الجزء الثاني من فصل “القلفة” من روايتي نوكيا … يتبع

إنّه اليوم الثاني بعد امتحانات البكالوريا، ثلاثتنا ندرس الفرع الأدبي، اختصاص الفاشلين، فلا حاجة للفلسفة أو التاريخ أو الأدب، فقد شبعنا منهم في ماضينا، نحن في زمن الاختصاص الذي ينتج نقوداً، كأنّه مشروع رأسمالي وبالضرورة ليس اشتراكياً، بالإضافة إلى ذلك، لسنا في زمن العمال والفلاحين، الذين تقودهم طليعة ثورية قد ولّى زمنها.
إنّنا من الفئة التي لا تجيد لغة العصر المتمثلة بالرياضيات والفيزياء والكيمياء والعلوم، مع أنّ اللغة التي بنتْ عليها أوروبا حضارتها كانت الآداب والفلسفة، لكنّهم تناسوا أنّ فرعنا الأدبي هو من أعطى للفرع العلمي تلك السيادة.
محمود: أين سرحت بأفكارك؟
– البكالوريا يا رجل، أمامنا حلّان ليسا متوفّرين؛ الوظيفة أو السفر.
– يقولون(الفلسفة أمّ العلوم)، لكنّ أمّنا تزوجتْ البراغماتية، ومن يتزوج أمّنا يصبح عمّنا، والآداب أخلاق الشعوب لا الدول، ونحن نعيش في زمن الدول، لقد درسنا كتباً لا جدوى منها، قفا نبكِ من مستقبل…
****** ****** ******
كنّا نضحك عندما دخلنا مطعماً صاحبه زميل لنا، كان قد ورث العمل فيه بعد موت أبيه، استقبلنا بودٍّ وقُبلٍ على الخدود و الأكتاف:
فرسان البكالوريا بماذا تأمرون؟
أنا: مسبّحة[1] البحر المتوسط.
محمود: واصنع المسبحة كقصيدة نثر.
داني: صحن فول.
أخرجتُ علبة الحمراء الطويلة، لم يحتج الشباب دعوة، كلّ منهم أخذ سيجارة، وعلتْ فوقنا سحابةُ: (صنع في سوريا).
بانتظار المسبّحة والفول كانت عيوننا على الشارع، نراقب الصبايا العابرات.
***** ***** ******
تجشأ داني، وفاحتْ رائحة البصل، ومعها تداعتْ ذكريات قديمة جداً، قطعتُ الطريق على داني وبعين تلسكوبية عادتْ في ضوء الماضي حوالي خمس عشرة سنة، جذبتُه من جانب محمود، وألصقته بالحائط، وهمستُ له:
الأخ، لا يكذب على أخيه، أتعبتنا بالنقاش عن عضوك ذي القلفة، لكنّني تذكرت أن عضوك ليس بأقلف!؟
دفعني داني، وانتحى إلى جانب محمود المستغرب من كلينا، وأخذ يضحك: الواقع بما يجب أن يكون ليس بما هو كائن، والقصة قصة مبدأ!
أزمجر وأصرخ: سأعريك هنا، وأجعلك فرجة كقرد السيرك، المبدأ الوحيد الذي أعرفه هو الحقيقة.
تدخّل محمود بيننا، وهو يظنّ أن خطباً ما قد حصل: يا شباب، عيب عليكما، ليست الصداقة هكذا.
أجبتُ محمود بينما داني يضحك، وأنا مثله تقريباً:
هذا الكذّاب ليس له جلدة، وليس من سرج تركبه الأنثى. لقد تذكرتُ، كثيراً ما تنادرتْ عليه أمّه وأمّي، وهما يشربان القهوة، لأن داني فقَدَ جلدته عندما كان عمره سنتين ونصف، فقد التهب عضوه العظيم، ولم يكن هناك من حلٍّ سوى تطهيره، لكنّ المخبول لم يستوعب ما حدث له، ولم يعد قادراً على التبول بعدها، ومضتْ ساعات طوال وأهله كالمجانين، فلم تنفع كل الوسائل لإقناع هذا التيس بالتبول، حتى فكّر الطبيب بتخديره، لكنّ أمه وأمي فكرتا أنّه لو شاهد عضوي ربما يقتنع أن ما حدث له ليس غريباً، فأحضروني وأروه عضوي الذي يشبه الخنجر دون غمده السخيف، وعندها بوّل المصون على السجادة، ولم تعاقبه أمه بأي كفّ على قفاه، بل ضمّته إلى صدرها؛ أتمنى لو نال ما يستحق من الضرب!
ضحك محمود: الآن أنتما شقيقان بالأعضاء.
ردّ داني: شقيقان بالبول.
قلتُ: بل الكل للواحد، والواحد للكل.
صمتنا بعدها، فهذه المقولة لا تصلح مع الأعضاء الذكورية.
******* ******
عندما تخلع المدينة ثيابها لا تعود إليها أبداً. طرطوس تتغيّر، تتوسّع، تتضخّم حتى كورنيشها قد قضم قضمة طويلة من شطّها، ومدّ لسانه محاولاً أن يتذوق جزيرة أرواد. أستغرب من نفسي، وأنا أتكلّم عن التغيير المكاني، فنادراً ما سمعتُ عن الذين عناهم، هكذا أمر، بأنّهم ينتمون إلى جيلينا. فقط كبار السنّ الذين جلسوا على الطاولات، يرمون نردهم لعلّهم يقبضون على حظٍ فاتهم، أو ينفثون دخانهم ضجراً من التقدّم في العمر، من يكترثون لذلك.
تنقسم حياة الإنسان قسمين، الأول للحفظ، والثاني لتذكر ما حفظه، كأنّه بذلك يريد أن يثبت لنفسه أنّه كان موجوداً هنا.
أبي الذي تقاعد من عمله، كثيراً ما قال لي: الرجل باستقلاله ومن لم يفخر بشبابه ليس من فخر له، فأردّ: تلك مقولة قديمة لم تعد تنفع في عصرنا. كان الولد في زمنك يُعطى ماله، ويُزوج عندما يحتلم، أمّا في زمني، فقد مضى على احتلامي خمس عشرة سنة، لم أجد المال ولا..!
خرجتُ من شرودي عندما وصل داني ومحمود قائلَين: تأخرنا عليك.
– ماذا تشربان؟
– نرجيلة وشاي.
مضتْ سنوات الجامعة سريعاً، أنا درستُ الفلسفة، وداني درس التاريخ، ومحمود اختصر… أنهى خدمته العسكرية الإلزامية، وبدأ عمله ببسطة ثياب، والآن لديه كشك يبيع الثياب فيه.
يقترب الجرسون يضع كؤوس الماء الساخن مع ظروف شاي ليبتون بالعلامة الصفراء، ويلحقه معلّم النرجيلة بلباسه العربي، ويجهز (النَفسَين) ثم يناول كل من محمود وداني خرطوماً لكل منهما، بعد أن يوجه (المَبْسَم) نحو بطنه بحركة تستشعر منها مغزًى جنسياً، طالما أنّ الأمر لو وُجِّه للزبون، يحمل هذا المعنى!؟
لا شيء يبقى على معناه الحقيقي، فالأنسنة تُغيّر، تُبدّل المعنى الاستعمالي إلى معنى يتجاوزه، وكثيراً ما يفقده دوره السابق، فقد كانت النرجيلة تهدف إلى إخفاء قرقعة معدة الأمير وإطلاقه لغازاته، أمّا الآن؛ فلها ما شاءت من التأويل ومن الدلالات.
يسحب محمود نفساً عميقاً، وينفخ الدخان في اتجاهي.
محمود: أعوذ بالله يا رجل، ماذا تقول؟
داني: لقد دبّ فيه الإيمان – يسخر داني- تخاف على رزقك ! لا تقلق، فالأرزاق مقسّمة، ولن تهرب إلى أيّ مكان!؟ لكنّك ستُسأل عن استخلافك فيها، لذلك عليك بالفاتورة، فأنا وباسم من المساكين، ولنا في مال الأغنياء حقّ.
كنتُ شارداً على ما يبدو، لم أعرف ما الذي جعل داني يتكلّم هكذا، لا ريب أنّها النرجيلة.
محمود: الفاتورة سأدفعها، أحتاجُ لرصيد من الحسنات يوازي سيئات التلصص.
قلتُ: جرسون، اجلبْ (طاولة الزهر[2])، والآن سأفقعك يامحمود هزيمة في (المغربية[3]) أخرجها من قفا رأسك.
بينما كان الجرسون يحضر طاولة الزهر، كانت سماء طاولتنا تعبق بالدخان، كأنّ الرب سيتجلّى لنا هنا، وليس على طور (سينين)، سيناء،…، هل كان الفرق بين (سينين) ووشبه جزيرة سيناء، ضرورات التصحيف أو اختلاف الأماكن ووحدة الأسماء؟
داني هو دانيال، اسم يتجذر في الأسطورة، ومحمود هو أحمد، أحد غصون شجرة الاشتقاق، أمّا اسمي فيبدو غريباً ويدعو للسخرية، اسم فاعل من مصدر الابتسام، ماذا يعني سوى تهكمٍ حزينٍ!
يضع الجرسون طاولة الزهر، فيما الصمت يجلس معنا، أفتحها بحركة عصبية، يتناول محمود حجارته البيضاء، أتمُ ترتيب حجارتي السوداء، وأترك أربعة أحجار بيدي على عدد أحرف اسمي، وأرمي نردي، فيأتي وجهه (يك[4])، يرمي محمود، فيكون وجه النرد(جهار[5])، فيبتسم ! يرن موبايل داني…(من كتر ما ناديتك وسع المدى)، رفضَ المكالمة، وقال: الذي يخسر، أحلّ محلّه.
دفع محمود الفاتورة وغادرنا، تركْنا داني في حيّ الحمرات، وتابعنا سيرنا ليتركني محمود بعدها.
[1]المسبّحة: أكلة مصنوعة من الحمص
[2]-لعبة من العاب طاولة الزهر
[3]أحد أسماء لعب طاولة الزهر
[4]– واحد.
[5]– أربعة.
باسم سليمان's Blog
- باسم سليمان's profile
- 24 followers
