باسم سليمان's Blog, page 24
November 3, 2021
October 26, 2021
لمن يحب من الأصدقاء: الببغاء مهرّج الغابة ومخلب الفراشة في معرض الكتاب في مكتبة الأسد دار دلمون الجديدة
October 12, 2021
قالتْ: أظافري أقصّها أهلّة؛ لتحكَ سماءَ ظهرِكَ – نص من ديوان: الببغاء مهرّج الغابة

الحبّ حيوانٌ أليف
ليس قطاً ولا كلباً
لكن له من القطّ النُكران
ومن الكلب الوفاء.
الحبّ حيوان أليف
لا تكسلْ، فلا تأخذه في كلّ صباح ومساء
ليقضي حاجته، لربما قرب سورٍ مليء بأقفال العشق
أو نهر غارق في المفاتيح.
الحبّ حيوان أليف
فرد من العائلة
قد يكون عجوزاً مصاباً بالخرف
أو طفلاً يأكل الأحرف كما يقرض ممحاتَه.
الحبّ حيوان أليف
وأحياناً يكون إلهاً أليفاً.
***
الحبّ خبر
جملة اسمية
يقول النّحّات والفلاسفة والعشّاق: إنّها كاذبة أو صادقة.
في عالم الحيوان
الحبّ يحدث أو لا يحدث
لا وجود فيه للإمكان.
في عالم الحيوان، الحبّ واجبُ الوجود
أنا حيوانٌ في حُبِّكِ.
***
اكرهني ولو قليلاً
الحبّ والكره عاطفتان
فلا تفرِّق بين اﻷخ واﻷخ.
الحبّ يحنّ في أثر خفّ الكره
الكره يقتفي أثر حافر الحبّ.
اكرهني…
قليلٌ من الكره يطيّب رائحة القلب
اكرهني في الحبّ بلا حقد.
***
أنا قِردكِ الصّغير
الذي تنقّين فكره من قمل الاستقامة.
أنا أخطبوطكِ
الذي تعلّمينه العدّ إلى العشرة
على أذرعِه الثمانية.
أنا ديككِ
الذي تشترين له البيض من السوبرماركت
كي تقنعيه أنّ خصيتيه رحم مهاجر.
أنا بغلكِ
الذي حملكِ في سرد الحبّ في زمن الكوليرا[1]
ومع ذلك تقرّح قفاكِ
ودخّنتِ سجائركِ من جمراتها.
أنا طفلكِ
الذي تأخذينه إلى حديقة الحيوان
لكي تخبريه أنّ الحبّ فيه الكثير من البرّية المسجونة.
***
بيننا، صفا ومرْوَة[2]
وسعي عمرٍ
وطفلٌ يركلُ الأرضَ بكعب آخيل [3]
بيننا، سَمِعَ اللهُ
إذْ هاجر[4]
تعدّ الذبيح.
****
أكسرُ الحجرَ الأسودَ كجوزة النثر
وفي طاسةِ[5] القلبِ، أشعلُ بُخور الخشية
وأطوف حول كعبة الحزن إلّا أنّي لا أفيض.
أنا لاعب الأقداح
منذ تطهّر سهمي من الرّيش
أقسِّم الجزور بين فقراء الحبّ
وأمضي كعبد المطلب
قائلاً: للقلب ربّة تحميه.
***
كسنجاب تخبئين نهدكِ
لشتائي
والحبّ تأخذه سِنَةٌ ونوم
لم تشفع لي الأحلامُ
فصرتُ شجرةَ جوز.
***
إذ قلتِ: أحبُّكَ
قلتُ: بعض الحبِّ أجمل
إذ قلتِ: أكرهُكَ
قلتُ: بعض الكره أجمل.
2/5/2015
[1] – الحب في زمن الكوليرا: رواية لـــــغابرييل غارسيا ماركيز.
[2] – الصفا والمروة مكانان سعت بينهما هاجر بحثا عن الماء لابنها اسماعيل.
[3] – كعب آخيل: أحد الأبطال الأسطوريين في الميثولوجيا الإغريقية وكعب آخيل مصطلح يشير إلى نقطة ضعف مميتة على الرغم من كل القوة التي يمتلكها الشخص.
[4] – هاجر:شخصية توراتية ، وهي امرأة مكرمة في الإسلام، فهي والدة النبي اسماعيل .
[5] – صحن من النحاس أو الألمنيوم.
October 11, 2021
الجزء الخامس من فصل ” القلفة” من روايتي نوكيا

…..
…………..
إذا سافرتُ فلدي مهنةٌ. ماذا تفعل تلك الساعات التدريسية التي تُوزّع علينا خلال الفصل الدراسي! أيكمن دورها بأن نشتري بها لقب أستاذ -يا سيدي- ليس من أستاذ وليس من من جنّة في تلك الساعات! إنها مجرد هراء، أربع سنوات مرّت منذ تخرجنا من تلك الجامعات، وكل عام يمرّ، أشعر به أنّي أزدادُ تفاهةً.ودّعني، ومضى باتجاه الكنيسة، سينتظرها حتى تخرج من الصلاة، تدفّق المصلّون -كانوا قلّة- من باب الكنيسة، كانت هي آخر من خرج. نظر إليها، وفكّر كيف سيضاجع أنثى تصوم أكثر من مئتي يومٍ في السنة؟ بالإضافة إلى أيام الصوم المفروضة.
مدّ يده وسلّم عليها: كيفك؟
– لا بأس.
– أأستطيع أن أدعوك إلى فنجان قهوة؟
فكرتْ قليلاً، نظرت إلى موبايلها، وأجرتْ اتصالاً: ماما، أنا ذاهبة مع داني إلى قهوة المنشية، ماما لن أتأخر.
أوقفَ داني سيارة أجرة وضعتهما أمام الباب. دخلا، اختارا طاولة هادئة، في مكان ما من القهوة كان صوت فيروز ينداح، لكنّه يغيب أحياناً في الضجة المنبعثة من الزبائن والشارع، جلسا لنصف ساعة، لم يتفوها بالكثير من الكلمات، فقد كان يشعر بعد كل صلاة، أن هذه الفتاة تصبح سماوية أكثر، يهمس لنفسه: إنّني أنافس عريساً سماوياً.
يستأذنها بأن يغادرا، قبل أن تعلن تأخر الوقت، يعرض عليها أن يقلّها إلى البيت، فتصمتْ، يوقف سيارة أجرة، ويركبا، يجري مكالمةً: ألو باسم، أين أنت؟ حسناً، عشر دقائق، وسأكون عندك، باي.
تتوقف السيارة، تنزل ماريا، يكلّم داني السائق: المشروع السادس لو سمحتْ.
يجلد شهر آب الناس بشمسه التي تبخّر حتى أحلام البرودة في القبور المظللة بالسنديان، يقرع على الباب، تفتح أمّ باسم، يدخل داني.
كيف حالك يا خالة؟كيف حالك يا أستاذ؟أهلين، كيف الأهل، تعال واجلس قليلاً.**** **** ****
أنفخ متبرماً، من جلوس داني مع أبي في الصالون الذي تحرك الهواء فيه مروحة في السقف، يسأل أبي داني بعض الأسئلة الاعتيادية، يجيب داني بضبابية، أوقف المحادثة السخيفة، وأدعو داني إلى غرفتي، يستأذن داني من أبي الذي يعود إلى متابعة قناة المنار التي تعرض “سكيتش” عن المقاومة وهي تدكّ تحصينات العدو. وما أن ندخل غرفتي يزمج داني:
يلعن ربّها يا رجل، أنا عاشق لراهبة، ألا يوجد واحدة بجرأة حواء؟ يا أخي، سأقطع علاقتي بها.
أدخل “CD كيفك أنت” لفيروز (تلحيم[1]) ابنها زياد في سوّاقة الكومبيوتر ونبدأ بالاستماع( كيفك أنت ملّا أنت): لماذا لم تكلّمها بالفصحى؟
******** *****
لم يكن حال محمود الأُسري جيداً، لم يستطع أن يغفر لأبيه زواجه بعد وفاة أمّه، رغم أنّه كان صغيراً جداً ليتذكرها كهوية محددة، لكنّه كثيراً ما تكلّم عن رائحتها، كان يقول: رائحة الأم كالبصمة مهما كبرت لن تتغير.
للحقيقة؛ أعرف جيداً زوجة أبيه، كانت عطوفة عليه، ومحمود يشهد بذلك، لم يفسّر أو يسعَ لحل هذا الموضوع أبداً، كان يتجنب الحديث عنه. تباعدنا قليلاً عن بعضنا البعض خلال دراستي الجامعية، أنا وداني ، لكن سرعان ما عدنا -كما كنّا- “الفرسان الثلاثة”، بالتأكيد لن يكون هناك من رابع، فالصداقة الحقيقة هي نتاج علاقات الطفولة، وليس صنيعة الزمن، فالصديق صديق الطفولة، وما عدا ذلك سيكون صديق مصالح وتوافقات، ومن لم يَبُل أمامك مُطلقاً بوله إلى أبعد مسافة لينافسك، ليس صديقاً.
استطاع محمود أن يؤسس وجوداً، استأجر غرفة في منطقة الفقاسة كانتْ ملجأً لنا، وغرفةً من بيت المستقبل كما فسّر لنا.
فِكرُهُ عمليّ، لم يكن يحبذ نقاشاتنا العقيمة، وفرح كثيراً عندما علم أن داني يعمل مع سركيس في ورشة الدهان. كنتُ عندما أريد أن أغيظ داني بشيء ما، أهمس له: إنه الخشب، أنت لم تبتعد، إلى الخشبة مصيرك كمسيحك، وقبل أن يلتفتَ إليّ، أسبقه، وأقاطعه: أعرف أعرف، ما الذي أعرفه!؟
الحقيقة لم يكن داني على خطأ، أشعر أنني رجل من كلام، لا أجد نفسي إلّا في تلك النقاشات والأفكار التي يحتملني داني عندما أسردها عليه، سألته مرة:
هل حقاً تتابعني في كل ما أقول ؟
لم يمهل محمود داني ليجيب، بل بادر وقال:
أذن من طين وأذن من عجين! والله يا (أبو الدن) لستَ بقليل.
صمتَ داني وأفرغ البقية الموجودة من البيرة في جوفه.
(الزبون على حق) حكمة محمود الخالدة التي كانتْ تظهر في كل تصرفاته. يملك صبراً لا ينتهي، خاصة مع النساء، يترك الزبونة تسترسل في رؤية وتقليب البضاعة وهو يرمي بالوقت نفسه كلمات الاستحسان. إنّه كصياد السمك، يرسل خيطه حتى تتعب السمكة من المقاومة، وعند ذلك يشدّها بقوة، فتنهار مقاومتها نهائياً. كما يقال: (ابن سوق)، يعرف من أين تؤكل الكتف! يقترب مني، يستلّ سيجارة من علبتي، ويتكلم، وبين شفتيه السيجارة المشتعلة:
يا رجل حيّرتنا! ألم تجد رقبة لتأكلها؟
[1]– المقصود بها : تلحين.
October 10, 2021
الجزء الرابع من فصل ” القلفة” من روايتي نوكيا

كان داني وحيد والديه، مع أختين؛ تكبره واحدة، وتصغره أخرى، لقد تزوجتا، أخته الكبيرة جعلته خالاً منذ ثلاث سنوات، والصغيرة يبدو أنّ لديها انتفاخاً في بطنها كان يُفترض أن يكون منّي، لكن كنّا كبيرين كفاية لنتفادى معمعة الزواج من دين مختلف.
عندما قالتْ لي: (إنّ هناك عريساً محتملاً)، لم أستطع تحديد مشاعري بالضبط! لربما شعرتُ بالارتياح، وحتى هي لم يبدُ عليها الانزعاج، صمتنا لثوان معدودة، ومن ثمّ دفعتُ ثمن فنجاني قهوةٍ، وغادرنا الطاولة التي اعتدنا الجلوس عليها، وداعًا للقبل الخاطفة واللمسات العابرة.
داني ينتظر مسابقة التوظيف مثلي، يقضي جلّ وقته في تعلّم اللغة الفرنسية، يبحث عن أجانب عبر الماسنجر، ويجري معهم محادثة ليتقن اللغة أكثر. أحياناً يسأل بماذا أفكر، كلما مررنا من الميناء حيث يبيعون السمك، فأجيب:
ببساطة، أن أكون صياد سمك، ليس كمسيحك! أشعر أن لي زعنفة لا قدمين، سأعكس الأسطورة، سأبحث عن شيخ يبحث عن انتعاظٍ لعضوه، سأعطيه صوتي وقدميّ وعضوي على أن يعطيني تعويذة تمنحني زعنفة بدلًا من تلك الساقين، سأعكس نظرية داروين، أليس الإنسان هو رأس الهرم التطوري؟! لقد حان وقت الهبوط، وسأختار الرتبة بمحض إرادتي.
– لكنك تحتاج لأن تغرم بحورية حتى تكتمل الأسطورة.
– ليس من ضرر أن أتصرّف بالقصة كما أرغب، وأنت تعرف، لقد بدّل المنتصِر بالتاريخ كما يريد، وكمتلقٍ يحق لي عندما أقصّ على نفسي الحكاية أن أقدّم وأؤخر وأحذف.
********* ******
نادراً ما يذهب داني إلى الكنيسة، ولربما السبب يكمن في أنه لم يستطع أن يفهم معنى تضحية المسيح، فإنْ كان عليه أنْ يفتدي البشرية بهذه التضحية، فلماذا أجّلها إلى ما بعد الموت لنحصل على النتائج؟ ما هي الصفقة التي عقدها مع الشيطان عندما قال له: “لا تجرب الرب إلهك![1]” الأمر واضح، فقد قال للشيطان: جرّب الإنسان، فهو ساحة لمعركتنا.
الحرارة مرتفعة في ليالي الصيف في طرطوس، تبدو المراوح عاجزة كسارق ليس على يساره من مسيحٍ. الساعة الثانية صباحًا كان داني يتقلّب في فراشه ويفكر: لربما لدى رغدة مكيّف، وتتمتع الآن بالنوم هانئة في أحضان مَن سيضع لها تحت وسادتها ما يعادل أول راتب لي-إنْ توظفت- قبل الحسومات. في دولة غربية، نسيت اسمها، هناك صندوق تقاعد للمومسات، هل تخبّئ رغدة قرشها الأسود ليومها الأبيض؟
تحسّس داني صدره، ثمّ أطفأ السيجارة التي مجّ عقبها حتى النهاية بجانب حرف الشباك من الخارج والذي يراقبه من الشارع كلما غادر صباحًا. يرفع رأسه، وينظر ليجد تلك البقعة السوداء من أثر انطفاء السجائر، تتوسع رويدًا رويدًا في الدهان الأبيض.
يقول داني: عندما أُصابُ بالسرطان سأحتاج إلى معجزةٍ، وقدّيسين مختصين بتلك المعجزات التي تترك دومًا إشارة استفهام خلفها، كمشلول قام، ومشى، وترك كرسيه المدولب الذي تبرعت به إحدى الجمعيات الخيرية لمشلول لم ينفعه اللقاح الذي تعدّه الأمم المتحدة، لكنّني لم أرَ رجلاً كــــ(جون سيلفر) في جزيرة الكنز قد نمتْ ساقه كذنب ضبٍّ بعدما قُطعتْ بمعجزةٍ إلّا في فيلم (xmen). حتماً إنّ أصحاب الأرجل المقطوعة لا تنفع معهم معجزات تترك علامات استفهام، (ها نحن ذا على دروب كنزنا….).
يُغلق الضوء، وفي الظلمة يتمتم: (ربنا لتكن مشيئتك كما في السماء…، ونجنا من الشرير).
********* *****
يرنّ منبه موبايله بأغنية، (عايشة وحدا بلاك)، وتتكرّر الأغنية حتى يملّ النائم قبل المستيقظ، فتدخل أمّه: داني ما هذه العادة، كل صباح نفس القصة!
يستيقظ داني، يسرع في ارتداء ملابسه، لا يعير كلام أمّه عن الفطور أدنى اهتمام، ويخرج مسرعًا، ليقطع شارع الثورة، يركب السرفيس، يهمس لنفسه: لقد تأخرتُ!
عندما وصل إلى عمله، قال له المعلم سركيس ومن دون مقدمات: امسكْ ورق الحفّ، وابدأ بهذا الباب الذي على يمينك.
تنبّه إلى أنّه لم يُحضر ثياباً باليةً للعمل، لكنّه بدأ بالحفّ، ومن ثمّ تصاعد الغبار في فضاء المكان. هذا الغبار يشبه نظيره المتصاعد من كتب التاريخ عندما ينفّضها التأويل، وعلم التاريخ المقارن. يتأمل الباب الذي من خشب (السوّاد[2]) ويسأل نفسه: إذن، مما يتألّف باب العالم الآخر! هل هو فقط هذه الحفرة أم تلك الغرفة التي يمدد فيها الميت انتظاراً لقيامته؟ متى تحدث القيامة؟ ليس في اليوم الثالث، إذن متى!؟
يؤنبه صوت المعلم سركيس: حفْ من الأعلى إلى الأسفل، وليس في مكان واحد فقط. يا رجل، الحفّ لا يحتاج إلى جامعة!
بعد وقت قصير يناديه المعلم سركيس لتناول كأس من الشاي. يشعل داني سيجارة، وينفخ دخانها، فتلعب به الريح الحارّة. اختصر سركيس الطريق وبدأ العمل منذ أن طرّ شاربه، فهو متزوج منذ سنين، وأكبر منه سناً، يزيده بعامين على أقل تقدير، ويملك مالاً في جيبه من عرق جبينه. مسح داني بقماشة قميصه جبهته المتعرّقة، فتركتْ بقعاً بنيةً عليه، نظر سركيس إلى القميص: إنّه لون الحياة.
مضى الوقت بطيئاً، وتبدلتْ الأبواب. كان العمل اليوم، أن يكون الحفّ بالورق الخشن، غداً بالناعم، وبعده بالأنعم، على عكس الحياة التي تبدأ بالأنعم وصولاً إلى الأخشن… يقاطعه سركيس تداعيات أفكاره: غداً، تعال باكراً، يا دلوع أمّك.
يعود للبيت، يأكل كبغلٍ، يستحم، ويغرق في النوم. ********* *****
[1] – جملة من الأنجيل
[2] – نوع من الخشب يستخدم في النجارة
October 9, 2021
الجزء الثالث من فصل” القلفة من روايتي نوكيا الصادرة عن دار سين 2019 والمتواجدة في معرض الرياض 2021 يتبع…

يحلم داني بالهجرة، فقد أودع أوراق طلب الهجرة في السفارة الكندية، لقد مضى عليها سنة كاملة. أمّا أنا، فلا أعرف رغبة بالهجرة كداني، وليس لي تجذّر كمحمود.
اشتريت جريدة، كان في الصفحة الأخيرة منها، خبر عن (أنجلينا جولي) و(براد بيت) وولد جديد يدخل حظيرة التبنّي، أنظر بشغف إلى أنجلينا، وأتذكر فيلماً لها مع (أنطونيو بانديراس)، وأفكر كيف احتمل أن تكون عارية بين أحضانه، لاريب أنّه خدّر عضوه. إنّ هذه الحياة تحتاج لمخدر دائم.
أصعد درج البناية؛ بيتنا في الطابق الرابع، رائحة الطعام تعبق في أجواء البيت، أبي على الشرفة مع أبي سعيد، ألقي السلام، يسألني العم أبو سعيد عن أخبار المسابقات التي سنوظّف بموجبها، أضحك:
من الواضح أنّهم لا يريدون زنادقة في مدارسنا، أليس كل من تفلسف تزندق!
يستغرب العم أبو سعيد من ردي، و يهمهم أبي!
أستأذن منهما، وأدخل غرفتي التي أشغلها مع أخي الذي يتم خدمته العسكرية، فأشمّ رائحة الحذاء العسكري، وكأنّني خلعته منذ لحظات بعد ساعة من الرياضة، لتقوية الحبال الصوتية وأنا أزمجر؛ أمة عربية واحدة –مجزأة إلى الأبد هذه الأمة!- إلى أن يضيع صوتي في ضجيج الأصوات المنادية بالوحدة على الإسفلت السائح من حرارة الشمس، في حين أن عميدنا قد وضع مظلّة لسيارته المرسيدس التي استلمها أخيراً بعد أن ترفّع لعميد بحكم الزمن، فمنذ فترة طويلة صارتْ الرتب يمنحها الزمن لا البطولات!
أضغط زرّ الـــ (power)، يصفر الكومبيوتر، أجلس، وأنتظر ريثما يدور محرك (الزيل[1])، تظهر كلمة مرحباً على الشاشة فأرد: أهلاً، مخاطباً نظام (الويندوز): يا سيد مكاوي[2] كل ما في هذا الكومبيوتر يتكلّم بلغة الثنائيات، ليس مهماً الإخراج الأخير الذي يكون باللغة العربية، تلك اللغة التي نظن أن أرضنا من المحيط إلى الخليج تتكلمها!
أجري اتصالاً بالإنترنت، يفرقع صوت الــ(dialup) ويتم التأكد من اسم المستخدم وكلمة السر، ثم تنفرج الشاشة عن صفحة كبير المحركات (Google)، أفتح (Hotmail)، لربما لمياء قد تركت رسالة ما.
أهمس لنفسي: ثلاث رسائل في علبة الوارد.
أشعل سيجارة بينما تتوضّح نافذة الإيميل، رويداً رويداً، آه، لو كان حقيقياً انتسابي إلى فرنسا، كما هنا في حسابي على الماسنجر، عندما أنشأت حسابي للمرة الأولى، بحثت عن اسم بلدي (Syria)، ووضعته، لم تمض فترة طويلة حتى حُجبت خدمة الماسنجر، سواء أكانت وزارة الاتصال خلف ذلك أم الــ(USA) أم أي سلطة أخرى، لا يهم ذلك! ففي النهاية السلطة لمن يملك المخدّمات، لكن، شكراً لعملية الحجب، فقد أصبحتُ فرنسياً دون هجرة يا داني!
أنشأتُ حسابي الثاني باسم (جاك) كما في (قصة مدينتين[3]) لأتفادى حجب خدمة الماسنجر في هذا العالم الافتراضي كما يقول مجمع اللغة العربية. أيها الفارس العظيم يوسف العظمة، هل عرفت الحال الذي آلت إليه ابنتك؟! ليلى في العراق (فايتة بالحيط[4])، مكسور الوزن، عذراً يا جن عبقر، رسائل في صندوق الوارد، (مهمد موهامبو) يطلب مني أن أبعث له بمعلومات عن وضعي ورقم حسابي ليهرّب تلك الأموال التي ستأخذها الحكومة، أسف، لا أملك حساباً في البنك، ولا حساب حسنات وسيئات كمحمود. أقرأ رسالة ثانية بعنوان “بلغ عني ولو آية”، أضع إشارة (صح ) على الرسائل، وأضغط على كلمة (حذف)، تناديني أمي، أطفئ الكومبيوتر، ومن ثمّ أذهب لتناول الطعام.
******** *****
يرنّ موبايلي رنتين، بموسيقى (أبو علي) للمعلم زياد الرحباني، أفتح الماسنجر عن طريق موبايلي ببرنامج ([5]ebuddy)، كلمات لمياء تتابع مع نغمة تسجيل الدخول، تشعرني فيها بشوقها لي: حبيبي، عمري، روح لمياء، كنت في الحمام.
أقاطعُ دفق الرسائل التي وصلت وأنا أنتظر تسجيل الدخول، وأكتب: حبيبتي على الــ(كي بورد) الموبايل، اشتقتُ لك، نعيماً، أين أنت؟
ترد: أنا في غرفتي، لا أحد في البيت.
أكتب: حلو، أشتهيك، تصوّريني الآن جانبك، أنزع ثيابك عنك و….
تتابع الكلمات متناوبة بيني وبينها، وعندما تحين لحظة الحسم، تتصل بي لأسمعها آهاتي، وتسمعني آهاتها.
تنحصر آهاتنا خلال دقيقة واحدة، حذراً من نفاد رصيدنا في الموبايل، عيوننا على عداد الثواني، وقبل أن تكتمل الدقيقة تقطع لمياء الاتصال. أبقى وحيداً مع سائلي المنوي على محارم (ميموزا)، أشعل سيجارة، ويذبل عضوي، ليعود دودة صغيرة يحتضنها كيلوتي الأسود الذي به أقصيتُ أمي عن شراء ملابسي الداخلية، فقد أرادتْها بيضاء، وكأنّي مازلتُ ذلك الطفل الذي لديه حمامة، وليس غضنفراً كما قالت لمياء بعد أن بعثت لها صورة عضوي منتصباً كإنسان.
أعيد فتح برنامج الــ ebuddy، أتابع الدردشة مع لمياء، نتبادل كلمات مثل: جنون، معجزة…
أتكلّم عن اللقاء الفعلي، فتراوغ كعادتها، وننهي المحادثة بخصام مفتعل، صرنا نعرف أبعاده.
*****
أتساءل بيني وبين نفسي عن ماذا سيكون شكل ابني في المستقبل؟ هل سيشبه موبايل نوكيا، ويعلن وجوده على يد الطبيب الذي سيشق بطن لمياء، فأنا أرغب بأن تكون ولادته من خلال (عملية قيصرية)، ليس لكي يصبح ابني قيصراً ويحرق روما / بيتي، بل لأنّني لا أريد له أنْ يوسع فرج أمّه، ويصبح عضوي كرايةٍ ترفرف في الهواء عندما ألج لمياء، فليخرج من شقّ في بطنها هذا أفضل له، فالخروج من نفس الطريق الذي رُشِق فيه منذ البداية بسهم من الحيوانات المنوية سيكون سيئاً لنفسيته.
إنّ صراع الحيوانات المنوية، لكي يفوز أحدها بالبيضة، فيخصبها، يؤكّد مقولة البقاء للأقوى، وما تسابقها في مارثون النكاح، إلا ليظفر أحدها بإكليل الغار اليوناني، ويندسّ في صومعة تلك البويضة، وهذا هو قانونَ السافانا الإفريقي، قانون الغابة، وما خروجه من شقٍ في بطنها إلّا قطيعة مع البدائية البشرية، ودخول في عصر الإنسان، لكنّ قيصر ليس إلّا شذوذاً عن القاعدة، آه، هناك الكثير من قيصر، لا يهم هذا ما قررته.
سيمسكه الطبيب من قدميه، وسيصدر كأي طفل لحن نوكيا المعتمد من قبل الشركة، وسيكون له أوضاع متعددة؛ من الصامت إلى الهزّاز، فالصائت. أشعر أن شركة نوكيا بكل أفرادها ضاجعوا لمياء، ونسبوا هذا الولد لي، ستسعى لمياء جاهدة لتأمين حفاظاته من أحدث قوالب النوكيا، وستضعه في بيت جلدي، وتزيّنه بأحجاراً كريمة، وبين فترة وأخرى سأعيد برمجته من جديد بــــــ(ضبط المصنع)، ولا تعنيني التحذيرات التي تقول بأنّ الأسماء والرسائل ستضيع، هكذا سأحافظ عليه نقياً. تضحكني فكرة النقاء، هل أشبه الآن صديقي؛ المدرّس المنتسب لحزب البعث العربي الاشتراكي الذي مازال يعتقد بأنّ الكلام والنقد ليس مسموح به إلّا في الاجتماعات الحزبية، وليس في مكان آخر! لا أعرف كيف يقيم التوازن بين كتبه العتيقة التي أُعدّتْ لزمن البخاري وزمننا الليزيري هذا! إنّ الأحزاب تكون سماوية في طورها السلبي، وتصبح أرضيّة براغماتية عندما تستلم السلطة.
كثيراً ما كنت أردّ عليه: نحن محكومون بالحلم، الحلم هو جوهر التوازن، وأنا أحلم بأن أكون سمكة، قلْ لي، كيف سيكون شكل الحزب الذي تقوده سمكة تقضي عمرها في الحذر من شصّ، وعندما يهتز قليلاً تفتح فمها و…
أطفئ سيجارتي في رحم المحارم الورقية، حيث حيواناتي المنوية كالشراغف[6].
[1]– سيارة عسكرية لنقل الجنود وقطر مدفعية الميدان.
[2]– مغني مصري له أغنية تقول: الأرض بتتكلم عربي.
[3]– (قصة مدينتين (بالإنجليزية: A Tale of Two Cities) هي الرواية التاريخية الثانية للكاتب تشارلز ديكنز.
[4]– مصطلح عامي يعني: طائش وعلى غير هدى.
[5]– برنامج محادثة على الموبايل.
[6]– صغار الضفادع.
October 8, 2021
الجزء الثاني من فصل “القلفة” من روايتي نوكيا … يتبع

إنّه اليوم الثاني بعد امتحانات البكالوريا، ثلاثتنا ندرس الفرع الأدبي، اختصاص الفاشلين، فلا حاجة للفلسفة أو التاريخ أو الأدب، فقد شبعنا منهم في ماضينا، نحن في زمن الاختصاص الذي ينتج نقوداً، كأنّه مشروع رأسمالي وبالضرورة ليس اشتراكياً، بالإضافة إلى ذلك، لسنا في زمن العمال والفلاحين، الذين تقودهم طليعة ثورية قد ولّى زمنها.
إنّنا من الفئة التي لا تجيد لغة العصر المتمثلة بالرياضيات والفيزياء والكيمياء والعلوم، مع أنّ اللغة التي بنتْ عليها أوروبا حضارتها كانت الآداب والفلسفة، لكنّهم تناسوا أنّ فرعنا الأدبي هو من أعطى للفرع العلمي تلك السيادة.
محمود: أين سرحت بأفكارك؟
– البكالوريا يا رجل، أمامنا حلّان ليسا متوفّرين؛ الوظيفة أو السفر.
– يقولون(الفلسفة أمّ العلوم)، لكنّ أمّنا تزوجتْ البراغماتية، ومن يتزوج أمّنا يصبح عمّنا، والآداب أخلاق الشعوب لا الدول، ونحن نعيش في زمن الدول، لقد درسنا كتباً لا جدوى منها، قفا نبكِ من مستقبل…
****** ****** ******
كنّا نضحك عندما دخلنا مطعماً صاحبه زميل لنا، كان قد ورث العمل فيه بعد موت أبيه، استقبلنا بودٍّ وقُبلٍ على الخدود و الأكتاف:
فرسان البكالوريا بماذا تأمرون؟
أنا: مسبّحة[1] البحر المتوسط.
محمود: واصنع المسبحة كقصيدة نثر.
داني: صحن فول.
أخرجتُ علبة الحمراء الطويلة، لم يحتج الشباب دعوة، كلّ منهم أخذ سيجارة، وعلتْ فوقنا سحابةُ: (صنع في سوريا).
بانتظار المسبّحة والفول كانت عيوننا على الشارع، نراقب الصبايا العابرات.
***** ***** ******
تجشأ داني، وفاحتْ رائحة البصل، ومعها تداعتْ ذكريات قديمة جداً، قطعتُ الطريق على داني وبعين تلسكوبية عادتْ في ضوء الماضي حوالي خمس عشرة سنة، جذبتُه من جانب محمود، وألصقته بالحائط، وهمستُ له:
الأخ، لا يكذب على أخيه، أتعبتنا بالنقاش عن عضوك ذي القلفة، لكنّني تذكرت أن عضوك ليس بأقلف!؟
دفعني داني، وانتحى إلى جانب محمود المستغرب من كلينا، وأخذ يضحك: الواقع بما يجب أن يكون ليس بما هو كائن، والقصة قصة مبدأ!
أزمجر وأصرخ: سأعريك هنا، وأجعلك فرجة كقرد السيرك، المبدأ الوحيد الذي أعرفه هو الحقيقة.
تدخّل محمود بيننا، وهو يظنّ أن خطباً ما قد حصل: يا شباب، عيب عليكما، ليست الصداقة هكذا.
أجبتُ محمود بينما داني يضحك، وأنا مثله تقريباً:
هذا الكذّاب ليس له جلدة، وليس من سرج تركبه الأنثى. لقد تذكرتُ، كثيراً ما تنادرتْ عليه أمّه وأمّي، وهما يشربان القهوة، لأن داني فقَدَ جلدته عندما كان عمره سنتين ونصف، فقد التهب عضوه العظيم، ولم يكن هناك من حلٍّ سوى تطهيره، لكنّ المخبول لم يستوعب ما حدث له، ولم يعد قادراً على التبول بعدها، ومضتْ ساعات طوال وأهله كالمجانين، فلم تنفع كل الوسائل لإقناع هذا التيس بالتبول، حتى فكّر الطبيب بتخديره، لكنّ أمه وأمي فكرتا أنّه لو شاهد عضوي ربما يقتنع أن ما حدث له ليس غريباً، فأحضروني وأروه عضوي الذي يشبه الخنجر دون غمده السخيف، وعندها بوّل المصون على السجادة، ولم تعاقبه أمه بأي كفّ على قفاه، بل ضمّته إلى صدرها؛ أتمنى لو نال ما يستحق من الضرب!
ضحك محمود: الآن أنتما شقيقان بالأعضاء.
ردّ داني: شقيقان بالبول.
قلتُ: بل الكل للواحد، والواحد للكل.
صمتنا بعدها، فهذه المقولة لا تصلح مع الأعضاء الذكورية.
******* ******
عندما تخلع المدينة ثيابها لا تعود إليها أبداً. طرطوس تتغيّر، تتوسّع، تتضخّم حتى كورنيشها قد قضم قضمة طويلة من شطّها، ومدّ لسانه محاولاً أن يتذوق جزيرة أرواد. أستغرب من نفسي، وأنا أتكلّم عن التغيير المكاني، فنادراً ما سمعتُ عن الذين عناهم، هكذا أمر، بأنّهم ينتمون إلى جيلينا. فقط كبار السنّ الذين جلسوا على الطاولات، يرمون نردهم لعلّهم يقبضون على حظٍ فاتهم، أو ينفثون دخانهم ضجراً من التقدّم في العمر، من يكترثون لذلك.
تنقسم حياة الإنسان قسمين، الأول للحفظ، والثاني لتذكر ما حفظه، كأنّه بذلك يريد أن يثبت لنفسه أنّه كان موجوداً هنا.
أبي الذي تقاعد من عمله، كثيراً ما قال لي: الرجل باستقلاله ومن لم يفخر بشبابه ليس من فخر له، فأردّ: تلك مقولة قديمة لم تعد تنفع في عصرنا. كان الولد في زمنك يُعطى ماله، ويُزوج عندما يحتلم، أمّا في زمني، فقد مضى على احتلامي خمس عشرة سنة، لم أجد المال ولا..!
خرجتُ من شرودي عندما وصل داني ومحمود قائلَين: تأخرنا عليك.
– ماذا تشربان؟
– نرجيلة وشاي.
مضتْ سنوات الجامعة سريعاً، أنا درستُ الفلسفة، وداني درس التاريخ، ومحمود اختصر… أنهى خدمته العسكرية الإلزامية، وبدأ عمله ببسطة ثياب، والآن لديه كشك يبيع الثياب فيه.
يقترب الجرسون يضع كؤوس الماء الساخن مع ظروف شاي ليبتون بالعلامة الصفراء، ويلحقه معلّم النرجيلة بلباسه العربي، ويجهز (النَفسَين) ثم يناول كل من محمود وداني خرطوماً لكل منهما، بعد أن يوجه (المَبْسَم) نحو بطنه بحركة تستشعر منها مغزًى جنسياً، طالما أنّ الأمر لو وُجِّه للزبون، يحمل هذا المعنى!؟
لا شيء يبقى على معناه الحقيقي، فالأنسنة تُغيّر، تُبدّل المعنى الاستعمالي إلى معنى يتجاوزه، وكثيراً ما يفقده دوره السابق، فقد كانت النرجيلة تهدف إلى إخفاء قرقعة معدة الأمير وإطلاقه لغازاته، أمّا الآن؛ فلها ما شاءت من التأويل ومن الدلالات.
يسحب محمود نفساً عميقاً، وينفخ الدخان في اتجاهي.
محمود: أعوذ بالله يا رجل، ماذا تقول؟
داني: لقد دبّ فيه الإيمان – يسخر داني- تخاف على رزقك ! لا تقلق، فالأرزاق مقسّمة، ولن تهرب إلى أيّ مكان!؟ لكنّك ستُسأل عن استخلافك فيها، لذلك عليك بالفاتورة، فأنا وباسم من المساكين، ولنا في مال الأغنياء حقّ.
كنتُ شارداً على ما يبدو، لم أعرف ما الذي جعل داني يتكلّم هكذا، لا ريب أنّها النرجيلة.
محمود: الفاتورة سأدفعها، أحتاجُ لرصيد من الحسنات يوازي سيئات التلصص.
قلتُ: جرسون، اجلبْ (طاولة الزهر[2])، والآن سأفقعك يامحمود هزيمة في (المغربية[3]) أخرجها من قفا رأسك.
بينما كان الجرسون يحضر طاولة الزهر، كانت سماء طاولتنا تعبق بالدخان، كأنّ الرب سيتجلّى لنا هنا، وليس على طور (سينين)، سيناء،…، هل كان الفرق بين (سينين) ووشبه جزيرة سيناء، ضرورات التصحيف أو اختلاف الأماكن ووحدة الأسماء؟
داني هو دانيال، اسم يتجذر في الأسطورة، ومحمود هو أحمد، أحد غصون شجرة الاشتقاق، أمّا اسمي فيبدو غريباً ويدعو للسخرية، اسم فاعل من مصدر الابتسام، ماذا يعني سوى تهكمٍ حزينٍ!
يضع الجرسون طاولة الزهر، فيما الصمت يجلس معنا، أفتحها بحركة عصبية، يتناول محمود حجارته البيضاء، أتمُ ترتيب حجارتي السوداء، وأترك أربعة أحجار بيدي على عدد أحرف اسمي، وأرمي نردي، فيأتي وجهه (يك[4])، يرمي محمود، فيكون وجه النرد(جهار[5])، فيبتسم ! يرن موبايل داني…(من كتر ما ناديتك وسع المدى)، رفضَ المكالمة، وقال: الذي يخسر، أحلّ محلّه.
دفع محمود الفاتورة وغادرنا، تركْنا داني في حيّ الحمرات، وتابعنا سيرنا ليتركني محمود بعدها.
[1]المسبّحة: أكلة مصنوعة من الحمص
[2]-لعبة من العاب طاولة الزهر
[3]أحد أسماء لعب طاولة الزهر
[4]– واحد.
[5]– أربعة.
الجزء الثاني من روايتي نوكيا … يتبع

إنّه اليوم الثاني بعد امتحانات البكالوريا، ثلاثتنا ندرس الفرع الأدبي، اختصاص الفاشلين، فلا حاجة للفلسفة أو التاريخ أو الأدب، فقد شبعنا منهم في ماضينا، نحن في زمن الاختصاص الذي ينتج نقوداً، كأنّه مشروع رأسمالي وبالضرورة ليس اشتراكياً، بالإضافة إلى ذلك، لسنا في زمن العمال والفلاحين، الذين تقودهم طليعة ثورية قد ولّى زمنها.
إنّنا من الفئة التي لا تجيد لغة العصر المتمثلة بالرياضيات والفيزياء والكيمياء والعلوم، مع أنّ اللغة التي بنتْ عليها أوروبا حضارتها كانت الآداب والفلسفة، لكنّهم تناسوا أنّ فرعنا الأدبي هو من أعطى للفرع العلمي تلك السيادة.
محمود: أين سرحت بأفكارك؟
– البكالوريا يا رجل، أمامنا حلّان ليسا متوفّرين؛ الوظيفة أو السفر.
– يقولون(الفلسفة أمّ العلوم)، لكنّ أمّنا تزوجتْ البراغماتية، ومن يتزوج أمّنا يصبح عمّنا، والآداب أخلاق الشعوب لا الدول، ونحن نعيش في زمن الدول، لقد درسنا كتباً لا جدوى منها، قفا نبكِ من مستقبل…
****** ****** ******
كنّا نضحك عندما دخلنا مطعماً صاحبه زميل لنا، كان قد ورث العمل فيه بعد موت أبيه، استقبلنا بودٍّ وقُبلٍ على الخدود و الأكتاف:
فرسان البكالوريا بماذا تأمرون؟
أنا: مسبّحة[1] البحر المتوسط.
محمود: واصنع المسبحة كقصيدة نثر.
داني: صحن فول.
أخرجتُ علبة الحمراء الطويلة، لم يحتج الشباب دعوة، كلّ منهم أخذ سيجارة، وعلتْ فوقنا سحابةُ: (صنع في سوريا).
بانتظار المسبّحة والفول كانت عيوننا على الشارع، نراقب الصبايا العابرات.
***** ***** ******
تجشأ داني، وفاحتْ رائحة البصل، ومعها تداعتْ ذكريات قديمة جداً، قطعتُ الطريق على داني وبعين تلسكوبية عادتْ في ضوء الماضي حوالي خمس عشرة سنة، جذبتُه من جانب محمود، وألصقته بالحائط، وهمستُ له:
الأخ، لا يكذب على أخيه، أتعبتنا بالنقاش عن عضوك ذي القلفة، لكنّني تذكرت أن عضوك ليس بأقلف!؟
دفعني داني، وانتحى إلى جانب محمود المستغرب من كلينا، وأخذ يضحك: الواقع بما يجب أن يكون ليس بما هو كائن، والقصة قصة مبدأ!
أزمجر وأصرخ: سأعريك هنا، وأجعلك فرجة كقرد السيرك، المبدأ الوحيد الذي أعرفه هو الحقيقة.
تدخّل محمود بيننا، وهو يظنّ أن خطباً ما قد حصل: يا شباب، عيب عليكما، ليست الصداقة هكذا.
أجبتُ محمود بينما داني يضحك، وأنا مثله تقريباً:
هذا الكذّاب ليس له جلدة، وليس من سرج تركبه الأنثى. لقد تذكرتُ، كثيراً ما تنادرتْ عليه أمّه وأمّي، وهما يشربان القهوة، لأن داني فقَدَ جلدته عندما كان عمره سنتين ونصف، فقد التهب عضوه العظيم، ولم يكن هناك من حلٍّ سوى تطهيره، لكنّ المخبول لم يستوعب ما حدث له، ولم يعد قادراً على التبول بعدها، ومضتْ ساعات طوال وأهله كالمجانين، فلم تنفع كل الوسائل لإقناع هذا التيس بالتبول، حتى فكّر الطبيب بتخديره، لكنّ أمه وأمي فكرتا أنّه لو شاهد عضوي ربما يقتنع أن ما حدث له ليس غريباً، فأحضروني وأروه عضوي الذي يشبه الخنجر دون غمده السخيف، وعندها بوّل المصون على السجادة، ولم تعاقبه أمه بأي كفّ على قفاه، بل ضمّته إلى صدرها؛ أتمنى لو نال ما يستحق من الضرب!
ضحك محمود: الآن أنتما شقيقان بالأعضاء.
ردّ داني: شقيقان بالبول.
قلتُ: بل الكل للواحد، والواحد للكل.
صمتنا بعدها، فهذه المقولة لا تصلح مع الأعضاء الذكورية.
******* ******
عندما تخلع المدينة ثيابها لا تعود إليها أبداً. طرطوس تتغيّر، تتوسّع، تتضخّم حتى كورنيشها قد قضم قضمة طويلة من شطّها، ومدّ لسانه محاولاً أن يتذوق جزيرة أرواد. أستغرب من نفسي، وأنا أتكلّم عن التغيير المكاني، فنادراً ما سمعتُ عن الذين عناهم، هكذا أمر، بأنّهم ينتمون إلى جيلينا. فقط كبار السنّ الذين جلسوا على الطاولات، يرمون نردهم لعلّهم يقبضون على حظٍ فاتهم، أو ينفثون دخانهم ضجراً من التقدّم في العمر، من يكترثون لذلك.
تنقسم حياة الإنسان قسمين، الأول للحفظ، والثاني لتذكر ما حفظه، كأنّه بذلك يريد أن يثبت لنفسه أنّه كان موجوداً هنا.
أبي الذي تقاعد من عمله، كثيراً ما قال لي: الرجل باستقلاله ومن لم يفخر بشبابه ليس من فخر له، فأردّ: تلك مقولة قديمة لم تعد تنفع في عصرنا. كان الولد في زمنك يُعطى ماله، ويُزوج عندما يحتلم، أمّا في زمني، فقد مضى على احتلامي خمس عشرة سنة، لم أجد المال ولا..!
خرجتُ من شرودي عندما وصل داني ومحمود قائلَين: تأخرنا عليك.
– ماذا تشربان؟
– نرجيلة وشاي.
مضتْ سنوات الجامعة سريعاً، أنا درستُ الفلسفة، وداني درس التاريخ، ومحمود اختصر… أنهى خدمته العسكرية الإلزامية، وبدأ عمله ببسطة ثياب، والآن لديه كشك يبيع الثياب فيه.
يقترب الجرسون يضع كؤوس الماء الساخن مع ظروف شاي ليبتون بالعلامة الصفراء، ويلحقه معلّم النرجيلة بلباسه العربي، ويجهز (النَفسَين) ثم يناول كل من محمود وداني خرطوماً لكل منهما، بعد أن يوجه (المَبْسَم) نحو بطنه بحركة تستشعر منها مغزًى جنسياً، طالما أنّ الأمر لو وُجِّه للزبون، يحمل هذا المعنى!؟
لا شيء يبقى على معناه الحقيقي، فالأنسنة تُغيّر، تُبدّل المعنى الاستعمالي إلى معنى يتجاوزه، وكثيراً ما يفقده دوره السابق، فقد كانت النرجيلة تهدف إلى إخفاء قرقعة معدة الأمير وإطلاقه لغازاته، أمّا الآن؛ فلها ما شاءت من التأويل ومن الدلالات.
يسحب محمود نفساً عميقاً، وينفخ الدخان في اتجاهي.
محمود: أعوذ بالله يا رجل، ماذا تقول؟
داني: لقد دبّ فيه الإيمان – يسخر داني- تخاف على رزقك ! لا تقلق، فالأرزاق مقسّمة، ولن تهرب إلى أيّ مكان!؟ لكنّك ستُسأل عن استخلافك فيها، لذلك عليك بالفاتورة، فأنا وباسم من المساكين، ولنا في مال الأغنياء حقّ.
كنتُ شارداً على ما يبدو، لم أعرف ما الذي جعل داني يتكلّم هكذا، لا ريب أنّها النرجيلة.
محمود: الفاتورة سأدفعها، أحتاجُ لرصيد من الحسنات يوازي سيئات التلصص.
قلتُ: جرسون، اجلبْ (طاولة الزهر[2])، والآن سأفقعك هزيمة في (المغربية[3]) أخرجها من قفا رأسك.
بينما كان الجرسون يحضر طاولة الزهر، كانت سماء طاولتنا تعبق بالدخان، كأنّ الرب سيتجلّى لنا هنا، وليس على طور (سينين)، سيناء،…، هل كان الفرق بين (سينين) ووشبه جزيرة سيناء، ضرورات التصحيف أو اختلاف الأماكن ووحدة الأسماء؟
داني هو دانيال، اسم يتجذر في الأسطورة، ومحمود هو أحمد، أحد غصون شجرة الاشتقاق، أمّا اسمي فيبدو غريباً ويدعو للسخرية، اسم فاعل من مصدر الابتسام، ماذا يعني سوى تهكمٍ حزينٍ!
يضع الجرسون طاولة الزهر، فيما الصمت يجلس معنا، أفتحها بحركة عصبية، يتناول محمود حجارته البيضاء، أتمُ ترتيب حجارتي السوداء، وأترك أربعة أحجار بيدي على عدد أحرف اسمي، وأرمي نردي، فيأتي وجهه (يك[4])، يرمي محمود، فيكون وجه النرد(جهار[5])، فيبتسم ! يرن موبايل داني…(من كتر ما ناديتك وسع المدى)، رفضَ المكالمة، وقال: الذي يخسر، أحلّ محلّه.
دفع محمود الفاتورة وغادرنا، تركْنا داني في حيّ الحمرات، وتابعنا سيرنا ليتركني محمود بعدها.
[1]المسبّحة: أكلة مصنوعة من الحمص
[2]-لعبة من العاب طاولة الزهر
[3]أحد أسماء لعب طاولة الزهر
[4]– واحد.
[5]– أربعة.
باسم سليمان's Blog
- باسم سليمان's profile
- 24 followers
