجاوز عشبًا طريّا إلى آخر، فهذا دليل على أنّه قد نفر عن قطيعه. هذه الطريقة بالفراسة سميت السرنديبية، وأول من وضع المصطلح لها كان هوراس والبول مستندًا إلى قصة الأمراء الثلاثة الذين اكتشفوا أمورًا لم يبحثوا عنها في الأصل، لكن عبر المنطق والحدس ربطوا السبب بالنتيجة. وأصبح هذا المصطلح يستخدم للاكتشافات العلمية غير المقصودة كما جاء في كتاب فنّ التحقيق العلمي للبريطاني ويليام أيان. هذه الميزة في الكشف عن الأشياء الغامضة اعتبرت من أهم خصائص المحقّقين، لكنّ تلك القصة موجودة في تراثنا العربي، فنجدها مع الأبناء المؤسسين للقبائل العربية العدنانية: إياد وأنمار وربيعة ومضر. يرتحل أبناء نزار بن معد إلى الحكيم الأفعى الجرهمي ليفسر لهم وصية أبيهم. وبينما هم  في الطريق على بُعد يوم وليلة من نجران، إذ رأوا أثر بعير، فقال إياد :إنّ هذا البعير الذي ترون أثره أعور. ثم قال أنمار: إنّه لأبتر. وقال ربيعة :إنّه لأزور. وقال مضر: إنّه لشرود.

ثم جاء رجل يبحث عن بعيره، فحدثوه بأوصافه. فطلب منهم أن يخبروه بمكان البعير، فقالوا إنّهم لم يروا بعيره، ولكنّه لم يصدّقهم، لأنّهم وصفوا بعيره بشكل دقيق، فكيف يزعمون أنّهم لم يروه! فظل يتبعهم حتى وصلوا عند الأفعى الجرهمي، وهناك اتهمهم بأنّهم قد أخذوا بعيره. فسألهم الأفعى عن ذلك، فقالوا له: إنّهم رأوا أثر البعير وليس البعير نفسه. وتتكرّر التفاسير ذاتها التي اشتهر بها أمراء سرنديب مع أبناء نزار، وهذه الطريقة في التفسير المستندة على الحدس والتفكير المنطقي، اعتبرت أسًا من أسس الرواية البوليسية وخاصة في شخصية المحقّق.

القصة الثانية في التراث العربي للسرد البوليسي نلقاه في ألف ليلة وليلة. وقد أشار بيار براهام في مجلة أوروب الأدبية إلى شهرزاد التي تؤجّل حكم موتها يوميّا عبر قصة ترويها. هذا النمط من التشويق البوليسي يقول عنه براهام، بأنّه لا يوجد ما يضاهيه في الروايات المسلسلة الحديثة، لكن ماذا عن قصة التفاحات الثلاث في ألف ليلة وليلة التي تملك من ميزات السردية البوليسية الكثير. خرج الرشيد ووزيره جعفر البرمكي، لتفقّد أحوال الرعية، فمرّا بصياد سمك يندب حظّه، فسأله الخليفة عن السبب، فأخبره بأنّه لم يصطد شيئًا، فطلب الخليفة منه أن يرمي شبكته وسيأخذ ما تحتويه من صيد البحر بمائة دينار وكان ذلك. وعندما سحب الصياد شبكته وجد فيها صندوقًا وبعد أن فُتح وُجدت فيه صبية مقتولة. يطلب الخليفة من وزيره أن يكتشف القاتل خلال ثلاثة أيام وإلّا سيعاقبه بالصلب. تتكشّف القصة رويدًا رويدًا عن أنّ زوجة أحد التجار قد اشتهت التفاح وكان قد عزّ وجوده في الأسواق، لكنّ الرجل استطاع أن يحضر ثلاث تفاحات لزوجته. وبعد ذلك مرّ به عبد يحمل تفاحة، فسأله الرجل عنها، فأخبره بأنّ امرأة تخون زوجها معه قد أعطته إياها، فغضب الرجل وقتل زوجته ووضعها في سلّة ورماها في دجلة. لكن بعد عودته إلى البيت يكتشف أن عبدًا كان قد سرق التفاحة من ابنه ولم تعطها زوجته له، وأنّها لم تخنه بالمطلق، فيندم أشدّ الندم. يسمع التاجر بأنّ الخليفة سيصلب جعفر البرمكي، لأنّه لم يجد القاتل، فيهرع إلى جعفر البرمكي قبل أن يصلبه الخليفة ليعترف له بالحقيقة. وتتتابع الأحداث حتى يكتشف جعفر البرمكي بأنّ عبده هو من سرق التفاحة، وتسبّب بكل تلك الأحداث السيئة.

لدينا هنا قصة جريمة قتل، ولكنّ تحقيق جعفر البرمكي، لا يشبه المحقّقين الذين نعرفهم بشيء، فالصدف والأقدار هي من رتبت كشف الحقيقة، لكنّ الناقد تزفيتان تودوروف يخبرنا عن نوع من السرد كان متبعًا في القصص القديمة، أسماه السرد القدري، ومثّل له بقصة الكأس المقدّس، حيث الأبطال يتبعون ما رتّبه القدر لهم والذي نعرفه بداية من السطور الأولى للقصة. هذه النقطة تبيّن اختلاف الطرائق حسب الأزمنة، فالمنطق السببي وما يترتب عليه من نتائج كما في قصة الأمراء الثلاثة، كان هناك إلى جانبه المنطق القدري، حيث تكتشف الجرائم بمعونة السماء، ولم يكن ذلك يدحض منطقية الكشف عن القاتل.  

أمّا القصة الثالثة، فقد جاء في كتاب أخبار الأذكياء لابن الجوزي، بأنّ أحد خدّام الخليفة المعتضد بالله، قد رأى صيادًا طرح شبكته في النهر، فوجد جرابًا فيها، وعندما فتحه عثر فيه على يد مقطوعة، فأعلم المعتضد بذلك، فقال قولته المشهورة: “معي في البلد من يقتل إنسانًا ويقطع أعضاءه ويفرِّقه ولا أعرف به، ما هذا مُلك”. يكلّف الخليفة أحد ثقاته بأن يذهب إلى السوق حيث تباع أمثال ذلك الجراب، ويسأل عن من اشتراه. وهكذا حتى يصل المعتضد إلى القاتل. في هذه القصة تظهر شخصية المحقّق كما عهدناه عبر تتبع الأسباب وصولًا إلى النتائج.  

وإذا أطلعنا على القصة الرابعة؛ حكاية اللص والتاجر، التي وردت في نسخة ريتشارد بريتون الجزء الخامس من ألف ليلة وليلة، نلقى بأن التاجر علي كوجيا قد اعتزم السفر، ونوى أن يخبئ دنانبره الألف عند صديق له بصفة أمانة قد كانت عبارة عن جرّة من الزيتون، فقبل معه صديقه التاجر حسن، وتم وضع الجرّة التي فيها الدنانير المغطاة بحبات الزيتون في أحد مخازن التاجر حسن. وهكذا يغيب علي كوجيا سنوات عديدة، وعندما يعود يطالب صديقه بالأمانة، فلا يتخلف التاجر حسن عن أداء الآمانة، لكن علي كوجيا يكتشف أن صديقه التاجر قد خان الأمانة وسرق الذهب، ووضع بدلًا من الذهب زيتونًا. اتهم علي التاجر حسن بخيانة الأمانة، لكنه أنكر ذلك، فترفع القضية إلى هارون الرشيد. وفي إحدى الليالي وكعادة هارون الرشيد في التنكر لمعرفة أحوال الرعية يشاهد مجموعة من الأولاد يلعبون، وذلك بأن أقاموا تمثيلية استحضروا فيها ما حدث مع علي كوجيا والتاجر حسن، بعدما شاعت قصتهما في بغداد. قام أحد الأولاد بلعب دور القاضي وطلب فحص الزيتون الذي في الجرّة، فإن كان كله قديمًا، فإن التاجر حسن لم يخن الأمانة، لكن إن كان بعضه قديمًا، والآخر حديث العهد، فقد خان الآمانة. وهنا يتفطن الخليفة هارون الرشيد ويطلب التحقّق من الزيتون الموجود في الجرّة، فيكشف له الخبراء، بأنه زيتون حديث العهد من ثمار هذه السنة، وليس قديمًا أبدًا. بهذه الطريقة في التحليل تظهر الحقيقة وتكشف إساءة الائتمان من التاجر حسن. إن إسلوب التحقيق الذي اتبعها هارون الرشيد يذكرنا بأساليب المحقيقن الذين اشتهروا في الروايات البوليسية.  

وبعد أن قدّمنا أربعة أصول تراثية من لدن أدبنا العربي، ألا يحقّ لنا أن نستغرب كيف ارتهنّا إلى مقولة تبخيس الرواية البوليسية والتي تجاوزها الغرب سريعًا، مع أن تراثنا قدم لنا شواهد عديدة عن دورنا في بناء هذا الجنس الأدبي! إنّ وجود إرهاصات أولى للسرد البوليسي في تراثنا يدحض الكثير من التعلّلات التي منعت ازدهار هذا الجنس الأدبي لدينا، وفي الوقت نفسه يجب أن يعتبر دافعًا يحرّرنا من مقولة الارتهان للأدب الغربي. لكن لا بدّ من القول: إنّ الرواية البوليسية فيها الجيد والسيئ، ولا تختلف في ذلك عن أي نتاج أدبي آخر. ويكفي أن نذكر كيف أنّ وشم الوردة استطاعت أن تحمل مضامين معرفية كبيرة إلى جانب جرائم القتل.   إنّ نظرة حالية على نتاجنا الروائي والقصصي والنقدي تظهر لنا تناميًا في السرد البوليسي ونقده وهذه دلالة خير نتمنّى أن تتوسّع سريعًا.

باسم سليمان

خاص رصيف22https://raseef22.net/article/1089839-%D8%B9%D9%D8%AF%D9%D8%A7-%D8%AA%D8%AD%D9%D9-%D8%A7%D9%D8%AE%D9%D9%8A%D9%D8%A9-%D9%D8%A7%D8%B1%D9%D9-%D8%A7%D9%D8%B1%D8%B4%D9%8A%D8%AF-%D8%A5%D9%D9-%D8%B4%D8%B1%D9%D9%D9-%D9%D9%D9%D9%D8%B2

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 10, 2022 08:58

October 2, 2022

لأنّ امرأةً هناكَ تأخذُ البصرَ غصْبًا…من ديوان مخلب الفراشة – باسم سليمان

قلْتِ:

عينُكَ قاربٌ أخرقُ قاعَه بدمعةٍ؛

لأنّ امرأةً هناكَ تأخذُ البصرَ غصْبًا…[1]

هو:

أنا بيضةٌ في شطّها الغربيّ

وما ناداني غيبٌ

لكنْ كقلبٍ قلّبتُ مكسَر الموج

وبُعثْتُ أمّةً وحدي

 أبني الفنار من أصدافٍ

 أحرقُ لؤلؤَها بخورًا

كلّما كشفَتِ الرّيح عن ساقٍ.

****

 للحبّ منقارٌ

أكسُرُ به قشرة مرجان القلبِ 

فأخرجُ كسلحفاةٍ  تشتهي الملح المظلّل

بخيال نورسٍ جائعٍ

فأحتلمُ وأقذفُ نفسي في الموج

تاركًا طاولةَ الرّملِ

الّتي احتضنتكِ

مذ تأوّهتِ متألمةً

من سخونةِ قهوةٍ

لسعتْ ظهر شفتيكِ

فجمحت هلالًا … بدرًا.

****

 أعدّ أسماءَكِ الحسنى

إلّا أنّني في صحوة الموتِ

فأنا طبّاخ العزيزِ[2]

من ترشفُ الفراشاتُ من سائله العنكبوتيّ

ومن تنبَّأ له القميصُ المشقوقُ من دبرٍ[3]:

ليستْ طفولةً أنْ أقصّ زرقةَ السّماءِ؛

لأصنعَ شطًّا لقدميكِ

يا ربّة التفاصيلِ الصّغيرةِ،

فأنا فأرُ الحقلِ

فأرسلي بومتكِ ذات العينِ المستديرةِ كقيدٍ.

****

نفَسُكِ يهبّ على صدري

يحركُ نجيلَه الأسود.

تزفرين وريقات

وريقات خضراء حارّة

كلهب قدّاحة

أستضيء بها في تحديقي في ضوءِ الغرفةِ الكهربائيِّ

الّذي يشعُّ من جرّة

يبني فيها النّحل

خلايا تستقطب ضوء الزّنبق

من سماء بعيدة.

أشعل سيجارتي

وأضربُ بدخانها رصيفًا

غادرته القططُ

خلف فئران سئمتْ

من عداوة الكلاب للقطط.

هي:

وقلتُ للدّربِ

 أنا حبلى

 فمهّد لي النّهر سريرًا من السّمك

وإذْ جاءني المخاض

مدّتِ الدّالية حيّتها تسندُ ظهري

فولدتَ بين طرفٍ وطرفٍ لم يرتدّ

كقلبٍ يهيم بي

وبقبلةٍ على ظهركَ

أخذتَ النّفَس الأوّل

وإذا جعتَ ألْقمتكَ شبعي 

نبضة، نبضة

كشفتين تتفتحان في قبلة 

نظرتُ إليكَ.

أعطاني العصفور عشّه

قماطًا لكَ

وشجرةُ الغار قدمتْ صابونة لشغافكَ

ونباتُ الطّيون[4] صار مهدًا

تنام فيه على ساعد حكايتي.

وإذا سُئلتُ

أتحبين قلبًا لا أحد يعرف أباه؟

أجبتُ: إنْ لم يكن في الحبّ كلّ الأبوة والأمومة

ليس بحبٍّ

ولا تعلقُ نطفته في رحم الزّمانِ.

أنا:

أيّها الجبان

كيفَ تترك الشّفرةَ تصدأ ورسغكَ لسانُه ممدود؟!

4/4/ 2014

[1] – إشارة إلى قصة الفتى مع النبي موسى.

[2]– طبّاخ عزيز مصر الّذي فسر له النّبي يوسف حلمه بأنّه سيقتل.

[3] – إشارة إلى قصة النبي يوسف وزليخة.

[4] – نبات بري ذو رائحة طيبة

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 02, 2022 09:10

مسرحيّة الجثّة… فصل من روايتي: جريمة في مسرح القباني – باسم سليمان

الشّخصيات: الجثّة، أمّا بقيّة الشخصيات من الطفل إلى المرأة إلى العجوز…، فهي حالات تتلبّس الجثة في اعترافها الأخير. تغيّر الجثّة نبرة الصّوت وفق الشّخصية التي تتقمّصها: الطفل / المرأة/ العجوز، بالإضافة لتغيير حدّة الصّوت بين الأسئلة والأجوبة التي تعرضها على نفسها.

المكان: داخل القبر

الموسيقى: لا يوجد موسيقى! فالموسيقى، هي حركة الممثِّل، وصوته، وحفيف جسده، وهمهمات الجمهور أو سعالهم، أو رنين هواتفهم، أو صوت خروجهم نتيجة الملل من العرض، أو عدم فهمه. من الممكن الاستعاضة عن عدد من الجمهور بوضع “منكانات” لرجال، ونساء، وأولاد يظهرون بجسدهم البلاستيكي، بعضهم كامل الجسد، وبعضهم ممثَلاً بجذوع علوية، أو سفلية.

الفصل الأول والأخير/ المشهد الأول والأخير:

تظهر مساحة مضاءة وسط المسرح، الإضاءة من الأعلى، والجثّة ملفوفة بكفن كأنّها مومياء، وخلفها في آخر المسرح من الجهتين اليسرى واليمنى يقف الملاكان، منكر ونكير، وتسلّط عليهما إضاءة خافتة مائلة، وهما يضعان رمزي المسرح: الوجه الضاحك والوجه الباكي.

تبدأ الجثّة بفضّ الكفن؛ لتخرج منه كما تولد الفراشة من الشّرنقة. قماشة الكفن البيضاء ملصق عليها ورق أبيض. تخرج الجثة من الكفن تلبس لباساً أبيضَ، ووجهها مصبوغ باللون الأبيض، تلقي الكفن جانباَ وتحاول أن تبدأ بالكلام إلّا أنّ قلماً في فمها يمنعها من النطق، تبصقه وتبدأ بالثرثرة.

تسعل وتكحّ بشكل متكرّر، وتهرش جسدها بشكل ظاهر ومكثف.

الجثّة: الظّاهر أنّ رئتيّ مملوءتان بالغبار ككيس مكنسة كهربائية، حتماً هذا من عدم التنفّس لأنّه من النَفْسِ، ولقد غادرتني نفسي مع دمائي، فمن أنا؟ أنا الخزف الذي يعود تراباً والدليل الغبار الذي في رئتيّ! (تنفض جسدها من الغبار)، وما هذا القلم الذي كان في فمي؟ آه، إنّه حفنة التراب!

تصمت قليلاً وتدوّر رأسها في المكان، ومع الإضاءة السّاقطة من فوق تبدو حولها هالة من الغبار.

الجثّة: هذا القبرُ واسعٌ، فألٌ حسنٌ، فلو كان ضيقاً، ضاغطاً عليّ؛ لكنتُ في وضعٍ سيّئ. هل أستبشر خيراً لمرّة واحدة في حياتي؟! أوه، أنا ميّتُ، إذن لتكن الجملة: هل أستبشر خيراً لمرة واحدة في مماتي؟!

تنظر باتجاه الكفن، تقترب منه، تمسكه بيديها، وتبدأ بنزع الأوراق عنه وهي تهرش جسدها.

الجثّة: قلمٌ، أوراقٌ بيضاء للكتابة، بدأتُ أفهمُ، آه، أدركت المغزى تماماً، يجب أنْ أدوّن سيرة حياتي الذاتية هنا، فعلى ما يبدو أنّهم في الآخرة يحبون ذلك.

تنظر للخلف، فتجد الملاكين منكر ونكير.

الجثّة: الملاكان العظيمان، منكر ونكير، يا أهلاً وسهلاً، أفهم أنّكما غير مخوّلين بالكلام؛ لكي لا تؤثرا على شهادتي، يحيا العدل.

يتكلّم أحد الملاكين: وليكتب كاتبٌ بالعدل.

تجلس الجثّة على الأرض، تضع الأوراق أمامها وتجرّب أنْ تكتب.

الجثّة: هذا صحيح (تصمت قليلاً) لو كان هناك آلة تسجيل لكان الأمر أفضل (ثم تنظر إلى الأوراق وتصيح) إنّها مفاجأة سارة، فكلماتي قد كُتِبَت على الأوراق لوحدها (تضحك) أظنّ بيل غيتس لم يصل لهذه التقنية، وما دامت الكلمات تُكتب لوحدها، فهذا أمرٌ جيدٌ جداً؛ فلا يصاب القارئ بعدي بجلطة قلبية من كثرة الأخطاء الإملائية.

تعاود النّظر إلى الملاكين.

الجثّة: ألا تيْبس أجنحتكما من هذه الوقفة الطويلة؟ سأبدأ الآن، لا تقلقا، أعرف أنّ وراءكما أعمالاً كثيرةً، أعتذر أيّها المبجّلان.

تقف، تتمشّى حول كفنها والأوراق، تضع يدها على بطنها، تصرخ من الألم.

الجثّة: آه، أه، آخ … إنّها الطعنات التي متُّ بسببها، لكن أين الدماء؟ بالتأكيد نزفتُ حتى الموت، وإلّا لم أكنْ هنا وعلى ما أذكر قبل أن ينطفئ ضوء عينيّ، رأيتُ فيما يشبه الكابوس قطةً تلحس الدّماء المتجمّعة تحتي ثم هربتْ بعدما سمعتْ صوتَ كلبٍ في الجوار، للحقيقة لا أعرف إنْ لعق الكلبُ من دمائي، كنتُ قد متّ وقتها.

تصمت وتتحسّس مكان الطعنات، مع استمرارها بالهرش والحكّ.

الجثّة: هذا الغبار يسبّب الحكّة، إنّه أشبه بالقمل والبراغيث (تصمت فيما تهرش جسدها مع تأوهات تشي بالمتعة) هذه الطعنات تشبه الشفاه ينقصُها لسان وتتكلّم أو تُقبّل، آه، نسيتُ، اللسان قطعته السكين، سكين قاتلي كانت حادّة، دخلت بسلاسة كأنّ بطني قالب من الكاتو، لم أحتفل يوماً بعيد ميلادي.

الجثّة تغني: happy birthday to you ، happy birthday to you .

الجثّة: هذا لا يعني أنّني لم أولد، فموتي دليل على ولادتي، الأفضل أن أرنّم:  happy death to me، happy death to me، اللعنة! هذه الترنيمة تحتاج لترجمة.

تنظر للصفحات الملقاة على الأرض، تبتسم.

الجثّة: هذا ما أسميه الترجمة الفورية (تقرأ): موتٌ سعيدٌ لي، موتٌ سعيدٌ لي.

تقف وتعاود المشي في المساحة المضاءة وهي تتلمّس بطنها.

الجثّة: يوم ولادتي كان تقديرياً، هكذا كتبوا ملاحظة في إضبارتي في الميتم، وتسميتي باليتيم تصحّ جوازاً في حالتي، فأنا لقيطٌ واللّقيط يعني أنّه ليس يتيماً وليس عجيّاً، المهم أنا يتيمٌ. هذا هو التوصيف القانوني، فالميتم بيت اليتامى.

توقفت في مكانها، وبدأت بتقليد صوت الطفل، تضع أصبعها في فمها.

الجثّة: لن ينجح الأمر، فلا ذاكرة شخصية لي من ذلك الزّمن والذّاكرة الورقية المسجلة في إضبارتي لا تذكر شيئاً عن طفولتي.                                                                   يبدو عليها الشّرود والتحديق في نقطة ما خلف الجمهور.

الجثّة: كان عجوزاً، والعجوز يجب أن يكون جدّاً! يجلس على بوابة الميتم، واليتيم تستطيع أن تشتريه بقطعة حلوى، وما المانع أن يلعب العجوز قليلاً، فكما لعب العجوز قليلاً، لعبت أنا كثيراً عندما كبرت.

تجثو على الأرض.

الجثّة / الطّفل: (تغيّر صوتها كصوت الطفل) لا يا جدّي لا تفعل ذلك، أمّي ستضربني.

الجثّة / العجوز:( تغير صوتها كصوت عجوز) لن تعرف، اصمتْ، كُلْ الحلوى واخرس.

الجثّة: أوه، عليّ أن أنتبه من الرّقابة، فلن تجيز ذلك؛ سأتحول إلى التلميح، وهنا خطأ تسلسلي وغير منطقي، الأمّ غير موجودة، فكيف ذكرتها؟ أنا مجرد لقيط كنت أعيش في ميتم! إذن، واضحة جدّاً أيّها الأحمق (مخاطباً نفسه!) كلّ طفلٍ يفترض وجود أمّ له حتّى لو لم تكن موجودة، وكان يجب عليّ أنْ أخيف البوّاب العجوز/الجدّ بأحدٍ ما، والأمّ هي الأنسب.

تغيّر الجثّة نبرة الصّوت بما يتلاءم مع صيغة السّؤال والجواب.

تحرّك قسمها الأوسط بطريقة موحية جنسياً.

الجثّة:( تتكلّم بصيغة الحكواتي) كان طفلاً أسود الشَّعر، بني العينين، ضعيف البنية، يثير الشّفقة والشّهوة بآنٍ واحدٍ. للشّهوة جذر في الشّفقة. يشبهني عندما كنتُ في عمره، أجده دوماً على سلّم الدرج في انتظار أن تعود أمّه من العمل، فهي مطلّقة، هكذا أخبرني، وحدّثني أنّها تجلب رجالاً آخرين بدلاً من الــــ بابا إلى البيت، يعطونه الحلوى، ويغلقون عليه الباب، ويتركونه وحيداً، وسألني: لماذا لم تجلبكَ أمّي إلى البيت!؟ لم أجبه وقلت له: أنتَ الآن عندي ونستطيع أنْ نلعب دون أن يغلقوا عليك الباب.

تتلمس قفاها، وتبدو علامات الوجع على وجهها، وتستمر بهرش جسدها، وحكّه كالمصاب بالجرب.

الجثّة/ الطّفل: عمّاه، لا تفعلْ، توقفْ، هذا يؤلم آخ، آخ، هذا عيب، آخ!؟

تنهار على الأرض وتبدأ بالنشيج، ثمّ يرتفع صوتها ليصل حدّ الصراخ، فينتفض جسدها انتفاضات متتالية كأنّه يتلقى ضربات سكين.

الجثّة: توقّف عن الشّكوى أيّها الطفل، وإلا لن أكون لك عمّاً، ولن أجلب لك الحلوى ولن ألعب معك، لا تخف، سأعود معكَ إلى البيت عندما تأتي أمّكَ.

تستدير، تمثل أنّها تفتح باباً وتغلقه خلفها.

الجثّة: كلّنا نعرف ماذا تفعلين أيتها العا…!

الجثّة / المرأة: ماذا تريد وما شأنك أنتَ؟

الجثّة: أريد حصتي، وإلّا لن تجدي نفسكِ إلّا مطرودة من هذا البيت.

يحصل كلّ ذلك أمام الطفل، يظهر ذلك من نظرات الجثّة، وحركات يديها التي تبدو كأنّها تلعب بشعر طفل شبح.

الجثّة: ها قد جئتُ معكَ والآن أمّك لن تضربك! لن تفعلي، أليس كذلك؟

الجثّة / المرأة: (تغيّر نبرة الصّوت كأنّها امرأة) لا، لا، لن أفعل، ولكن دعني أدخله إلى الغرفة الثانية.

الجثّة / الطّفل: ألم تخبرني أنّكَ لن تدخلني إلى الغرفة!؟

الجثّة: نعم وعدتكَ بذلك ولكنّ أمور الكبار لا يجب أن يشاهدها الصّغار؛ عندما تكبر ستعرف! هيا إلى الداخل.

الجثّة / المرأة: هيا يا أمّي، ادخلْ إلى الغرفة.

الجثّة: هذه المرأة كالخرقة من كثرة ما عبثت بها الأصابع، إنّها لا تصلح لمسح بصاقٍ وما أنا إلا بصاق.

يبدو أنّ الجثّة تذكرت شيئاً.

الجثّة: لم يدفع العجوز ثمن المشروب منذ زمن، وعطشي يزداد. أنت أيّها العجوز، ياحارس الميتم، أمازلت تخبئ نقودك عنّي، أولادك تركوك هنا، وحيداً، أليس هذا صحيحاً؟ هم لم يتركوك (تضحك بسخرية) أنت لم تنجب، لذلك تبنّيت يتيماً، بالأحرى لقيطاً؛ هو أنا، لتقضي شهوتك به. زوجتك الشّمطاء لم تستطع تحمّل وسخك، فهربتْ! لكنّني من بقي، وتحمّل حقدكَ على الدنيا، هيا ادفعْ لابنكَ المُتبنى بعض النقود، هيا أيّها العجوز عندما تموت لن تأخذ معك إلّا عملكَ الصّالح (تقهقه) هيا، عليك اللّعنة.

تصفع الهواء أمامها بيدها وكأنّها تضرب العجوز.

الجثّة: اللعنة لقد متّ قبل هذا العجوز، أوه، وليس لدي أعمال صالحة.

تلتفت نحو الملاكين وتكلّمهما.

الجثّة: لن ألعن قاتلي، هو لم يكن يقصد ذلك، هو سارق وليس قاتلاً، لكنّه قتلني قبل أن أتمكّن من ممارسة التّوبة، آه، لقد حرمني من التّوبة وهذه أكبر جريمة، نعم! وهذا أشدّ من القتل، يجب أن يُشنق ويتدلّى كلسان القطّة التي لعقتْ دمي.

تبدو وكأنّها ترفع كأساً وتشرب.

الجثّة: أحتاج إلى كأسٍ من المشروب وسجائر لأنهي هذه الأوراق، لكن يبدو من عدم وجودها أنّ هناك مرسوماً يقضي بمنع التدخين وشرب الكحول في القبور، لكن ما ضرر التدخين والكحول؟ ما أنا إلا جثّة ستتفسخ بعد أن تنتهي من كتابة هذا التقرير.

تصمت وتهرش رأسها، فيتساقط الغبار.

الجثة: نعم، لقد فهمت، لا تبتئسا أيّها الملاكان الكريمان. إنّ منع التدخين والكحول وُضع بسبب الخوف على الديدان من القطران والكحول وهذا حقّ. لاريب أنّ أفكاري هذه نوع من التّوبة، أليست التّوبة هي المعرفة الحقّة؟

تقف منتصبة، تشدّ على رقبتها، تُخرج لسانها وترتفع على أصابع قدميها.

الجثّة: هكذا سيكون مصير السّارق، الشّنق. سارق وقاتل؛ نحن أمام عوامل مشدّدة اجتمعت مع بعضها البعض، لكنّ هناك أسبابٌ مخففةٌ تقديريةٌ تشبه يوم ولادتي. كنتُ سكراناً عندما هاجمني، أنا من تعلّق به معترضاً هروبه كي أدعوه إلى كأس، كنتُ أريد نديماً، فأنا أشعر بالوحدة، أمّا هو، فقد كان على عجلة من أمره، والمستعجل يهرب من المستوحِد. يا له من غبيّ، كنّا سنصبح صديقين، ولن أمانع أن يسرق العجوز الأخرق. كنت سأعرّفه على جارتي المطلّقة، أمّا ابنها فلي وحدي، ومن يقترب منه سأقطع رأسه. أيّها السّارق الأحمق لم أكن أبتغِ منك شيئاً، كنتُ سأموت من كثرة تناولي للكحول والآن أنتَ تتحمّل وزر قتلي، يا لِحظّك التّعس، ألم تكفك السّرقة حتّى خضت في القتل!؟

تتجشأ، ثم تسعل بسبب الغبار الذي خرج من معدتها مع هرش جسدها، تضرب جسدها بيدها فتتّسع هالة الغبار من حولها.

الجثّة: اللّعنة على الغبار أوه، يجب أنْ أنتبه وألّا ألعن بحضور الملاكين، لكن ما المانع!؟ هما يريدان الشفافية وكلمة الصّدق، وهذا ما جال في بالي. لم يعد يجول في بالي شيءٌ، فكلّ ما أفكّر فيه أنطقه، وينطبع على الورق.

تنظر إلى الأوراق، وتقلّبها.

الجثّة: ممتاز، حتى أنّ هناك رسوماً توضيحيةً وملاحظات وهوامش، لا شيء يفوت هذه الأوراق وإلّا لن يكون ما كتب عليها اعترافاً.

تعاود التجشؤ والسّعال والهرش.

الجثّة: ما من داعٍ للتأفّف لقد متّ وأنا سكران، وبطني ممتلئ، وهذا يجب أن يُذكر في إضبارة قاتلي، يجب أن يُذكر أيضاً، أنني من تعلّق به، وللأسف سيُفهم من تعلّقي به أنّني أحاول منعه من الهرب! لذلك كنتُ أقول دائماً: نصف المعرفة أقبح من الجهل.

تعاود النّظر إلى الأوراق.

الجثة: منذ متى وأنا أتكلّم بهذه الفصاحة، لم أكن أعرف أنّ الموت يجعل المرء أشدّ ذكاء وأكثر نباهة. وجدتها، فلكي تتحرّر البشرية من غبائها عليها أن تموت أولاً ثم تحيا من جديد.

صوتٌ يبدو أنّه من الملاكين: النّاس نيام إنْ ماتوا استفاقوا.

الجثة: هذا صحيح.

تصمت من جديد وعندما تتكلّم تُخرج صوتها كصوت طفل.

الجثّة / الطفل: يا عمي، هذا موجع، توقّف، أرجوك.

تعود لحالتها الطبيعيّة.

الجثّة: يا لسفالتي، كم أنا قذر وعديم الرّوح، الحمد لله لقد تركتني روحي عندما متّ، فكيف استطاعت أن تتحمّل كلّ قذارتي؟ لو كنت جيداً لما تركتني، لقد ذهبت مع آخر نفس، لذلك يمتلئ جسدي بالغبار. الغبار؛ لا حياة فيه، هو ليس طيناً. لقد فشلت حتّى في أن أكون طيناً، الغبار هو طين مَيْت.

تصمت وتبدأ بالبكاء والنّحيب، وحكّ جسدها، وهرشه كمن اشتعلت فيه النار؛ تتخبّط على أرض المسرح.

الجثّة: أيّها الطّفل الذي كنته، أيّها الطّفل الذي أذيته: لا تسامحاني، فأنا لا أستحقُّ إلّا لعناتكما، أنا أستحق القتل، شكراً لك أيّها السّارق، يا نديمي؛ مع أنّنا لم نشرب معًا، لكن ما فعلته لا يفعله إلّا نديم.

تتكلم بطريقة أقرب للابتهال. ثم تبدأ بالتقوّس ليشبه جسدها جسد العجوز.

الجثّة: أيّها العجوز النتن لو أحسنت لي لما فعلت بكَ هكذا، أنت تستحق ما كنتُ أفعله بكَ، آه، ها أنا أعود لتبرير أفعالي الشّنعاء، فبدلاً من أكون له الولد الصّالح، فعلتُ كما يفعل الأولاد بآبائهم، أيّة لعنة حلّت بأولاد هذا الزّمان اللّعين؟

تعود للسّعال وتتلمّس الطعنات في بطنها.

الجثّة: أيّها النّديم، أيّها السّارق كان يجب أن تسدّد طعناتك إلى هذا القلب المملوء بالغبار؛ أكنتَ تعرف أنّني لا أستحق رحمة كهذه، فأنتَ سارق بسيط تسرق النّاس في غيابها وتتركها للظنون، أمّا أنا فمسيء للأمانة ومن أسأتُ له يعرفني، والظّنون لا تحميني وتشفع لي من الحدود.

تعاود النّظر إلى الملاكين.

الجثّة: سأنتهي قريباً، لا تملّا، فحياتي قصيرة، وبالتأكيد ستكون اعترافاتي قصيرة؛ حياتي كانت كذبة، وحبل الكذب قصير، فجأةً يُقطع الحبل، أو يُطعن! أنا لست آسفاً على موتي، آه، ليس موتي، فأنا مقتول لذلك أنا جثّة، ولست جثماناً، وهناك قاتل طليق يهرب كالفأر، أتمنّى لو أستطيع أن أذهب إليه وأخفّف عنه وأقول له: لقد فعلتَ حسناً، طفلٌ عند حاوية زبالة، ماذا تتوقّع منه إلّا أنْ يكون زبالة، تتحدّد مصائرنا في اللّحظة التي نتكوّن فيها، طفل وُضع منذ ولادته عند حاوية الزّبالة، من المنطقي أنّ لحظة تكوّنه كانت اغتصاباً.

تتلمّس قفاها، وبطنها، وتتوجع، ويستمر الحكّ والهرش.

الجثّة: الاغتصاب سببُ وجودي الأوّل، والميتم، والبوّاب/أبي بالتبني، هما من علّماني أنْ أغتصب الصّغار، وأعتدي على الكبار، للحقيقة أنا لم أختر أفعالي كنت مدفوعاً إليها بحكم السّبب والنتيجة.

تعاود الجلوس على الأرض وتنظر إلى الأوراق.

الجثّة: يجب أنْ تتضمّن الأوراق أسبابَ وجودي آه، هذه هي، إنّها عن أمّي (تقرأ من الورقة بهدوء) كانت فتاة شابة عندما دخل مسلحون إلى بيتها، فقتلوا عائلتها واغتصبوها واحداً تلو الآخر، وبعدها هُجّرت إلى بلدٍ آخر، وهناك ولدتني ووضعتني قرب حاوية الزّبالة (تتوقف عن القراءة) اللعنة! وهذه أيضاً ليست بلدي، اللعنة! يتيم ومهجّر ومقتول، ماذا بعد!؟

تبحث في الأوراق، وتنظر فيها بجدية كبيرة.

الجثّة: وماذا عن أبي، آه، لقد كتبوا، أنّه /المسلّحون!؟ المسلّحون جمع، يجب أن أنتمي إلى مسلّح واحد، من هو؟ ما هي قصته؟ لا يوجد، إذن؛ أنا ابن المسلّحين ولكن فحص الـــــ DNA أصبح قادراً على تحديد من هو الأب، اللّعنة، لقد اختلطت الحيوانات المنوية، هذه تورية، أنا ابن الحرب، في الحرب تتشكّل العصابات وتغتصب الأرحام ويتحوّل الأبناء إلى لقطاء، وأيتام، وعجيان.

ترمي الأوراق جانباً، تقف، وتمشي بشكل دائرة حول الكفن، ثم تنظر إلى الملاكين.

الجثة: أيّها الملاكان يا صاحبيّ، أنا أعتذر لقد أرهقت سمعكما بقصة تافهة، مرّت عليكما الكثير من الجّثث التي روت نفس الأحداث، أنتما تعرفان أنّ من مساوئ العمل في القطاع العامّ هي الروتين، والبيروقراطيّة؛ لذلك أنصحكما بشركة خاصّة، فهناك يكون العمل مملوءاً بالحركة والدّهشة، والرواتب مغرية والحوافز أيضاً.

تصمت من جديد، تنظر إلى الأوراق، تأخذها بيدها.

الجثة: لا ريب أنّ الأوراق قد ذكرتْ شيئاً عن قاتلي (تتصفحها في عجالة) لا شيء مذكور. هل سُجلت جريمة قتلي ضد مجهول؟ حتّى هنا قاتلي لقيط، مجهول النّسب، اللعنة، كما أن الطيور على أشكالها تقع؛ كذلك اللُّقطاء على اللُّقطاء يقعون.

ترمي الأوراق على الأرض، وتكحّ وتسعل من جديد، وتهرش جسدها.

الجثة: اللّعنة على الغبار، اللّعنة على الحكّة، يجب أن أذكر شيئاً عن قاتلي. إنّه لقيط مثلي، وله قصة مشابهة لقصّتي، ويجب أن أدافع عنه لأسباب عديدة أهمّها: أنّه قد أوقف سيرة حياتي السّافلة، كنتُ مجهولاً، وأعادني للمجهول، وهذا الأمر يجب أنْ يُحسب له، فلو بقيتُ على قيد الحياة كنتُ سأستمر في تعريف مجهوليتي بالأسباب ذاتها التي جعلتني مجهولاً، بالاعتداء، والسّرقة، والاغتصاب، ولقد فعل حسناً بقتله لي، هي صدفة، لم يكن يقصد ذلك، لكن الأمور بخواتيمها؛ لذلك يجب ألّا تحاسبوه على قتلي، فقد رمى بنفسه في البحر؛ لينقذني من الغرق.                               إنّه سارق، لكنّه شهم، ويستحق كلّ الأسباب المخفّفة التي تمنع عنه العقوبة، أنا أتنازل عن الادعاء الشّخصيّ، والحقّ العام يجب أنْ يأخذ بالاعتبار الصّفح الذي قدمته لقاتلي.

أيّها القاضي في عالم الأحياء: إنّ قاتلي بريء لم يقصد ولم يتعمّد قتلي، كان قتله لي بسبب الخوف. أيّها القاضي، الخوف هو القاتل، ففي البدء كان الخوف لا الكلمة، الخوف يدفعنا لكي نقتل، كنتُ خائفاً منذ لحظة ولادتي لأنّ أمّي كانتْ خائفة ولأنّ المسلّحين كانوا خائفين، يقتلون ويغتصبون بسبب الخوف، والسلطة تقتل وتسجن بسبب الخوف؛ لذلك أطالب من جديد بتبرئة قاتلي، قاتلي هو أبي الذي بحثتُ عنه ولم أجده، قاتلي هو ابني الذي حلمتُ بأن يرعى شيخوختي، ولم أجده، وما سكين القتل إلّا حفيدتي، أليس الحفيد أعزّ من الولد؟

تجلس من جديد على الأرض تتلمّس الكفن وتنظر إلى الأوراق.

الجثّة: الكفن ناعم ككف أمّ لم أعرفها، وحنون كأب يحبّ السلام ويكره الأسلحة، وكولد يكون عكازك في شيخوختك، آه يا كفني، كم أنتَ كريم لتقبل أنْ تحتويني بعد كلّ ما ذكرت، وترحب بتفسخي، واهتراء جسدي، ورائحته الكريهة التي تشبه رائحة حاويات الزّبالة.

تصمت من جديد وكأنّها في لحظة تأمل فلا تحكّ أو تهرش جسدها.

الجثّة: الديدان النّهمة ستلتهمني، أرجو ألا يزعجها الغبار الكثيف الذي يحتويه جسدي، الديدان – كعمال النظافة الذين وجدوني- تستحقّ التكريم، لو كنتُ حيّاً؛ لطلبت أنْ يُوضع في ساحة المدينة نصبٌ ضخم لدودة؛ إجلالاً لكلّ تلك الأعمال التي تقوم بها.

تهيئ الكفن، وكأنّها تريد العودة إلى داخله.

الجثة: أيّها الملاكان لم يبقَ الكثير لأقوله، لكنّني أرجو أن تعملا جاهدين للتخفيف عن قاتلي، وأن تساعدا الطفل لكي ينسى ما كنت أفعله، وعندما يموت العجوز أخبراه أنّني أعتذر منه رغم قذارته، وأنّني كنت ولداً عَاقّاً، هو لم يرزق بأولاد، وأراد أن يفعل خيراً، والخير مفهوم ملتبس، لكنّني لم أعامله بالحسنى (وكأنّه نسي تحرّش العجوز به!؟). أعتذر أيّها العجوز، فأنا من نسل آباء كثر يُسمّون المسلّحين، والمسلّح حيوانه المنوي كالرصاصة تقتل ولو بعد حين، أمّا المرأة / الأم، فماذا أقول لها، آه، قلب الأم غفور، لكنّ قلب الأنثى، هل هو غفور؟ لتلعنّي قدر ما تشاء لربما يخفّف هذا من ألمها.

تبدأ بإدخال قدميها في الكفن وهي تنظر إلى الملاكين.

الجثة: أيّها الكفن، كنْ كالقماط لي، أعدْ إليّ طفولة لم أعرفها وأمّاً تهدهدني وتغنّي لي، أيّها الملاكان، أأستطيع أن أطلب منكما طلباً، أريد أن تغنيا لي عندما أنام، عفواً، عندما أعود للموت، الغناء يريح الأعصاب، ولا أريد للديدان أن يصيبها العسر وهي تهضم أعصابي، أعصابي متيبّسة وجسدي كقطعة من الخشب. أغنية واحدة وأنام، أنا لست طفلاً شقيّاً؛ اسألوا بوّاب الميتم/ العجوز/ والدي بالتبنّي؛ كنتُ هادئاً وطيّباً كالحلوى.

تبدأ بترنيم لحن غير معيّن.

الجثة: أوه، أيّها الملاكان، لا أتذكّر أيّة أغنية! أتمنّى منكما أن تساعدا ذاكرتي.

تعود للترنّم، محاولة أن تتذكر لحناً أو أغنية. تكمل سحب الكفن نحو صدرها، تتلمس مكان طعنات السكين لكنّها لا تتوجع.

الجثّة: لقد ذهب الألم، والطعنات ستترك أثراً وهي تلتئم، لربما ستجد الديدان في هذه الآثار نكهة جديدة. حتى الحكّ والهرش توقّف؛ للحقيقة لا أعرف إن كان قد انتهى، هو صامت الآن لربّما يدخل معي في الكفن.

تُكمل سحب الكفن، يصل الكفن إلى صدرها وتستعدّ لتدخل به كاملاً.

الجثّة: الكفن دافئ كحضن أمٍ، الكفن يطمئن كيد أبٍ، الكفن مريح كبيت العائلة. الكفن، الكفن، الكفن…

تغلق الكفن، ويعمّ الصمت، وفجأة تخرج منه من جديد.

الجثة: ما هي ماركة هذا الكفن؟ آه، إنّه كفن (“Versace) ماركة عالميّة جيّدة! أعتذر أيّها الملاكان يجب أن تكون النهاية عاطفيّة سأعيد الجملة الأخيرة: الكفن دافئ كحضن أمّ، الكفن يطمئن كيد أبّ، الكفن مريح كبيت العائلة، الكفن، الكفن، الكفن…

تُغلق عليها الكفن، وتمرّ لحظات صمت ويبدأ الكفن بالتحرك ثمّ تخرج منه يدّ الجثّة وبالتتابع تخرج الجثّة كاملة. تقف، والكفن يحيط بقدميها، تستدير، وتترك ظهرها للجمهور ليظهر على ظهرها جناحان، تمشي خارج الكفن باتجاه الملاكين؛ لتخرج من المسرح نهائياً. يسمع الجمهور صوتاً من داخل الكواليس:

الجثّة: اللعنة! قلتُ لكَ: اجلبْ بودرة أطفال لدي حساسية من الطحين.إنّه يسبب الشّري. اللعنة! أشبه الآن بالوناً أحمر، لقد انتفخ جسدي. اللعنة، أحتاج طبيباً.

ينطفئ الضوء في المسرح نهائياً ونسمع صوتاً يترنّم بأغنية:

يا الله ينام الجمهور، يا الله ينام، يا الله ينام الجمهور، يا الله ينام. 

               ****            *****                 

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 02, 2022 09:06

September 30, 2022

September 29, 2022

السرد البوليسي.. هل هو أحد ركائز الحداثة العربية؟ – باسم سليمان – مقالي في ضفة ثالثة

ليس الشكل الفنّي لنتاج إبداعي ما، إلّا نتيجة لمجموعة من الأسس، لا تقتصر على عناصره الداخلية فقط، بل يتداخل في إخراج هذا الشكل الإبداعي عوامل خارجية مجتمعية من سياسية وثقافية واقتصادية. وإذا أخذنا السرد القصصي كمثال نجد أنّ أحد العوامل التي دفعت به للواجهة، هو ظهور الصحافة الورقية، فالشكل الفنّي في تحقّقه يتجاوز بناه الخاصة، ليتعاضد مع بُنى خارجة عنه حتى تكتمل مرآويته. وعندما نقترب من السرد البوليسي الذي ابتدأ في منتصف القرن التاسع عشر مع الأمريكي إدغار آلان بو نجد معطيات لا تتعلّق بالفن، بالمعنى المباشر، كان لها الدور الحاسم في نشوئه. إنّ البُنى المدنية المعقّدة التي ظهرت في أوروبا نتيجة ولادة الدولة القومية، ومبدأ فصل السلطات، وظهور مؤسسات الشرطة، والتطور العلمي العملي البحثي، كان لها دور فاعل في وجود المحقّق الرسمي أو التحرّي السري، والذي يعتبر عماد السرد البوليسي.                                                                                                هذا التأصيل التاريخي كثيرًا ما استند إليه في تبرير غياب القصة والرواية البوليسية عن مجتمعات معينة  قد عانت من أنظمة شمولية، جعلت من مؤسسة الشرطة أداة قمعية، فلا يمكن تصوّر محقّق كما شرلوك هولمز أو هيركول بوارو يلعب ذلك الدور في تلك المجتمعات. وهذا الوضع لحظ في بلاد كإسبانيا التي تأخر ظهور الرواية البوليسية فيها إلى ما بعد القضاء على ديكتاتورية فرانكو فيها. كذلك إيطاليا التي منعت السلطات الروايات البوليسية فيها إبّان حكم موسوليني. وعندما نطل على البلاد العربية نرى أنّ الفن الروائي والقصصي قد اشتبك مع الواقع على جميع الأصعدة، إلّا في النمط البوليسي الذي ظلّ صوته خافتًا، بل ويكاد أن يكون معدومًا، حيث جاءت التعليلات من الروائيين والنقّاد بأنّ شمولية أنظمة الحكم العربي وقمعيتها واستخدامها للأجهزة البوليسية لصالحها، واحتكارها حقّ التحقيق والسؤال منعت الجنس الروائي البوليسي من إيجاد أرضية له في مخيال الكاتب إلى جانب القارئ، بالإضافة إلى استمرار النظرة التبخيسية لهذا الجنس التي سادت في فترة معينة في أرض منشأها الإنكليزي والفرنسي والأمريكي، فظل الروائي العربي رهين تلك النظرة التي أكّدها له الناقد الذي ترفّع عن الخوض في التنظير لهذا النمط الروائي. هذا المنظور للرواية البوليسية دُعم بطبيعة المجتمعات العربية، حيث الجريمة فيها ابنة الثأر والانفعال، فلا تخطيط ولا سرّية، بل إنّ المجرم يفاخر بفعلته، مثلما يحدث في جرائم الثأر والعار. ويحيط بكل هذه الظروف أنّ المدينة العربية مازال لها من طبائع الريف الكثير، فالتعقيد الذي نراه في المدينة الغربية مازلنا بعيدين عنه، وبالتالي لن تحدث تلك الجرائم التي تحتمل سردية روائية لمقاربتها تخييليًا.  

يحثنا واقع قلة الإنتاج الأدبي العربي في السرد البوليسي إلى سؤال الحداثة في مجتمعاتنا العربية، وذلك استنادًا لتعريف معجم النقد الأدبي (1) حول مادة الرواية البوليسية: بأنّها شكل روائي ظهر في القرن التاسع عشر مع التطور الحضري للمدينة الأوروبية وما رافقه من ظهور مؤسسة الشرطة، وتطور العلم الوضعي وآليات البحث. وعادة ما تطرح لغز جريمة قتل في الأعم الأغلب يجب كشف مرتكبها عبر محقّق ما. وبناء على هذا التعريف وغياب أو قلة الانتاج السردي البوليسي، نستخلص بأنّ المجتمعات العربية لم تدخل بعد في مرحلة التطور الحضري، كما حدث مع المجتمعات في الغرب! لا ريب أنّ هذا الاستنتاج مجحف  بحقّ السرد العربي، فالعناصر المكوّنة للجنس البوليسي وإن لم تتوفر بأثافيها الثلاث من جريمة ومجرم وخاصة المحقّق، لا يعني أنّنا تخلفنا عن هذه المظهر السردي للرواية والقصة، وبأنّنا لا يمكن أن نكتب سردًا بوليسيًّا وفق المعيار القياسي النقدي. إنّ التطور الحضري أو ما سمّي لاحقًا بالحداثة، له أشكال عديدة تنبثق من واقع كل مجتمع، وليس من الضرورة أن تكون استنساخًا للحداثة الغربية.                                                                                                 يتساءل تودوروف(2) في مقاله؛ أنماط الرواية البوليسية، عن أنّ التجنيس التصنيفي، يحمل بصمة تبخيسية، لأنّه يحدّد مسبقًا العناصر المكوّنة لنوع روائي ما، وبالتالي يمنع أي محاولة تطوير لهذا الجنس السردي ما دامت محدداته لها صفة القدرية. وهو إذا ينبّه إلى خطورة محددات التصنيف مناقشًا ذلك من خلال أنماط الرواية البوليسية من رواية اللغز والسوداء والتشويقية على ضوء تصنيف الناقد والروائي فان دين الذي وضع عشرين قاعدة حاكمة لتدخل الرواية في النوع الروائي البوليسي، فإنّه يشرح بأنّ ولادة نمط جديد من الرواية البوليسية يتجاوز محددات فان دين، وهذا لا يعني بالضرورة نفي الملمح القديم للجنس البوليسي، لأنّ الاتجاه الجديد، هو بوتقة مختلفة الخصائص، ليس مطلوبًا منه، أن يكون منسجمًا مع القواعد القارة، ولا يعني في الوقت نفسه بأنّ كسر تلك المحدّدات يُخرج الطرح الجديد من الجنس الروائي القار.

إنّ تأملًا في ما قاله تودوروف يوسّع دائرة الجنس السردي البوليسي، وينتشله من عقم التجنيس. وهذا ما نستطيع أن نراه في رواية: اللص والكلاب لمحفوظ، ورواية: الشيء الآخر، من قتل ليلى الحايك لكنفاني، لجهة استخدامها الحبكة البوليسية مع تراخيهما في استنساخ البنية النمطية التي وضحّ مارك ليتس عناصرها (3) قائلًا: إنّ الرواية البوليسية قد بدأت مع إدغار آلان بو، وهي تتألف من جريمة عصيّة على التفسير ومجرم متخفّ، ومحقّق يكشف حيثيات الجريمة عبر استقراء وقائعها واستنباط كيفية حدوثها. إنّ مناقشة تودوروف تهدف إلى كسر تلك البنية التقليدية للرواية البوليسية، فهي وإن ولدت في الغرب ومعطياته، فالمجتمعات البشرية الأخرى لديها معطيات مختلفة لا تتوفّر فيها العناصر المطلوبة في التجنيس، لكن من حقّها أن تكتب روايتها البوليسية الخاصة بمجتمعها.

ولكي نكون على وضوح أكثر فيما ذهب إليه تودروف يأتي الكشف عن الأصول القديمة للسرد البوليسي داعمًا لتوجهه، وخاصة الأصول التراثية في الثقافة العربية. ولأنّنا محكومون بالمستند النقدي الغربي، سنورد رأي بيار براهام الذي جاء في مجلة أورب النقدية(3) الذي اعتبر شهرزاد ضحية مطلوبة من قاتل يسمى شهريار تؤجّل موتها يوميّا عبر قصة ترويها. وإن كان لنا أن نوصّف هذا التأجيل لحكم الموت، فلا يمكن أن نجد له مرادفًا حديثًا وخصيصة جوهرية في الرواية البوليسية إلّا التشويق. إنّ التشويق هو المحرّك الخفي الذي قيدت به شهرزاد يد شهريار، وربطت به القارئ الذي لا ينفكّ يخرج من قصة إلى قصة أخرى معها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تقدِّم ألف ليلة وليلة عدّة حكايات لها صفات بوليسية قياسًا على ما عدّه الناقد بيير بيّار إرهاصات أولى للرواية البوليسية(4) فقد اعتبر مسرحية أوديب لسوفكليس، هي البداية الأولى للرواية البوليسية مع أنّها ليست قياسية وفق ما استقر النقد الغربي على شكل الرواية البوليسية. لم تكن هذه القصص التي جاءت في ألف ليلة وليلة مكتملة البنية(5)، لكن فيها الكثير من السرد البوليسي، ففي حكاية التفاحات الثلاث، نلقى أنفسنا أمام الشكل الغالب للقص البوليسي، حيث تُكتشف جثة، فيبدأ التحقيق لكشف الأسباب التي أدّت إلى تلك الجريمة، فعندما وجد الخليفة الرشيد جثة في الصندوق الذي اشتراه من الصياد يأمر وزيره بالبحث عن القاتل. للحقيقة لا نستطيع أن نعتبر جعفر البرمكي محققًا كما شرلوك هولمز، فقد لعبت الأقدار دورًا مهمًا في الكشف عن الجريمة وهذا ما حذّر منه فان دين كتّاب السرد البوليسي، لكنّ تودوروف يخبرنا بأنّ نمط السرد القدري كان شائعًا في الزمن القديم، فتحقّق النبوءات بحقّ الفرسان الباحثين عن الكأس المقدس لا يعتبر ضعفًا في البنية الفنية، بل هو تماه مع البنى الثقافية في ذلك الزمن. في نهاية حكاية التفاحات الثلاث تتكشّف الحقيقة، بأنّ العبد لدى جعفر البرمكي، هو المسبّب في تلك الجريمة. وهذه النقطة التي تُظهر بأنّ المجرم من الدائرة الضيقة للمجني عليه كثيرًا ما استخدمت في الرويات البوليسية الحديثة. أمّا في حكاية اللص والتاجر يتبع التحقيق سؤال الشهود ومتابعة المجرم حتى يتم القبض عليه. وهذه أيضًا من خصائص الرواية البوليسية الحديثة. وتتجلّى السمة التحقيقية بأبهى صورها في حكاية علي كوجيا الذي يأتمن أحد التجار على جرّة كان قد خبأ فيها ذهبه وغطاه بالزيتون، لكن التاجر الصديق يخون الأمانة ويسرق الذهب، ويضع بدله زيتونًا حديثًا. وعندما يتهمه علي كوجيا بسرقة الذهب ينكر التاجر ذلك، لكن المقارنة بين الزيتون القديم والجديد تفضح مسيء الآمانة.

قدمت لنا ألف ليلة وليلة ثلاث قصص بوليسية من دون وجود التطور الحضري الذي أشار إليه معجم النقد الأدبي! نعم هي قصص لا تخضع للمعيار القياسي الذي وضع للسرد البوليسي الغربي، لكن تلك القصص ابنة بيئتها، وقد منحت قارئها التشويق وممارسة التحقيق لكشف المجرم كما فعلت مسرحية أوديب التي ذكرها بيير بيّار.

في رواية إمبرتو إيكو اسم الوردة يُندب المحقّق ويليام باسكرفيل، الذي كان يعمل في محاكم التفتيش في القرون الوسطى للتحقيق في وفيات غامضة في أحد الأديرة، يقف وراءها أمين المكتبة الذي لم يكن راغبًا بأن يطلع الرهبان على كتاب فن الشعر لأرسطو وخاصة الجزء المتعلق بالضحك. يعتبر كتاب فن الشعر لأرسطو أول تنظير أدبيًّ لفكرة التخييل، نعم كان أمين المكتبة خائفًا من فكرة الضحك وأنّها ستقود إلى قلّة الإيمان، لكن القلق العميق كان من التخييل الذي سيسمح للرهبان بالخروج عن المدونة الرسمية للكنيسة، وتخيّل سير أخرى تنقض الرواية الرسمية. هذه النقطة لا ريب أنّها كانت تدور في ذهن المحقّق باسكرفيل الذي عمل في محاكم التفتيش التي طاردت كلّ محاولة للتخييل، أكانت واقعية أو فكرية وحكمت على من تجرأوا بالموت، لذلك كان لديه معرفة بالدافع العميق الذي يحث أمين المكتبة على تسميم صفحات الكتب التي يخشى منها أن تلوث إيمان الرهبان.

إنّ التخلّف عن كتابة السرد البوليسي بحجّة عدم قيام عناصره، يضعنا في موقع أمين المكتبة في رواية أمبرتو إيكو. إنّ رفض الروائيون والنقّاد خوض هذه المغامرة، يعني أنّهم قد قبلوا بأن يقتل التخييل مع أنّهم أقرب لباسكرفيل، من حيث معرفتهم الحقّة بالعناصر الأساسية للسرد البوليسي، ولذلك يجب الثورة عليها، كما فعل باسكرفيل بجبّ ماضيه، وكشف قاتل الرهبان. إذن علينا ابتداع سردنا البوليسي المولود ضمن بيئتنا، ولا ننتظر حتى يتحقّق التطور الحضري الذي حدث في المدن الغربية لدينا، فالحداثة بقدر ماهي ابنة المدينة الغربية، هي في الوقت نفسه عودة أصيلة إلى بيئة الكاتب الذي يعلم تمام المعرفة بأنّ التخييل لا يقف أبدًا عند معوقات الواقع، بل إنّ تلك المعوقات هي أحد الحوافز التي تجعله يتجاوز واقعه ونفسه، ليصنع حداثته  الخاصة به وبمجتمعه.

المصادر:

مجلة فصول العدد 76- 2009 الهيئة المصرية العامة للكتاب.شعرية النثر، تزفيتان تودوروف، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة – دمشق 2011.الرواية البوليسية، عبد القادر شرشار. منشورات اتحاد الكتاب العرب – دمشق 2003.4-    مجلة الجديد العدد 51 لعام 2019.الرواية الأم، ألف ليلة وليلة في الآداب العالمية، ماهر البطوطي. مؤسسة هنداوي 2017. 

باسم سليمان

خاص ضفة ثالثة

https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/revisions/2022/9/29/%D8%A7%D9%D8%B3%D8%B1%D8%AF-%D8%A7%D9%D8%A8%D9%D9%D9%8A%D8%B3%D9%8A-%D9%D9-%D9%D9-%D8%A3%D8%AD%D8%AF-%D8%B1%D9%D8%A7%D8%A6%D8%B2-%D8%A7%D9%D8%AD%D8%AF%D8%A7%D8%AB%D8%A9-%D8%A7%D9%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 29, 2022 07:38

باسم سليمان's Blog

باسم سليمان
باسم سليمان isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow باسم سليمان's blog with rss.