باسم سليمان's Blog, page 23
December 4, 2021
كاف التشبيه – نص – باسم سليمان
أنتِ كاف التشبيه
أدُسّك بين كلماتي
لا لأربط بين الفراشة واللهب
أو أعلّم النمل أن يقول: يا نمل العالم اتحدوا
بل لأتمادى في اللعب
كأن أثرثر في حضرة الجمال
وأنام في خطبة الجنرال.
أنت كاف التشبيه
أتوسّل بكِ
كي أدفع عنّي حدود المكان بالتغرّب
وأبعد وساوس الزمان
بالتعوّذ بك.
أنتِ كاف التشبيه
وبكِ أعيدُ إلى اللغة اعتباط العلاقة بين اللفظ والمعنى
واغتباط الطفل بالمناغاة.
أنتِ كاف التشبيه
وأنا المشبّه به والمشبّه ووجه الشبه
وكما يفعل المجنون بين العقّال
ألقي حكمتي وأمضي.
4/11

December 1, 2021
في الشارقة الثقافية العدد 62 كانون أول/ ديسمبر 2021 قصتي: العطّار
ابتسم الطبيب في وجه أحمد الذي لم تسجل عوارض مرضه في المعاجم الطبية، وقال له: إنّ ما تطلبه، ليس مستحيلًا، فقط أريد منك أولًا، الصبر، ومن ثمّ الإرادة. لقد تطوّر طبّ التجميل كثيرًا، إنّه يشبه آلة زمن تعيد إلى وجهك شبابه، إنّه يصلح ما أفسده الدهر.
نظر إلى الصورة التي مرّ على التقاطها بكاميرا كانون ست عشرة سنة، وهمهم بكلمات فهم منها الطبيب، أنّه يقصد أيضًا، كرشه المتدلّي فوق حزامه. ضحك الطبيب ومن بين قهقهاته لفظ كلمة: أبراكادبرا، هذا الكرش لن يهزم إلّا بالرياضة وريجيم قاس، وبعدها ستغيّر، أحزمتك وبنطلوناتك وقمصانك، ولربما زوجتك.
كانت علائم التوتر ظاهرة بقوة على سيماء وجه أحمد، ولم يستطع أن يخفيها على الرغم من تهوين طبيب التجميل لكلّ ما سيخضع له من عمليات، وحقن بوتكس، وفيلر، وزراعة شعر. هذه التفاصيل لم تكن تقلقه حقّا، فما يجعله مترددًا وعلى حافة الانهيار، ليس مبضع الطبيب، ولا إبره، بل زوجته التي غادرت بيت الزوجية إلى بيت أهلها بعد شجار لم يكن فيه قادرًا على إقناعها بصحّة ما يفعله، رغم الأسباب الوجيهة التي قدّمها لها. لم تر زوجته في إقدامه على عمليات التجميل إلّا تصاب، سيقوده إلى الزواج بأخرى ومن ثم الفراق، لذلك حفاظًا على كرامتها، قالت له: أنتظر منك ورقة الطلاق.
إنّ ما خفّف عليه محنته، كان موقف ابنه وابنته الداعمين له، واللذين اعتبرا أن عمليات التجميل لا تختلف عن اختراعات هذا الزمن من انترنت وموبايلات. وعندما ناقشا أمّهما ردّت على ابنتها، بأنّها لا تعرف الرجال حقّا، وعلى ابنها بأنّه ذكر، وما الغرابة، بأن يقف في صفّ أبيه.
بعد أخذ وردّ حدثت الهدنة بين الزوجين، وبدأ أحمد رحلة التمرينات الرياضية والريجيم القاسي بناء على نصيحة طبيب التجميل، الذي لن يشحذ مشرطه إلّا بعد أن يضمر كرش مريضه ويفقد أكثر من 15 كيلو غرامًا من وزنه. وعند الوصول إلى هذه العتبة، سيصبح من الممكن البدء في عمليات تجميل الوجه بالشدّ، وحقن البوتكس، والفيلر، حتى يتطابق مع الصورة التي التقطت منذ ست عشرة سنة.
كانت السنوات تتبخّر مع العرق الذي ينضح من جسده مع كلّ تمرين، وكأنّ الزمن يطوى مع تغيّر حركة الإبزيم على سكّة الحزام الذي يحيط بكرشه. مرت ثلاثة أشهر عاد بها جسده ممشوقًا كأنّه ابن الثلاثين، حركته لا تشبه من هم في عمره. رجع إلى شغفه القديم في الركض خلف الكرة، وعلى عكس ما كان سينتهي إليه الخصام مع زوجته، أصبحت زوجته شبه مقتنعة بما أراده، فقد عاد كما كان في أحلامها، ولن يمانع أبدًا في أن تسلك الطريق الذي سلكه في عمليات التجميل.
بدأت أولى العمليات بزراعة الشعر في مقدمة رأسه، وكرّت بعدها عملية تجميل الأنف، ومن ثم استئصال الأكياس الدهنية من تحت عينيه، وشدّ الوجنتين وبعد ثلاثة اشهر وعدة أيام أخر، خرج من حجرة العودة في الزمن ابن ثلاثين سنة يشبه تلك الصورة التي حملها بين يديه في اللقاء الأول مع طبيب التجميل.
لم يذهب إلى بيت الزوجية بل إلى إحدى محلات شراء حقائب السفر التي ملأها بالملابس الجديدة. صعد سيارته الجديدة البيضاء بعد أن باع سيارته السوداء وتوجّه إلى بيت العائلة التي تسكنه أخته مع أمّه المصابة بمرض ألزهايمر.
قرع الباب، فتحت أخته، وصرخت: لقد عاد مازن من السفر يا أمي. نادرًا ما كانت الأم تستجيب لأي نداء، فقد أخذ منها ألزهايمر كلّ ذاكرتها، ولم يبق لها إلّا ذكرى اليوم الذي سافر فيه ابنها مازن خارج البلاد. اندفعت الأم من غرفتها تستند على عكازها. كان مازن واقفًا في منتصف الصالون فاتحًا ذراعيه اللذين احتضنا أمّه بعد الغياب. همست الأم: أخيرًا عدت من السفر. أجاب مازن: نعم يا أمي، ولن أسافر أبدًا بعد اليوم.
تحلّقوا حول الأم وابنها العائد من السفر، أو عيادة طبيب التجميل؛ كلّ من أخته وولديه وزوجته. كان أحمد الأخ التوأم لمازن؛ مازن الذي مات في حادث سير، وهو عائد من المطار منذ خمس عشرة سنة.

November 29, 2021
طيب الكلام…الكتابة بالعطر – مقالي في رصيف22
باسم سليمانالاثنين 29 نوفمبر 202110:00 ص
مثّل العطر لدى العرب قصّة ثقافة، لا “قصّة قاتل” كما في رواية باتريك زوسكند. ومن شدّة شغفهم به، أرجعوا أصله إلى أبي البشر آدم. حيث يذكر الطبري في تاريخ الرسل والملوك: “أنّ الله تعالى عندما أهبط آدم عليه السلام إلى الأرض، جعل لا يمرّ بشجرة من شجر الجنة، إلّا أخذ غصناً من أغصانها، فهبط إلى الأرض وتلك الأغصان معه، فلما يبس ورقها؛ تحات، فكان ذلك أصل الطيب”.
أشعار بالعطور:هذه الرؤية الإسلامية قامت على تقاليد جاهلية مفتونة بالعطر، فقد ضمّخ الشعراء الجاهليون قصائدهم بأبيات تتكلّم عن طيب عطر محبوباتهم. وهذا الأعشى يقول: “إذا تقوم يضوع المسك أصورة/ والزنبق الورد من أردانها شمل”.
فيما امرؤ القيس يصف كيف تستيقظ محبوبته من نومه، فلا يغيب عنها العطر في نومها وصحوها: “وَتُضْحي فَتِيتُ المِسكِ فوق فراشها/ نؤوم الضحى لم تتنطق عن تفضل”.
باسم سليمانالاثنين 29 نوفمبر 202110:00 ص
مثّل العطر لدى العرب قصّة ثقافة، لا “قصّة قاتل” كما في رواية باتريك زوسكند. ومن شدّة شغفهم به، أرجعوا أصله إلى أبي البشر آدم. حيث يذكر الطبري في تاريخ الرسل والملوك: “أنّ الله تعالى عندما أهبط آدم عليه السلام إلى الأرض، جعل لا يمرّ بشجرة من شجر الجنة، إلّا أخذ غصناً من أغصانها، فهبط إلى الأرض وتلك الأغصان معه، فلما يبس ورقها؛ تحات، فكان ذلك أصل الطيب”.
أشعار بالعطورهذه الرؤية الإسلامية قامت على تقاليد جاهلية مفتونة بالعطر، فقد ضمّخ الشعراء الجاهليون قصائدهم بأبيات تتكلّم عن طيب عطر محبوباتهم. وهذا الأعشى يقول: “إذا تقوم يضوع المسك أصورة/ والزنبق الورد من أردانها شمل”.
فيما امرؤ القيس يصف كيف تستيقظ محبوبته من نومه، فلا يغيب عنها العطر في نومها وصحوها: “وَتُضْحي فَتِيتُ المِسكِ فوق فراشها/ نؤوم الضحى لم تتنطق عن تفضل”.
من شدّة شغف العرب بالعطر، أرجعوا أصله إلى آدم. حيث يذكر الطبري “أنّ الله تعالى عندما أهبط آدم عليه السلام إلى الأرض، جعل لا يمرّ بشجرة من شجر الجنة، إلّا أخذ غصناً من أغصانها، فهبط إلى الأرض وتلك الأغصان معه، فلما يبس ورقها؛ تحات، فكان ذلك أصل الطيب”
لم يكتف العرب أن يكون العطر ريحاً طيبة، بل ميثاقاً لأحلافهم، كما في حلف “المطيّبين”، وقسماً لا يحنث به، فها هو دريد بن الصمة، قد أقسم أن لا يتطيّب حتى يدرك ثأره. ومن أشهر العطور الذي ضرب به المثل: “أشأم من عطر منشم”.
إذ كانت العرب قبل الخروج في حروبها تتعطّر، وكأنّهم رغبوا، حتى وهم موتى، أن تفوح منهم الروائح الطيبة. لقد كان عطر منشم فألاً سيئاً لمن تعطّروا به، فقد كثر بينهم القتل، لكنّهم ماتوا معطّرين بالطيب.
وإذا يممنا وجهنا نحو العصرين الأموي والعباسي، نطّلع في كتاب “الفهرست” لابن النديم على ثبت في العديد من المؤلفات التي تتناول العطر وصناعته، فقد ألّف العديد من الكتّاب رسائل في العطر، نذكر منهم: الكندي، يحيى بن خالد البرمكي والمفضل بن سلمة. وقد كلّف المتوكل جحظة البرمكي بتصنيف كتاب له جاء بعنوان “في العطر”.
شاعت العطور منذ القديم، وكانت عبارة عن عجينة صمغية تحتوي المادة العطرية، كالزبّاد الذي اشتهرت به عدن، ومن ثمّ تطورت صناعة العطور عبر نقع الزهور في زيوت وشحوم، فتمتصّ خلاصتها العطرية، إلى أن كان التقطير بواسطة الإنبيق على يد الكندي، وتبعه في بذلك ابن سينا.
عرفت العرب العديد من أنواع العطور منها؛ المسك والغالية التي راجت على يد أمراء بني أميّة. وقد احتفى العصر العباسي بالعطور، فبلغت شأناً كبيراً من الإتقان في الصنع، فأصبحنا نجد العطور كماء الورد، والنضوحات، حيث يكون الحامل للعطر هو الكحول؛ وهي تشبه العطور المستخدمة حاليّاً.
لقد أخذ العرب العطر إلى أمداء أخرى عبر الكتابة به على القراطيس والكاغد وممن ترك لنا إضاءة مهمة في ذلك، الشاعر عمر بن أبي ربيعة، فبعد أن علم بزواج الثريا من غيره وهو في اليمن، دفعه الشوق إليها بأن يخطّ لها كتاباً جعل مداده من أخلاط العطر، وكان مطلع كتابه: “كتبتُ إليكِ من بلدي/ كتابَ مُوَلَّهٍ كَمِدِ”.
وعندما قرأت الثريا كتاب عمر، وتنسّمت روائح العطر التي تفوح منه ردّت إليه: “أتاني كتابٌ لم يَرَ الناسُ مثلَه/ أُمِدَّ بكَافُورٍ ومِسْكٍ وعَنْبَرِ”. ويذكر الباحث عمر فرّوخ في كتابه؛ العرب في حضارتهم وثقافتهم، بأنّ عمر بن أبي ربيعة كان له عطر خاص، يعدّه أحد عطّاري مكّة ولا يصنع مثله لأحد.
قد يكون ما ذكرناه عن كتابة عمر بن أبي ربيعة بالعطر من الأدلة القليلة التي أتتنا من العصر الأموي، لكنّ الأمر قد شاع في العصر العباسي، وخاصة بعد أن كثر الظرفاء والجواري والغلمان، حيث درجت العادة على تطريز أبيات الشعر على الثياب والزنانير، كما فعلت ولادة بنت المستكفي التي كتبت على ثوبها: “أنا واللَه أصلح للمعالي/ وأَمشي مشيتي وأتيهُ تيها/ أمكّنُ عاشقي من صحن خدّي/وأعطي قُبلتي مَن يشتهيها”.
لم يدّخر العرب طريقة لإظهار شغفهم بالعطور، إلّا وطرقوا بابها. وما الكتابة بمداد مصنوع من العطر إلا إحدى هذه الوسائل، وخاصة في أشعار الغزل والحكم والأقوال البليغة، فقد نقشت جارية إسحاق الموصلي على جبينها بالمسك: “والعشق والكتمان ضدّان لا يجتمعان”.
طيب الكلام وطيب الرائحةتنوّعت العطور بشكل كبير في العصر العباسي، واستخدم جلّها في الكتابة، فقد كتبوا بالمسك والسّك والعنبر والغالية والحنّاء. وكأنّهم أرادوا بذلك أن يقرنوا طيب الكلام بطيب الرائحة والذوق. فقد كتبوا على التفاح وبالورد ما طاب لهم من غزل. وممّا ذكر الوشاء في باب الكتابة على الفواكه بأنّه شاهد تفاحة قد نقش عليها: أنا إلى العاشق منسوبة/ أهدى لمَحبوب ومحبوبة.
كانت الكتابة بالعطر نقلة جمالية أخرى للخطّ العربي، استكمل بها إظهاره بالحواس الخمس، فمن صورته البديعة التي أنشأها الخطاطون، إلى تصويته بالغناء والشعر كأحسن ما يكون، إلى نقشه على الفواكه، فيلمس ويذاق.
ومع الكتابة بالعطر دخل الخطّ العربي حاسة الشم، واستكملوا بقية الحواس، ففي إضمار المقولة المشهورة: “في الأمر إنّ” أشرفنا على الحاسة السادسة، لكن ما يهمنا في هذا المضمار هو الآثار التي زودتنا بها كتب التراث عن الكتابة بالعطر. وقد أمدّنا الوشاء في كتابه “الموشى” بشذرات جميلة عن ما كان يُكتب بالعطور على الجبين والخد.
يورد الوشاء في كتابه بأنّ العباس بن الأحنف تعشّق جارية كتبت على جبينها بالمسك: “العين تفقد من تهوى وتبصره/ وناظر القلب لا يخلو من النظر”. وفي هذه الجارية قال الأحنف: “لست أنساك يا ظلومُ وعهد الّله حتى أٌلف في أكفاني”. يذكر فاروق شوشة في مقال له في مجلة العربي، نقلاً عن الشاعرة عاتكة الخزرجي، أن حبيبة الأحنف والمسماة فوز في شعره، هي هدية بنت المهدي أخت الخليفة هارون الرشيد؛ فهل هذه الظلوم هي أخت الرشيد الذي قال للسحابة: “امطري حيث شئت، فإن خراجك لي”.
يتابع الوشاء أخبار من خطّوا بالطيب، فيذكر جارية كتبت بعطر الغالية على جبينها أشعاراً لابن قنبر المازني: “صـرمـتـنـي ثـم لا كـلمـتـني أبداً/إن كنت خنتك في حال من الحال/ ولا اجترمت الذي فيه خيانتُكم/ ولا جَرَتْ خَطرةٌ منه على بالي”. وكتبت جارية أخرى: “إذا حجبت لم يكفك البدر فقدها/ وتكفيك فقد البدر إن حُجب البدر”.
ويردنا خبر من الشاعر علي بن الجهم الذي مدح المتوكل: “أنت كالكلب في حفاظك للود/وكالتيس في قراع الخطوبِ”. لقد كان الجهم بدويّا فظّاً، لكنّه تبغدد بعد أن رأى “عيونُ المَها بَينَ الرُصافَةِ وَالجِسرِ”، وقرأ ما يكتبنه على خدودهن بالطيب، فقد شاهد على خدّ جارية شعراً مكتوباً بالمسك: “رضيت على رُغمي بحبك فاعدلي/ ولا تسرفي إذ صار في يدك الحكم/ متى يظفر المظلوم منك بحقّه/ إذا كنت قاضية وأنت له خصم”.
وقال الجاحظ: كتبتْ مؤلف جارية الصخري على جبينها: “ومحسودة بالحسن كالبدر وجهها/ وألحاظ عينيها تجور وتظلم/ ملكت عليها طاعة الشوق والهوى/ وعلمتها ما لم تكن منه تعلم”.
وخطّت إحدى جواري المتوكّل على خدها بالمسك اسم “جعفر”، وجاء في الأغاني قول الشاعر في ذلك: “وكاتبة بالمسك في الخدّ جعفرا/ بنفسي سواد المسك من حيث أثرا/ لئن أثرت بالمسك أسطر بخدها/ لقد أودعت قلبي من الحزن أسطرا/ فيا من مُناها في السريرة جعفرٌ/ سقى الله من سُقيا ثناياك جعفرا”.
وقد أورد صاحب الموشّى أنّه قرأ على جبين جارية شعراً مكتوب بعطر الغالية: “أنا غريق في بحار الهوى/ شبه قتيل في سبيل الله”. ويذكر الوشاء حادثة أخرى عن جارية كتبت بالغالية والعنبر: “ياقمراً لاح في الظلام/ عليك من مقلتي السلام”.لعب العطر دوراً اجتماعيّاً وثقافيّاً في التراث العربي، فإلى جانب رائحته الطيبة، كان شعراً وخطّاًس وعشقاً.

November 28, 2021
قالتْ: أظافري أقصّها أهلّة لتحكَ سماءَ ظهرِكَ. من ديوان: الببغاء مهرج الغابة
الحبّ حيوانٌ أليف
ليس قطًا ولا كلبًا
لكن له من القطّ النكران
ومن الكلب الوفاء.
الحبّ حيوان أليف
لا تكسلْ، فلا تأخذه في كلّ صباح ومساء
ليقضي حاجته، لربما قرب سورٍ مليء بأقفال العشق
أو نهر غارق في المفاتيح.
الحبّ حيوان أليف
فرد من العائلة
قد يكون عجوزًا مصابًا بالخرف
أو طفلًا يأكل الأحرف كما يقرض ممحاته.
الحبّ حيوان أليف
وأحيانًا يكون إلهًا أليفًا.
*
الحبّ خبر
جملة أسمية
يقول النّحّات والفلاسفة والعشّاق: إنّها كاذبة أو صادقة.
في عالم الحيوان
الحبّ يحدث أو لا يحدث
لا وجود فيه للإمكان.
في عالم الحيوان، الحبّ واجبُ الوجود
أنا حيوانٌ في حبّكِ.
*
اكرهني ولو قليلًا
الحبّ والكره عاطفتان
فلا تفرِّق بين اﻷخ واﻷخ.
الحبّ يحنّ في أثر خفّ الكره
الكره يقتفي أثر حافر الحبّ.
اكرهني…
قليلٌ من الكره يطيّب رائحة القلب
اكرهني في الحبّ بلا حقد.
*
أنا قردكِ الصّغير
الذي تنقّين فكره من قمل الاستقامة.
أنا أخطبوطكِ
الذي تعلّمينه العدّ إلى العشرة
على أذرعه الثمانية.
أنا ديككِ
الذي تشترين له البيض من السوبرماركت
كي تقنعيه أنّ خصيتيه رحم مهاجر.
أنا بغلكِ
الذي حملكِ في سرد الحبّ في زمن الكوليرا (1)
ومع ذلك تقرّح قفاكِ
ودخّنتِ سجائركِ من جمراتها.
أنا طفلكِ
الذي تأخذينه إلى حديقة الحيوان
لكي تخبريه أنّ الحبّ فيه الكثير من البرّية المسجونة.
*
بيننا، صفا ومرْوَة (2)
وسعي عمرٍ
وطفلٌ يركلُ الأرضَ بكعب آخيل (3)
بيننا، سَمِعَ اللهُ
إذْ هاجر (4)
تعدّ الذبيح.
*
أكسرُ الحجرَ الأسودَ كجوزة النثر
وفي طاسةِ (5) القلبِ، أشعل بخور الخشية
وأطوف حول كعبة الحزن إلّا أنّي لا أفيض.
أنا لاعب الأقداح
منذ تطهّر سهمي من الرّيش
أقسِّم الجزور بين فقراء الحبّ
وأمضي كعبد المطلب
قائلًا: للقلب ربّة تحميه.
*
كسنجاب تخبئين نهدكِ
لشتائي
والحبّ تأخذه سِنَةٌ ونوم
لم تشفع لي الأحلامُ
فصرتُ شجرة جوز.
*
إذ قلتِ: أحبُّكَ
قلتُ: بعض الحبِّ أجمل
إذ قلتِ: أكرهُكَ
قلتُ: بعض الكره أجمل.
هوامش:
الحب في زمن الكوليرا: رواية لـ غابرييل غارسيا ماركيز.الصفا والمروة مكانان سعت بينهما هاجر بحثًا عن الماء لابنها اسماعيل.كعب آخيل: أحد الأبطال الأسطوريين في الميثولوجيا الإغريقية، وكعب آخيل مصطلح يشير إلى نقطة ضعف مميتة على الرغم من كل القوة التي يمتلكها الشخص.هاجر شخصية توراتية، وهي امرأة مكرمة في الإسلام فهي والدة النبي اسماعيل.صحن من النحاس أو الألمنيوم.
November 26, 2021
الحِلم والجهل؛ الغاية تبرّر الوسيلة – مقالي في ضفة ثالثة
تعدّ مقولة الخليفة معاوية: “إنّي لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أنّ بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، كانوا إذا مدّوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها”؛ من أشهر المقولات السياسية، ولو علم بها ميكافيلي لجعلها مبتدأً لكتابه؛ الأمير. يعتبر الخليفة معاوية من أشهر حلُماء العرب، بل يكاد أن يكون حِلمه تعريفًا للسياسة، بأنّها فنّ الممكن. وإذا أردنا أن نكشف الجذور التي انتصبت فوقها سلطة معاوية، لابدّ لنا من العودة إلى مفهوم الحِلم والجهل عند العرب في جاهليتهم، فقد أرسوا من خلالهما نظامًا اجتماعيّا في بيئة صعبة يكاد فيها الجمل يفنى؛ وهو سفينة الصحراء. بيئة اجتماعية قبلية ثأرية، ذهبت وراء آلهة شتى، من دون أن يلغي أحدها الآخر، فأقرّت أشهرًا حرمًا يُبتغى فيها الحجّ والتجارة، فلا غارات ولا ثأر، بل سلام إلى حين، تعقبه حروب وغزوات، ومن ثم سلام إلى حين، وكأنّنا أمام فصل للحِلم وفصل للجهل، يتناوبان على التاريخ الجاهلي.
ذكرت العرب في الأمثال: “حلمي أصمّ، وأذني غير صمّاء”(1) وهذا يعني، بأنّ الحليم يُعرض عن فاحش الكلام وإن سمعه. وقالوا في الحلُمَاء: “كأنَّما على رؤوسهم الطَّير”(2) فلا طيش فيهم ولا خفّة. ترى العرب في الحِلم تمام الحكمة، فإذا أرادوا وصف سيد مطاع كريم، قالوا عنه: بإنّه حليم. والحِلْم لغة؛ خلاف الطيش. والحليم رابط الجأش عند سوْرة الغضب، صفوح عند الإساءة، إلى غير ذلك من صفات تنمّ عن عاقل عقلَ جهله، كما في تعريف العقل عند العرب. يقول امرؤ القيس:”إلى مثلها يرنو الحليمُ صبابة”؛ يدعونا امرؤ القيس إلى أن نعذره بما تأتّى له من ولهٍ، فالحليم قد سٌلب لبّه أمام سحر جمال تلك الأنثى، فأصبح صبًّا عاشقًا. ولنا أن نعتقد بأنّ امرأ القيس له الحقّ كشاعر في التجوّز على خصال الحليم، وأن تنسب إليه الصبابة عبر مكر لغوي فاتن، فــ(رنا) تعني إدامة النظر إلى الشيء في سكون طرْف. ورنا فلان: طربَ ولهًا مع شغل قلب وبصر وغلبة هوى. ولكن ما الذي استبقاه امرؤ القيس للحليم من عقل بعد هذا؟
إنّ الضّدّ يظهر حسنَه الضدُّ، ومن هنا علينا أن نجلو معنى كلمة (الجهل) حتى يصحّ لنا الوقوف على مفهوم الحِلم في جاهلية العرب. يقول الفرزدق: “أحلامُنا تَزِنُ الجبال رزانة/ وتخالنا جِنًّا إذا ما نجهل” لقد وضع الفرزدق الحِلم بمقابل الجهل، وبكليهما يفتخر! وعندما رثى يزيد بن الحكم الثقفي(3) ابنه عَنبَس جمع بين الحِلم والجهل، وكأنّهما خصلتان مجيدتان تُطلب كلّ واحدة عند الحاجة إليها: “جَهولٌ إِذا جَهْلُ العَشيرَةِ يُبتَغى /حَليمٌ وَيَرضى حِلمَهُ حُلَماؤُها”. ما هذا الجهل الذي يعارض الحِلم رمز المروءة، ومن ثمّ يقاسمه المدح والفخر كأنّه صنوه. وأمام هذا السؤال، سندع ليلى الأخيلية من تجيب. أحبّ تَوبة بن الحُمَيِّر ليلى الأخيلية لكنّه قتل في إحدى الغزوات، فطفقت ليلى ترثيه في مجالس الخلفاء، وكان لها مع مروان بن الحكم قصّة، فبعد أن أنشدته شعرًا في توبة: “فتى كانت الدّنيا تهون بأسرها/ عليه ولم ينفكّ جمّ التصرّف ينال عليّات الأمور بهونة/ إذا هي أعيت كلّ خرق مشرّف”. قال لها مروان: “يا ليلى بالغت في نعت توبة. قالت: أصلح الله الأمير، والله، ما قلت إلّا حقًّا، فقال مروان: كيف يكون توبة على ما تقولين، وكان حاربًا (والحارب سارق الإبل خاصة)؟ فقالت: … لكنّه كان فتى له جاهلية، ولو طال عمره وأنسأه الموت، لارعوى قلبه، ولقضى في حبّ الله نحبه، وأقصر عن لهوه”(4). والجاهلية التي قصدتها ليلى، كانت لها أخلاق مختلفة عن الأخلاق التي أقرّها الإسلام، فكما يذكر مبروك المناعي، بأن القرصنة في اليونان على عهد هوميروس كانت عملًا شرعيّا. وأنّ النهب والاستيلاء كان منظورًا إليه عند شعوب كثيرة على أنّه أفضل من شراء الشيء وأنبل(5) وذكر جواد علي في مفصله بأنّ الجاهليين نبذوا التلصّص والسرقة، وإن أرادوا ذمّ شخص هجوه بهما، أمّا الغزو والإغارة فقد افتخروا بهما لأنّ قوامهما القوة. فما تراه ليلى في حرابة توبة ليس السرقة، بل الغزو والإغارة، وهما خصلتان للمدح لا الذم.
كان لتوبة جاهلية؛ والجاهلية في رأي الأخيلية، ليست عدم العلم، ولا قلّة الأخلاق، بل إنّ توبة لم يتطبّع بعد بالأخلاق الإسلامية، لذلك ظلّ في لهوه وطيشه وتسرّعه، مع أنّ له من الحِلم الكثير، فقد رابه سفور ليلى ولم تكن تلقاه إلّا متبرقعة، فعلم أنّ أهلها قد كمنوا له: “وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت/ فقد رابني منها الغداة سفورها” لذلك اكتفى بالسلام ومضى. وعندما خطب زياد بن أبيه في أهل البصرة خطبته البتراء، استغرب فصل جهلهم عن توءمه الحِلم، فقال: “أمّا بعدُ، فإِنَّ الجهالةَ الجهلاءَ، والضَّلالةَ العمياءَ…” (6) وكأنّه يقول لأهل البصرة إن احتججتم بالجهل كما عرفتموه في جاهليتكم، فأنتم قد تجاوزتم الحدّ المقبول منه بإغفال الحِلم. وكانت العرب ترى الحِلم غير مقبول إن اقترن بالضعف، وتراه ذلًا، فلا الجهل الجاهلي كان مطلقًا، ولا الحلم أيضًا، بل لا بدّ من شروط حتى يصحّان ويعمل بهما.
إذن الجاهلية لا تعني الخلو من المعرفة وانعدام العلم، وإنّما هي أخلاق وعادات وتقاليد أخرى جبّها الإسلام، وما أبقاه منها فقد بدّل من دلالاته، فالحِلم غدا على تضاد حتمي مع الجهل. والجهل خلاف العلم والمعرفة وهما الحِلم ذاته. إنّ المقارنة التي جدلها زياد بن أبيه تتعلّق بمقارنة ثلاثية الأطراف بين الأخلاق الإسلامية والأخلاق الجاهلية وبين الأخلاق الجاهلية ذاتها التي أعلت من شأن الحليم وشأن الجاهل أيضًا، فما بال أهل البصرة استبعدوا خصلة الحِلم، واستبقوا الجهل مطلقًا وهما لا يستويان إلّا معًا: وَتَجْهَلُ أيْدِينَا وَيَحْلُمُ رَأيُنَا/ وَنَشْتِمُ بِالأفْعالِ لاَ بِالتِّكَلُّمِ” (7) وكأنّهم ما استطاعوا أن يستروا جهلهم بحلمهم! وقد أضمر زياد في خطبته بيت الشاعرعمرو بن كلثوم: “أَلاَ لاَ يَجْهَلَـنَّ أَحَـدٌ عَلَيْنَـا/فَنَجْهَـلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِيْنَـا”. وقد شرح الزوزني ذلك: “أي لا يسفهن أحد علينا فنسفه عليهم فوق سفههم، أي نجازيهم بسفههم جزاء يُرْبِي عليه، فسمِّيَ جزاء الجهل جهلًا لازدواج الكلام وحسن تجانس اللفظ”. وما نفهمه من شرح الزوزني بأن الجهل في معناه الجاهلي كان داءً ودواء في الوقت نفسه، وكأنّه الفارماكوس الإغريقي! وهذا المنحى يقودنا إلى أنّ حصر الجهل بمعنى عدم العلم، يفقر مدلولاته التي اكتسبها عبر سيرورته اللغوية. والأحرى بنا أن نقابل الجهل بالحِلم لا بالعلم. لقد غيّر الإسلام دلالة كلمة الجهل، ولم يبق من الجهل إلّا الطيش والسفه والتسرّع وانعدام العلم، وهذا ما أبعده عن توأمه الحِلم. ونلحظ ذلك في بيت لحسان بن ثابت يهجو فيه أبا جهل أحد سادات قريش، ما يدعم توجهنا: “سَمّاهُ مَعشَرُهُ أَبا حَكَمٍ/ وَاللَه سَمّاهُ أَبا جَهلِ”. عرف عن أبي جهل عداؤه الشديد للإسلام، ولم يكن اللقب الذي أطلقه عليه الرسول (ص) بأبي جهل، لأنّه كان عديم العلم، بل لموقفه الهمجي من الإسلام، فقد قتل أبو جهل سميّة بنت خياط زوجة الصحابي عمار بن ياسر طعنا بالحربة في قبلها، وذلك لأنها أعلنت إسلامها. لكنّ أبا جهل لم يخرج عن قول عمرو بن كلثوم، فقد كان يرى في الإسلام جهلًا يجب منعه بجهل أكبر!
لن يستقيم لنا مفهوم الجهل، إلّا بمعارضته بمرآة الحِلم، فنجلو هذا بذاك. وسنقدم أمثله عن الحلم في التراث العربي توفّر منظورًا يتيح لنا اللهج وراء غايتنا. جاء في العقد الفريد أن قومًا اجتمعوا وذكروا حلم معاوية وكان يعتبر من حلماء العرب، فقال بعضهم: “ما أظن أن معاوية أغضبه شيء قط” فقال غيره: “إن ذُكرت أمّه غضب” فقال مالك بن أسماء المنى: “أنا أغضبه إن جعلتم لي جعلًا”. وكرّت الأيام والتقى مالك بمعاوية فقال له: “يا أمير المؤمنين إنّ عينيك لتشبهان عيني أمّك” قال معاوية: “نعم كانتا عينين طالما أعجبتا أبا سفيان” ثم نادى معاوية مولاه شقران وقال له: “أعدد لأسماء المنى دية ابنها، فإني قتلته وهو لا يدري” رجع مالك إلى جماعته وقبض منهم المال، ومن جديد راهنوه إن قال لعمرو بن الزبيرما قاله لمعاوية منحوه مالًا، فذهب مالك إلى عمرو بن الزبير واسمعه ما أسمع معاوية، فأمر الزبير بقتله. وعندما سمع ذلك معاوية قال: “أنا والله، قتله”.
يحكى عن الأحنف بن قيس المشهور بالحلم بأنّ رجلًا قد لطمه على وجهه، فقال الأحنف(8): “بسم الله، يا ابن أخي، ما دعاك إلى هذا؟ قال: آليت أن ألطم سيد العرب من بني تميم. قال الأحنف: فبر بيمينك، فما أنا بسيدها. سيدها حارثة ابن قدامة” فذهب الرجل إلى حارثة ولطمه، فما كان من حارثة إلّا أن استل سيفه وقطع به يمين الرجل. وعندما بلغ ذلك الأحنف قال: “أنا والله، قطعتها”.
إنّ تأمّل المثالين السابقين يظهر لنا جانبًا عجيبًا من الحِلم، يكاد أن يكون جهلًا، لكنّ ذا ترجيع بعيد، فلقد جمع معاوية والأحنف العفو بالانتقام. وكأنّ صفة الحِلم التي وصفا بها لا ترى بأسًا بأن يكونا حاقدين ومنتقمين، وكأنّنا أمام تعريف ابن عبد ربه للعاقل: ” فلا يرضى العاقل إلّا أن يكون إمامًا في الخير والشرّ”(9)
ويوضّح لنا الخبر التالي القشّة التي قد تقصم ظهر الحليم، لكنّه يستبعدها وكأنّه دبلوماسيّ مخضرم، فلا يناله الجهل(10)، فلقد سُئل الأحنف، من هو أوسع حلمًا؛ أهو أم معاوية؟ فأجاب الأحنف: ” تالله، ما رأيت أجهل منكم. إنّ معاوية يقدر فيحلم. وأنا أحلم ولا أقدر، فكيف أقاس عليه أو أدانيه؟” إنّ الأحنف بن قيس من حلماء العرب، فمن الحماقة أن يدخل في مقارنة مع الخليفة حتى لو كان أحلم منه، فلقد ردّ على زياد بن أبيه بعد خطبته البتراء التي توعّد بها أهل البصرة والتي قال فيها: “حتى يلقيَ الرجلُ منكم أخاه فيقول: انجْ سَعْدٌ فقد هلك سعَيدٌ” ولم يجد زياد بدّا من الردّ على الأحنف: “لقد صدقت” هذا هو حلم الأحنف الذي أنجاه من أن لا يكون سعيدًا ولا سعدًا. إذن الحِلم ليس صفة متعلّقة بمكارم الأخلاق، لأن الحِلم سلطة وسياسة، وهو فنّ الممكن، ومن تمتنع عليه القدرة، فلا يكون حليمًا وهذا ما يؤكّده النابغة الجعدي: “وَلا خَيْرَ في حِلْمٍ إذَا لَمْ يَكُنْ لـَهُ / بَوَادِرُ تَحْـمِي صَفـْوَهُ أَنْ يُـكَدَّرا”
ويدعم هذا التوجّه قول المتنبي: “كُلُّ حِلْمٍ أتَى بغَيرِ اقْتِدارٍ/ حُجّةٌ لاجىءٌ إلَيها اللّئَامُ” إنّ هذا المعنى يكاد يكون متواترًا لدى الشعراء فها هو الخزيمي يبلغ الغاية الخفية للحِلم بأنّها طلب للسؤدد والسلطة: “أرى الحِلم في بعض المواطن ذلّة/ وفي بعضها عزًا يسود صاحبه”.
نستطيع بعد هذا العرض، أن نخلص إلى نتيجة خطيرة، لكنّها جوهر السياسة، بأن الحِلم من دون قدرة ذلّ وضعف، وهو فضيلة ظرفية يستند في الحكم عليها إلى حالة الحليم وموقعه في المجتمع، فإن كان قويًّا مهابًا، فالحِلم فضيلة وإن كان صاحبه ضعيفًا، فهو نقيصة. ألم يقل الأحنف كما جاء في العقد: “آفة الحلم الذل”.
قال الأحنف بن قيس، بأنّه تعلّم الحِلم من قيس بن عاصم. وهذا العاصم كان سيد أهل الوبر، ويروى عنه قصة، هي التمام بالحِلم، فقد جيء له برجل مكتوف، ورجل مقتول، وكان في داره يحدّث قومه، فقيل له: “هذا ابن أخيك قتل ابنك” فلم يقطع حديثه حتى أنهاه، ومن ثمّ التفت إلى ابن أخيه قائلًا: “يا ابن أخي، أثمت بربك، ورميت نفسك بسهمك، وقتلت ابن عمّك. ثمّ قال لابن آخر له: قم، يا بني، فوارِ أخاك، وحلّ كِتاف ابن عمّك، وسق إلى أمه (أي إلى أم أخيك) مائة ناقة ديّة ابنها، فإنها غريبة”. إنّه لأمر مذهل ما قام به قيس بن عاصم، فهذا هو الحِلم الصافي الذي لا تشوبه شائبة، فقد حفظ القبيلة من التشتت، ووأد الثأر في أرضه، أقلنا الوأد الذي أنكره الإسلام جملة وتفصيلًا! نعم! فقيس بن عاصم كان وائد بنات! فهل اختل مقام الحِلم لديه؟ أبدًا، فالحِلم ليس فضيلة كالكرم أو الخير، يضيرها أقل بخل، حتى لو كان عاذلة تؤنب ضمير الكريم حاتم. إنّ الحِلم الذي أبداه قيس بن عاصم لا يمت بصلة إلى التعريف الذي ساد في الإسلام، بل هو حِلم السياسي، سيد القبيلة. ولنا، الآن، أن نجمع بين النقيضين؛ الحِلم والجهل، فكلاهما يُبتغى لأثره، ألم يقل المتنبي طالب السلطة، ومن ادّعى النبوة لأجل السؤْدُد: “وَحِلْمُ الفتى في غَيرِ مَوْضِعه جَهْلُ”.
نستخلص، ممّا سبق، أنّ التضاد بين الحِلم والجهل، هو في اختلاف الوسائل، لا في وحدة الغاية. ومن هنا كان الفخر بهما في البيت الواحد هو الصواب بعينه، فإن أخذ الحِلم الصدر كان مكان الجهل العجز. إنّ الحِلم والجهل الجاهليين يختلفان عن مفهومهما في الإسلام، لكنّ ظلّ معناهما القديم مضمرًا في نيات وأعمال من استندوا إليهما في طلب سلطة أو فخر أو سياسة دولة.
لم يكن الحِلم والجهل، إلّا حدّيْ سيف واحد، هو السياسة؛ فنّ الممكن، ولابدّ لحامله أن يعرف متى يشهره ومتى يغمده. وما مقولة معاوية أعلاه، إلّا تطبيقًا لمفهومي الحِلم والجهل الجاهليين الصحراويين اللذين بهما أسّس دولة تمتد من المشرق إلى المغرب. وقد مدح الأخطل حكّامها -عدّ النقّاد بيت الأخطل أمدح بيت عرفته العرب- بأهم صفتين جاهليتين، هما كنه السياسة؛ الحِلم والجهل: “شمسُ العَداوَةِ حَتّى يُستَقادَ لَهُم/وَأَعظَمُ الناسِ أَحلاماً إِذا قَدَروا”. وفي النهاية نقول جوابًا على ما أستبقاه امرؤ القيس للحليم العاشق من حِلم: لم يُنقص حِلم الحليم الصبّ ذرّة واحدة في بيت امرئ القيس.
المصادر والمراجع:
مجمع الأمثال لأبي فضل الميداني، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد- دار المعرفة بيروت.العقد الفريد لابن عبد ربه، تحقيق د. مفيد محمد قمحية – دار الكتب العلمية بيروت 1983.الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، تحقيق د. إحسان عباس- دار صادر بيروت 2002.معجم النساء الشاعرات في الجاهلية والإسلام، إعداد عبد مهنا – دار الكتب العلمية بيروت.الشعر والمال، مبروك المناعي – دار الغرب الإسلامي، 1998 بيروت.تاريخ الأمم والملوك – بيت الأفكار الدولية.شرح ديوان الحماسة للخطيب التبريزي- دار الكتب العلمية بيروت 2000.المحاسن والمساوئ – البهيقي – دار كنان للطباعة والنشر.العقد الفريد.المصدر السابق.باسم سليمان
خاص ضفة ثالثة

https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/civilisation/2021/11/26/%D8%A7%D9%D8%AD%D9%D9-%D9%D8%A7%D9%D8%AC%D9%D9-%D8%A7%D9%D8%BA%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%A8%D8%B1%D8%B1-%D8%A7%D9%D9%D8%B3%D9%8A%D9%D8%A9 https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/civilisation/2021/11/26/%D8%A7%D9%D8%AD%D9%D9-%D9%D8%A7%D9%D8%AC%D9%D9-%D8%A7%D9%D8%BA%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%A8%D8%B1%D8%B1-%D8%A7%D9%D9%D8%B3%D9%8A%D9%D8%A9
November 21, 2021
القصيدة الصفراء – نصي في الترا صوت
تُقسم الأشجار المؤمنة
وتقول:
ليكسر الشتاء جذوعها
إن تركت ورقة آثمة
على أغصانها
فالخريف
فصل الاعتراف أمام السماء.
أمّا
الأشجار الكافرة
فتظلّ طوال العمر
دائمة الخضرة.
*
الأفعى
مصابة بالزهايمر
منذ أن أكلت حشيشة الخلود
تبدّل جلد ذاكرتها
من عام إلى عام
فتنكر في الربيع
ذاتها
التي دخلت في السبات
في الخريف.
*
الصبار
لا يمرّ عليه الخريف
يظلّ محتفظًا بكلّ ألواحه
وكأنّه طفلٌ
يعلّم السنين:
أبجد، هوز…
*
تثور الأوراق
في الفصل الأصفر
على الثمار
والأغصان
وبعد أن تترك أمّها عارية
تلتحق بأبيها الريح.

November 18, 2021
الصوت والصدى في «حوّاءات التفاح» مقالي في القبس الكويتية
إذا اعتبرنا تعريف الأدب/ الشعر بأنّه نزع لإلفة الأشياء وتغريبها وفق النقّاد الشكلانيين، فذلك يعني أنّنا نتغيّا اكتشاف الأشياء من بدء، من خلال دهشة لا تخلو من تأمّل، ولا تفتقد النعمة في التواصل. إنّ ما نغرّبه يأتلفنا في خلق جديد، بقدر ما نُفصح فيه عن ذواتنا، نُخرج الكون من لا تعيينه المثالي أو المادي إلى «الكينونة هنا» حسب تعبير هيدغر.
0 seconds of 17 secondsVolume 0%
لربما يكون الديوان الأول للشاعر هو الأجمل، ليس كتقييم لصنعة الشعر، بل لأنّه مواجهة مع المرآة الخاصة للشاعر، وبالأحرى، هو صدام ينتهي بأن يكسر الشاعر نرجسيته، كي يتلبّس نرجسية الأشياء، فيتعرّف على الآخر اللامتناهي. قلنا في البداية إنّ الشعر نزع الإلفة عن الأشياء، كأنّ نضيف تاء مربوطة إلى كلمة شاعر، لنُفاجأ بأنّ الشاعرة ليست مؤنّث الشاعر في اللغة، وليس هو مذكّرها، بل نحن أمام «الكينونة هنا» بصورة أنثوية تتجلّى في عتبة عنوانية للديوان المراد مناقشته في هذا المقال: «حوّاءات التفاح» مع كل ما يضمّر هذا العنوان من تهكّم على تفاحة الخطيئة الأولى، فلم تكن التفاحات استنساخاً لها، لأنّ كل تفاحة هي بداية جديدة، فالتفاحة التي أفسدت صندوق الفواكه، طارت منها فراشة.
التعارض بين السطوح
صدر الديوان عن سلسلة الإبداع العربي، الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب لعام 2021. وهو الأول للشاعرة السورية لمى الحسنية كإحدى حواءات التفاح التي تهدي حبيبها «جهنم صغيرة»، وتستجرنا إلى حفلة الشعر، كقرّاء نصطلي بلهيب الحبّ والشعر معاً.
تدرك العين المسافة من خلال التعارض بين السطوح، ففي البحر تعجز العين عن تقدير المسافة، والشعر من دون ثيمات يصبح متاهة، لذلك كانت لمى الحسنية حريصة على إبقاء خيط أرديان ممتدّاً بين قصائدها، كي ينقذها من إلفة وغربة تتمثلان كخطيّن متوازيين، وبذلك تعود إلى ذاتها غير آبهة بالمقولة القديمة، بأنّك لن تستطيع أن تستحم بمياه النهر مرتين: «قد ينمو القصبُ عاليّاً/ قد تمتدّ جذورك/ مجاهدة لبلوغ واحتي/ قد نبني جسوراً/ لكن كما ضفّتي النهر/ مهما تعرّجتا أو انحدرتا/ هما خطّان متوازيان».
وإذا كان الصوت يدرك ذاته عبر السماع، ويتحرّر عبر الصدى، نجد أنّ قصائد الديوان تعتمد ثيمة الصوت/ السماع، لأنّ الشاعرة تخاطب حبيبها وتحاوره، وفي الوقت نفسه ترتكز على ثيمة الصدى، كي تستمع إلى ذاتها وكأنّها آخر. وهي بهذه الجدلية تنجو من ميناتور الحبّ الرابض في المتاهة: «وعلى رقعة الشطرنج/ لعبت الأقدار لعبتك/ هناك أسرني المربّع الأسود/ ضمن المربّع الأبيض»، لكنّها في مقطع آخر حيث ثيمة الصدى تصبح، هي السيدة في اللعبة: «كما لو تبدّدت داخل مثلث/ أشدّ غرابة من مثل برمودا/ يسكن البحر، تطفو أمواج الأنامل فوق النهر/ وتغقو في أحضان النهر».
استنطاق الصمت
قلنا إنّ ثيمتي الصوت/ السماع والصدى في قصيدة الشاعرة بمنزلة سطوح مختلفة تساعد العين على تحديد المسافة، لذلك يسكن البحر/ المتاهة، وتغفو الأنامل في أحضان النهر، فمهما طغى النهر فله ضفتان، ألفة وغربة.
تحاور الشاعرة حبيبها، مستنطقة صمته، ومؤوّلة هجرانه ومن ثم تهزأ منه: «هجرتني/ ولم تتحرك قيد أُنملة/ أنت في قلبي»، وكأنّها تخبره بأنّ وجوده كان بسبب تفاحتها، فهذا الكون الذي يستطيل من المشرق إلى المغرب هو ملك لكَ، اهربْ كما تشاء، فأنت في قلبي وقلب العاشقة، ليس إلّا تعامت أخرى حتى، وإن قتلها الإله إنليل، إلّا أنّه لم يستطع أن يخلق الكون إلّا من جسدها. وعندما يدرك الحبيب أنّ هجرانه، هو قيده الأكبر يعود: «والأفلاك تقول: من ذا يطارد برج الجوزاء غير عطارد!/ تعود لتقول لي: لا لا… كوكبنا المريخ/ كوكب أحمر يشبه ثغر عقيق/ كشفتي السفلى عند أخذ الشهيق/ كوكب مجاور للأرض/ الأحلام فيه ملتهبة/ لا أحلام وردية على المريخ».
تمعن الشاعرة في لعبة الصوت/ السماع والصدى، وكأنّها لا تريد لأي ذبذبة من خطابها إلى الحبيب أن تضيع، فما يفوت الحبيب سماعه تكون له كقناص عبر الصدى، وكأنّها تغار أن يسمع خفقان قلبها دم آخر، قد يغويها، فتعود إلى طمأنة نفسها بالقول: «لكن أحلامي تشبه/ باحة بيت الدمشقي/ كنارنجة تذيب/ بأطراف أغصانها الهشّة/ حموضة العالم».
تقدّم لنا لمى الحسنية تجربتها الشعرية الأولى بلغة نثرية، على الرغم من أنّها تراود الإيقاع في بعض الأحيان، ليس بحثاً عن نظم، بل لأنّ وجيب القلب إيقاعيّ والصوت في ثيمتيه، السماع والصدى، لعبة إيقاعية، وهذا الشكل تأتّى لقصائدها من الحبّ، أليس الحبّ قضية مرآة واِنعكاسها: «أستفيق على صوت أقدام الحروف/ في رأسي/ متوّهمة مرّة أخرى/ إنّها نوبة شقيقة نصفية».
باسم سليمان
روائي وشاعر سوري
https://alqabas.com/article/5868820 :إقرأ المزيد
https://alqabas.com/article/5868820 :إقرأ المزيد

إبراهيم بن محمد بن عبدالله خليفة آخر الزمان. مقالي في موقع رصيف22
باسم سليمانالخميس 18 نوفمبر 202101:49 م
ماذا لو عاش إبراهيم بن محمد (رسول الله) بن عبد الله، أكان هنالك من أثر يُذكر في تاريخنا الإسلامي لسقيفة بني ساعدة، قميص عثمان، حرب الجمل، صفين وغيرها من أحداث؟
الــ(لو) التي تفتح التاريخ:
ولد إبراهيم في السنة الثامنة للهجرة من جارية مصرية تدعى مارية القبطية، كان قد أهداها المقوقس إلى الرسول. وقد كان عمره ثلاث سنوات عندما توفي الرسول في السنة الحادية عشرة للهجرة. أصابت الرسول حمّى شديدة، قبل موته بأيام. وقد جاء في صحيح البخاري ومسلم، بأنّ الرسول قد طلب صحيفة ليكتب بها كتابًا، لن يختلف المسلمون بعده: (هلم أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده ، قال عمر: إنّ النبي غلبه الوجع وعندكم القرآن، فحسبنا كتاب الله). اختلف الصحابة الذين كانوا يعودون الرسول في مرضه بين من يريد أن يحضر الصحيفة، ومن اتّبع قول عمر. وعندما اشتدّ النزاع قال الرسول : “قوموا عنّي”. خرج الصحابة من دون كتاب يكتبه النبي يحفظهم من الخلاف. وقد كان ابن عباس يقول تعليقًا على هذه الواقعة التي سميت: رزية يوم الخميس: (إنّ الرزية كلّ الرزية، ما حال بين رسول الله، وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم).
ما الذي كان يريد أن يدونه الرسول؟ هل هو تأكيد حديث الثقلين الذي اختلف في صيغته فيما بعد بين: (كتاب الله، وعِترتي؛ أهلَ بيتي) و (كِتَابَ الله، وسُنَّتي) أم أنّه كان سيوصي بالخلافة إلى أحد الصحابة إلى أن يرشد ابنه إبراهيم؟ اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة وعقد لواء الخلافة لسعد بن عبادة، وثنيت له وسادة، بينما كان آل هاشم يدفنون جثمان الرسول. خرج أبو بكر وعمر يتقاودان حتى وصلا السقيفة، بعد أن سمعا بأخبار بيعة الأنصار لسعد بن عبادة. وعندما وصلا حدث جدال عرض فيه المهاجرون والأنصار مناقبهم. وانتهى اجتماع سقيفة بني ساعدة بمبايعة أبي بكر ليكون خليفة المسلمين، مستندين في ذلك إلى أنّ الرسول كان خاتم النبيين، ولن يكون إبراهيم نبيّا، أمّا إبراهيم فشأنه شأن أي مسلم آخر، له منهم المحبة والحماية، فهوعترة الرسول . وقد قال عمر عن واقعة مبايعة أبي بكر في السقيفة: (إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت). وكأنّ عمر كان يقصد أنّ بيعة أبي بكر كانت من دون شورى.
سمع بنو هاشم بما حدث في السقيفة؛ وكما جاء في الكامل لابن الأثير أنّ الزبير بن العوام شهر سيفه، وأقسم ألّا يرجعه حتى تتم مبايعة علي وصيّا، إلى أن يرشد إبراهيم.
احتجّ الهاشميون، وخرج علي مع زوجته فاطمة وابنيه الحسن والحسين ومارية القبطية تحمل ابنها إبراهيم بين يديها، يدورون على أحياء المدينة يذكّرون البدريين الذين شهدوا غزوة بدر، بأنّهم العترة الطاهرة وبأنّ الرسول آخى بينه وبين علي، فعلي بمنزلة هارون من موسى، ومن أولى من الوزير أن يكون وصيّا على الخلافة، حتى يرشد ابن الرسول. واعده أربعون نفرًا على القتال حتى الموت، فطلب منهم أن يأتوه حليقي الرأس، فلم يحفظ الوعد غير أربعة رجال جاؤوه حليقي الرأس.
خطبة أبي بكر:
هدأت الأمورقليلًا، وصعد أبو بكر المنبر وخطب بالمسلمين: (أمّا بعد أيها الناس فإنّي قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني…) وفي هذه اللحظة دخلت مارية القبطية المسجد النبوي، تحمل على صدرها ابنها إبراهيم، ورفعته عاليًا قائلة: من أحبّ الرسول، أحبّ ابنه ووالاه. فتصدّى لها عمر وقال لها: عودي يا امرأة، وقرّي في بيتك، فلم تنته عدّتك، فأجابته مارية: العدّة لمن يحل لها الزواج بعد وفاة زوجها، ونحن نساء الرسول لا يحلّ لنا نكاح من بعده، فلا عدّة تستوجب، وحقّ ابني أولى بالسعي به، فقد سعت هاجر بين الصفا والمروة حتى استجاب الله لها، وفجّر تحت قدمي إسماعيل ماء زمزم. وسأعتكف في المسجد حتى تحلّوا ما عقدتوه من بيعة لأبي قحافة وتبايعوا إبراهيم بن محمد بن عبد الله. في تلك الأثناء كان علي ومن واعده حليقي الرأس قد تجمهروا خلف مارية، فقال علي: فديت أباه صغيرًا، وسأفدي ابنه كبيرًا.
تلجلج صدر أبي بكر وهمّ بالنزول عن المنبر، إلا أنّ عمر أوقفه، وقال: من يريد أن يسفك الدماء في مسجد رسول الله، ليس من الإسلام بشيء؛ ثم تلا الآية: (وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ). صمتت مارية القبطية ومن والاها على إثر موقف عمر بن الخطاب حيث لم يسمع من يعارضه من الجموع التي حضرت الخطبة. أكمل أبو بكر خطبته: (وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوى فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم).
تصرّمت الأيام، ونشبت حروب الردّة، وانشغل المسلمون بها، وتناسوا حقّ إبراهيم، وجاءت خلافة عمر، والفتوحات الإسلامية، ومن ثمّ فتنة قميص عثمان التي اشترك فيها المصريون أخوال إبراهيم مطالبين بحقّه في الخلافة، وختمت هذه الأحداث بحرب الجمل.
شبّ إبراهيم، وبدأت الناس تتجمّع حوله، وقد أعدّ علي العدّة بعد توليه الخلافة للحظة المناسبة لتولية إبراهيم بن محمد بن عبد الله خليفة على المسلمين. لكنّ عائشة وطلحة والزبير خرجوا عليه يريدون الثأر بسبب مقتل عثمان. انتهت معركة الجمل بانتصار علي، لكنّ معاوية قد تهيئ للحرب. ومن ثمّ كانت واقعة صفين بعد سنة من معركة الجمل. وبعد أن رفعت المصاحف على الأسنة وجلس الناس للتحكيم، خلع أبو موسى الأشعري خاتم صاحبه علي وألبسه لإبراهيم ابن رسول الله، لكن عمرو بن العاص أثبت خاتم معاوية. وكان من نتائج حرب صفين أن ظهر الخوارج، وانقسم المسلمون إلى سنة، وشيعة يشايعون علي ومن بعده إبراهيم.
مات علي بسيف عبد الرحمن بن ملجم، ولم يستطع تثبيت ابن النبي في الخلافة. بايع الناس الحسن الذي تنازل لمعاوية، وفي زمن يزيد خرج الحسين وإبراهيم رافضين بيعة يزيد وكانت معركة كربلاء، حيث جزّ الشمر رأس الحسين ورأس إبراهيم.
الخلافة في آخر الزمان:
ماتت مارية القبطية بعد أربع سنوات من وفاة الرسول، ودفنت في البقيع. وهكذا نشأ إبراهيم في كنف ابن عم الرسول علي، كابن من أبنائه. والسيف الذي قطع رأس الحسين قطع رأسه. وفي آخر الزمان سيظهر المهدي المنتظر ومعه إبراهيم وسيثبته في الخلافة ألف سنة إلى أن ينفخ إسرافيل في الصور.
يقول ماركس (إنّ التاريخ يعيد نفسه مرتين, مرّة على شكل مأساة, ومرّة على شكل مهزلة). لا نستطيع أن نفصل المأساة عن المهزلة في تاريخنا الإسلامي ومن هذا المنطلق ألا يحق لنا أن نسأل: هل مات إبراهيم ميتة طبيعية عن عمر يناهز الثمانية عشر شهرًا أم قتل. ولو عاش كما تخيّلنا أعلاه، هل كان التاريخ الإسلامي، سيتغيّر؟ تبدو فكرة وجود جريمة مستترة في موت إبراهيم وهو طفل مغرية للنقاش أكثر، فالطامعين في خلافة الرسول كانوا كثر، أكانوا من المهاجرين أم الأنصار! وهنا نستطيع أن نتخيّل، لماذا التاريخ الإسلامي لن يتغيّر حتى لو كتب الرسول صحيفة لن يضل المسلمون بعدها.

https://raseef22.net/article/1085306-%D8%A5%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D9%D9%8A%D9-%D8%A8%D9-%D9%D8%AD%D9%D8%AF-%D8%A8%D9-%D8%B9%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D9%D9%D9-%D8%AE%D9%D9%8A%D9%D8%A9-%D8%A2%D8%AE%D8%B1-%D8%A7%D9%D8%B2%D9%D8%A7%D9 https://raseef22.net/article/1085306-%D8%A5%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D9%D9%8A%D9-%D8%A8%D9-%D9%D8%AD%D9%D8%AF-%D8%A8%D9-%D8%B9%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D9%D9%D9-%D8%AE%D9%D9%8A%D9%D8%A9-%D8%A2%D8%AE%D8%B1-%D8%A7%D9%D8%B2%D9%D8%A7%D9
November 7, 2021
الغُراب.. أدوار مقدّسة ومدنّسة في الثقافة الإنسانية – مقالي في ضفة ثالثة
“الغراب؛ هو شخص فتى مرح على الرغم من معطفه الداكن كالحبر”(1)؛ هذا ما يقوله المسرحي الإيرلندي شين أوكاسي في كتابه الغراب الأخضر. هذا الفتى المرح ارتبطت به الكثير من الأساطير والقصص، مع أنّه لم يكن يومًا من الطيور المدجّنة، ولم يشته أن يكون على مائدة طعام الإنسان، فهو من أكلة الجيف. الغراب ليس طيرًا أسطوريًا كالعنقاء، هو طائر واقعيّ أسود اللون بالمجمل، له صوت أجشّ، إلّا أنّه ذكي جدًا! لذلك قال دايفيد كوامين المختصّ بشؤون الطبيعة، كما يذكر بوريا ساكس(2): “إنّ الغربان مليئة بسلوكيات استثنائية يحتاج تفسير بعضها إلى علماء النفس، فالذكاء الذي تمتلكه الغربان يزيد عن حاجتها للبقاء حية؛ إنّ الغربان تشعر بالضجر، فتخترع ألعابًا لتسري عن نفسها”.
لعب الغراب أدوارًا كثيرة؛ مقدسّة ومدنّسة، في الثقافة الإنسانية، فقد كان يعتبر خالق الكون عند الهنود الحمر، ورسولًا للآلهة الوثنية والتوحيدية. ولقد تم ذكره في القرآن الكريم معلّمًا لقابيل، كيف يدفن أخاه، وقد وردت أيضًا أخبار عن الغراب، في التوراة والإنجيل. تعدّدت ظهوراته في التراث ذي الصبغة الدينية، فقد كان متواجدًا كطائر من طيور الجنّة في حكاية “كانوه” والد النبي صالح كما أورد يورسلاف ستيتكيفيتش، وهو الدّال على بئر زمزم ، وزارع النخلة الأولى في أساطير بلاد ما بين النهرين (3)، لذلك تقول العرب: “وجد تمرة الغراب” دلالة على أنّ الغراب أعرف بأجود التمر، أليس هو زارعه! فقد كانت العرب تترك للغراب ناقة محمّلة بالتمر، كما يذكر الباحث زكريا محمد(4). و يذكر ساكس بأنّه في إنكلترا هناك منصب لسيد الغربان، حيث يحفظ الغراب عرش ملكة بريطانيا، فالأسطورة تقول: إنّ الملك آرثر أصبح غرابًا أعصم، وفق ما ذكر سرفانتس صاحب دون كيشوت. ارتبط الغراب بالموت، وخاصة في معارك الجيوش، حيث تقتات الغربان على جثث الجنود. ولكن من ناحية أخرى كان الغراب وغيره من الطيور الآكلة للجيف وسيلة للانتقال إلى الحياة الأخرى؛ وهذا ما نجده في التيبت حيث كانت أجساد الموتى تقطّع وترمى للنسور والغربان. إنّ الموت أحد أكبر معضلات الحياة البشرية وكلّ مايرتبط به يتحوّل تارة إلى مقدس، وتارة أخرى إلى مدنّس؛ ولم ينجُ الغراب من التأويلات البشرية، فأصبح الغراب أستاذًا للأحياء ومرشدًا للموتى. هذا غيض من فيض، فالغراب كان سيد التنبوءات المتفائلة والمتشائمة. وهناك أغنية شعبية اسكتلندية تُخبر كيف تقرأ ما تنذر به الغربان، عندما تحلّق فوق رأسك(5) : “واحد يعني الأسف/ اثنان يعني الفرح/ ثلاثة تعني الميلاد/ أربعة تعني الزفاف/ خمسة تعني الفضة/ ستة تعني الذهب/ سبعة تعني سرًّا لايجب إفشاؤه/ ثمانية تعني الجنة/ تسعة تعني النار/ عشرة، هي الشيطان نفسه”.
غراب ناصع الأخبار:
يشبه الغراب شريط الأخبار العاجلة، فهو كما قال عنه عنترة: حَــرِقُ الجَــنــاحِ كَــأَنَّ لِحـيَـي رَأسِهِ/جَــلَمــانِ بِــالأَخــبــارِ هَــشَّ مــولَعُ. لقد امتدح كاليماخوس السيريني(6) بياض الغراب الذي يبزّ بياض اليمام والأوز والبجع، إلّا أنّ هذا الولع بالإخبار رتب لطائر الأقدار أن يتغيّر لونه من الأبيض الناصع إلى الأسود الفاحم، وكأنّه أوديب في عالم الطيور.
يرتبط الإله أبولو لدى اليونانيين بالغراب، وقد قصّ أوفيد في كتابه، مسخ الحيوانات الصادرعن الهيئة المصرية للكتاب، بأنّ الغراب كان رسول أبولو، وحدث أن نقل له خبر زواج حبيبته، فغضب أبولو، وأرسل ناره المحرقة ليقتل بها حبيبته، لكنّ النار أصابت ريش الغراب الأبيض، أيضًا، فأحرقته، ومن وقتها أصبح ريشه أسود اللون.
يذكر بوريا ساكس بأنّ كتّاب التراث الشعبي، قد فسّروا تغيّر لون ريش الغراب من الأبيض إلى الأسود نتيجة للعنة التي صبّت عليه من قبل نوح لأنّه لم يعد إلى السفينة. وقد فُسِّر تباطؤ الغراب عن العودة إلى النبي نوح وإخباره بأنّ اليابسة عاودت الظهور من تحت مياه الطوفان، بسبب اِنشغاله بجثّة كانت تطفو على وجه الماء المنحسر(7)، لكن ألا يحقّ لنا أن نرى اِنشغال الغراب بجثة طافية، بأن البشرية لم تعتبِر من الطوفان الذي أبادها بسبب فجورها وفق الرؤية الدينية!
ويتابع ساكس، بأنّ الرسول محمد (ص) عندما كان مختبئًا في الغار من مطارديه القريشيين، لمحه غرابٌ، وبدأ ينعق: “غار، غار!” لم يفهم المطاردون ما قاله الغراب، وعندما خرج الرسول من الغار حوّل لون الغراب إلى الأسود بعد أن كان أبيض، وقال عن صوته: إنّه رمز الخيانة.
يحكي الهنود الحمر في كندا قصة عن خلق العالم، بأنّه كان في البدء غرابان؛ الأول أبيض، والثاني أسود. قام الغراب الأبيض بخلق العالم إلّا أنّ شقيقه الأسود حسده ومن ثمّ قتله، لذلك لم يبق في العالم إلّا أحفاد الغراب الأسود الذين ورثوا لونه. على ما يبدو لهذه القصة جذور تعود إلى هابيل وقابيل.
ينقل ساكس عن هنود قبيلة ليناب/ Lenape، بأنّ الغراب كان له ريش ملوّن بألوان قوس قزح وصوت رخيم. وحدث أن تساقط الثلج لأوّل مرّة في العالم، فأرسلت الحيوانات الغراب كي يخبر الإله، فأعطاه الإله شعلة؛ هي الشمس، وبها سيدفئ العالم. هذه الشعلة أحرقت ريش الغراب، فأصبح صوته أجشّا، لكنّه أنقذ العالم من التجمّد.
يمتلك الغراب الكثير من الدلالات من المثيولوجية إلى الدينية، إلّا أنّ ما يعنينا في هذا البحث، هو الاستخدام الأدبي والفنّي للغراب. وقد يكون الحكيم اليوناني إيسوب الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد، هو أول من ذكره في أمثولة أدبية. وتتكلّم هذه الأمثولة عن غراب كان مريضًا، فطلب من أمّه أن تصلي للآلهة، فأجابته الأم بأنّ الآلهة ليس من المحتمل أن تستجيب، لأنّنا نسرق طعام القرابين. لكن قبل ذلك بكثير صوِّر على ختم أسطواني رافداني، يرتبط هذا الختم بأسطورة جلجامش، حيث كان الغراب جاثمًا على قارب الملاح أورشنابي.
هوغين ومونين:
كان أودين الإله الأسمى لدى الفايكنغ يلقّب بملك الغربان، كما يذكر بوريا ساكس وكان له غرابان؛ هوغين يمثل العقل، ومونين يمثّل الذاكرة وحدث أن قام أودين متخفيّا بقناع أزرق بزيارة ملك القوط، ليرى كم مقدار سوء الضيافة لديه. اعتقل ملك القوط أودين وصلبه على شجرة بين نارين. وبينما كان أودين يُعذّب أخبر عن أسرار الجنّة والأرض: “هوغين مونين يطيران كلّ يوم/ فوق العالم الواسع/ وأخشى ألّا يعود هوغين/ ولكنّي أقلق أكثر على مونين”. تدلّ كلمات أودين على الخوف من انحدار العالم نحو الفوضى؛ إذ أنّ الغراب/ العقل، والغراب/ الذاكرة، هما اللذان يحفظان الكون من التبعثر(8).
توثّقت علاقة الغراب في العصور الوسطى الأوروبية بالموت، حيث يمتلئ التراث الغربي بأناشيد وأغنيات تدلّل على ذلك؛ فالغراب يأكل الجثث، وكثيرًا ما يشاهد حائمًا في سماء المعارك. وعندما اجتاح الطاعون أوروبا كان الغراب يقتات على الجثث، ومع أنّه ساهم إلى حدّ ما بقطع سلسلة انتشار الطاعون، فقد كان يزاحم الجرذان على الجثث، إلا أنّ الانطباع العام عنه أصبح مرتبطًا بالموت. أنهى الرسام الفلمنكي بيتر روغال في عام 1562 لوحة فنية بعنوان: انتصار الموت/The Triumph of Death كان الغراب من أهم ثيماتها. لم يتغاض شكسبير عن استخدام ثيمة الغراب وخاصة التنبؤ بالموت. ففي مسرحيته هاملت هناك ذكر له، وفي ماكبث أيضًا.
وعلى الرغم من ارتباط الغراب بالموت، فقد اُعتبر صراخه الذي أوّله الرومان على أنّه يعني الغد/ Cras، وضمنًا الأمل، أساسًا لتصورات العصور الوسطى في الدعوة إلى التوبة. كان نعيب الغراب يدلّ على الشخص الذي يؤجّل تصالحه مع الرب؛ ومن هنا فُهم صوته على أنّه تحذير ودعوة للعودة إلى الرب، فالموت قريب.
تتطوّر ثيمة الغراب الأدبية من عصر إلى أخر، فعندما ذكر هزيود باندورا التي فتحت الصندوق الذي انطلقت منه الشرور إلى العالم، كان الغراب رمزًا للشؤم، لكن مع بدايات عصر النهضة، أصبح النظر إلى خطأ باندورا على أنّه يشبه الأخطاء البشرية، وليس قدرًا محتمًا، لذلك صار تأويل نداء الغراب Cras أكثر تفاؤلًا ورسمت باندورا ذاتها على أنّها غراب. وكأنّ الأمل الذي ظلّ في الصندوق قد رفرف خارجًا.
تعدّ قصيدة إدغار آلان بو؛ الغراب، المشهورة جدًا، والتي يُظهر من خلالها القلق الرومنسي ومحاولة كبح سيطرة العقل على الإنسان؛ من الإرهاصات الأولى في الاستخدام الأدبي بعيدًا عن الأساطير والخرافات المتعلّقة بالغراب، على الرغم من أنّه استخدم ثيمات الغراب الألوهية والتنبؤية والتشاؤمية والتفاؤلية، فالغراب أصبح تمثيلًا عن قلق الإنسان الوجودي الذي أرعبه وسع العالم، حتّى إنّ بو أصبح يُعرف بالغراب. استنادًا إلى هذه القصيدة يرسم بول غوغان الشاعر ستيفان مالارميه الذي نقل قصيدة بو إلى الفرنسية على أنّه غراب. وفي لوحته المعنونة: ” nevermore/ أبدًا، ليس بعد الآن” والمستقاة من قصيدة بو. يصوّر غوغان في لوحته، امرأة عارية مستلقية في وضعية الانتظار، وفي الخلفية يقف غراب على الشباك. تشي اللوحة بمعانٍ كثيرة لكلّ من ينظر إليها، لربما أول ما يخطر للناظر؛ أنّ الغراب يحمل أخبارًا ونبوءات. كذلك استخدم كلود مونيه غراب العقعق كرمز للهدوء في الريف في لوحته: “La pie”. يعلّق ساكس على طائر العقعق الذي يعد نوعًا من الغربان بأنّه لم يجد مكانًا له في سفينة نوح، فحطّ على سطحها مثرثرًا، يراقب العالم وهو يغرق. تبدو مفارقة رؤية مونيه عن ساكس، لكن مع قليل من التبصّر نرى رمزية ساكس لطائر العقعق، بأنّه رمز للطبيعة التي رجعت بكرًا بعد الطوقان، متعالقة مع نظرة الرسام الذي عاد إلى عذريته بالابتعاد عن صخب المدينة. في لوحته: “حقول القمح مع الغربان”؛ يرسم فان كوخ الغربان كدلالة على قوى الطبيعة الفوضوية والقدرية في الوقت نفسه.
كان المسرحي شين أوكاسي إيرلنديًّا مناهضًا للاحتلال البريطاني ويرى في الثوار الإيرلنديين غربان خضراء؛ والخضرة من أحد معاني السواد. بالنسبة لأوكاسي كان الغراب تعبيرًا عن جميع الناس الذين استمروا في الحياة وفي الثورة بسبب فطنتهم وإرادتهم الصلبة كما الغربان. أمّا الشاعر تيد هيوز، فرأى في الغراب قوة ماورائية: من أقوى من الأمل؟ الموت/ من أقوى من الإرادة؟ الموت/ من أقوى من الحب؟ الموت/ من أقوى من الحياة؟ الموت/ ولكن من أقوى من الموت؟/ أنا، طبعًا/ أوضح الغراب.
هذا الغموض الميتافيزيقي والفيزيقي للغراب، دفع هوليوود إلى أن تقدّم ابن أسطورة الكونغ فو بروسلي عبر فيلم يحمل اسم: The Crow. كان براندون لي قد لعب دور موسيقي روك شاب تقتله عصابة مع حبيبته، لكن بمعونة غراب يعود إلى الحياة كي ينتقم. كيف للرصاصات أن تؤثر في الميت!؟ ومع ذلك يحدث في أحد المشاهد أن تطلق الرصاصات نحو براندون لي، وتكون حقيقية ويموت بعدها. هذا هو الغراب يهب الحياة ويهب الموت أيضًا. وفي سلسلة لعبة العروش المشهورة كان الغراب حاضرًا بكل ثيماته التي نعرفها.
الغراب عاذلة الأقدار:
مثّلت العاذلة في الشعر العربي الصراع الذي يحتدم في داخل الشاعر، فهو موزّع بين دهرية الحياة وإنطفاء الذكر، والرغبة في تخليد اسمه، في مسعى يكاد يكون الموت أقرب فيه من ارتداد الطرف. ومن الشعراء الذين وصفوا جدلهم الداخلي مع العاذلة، حاتم الطائي الذي يقول: وعاذلةٍ هبّتْ بليلٍ تلومُني/وقدْ غابَ عَيّوقُ الثريّا، فعرّدا أعاذل! لا آلوكِ إلا خليقَتي/فلا تَجعَلي فوْقي لِسانَكِ مِبْرَدا.
إن ثيمة العاذلة التي نراها في فتاة الحانة سيدوري في جلجامش إلى كاليبسو مع عوليس، أبرزت لنا مشاعر الخوف والقنوط والإحباط التي كانت تنتاب الشاعر أو البطل، ومع ذلك كان لحضورها أثر تصعيدي في تأجيج الصراع الداخلي وتظهير الصعوبات التي سيواجهها الشاعر أو البطل. هذه الثيمة تقمّصها الغراب، وأصبح عاذلة قدرية، تنبؤية، زجرية، لا مناص من الخضوع لها. وعلى الرغم من ذلك نرى الشاعر يجأر بالرفض ضد ما ينبئ به الغراب.
إنّ إقواء النابغة في قصيدته الغزلية التشبيبية- من ﺁﻝ ﻣﻴﺔَ ﺭﺍﺋﺢٌ ﺃﻭ ﻣُﻐْﺘَﺪِﻱْ/ ﻋﺠﻼﻥَ ﺫﺍ ﺯﺍﺩٍ ﻭﻏﻴﺮَ ﻣُﺰَﻭَّﺩ- كان في البيت الذي ذكر فيها الغراب، وكأنّه عاذلة، لم تنبئه فقط بالرحيل، بل نالت من قافيته وأوهنتها: ﺯﻋﻢ ﺍﻟﺒﻮﺍﺭِﺡُ ﺃﻥَّ ﺭﺣﻠﺘَﻨﺎ ﻏﺪًﺍ/ ﻭﺑﺬﺍﻙَ ﺧﺒَّﺮﻧﺎ ﺍﻟﻐُﺮَﺍﺏُ ﺍﻷَﺳْﻮَﺩُ. ويُحكى أنّه دخل الحجاز، وأنشد قصيدته، فشعر بعض أهل الحجاز بذلك العيب، ولم يرغبوا في إحراجه، فطلبوا من قينة أن تتغنّى بهذه اﻷبيات، فلاحظ النابغة العيب، فغيّر الشطر الذي فيه الإقواء: ﺯﻋﻢ ﺍﻟﺒﻮﺍﺭِﺡُ ﺃﻥَّ ﺭﺣﻠﺘَﻨﺎ ﻏﺪًﺍ/ ﻭﺑﺬﺍﻙَ تنعاب ﺍﻟﻐُﺮَﺍﺏِ ﺍﻷَﺳْﻮَﺩِ.(9)
الإقواء: هو تغيّر حركة حرف الروي في القافية. والإقواء لغة: هو الضعف. وبشرح بسيط للإقواء هو أن تستبدل الكسرة بالضمة في آخر حرف من عجز البيت. إلّا أنّ السؤال كيف وقع النابغة في هذا؟ وهو من أهم شعراء العصر الجاهلي ومحكّم سوق عكاظ!
لا نريد إسقاط رؤانا الحالية على نصّ قديم، لكن عُرف الغراب في الثقافة العربية الجاهلية بأنّه طائر البين، كما يذكر الجاحظ. نسب للغراب أنّه المتسبّب بالفرقة والغربة – حتى أنّ الغربة اشتقّت من اسمه- وهجران الأمكنة والأحباب، لربما جاءت من الحالة الواقعية للقبائل العربية المرتحلة خلف المطر والكلأ، فلا يهدأ لها حال، ولا تقرّ كما أهل المدن، الذين لحظوا الإقواء!
هذا الواقع القلق ارتبط بالغراب كونه يقع في ديارهم بعد ظعنهم عنها، فأصبح بذلك مرتبطًا بالبين الذي نسب إليه، كما أصبحت الأطلال مقدّمة لقصائدهم. وهنا، هل لنا أن نستنتج، أنّ النابغة العبقري أراد للإقواء أن يقع في قصيدته، تنبيهًا لما يفعله الفراق، أو ما يفعله الغراب سيد المتنبئين، وقد سمّاه العرب بـــ(حاتم) لأنّ به تحتم الأمور، أي تتأكّد. فقد قال النابغة: “زعم البوارح” والبارح هو كل طير، يزجر، فيتياسر وهو ما يتشاءم منه، وليس ما يتيامن فيتفاءل به ويسمّى السانح. هذا الزعم أو الظن، لن يتأكّد ما لم يجزه الغراب. هكذا نرى أنّ للغراب قدرة تنال حتى من قوافي القصائد التي يحكمها الوزن، فلا تقوم في البيت حركة أو سكون إلّا بمكيال. كان الشعر ديوان العرب، به سجلوا تاريخهم وأيامهم، وكان من عظمته لديهم، إن نبغ شاعر فيهم أقاموا الأفراح. وقد كان الشعر لديهم خلاصة الفكر والبلاغة والحكمة والتجربة، والأهم أنهم رأوا فيه وحيًا من الغيب، لذلك كان يسيئهم أن يأتي مكسور الوزن معتلّ القوافي. وهذه القناعة لم تكن تغيب عن شاعر كالنابغة، لكن لا حيلة تجدي مع عاذلة الأقدار.
ليس النابغة هو الشاعر الوحيد الذي استدعى الغراب كي يعبّر أشدّ تعبير عن القلق الوجودي الذي يرتبه البين عن الأحبة والأماكن. وقد يكون عنترة المنسوب إلى أغربة العرب؛ وهم مجموعة من الشعراء سود البشرة، أكثرهم تجادلًا مع الغراب، والأصح مع نفسه/ عاذلته التي تقمّصت طائر الأقدار. ونستطيع القول عن عنترة: إنّه غراب بشري، فبه كان يحتم النصر، ولكن أباه وقبيلته، لم يروا فيه إلّا ابن (عبدة سوداء). وجاء يوم أغير فيه على قبيلة عبس واستاقوا إبلهم، فقال له أبوه : “كُرّ، يا عنتر فقال : العبدُ لا يحسن الكَرّ، إنّما يحسنُ الحِلاب والصّر, فقال كُرّ، وأنت حُر , فقاتل قتالًا شديدًا، حتى هزم القوم، واستنقذ الإبل” (10).
ارتبط عنترة بليلى، وشكّلا سوية، قصّة حب خالدة، لكن الأيام لم تكن تصفو لعنترة حتى تتعكّر، وكأنّه الغراب الذي يُزجر ليعرف به المستقبل إن تسانح أو تبارح، وفي الوقت نفسه يُلعن لأنّه أخبر بما لا يحبّ الحازي/ الكاهن. يقول عنترة عبر تماه وفصام، بينه وبين الغراب: أُســائِلُهُ عَــن عَــبــلَةٍ فَــأَجــابَــنــي غُــرابٌ بِهِ مــا بــي مِــنَ الهَــيَـمـانِ. ألا يا غُرابَ البَينِ لَو كُنتَ صاحِبي قَــطَــعــنــا بِــلادَ اللَهِ بِــالدَوَرانِ.
وفي رثاء زهير بن مالك العبسي ينشد عنترة: أَلا يا غُرابَ البَينِ في الطَيَرانِ أَعِرني جَناحاً قَد عَدِمتُ بَناني.
ليس عنترة الوحيد الذي نوّع على ثيمة البين التي ارتبطت بالغراب وأعطاها أمداء أخرى، لربما يعود ذلك إلى أسطرة كلّ منهما وتشابههما. فقد قدّم العلّامة المقدسي في فصل: “إشارة الغراب” حوارية؛ أعطى فيها للغراب جلّ الكلام، فأوضح الغراب لماذا ينعب وينعق محذّرًا(11): ” …؛ فكيف تلومني على نُواحي، وتتشاءم بصياحي في مسائي وصباحي، ولو علمت يقينًا أيها اللّاحي ما فيه صلاحك وصلاحي، لاتّشحت بوشاحي… وأجبتني بالنُّواح في سائر النواحي…”. لقد منح المقدسي الغراب حقّ الدفاع عن نفسه، فليس على الرسول إلّا البلاغ. وإذا انتقلنا سريعًا إلى عصرنا الحالي، نجد أنّ ثيمة الغراب قد تغلغلت في الرواية والشعر والقصّ العربي وأغلفة الكتب، حيث نجد العديد منها تحمل في عتبتها العنوانية كلمة: الغراب. ولعلّ الأديب المصري محمد مستجاب هو الوحيد الذي خصّ الغراب بزاوية دائمة في مجلة العربي الكويتية بعنوان: (نبش الغراب). وقد كان للشاعر إيليا أبو ماضي وقفة مع شكوى الغراب الذي استنكر إعجاب الناس بالبلبل. ومن آخر الإصدارات التي استلهمت ثيمة الغراب، كانت رواية اليمني أحمد زين؛ فاكهة الغربان، التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر في دورتها الأخيرة. إنّ دور الغراب في الثقافة والأدب الإنساني هو أن يثير التناقضات والأسئلة ويجعل الإنسان يقف بمواجهة مخاوفه التي تأتيه من كلّ صوب؛ أكانت من الموت أم من الأمراض والفجائع التي تترصّده، ومع ذلك عليه أن يصرخ: Cras/ الغد/ الأمل.
1- الغراب التاريخ الطبيعي والثقافي، تأليف بوريا ساكس-هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث 2010
2- المصدر السابق.
3- ديوان الأساطير، سومر وأكاد وآشور؛ تأليف قاسم الشواف- دار الساقي 1996
4-https://al-akhbar.com/Kalimat/237797
5- الغراب التاريخ الطبيعي والثقافي، تأليف بوريا ساكس-هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث 2010
6- كاليماخوس السيريني: شاعر الأسكندرية، تاليف د. عبد الله حسن المسلمي- منشورات الجامعة الليبية 1973
7- العرب والغصن الذهبي؛ إعادة بناء الأسطورة العربية، ياروسلاف ستيتكيفيتش- المركز الثقافي العربي 2005.
8- الغراب التاريخ الطبيعي والثقافي، تأليف بوريا ساكس-هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث 2010.
9- تاج العروس، المرتضى الزبيدي-طبعة الكويت.
10- مجمع الأمثال، أبو الفضل الميداني النيسابوري- دار المعرفة بيروت.
11- كشف الأسرار في حكم الطيور والأزهار للعلامة عزّالدين بن غانم المقدسي – حقّقه علاء عبد الوهّاب محمد – دار الفضيلة- القاهرة.
باسم سليمان
خاص ضفة ثالثة

https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/civilisation/2021/11/7/%D8%A7%D9%D8%BA%D8%B1%D8%A7%D8%A8-%D8%A3%D8%AF%D9%D8%A7%D8%B1-%D9%D9%D8%AF%D8%B3%D8%A9-%D9%D9%D8%AF%D9%D8%B3%D8%A9-%D9%D9%8A-%D8%A7%D9%D8%AB%D9%D8%A7%D9%D8%A9-%D8%A7%D9%D8%A5%D9%D8%B3%D8%A7%D9%D9%8A%D8%A9 https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/civilisation/2021/11/7/%D8%A7%D9%D8%BA%D8%B1%D8%A7%D8%A8-%D8%A3%D8%AF%D9%D8%A7%D8%B1-%D9%D9%D8%AF%D8%B3%D8%A9-%D9%D9%D8%AF%D9%D8%B3%D8%A9-%D9%D9%8A-%D8%A7%D9%D8%AB%D9%D8%A7%D9%D8%A9-%D8%A7%D9%D8%A5%D9%D8%B3%D8%A7%D9%D9%8A%D8%A9
November 5, 2021
عندما كُتب الشعر على خدود التفاح – مقالي في رصيف22
باسم سليمان الجمعة 5 نوفمبر 202110:30 ص
اشتهرت في الثقافة الإنسانية خمس تفاحات: تفاحة آدم، والتفاحة الذهبية في الإلياذة، وتفاحة بياض الثلج، وتفاحة نيوتن، وتفاحة آبل، لكن لنا في تراثنا التفاحة التي نقش وصوّر وكتب عليها المحبّون والشعراء أجمل الكلام.
لم يكن الشاعر شيلر سبّاقًا في ارتباط الإبداع الشعري لديه بأكل التفاح، كما ذكرت مجلة الهلال، فقد فتن التفاح قبله شعراء ولغويين في التراث العربي. فها هو أبو علي الفارسي يخالف غيره من النحويين إلى أنّ ( تاء التفاح) غير أصلية، وكأنّه أراد أن يجسّد المسمّى بالاسم، فالتفاح طعمه طيب، ورائحته جميلة، ومنظره رواء، فقال: “أخطأ من جعل التاء أصلية فيه. وبابه أن يكون في (ف و ح) فيكون أصله في الفُوح وهي الرائحة الطيبة”.
قال ابن الكتبي: قال بعضهم: مررت يومًا ببعض شوارع القاهرة وقد ظهرت جمالٌ، حمولها (تفاح فتحي) من الشام، فعبقت روائح تلك الحمول، فأكثرت التلفت إليها، وكان أمامي امرأة سائرة، ففطنت لِما دخلني بتلك الرائحة، فأومأت إليّ وقالت: “هذه أنفاس ريّا جلّقا” وما قصدته تلك المرأة من قولها؛ بأنّ هذه الرائحة الطيبة التي فاحت من تفاح الشام. ولم يكن جواب المرأة إلّا من قصيدة للشاعر السلمي الدمشقي الذي هرب من دمشق إلى القاهرة بسبب سلاطة لسانه: يا نسيمًا هبّ مسكًا عبقا/ هذه أنفاس ريّا جلّقا.
وقد ذكر النويري التفاح الشامي الذي يضرب به المثل في الحسن والطيب. وكان يحمل منه إلى الخلفاء كلّ سنة ثلاثون ألف تفاحة. وبذلك أشار الصنوبري: أرى الشامَ جاد بتفاحِه/ لنـا والعـراقُ بـأُتـرُجِّه.
اشتهر التفاح الشامي، وأصبح استعارة يتجاذبها الشعراء. وأنشد صريع الغواني مسلم بن وليد الأنصاري: تُفاحَةٌ شامِيَّةٌ/ مِن كَفِّ ظَبيٍ غَزِلِ
ما خُلِقَت مُذ خُلِقَت/ تِلكَ لِغَيرِ القُبَلِ
كَأَنَّما حُمرَتُها/حُمرَةُ خَدٍّ خَجِلِ.
ومثله فعل ابن المعتز:
تفاحةٌ معضوضةٌ/ كانت رسولَ القُبَل
كأن فيها وَجْنَةً/ تَنقَّبَت بالخجل
تناولَت كفِّي بها/ ناحيةً مِن أملي
لستُ أرَجِّي غيرَ ذا/ يا ليت هذا دامَ لي.
كتب جبران في شعره بالماء: “إنّما الناس سطورٌ كتبت لكن بماء” وكتب الشعراء العرب في التراث العربي أشعارهم على خدود التفاح لطيب رائحته، وبهجة لونه ولطف موقعه في الإهداء إلى الحبيب. وكانوا يكتبون عليه بماء الذهب إشارة إلى الصفرة والنحول من الوجد، أو بالأسود إيذانًا بالنفور والصدّ. ومن الشعراء الذين اشتهروا بأشعارهم عن التفاح والكتابة عليها، كان أبو الجعد المعروف بشعر الزنج. وقد جاء بكتاب فوات الوفيات، بأنّ أبو الجعد كان وقّاد أتون في حمام وحدث أن رأى فتى قد ولّهه، يقلّب تفاحة بيده، ويكاد لا يفارقه التفاح في أوان إثماره، فقال: تفاحة أكرمها ربّها/ يا ليتني كنت تفاحة
تقبل الحبّ ولا تستحي/ من مسكه بالكفّ نفحة
تجري على خديه جوالة/ نفسي إلى شمّك مرتاحة.
فلمّا سمع الفتى ذلك رمى بالتفاحة التي بيده، فكتب له أبو الجعد على تفاحة بماء الذهب: إنّي لأعذركم في طول صدكم/ من راقب الله أبدى بعض ما كتما
لكن صدودكم يؤذي لمن علقت/ به الصباة حتى ترجع الكلما.
فبادله الحبيب تفاحة بتفاحة مكتوب عليها بالمداد الأسود:
تصدّ عنكم صدود المبغضين كلم/ فلا تردوا إلينا بعد بعدها كلما
وما بنا الناس لو أنا نريدكم/ فاصبر فؤادك أو متْ كمدا.
حزنت روح أبي الجعد، وفهم من صدود الفتى أنّه يزدري مهنته، فبدّلها وأصبح حارس بعض بساتين التفاح في بغداد، ومن ثمّ صار يختار أحسن التفاح ويتلطّف بإيصاله إلى التفى الذي شغفه حبًّا. وممّا كتبه على التفاح الأصفر بالأحمر:
تفاحة تخبر عن مهجة/ أذابها الهجر وأضناها
يا بؤسها ماذا بها ويلها/أبعدها الحب وأقصاها.
وكتب بالحبر الأبيض على خدّ التفاح الأحمر:
نبتّ في الأغصان مخلوقةً/ من قلب ذي شوق وأحزان
صفرني سقم الذي لونه/ يخبر عن حالي وأشجاني.
وعلى أخرى كتب:
تفاحةٌ صيغت كذا بدعةً/ صفراء في لون المحبينا
زيّنها ذو كمدٍ مدنف/ بدمعه إذ ظل محزونا.
لم يكن أبو الجعد هو من ابتكر الكتابة على التفاح، ففي كتاب الفلاحة لقسطو بن لوقا( تعريب قسطا بن رومي البعلبكي، مطبعة الوهيبية في مصر)، وفي كتاب الفلاحة لأبي عبد الله محمد بن الحسن، وفي فصل من كتاب سرّ السمّار في ليالي الأثمار في وصف ثمار سائر الأشجار؛ ورد العديد من الطرق للكتابة على التفاح نذكر بعضها: أن يُعمد إلى الشمع فيُداف، وتصنع منه التماثيل والحروف أو النقوش، ومن ثمّ تلصق على التفاحة وهي خضراء قبل احمرارها. أو يميّع الشمع ويكتب به مباشرة على التفاحة قبل نضوجها، فإذا تمت، بقي ما تحت الشمع أصفر والباقي من اللون في جسم التفاحة أحمر. وكان ينقش على التفاح الأحمر بالمداد وهو أخضر ويترك لينضج ومن ثمّ يزال الحبر، فيكون ما تحته أبيض. وفي طريقة أخرى كان يقصّ الورق على شكل الكتابة المراد نقشها على جلد التفاح، ويلصق ويترك حتى تنضج الشمس الثمرة، فينزع الورق، وبالتالي يصبح لون ما تحته مخالفًا للون التفاحة.
لقد كانت الكتابة على التفاح مشهورة، وخاصة عند أصحاب الظرف والعشق. وقد جاء في كتاب الأغاني أنّ محمد بن أمية قد تعشّق جارية اسمها خِداع، أهدت له تفاحة مفلّجة، منقوشة، مطيّبة حسنة، فكتب إليها:
خِداع أهديت لنا خدعةً / تفاحة طيبة النشر
ما زلت أرجوك وأخشى الهوى/ معتصمًا بالله والصبر
حتى أتتني منك في ساعةٍ/ زحزحت الأحزان عن صدري
حشوتها مسكًا ونقشتها/ ونقش كفيك من النحر
سقيًا لها تفاحة أهديت/ لو لم تكن من خدع الدهر.
لم يكتف الأدباء بالكتابة على التفاح، بل ذهبوا إلى التصوير عليه، وقد جاء في الأغاني بأن ابن العميد كانت له مهارة كبيرة في التصوير على التفاح. ويذكر ابن مسكويه: ولقد رأيته، أي ابن العميد، يتناول في مجلسه الذي يخلو فيه إلى ثقاته وأهل أنسه التفاحة وما يجري مجراها، فيعبث بها ساعة ثمّ يدحرجها وعليها صورة وجه قد خطّه بظفره. لو تعمّد لها غيره بالآلات المعدة وفي الأيام الكثيرة ما استوفى دقائقها ولا تأتى له مثلها.
لقد تولّع العرب بالتفاح ورأوا فيه أجمل الهدايا. وجاء في الأغاني بأنّ المأمون غضب على جارية له، فلما طابت نفسه بالغناء وجهت له بتفاحة عنبر مكتوب عليها بالذهب: “ياسيدي: أسلوت؟”.
ومن ذلك، بأنّهم قد كتبوا على تفاحة من عنبر:
ليس شيءٌ يُتهادَى/ مثلَ تفَّاح مُكتَّب
يا مُنَى قلبي ما تَرْ/ ثى لِذي عشقٍ مُعذَّب.
وقد قادهم شغفهم بالتفاح إلى أن يهندسوا نوافير المياه بطريقة تبقى فيها التفاحة معلقة تدور في رشاش الماء المندفع إلى الأعلى:
وفوارةٍ سائلٌ ماؤها/ بتفاحةٍ مثل خدِّ العشيق
كمِنْفَخَةٍ مِن رقيق الزجاج/ تُدارُ بها كرةٌ مِن عقيق.
هذا غيض من فيض عن الكتابة على التفاح، ولو وصلنا ما كتب الجاحظ في كتاب (التفاح) بالإضافة إلى ما خطّه الوشّاء في كتابه الموشى الذي استندت إليه في كتابة هذا المقال، لعرفنا الكثير عن فنون الكتابة على فاكهة التفاح وغيرها من الفواكه.
خاص رصيف22

باسم سليمان
باسم سليمان's Blog
- باسم سليمان's profile
- 24 followers
