باسم سليمان's Blog, page 25

October 7, 2021

القلفة:الجزء الأول من روايتي نوكيا المتواجدة في معرض الرياض 2021 جناح دار سين

القلفة

….

….

      – عضوكَ سيفٌ مغمود، أمّا أنا ومحمود، فسيفانا قد شهرناهما منذ الأسبوع الأوّل لولادتنا، فقد تأهّبا للقراع منذ نعومة أظفارهما، لذلك يحقّ لنا الزّواج بأربع إناث. وأمام هذا الواقع عليك أن تقرّ بهذا السّبق الوجوديّ، أمّا مزايداتكَ والميزات التي خلعْتَها على زائدتك اللحمية من سهولة ممارسة العادة السرية دون بصاق أو صابون، وما تؤمّنه من متعة أكبر بسبب مساحة الجلد المكتنز بالنهايات العصبية، وأنّ الممارسة لديك باثنتين ممّا لدينا، فالواقع يكذِّبها ولا تنفعك! فلا يتساوى السيف المثلّم من كثرة الضراب والسيف الصدئ في غمده، حتى أنّك تستطيع معرفة شهرة أعضائنا من ولع النساء الغربيات بألف ليلة وليلة. ألم تقرأ رواية (الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح وكيف كانت النساء يتكبدن العناء ليحظين بمضاجعة مَنْ يشتهر بجعل أربع نساء ينمن وهنّ منهكات الفروج! أضفْ على ذلك ما قرره الطب من منافع الختان.

       – بما تفسران ختان البنات الذي وجد أساسه في قطع شهوة الأنثى، أليس الأمر ذاته مع الذكر؟ وما رأيكما بما أكّده الطب، من أنّه يخفّف من رغبة الأنثى الجنسية، ويجعلها نهبًا لأحلام لا تتحقّق، فتصبح مخلوقاً معقداً كالشارب من ماء البحر لا يرتوي، فيقضي عمره في ملاحقة السراب. أليست الحور العين نتيجةً لهذا الحرمان الذي عانى منه الذكر نتيجة للتطهير؟ أمّا هذه الجلدة التي تزدرونها، فهي كالسرج للحصان، فتجعل ركوبه ممتعاً، والأهم بأنّها لا تترككما بتقرّحات وجودية، أو في هلوسات آخرةٍ تقضونها في المضاجعة!

      – الذكر فزيولوجيته مختلفة عن الأنثى، ولا وجه للمقارنة!

******                         ******                       ******

 لم يكن من الممكن أن يختتم هذا الجدال إلّا بحكم خبيرة في أعضاء الرجال ومن غير رغدة! امرأة في الأربعين مرّ على فرجها آلاف مؤلّفة.

 لم نكن نملك إلا مئةً وخمسين ليرة، والسعر لديها كان بألفٍ لفنجان القهوة السريع، وإن يكن، فالموضوع سؤال وجواب! ومن المؤكد أنّها ستزهو بنفسها، فلا نعتقد أنّ أحداً من الرجال قد سألها هذا السؤال، ولربما ترى فيه وجه فائدة غفلتْ عنها، فترفع سعر فنجان القهوة لديها، أكان مطهّرًا أم بغلفة!

 طرطوس مدينة مكشوفة، إنّها قرية كبيرة، تشعر فيها بأنّه من الممكن بأية لحظة أن يتم التعرّف إليك، لذلك تسلّلنا إلى بيتها في العاشرة صباحاً، وما من أحد سيظنّ بنا، فهي لا تبدأ عملها -حسب ما سمعنا- إلا مساءً. رسمنا خط سيرنا إليها وفق خطّة مدروسة، فكان الأهم في هذه الخطّة الكيفية التي سنقرع بها الباب لإيقاظها، وكم عدد الطرقات، أيجب أن تكون سريعة الإيقاع أم بطيئة؟ ومن ثم ما هو التعبير الذي يجب أن تراه على ملامح وجوهنا؛ ليقنعها بعدم الصراخ بصوت يصل إلى آخر الشارع الجانبي الذي يطلّ بيتها عليه. وأخيرًا، من المفترض علينا أن نجعل المئة والخمسين ليرة ظاهرة، في حين يتولّى داني سؤالها، فيما يبقى محمود خلفنا تحسباً، من ماذا؟ لم نكن نعرف، لكن لربما يكون من تفاصيل الخطّة (باء) التي لم نناقشها. في النهاية، استنتجنا أنّ علامات البله ستكون الخطّة الحاسمة التي يجب تقديمها لرغدة كملمحٍ لوجوهنا أو ما يمكن أن نطلق عليه: الجديّة البلهاء.

 صعدنا الطوابق الثلاثة، وأمام الباب وقفنا كمثلث متساوي الضلعين، قاعدته تستند إلى الباب. ثلاث دقات بطيئة على الجرس وبعد عدّة ثوانٍ نعيد الكرّة. اهتزّ الباب كأنّ ريح عاصفة مرّت من قربه، ومن ثم انفتح الباب على عمودٍ من لحم، وقبل أن تباغتنا بردّة فعلها، كان داني يسرد ما اتفقنا عليه كتلميذ عينه على العلامة التامة أمام أستاذه:                                                  سيدتي المحترمة، أرجو منكِ أن تستمعي إلينا، فنحن -والله- لا نريد إزعاجك، لكن للضرورة أحكام! وأنت الوحيدة القادرة على إجابتنا وإلّا صداقتنا مهددة بالزوال.

 كان وجهها الناعس قد استيقظ تماماً، وعلتْه غرابة المستيقظ من كابوس، في تلك اللحظة دفعتُ بالمئة والخمسين ليرة أمام بطنها وعينيها، بينما داني يتابع الكلام:

 وهذا ثمن الجواب الذي نريده منك!

 عند كلمة الجواب أمالتْ جسدها بعيداً عن فرجة  الباب لتدفعه بيسراها بقوةٍ. مددتُ قدمي التي هُرسَتْ بين الباب وإطاره لمنعه من الانغلاق، كاتماً آهات الألم المنبعثة من قدمي إلى فمي، في الوقت نفسه، بدأ داني توسلاته:

من أجل الله، أتوسل إليك، كرمى لله!

 اللغة الفصحى التي أثارتْ استغرابنا، عللّها داني بأنّ نطقه بها، يجعله أكثر قدرة على الإقناع! فجربتُها في محاولةٍ لصيد أنثى، فالتفتتْ إليّ وابتسامة عريضة تعلو وجهها، وعندما غمزتْ الصنارة، تأكدتُ من صحة تعليل داني، فهل اعتبرت لغتي الفصحى مجرد حماقة، لا يرتكبها إلا عاشق مولّه! أمّا داني؛ فساق ما حدث دليلاً على أنّ النساء يضحكن مما ندعوه التفكير المنطقي، لأنّه يتحوّل إلى لهاثٍ فيما بعد! فلا يمكن لكائن أن يكون منطقياً وله رأسان؛ واحد فوق كتفيه، وآخر بين رجليه، وكعادتي، عارضتُ نظريات داني قائلاً:

 منطقية الرجل تكمن في رأسيه، إذ تعاكس هذه النظرية وتؤكّدها ضحكات المرأة، فكيف لرأس واحد أن يملأ فمين بالكلمات؛ فم الوجه، وفم الحوض!

 فُتِح الباب من جديد، حررتُ قدمي محاولاً منع تأوهات الألم من الخروج من حلقي. سكنَ الألم تلقائيا، عندما تلفظتْ رغدة : أأنتم مجانين؟

 فردّ ناطقنا الإعلامي وباللغة العربية الفصحى:

 سيدتي، نحن في قمة العقل، وطالب العلم يذهب إلى الصين ليعرف الجواب! والجواب لديك، ونحن لسنا متطفّلين، ونعرف أن وقت عملك لم يحن بعد.

تبتسم: ما هو سؤالكم؟

فتابع داني: أرجو ألا يسبّب لك إحراجاً.

 تهمهم، بينما استجمع داني صوته لطرح السؤال عليها بلهجة علمية خالصة: سيدتي بحكم خبرتك أيهما أحسن، العضو المطهّر أم غير…؟

تنفجر ضاحكة وتكرر: أنتم مجانين!

فأجابها داني بكل وقار: عفواً سيدتي، أرجو الإجابة!                                                                                               دفعتُ بالمئة والخمسين ليرة إلى يدها، فازدادتْ ضحكاً: ما هذا الصباح! لكنْ-والله- تستحقون فنجان قهوة!

 ما حدث كان غريباً، والأغرب منه ألا ندخل! إنّها فرصة العمر، تهادتْ أمامنا بقميص نومها الذي يكشف عن فخذيها بالكامل، وإذا أسقطتَ قلماً على الأرض، وانحنيت لتلتقطه، سترى كيلوتها الأسود، قليلاً من الانحناء يكفي! همس محمود.

 جلسنا في غرفة الضيوف /الزبائن. كان بيتاً عادياً، فيه لوحات، إطارها أثمن منها، وطقم من الكراسي المخملية اللون. تسللتْ رائحة القهوة إلى أنوفنا، لم أكن مثاراً حقيقةً، فقد كنت مدهوشاً طوال الوقت الذي مضى وهي تعدّ القهوة.

 سألتهما فيما بعد، بماذا فكرا؟ فكانت أجابتهما مثلما حدث لي: فكرنا باللاشيء!

 كيف نفكر باللاشيء ونحن في بيت عاهرة، هل احتفظنا بعذرية الأفكار إلى ما بعد لنجترّها كفحول تحت أغطيتنا ونتأوه؟ يبدو الأمر كذلك. لقد حدث هذا لي شخصياً، فلستُ أدري لماذا لم نثرثر لبعضنا بما حلمنا! كنّا نفعلها قبلاً، نتشارك الأحلام الجنسية عن النساء، فيما بعد عرفتُ أنّ الفحل لا يريد شركاء حتى في أحلامه.

 دخلتْ كنادية لطفي، عقدتْ ساقاً على ساق، نظرتُ إلى فخذيها باطمئنان، كان وجهها جدياً، الوجه الجدي دليل على التفكير، لم أدرك وقتها أنّنا فتحنا جرحاً قديماً، خفّتْ نبرة صوتها، وتكلمتْ بلغة عربية بيضاء كلغة نشرات الأخبار. يبدو أنها متعلّمة!

 تبدأ الذكريات بــِ(كان ياما كان)… تكلمتْ عن أشياء تعود إلى زمن بعيد، لم نكن وقتها قد ولدنا، تكلمتْ عن فتاة، على ما يبدو أن ماضي المرأة: هو فتاة تحلم، ثم يأتي زمن المرأة لتدفع ديون أحلام الأنثى الصغيرة، أمّا الرجل، فماضيه ليس إلا رجولته، أمّا “ولدناته” فتنسى أمام أطول حقبة له، فثلاثة أرباع عمر الرجل صفتُهُ الرجولة.

 المرأة كثيرة الحقب؛ فمن طفلة، إلى فتاة، فصبية، فعزباء، فمتزوجة، فأم، فعاقر أو عانس، هذا الاستئناف يحكم عمر المرأة، لذلك كلامها ليس جديراً بالأخذ ككلام الرجل، صاحب الفاء الوحيدة في حياته.

 أخذَنا حديثها، ولم يعد يعنينا السيف المغمود، ولا نظيره المسلول، تناسينا الثمن، ويبدو أنّه لم يكن يعنيها أيضاً. هبطنا بهدوء من منزلها غير مكترثين أشاهدَنا أحدٌ أم لا!

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 07, 2021 02:36

القلفة – فصل من روايتي نوكيا المتواجدة في معرض الرياض 2021 جناح دار سين

……..

……….

– عضوكَ سيفٌ مغمود، أمّا أنا ومحمود، فسيفانا قد شهرناهما منذ الأسبوع الأوّل لولادتنا، لذلك يحقّ لنا الزّواج بأربع إناث، فهما قد تأهّبا للقراع منذ نعومة أظفارهما. هذا السّبق الوجوديّ يجب أن تقرّ به، أمّا مزايداتكَ والميزات التي خلعْتَها على زائدتك اللحمية من سهولة ممارسة العادة السرية دون بصاق أو صابون، وما تؤمّنه من متعة أكبر بسبب مساحة الجلد المكتنز بالنهايات العصبية، وأنّ الممارسة لديك باثنتين ممّا لدينا، فالواقع يكذِّبها ولا تنفعك! فلا يتساوى السيف المثلّم من كثرة الضراب والسيف الصدئ في غمده، حتى أنّك تستطيع معرفة شهرة أعضائنا من ولع النساء الغربيات، والعناء الذي يتكبدنه ليحظين بمضاجعة مَنْ يشتهر بجعل أربع نساء ينمن وهنّ منهكات الفروج! أضفْ على ذلك ما قرره الطب من منافع الختان.

       – بما تفسران ختان البنات الذي وجد أساسه في قطع شهوة الأنثى؟ وما رأيكما بما أكّده الطب، من أنّه يخفف من رغبة الأنثى الجنسية، ويجعلها نهبًا لأحلام لا تتحقّق، فتصبح مخلوقاً معقداً كالشارب من ماء البحر لا يرتوي، فيقضي عمره في ملاحقة السراب. أليست الحور العين نتيجةً لهذا الحرمان؟ أمّا هذه الجلدة، كالسرج للحصان، فتجعل ركوبه ممتعاً ولا تترككما بقرحات وجودية، أو في هلوسات آخرةٍ تقضونها في المضاجعة!

      – الذكر فزيولوجيته مختلفة عن الأنثى، ولا وجه للمقارنة!

******                         ******                       ******

 لم يكن من الممكن أن يختتم هذا الجدال إلّا بحكم خبيرة في أعضاء الرجال ومن غير رغدة! امرأة في الأربعين مرّ على فرجها آلاف مؤلّفة.

 لم نكن نملك إلا مئةً وخمسين ليرة، والسعر لديها كان بألفٍ لفنجان القهوة السريع، وإن يكن، فالموضوع سؤال وجواب! ومن المؤكد أنّها ستزهو بنفسها، فلا نعتقد أنّ أحداً من الرجال قد سألها هذا السؤال، ولربما ترى فيه وجه فائدة غفلتْ عنها، فترفع سعر فنجان القهوة لديها، أكان بهيل أم بدونه!

 طرطوس مدينة مكشوفة، إنّها قرية كبيرة، تشعر فيها بأنكَ معروف جدًّا، لذلك تسلّلنا إلى بيتها في العاشرة صباحاً، وما من أحد سيظنّ بنا، فهي لا تبدأ عملها -حسب ما سمعنا- إلا مساءً. رسمنا خط سيرنا إليها وفق خطّة مدروسة، فكان الأهم في هذه الخطّة الكيفية التي سنقرع بها الباب لإيقاظها، وكم عدد الطرقات، أيجب أن تكون سريعة الإيقاع أم بطيئة؟ ومن ثم ما هو التعبير الذي يجب أن تراه على ملامح وجوهنا؛ ليقنعها بعدم الصراخ بصوت يصل إلى آخر الشارع الجانبي الذي يطلّ بيتها عليه. وأخيرًا، من المفترض علينا أن نجعل المئة والخمسين ليرة ظاهرة، في حين يتولّى داني سؤالها، فيما يبقى محمود خلفنا تحسباً، من ماذا؟ لم نكن نعرف، لكن لربما يكون من تفاصيل الخطّة (باء). في النهاية، استنتجنا أنّ علامات البله ستكون الخطّة الحاسمة التي يجب تقديمها لرغدة كملمحٍ لوجوهنا أو ما يمكن أن نطلق عليه: الجديّة البلهاء.

 صعدنا الطوابق الثلاثة، وأمام الباب وقفنا كمثلث متساوي الضلعين، قاعدته تستند إلى الباب. ثلاث دقات بطيئة على الجرس وبعد عدّة ثوانٍ نعيد الكرّة. اهتزّ الباب كأنّ ريح عاصفة مرّت من قربه، ومن ثم انفتح الباب على عمودٍ من لحم، وقبل أن تباغتنا بردّة فعلها، كان داني يسرد ما اتفقنا عليه كتلميذ عينه على العلامة التامة أمام أستاذه:                                                  سيدتي المحترمة، أرجو منكِ أن تستمعي إلينا، فنحن -والله- لا نريد إزعاجك، لكن للضرورة أحكام! وأنت الوحيدة القادرة على إجابتنا وإلّا صداقتنا مهددة بالزوال.

 كان وجهها الناعس قد استيقظ تماماً، وعلتْه غرابة المستيقظ من كابوس، في تلك اللحظة دفعتُ بالمئة والخمسين ليرة أمام بطنها وعينيها، بينما داني يتابع الكلام:

 وهذا ثمن الجواب الذي نريده منك!

 عند كلمة الجواب أمالتْ جسدها بعيداً عن فرجة  الباب لتدفعه بيسراها بقوةٍ. مددتُ قدمي التي هُرسَتْ بين الباب وإطاره لمنعه من الانغلاق، كاتماً آهات الألم المنبعثة من قدمي إلى فمي، في الوقت نفسه، بدأ داني توسلاته:

من أجل الله، أتوسل إليك، كرمى لله!

 اللغة الفصحى التي أثارتْ استغرابنا، عللّها داني بأنّ نطقه بها، يجعله أكثر قدرة على الإقناع! فجربتُها في محاولةٍ لصيد أنثى، فالتفتتْ إليّ وابتسامة عريضة تعلو وجهها، وعندما غمزتْ الصنارة، تأكدتُ من صحة تعليل داني، فهل اعتبرت لغتي الفصحى مجرد حماقة، لا يرتكبها إلا عاشق مولّه! أمّا داني؛ فساق ما حدث دليلاً على أنّ النساء يضحكن مما ندعوه التفكير المنطقي، لأنّه يتحوّل إلى لهاثٍ فيما بعد! فلا يمكن لكائن أن يكون منطقياً وله رأسان؛ واحد فوق كتفيه، وآخر بين رجليه، وكعادتي، عارضتُ نظريات داني قائلاً:

 منطقية الرجل تكمن في رأسيه، إذ تعاكس هذه النظرية وتؤكّدها ضحكات المرأة، فكيف لرأس واحد أن يملأ فمين بالكلمات؛ فم الوجه، وفم الحوض!

 فُتِح الباب من جديد، حررتُ قدمي محاولاً منع تأوهات الألم من الخروج من حلقي. سكنَ الألم تلقائيا، عندما تلفظتْ رغدة : أأنتم مجانين؟

 فردّ ناطقنا الإعلامي وباللغة العربية الفصحى:

 سيدتي، نحن في قمة العقل، وطالب العلم يذهب إلى الصين ليعرف الجواب! والجواب لديك، ونحن لسنا متطفّلين، ونعرف أن وقت عملك لم يحن بعد.

تبتسم: ما هو سؤالكم؟                           

فتابع داني: أرجو ألا يسبّب لك إحراجاً.

 تهمهم، بينما استجمع داني صوته لطرح السؤال عليها بلهجة علمية خالصة: سيدتي بحكم خبرتك أيهما أحسن، العضو المطهّر أم غير…؟

تنفجر ضاحكة وتكرر: أنتم مجانين!

فأجابها داني بكل وقار: عفواً سيدتي، أرجو الإجابة!                                                    دفعتُ بالمئة والخمسين ليرة إلى يدها، فازدادتْ ضحكاً: ما هذا الصباح! لكنْ-والله- تستحقون فنجان قهوة!

 ما حدث كان غريباً، والأغرب منه ألا ندخل! إنّها فرصة العمر، تهادتْ أمامنا بقميص نومها الذي يكشف عن فخذيها بالكامل، وإذا أسقطتَ قلماً على الأرض، وانحنيت لتلتقطه، سترى كيلوتها الأسود، قليلاً من الانحناء يكفي! همس محمود.

 جلسنا في غرفة الضيوف /الزبائن. كان بيتاً عادياً، فيه لوحات، إطارها أثمن منها، وطقم من الكراسي المخملية اللون. تسللتْ رائحة القهوة إلى أنوفنا، لم أكن مثاراً حقيقةً، فقد كنت مدهوشاً طوال الوقت الذي مضى وهي تعدّ القهوة.

 سألتهما فيما بعد، بماذا فكرا؟ فكانت أجابتهما مثلما حدث لي: فكرنا باللاشيء!

 كيف نفكر باللاشيء ونحن في بيت عاهرة، هل احتفظنا بعذرية الأفكار إلى ما بعد لنجترّها كفحول تحت أغطيتنا ونتأوه؟ يبدو الأمر كذلك. لقد حدث هذا لي شخصياً، فلستُ أدري لماذا لم نثرثر لبعضنا بما حلمنا! كنّا نفعلها قبلاً، نتشارك الأحلام الجنسية عن النساء، فيما بعد عرفتُ أنّ الفحل لا يريد شركاء حتى في أحلامه.

 دخلتْ كنادية لطفي، عقدتْ ساقاً على ساق، نظرتُ إلى فخذيها باطمئنان، كان وجهها جدياً، الوجه الجدي دليل على التفكير، لم أدرك وقتها أنّنا فتحنا جرحاً قديماً، خفّتْ نبرة صوتها، وتكلمتْ بلغة عربية بيضاء كلغة نشرات الأخبار. يبدو أنها متعلّمة!

 تبدأ الذكريات بــِـــــــ (كان ياما كان)… تكلمتْ عن أشياء تعود إلى زمن بعيد، لم نكن وقتها قد ولدنا، تكلمتْ عن فتاة، على ما يبدو أن ماضي المرأة: هو فتاة تحلم، ثم يأتي زمن المرأة لتدفع ديون أحلام الأنثى الصغيرة، أمّا الرجل، فماضيه ليس إلا رجولته، أمّا “ولدناته” فتنسى أمام أطول حقبة له، فثلاثة أرباع عمر الرجل صفتُهُ الرجولة.

 المرأة كثيرة الحقب فمن طفلة، إلى فتاة، فصبية، فعزباء، فمتزوجة، فأم، فعاقر أو عانس، هذا الاستئناف يحكم عمر المرأة، لذلك كلامها ليس جديراً بالأخذ ككلام الرجل، صاحب الفاء الوحيدة في حياته.

 أخذَنا حديثها، ولم يعد يعنينا السيف المغمود، ولا نظيره المسلول، تناسينا الثمن، ويبدو أنّه لم يكن يعنيها أيضاً. هبطنا بهدوء من منزلها غير مكترثين أشاهدَنا أحدٌ أم لا!

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 07, 2021 02:36

October 5, 2021

اللــــوحــــة: قصة من مجموعتي القصصية (تمامًا قبلة) المتواجدة في معرض الرياض 2021 الصادرة عن دار سين الجناح N-18

                                

الفصل الأول: اللـون

“لا تتذكّريني إلّا في الأماكن التي أحبّ…! القبور أبوابٌ مصمتة… المتسولون للماضي، هم فقط الذين يجلسون على أبواب القبور؛ إلا أنّ الإنسان غايته أن يمشي قُدماً في تلك الطرقات اللانهائية، فقبل أن تجوب الكون، لا يحقّ لك أن تقف في حضرة الخالق، لتقصّ له حكايتك، فالله مستمع جيد”.

وضعتُ الزهور على قبره وكلماته تتساقط في داخلي: “الزهور خُلقت للريح أو لأصابع عاشق، فلا شيء يبرّر للطبيعة قطف الأزهار إلّا حرارة الخلق الكامنة في قلب العاشق”.

مارستُ دور الأرملة، وكأنّني بذلك أطيل وجوده في المكان والزمان، وأعرف أنّه سيقول: “مازلتِ تحبين أن تتلامس يدانا … وعلى الرغم من جمالها إلّا أنّها أكثر الأشياء خداعاً”.

لم أكن أرملته في الحقيقة، إذ لم نكن زوجين إلّا وفق منطق العيش معاً، فالقانون ليس للخاصة بل للعامة.

في البدء، لم يكن هناك من قوانين؛ خُلق الإنسان بكلمة، وكان يعبّر عن التزامه بكلمة، وبسبب فشله بامتلاك الحرية الكاملة فقد تميّزهُ؛ لذلك كان وجوده الجديد عبر سنّ القوانين التي جعلت منه عبداً.

كنتُ أشتهيه أكثر، عندما كان الإله المكنون فينا يتفجّر فيه، فيلقي كلماته كأمواج البحر على الرغم من اختلافها، إلا أنّها سيماء وجه واحد. يقف في وسط الغرفة، ينفث دخان سيجارته وكأنّها العماء الأول ويبدأ بعملية الخلق.

 قال لي مرّة: “يجب على كلّ إنسان أن يجرّب السجن الانفرادي؛ لأنّه كالقبر، وهذا المدفن الحيّ هو من يجبر الإنسان على الخروج من الأبعاد المكانية وارتياد حالات روحية تعيد له انتماءه الأول”. 

بكيته بصمت…

“الحزن أجمل الأشياء، وهو نادرٌ جداً!  فاستعمليه بعقل كبير”

بقيتُ معه ساعة كاملة، محتضنة رأسه بشدّة، كنتُ فارغة من كلّ شيء؛ إلّا من سكينةِ قمرٍ في وسط السماء.

“سأعطيكِ كلّ ما أملكه، عندما أموت”

 نمْ يا ولدي، فالصبح قريب… ثمّ اتصلتُ بالمدينة أُعلم أخاه بموته.                                                                 

أجمل الأشياء التي تحدث في حياتك! عندما تصبح عجوزاً، فتستطيع النظر إلى الخلف دون الخوف من أن تفقد الكثير من الأشياء التي أمامكَ، وهكذا تصبح الذكرى مستقبلاً جديداً يجب أن تعيشه بكلّ حبٍ، ولربما تعيد تقييم تجربة لم ُيتح لك الزمن تأمّلها جيداً، وهكذا تحصل على المعلومة كاملة، فالإنسان ابن الخطأ، ومع كثرة الأخطاء؛ من المفترض أن يقترب من الصواب الواجب في النهاية، فالاحتمالية هي القانون الدائم، والكون ما هو إلّا عيوننا.

                            ***********

كنتُ أخاف فرشاة الرسم، فأستخدم أيّ شيء آخر كي أرسم، فاللوحة التي أطلقت عليها اسم “رماد” لم تكن إلّا ثدييّ المضطجعين على القماشة البيضاء. كانت اللوحة على أثر اللقاء الخامس، فمنذ زمن طويل لم تؤطّرني عينا رجلٍ وكأنّهما يدان. اختصرتُ حينها السهرة في بيت أخيه، وصعدت إلى بيتي الموجود فوق منزلهم في الطابق الثالث، تستبيح رائحةُ رجل يباسي، كأنّها احتراق غابة. دخنت سجائري الأخيرة فيما المرسم المنتظر منذ شهور وقماشته البيضاء، ينتصبان أمامي.

أخذتُ شكل الكرسي، يدي ملقاة على بطني والأخرى تحتضن ثديي. أرغب بالاستحمام، فبدأت أخلع ثيابي، ولكنّني لم أغادر الكرسي بعد، متقصّدة لمس جسدي والكشف عن أعضائه السرية وكأنّ اليد يدٌ أخرى، دفعتها في أجمتي الصغيرة، باحثة عن أرنبي المنسي، لتبدأ مطاردة بعينين مغمضتين عن ملامح وجههِ، حركات يديه، امتصاصه لسيجارته، صوت أنفاسه التي اختلطت مع أنفاسي، ليبتل عضوي الجاف.

أفتح عينيّ، أغادر الكرسي باتجاه قماشة اللوحة، وأدعك صدري باللون الأزرق ومن ثمّ أحتضن اللوحة. فيما بعد قال لي: “لو أنّكِ لم تحتضنيني بقوة”.

 اللوحة معلّقة في غرفة النوم، لقد اختار المكان بنفسه.

لم يصبح الرسم هاجسي إلّا منذ أعلن وجوده في حياتي. كان لقاءً مدّته  فنجان قهوة، مع تعارف قصير، لم يكن ينظر إلى أحد بينما يتكلّم، ولكن إيقاعه في الحديث كالمطر الخفيف، يبلّلك دون أن تشعر، وهكذا كنّا نصغي إلى كلامه أنا وأخوه وزوجة أخيه بهدوءِ من يراقب ظلاً ينمو، فأخصّ نفسي بالتمعّن بوجهه ولا أظنّه وقتها قد انتبه لذلك، لكنّه قال لي فيما بعد: “لا تنظري إلى الأمور مباشرة، سوف يفوتكِ الكثير لأنّني أكثرُ من وجه وأبعد من مسافة قد تفترضينها”.

 أصبحت مع الوقت أستخدم الفرشاة بسهولة، فرسمت وجهه؛ لكنّه أصر على أن تباع تلك اللوحة لاحقاً، وقد وافقته، بعد أن طلب ذلك بالجدية نفسها التي أخبرني بها، بأنّه يحبني.                                                                                                ظلّت لوحة وجهه عندي، إلى أن أصبحنا نعيش معاً، وقتها قال لي: “لا أطيق هذه اللوحة، إنّها تشبه شخصاً قد سرق ملامح وجهي!”.

 لم يتّضح الأمر لي إلّا بعد وفاته، عندما رسمتُ له لوحة أخرى، قال عنها كلّ من رآها: هل هذا ابنكِ؟

 انتقلت للعيش معه في القرية، وبدأت بإقامة عدّة معارض مشتركة مع رسامين آخرين وأصبحتُ متفرّغة للرسم، وحقّقت شهرة لا بأس بها، جعلتني أقيم معرضاً فرديّاً، لكنّه بقي اللون الوحيد الذي لم أمتلكه على الرغم من الحيازة الصحيحة له، وبالمقابل هو لم يعمد لامتلاكي لأنّ أجمل ما فيّ هو ظلّي الذي تملكه الشمس وحدها: “عندما أمتلككِ سوف تهرمين، فالزهرة لم تعتدْ نفسها؛ لذلك لم تتغيّر وظّلت النحلة تأتيها، أمّا الإنسان، فكان خلقاً آخر، وعندما اعتاد نفسه ملكتْه، فأصبح ما هو عليه”.

                              ***********

براءة الطفولة؛ هذه الكذبة الكبيرة التي يتم تسويقها بكلّ خبثِ مَن يختبئ وراء حلمِ نظافةِ الراشدين. كنتُ سمينة في طفولتي، وأنفع كفراش كما قال الصِبية. تلك البداهة التي تتناساها النساء في غمرة الحبّ، أن الشكل هو العنصر الأهم لدى الرجال، وهكذا رفضَ حبّي له، وأعلن أنّه لا يستطيع أن يحب فتاة سمينة إلى هذا الحدّ! أيَّ حدّ؟!

 فهمت حينها إلى أي حدٍّ يستطيع أن يتمادى الإنسان في أحكامه من غير أن يعلَقَ به ما يلوثه، فكل ما يُغسل مقبول، المهم أن يبقى خفياً، فنحن نأكل علانية ونخرأ خفية.  

الجميع يعمل على تنظيف مرآته. إنّه التناسي لأجل مقاربة الصورة التي نقبل بتأطيرها لنا. 

                              ***********

 وجدتُ نفسي وحيدة مع تركة أبي من الكتب التي كنت أقرأها بعيداً عن نظر أمي، وعلى ما أظن كانت متواطئة معي في ذلك، وهكذا عملتُ على اختيار الكتب بشكل يخدم تطورات جسدي ونفسي، ومع الوقت بدأت أفهم الإشارات بصورة تثير فيّ الضحكَ في الوقت الذي يفترض الآخرون فيّ الغباء، ويرون في الفارق العمري حاجزاً لا يمكن تجاوزه، وهكذا لم أوفر الوقت في تجربة أبعاد الخطوط الحمراء، فكان الريجيم الخطوة الأولى التي عملتُ بها على نحت جسدي، ومع الوقت أصبحتُ أرى صورتي المتخيلة تأخذ مكانها في الواقع، وخاصة عندما أمارس عملاً ما، فقد كانت سمنتي السابقة تفرض عليَ شكلاً في التصرف، أمّا جسدي الجديد  فأدهشني بطريقة غير متوقعة.

لم أحرم جسدي الجديد المتفق مع صور المجلات والتلفاز، من التعبير عن جماله، فكنتُ أقف أمام المرآة أبدّل ثياباً بأخرى، أتعرّى، وأحاول أن أكتشفه بعدسة مكبّرة، كأنّني أردت أن أحفظه غيباً.

 كم عدد شاماتي؟ أعتقد أنّها خمسَ عشْرةَ شامة، ولكنّه أكدّ لي، أنّها ثمان وعشرون، وقتها قلتُ: يا لها من مصادفة تأتي على عدد الأحرف، أجاب بابتسامة من اكتشف شيئاً: “المهم أن أجيد تركيب لغة تحمل طموحات هذا الجسد، فلو كانت ستاً وعشرين شامة؛ لكنّا في بلد آخر!”

                           ************

من يحفر في الأماكن الرطبة سوف يجد الماء، وأنا وجدتُ الحبّ ولذّتي عبر رجال الروايات، الذين لم يبخلوا بحبهم وشهواتهم العارمة؛ فحين يبدأ الكاتب بالبوح ولا يجد صوتاً نسائياً يفرض نوعاً من الحشمة تخدم مصالح الذكور في زيادة تخصيص المرأة، فينطلق معبّراً عن شهواته، لذلك كنت أفعلها مع جميع رجال الروايات وحتى مع الكتّاب؛ إذ كنتُ المرأة السرّية لهم، وأسخر منهم، لعدم قدرتهم على اكتشاف خيانتي.

الخيال عالم نظيف، لكنّه الابن الحرام للواقع.

                           ***********

                                                                                                                                        كان لطيفاً كجدّ، إلّا أنّني كنتُ أكثر من حفيدة مفترضة، فهو صديق والدي. إنّه يعيش وحيداً في بيته بعد وفاة زوجته واستقلال أولاده، رافضاً الانتقال للسكن لدى أحد أولاده. إنّه من المدرسين الذين يرون في التدريس رسالة خالدة، احتجته في بعض دروس قواعد النحو، ومن خلالها تعرّفت على عالمه الهادئ المملوء بالألوان.

 إنّه يرسم، ومعه اكتشفت فكّ طلاسم اللون الممزوج. فتح لي غرفته السرّية ورأيتُ تجاربه الأولى كلون يتحسّس الظلام من حوله، لكنّه كان ضوءَ شمسٍ لسرعة تطوره، وكنتُ كغيوم الشتاء ما لبثتْ أن أمطرتْ؛ لماذا لا أكون نموذجه، فكلّ الرسامين يحتاجون إلى نموذج.

عرضت الأمرَ عليه كامرأة مجرّبة، أذهله العرض السخيّ ومن الغباء أن يرفضه، فقبل معي شرطَ أن يبقى الأمر سرّاً.

وجهي، كان اللقاء الأول، فجلستُ على الكرسي، مستذكرةً مَن خلدهم الرجال الذين أدمنوا اللون كمخدر، وبين ضربة للريشة وأخرى، أصبحتْ أنفاسه أقرب إلى وجهي.                                                                 

 يتعمّد أن يوازن بين توضّع رأسي في كلّ جلسة، وأنامله التي تتحسّس وجهي بانتباه من يمشي في حقل ألغام أصبحتْ أكثر خبرةً لتلامس لغم الشفة من غير أن تنفجر، فيحدث أحياناً إنذار خفيف، يحذّر من عضّة، فيعلّق وقد احمرّ لونه: “لم أعلم أن لديّ كلبٌ صغيرٌ هنا”، فأردّ بزمجرة خفيفة.

وجهي يتوسّط اللوحة كغيمة صيف وحيدة. قلتُ له: لم أرتكب جرماً أستحق عليه قطع الرأس، وعدت إلى مكاني، وكأميرة أمرته بمتابعة الرسم، لم أعطه الفرصة ليأخذ نفساً، فككتُ أزرار القميص، فنفر ثدياي ونفرتْ دهشته كبحرة في بيت شامي لم تمارس قذف الماء من زمن، أشرتُ له، أنْ ارسم، فتابع كمن يعترف بتقاليد المهنة، لكن كطبيب لم ينفعه قسَمه من أن يسترق الإحساسَ وهو يفحص مريضته الأولى.

تتابعت لقاءات الدرس والرسم، وأخذ يجلس بقربي بعد أن كان يجلس في مواجهتي، لم يترك سبباً يمرّ دون أن يستغله للاقتراب، كأنّ المكان يضيق رويداً رويداً، فلقاءات العشاق تعشق الزوايا. عملت على تفريغ صبره على العكس من لوحاته التي تكاثرت على الرغم من أن جوهرها كان واحداً.

في الدرسَ الأخير، شكرته بهدوء، لكنّه لازال صامتاً كحجر ينتظر الإزميل، وكاشتعال عود الثقاب أطبقتُ على شفتيه ، وتركته أبيضَ … كلوحة لم ترسم.

                                     ***                                                                                                                       لم أتوقّع هذا! كلّ ما افترضته؛ أنّه رجلٌ بأسلوب غامض- كان سجيناً مدّة عشرين سنة – إنّه السّلم الخبيث لتوافق الاتجاهات المتعارضة، فالوطن الحمار لا يحتمل إلّا راكباً واحداً ليسوسه.

استفسرتُ عنه كمريض يريد أن يقف على أبعاد مرضه ودوائه. كان لا يأتي من القرية إلّا عندما يجلبُ بعضاً من نتاج الأرض لأخيه أو لشراء بعض الحاجيات.

تشاركنا جميعاً في تذوق النبيذ الذي أحضره. إنّه كالغبار يستقرّ عليك، لكنّه غبار رطب يلصق بقوة، لم يتحدّث عن فترة سَجنه، بل تكلّم عن حال الغابة المتدهورة في أعلى الجبل بطريقة تفيض إحساساً، حتى لتخاله تحول إلى لون أخضر.

                                       ***

الأخضر لون أستاذي القديم، والأحمر للصيف وباجتماعهما تكون الثمار.

كان روايتي المفضلة التي تنتظر صفحاتها البيضاء أن أملأها بالحبر الذي أريد.

 عمّ أبحث معه؟ هل سقطتُ في فخي الذي نصبته أم إنّه الحبّ؟! تلك العشبة غريبة النمو، التي تكسر احتمالات الفصول، لم أحسم ما حدث إلى الآن! ولربما هذا أفضل، فبعض الطرق يجب أن تسلك دون آرمات[1].

                                    ***

بعد تلك القبلة، حدث نوع من التوجّس من كليْنا، فتلك الجرأة التي عرفناها سوية، اختفتْ ودهشتنا الطفولية احتلمت، أصبحت لقاءاتنا عملية، متركّزة على دروس في الرسم وحديث في الألوان، إلى أن طلب منّي عدم القدوم، قالها بلون أزرق بحري، ورمى بموجته الوحيدة على شاطئي: “لأنّني أحبكِ”

لم أسمع إلّا دقات قلبه، بعد أن لذْتُ بصدره باكية وهمست بالكلمة السحرية التي فتحت عالم الروايات لي، ولرجل من لحم ودم: إنّني أحبكَ.

عصرني كما اللون، فتمدّدتُ على مساحات اللمس، مغمضة عيني، متذوّقة الواقع. شفتاه كما المحيط يحدّ القارب المتمايل على نبض قلبه، أحاطتْ بشفتيّ المسترخيتين كما المرساة في عمق القبلة.                                               التصقتُ به كطابع بريد، فكان الرسالة المبعوثة إلى جسدي الأكاديمي، فقطرة المطر أكثر من هيدروجين وأوكسجين، نهداي اللذان أنهكا فرشاته، سقطا ساجدين لجيش نمل الأصابع أمام كومتين من القمح الطري، اجتاحني شعور الزاوية التي أريد أن أحشر فيها، لم يعد حساب مثلثي الصغير يساوي مئة وثمانين درجة، ولربما يمكن تقديره مرتبطاً بمجموع شهقاتي مضافاً إليها معدّل الضغط الدموي في الشرايين، في النهاية اعتذر كما هو متوقّع مع عينين دامعتين، همستُ بأذنه: قليل من الحرام يفيد.       

أرسم بكثرة وكأنّني أعوّض ما فاتني، أرسمه هو، لا أحد غيره، محاولة إخراج رجل من العتمة، فشعوري أنّه دائم الهرب منّي، دفعني لأنّ ألون مصائدي في كلّ الطرقات المتوقعة التي سوف يسلكها، لم يهتم بي حتّى وإن بصورة غير مباشرة، ولكنّني في استرجاعي المشهدي للقاء، كانت تتكاثر الطيور خلفه، وكأنّه يلقي فتات الخبز خلفه: أيّها الرجل الأحمق توقفْ، ههنا أنثى تبحث عنك. فأحيانا يخيّل لي، أنّه ليس أكثر من شخص في قصة منداحة في هدوئي في تلك المكتبة الآمنة. 

علمتُ مسبقاً بقدومه، فأعددتُ العشاء وساعدتني أخته بتواطؤ الإناث، لم يأكل كثيراً، على الرغم من انهماكي بإغرائه بتعدّد أصناف الطعام، وسخرتُ من نفسي فيما بعد، فقد قلن لي: “إنّ طريق المرأة إلى قلب الرجل معدته”.

أقلقتني مغادرته طاولة الطعام مبكراً، فشعرتُ وقتها أنّ الوصفات القديمة للجدات تنجح مع الرجل الذي يضاجع بعد أن يملأ معدته.

تبدّد شعور المرأة الرخيصة الذي رافقني، عندما دلف إلى غرفة المرسم المفتوحة الباب قصداً بعد أن استأذن وبقي هناك إلى أن أنهينا طعامنا، كنتُ قد أخفيتُ لوحة رسم وجهه المباشر وتركت غيرها من اللوحات، لحقنا به ولكنّه لم يمهل أحداً ليسأله عن رأيه، بل بادر هو: “أنت ترسمين لعمر مضى في أكثر لوحاتك، وكأنّك مراهقة تحب للمرة الأولى من خلف الشباك -صمت للحظة لم تسمح لأحد أن يتدخّل- ومن ثمّ تكلّم: “اضربي موعداً، وتلمسي اللون بأصابعكِ”.

                      ********************

تنقّلت كلمات الحبّ كالقطط المتشرّدة بيننا. الرجل العجوز الذي كان صامتاً كما بدا لي، بدأ يجيد الكلام، الكلام في كلّ شيء، لذلك كنّا نمارس الجنس متسرعين وكثيراً ما كان يكتفي بإعطائي جرعتي منه بواسطة فمه، بعد أن يخلع منه فكّه، ثم نثرثر عن الله والسياسة والموت والبوظة وأشياء أخرى.

 قال لي: “يجب أن تكوني عجوزاً!”

 رددت عليه: لماذا لا تكون أنت شاباً؟

فأجاب: “على أحد منّا أن يكون قريباً من الموت، هكذا ترى الأمور بطريقة أوضح”.

 كم أنتَ وحيد أيّها الموت! لا تدوم صداقاتك أكثر من عدة شهقات متتالية!

                               ********

 لو ينسى القدر بعض التفاصيل. لو يتأخّر، ولكنّه اعتاد الكمال، وإن حدث النسيان؛ لعاد وأكمل مهمته بتمام أكبر من السابق، فمنذ سنة وقف رجلٌ بباب البيت، وسأل عن أمي، … للحظات، لم أفهم لماذا تلك المعانقة التي أخرجتْ أمي من تحفظها!

إنّه شخص من الذكريات القديمة المتمسّكة بالحياة وليس مجرد صورة بالأبيض والأسود للذكرى. للحقيقة، إنّ هذا الشخص قد حملني طوال فترة دفن والدي وأخوتي.

 إلى الآن مازلت أؤمن أن الوطن من قتلهم، إذ فجّر اغتيالُ والدي الغضب العارم على كلّ الاختلافات السياسية التي قادتْ إلى مؤتمر حوار وطني، أعادوا فيه توزيع الثروات فيما بينهم إلى أجل مسمى.

 التضحية لازمة وتصبح ذات جدوى أكثر عندما تكون الأضحية في معزل عن أية تكلفة!

 أبي وهذا الصديق رفيقا نضال. وهذا يكفي! هذا ما قاله الضيف، ليغلق وراءه كل هذا الماضي.

أمي اكتفت بالتدريس، ولم تفعل كبعض النساء اللواتي انخرطْن في العمل السياسي إثر انخراط أزواجهن به، بل دوماً كانت تراه عملاً قذراً، مهما كانت نظافة ثياب من يمارسوه، لربما تكوّن لديها هذا الموقف من جراء اغتيال أبي.

 إنّني لا أملك ذاكرة من ذلك الزمن، لكنّني اكتشفتُ فيما بعد من حوارات ومتابعات والدي السياسية، أنّها كانت من النساء الناشطات في الحركة النسائية في ذلك الزمن. لقد أبعدتني عن تلك الأجواء قاصدة وعملتْ جاهدة على تقديم حياة جيدة لي؛ إذ عملت كمدرّسة خصوصية في البيت، وهذا ما أمّن دخلاً جيداً وسمح لي بالكثير من الحرية بعيداً عن عينيها وأنا أطالع كتب أبي وكانت سعيدة جداً وهي ترى موهبة الرسم تتوضّح من خطوطي.

لم أكن صديقة جيدة لأمي، ولم تكن هي كذلك! كنّا أمّاً وابنتها، الآن أتمنّى لو كان بيننا حديث الأم وابنتها عن تلك الأشياء النسائية الصغيرة، وهنا لابدّ من الاعتراف أن مكتبة أبي؛ هي الأمّ الفكرية لي.

 كم شعرت بالقدسية وأنا أعيد ترتيب المكتبة من جديد، أمسح الغبار عنها وبعناية كبيرة أعيد تنظيمها بالشكل ذاته الذي كانت عليه، وكنت بشكل دائم، أفتح الصفحة الأولى لبعض الكتب وأستذكر التواريخ التي أعدتُ فيها قراءتها إذ كنت أدّون تاريخ كل قراءة جديدة للكتاب.

توفيت أمي بعد طلاقي بسنة، رجعتُ إلى البيت لأجدها متوسّدة المكتب في غرفة المكتبة-غرفة أبي- ولم تنهِ فنجان قهوتها. ومازال رماد سيجارتها متماسكاً في المنفضة وتحت وجهها تموضع دفترٌ لأبي، كتب عليه بعض رؤاه السياسية.

عرفتُ الموت كثيراً في الروايات التي قرأتُها. الموت في الروايات لا يفاجئك بل يترك لكَ وقتاً لتتأمل تفاصيل الحزن، والاستمتاع به ولربما تذرف بعض الدموع حيث يقف الموت أمامكَ كحيوان يدافع عن فريسته، فتنتظر كي تتم أعراف الوجبة لتتلمظ فيما بعد حزناً يختصره الأسود، مددتُ يدي -صوتي يصيح عليها- جسستُ نبضها لم يكن هنا ولا هناك.

(نمْ يا ولدي؛ لم أكن أمّاً) لكن عندما وجدتُ أمي غافية فوق ذراع أبي أدركت حنيّة الموت عندما يأتي كطفلة ترفل بثوبها الجديد الذي ابتاعه والدها البارحة، لتضمها أمها وتسقيها دمعاً حلواً جداً كأحلام الأطفال.

                                   ******

يترك مدرّسي العجوز الباب مفتوحاً لأدخل عليه كشخص من البيت، فبعد أن كبر الأولاد لم يدخل أحد بيته بدون أن يقرع.

 هنا، حيث القبلة الأولى، حيث اختار أن يكون المرسم مركزَ كونه، وجدته مجعداً على الأرض والريشة لم يجف لونها بعد. بكيته بحرقة الزوجة ولبست الأسود عليه حتى الأربعين ولم أمارس عادتي السرية حتّى طهرتُ أربع مرات من العادة الشهرية.

أربع وفيات كانت أمي الخامسة، لا بدّ أنّني سأكون وحيدة عند موتي، قلتُ له: تركتني وحيدة تماماً كما كنتُ في مكتبة أبي، لكن دون كتبه، أأنت الكتاب الأخير؟ أسألكم أيها الموتى: هل ستخرجون من ماضيّ؛ لتحصوا الأنفاس الأخيرة لي بابتساماتكم المتوقدة بالبخور؟

                                        *****

كان أبي آخر رجال العائلة، فنحن عائلة صلاتها رحمية، فجدي الوحيد جاء على تسع بنات، ثلاث منهن سلمت حياتهن وتزوجن وأنجبن وتباعدت مساكنهنّ، بقي جدي في دار أبيه وتزوج ثلاث مرّات ولم ينجب غير أبي من زوجته الأولى. جدتي التي توفيت أثناء ولادته وتركته لترعاه الزوجة الثانية، بعد فترة وجيزة من وفاتها وقبل أن تتم الأربعين حيث كان صراخ الولد التغطية المناسبة ليدفع أبو جدي ولدَه لزواج مبكر، لكنّ الزوجة الثانية كانت عاقراً لربما ورثتُ ذلك عنها وبقيتْ في بيت جدي حتّى عندما تزوج الثالثة التي لم ترض أن تكون عاقراً، إذ طلقها جدي بعد ثلاث سنوات من زواجهما؛ لتتزوج رجلاً توفيت زوجته وعنده أولاد، فأنجبت منه صبياناً وبناتاً، وقتها عرف جدي أن العطب منه، لكن كيف ذلك؟ وقد أنجب أبي، أحياناً في شكّ بوليسي أتمنّى أن أحصل على شيء من رفات جدي، ولكن كما قال عندما قرأ في عين زوجته الثانية شكاً في لحظة انتقام على زواجه الثالث وبعد طلاق زوجته الثالثة: يرزق من يشاء، وصمت.

هذا الشّك مات في وقته وأبي كان باراً بأبيه وراعياً لزوجته الثانية كأمّه، لكنّه خرج عن تقاليد العائلة بشكل كامل حتى في زواجه، فقد تزوج مسيحية تعرّف إليها في الجامعة، لكن بعد أن أنجبت ذكرين عادت الأمور لمجاريها، وكان جدي قد سمى أخوتي الذكور باسم أبيه وجده أما اسمي، فكان لأمي التي سمّتني على اسم أخت لها متوفاة.

ماتت أمي بعد طلاقي من قريب لنا من جهة أخت الجدّ، الأكبر من جدي عمراً، والتي بقيت الصلات بيننا معقولة وخاصة بعد فعلة أبي التي أبعدت عنه القرابات الرحمية.

 لأكُنْ صريحة، لم يكن حباً بالمعنى الدقيق للحب، كان لوناً أحمر فقط. أربع سنوات مرّت ولم أنجب، وثبُت طبياً عقمي. وهرباً من ضغط أهله والزوجة الثانية التي رشحتها له أمّه، كان الطلاق الذي أعادني إلى بيت أمي، فكان الضربة القاضية بفقدانها الأمل، لربما يعيش الأهل في عيون أولادهم. إنّها المواجهة الأخيرة مع سر الموت بالهرب منه عبر التقمّص بالأبناء.

**********

لم يكن أحدٌ في وزارة التربية يمانع انتقالاً إلى المنطقة الساحلية، وخاصة بعد أن وجدت فتاة ترغب بالانتقال إلى العاصمة. وهكذا بعتُ كل شيء، حتى المكتبة، ولم أستعمل من الماضي إلّا رقم هاتف صديق أبي الذي أمّن لي بيتاً صغيراً فوق بيته في تلك المدينة الصغيرة مع إطلالة بحرية على شاطئ وكورنيش يتبعه أزرق استوطن لوحاتي. 

 2- الفصل اللاحق: الريــــــــــشة

أبٌ على وشك التقاعد، وأمٌ جلّ اهتمامها هو العناية ببيتها، وأطفالٌ يتدفقون كالماء في أيام العطل؛ هذه الحياة، حياتهم، كانت توحي لي بالأمان والراحة.

أصبحتُ تلك البنت التي أتتْ على كبر، فهم يدلّلونني ويحبونني بطريقة جعلتني أستعيد حياة الأسرة من جديد.

كان يختبئ جزء كبير من حياة أبي في صدر هذا الرجل، لقد سرده لي على وقع المطر  الشتوي في الخارج، وصخب الموج الذي يحتجّ على تهييج ذكرى الموتى، ولكننّي اعتبرت استكمال تلك الحياة التي طوتها أمي بعيداً عنّي ضرورة وجودية في اعتقادي، حيث لم تنفع مكتبة أبي إلا بإعطائي صورة تكاد تكون فكرية عن فيلسوف أو ما شابه، كنت أرى تلك الأسرار التي سردها لي، طريقة في معرفة أبوة جديدة أكثر قرباً وحميمية، حيث لم تعد تلك الغصّة المرّة التي ترافق جوابي عن حياة أبي علقماً كالحنظل، بل أصبحت بمرارة القهوة.

                                 *******

كثيراً ما جنحتْ أفكارنا بعيداً عن الشرفة التي كانت تجمعنا؛ مع أخيه وزوجة أخيه، وعندما  كنت أستأذن كي أصعد إلى بيتي؛ كنت أجرّ قدمي من التعب لشدة ما مشينا.

“أشعر أنّ لي القدرة على الطواف حول الكرة الأرضية مئات المرات. إنّه الحلّ الوحيد لأهدم هذه الزنزانة اللعينة، ولكنّني لم أفعل، فالزوجة والأولاد الذين رسمتهم بقلم الرصاص على جدرانها، يلزمونني بالبقاء. وعندما أخرجوني بحكم أشدَّ قسوة من الأول، طلقتها لتتزوج النزيل الثاني ليعتني بالأولاد. السجين الذي خلفني في الزنزانة، خرج بعدي بستة أشهر، وعندما سألته عن زوجتي وأولادي، قال لي: لقد صبغوا الزنازين بطلاء جديد، فهناك بعثة خارجية سوف تتأكّد من حسن التعامل الإنساني مع المساجين، وقتها ضحكتُ من كلّ قلبي، لأنّهم دخلوا في البياض وحزنت لبقائي في الألوان”.

عندما تم القبض عليه، يوزّع المناشير السرية، لم يكن ذلك بسبب تقصيره، فلقد تم خداعهم من قبل أحد الأشخاص في التنظيم الذي ينتمون إليه، وقتها دفع بنفسه أمام مطارديه من الشرطة السرية، وسمح لزميله بالهرب، الذي استطاع بعد عشرين سنة أن يكون وزير داخلية وفق التحاصصات التي -بصورة أو بأخرى-دفع أبي بعضاً من ثمنها بموته. تذكرّه بعد كل تلك المدّة، إذ إنّه، ومع تغيّر أهواء الحكومات المتعاقبة بطريقة تدعو للغرابة، لم يكن يتم إخراج المعتقلين السياسيين، وكأنه نوع من الفطنة التي تصيب من يجلس هناك في قمة الجبل، فمن يعارض سيظل يعارض.

 وهكذا أصبح البيان “رقم واحد” شيئاً طبيعياً يمرّ لوقته، وينتهي، حتى إن الموظفين الصغار لم يعد يعنيهم من يرأسهم، فالقصة قصة تاريخ يجب أن يصفّي نفسه من أحقاده.

 خرج من السجن وعاد إلى القرية. البيت كان مغلقاً. مات والداه وهو في السجن.

 بعد أسبوع من قدومه، وقفتْ أمام البيت سيارة سوداء تلمع تحت شمس الصيف، ترجّل منها رجل وحيد، وطرق عليه الباب، وغارا في الظلمة، لساعة مضتْ لم يعرف أحد من سكان القرية ما حدث، فهم لم يتعوّدوا على مرور مثل هذه السيارات الفخمة في طرقات القرية، لكنّ الرجل الغامض منحه وظيفة حارسٍ للغابة التي تتسلق الجبل خلف القرية.

                             ***********

كنت قد دخلت الثلاثين، أقضي معظم وقتي ما بين المدرسة التي أدرّس فيها ومرسمي، ومن ثم الشاطئ الذي بدأتُ أعرفه حجراً حجراً، مبتعدة عن ساعات الرجال، محتفظة بزمني لنفسي، أقضي مع العائلة الجديدة مقدمة السهرة ثم أنطوي في مرسمي. لم أهتم بتطوير صداقات، كنت مهتمة بالرسم فقط.

عدت إلى العاصمة بعد غياب سنتين، لأشارك في معرض مشترك مع مجموعة من الفنانين الذين عرفتهم سابقاً، لم أستحمل وجودي هناك لأكثر من يومين، رجعت بعدها بعد أن ائتمنت صديقة لي على اللوحات، وسمحتُ لها بالتصرف بالسعر في حال تم شراء إحدى اللوحات. أعيدت جميع اللوحات، حيث لم تُبع واحدة منها.

                               ***********

الشعور الذي راودني تجاهه، يشبه رائحة مكتبة أبي عندما كنت أدخلها وفي نيّتي اختيار كتاب جديد بعد أن أكون قد انتهيتُ من قراءة آخر. إنّه إحساس جميل وممتع، على الرغم من الخوف الذي راودني مراراً بأنّ سرّي قد يفتضح، أمّا هو، فلم يغّير من مواعيد قدومه من القرية كلّ ثلاثة أسابيع، يأتي قبيل العصر ويغادر في الفجر.

أصبحت أستيقظ مبكّراً، أعدّ فنجان القهوة مترقّبة مغادرته، أضع الفنجان على حرف شباك غرفة النوم، في حين كان هو يهبط الدرج، يتوقّف قليلاً قبل الانعطافة التي ستخفيه عن ناظري، فأظنّ أنّه سينظر إلى الوراء ومن ثم إلى أعلى، لكنّه يدلف في المنحنى ويختفي.

عندما علّق على لوحاتي، قائلاً: “إنّي أرسم لوقت مضى”، كان قد مضى على معرفتي به، أحد عشر شهراً.

تكاثرتْ مواعيد قدومه كفتات خبزي الذي أرميه إلى عصافير الشارع، نقضي جلّ الوقت في المرسم، نستمع للموسيقى، ونتكلّم عن كتب تشاركنا مطالعتها في زمنين مختلفين، فنتبادل الآراء عن انطباعات مرّت في الذاكرة، تمنيته أن يكون أحد مؤلفي هذه الكتب؛ لأخون الآخرين معه، فقال لي فيما بعد: “كنت جباناً، كم رغبت أن أقبلك لحظتها وأهمس، فأنا لم أهمس منذ زمن، ولكن السجن يجعلكِ تعتقدين أن الصمت أفضل وسيلة للتعبير ولا تنتبهين إلى مرور الوقت فيه. عشرون سنة مضت، أشعر بها كحياة أخرى، فلم أنظر إلى ساعتي فيها”.

حاولت مقاربة السياسة بأحاديث عابرة ولكنّه دوما كان يقاطعني:”السياسة ليست وسيلة ناجحة للقيام بشيء، إنها فقط للتغيير، وهذا التغيير كقفزة في المجهول لا تعرفين أين ستسقط قدماكِ؛ أرجوكِ لا تعيدي فتح هذا الموضوع”، ثم يشرع بالتكلّم عن حال الغابة المتدهورة فوق القرية، فأردّ: ولكنّها السياسة من جديد!

 يهمهم: “مازلنا نتكلّم عن الخطيئة الأولى، وكأنّها حدثتْ البارحة، ما الذي ينفع في ذلك، لاشيء! الخطيئة سبب وجود، أمّا الذي يهمني الآن، هو: كيف أعيش هذا الوجود بعيداً عن ظلالها. إنّها كالسلاسل الحديدية تمنع السجين من الهرب. لقد نقعت قدمي في الماء طويلاً حتى أكل سلاسلها الصدأ، فاهترأت، أنا هارب إلى حياتي، ألا يكفي هذا لأغلق هذا الماضي.

 الذنب الوحيد الذي أشعر أني اقترفته كان تجاه الطبيعة. إنّها مسالمة إلى حدٍّ مثير للشفقة والحزن، وجديرة بأن تنذر الحياة لأجلها، سأعمل وحدي هناك على سفح الجبل، سأعيد للغابة عمقها وأسرارها وسحرها، لعله في يوم ما يخرج بشري أكثر إنسانية بلا خطيئة تتبعه كظله، فالغابة يكفيها أن أمشي في طرقاتها كحيوان يحترم قوانين الفصول، وهي سوف تعطيني مستقبلاً أخضر، ولكن إن أهملتها سأنتهي بموتها. نحن وحيدان”.

وحيدان؟!  علّقت ممتعضة كأنّ أنبوبة للون فاجأني انتهاؤها.

                                   *******

لربما، أصبح تعلقنا ببعض واضحاً للجميع، ما عدانا، كنّا نرى الأمر على أنه نوع من الإجبار، لم يعد يتفق وحياة الحرية التي نعيشها.

كلّمني بموضوع الانتقال للسكن معه دون زواج، لأنّ الزواج يراد به المستقبل: “أمّا أنا فأريدكِ للحاضر، لا أريد أوراقاً من صناعة مدنية الإنسان لتجمعنا … هذا فيما يتعلّق بي، أمّا إن كنتِ تحتاجين لضمانة مالية سأكتب لك الأرض … الشيء الوحيد الذي أملكه، ليس الحبُّ ما يجمعني بكِ؛ إنما الألفة … اختبرتُ الحب قبل السجن واكتشفتُ أنه يمت للسياسة بصلة، بل إنها مثله عمياء.”

أقنعني كلامه، فمتى كانت الدساتير تحمي الشعوب التي تتبناها، فالدساتير كانت دائماَ مطيّة للسلطة التنفيذية.

الكلمة الوحيدة التي قلتها حينها: ولكن…!

قال لي بعدها، دون أن يمهلني لأتم جملتي: “أمام الناس لكِ أن تكذبي كما تشائين، فهم دوماً سيسألون ثم يعتادون، فالسؤال سهل، لكن البحث عن الإجابة يحتاج مجهوداً وزمناً ونادراً ما يشغلهم ذلك، مادام لا يمسهم مباشرة”.

 اعترفت له، أنّ سبب انتقالي إلى بيته، لم يكن بحكم العقل، ولكنّ الحب يبرّر.

 حينها عرض عليّ أن نسجل زواجنا، ضحكتُ من قلبي وقبّلته كما لم أقبّله من قبل، متذكرة كل قُبل الهواء.

في اليوم الثالث لقدومي للسكن معه، ذهبنا إلى الغابة، تسلّقنا الهضبة المنحدرة إلى أنْ وصلنا أمام كهف ذي مدخل صغير، دلف قبْلي وتبعته بخوف، التفتَ وبابتسامة شدّ على يدي قليلاً، بعدها انفرج الضيق الذي دخلناه عن قاعة من الحجر المكتسي بالصواعد والنوازل مع فتحة سماوية تضيء المكان، وبحيرة صغيرة في مواجهة المدخل، لم أتمالك نفسي من الروعة وقلت: إنّه بيتنا، فضحك وضمّني وتكلّم: “إنّها مياه صالحة للشرب، أخذت بعضاً منها إلى مديرية المياه وكانت النتيجة إيجابية”.

كنّا نكتفي بالنوم قريبين من بعضنا في بداية سكني معه، إلى أن قالها: “أحتاج لبعض الوقت، فالمرأة الوحيدة التي عرفتها كانت زوجتي في السجن، امرأة من رسم”.

ضممته وقلت له: عندما يحين موعد قلم الرصاص، فمبراتي جاهزة.

“أتسبحين؟”

خلع ثيابه بسرعة ودخل الماء، ظهره كلوح مسماري نتيجة التعذيب في السجن، لم ينظر إليّ، بل حدّق إلى الفوهة، التي تطل منها السماء وتُرى منها الشمس لمدة ساعة تقريباً في النهار، من الواحدة والربع إلى الثانية والربع، أمّا في الشتاء فلا تلحظ أبداً.

 تبعته، غمرته بيدي، أطلق نفساً يعود إلى عشرين عاماً قد مضوا.

 همستُ له: أريد أن أتقنّ اللغة المسمارية، ثم بدأت أقطّب حروف تلك اللغة على ظهره، أبلّها بريقي ثم ألثمها ويدي تعبث بشعيرات صدره البيضاء وتلمس بخفّة حلمة منتصبة من البرودة، لربما لشدّة الإثارة التي لم أتيقنها إلا عندما أدار وجهه وغطّ على شفتي كالطيور المهاجرة.

ينغرز وتدٌ في مثلثي، لينصب خيمته، أشعلت النار، طحنت البن، وضعته على نار هادئة كبدوية تضع الكحل.

تساقط جميع الأبطال الذين عرفتهم وكتّابهم، ما عدا مدرّسي القديم الذي ابتسم وأعاد تزرير قميصي، فتوقفت النافورة عن قذف الماء.

سحبني إلى ذراعه، ومن ثم نحو حافة البحيرة الصغيرة، ووضع بطانية تحت ظهري، واستلقينا تحت الشمس حتى غادرت الفتحة صامتين كصواعدها ونوازلها، تحرّك من قربي أخذ القهوة من الترمس وصبّ فنجانين من القهوة، أشعل لي سيجارة وله أيضاً، همس لكيلا يسمعنا الربّ: “لن يطردنا أحد من جنتنا!”.

2007

[1]– لوحة إعلانية

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 05, 2021 14:29

مقطع من رواية نوكيا المتواجدة في معرض الرياض 2021

اللغة الفصحى التي أثارتْ استغرابنا، عللّها داني بأنّ نطقه بها، يجعله أكثر قدرة على الإقناع! فجربتُها في محاولةٍ لصيد أنثى، فالتفتتْ إليّ وابتسامة عريضة تعلو وجهها، وعندما غمزتْ الصنارة، تأكدتُ من صحة تعليل داني، فهل اعتبرت لغتي الفصحى مجرد حماقة، لا يرتكبها إلا عاشق مولّه! أمّا داني؛ فساق ما حدث دليلاً على أنّ النساء يضحكن مما ندعوه التفكير المنطقي، لأنّه يتحول إلى لهاثٍ فيما بعد! فلا يمكن لكائن أن يكون منطقياً وله رأسان؛ واحد فوق كتفيه، وآخر بين رجليه، وكعادتي، عارضتُ نظريات داني قائلاً:

 منطقية الرجل تكمن في رأسيه، إذ تعاكس هذه النظرية وتؤكّدها ضحكات المرأة، فكيف لرأس واحد أن يملأ فمين بالكلمات؛ فم الوجه، وفم الحوض!

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 05, 2021 08:54

October 2, 2021

لمن يحب مجموعتي القصصية ؛تمامًا قبلة، وروايتي؛ نوكيا الصادرتان عن دار سين للنشر والتوزيع في معرض الرياض للكتاب- الجناح N-18

لمن يحب في معرض الرياض للكتاب تجدون ديواني: الببغاء مهرج الغابة ومخلب الفراشة الصادرين عن دار دلمون الجديدة مشاركة دار دلمون الجديدة في معرض الرياض الدولي للكتاب/جناح N 38 مع دار كنعان#معرض_الرياض_الدولي_للكتاب2021_داركنعان

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 02, 2021 08:30

September 30, 2021

مقطع من روايتي: جريمة في مسرح القباني:

الشمس تغيب الآن، أضع يدي على خصرك، وندخل مخدعنا تحت الحائط المائل، تقولين: احكِ لي حكاية!؟ فأجيبك سأسمعك شعراً، فتردين، ماهو الشعر؟!إنّه حكاية الحنين! آه، تعالي إلى صدري يا صغيرتي، أمّا عنوان القصيدة فهو: (عظامي قصب النايات في الهاوية…ألتقط أنفاسي، حبات شعيرِ، أرفعها قرباناً للآلهة الصّائمة في السّماء، أخمد كجاذبية صمّاء، أشاهد دمع الهواء، أرى الأرض تلطم بالصّخر جبين الماء، أهوي كشيطان محروق الجناح ولا أتنزّل. في الأرض السّابعة أشرب أنخاب الحمض، أُذيب الذّاكرة البلهاء، أفطر على خبز من خيانة. الآلهة هناك تتلمّظ أضلع صدري، ترمي قلبي كنيزك، يشعّ كقطرة منّيِ على حافة نصل الحياة. -عندما تدفُن موتاكَ، نظّف أسنانهم جيداً، لأنّهم يبتسمون ابتسامة أبدية، بعد أنْ يكشط الفناء حزن جلدِهم-دعني من النصائح أيّها الصّوت العلوي، أنا مشغول في خلق نول الموت، يلزمني عظمتي السّاعد والسّاق، بحثتُ عنهما طيلة نهارين سقطا من حساب أيام الخلق في أوّل الزّمان، إذ كان الإله يثني على عمله بأنّه حسنٌ. هؤلاء الأولاد الذين تربوا على مسحوق البارود، لا يجزعون، تراهم في مكبّ الموت قبل الديدان -اللعنة عليهم- يملؤون أكياس عيونهم، بالعظام ،اللحم المحروق، الأشلاء، حتى ينهار بغل النّظر من ثقلها. كلّ ما أريده عظمتي ساعدٍ وساق؛ ليصبح نول فرانكشتاين جاهزاً، لأحيك كفناً لجثة الموت العارية هناك، التي أنكرها الذباب الأزرق. في حوض المكبّ يكثر شجر العورات، يزدهر على صديد صافٍ كالألم الفرات، أربي على ورق نعواته، دود الحرير-نعم- لا تعجب أيّها الصّوت العلوي، فالحرير قيامة الخادرات، نعومة القتل لحيوات نائمة تحلم بالطيران، فالهواء كالعذراء لم يفضّه جناح منذ زمن – في البدء كان الكلمة – والحرير أبهى كفناً، أدفُن فيه هذا الموت الملقى هنا أو هناك.أيّها الشقاء. أيّها الولد، الذي تظهر خصيتاه كقنبلتين، هل لكَ أن تعطيني عظمتي ساقٍ وساعد، مقابل برميل من الحنينْ؟وما الحنين أيّها النسيان؟الحنين إلى البلد، جثّة ضخمة، تلّة خردوات.يحدّق الولد في ساعدي وساقي المعلقين بقطب زرقاء على حدٍّ لم تدرأه الشبهات. يُنزلَ كيس عينيه من الأفق الدّبق، يأخذ ساقي / ساعدي، يمزّق عنهما ورق اللحم القذر من الحبر، حتى يستوى العظم أبيض كالإله، يكمل بهما آلة الحياكة ويبدأ الحرير، يُبصق منها كجرائد المساءْ. قعد الولد قربي: أيّها الحيّ. هل صوتكَ يعرف الغناء؟ وأخرج من جرحٍ في بطّة ساقه التي فاتتها هجرة الطيور، عظمة الظنبوب – بدت كناي- نظّف ثقوبه المغلقة بالدّم المتخثر، بمسمار أمان القنبلة، وراح ينفخ في الصّوْر لحناً عذْباً، عذاباً.طرقتُ أغني فيما الأولاد، ينزلون أكياس عيونهم، كالدّم/ع: عظامي كقصب النايات أيّها الحنين/ عظامي كقصب النايات).هدأت أنفاسكِ، أسندتُ رأسك ذي الجدائل السوداء على زندي. حدقتُ ملياً في الظلمة حتى استوت الشمس على عرش الفجر.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 30, 2021 02:11

September 28, 2021

رثاء المدن عمارة في الأمل – مقالي في ضفة ثالثة

إنّ هشاشة الوجود الزمكاني الإنساني، دعت الكائن البشري إلى افتراض زمان ذهبي، كان خالدًا فيه ومنيعًا ضد الحدثان. نجد هذه الثيمة في دلمون السومريين، والعصر الذهبي في ثيوغونيا الآلهة(1) عند هزيود في اليونان، وأوفيد  في كتابه؛ مسخ الكائنات، عند الرومان. ولم تخرج الديانات التوحيدية عن تصوّر جنّة كان الكائن البشري يتنعّم فيها بالخلود. إنّ المقارنة بين المثال الأفلاطوني والمحاكاة، يبيّن هشاشة المحاكاة وانعدام دواميتها، فيما يتمتّع المثال بالحصانة تجاه نهر هيراقليتس وسرير بروكست(2) المكاني، وما يعتورهما من نقصٍ.

كان الموت هو المعضلة الأكثر إشكالية التي واجهت الإنسان منذ وعى كينونته، والتي دفعته كي يترك أثرًا بعد عين. وإنّ التدقيق بالمخيال الفردوسي للبشرية يلاحظ خلوّها من العمل والعمران، على عكس تواجده الأرضي الذي امتلأ بتشييد الآثار. يذكر ريجيس دوبريه(3) أنّ الأصول الإيتمولوجية لكلمة “Signe/ علامة” والمشتقّة من كلمة Séna” ” والتي تعني شاهدة قبر، أو يشيد قبرًا وفق هوميروس. يقودنا هذا التحليل الاشتقاقي لكلمة “علامة” إلى جوهر فكرة الرثاء التي تشتغل ضدّ المحو الوجودي الذي يمارسه الموت على الكائن البشري، عن طريق إقامة نصب تذكاري، أكان ذلك عبر شاهدة القبر أو بالرثاء: الفن، الأدب، النحت…          يشرح دوبريه كيف أنّ الفن انبثق من القبر، فأول جامع تحف فنية كان القبر. وأول لوحة فنيّة كانت الكفن، وما ذلك إلّا لإحياء الذِكر.

إنّ الوقوف على الأطلال الافتتاحية الخالدة للشعر الجاهلي، والتي سخر منها أبو النواس ابن المدينة: “قل لِمَن يَبكي عَلى رَسمٍ دَرَس/ واقِفاً ما ضَرَّ لَو كانَ جَلَس”؛ تعبّر بوضوح عن المأزق الوجودي الذي كان يقضّ مضجع الشاعر الجاهلي المهدّد دومًا بالرحيل، فهو لا يقرّ على حالٍ كحصان المتنبي. أمّا أبو النواس ابن المدينة المطمئن لاستقراره، فلم يكن يعنيه الرسم الدارس بشيء، فقلقه الوجودي يتمظهر بأشياء آخرى ألطف من النؤى والصمّ الخوالد.

تقدّم لنا التوراة في مخيالها عن بابل، ليس كأول مدينة اجتمع البشر على بنائها، بل كملّخص فحوى الوجود البشري القائم على الزوال والفناء. لم تكتف التوراة بإبراز هذه الثيمة، بل تعدّت بها إلى البلبلة اللسانية التي أصابت البشر، جرّاء توحدهم وهاجسهم الملحّ بإقامة الأثر. تعدّ مراثي النبي أرميا التي كتبت بعد السبي من أشهر ما كتب عن دمار المدن، إلّا أنّ هذه الثيمة على ما يبدو مستعارة من حضارة ما بين النهرين. اشتهرت بلاد ما بين النهرين بأدب الرثاء، ومن رثاء المدن إلى جانب رثاء وبكاء ديموزي (4)؛ حيث ينقل الغانمي عن كريمر قصائد عديدة عن رثاء المدن؛ رثاء أور – رثاء بلاد سومر وأكاد، والقصيدة البابلية المشهورة؛ لعنة أكادة. تعرض هذه القصائد دمار المدن وإحراقها ونهبها وزوال أثرها وتحولها إلى أطلال وأوابد.

ينبّه الغانمي إلى أنّ كريمر أشار إلى أنّ رثاء المدن لم يصدر عن الحقبة ذاتها التي تم فيها التدمير، بل عن حقبة تالية تستعيد لحظة الدمار من أجل إعادة البناء. هكذا نستخلص لبّ جوهر رثاء المدن، فهو وإن كان يأسف على مآل الحال إلّا أنّه يتطلع قدمًا نحوالمستقبل. وهذه ما نجده في المقدمة الطللية للقصيدة العربية التي تبتدأ بمشهدية مأساوية للارتحال والبين، ومن ثم تنفتح على الحياة بعد ذلك.

احتفت الشعرية العربية بالرثاء كغرض شعري، تعدّدت غاياته؛ من رثاء الذات مع مالك بن الريب. إلى رثاء الأخ مع الخنساء. ورثاء الديار مع الملك الضلّيل، وصولًا إلى رثاء المدن لتُؤخذ العبرة ويُستكمل الاعتبار.

يرى سعيد الغانمي في اعتذاريات زيد بن عدي العبادي رثاء للمدن والثقافات ويعارض ما ذهب إليه أبو الفرج الأصفهاني بأن العبادي وجّه هذه القصائد الاعتذارية من سجنه إلى النعمان، لأنّ المخاطب بها كان ابنه عمرو. ولنا أن نرى في ما ذهب إليه الأصفهاني والغانمي، بأنّه ليس من تعارض بينهما، بل تكامل، فالعبادي يريد من النعمان أن يعتبر، وأن لا يرى ملكه محصنًا تجاه الحدثان والدهر، وفي الوقت ذاته يوجه رسالة إلى ابنه كي لا تغرّه الدنيا. وأخيرًا إلى الشامت من المصير الذي انتهى إليه الشاعر، فيضرب لهم أمثالًا بما حلّ بمملكة الحضر التي غزاها سابور، وصنعاء التي دمرها مرازبة فارس. مع عدي ابتدأ عهد رثاء المدن، ولعلّ أبرز ما جاء فيه كان عن الأندلس، لكن بغداد ودمشق اللتين سقطتا بيد المغول كان لهما نصيب من ذلك الرثاء. وقبل ذلك، كانت الواقعة بين الأمين والمأمون في بغداد. وكنّا نعتقد أنّ القدس عروس عروبتنا، كما قال النوّاب آخر رثاءتنا، لكن هيهات، فهناك عواصم عربية، ومدن، وحارات، وبيوت يتنازعها الأثر والعين.

“لكلّ شيء إذا ماتمّ نقصانُ”:

هكذا افتتح أبو البقاء الرنْدي قصيدته التي رثى بها الأندلس كاملة تعبيرًا عن الزوال الكلي للحضارة الإسلامية في إسبانيا. وهو إذ يتصبّر على مآلات الأمور، إلّا أنّه يريد من القصيدة شاهدة قبر/ علامة/ ذاكرة أدبية، وأبدية، وكأنّ لسانه لسان أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته عن استشهاد عمر المختار: “رَكَزوا رُفاتَكَ في الرِمالِ لِواءَ/ يَستَنهِضُ الوادي صَباحَ مَساءَ”. يقول أبو البقاء:                                                دهى الجزيرةَ أمرٌ لاعزاء له /هوى له أحدٌ وانهد ثهلانُ.                                                                               فاسألْ بلنْسية, ما شأن مُرْسية/ وأين شاطِبَة , أم أين جيّانُ.                                                                                 وأين قرْطبة دار العلوم فكم/ من عالم قد سما فيها له شانُ.                                                                                قواعدٌ كنّ أركان البلاد فما /عسى البقاء اذا لم تبق أركانُ.                                            يعدّد الرندي المدن العظيمة في الأندلس، لكنّه يمهد لهذا التعداد بذكر الممالك والدول السابقة التي زالت عبر نفس ظاهرها مستسلم إلى واقع الحال، أمّا باطنها، فيدعو إلى استرجاع الأندلس: “هَلْ لِلجَهادِ بها مِن طَالب فَلَقَدْ / تَزَخْرَفَتْ جَنَّةُ الْمأْوَى” وبذلك يعيد الثيمة التي رأها الغانمي في ملاحظة كريمر عن أدب رثاء المدن الذي يستعيد حقبة الدمار من أجل الشروع بالعمار.

الديستوبيا رثاء آخر:

يعتبر أدب الخيال العلمي الذي ابتدأ مع هـ. ج. ويلز، مرورًا بإسحاق عظيموف مع مبادئه الأخلاقية الثلاثة التي تخضع لها الروبوتات؛ قراءة طللية لمستقبل الإنسانية إن لم تعتبِر من ماضيها، لذلك نجد أكثر الخيال العلمي؛ هو ديستوبيا. يتوقّف جوناثان غوتشل في كتابه؛ الحيوان الحكّاء عند رواية الطريق، لكورماك مكارثي التي تقصّ حكاية رجل وابنه في عالم ميت تدمّر نتيجة الحروب وجشع الإنسان. في المقطع الأخير الذي يصف فيه كورماك- من خلال الذاكرة/ الرثاء- سمك تروات النهري الذي يعني سمك قوس قزح، يعيد لنا كورماك فكرة الرثاء في بلاد ما بين النهرين. إنّ اختيار كورماك لسمك قوس قزح، إحالة ضمنية لمخيال طوفان نوح الذي أباد البشرية، لكن رؤية قوس قزح من قبل النبي نوح كان علامة على وعد جديد من الإله، بأنّ لا فناء للبشرية بعد الآن. يتساءل غوتشل ولا يستطيع أن يحسم إن كان ذكر سمك قوس قزح، هو تأبين أخير، أم أمل جديد! لا غرابة في حالة غوتشل! ونحن مثله نسأل: هل سيبقى للرثاء من آخر يسمعه ويعتبِر به، والكرة الأرضية لم تخرج من عنق زجاجة الكورونا والحروب والتداعي المناخي؟

المصادر:          

أصول وأنساب الآلهة – قصيدة كتبها هزيود عام 700 قبل الميلاد.بروكست شخصية من المثيولوجيا اليونانية، حيث كان قاطع طريق وحدادًا، يهاجم الناس ويقوم بمطّ اجسادهم أو قطع أرجلهم لتتناسب أطوالهم مع سريره الحديدي.حياة وموت الصورة –ريجيس دوبريه، ترجمة فريد الزاهي – أفريقيا الشرق.ينابيع اللغة العربية، سعيد الغانمي، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث – 2009.

باسم سليمان خاص ضفة ثالثةhttps://diffah.alaraby.co.uk/diffah/opinions/2021/9/28/%D8%B1%D8%AB%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%D9%D8%AF%D9-%D8%B9%D9%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D9%D9%8A-%D8%A7%D9%D8%A3%D9%D9

[image error]
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 28, 2021 07:58

September 26, 2021

القلم أحد اللسانين – مقالي في مجلة تراث الإماراتية العدد 264 أكتوبر 2021

لم تغب الكتابة، ولا أدواتها عن العصر الجاهلي، بل تناثر ذكرها في قصائد الشعر، حيث لُحظ  القلم، والدواة، والحبر، والقرطاس. ولقد جاء ذكر القلم مرتبطًا بالأطلال، وكأنّ الكتابة هي الأخرى طللٌ لمَا يبقى من أثر بعد غياب الأهل والأحبة عن النظر والسمع. يقول المرقش الأكبر: الدَّارُ قَفْرٌ والرُّسُومُ كَما/ رَقَّشَ في ظَهْرِ الأَدِيمِ قَلَمْ.                                                

           كانت الأطلال فاتحة القول في القصيد الجاهلي، وكان ورود ذكر القلم فيها استعارة تغني الشعر وتُوضّح حال الشاعر الذي وقف وبكى، وكاد أن يكتب. أنشد عديّ بن زيد: مـا تَـبينُ العَينُ مِن آياتِها/ غَـيـرَ نُـؤيٍ مِـثـلِ خَـطٍّ بِالقَلَم.

جاء في صبح الأعشى بأنّه قد قيل لإعرابي، ما القلم؟ ففكر ساعة، وقلب يده، ثم قال: لا أدري، فقيل له: توهّمه. فقال: هو عود قُلّم من جوانبه كتقليم الظفر، فسمى قلمًا. وقد اختلف في اشتقاقه، فقال البعض: سميّ قلمًا لاستقامته، كما سميّت الأقداح أقلامًا لاستقامتها. ونسب إلى شجر القُلّام: وهو شجر رِخْو، فلما ضارعه القلم في الضعف، سميّ قلمًا. ولا يكون قلمًا حتى يُبرى رأسه، أمّا قبل ذلك فهو قصبة.                                                                                                                    ظهر نور الإسلام بمجيء الرسول الكريم محمد (ص)، وعُزّ القلم، فجاء ذكره في القرآن الكريم: “الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ” وفي غيرها من السور، وكذلك في الأحاديث النبوية.

قال المدائني: وقد رويّ أنّ النبي (ص) قال: من قَلَم قلمًا يكتب به علمًا أعطاه شجرة في الجنة، خير من الدنيا وما فيها.                                                                                      شاعت في العصر الأموي أدوات الكتابة على إثر ذيوع الكتابة، وخاصة بعد تعريب الدواوين ونسخ القرآن وتدوين الأحاديث. لم يتغير الاستخدام الشعري للقلم كثيرًا عمَّا جدّ من استخدام له في العصر الأموي، فلقد ظلّ مرتبطًا بالأطلال وما تثيره من مشاعر فقد وحزن، إلّا أنّه أصبح أداة يعمّر بها الشاعر ما تهدم وذوى. يقول الشاعر الأموي ذو الرّمة: كأن أنوف الطير في عرصاتها/ خراطيم أقلام تخط وتعجم.                                                                                                                   جاء العصر العباسي، وبدأت معه مرحلة ثورية في شيوع الكتابة وانتشار الكتاب. ولقد ذكر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد، بأنّه وجِد في بغداد محلّة للوراقين، فيها أكثر من مئة حانوت، تُعرض الكتب فيها وتنسخ وتباع. وكثيرًا ما أمضى الجاحظ وقته فيها. وكي تقوم هذه السوق، كان لا بدّ من توفّر أدوات الكتابة من قراطيس، ورقّ، وورق، وأقلام، ومحابر. وكان للقلم بين تلك الأدوات مقامًا مهيبًا كمقام الأمير بين الرعيّة. وقد قال عنه القلقشندي: “واعلم أنّ القلم أشرف آلات الكتابة، وأعلاها رتبة، إذ هو المباشر دون غيره، وغيره من آلات الكتابة كالأعوان”.

الخطّ كلّه القلم:

إنّ اعتناء العرب بالخطّ قاد إلى تمام الصنعة في الأقلام. وقد جاء في صبح الأعشى حول الخطّ: إنّ وزن الخطّ مثل وزن القراءة، فأجود الخطّ أبينه وأجود القراءة أبينها. وفي حكمة الإشراق ورد بأن المأمون الذي ازدهرت في زمانه بغداد كحاضرة عالمية قال عن الخطّ: لو فاخرتنا الملوك الأعاجم بأمثالها، لفاخرناها بما لنا من أنواع الخطّ، يُقرأ بكل مكان ويترجم بكل لسان ويوجد مع كل زمان.

أخذ الخطّ ينحو منحى فنيًّا مع الخطّ الكوفي الهندسي الذي كتبت به المصاحف، وزيّنت به المساجد والمحاريب والقصور. وكان يسمى خطّ الجزم لأنّه اقتطع من الخطّ المسندي، لكن للجزم معنى آخر، كما جاء في رسالة الخطّ للشيخ أحمد رضا، والجزم هو تسوية الحروف في مواضعها بواسطة القلم. في أواخر أيام الدولة الأموية تميّز كاتب يدعى قطبة المحرّر، فاشتقّ من الخطّ الكوفي كما ذكر ابن النديم في الفهرست أربعة أقلام ومنها نذكر خطّ الطومار وخطّ الجليل، وبذلك فتح الباب لغيره من الخطّاطين والورّاقين كي يطوروا ويبتدعوا أنواعًا من الخطوط كان لها الحظ الكامل من الجمال والأناقة والبيان، ولحقه في ذلك الوزير ابن مقلة وابن البواب وتلميذه ياقوت المستعصمي الذين جعلوا الخطّ العربي تحفة يتباهى بها الملوك.

إنّ الخطّ و القلم يتعاوران الدلالة، فيما يخصّ الكتابة، لأنّ القلم يحدّد نوع الخطّ عبر سنّه، وكيف يُبرى وتقطّ جلفته؛ وبذلك كنّى القلم بالخطّ الذي يرسمه. وقد زوّدنا القلقشندي في كتابه صبح الأعشى بفوائد تبيّن مقدار التلاحم والتعاضد بين القلم والخطّ،. كان قلم الخلفاء يُسمى الطّومار؛ وهو مصنوع من لبّ الجريد الأخضر أو القصب الفارسي. ويجبّ أن يُؤخذ بالحسبان في صنعته أن  تكون اليد قادرة على الإمساك به، ومنه تم اشتقاق قلم مختصر الطومار الذي قدّر سنّه بأربع وعشرين شعرة من شعر البِرْذَون معْترضات. هذا القلم أصبح سنّه مقياسًا لغيره من الأقلام، فنجد أن قلم الثلثين يساوي ست عشرة شعرة، وقلم النصف قدّر باثنتي عشرة شعرة. وقلم الثلث ثمان شعرات. وكل هذه الأقلام فيها الثقيل الخطّ أي العريض، والخفيف الخطّ أي الرفيع. وإذا أردنا أن نعرف طول الألف في أي قلم ممّ ذكر، لا بدّ أن نضرب مقدارعرض سنّه في مثله، فيكون حرف مقاس الألف في خطّ قلم مختصر الطُّومار يساوي: 24*24= 576 شعرة. وأمام هذه المتطلبات الجديدة في أنواع الخطوط حثّ الوزير الخطّاط أبو علي بن مقلة الكاتب على أن يكون في محبرته أو مقلمته أقلامًا على عدد الخطوط التي يؤثر الكتابة بها.  

وقد عدّدت الباحثة سهيلة ياسين الجبوري في كتابها؛ الخطّ العربي وتطوره في العصور العباسية، اثني عشر قلمًا اشتهرت في بداية الخلافة العباسية ذكرنا سابقًا منها قلم الطومار والجليل الذي يكتب به على المحاريب وعلى أبواب المساجد وجدران القصور، وأقلام أخرى كقلم الحرم الذي تكتب به الأميرات في القصور. ولقد شرح شربل داغر في كتابه مذاهب الحسن، كيف أنّ المأمون أمر بأن يجمع بين حروف قلم النصف وأن يباعد بين سطوره، فأصبح اسم الخط القلم الرئاسي وبه تكون المكاتبة من الخليفة، الأمر الذي أدّى إلى تراجع قلم الطومار والجليل الذين سادا في مكاتبات خلفاء بني أمية. وقد عدّد داغر أنواعًا أخرى من الخطوط/ الأقلام، فذكر قلم الرقاع وبه تكتب الحوائج والمظلوميات وهو صغير الثلث. وقلم غبار الحِلبة، وبه تكتب الأسرار والرسائل التي يحملها الحمام الزاجل وذلك لصغر ودقّة خطّه.

ذكر الصُّولي في أدب الكاتب، بأنّ النظام قد قال: الخطّ أصل في الروح، وإن ظهر بآلة الجسد؛ ومن ذلك، اعتبر سوء الخطّ إحدى الزمانتين. إنّ الخطّ الحسن يدفع المرء إلى قراءة المكتوب، حتى لو كان فيه معنى مرذول أو مجهول. ومن الغرائب التي ذكرها الصّولي عن المكر في استخدام الخطّ السيئ، بأن مشايخ الكتّاب والعمال الكسالى كانوا يرفعون إلى السلطان الكتب والمظلوميات عن رعيتهم بخطّ غير جيد، ومداد غير حالك في صحف مظلمة، حتّى يثقل على من يتصفحهن، فيعدل عنهن إلى غيرهن. ولقد ولعوا بالقلم، حتى أنّهم أصبحوا قادرين على تبيّن خطّ الشخص حتى لو أنكره. وهذا ما ذكره الحسين بن يحيى الكاتب بأن سليمان بن وهب قد كشف إنكار شخص لخطّه، وذلك بأن استكتبه كلمات، فقيل له: “كيف وقفت على ذلك، فقال: إنّه يصنع في الرقعة كلّها إلّا في أحرف قذفتها سجيته، ولم يحترس منها طبعه”. وكأنّنا مع حالة كشف التزوير في الخطوط والتواقيع.

ملاك الخطّ حسن البراية:

إنّ ما رأيناه من اهتمام كبير بالخطّ، دفع كثيرًا من الخطّاطين الكبار والورّاقين، كابن مقلة، وابن البواب إلى إيراد النصائح المتعلّقة بصنعة القلم، وتخيّر أنواع القصب المناسبة. قال ابن الزيّات: خير الأقلام ما استحكم نضجه. وقد سأل الأصمعي وهو في دارة الرشيد عن أحسن أنواع القصب الذي يصلح للأقلام، فقال له العتابي: ما نشف بالهجير ماؤه. وأمام هذا الواقع الغني أصبح القلم هدية ذات قيمة كبيرة. كانت بري القلم تمام الصنعة له، لذلك كانت العناية كبيرة بها، فاعتبر حسن البراية من أخلاق الكتّاب التي يجب أن تتوفّر بهم، وقد قال الحسن بن وهب: يحتاج الكاتب إلى خِلال منها جودة بري القلم. وقد قسّموا براية القلم إلى القطّ والنحت؛ ومن أجل ذلك كانت السكين آلة مهمة لا يستغني عنها الكاتب، وكأنّها ظلّه. وقد ميّزوا في القطّ والنحت، بأن تكون سنّ القلم اليمنى محرّفة أكثر في ما يخصّ الكتابة التي تبدأ من اليمين، أمّا التي تبدأ من اليسار فكانت سنّه اليسرى، هي المعوّل عليها. كثرت نصائح الخطّاطين والورّاقين والكتّاب فيما يتعلق بأدوات الكاتب؛ من قلم وسكين، ومحبرة، وحبر، وغير ذلك من أدوات تعينهم على عملهم الدقيق في صناعة الخطوط.

كان العرب السبّاقين لاختراع قلم الحبر، قبل زمن طويل من اختراعه في أوروبا. وقد جاء في كتاب المجالس والمسايرات للزركلي، بأنّ المعزّ لدين الله الفاطمي طرح فكرة صناعة القلم، حيث قال: نريد أن نعمل قلمًا يكتب به بلا استمداد من دواة، يكون مداده داخله، فمتى شاء الإنسان كتب به، فأمدّه، وكتب به ما شاء، ومتى شاء تركه، فارتفع المداد، وكان القلم ناشفًا منه. ويكمل القاضي النعمان على كلام المعزّ: فما مرّ بعد ذلك إلّا أيام قلائل، حتى جاء الصانع الذي وصف له الصنعة به، فأودعه المداد، وكتب به، ثم أمر المعزّ بإصلاح شيء منه. وبعد ما أصلح الصانع ما أمر به المعزّ، كان قلم حبر، يقلب باليد، فلا يبين من حبره شيء، ويكتب به، وإن رفع عن الكتابة، أمسك حبره في جوفه. لم يقدّر لهذا القلم أن ينتشر، إلّا أنّ الفكرة ظلّت موجودة حتى استلهمتها أوروبا، واخترعت قلم الحبر كما نعرفه اليوم. 

المفاضلة بين القلم والسيف:

قال بعض حكماء اليونان: أمور الدنيا تحت شيئين: السيف والقلم والسيف تحت القلم. وقد حلّل ابن خلدون ذلك بقوله: إنّ الدول في أول نشأتها تحتاج السيف لا القلم، وعندما تستقر لها الأمور، تختلف الحال، فيصبح القلم هو الآمر والسيف هو المأمور. هذه المقارنة ازدهرت لدى العرب. فها هو ابن الرومي يقول:                                                                                      إن يخدم القلمَ السيفُ الذي خضعتْ/ له الرقابُ ودانت خوفه الأممُ                                                                      فالموتُ والموتُ لا شيءٌ يغالبُهُ/ما زال يتبع ما يجري به القلمُ                                                                      كذا قضى الله للأقلامِ مذ بُريتْ/أن السيوفَ لها مذ أُرهفَتْ خدمُ.                                                                      وإن أخضع الرومي السيف للقلم، إلّا أنّ أبا تمام فضّل السيف على القلم، وخاصّة أن قصيدته جاءت بمناسبة معركة عمورية. وهو إذ يرى أنّ السيف أصدق إنباء من الكتب؛ على الرغم من أنّه كان يقصد بتلك الكتب؛ كتب المنجمين الذين قالوا للمعتصم أن يؤجّل حملته، لكنّه لم يستمع إليهم.                                                                             

فيما ذهب المتنبي الذي لم يخفَ على أدوات السلطة من سيف وقلم، إلى إعلاء شأن السيف على القلم لكن بنبرة آسفة:  حتّى رجعت وأقلامي قوائل لي/  المجد للسيف ليس المجد للقلم.                                                                إنّ المنافسة بين القلم والسيف في تجلياتها الشعرية، قد أخذت مع ابن برد الأصغر الأندلسي صيغة رسالة أدبية نثرية، أبرز فيها خصائص ومميزات الأقلام والسيوف. وقد تبعه في المشرق العربي في القرن الثامن الهجري كلّ من ابن الوردي، وابن نباتة، والقلقشندي بإنشاء رسائل تختصّ بالمفاضلة بين السيف والقلم. وقبل أن نختم هذه السيرة المختصرة للقلم في التراث العربي، نقول: إنّ كانت السكين مبراة القلم، فالقلم كاتب لتاريخ السيف. ابتدأنا مقالنا بأنّ القلم كان دلالة طللية، وانتهينا إلى أنّ القلم، يكتب التاريخ ويصنعه في الوقت نفسه.

باسم سليمان     

خاص تراث 

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 26, 2021 08:37

September 25, 2021

“جريمة في مسرح القباني” لباسم سليمان.. عند العتبات تمكث الشياطين بقلم الروائي السعودي سامي الطلاق

“نسل الخطيئة”

عند العتبات تمكث الشياطين. هكذا تقول الناس..

لدى العتبة يقف العاشق والقارئ معا، الأول يلتهب تشوّقا تحت قدميه وصولا لقلبه الذي يحمل وردة والثاني ليكتشف الحديقة السردية بزاوية نظره بحسب اتساع قراءاته.

شيطان “الناص” باسم سليمان انتقل عبر “السارد” المساعد جميل, ليحكي تفاصيل الجريمة.

إرثنا جميعا منذ قتل قابيل لهابيل. ليقف بنا الروائي على عتبة حقيقته مابين “الحد والشبهة “

نظر الى دميته بحنيةهي الحب عينهوقال لهاالحد أقول لكِ لا الشبهة. 157.

طبقات   سردية  

هنا ينتقل النص لمستوى عالٍ من التوظيف لا الوعظ الجاف.

يدخل عبر دمية يصنعها-المقتول- لتصنع منه صوتا ينخر رأس الجمود السردي، ليحرك المسرح بعين القارئ. الرواية تتحرك لا تتوقف. بحرٌ متلاطمٌ يبدأ من العنف الذي هو واهبُ السلام” الذي كان إهداءً للسوريين بكل مكان.

عبر المحقق “هشام” وصديقه المحامي هائل اليوسفي الذي عبره يقعّد الروائي “الواقع والتخييل” سرديا. يتسلم المحقق المتسائل بالرواية دوما بصورة داخلية عن الخطايا والذنوب والذبيح إسماعيل والقصة القرآنية الشهيرة. ليضع تأويله الخاص. هو اللامبالي بالسلك العسكري عموما ” لو أن الحياة كخزان المرحاض تفرغ بضغطةٍ من الإصبع الوسطى” ص12

تتكرر جمله اللاذعة اتجاه الحياة بالعمل. فهو القارئ لدوستويفسكي وغيره من الروائيين. ليقَع هشام-الذي يتقاطع اسمه مع شخصية برنامج المحامي اليوسفي- بشركٍ خطير وهو أن المشتبه بجريمة قتل “عبدالله بن أمة الله ” -الزبال-هو ذاك بائع الكتب قريبٌ من المسرح_ مسرح الجريمة_ ذاته وهو الذي كان يشتري منه المحقق كتبا وكذلك ثرثرات عابرة لا تخلو من معنى ما.

“نشأت صداقتي معه… من اللحظة التي توقف فيها عن دفع عربة الزبالة أمام بسطة الكتب القديمة، وسأل عما أود التخلص منه” ص 21..ع لسان أحد جسر الرئيس “المشتبه به”. يفاجأ المحقق بكمية ضخمة من الصور بغرفة “المقتول”- بطريقة درامية على المسرح- لأناس شتى كان ينتشل تلك الصور من الزبالة ويضعها على جدران غرفته بمزة جبل.

يحقق هشام حول الجريمة الغامضة بشكل كلاسيكي كأي محقّ قٍ التص قَت روحه مع اضبارات الجرائم فصار هو والمدينة بجانبها الأسود سواء.

المحقق ..”  ماالذي   تستطيع   أن   تقوله   عن   المغدور   عبدالله   بن   امة   الله؟  

الكرسون  :  مختصر   الكلام كنت   أجد   فيه   شخصا   يبحث   عن   موته   الذي   فاته   في   تفجيرات   الأزبكية  .. ص   67  

الكرسون الذي يجمع “زبالة المثقفين” بمقهى الروضة الذي وجد ورقة على قفا ورقة الألومنيوم لعلبة دخان المغدور خطها قبل يوم من الجريمة, جلبها له اليوسفي المحامي الذي يتوق بدوره لمعرفة القاتل.

”  مسرحة   السرد ”   

يأخذ السرد منحى عميقا للأسفل نحو استنطاق الأشياء, ويبرع الروائي هنا عبر جرد أوراق المغدور من قبل المحقق, وقبلها المسرحية المعروفة بالجثة التي كتبها المقتول.

هذا المنحى -السوداوي- يتيح لنا معرفة خلفيات كثيرٍ من الشخوص بصفحات قليلة, منذ تفجير الأزبكية وأحداث مايعرف “تمرد الأخوان” آنذاك بثمانينيات القرن الماضي بسوريا, للمشهد الأسود اليوم. كموتٍ يتناسل منذ القتل الأول للبشرية لليوم.

يحاول أن يقف الروائي عن الحدّ لا الشبهة, لننجو جميعا من محرقة الأثم الداخلي نحو التطهير الكلي. لاتبحث الرواية عن خيط الدراما , بل عن فكرة الخطيئة والحد والشبهة.. فهل نجحَت بذلك.. بصفحات أكثر عن 160 بقليل يقول الروائي الكثير. يؤلمنا ليطهّرنا جميعا.. أو يحاول ذلك.

_____

https://alriwaya.net/post/reviews/grym-fy-msrh-alkbany-lbasm-slyman-aand-alaatbat-tmkth-alshyatyn?fbclid=IwAR3cXLC2cCbAZ7H6lPcwNDGvAubGsPdB_EcKJeEti4abBj6SOAaV-vbv-7sكاتب من السعودية

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 25, 2021 08:44

باسم سليمان's Blog

باسم سليمان
باسم سليمان isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow باسم سليمان's blog with rss.