الجزء الخامس من فصل ” القلفة” من روايتي نوكيا

…..
…………..
إذا سافرتُ فلدي مهنةٌ. ماذا تفعل تلك الساعات التدريسية التي تُوزّع علينا خلال الفصل الدراسي! أيكمن دورها بأن نشتري بها لقب أستاذ -يا سيدي- ليس من أستاذ وليس من من جنّة في تلك الساعات! إنها مجرد هراء، أربع سنوات مرّت منذ تخرجنا من تلك الجامعات، وكل عام يمرّ، أشعر به أنّي أزدادُ تفاهةً.ودّعني، ومضى باتجاه الكنيسة، سينتظرها حتى تخرج من الصلاة، تدفّق المصلّون -كانوا قلّة- من باب الكنيسة، كانت هي آخر من خرج. نظر إليها، وفكّر كيف سيضاجع أنثى تصوم أكثر من مئتي يومٍ في السنة؟ بالإضافة إلى أيام الصوم المفروضة.
مدّ يده وسلّم عليها: كيفك؟
– لا بأس.
– أأستطيع أن أدعوك إلى فنجان قهوة؟
فكرتْ قليلاً، نظرت إلى موبايلها، وأجرتْ اتصالاً: ماما، أنا ذاهبة مع داني إلى قهوة المنشية، ماما لن أتأخر.
أوقفَ داني سيارة أجرة وضعتهما أمام الباب. دخلا، اختارا طاولة هادئة، في مكان ما من القهوة كان صوت فيروز ينداح، لكنّه يغيب أحياناً في الضجة المنبعثة من الزبائن والشارع، جلسا لنصف ساعة، لم يتفوها بالكثير من الكلمات، فقد كان يشعر بعد كل صلاة، أن هذه الفتاة تصبح سماوية أكثر، يهمس لنفسه: إنّني أنافس عريساً سماوياً.
يستأذنها بأن يغادرا، قبل أن تعلن تأخر الوقت، يعرض عليها أن يقلّها إلى البيت، فتصمتْ، يوقف سيارة أجرة، ويركبا، يجري مكالمةً: ألو باسم، أين أنت؟ حسناً، عشر دقائق، وسأكون عندك، باي.
تتوقف السيارة، تنزل ماريا، يكلّم داني السائق: المشروع السادس لو سمحتْ.
يجلد شهر آب الناس بشمسه التي تبخّر حتى أحلام البرودة في القبور المظللة بالسنديان، يقرع على الباب، تفتح أمّ باسم، يدخل داني.
كيف حالك يا خالة؟كيف حالك يا أستاذ؟أهلين، كيف الأهل، تعال واجلس قليلاً.**** **** ****
أنفخ متبرماً، من جلوس داني مع أبي في الصالون الذي تحرك الهواء فيه مروحة في السقف، يسأل أبي داني بعض الأسئلة الاعتيادية، يجيب داني بضبابية، أوقف المحادثة السخيفة، وأدعو داني إلى غرفتي، يستأذن داني من أبي الذي يعود إلى متابعة قناة المنار التي تعرض “سكيتش” عن المقاومة وهي تدكّ تحصينات العدو. وما أن ندخل غرفتي يزمج داني:
يلعن ربّها يا رجل، أنا عاشق لراهبة، ألا يوجد واحدة بجرأة حواء؟ يا أخي، سأقطع علاقتي بها.
أدخل “CD كيفك أنت” لفيروز (تلحيم[1]) ابنها زياد في سوّاقة الكومبيوتر ونبدأ بالاستماع( كيفك أنت ملّا أنت): لماذا لم تكلّمها بالفصحى؟
******** *****
لم يكن حال محمود الأُسري جيداً، لم يستطع أن يغفر لأبيه زواجه بعد وفاة أمّه، رغم أنّه كان صغيراً جداً ليتذكرها كهوية محددة، لكنّه كثيراً ما تكلّم عن رائحتها، كان يقول: رائحة الأم كالبصمة مهما كبرت لن تتغير.
للحقيقة؛ أعرف جيداً زوجة أبيه، كانت عطوفة عليه، ومحمود يشهد بذلك، لم يفسّر أو يسعَ لحل هذا الموضوع أبداً، كان يتجنب الحديث عنه. تباعدنا قليلاً عن بعضنا البعض خلال دراستي الجامعية، أنا وداني ، لكن سرعان ما عدنا -كما كنّا- “الفرسان الثلاثة”، بالتأكيد لن يكون هناك من رابع، فالصداقة الحقيقة هي نتاج علاقات الطفولة، وليس صنيعة الزمن، فالصديق صديق الطفولة، وما عدا ذلك سيكون صديق مصالح وتوافقات، ومن لم يَبُل أمامك مُطلقاً بوله إلى أبعد مسافة لينافسك، ليس صديقاً.
استطاع محمود أن يؤسس وجوداً، استأجر غرفة في منطقة الفقاسة كانتْ ملجأً لنا، وغرفةً من بيت المستقبل كما فسّر لنا.
فِكرُهُ عمليّ، لم يكن يحبذ نقاشاتنا العقيمة، وفرح كثيراً عندما علم أن داني يعمل مع سركيس في ورشة الدهان. كنتُ عندما أريد أن أغيظ داني بشيء ما، أهمس له: إنه الخشب، أنت لم تبتعد، إلى الخشبة مصيرك كمسيحك، وقبل أن يلتفتَ إليّ، أسبقه، وأقاطعه: أعرف أعرف، ما الذي أعرفه!؟
الحقيقة لم يكن داني على خطأ، أشعر أنني رجل من كلام، لا أجد نفسي إلّا في تلك النقاشات والأفكار التي يحتملني داني عندما أسردها عليه، سألته مرة:
هل حقاً تتابعني في كل ما أقول ؟
لم يمهل محمود داني ليجيب، بل بادر وقال:
أذن من طين وأذن من عجين! والله يا (أبو الدن) لستَ بقليل.
صمتَ داني وأفرغ البقية الموجودة من البيرة في جوفه.
(الزبون على حق) حكمة محمود الخالدة التي كانتْ تظهر في كل تصرفاته. يملك صبراً لا ينتهي، خاصة مع النساء، يترك الزبونة تسترسل في رؤية وتقليب البضاعة وهو يرمي بالوقت نفسه كلمات الاستحسان. إنّه كصياد السمك، يرسل خيطه حتى تتعب السمكة من المقاومة، وعند ذلك يشدّها بقوة، فتنهار مقاومتها نهائياً. كما يقال: (ابن سوق)، يعرف من أين تؤكل الكتف! يقترب مني، يستلّ سيجارة من علبتي، ويتكلم، وبين شفتيه السيجارة المشتعلة:
يا رجل حيّرتنا! ألم تجد رقبة لتأكلها؟
[1]– المقصود بها : تلحين.
باسم سليمان's Blog
- باسم سليمان's profile
- 24 followers
