باسم سليمان's Blog, page 21
March 4, 2022
سرقة الأفكار كسرقة الصفراء والبيضاء … الملكية الفكرية في التراث العربي – مقالي في ضفة ثالثة
سرقة الأفكار كسرقة الصفراء والبيضاء … الملكية الفكرية في التراث العربي
إنّ إجالة النظر بواقع حقوق الملكية الفكرية في البلاد العربية، يكشف مقدار تردّيها على الرغم من كثرة القوانين والمؤتمرات التي أقرّت هذه الحقوق. وكأنّ واقعنا هو استمرار لنظرة تاريخية كانت تزدري تلك الحقوق، ولم تكن ترى فيها إلّا مشاعًا يغفل حقّ المؤلف، الذي تُرك لأهواء الملوك والخلفاء في مكافأته أو معاقبته على تلك الإبداعات!
عُقد المؤتمر الأدبي العالمي في باريس1 في عام 1878. وقد ألقى فيكتور هوغو خطابًا كان له تأثير كبير على التنظيم القانوني لحقوق المؤلف الفكرية على صعيد فرنسا والعالم. كان هوغو يعتقد بأنّ الأعمال الأدبية تصلح لأن تكون لها حقوق ملكية كغيرها من الأشياء التي تملك وتورّث. لم تكن الأعمال الأدبية والفنية عبر التاريخ محلًّا للملكية، رغم أنّ الإنسان قد وعى دوره في إنتاجها. وقد تجلّى هذا الأمر بالنظرية التي كانت تفسّر كيفيّة خلق هذه الأعمال. لقد أرجعوا مصدريتها إلى الميتافيزيق، كربّات الإلهام عند الإغريق، أو جنّ وادي عبقر عند العرب، لا إلى عبقرية المبدع. وهذا دليل على المنحى التشريعي الذي حكم على الإبداعات الفكرية بإخراجها من حقوق الملكية. إنّ ما يتم إلهامك به من هذه القوى، ليس ملكك كالأشياء التي تحوزها بالعمل العضلي، أو التجاري، أو غنائم الحروب، فلذلك لا يحقّ لك حيازتها وتملّكها. إنّ سخرية الأقدار تجاه المبدعين كانت قد أقرّت تلك الحقوق قبل المؤتمر الذي خاطب به هوغو المجتمع الأدبي. فقد احتجّ سقراط2 على محاكميه، بأن قال: إنّ وحيًا أمره أن يفعل ما رتب له تلك المحاكمة، وكأنّه يومئ لقضاته أن يحاكموا ربات الإبداع! لم يلتفت محاكموه لقرينة سقراط التي تؤيّدها الأعراف والتقاليد، بل جرّعوه الشوكران ثمنًا لكلماته. هذا الثمن المهول مازال يطال كلّ مبدع تخرج كلماته عن قطيع الرقابة. لقد كان الشوكران بمثابة الموت الرحيم مقابل ما يتعرّض له المبدعون من إعدامات جسدية وفكرية عبر الأزمنة. إنّها سخرية سوداء عندما نجد أنّ حقوق الملكية كانت قد أقرّت للمبدع من قبل الأنظمة الديكتاتورية، لكي تدينه، لا لتكافئه.
حلّل هوغو في خطابه البنية القانونية التي تعتبر الملكية الفكرية ملكية عامة، وليست ملكية خاصة، ورأى أنّ هذا المنحى القانوني يهدف إلى السيطرة على الكاتب، فمصادرة ملكيته يعني أن تصادر استقلاله. إنّ القول بأنّ التفكير ملكية عامة، وهو لا يصلح لأن يكون محلًا للملكية الخاصة، ماهو إلّا نتاج للخلط بين التفكير كميزة بشرية، والفكرة المنتجة عنه، والتي هي ملكية شخصية يجب أن تصان، وإن عدم النظر إليها كملكية خاصة ينقض قوانين الملكية، فالكلمة تتحوّل إلى كتاب، والكتاب يباع ويشترى.
لقد جادل هوغو بقوٍّة دفاعًا عن حقوق الملكية الفكرية. و قد نال تصفيقًا حارًا، وكان لخطابه أثرٌ في إقرار اتفاقية برن لحماية المصنّفات الفنية والأدبية عام 1886.
لم يكن كلام هوغو آتيًّا من فراغ، فقد سبق ذلك محاولات عديدة لإقرار حقوق الملكية الفكرية، كقانون الملكة آن 3 الذي أعطى للكتّاب الحق الحصري بطباعة مؤلفاتهم، في حين كان الأمر قبل ذلك متروكًا لمنحة من الملك بأن يصدر مرسومًا يقضي بالحقّ الحصري للمؤلِّف بطباعة أعماله. هذه القوانين على الرغم من أهميتها، لم تكن ترى فعليًّا في حقوق المؤلف، ملكية ترقى إلى طبيعة الملكيات المادية، كأن تورّث. وقد أشار هوغو في خطابه إلى هذه النقطة الحاسمة.
نوّهنا ببداية هذا المقال إلى تردّي واقع حقوق الملكية الفكرية في البلاد العربية، قياسًا إلى ما وصلت إليه في بلاد العالم الأخرى، لكن النظرة الموضوعية إلى تراثنا تناقض حالنا الآن! فالإرهاصات النظرية والعملية لنشأة حقوق الملكية الفكرية كانت من الوضوح بمكان في تراثنا الثقافي.
عندما التفت العرب إلى تدوين أشعارهم التي قيلت في جاهليتهم، كانت إحدى الجوانب التي تنبّهوا لها تكمن في أسبقية القول. وقد كان عنترة في بيته المشهور -هَل غادَرَ الشُعَراءُ مِن مُتَرَدَّمِ/. أَم هَل عَرَفتَ الدارَ بَعدَ تَوَهُّمِ – لسان حال الجاحظ في سؤال ممضّ عن مَن سبق إلى القول، لذلك علّل الجاحظ بأنّ: “المعاني ملقاة في الطريق يعرفها العربي والعجمي” وهو يمهد بذلك إلى أنّ الشعر صناعة تقوم بأشياء أخر يتفوّق فيها شاعر على شاعر، فتنسب إليه: “وإنّما الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللفظ، وسهولة المخرج، وجودة السبك، فإنّما الشعر صناعة”. والجاحظ في ذلك ينتصر للصنعة والفنّ. هذا المنحى في التفكير يفسّره خبر جاء في الأغاني بأنّ بشار بن برد غضب على تلميذه سلم الخاسر بعد أن انتحل بيته التالي: مَن راقَبَ الناسَ لَم يَظفَر بِحاجَتِهِ/ وَفازَ بِالطَيِّباتِ الفاتِكُ اللَهِجُ. قال سلم: مَن راقَبَ الناسَ ماتَ غَمّاً/ وَفازَ بِاللّذَّةِ الجَسورُ.
وقد جاء في الأغاني حواريّة قد جرت بين بشار وسلم تظهر مقدار الوعي تجاه حقوق الملكية الفكرية. يقول بشار: “أفتأخذ معانيّ التي عنيت بها، وتعبت في استنباطها، فتكسوها ألفاظًا أخفّ من ألفاظي، حتى يروى ما تقول ويذهب شعري”.
إنّ تأملًا في قصّة بشار بن برد يذكّرنا بخطبة فيكتور هوغو عن أنّ ملكة التفكير عامة بين البشر، أمّا الفكرة، فهي ملك خاص لصاحبها، لا يحقّ لأحد أن يستولي عليها وينسبها لنفسه.
لقد ذمّ العرب السرقات الأدبية، أكانت بالمعنى أو باللفظ. وهذا ما نجده ظاهرًا بوضوح في المقامة الشعرية للحريري، التي نستطيع أن نعدّها بيانًا رائعًا عن الدفاع عن حقوق الملكية الفكرية4: “واستِراقُ الشّعرِ عندَ الشّعراء. أفظَعُ منْ سرِقَةِ البَيْضاء والصّفْراء. وغَيرَتُهُمْ على بَناتِ الأفكارِ. كغيرَتِهِمْ على البَناتِ الأبكارِ”. إنّ المماثلة بين استراق الشعر الذي هو صنعة فكرية وسرقة المال من ذهب وفضة، دليل واضح على تجذّر المفهوم الذي يعدّ الفكرة ملكية كغيرها من الملكيّات.
تعود عناية العرب إلى هذا الجانب الفكري من الملكية إلى الصراعات السياسية، فأصبح الاستشهاد بخبر أو حديث قرينة تثبت حقًّا أو تنفيه، فكان من الضرورة التأكّد من صدق الشاهد الناقل للخبر أو الحديث. إنّ نظام العنعنة أو المنهج النقلي في إيراد الخبر كان له ضوابطه التي تقوم على ضبط الإسناد متنًا وهامشًا. وما تقسيم الأحاديث بين متواتر ومشهور وآحاد إلّا من باب التدقيق المنهجي على صحّة الخبر. وعندما شاعت الوراقة ظهر ما يسمى الاستملاء، حيث يجلس الفقيه ويلقي بعلومه على مجموعة من الكتبة لا يجوز لهم تداول ما استنسخوا قبل أن يقرأه الوراق على معلّمه ويجيزه. قد يكون نظام الإجازة من أهم الخطوات نحو تأكيد الملكية الفكرية، فلم يكن يحقّ للناسخ أن يباشر بنسخ كتاب ما وبيعه قبل أن يجيزه مؤلف الكتاب بوثيقة مكتوبة، تسمح له بالنسخ والإتجار.
هذا الأمر الواقع في التحقّق والإسناد، امتد ظلّه إلى الآداب والعلوم والصناعات. ولقد ذكرت الباحثة صباح الشخيلي5، بأنّ الحرفيين والصناعيين لجؤوا إلى إعادة مبتدأ الصناعات من حرف وزراعة إلى الأنبياء والأئمة. وإذا استقرأنا هذا الخبر نجد بأنّه ليس إلّا دفعًا للخلافات بين المشتغلين بتلك الحرف، وذلك بجعل مبادئ تلك الحرفة مشاعية تتحدّر من مصدر مقدّس، فلا يحقّ لأحد احتكارها، لكن النظر في عملية تنسيب الصنائعي لأحد المهن والحرف التي تقتضي منه الالتزام بآدابها وأسرارها يكشف لنا تنبّها للملكية. لقد ضاعت أسرار الكثير من تقاليد تلك الصناعات في تراثنا لعدم إفشائها للعامة. أمّا النتيجة التي نخلص إليها، بأنّهم وإن أظهروا مشاعية مبتدأ أصول الصناعات والحرف، إلّا أنّهم حافظوا على ابتداعاتهم الخاصة، وجعلوها في موقع الأسرار التي لا يجب إفشاؤها أبدًا. لقد كانوا بشكل مضمر يقرّون بالملكية الفكرية، لكن أمام عدم القدرة على حمايتها مهروها بالسرّية.
تظلّ الملكية في الصناعات والحرف مادية أكثر منها معنوية، لكن عندما نسمع صرخة العلماء بأنّ: “آفة العلم خيانة الوراقين” وهم النسّاخ الذين لا يتقيّدون بأصول النسخ حرفًا ومعنى، نفهم سبب ظهور الكتب التي تناولت السرقات الأدبية. ألم يكتب السيوطي كتابًا يفرّق فيه بين المصنِّف والسارق. وها هو المسعودي يوجه رسالة في مقدمة كتابه؛ مروج الذهب ومعادن الجوهر، للحفاظ على حقوق الملكية الفكرية ممّن ينتسخ كتابه أو يستعمله: “فمن حَرَّف شيئًا من معناه، أو أزال ركنًا من مبناه، أو طمس واضحة من معالمه، أو لبَّسَ شاهدة من تراجمه، أو غيره، أو بَدَّله، أو اختصره، أو نسبه إلى غيرنا، أو أضافه إلى سوانا، فوافاه من غضب اللهّ وسرعة نقمته وفوادح بلاياه ما يَعْجَزُ عنه صبره، ويَحَار له فكره، وجعله اللّه مُثْلَةً للعالمين، وعبرة للمعتبرين، وآية للمُتَوسِّمين”.
إنّ وعي حقّ الملكية جعله أساسًا للدعاوي القضائية، فقد ذكر الخطيب البغدادي العديد من الدعاوي، حيث يتنازع الناسخون على مخطوطة ما بأنّها بخطّ فلان، فيحكم القاضي وفق قرينة مضاهاة الخطوط، أو يتنازع مؤلفان على الأسبقية في تأليف مخطوط ما، فيلجآن إلى القاضي ليحقّ الحقوق، فقد ذكر البغدادي بأنّ قاضي الكوفة حفص بن غياث قد تحاكم إليه رجلان يدعي أحدهما على الآخر سماعًا منعه إياه، فأمر القاضي المدعى عليه بأن يُخرج ما دوّنه من سماع في كتبه، وقال: “فما كان من سماع هذا الرجل بخطّ يدك ألزمناك، وما كان بخطّه أعفيناك منه”. وأمام هذا الوعي الجلي بحقّ الملكية الفكرية لن نستغرب أن نجد في مقدمة كتاب البيروني؛ الجماهر في معرفة الجواهر، هذا التوضيح الذي يرفع عنه السرقة ويؤكّد حرصه على حقوق الملكية: “ولم يقع لي من هذا الفن غير كتاب أبي يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي في الجواهر والأشباه”.
لم يصل العرب في تراثهم إلى مرحلة حقوق الملكية كما نعرفها الآن. ولم يتبادر إلى ذهنهم بوضوح، الفكرة التي طرحها هوغو عن حقّ المؤلف بتوريث حقوقه الفكرية إلى ورثته والاستفادة منها ماديّا، لكنّ التطبيقات العملية التي أوردنا بعضها في المقال تشي بوعي مهمّ لمفهوم حقوق الملكية الفكرية.
المصادر:
خطاب الروائي الفرنسي فيكتور هوجو حول الملكية الفكرية 1878. ترجمة: مشاعل عبد العزيز الهاجري مجلة فكر الثقافية العدد 26 لعام 2019.المحاورات، أفلاطون، إصدار الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت 1994.https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%D9%D9%D9%8A%D8%A9_%D9%D9%D8%B1%D9%8A%D8%A9مقامات الحريري، دار بيروت للطباعة والنشر.الأصناف والمهن في العصر العباسي، نشأتها وتطورها. د. صباح الشخيلي -بيت الوراق للطباعة والنشر.باسم سليمان
خاص ضفة ثالثة

March 3, 2022
كتابٌ حول روح الإنسان يستحقُّ غلافًا بشريًّا مقالي في مجلة الفيصل – 545-546 آذار ونيسان 2022
“للكتب أقدارها!” هذا ما يقوله الفيلسوف والتر بنيامين، وتتنبأ بأقدارنا أيضًا. وقع أفلاطون في شرك الكلمة المكتوبة، منذ اللحظة التي أشهر اعتراضه عليها في محاورة فيدروس، وذلك باستخدامه الكتابة كوسيلة لنقل أفكاره، التي تُنكر أهميّة الكلمة المكتوبة.
كان هوميروس يطلق على الكلمات: “الأجنحة الطائرة”، كما جاء في كتاب: (الشفاهية والكتابية، والترج. أونج ترجمة د. حسن البنا عز الدين) دلالة على ذهابها ما إن يُنتهَى من نطقها، لا شيء يبقى من الكلمة المنطوقة حتّى الصدى. إنّ الصوت له حاضر النطق فقط، فلا من ماضٍ يبقى، ولا من مستقبل. هذا الإدراك للصوت دفع الإنسان إلى مخيال للكلمة المكتوبة يتجاوز واقعها في تسجيل الصوت، حيث أنّ جذر(كتب) يفيد الحبس والقيد في إحدى دلالاته. إنّ تقييد كلمة الخلق المنطوقة بالمكتوب، هو ما أتاح قراءة المجهول، وأسّس للتنبؤ كفعالية تنطلق من الكلمة المكتوبة. يشير ألبرتو مانغويل في كتابه: (المكتبة في الليل) إلى أنّه ورد في سفر الجزيرة بأنّ الله خلق العالم من اثنين وثلاثين سراطًا من الحكمة: الأسفار أو الأرقام العشرة، والاثنين وعشرين حرفًا. من العشرة أرقام خلق الأشياء المجردة. ومن الأحرف صنع الكون وما فيه. إنّ هذا يعني وفق التقليد اليهودي والمسيحي، القدرة على قراءة الكون وكشف مستقبله، بل حتى إمكانية الخلق من خلال المواءمة بين الأحرف والأرقام. تشير أسطورة إلى أنّ عالمي التلمود حناني وهوشايان، كانا يدرسان سفر الجزيرة مرّة في الأسبوع. واستطاعا بعد مؤالفة الأحرف بطريقة صحيحة أن يخلقا عجلًا له من العمر ثلاث سنوات وتعشيّا به. يتابع مانغويل استجلاء هذه الأسطورة متقفيًّا علماء التلمود في تطبيقهم للجُمّل على اسم (إسحاق) وكيف تكشّفت كلّ الوقائع التي تتعلّق بقصّة حمل سارة به، عبر قراءة كلّ حرف وفق معادله الرقمي. إنّ مصطلح الجُمّل يعني: إعطاء الحروف قيمًا عددية، أو إحلال الحروف محلّ الأرقام من أجل غايات تنبؤية. وقد اعتبر ابن خلدون بأنّ حساب الجُمّل جديد في التراث الإسلامي، لكنّه أضاف بأنّه معروف منذ القدم. ومن الكتب العربية التي استخدمت للتنبؤ: كتاب الشجرة النعمانية لابن عربي، وكتاب الجفر الذي يُنسب إلى آل بيت الرسول.
ورد في كتاب العواصم والقواصم للوزير اليماني حديث عن الرسول محمد (ص) رواية ابن عباس يقول فيها: “أولُ ما خلق اللهُ القلم فقال له: اكتبْ فقال: يا ربِّ وما أكتبُ؟ قال: اكتب القدرَ ما هو كائنٌ من ذلك إلى قيامِ الساعةِ”. إنّ مفهوم القضاء والقدر، يعني أنّ حياة الإنسان مكتوبة مسبقًا بصالحها وطالحها، لكنّ مفهوم القضاء والقدر فيه أكثر من ذلك! إنّ السؤال، هل الإنسان مسيّر أم مخيّر؟ يُضمر إجابة، بإنّ الإنسان لديه رغبة ملحّة بمعرفة المستقبل، فإن كان مخيّرًا، فلا بدّ من أنّ نفسه راودته أن يعرف إلى أين تنتهي خياراته. وإن كان مسيّرًا، فقد شطح به خياله إلى أن يتجرأ ويمنّي النفس، بأن يتطلّع إلى ما كتب في اللوح المحفوظ. لقد اختصر المثل التالي هواجس الإنسان العلنية والخفية، وهو يتخبّط في إعصار رياح الأقدار: “المكتوب على الجبين لازم تراه العين” لكن كيف؟ الإجابة تكون بالمرآة! لكنّ صورة المرآة مقلوبة! يحللّ ميشيل فوكو في كتابه: (الكلمات والأشياء) كيف كانت المعرفة في القرن السادس عشر، وما قبله؛ حيث كانت الأرض انعكاسًا للسماء. وعلى الإنسان أن يقرأ الإشارات في كلّ شيء حتى يعرف ما الذي تريده السماء وما قدّرته له؛ وذلك بأن يعيد الصورة المقلوبة إلى أصلها بأن يخرجها من المرآوية، عبر قراءة نبوءاتها المبثوثة في كلّ شيء من الكلمات إلى الأشياء.
لم يترك دانيال ديفو بطل روايته روبنسون كروزو من دون كتب وحيدًا في جزيرته، فمن بين الأشياء التي انتشلها من سفينته الغارقة؛ مجموعة من الكتب كان من بينها الكتاب المقدّس. استخدم كروزو الكتب ليس فقط للتعلّم وتزجية الوقت، بل للتنبؤ، كما جاء في كتاب: (المكتبة في الليل)، فأمام يأسه من النجاة، فتح كروزو الكتاب المقدس، لا على التعيين، وقرأ: “سوف لن أتركك أبدًا، ولا أتخلّى عنك”. شعر أنّ هذه الكلمات موجّهة إليه تنبئه بما هو صائر إليه.
هذا التخييل الذي أبدعه ديفو لم يكن بدعًا، فهناك تاريخ يزدحم بالمواقف والحالات التي استخدمت فيها الكتب كأدوات للتنبؤ ومعرفة المستقبل والطالع. وأكثر من ذلك فقد كانت تحمل الموت الزؤام بين طياتها، أو النجاة.
يذكر القديس أوغسطينُس في الاعترافات، بأنّه كان مصابًا بكرب عظيم وفجأة يسمع طفلًا يقرأ بصوت عالٍ: “خُذ واقرأ”. شعر بأنّ هذا الصوت موجّهٌ إليه، فأمسك بكتاب يتضمّن رسائل للقديس بولس: “أخذت الكتاب، وفتحته وبدأت أقرأ المقطع الذي وقعت عيناي عليه مصادفة” كان المقطع عبارة عن تحذير من الاهتمام بالجسد ونسيان الرب. كأنّ صاعقة انقضت على أغسطينُس، فامتلأ بنور الثقة وطُردت ظلمة الشّك، لقد ساعدته الكلمات في الكشف عن قدره بأنّه سيصبح قديسًا.
إنّ ما فعله كروزو والقديس أوغسطينُس نجد أمثاله في مجتمعاتنا، عبر اللجوء إلى القرآن الكريم وفتحه وقراءة الآية التي تقع عيننا عليها، كي نعرف ماذا تخبئ لنا الأقدار.
رسائل الموت:
يشير جان جاك روسو(الشفاهية والكتابية) إلى أنّ هناك إشارة إلى الكتابة في إلياذة هوميروس، فقد حمل بيليريفون غافلًا إلى ملك ليسيا كتابًا يتضمّن علامات كتابية تدعو إلى إعدامه. يذكرنا حال بيليريفون بما جرى مع طَرفة وخاله المتلمّس، بعد أن حمّلهما الملك عمرو بن هند كتابي موتهما إلى عامله على البحرين. إن الفرق بين مصيري طَرفة وخاله كان بين قراءة الكتاب من عدمه. من الكتاب الذي حمله بيليرفيون إلى طَرفة وخاله المتلمّس، كان للمكتوب/ الكتاب سطوة القدر، تقف أمامه متحيرًا وخاضعًا. يقتبس ألبرتو مانغويل عن رواية لإميل زولا عن سلطة الكتاب بأنّ شخصًا كان متحمسًا لنابليون الثالث وقد عرض عليه كتابًا يذكر فيه بأنّ الأمبراطور كان فاسقًا، لم يستطع الشخص المتحمِّس أن ينكر ما جاء في الكتاب، لأنّ: “كل شيء موجود في كتاب، لذا لا يمكن إنكاره”. من جهتها أكدت الديانات السماوية هذه الفكرة، حيث يحدد مصير الإنسان يوم القيامة عبر كتابه، الذي يحمله في يمينه أو يساره، لا فكاك من المكتوب فيه. وفي لوحة جصّية من نهاية القرن الخامس عشر، لها شكل لفيفة ورقية تصور مشهد يوم الحساب، حيث تسير الأرواح عارية تحمل على صدورها كتبًا مفتوحة تحدّد مصائرها.
إنّ فكرة ظهور الكتب بعد الموت قديمة جدًا، فدومًا كان الرومان يصوّرون الموتى وبيدهم كتب، وذلك لاعتقادهم بأنّ مصير الإنسان يتقرّر بعد الموت. وفي بلاد الفراعنة كان كتاب الموتى (الكاتلوك) الذي يساعد الميت في الوصول إلى الحياة الآخرة، ضرورة لا بدّ من وضعها مع الميت، كما جاء في كتاب الكسندر ستيبستفيتشز؛ تاريخ الكتاب.
الكتب القاتلة:
قدّمت لنا شهرزاد في حكاية الملك يونان والحكيم رويان ثيمة القتل من خلال الكتاب. لا ريب أنّ الملك يونان الذي لم يحفظ عهدَه مع الحكيم رويان، وهو الذي شفاه من البرص، فأراد قطع رأسه، لظنّه بأنّه جاسوس، جاء يكشف عورة المملكة؛ وهو ما أدّى إلى انتقام الحكيم رويان عبر تسميم صفحات الكتاب وإلصاق أطرافها، ممّا سيدفع، أي قارئ، لأنّ يفضّ الصفحات الملصقة بإصبعه، إن أراد الإطلاع على محتواها، وستأخذه العادة إلى أن يبلّل إصبعه بريقه، وعند ملامسة الإصبع للصفحات المسمومة، سنيتقل السمّ إلى الفم مع تقليب كلّ صفحة يقوم به القارئ. هذا بالضبط ما حدث مع الملك يونان الذي استعجب من فراغ الصفحات من الكتابة، فبدأ بتقليب الصفحات، صفحة إثر صفحة، حتّى انتهى من الكتاب، لكنّه لم يجد كلمة مكتوبة، إلّا أنّ السمّ كان قد سرى في جسده. لقد رفض الملك يونان المعرفة المتمثّلة بالحكيم رويان، فكان جزاؤه الموت، إلّا أن دلالة أكثر غورًا تحملها الصفحات الخالية من الكتابة، فلو كان من مكتوب يُقرأ، لكان للملك جزاء آخر، فالموت هو كلمة (تمت)؛ الكلمة التي توضع في نهاية المكتوب إعلانًا عن النهاية الحتمية، التي ليس بعدها من كلمات مكتوبة ونبوءات. إنّ هذه الثيمة التي اعتمدت عليها شهرزاد، استند إليها أمبرتو إيكو في روايته وشم الوردة، فقد سمّم أحد الكهنة وريقات كتاب أرسطو(فن الشعر) كي يمنع الرهبان من الإطلاع عليه، ومن يدفعه فضوله إلى ذلك سيكون الموت جزاءه. إنّ المعرفة نبوءة ومن يملكها سيكون بيده الحياة أو الموت.
إنّ الأقدار القطعية التي تحملها الكتابة من خلال أحرفها وكلماتها، نجدها في أصداء تجليد الكتب بالجلد البشري، فقد أورد موقع cnn بالعربي، بأنّ هذه الممارسة كانت شائعة منذ القرن السادس عشر عبر كتابة اعترافات المجرمين على جلودهم. وقد خلص خبراء جامعة هارفرد إلى أنّ النسخة الأصلية من كتاب أقدار الروح للكاتب الفرنسي أرسين هوسيه قد تم تجليدها بجلد بشري بنسبة 99%. ووفقًا لمكتبة جامعة هارفارد، فإن الطبيب لودفيك بولاند، وهو طبيب في القرن التاسع عشر، قد غلّف الكتاب المذكور أعلاه بجلد مريضة عقلية توفيت إثر نوبة قلبية، وقد ترك بولاند ملاحظة يقول فيها: “كتابٌ حول روح الإنسان يستحق غلافًا بشريًّا”.
كان الجاحظ يكتري حوانيت الكتب، ليطّلع على ما فيها. ويقال بأنّه مات مدفونًا تحت كتبه بعد أن سقطت عليه. هذه الواقعية السحرية عن الجاحظ لها معادلها الواقعي، فلقد ذكر ألبرتو ما نغويل بأنّ رجلًا يُدعى باتريس مور ظلّ مدفونًا أسفل كتبه التي سقطت عليه لمدة يومين، ولولا أنينه الذي سمعه الجيران، لقضى نحبه كالجاحظ.
وفي ذات السياق يذكر موقع bbc، بأنّه في سجلات سجن بريستول يوجد كتاب صنع من جلد أول سجين قد أعدم في هذا السجن، والذي يعود لشاب مهووس بفتاة قتلها بحجر. وقد تضمّن الكتاب تفاصيل جريمته. يذكر الموقع العديد من الحالات الأخرى لتغليف الكتب بجلد إنسان.
يؤصِّل والترج. أونج كهانية الكتابة، فهو يقارنها بتنبؤات كاهنات دلفي التي لا يمكن معارضتها، أو مساءلة الكاهنات عنها، فلسانهن لسان الوحي. هذه النقطة دفعت المنظرين إلى القول، بأنّ الكتابة تخلق لغة خارج السياق لايمكن معارضتها كما يحدث مع الخطاب الشفوي، حيث يستطيع الشخص أن يعارض المتكلّم، لكن مع الكتابة فالأمر محتوم، فالكتابة تظلّ تقول ما هو مكتوب، أسواء كان المؤلف موجودًا، أم لا. وحتى إن كان ما هو مكتوب خاطئًا. ومن هنا، جاءت فكرة حرق الكتب لمنعها من القول، كما يُسجن الكاتب أو يقتل لمنعه من الكتابة. حتمية المكتوب هو ما يربطه بالنبوءات، لأنّ المكتوب هو تسجيل للنبوءة؛ وهذا ما نجده لدى الرومان الذين كانوا يعتمدون على إنياذة فرجيل في التنبؤ، مادامت هي ذاتها تدوينًا للنبوءة، التي قادت إينياس من طروادة إلى تلال الكابيتول، حيث بنى مدينة روما.
إنّ ارتباط الكلمة المكتوبة بالسحر والنبوءة موجود في كلّ المجتمعات؛ وما فكرة: (الكتيبة) في مجتمعاتنا، إلّا نتيجة للاعتقاد بقدرة الكلمات على التأثير في الآخر، وكشف المستقبل. يذكر أونج أنّ كلمة: (grammar) التي كانت تعني في القرون الوسطى: (المعرفة المستقاة من الكتب) قد تطوّرت، لتصبح بمعنى (تراث غيبي سحري) ومن ثمّ تحوّرت فيما بعد لتصبح: glammer)/القوة الساحرة). نظرت بعض المجتمعات التي تعرف قدرًا محدودًا من الكتابة إلى الكلمة المخطوطة على أنّها خطر يهدّد القارئ القليل الحيطة، لذلك كان لا بدّ من الغورو/ المعلّم الروحي للتوسّط بين القارئ والكلمة المكتوبة. هذا الغورو تقمصته الرقابة، ليس خوفًا من نبوءة، بل رعبًا من كتاب يعرّي الواقع البائس الذي تعيشه شعوب المنطقة العربية.
في زمننا الحديث بحثنا عن النبوءات، في شعر الشعراء وسرد الروائيين. ونحن إذ نفعل ذلك نتابع هاجسًا بشريّا قديمًا، لا يتعلّق بمعرفة المستقبل، بل بالقدرة على السيطرة على مصيره. يعرّي فوكو فكرة موت الإله، وأنّ الميتافيزيق ظلّ كما هو، وكلّ ما حدث بأن تمت نسبته إلى الإنسان، لكن،هيهات، أن يعني ذلك بأنّ الإنسان الميتافيزيقي إنسانٌ سيّدٌ على مصيره، يطالعه متى يشاء.
باسم سليمان
كاتب من سورية
خاص مجلة الفيصل


February 28, 2022
الفراشات البيضاء – قصتي في مجلة أفكار الأردنية شباط 2022 العدد 397
أخرج خطمه من بين قضبان القفص، كي يتذوّق طعم الفراشات البيضاء التي تذوب على لسانه، ما إن تلامسه، مخلّفة قطرات من الماء يتلمظها كأشهى حلوى كوفئ بها، بعد أن أصبح نجم السيرك الأشهر. هذه السعادة الغامرة التي يعيشها عند تساقط الثلوج لم تكن تدوم إلّا لدقائق معدودات حين يجتاز خلالها المسافة بين قفصه وخيمة السيرك.
كان الوحيد من بني جنسه، فأقفاص السيرك مليئة بالفيلة والنمور والقرود والحمام وحيوانات أخرى، لكنّها لم تكن تشاركه حلمه بتذوّق الفراشات البيضاء. كثيرًا ما تمنّى لو كان هناك كنغر آخر، فلا بدّ أنه سيقاسمه شغفه، لكنّ هذه الأمنية لم تكن تتحقّق إلّا على شكل قطرة ماء مالحة تسقط من عينه. لقد كانت أيامه تمضي بين حلاوة الثلج وملوحة الدمع، وانتصارات وخسارات يهلّل لها الجمهور بنفس الحماس، ومع أنّه أصبح مرهوب الجانب، أسواء من قبل العمال في السيرك أم من الحيوانات، إلّا أنّه ظلّ يخشى الرجل الذي يرتدي ثيابًا ملوّنة وله أنف أحمر، مع أنّ الأطفال وزّعوا محبتهم لهما بالتساوي!
عندما دخل المهرج أول مرّة إلى قفص الكنغر الصغير، لم يداعبه كما يفعل المدرّبون الآخرون مع حيواناتهم، بل ألبسه قفازين للملاكمة في يديه، وبدأ بتوجيه اللكمات إليه، آملًا أن تظهر غريزة الكنغر، فيبادله العنف بالعنف. لم ينتظر المهرّج وقتًا طويلًا حتى تفجّر غضب الكنغر في وجهه، فما إن بلغ الكنغر سنته الرابعة حتى أصبح يكيل للمهرج لكمات محكمة يرتج لها بطنه الضخم. وعندما طرحه أرضًا برفسة من قائمتيه الخلفيتين، ضحك المهرج حتى سقط أنفه الأحمر عن وجهه. تلقّى مالك السيرك الأخبار المفرحة من المهرّج، فأدرج على الفور، فقرة الملاكمة مع الكنغر، إلى جانب العروض التي تقدمها الدببة والفيلة والنمور، فامتلأت خيمة السيرك بالجمهور. وكما يحدث في مباريات الملاكمة انقسم الجمهور بين من يشجع الملاكم الإنسان، ومن يشجع الملاكم الحيوان. دارت في الخفاء المراهنات على من سيكون الرابح، وارتفعت أصوات التشجيع من الجمهور، منهم من يصرخ: انظر إلى الكنغر، إنّه يرقص كمحمد علي كلاي. وآخر يقول: إنّه روكي عالم الحيوانات، بل إنّه مايك تايسون. تتالت المباريات، وأصبح الكنغر نجم السيرك الأكبر.
كرّت الأيام وأصبح الكنغر مولعا بالملاكمة، تبهجه صيحات المعجبين، فينفخ صدره فخرًا، ويقوّس يديه كي تبرز عضلاته بحجم أكبر. لم يكن الكنغر يربح دومًا، لكنّه كان نجم المباريات رابحًا وخاسرًا، فخصّص له قفص كبير وشاحنة تقلّه عندما ينتقل السيرك من مدينة إلى أخرى. هذه الحياة المثيرة التي يعيشها الكنغر، لم تنسه موطنه في أستراليا وكثيرًا ما كان الحنين يستولي عليه، فتصيبه الكآبة التي لم يكن يخرجه منها إلّا الحلم، بأن يُسمح له بالقفز على البساط الثلجي ومطاردة الفراشات التي تذوب من حرارة الأنفاس. أصبح يعرف أن بلاده المسماة أستراليا تقع بعيدًا في الجنوب، وهو يعيش في شمال الكرة الأرضية. لكنه مازال يملك ساقين قويتين، ستمكّنانه يومًا ما من القفز إلى مسافات كبيرة، وعندها سيعود إلى موطنه.
***
كان الطقس باردًا جدًا والسماء ملبّدة بغيوم تنذر بالثلوج، عندما عبرت قافلة السيرك إحدى الغابات كي تصل إلى مدينة جديدة. فجأة اندفع دبّ إلى وسط الطريق، فاصطدمت به سيارة السيرك الأولى منتجة تصادم بعض مركبات السيرك، وتعطل القافلة عن المسير. تسبّب الحادث بانكسار قفل قفص الكنغر، وماهي إلّا لحظات حتى قفز الكنغر من شاحنته، وتتابعت القفزات حتى اختفت قافلة السيرك، ولم يعد يرى من حوله إلّا الأشجار. مضت ساعات والكنغر يقفز، والغابة لا تنتهي، وعندما نال منه التعب، اختار بساطًا من العشب الطري وغطّ في نوم عميق.
استيقظ الكنغر على صوت ضجّة بدأت تتنامى حوله. للوهلة الأولى ظنّ أنّه في السيرك على حلبة الملاكمة والجمهور من حوله يصرخ. وعندما توضّحت له الرؤية لم يكن الجمهور سوى حيوانات الغابة. شعر بالسعادة، فهو بين حيوانات مثله، فاستبشر خيرًا، لكنّ نظرات الحذر والريبة التي لحظها في عيون الدببة والذئاب والغزلان والبوم والغربان وحيوانات كثيرة أخرى لم يكن يعرف أسماءها، دفعته إلى التقليل من مشاعر الحماس في داخله. وقبل أن يفتح فمه ببنت شفة، كان أحد الذئاب قد شنّ هجومًا عليه. لم يمهل الكنغر الذئب كي يغرز أنيابه في ساقه، إذ عاجله بلكمة أطاحت به جانبًا مغمى عليه. وهنا انبرى الدب مزمجرًا واللعاب يتطاير من شدقيه واندفع نحو الكنغر. استند الكنغر على ذيله، وبقائمتيه الخلفيتين سدّد ضربة مزدوجة إلى صدر الدب الذي تراجع مذهولًا من قوة الضربة. همّ أحد الغزلان بالهجوم، إلّا أنّ البومة الحكيمة أمرت الجميع بالتراجع والصمت، ومن ثم خاطبت الكنغر الحائر والغاضب من استقبال الحيوانات له: من أنت، أيّها المتشبّه بالحيوانات؟ ألست إنسانًا!
صدم الكنغر مما قالته البومة وردّ: إنسان! أنا إنسان! أنا حيوان كالذئب الذي هاجمني، والدب الذي يتوعّدني بالموت، والغراب الذي يحدجني بنظراته من أعلى الشجرة
أمالت البومة رأسها من اليمين إلى الشمال، ومن ثمّ نفشت ريش صدرها وقالت: لكنّك تقف مطوّلًا على قائمتيك الخلفيتين وهذا ما لا تفعله الحيوانات إلّا نادرًا، ويداك حرّتان عند المشي مثل البشر، وهذه العضلات التي في ساعديك، لقد رأيت صنوها لدى الصيادين، حتى أنّك تلبس ما يستر القسم الأسفل من جسدك، والحيوانات لا تخجل من عوراتها!
تحسنّ مزاج الكنغر قليلًا، فالانتقال من التهيؤ للقتال إلى الحوار، قد يعني أنّه قد وجد ما يعزّز الأمل لديه في النجاة من هذه الغابة الكثيفة الأشجار: أنا هارب من السيرك، حيث تُستعبد الحيوانات لكي تقدّم عروضًا مفرحة للبشر، ففي السيرك يلبس الفيل قبعة، والدب قميصًا، والنمر يزيّن جيده حزام أسود، وهذا الشورت ألبسوني إياه في السيرك.
لم يعجب البومة الردّ الذي قدّمه الكنغر، فقد خبرت كثيرًا كم هو الإنسان ماكر: أيّها الإنسان كفّ عن التنكّر، فقد كشفنا ألاعيب صيادين أتوا قبلك، كانوا يتخفوّن بين الأغصان ومنهم من كان يقلّد نداءات التزاوج، فيندفع الذكور كالحمقى نحو الشراك التي نصبوها، وكلّهم يقين أن من يصوّت ليس إلّا أنثى عاشقة. لكن لابدّ من القول أنّ تنكّرك يكاد أن يكون متقنًا، وهذا بلا ريب من إبداع مخيلتك التي صنعت آلة القتل؛ البندقية ذات الصوت المدوي، إلّا أنّك قد فشلت هذه المرّة، فقد أوجدت حيوانًا لم نر مثيله قط.
شعر الكنغر باليأس ممّا قالته البومة: أيّتها البومة، أيّها الذئب، أيّها الدب، أيّتها الحيوانات؛ كيف للإنسان أن يتحدّث بلغة الحيوان؟
أحسّت البومة بأن خصمها من بني البشر قد بدأت قواه تخور، وأن دائرة الأسباب والنتائج التي قدمتها للكنغر أطبقت عليه كالفخ، ولم يبق إلّا أن يسجل تاريخ الغابة لحظة الانتصار العظيمة للحيوانات بقيادة البومة على بني الإنسان: يستطيع الإنسان أن يفعل ما يشاء، فمن خلال مراقبتي الطويلة له، أيقنت أن الإنسان فيه كل صفات ومميزات الكائنات الأخرى، من حشرات وحيوانات وطيور، لذلك لن يصعب عليه أن يتكلّم لغتنا.
استبدّ القنوط نهائيّا بالكنغر، وفكّر هل لعشرته الطويلة مع البشر دور في أنّ حيوانات الغابة لم تتعرّف عليه، فمن عاشر القوم أصبح منهم، ومع ذلك ظلّ يحدوه أمل غامض بأن تستوعب البومة قصته: أتسمحين لي أيّتها البومة بأن أخبرك قصتي، وبعد ذلك لك الحقّ بأن تفعلي ما تشائين!
البومة: تكلّم، فلن تخدعنا بكذبة أخرى أيّها الإنسان!
جحظت عينا الكنغر من الغضب المكظوم، وتمنّى لو كانت البومة في مدى لكمته، لنتف ريشها بضربة واحدة ومع ذلك بلع الإهانة، واستكان وبدأ يقصّ قصته: كنت كنغرًا صغيرًا، عندما تم خطفي من بلدي أستراليا وجيء بي إلى الشمال. لم أعرف بعد ذلك إلّا العيش في الأقفاص والملاكمة، وعندما سنحت لي الفرصة هربت؛ من يرفض أن يعود حرًّا كما ولدته أمه؟
كانت البومة قد أعدّت نفسها لتجهز على حجج الإنسان بالضربة القاضية: قلت لنا؛ بأنّك حيوان الكنغر، الذي خُطف من قبل رجال زرق، جاؤوا به إلى هنا بالصحن الطائر من بلد يسمى أستراليا ومن ثمّ أصبح ملاكمًا في السيرك، يا للعجب للقصة الماكرة! أيّها الإنسان، عفوًا أيّها الكنغر، إنّ الأشياء تُعرف بأشباهها، ففي هذه الغابة ألف دبّ، وألف ذئب، والكثير من الغزلان والغربان، لكن لا يوجد كنغر واحد يشبهك، وبعد كلّ هذا تريدني أن أصدقك.
مدّت البومة أجنحتها، وما إن فعلت ذلك حتى انسحبت الحيوانات جميعها واختفت، ولم تعد عين الكنغر تلمح لها أثرًا.
فكّر الكنغر لو أنّه وافق البومة على أنّه إنسان، فلربما سوف تساعده: أيّتها البومة، أنا إنسان ضائع في هذه الغابة، ولا أعرف طريق النجاة، فخذيني برحمتك ودلّيني على طريق النجاة.
البومة: كلا، لن أفعل، فلم يبق بنو البشر أثرًا للشفقة في قلوبنا، ولن ألوث سمعتي وحكمتي، بأنّ يقال من قبل الحيوانات أنّ البومة قدمت المساعدة للإنسان الذي يقتلها أينما رآها. هذه الغابة كانت يومًا، هي أمنّا جميعًا من حيوانات وبشر، لذلك سأتركك لرحمتها أيّها الإنسان.
صرخ الكنغر عندما رأى البومة ترفرف مبتعدة عنه، وتختفي بين كثافة أغصان أشجار الغابة: أيّتها البومة عودي، أرجوك، سأموت إن لم تساعديني، أريد العودة إلى بلادي…
لم يلق صوت الكنغر جوابًا، ولا حتى مجرد الصدى، فأقعى وبدأ بالنحيب.
ظلّ على هذه الحالة لفترة طويلة حتى شعر بفراشة بيضاء تستقر على أرنبة أنفه وتذوب سريعًا. نظر حوله، فرأى الثلج يتساقط عليه من فرجة من بين أغصان أشجار الغابة الكثيفة. أشعره الثلج بالأمل. انتصب على قائمتيه الخلفيتين، وبدأ يقفز، وما هي إلّا عدّة مئات من الأمتار حتى خلّف الغابة وراءه، ليطالعه الطريق العام. لقد عاد من حيث أتى، فقد كان يدور في دائرة طوال مدّة تيهه في الغابة.
لم تزل قافلة السيرك متوقّفة إلى جانب الطريق، فيما كان المهرج ذو الثياب الملوّنة يروح ويجيء قلقًا أمام قفص الكنغر. اقترب الكنغر منه، فربّت المهرّج على رأسه، وقاده إلى قفصه. كان الثلج قد بدأ يفرش الأرض ببساطه الأبيض، إلّا أن الكنغر هذه المرة، لم يخرج رأسه من بين قضبان القفص كي يتذوّق الفراشات البيضاء. كانت البومة تقف على قمة إحدى الأشجار تراقب ما جرى بين الكنغر والمهرّج، وفكّرت كيف أنّ الإنسان لا يقتل الحيوانات فقط، بل يسجن أخاه الكنغر أيضًا.


February 13, 2022
من النافع إلى المخيّس.. عن التراث العربي والسجون
باسم سليمان 13 فبراير 2022 مقالي في ضفة ثالثة

أبدع الإنسان الحرية، وفي الوقت نفسه أوجد نقيضها بالأسر والسجن، وبينهما كرّت حيوات بشرٍ، وختمت أخرى بالشمع الأحمر. وللسجون في البلاد العربية ديستوبياتها الخاصة بها، أكان ذلك في حاضر هذه البلاد، أو في ماضيها.
عرف العرب في جاهليتهم السجون كمنشآت خاصة عائدة لسلطات تابعة للقوى العظمى في ذلك الزمن، من فرس وروم. كما كان لدى المناذرة في الحيرة، أو الغساسنة في الشام، سجون. وقد سُجن طرفة بن العبد قبل قتله في سجن المشقَّر من قبل عامل النعمان بن المنذر على البحرين. وحبس النعمانُ الشاعر المنخّل اليشكري قبل قتله، وعدي بن زيد في سجن قرب الحيرة يسمى الثويّة، كما جاء في “معجم البلدان”. لكن في قبائلهم لم تكن هنالك من سجون، فقد كان الآسر يختصّ بحراسة أسيره، أو تُحفر للأسير حفرة يوضع فيها، أو يرمى في بئر. وسجن الخليفة عمر الشاعر الحطيئة في بئر، اقتداءً بما كان يحصل في الجاهلية. وفي ذلك يقول الحطيئة: أَلقَيتَ كاسِبَهُم في قَعرِ مُظلِمَةٍ/ فَاِغفِر عَلَيكَ سَلامُ اللَهِ يا عُمَرُ.
لقد كان للعرب في جاهليتهم نظام الأسر الناشئ عن الغزو والإغارة على القبائل الأخرى، حيث كان الأسير غنيمة يتم التفاوض عليها لجني المال، وخاصة إذا كان من الفرسان، أو من علية القوم. وإن لم يُوجد من يفتدي الأسرى، كانوا يحرقونهم، أو يرسلونهم إلى رجل في الطائف مختصّ بتعذيب الأسرى وقتلهم بأجر، كما حصل مع معبد بن زرارة(1).
وتمدّنا اللغة بعدد من الألفاظ تكشف بأنّ نظام الأسر لم يكن أقل ترهيبًا من السجون. فقد كان يقبض على الأسير بواسطة الجامعة، وهي قيد مصنوع من الجلد، أو الحديد، يُوضع في يديّ الأسير. وكان هذا في أبسط أشكالها، لكن إن أريد التنكيل بالأسير، فهنالك ما هو أشدّ من ذلك بكثير، ومنها: التكتيف وفق ما جاء في “المخصّص” لابن سيده: شدّ اليدين من خلف. والقرفصة وشدّ اليدين تحت الرجلين. والكرفسة تعني أن يضم الأسير بعضه إلى بعض. والكردسة مثل القرفصة، وقال امرؤ القيس:
فَبَاتَ على خَدٍّ أحَمَّ وَمَنكِبٍ/ وَضِجعَتُهُ مثلُ الأسيرِ المُكَرْدَسِ.
ومن القيد اشتّق التنكيل بالأسير والسجين، فالنكل، هو القيد الشديد. ولقد تعدّدت مسميات القيد الحديدي، فإذا بلغ غاية الثقل سُمي الكبل، وجمعه كبول، كما ذُكر في “المخصّص”، فلا يكاد ينهض الأسير، أو السجين حتى يكبّه الثقل على وجهه. وقد قال قيس بن الحدادية بعدما أسرته خزاعة في غارة لها على اليمامة يستجدي سيدها أن يحرّره:
دَعَوتُ عَدِيًّا وَالكُبولُ تَكُبُني/ أَلا يا عَدِيُّ يا عَدِيُّ بنَ نَوفَلِ.
ومن معاني الأسر العفس، وهذه الكلمة مليئة بدلالات الإذلال، فالناقة المعفوسة هي المحبوسة الممنوعة من الرعي والشرب. والأسر صنو السجن، وقد كانت العرب تطلق على السجن؛ اسم (مخيّس)، وكانوا إذا خيّسوا الإبل منعوها من الرعي وحبسوها للنحر.
وكان الآسر، أو ولي الأمر، يعذّب الأسير، أو السجين، بالقيود، حتى لا يكاد ينهض من مكانه، حتى أنّهم ذهبوا إلى ربط لسان الأسير، إن كان شاعرًا بنسعة(2) تخوّفًا من هجائه، وبذلك أخبر عبد يغوث الحارسي عندما أسر:
أَقولُ وَقَد شَدّوا لِساني بِنِسعَةٍ/ أَمَعشَرَ تَيمٍ أَطلِقوا عَن لِسانِيا.
وقد تمادى العرب في أساليب التنكيل. وممّا يذكره لنا التراث آلةً تُسمى العذراء(3) كانت تُوضع في حلق السجين. وكانت هنالك آلة المقطرة(4)، حيث تجعل أرجل السجناء في خشب مفلوق على سعة الساق، فلا يقدرون على أيّ حركة.
قال الخليفة عثمان: من يزع الله بالسلطان أكثر ممن يزع بالقرآن(5). هذا القول قول السلطة والسياسة، فالالتزام بالقوانين ـ في الأعم الأغلب ـ يأتي خوفًا من بطش السلطة، لا عن قناعة إيمانية. إنّ تاريخ السجون في الإسلام يبدأ من تشكل النواة السلطوية في المدينة على زمن الرسول الكريم، وإن لم يأخذ صورة واضحة، إلّا مع الخليفة الرابع علي، ومن بعده معاوية. ولقد ذكرت كتب التراث السجون ومسجونيها، وخاصة من أهل السياسة والأدب، فقدمت لنا صورة جيدة عن السجون ومواقعها والمعاملة فيها.
لم يتخذ الرسول محبسًا دائمًا، كما جاء في التراتيب الإدارية للكتّاني، كذلك فعل خلفه أبو بكر، وعندما كان يُضطر لأن يحبس شخصًا، فيقام صاحب الحقّ على ملازمته ومنعه من الفرار حتى يتم البت بأمره. لكن إن كان الأمر متعلّقًا بحقوق السلطة الناشئة في المدينة، فقد كان يُتخذ حبس مؤقت، كما حدث عندما قُرر الاقتصاص من بني قريظة بعد غزوة الأحزاب، فقد اُتخذ لهم محبس في دار ابنة الحارث، وهي امرأة من الأنصار. أمّا في زمن الخليفة عمر، فقد كان الحبس في الآبار. لكن عندما اشتدت الرعية على عمر، كما ذكر في التراتيب الإدارية، اشترى دارًا من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم، جعله محبسًا للخارجين على القانون. ولا يعلم إن كانت الذلفاء التي سجنت على زمن عمر لتغزّلها برجل، قد تم حبسها في بئر، أو في السجن الذي اشتراه الخليفة عمر من صفوان، ولكن أُطلق سراحها بعد أن تبرّأت من غزلها.
وجاء في “أنساب الأشراف” بأنّ الخليفة عثمان حبس الشاعر ضابئ البرجمي حتى مات في السجن. ولربما حبسه في الدار التي اشتراها عمر من صفوان بن أمية.
ذكر ابن سيده في “المخصّص” بأنّ أول من بنى سجنًا كان الخليفة الرابع علي، وأسماه (نافعًا)، وقد بناه في الكوفة. ويستخلص من اسمه الغاية الإصلاحية منه، لكن هذا السجن لم يكن مستوثق البناء، والهروب منه من السهولة بمكان، فهدمه وأشاد مكانه سجنًا منيعًا، أسماه (المُخيّس)، لأنّ به يُذل المحبوسون، فقد اضطرب الناس في زمنه أيّما اضطراب. ولقد ذكر الأصعمي شعرًا للخليفة الرابع بهذا الأمر:
أَما تَراني كِيِّسًا مُكَيَّسا/ بَنَيتُ بَعدَ نافِعٍ مُخَيَّسا.
لقد أرهب هذا السجن قطاع الطرق والناس، ومن الذين ذكروا خوفهم من المخيّس في أشعارهم كان الشاعر شبيب بن كريب الطائي، كما جاء في “البيان والتبيين” للجاحظ، فقال:
تجلّلت العصا وعلمت أنّي/ رهين مخيّس إن يثقفوني.
تكاثرت السجون مع الدولة الأموية بشكل كبير، واتخذت الأبنية القديمة والمنشأة حديثًا سجونًا. ويورد المسعودي عن دار معاوية المعروفة بالخضراء، بأنّ فيها الشرط والحبوس. ولقد أورد المقريزي خبرًا بأنّ أول من وضع الحرس والسجن كان معاوية. وعندما جاء الحجَّاج بنى العديد من السجون، منها: لعلع والديماس، الذي سجن فيه جُحدر اللص. وقد اشترط الحجاج لكي يفرج عنه أن يصارع أسدًا مجوّعًا، ففعل جحدر وقتل الأسد، فأطلقه الحجّاج. وفي ذلك يقول جحدر:
إِنَّ اللَيالي نَجَت بي فَهيَ مُحسِنَةٌ/ لا شَكَّ فيهِ مِنَّ الدَيماسِ وَالأَسَدِ
وَأَطلَقَتني مِنَ الأَصفادِ مُخرِجَةً/ مِن حَولِ سِجنٍ شَديدِ البَأسِ ذي رَصَدِ.
وممّا ذكره ياقوت الحموي عن سجون الحجاج: قيل بأنّه أحصى في محبس الحجاج ثلاثة وثلاثين ألف إنسان، لم يحبسوا في دم، ولا تبعة، ولا دين، وعدّ من قتلهم صبرًا، فبلغوا مئة وعشرين ألفًا. وأورد المسعودي عن محابس الحجاج بأنّ الحجاج قد توفي وفي سجونه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة، وكان حبسه حائرًا، لا شيء يسترهم فيه، من حرّ ولا من برد، وكان يسقون الماء مشوبًا بالرماد.
اتبع العباسيون الأمويين في بناء السجون واستخدام القلاع والبيوت كمقار للسجون، فقد حوّل العباسيون دار مروان بن الحكم في المدينة إلى سجن. كذلك فعلوا بقصر عمر بن هبيرة في الكوفة. وكانت السجون من ضمن خطط عمارة المدن التي بناها العباسيون في الهاشمية وبغداد وسامراء. وقد كان للسجون ذكر كبير في خطط المقريزي، وخاصة السجون التي في القاهرة. وقد وصف ما كان يحصل فيها من أهوال.
لقد أناطت السلطات الإسلامية بالسجون من يتولّاها من حراس وأساوير(6) وسبابيج(7)، وعادة ما كانوا من الفرس، أو الهند. لكن بعد ذلك عمّ اسم (جلواز) وجمعه جلاوزة، وهم الشرط المختصّة بحراسة السجن. وقد قدّرت السلطات الموارد التي تحتاجها الحبوس، حيث جاء في “تحفة الأمراء” لهلال الصابئ، بأنّ الخليفة علي هو أول من سنّ الأرزاق المترتبة للمسجونين، من كسوة صيفية، وأخرى شتوية، وطعام. وظلّ ذلك متبعًا حتى أصبحت من بنود الموازنة، كما جاء في “تحفة الأمراء”.
لم يغب الفساد عن إدارة السجون، بل كان كثيرًا، حتى أنّ السجون في العصر المملوكي كانت تعهد لأحدهم كي يستخرج من المسجونين أكبر قدر من المال.
وحوت السجون كلّ طبقات المجتمع الإسلامي، من الملوك إلى العبيد، والعلماء والفقهاء، والشعراء والكتاب، والمعارضين السياسيين، وأصحاب الثورات، والذكور والإناث. ويكاد جلّ من عرفناهم من شعراء وعلماء وفقهاء في ذلك الزمن قد سجن، أو قتل بعد سجنه. ونكتفي بذكر بشار بن برد، وأبو العتاهية، والطبيب ابن سينا، والسهروردي، والمعتمد بن عباد الأندلسي، الذي سجن في أغمات في المغرب، وغيرهم كثير.
ولكي يكون لنا تصور يشي بكثير عن أحوال ذلك الزمان، وما يصيب أهل السياسة فيه، لا بدّ من ذكر الخبر التالي: فقد سُئل يزيد بن المهلّب(8): “لماذا لا تتخذ لك دارًا. قال: وما أصنع بها، ولي دار مجهّزة على الدوام، فقيل له وأين هي؟ فقال: إن كنت الوالي فدار الإمارة، وإن كنت معزولًا فالسجن”.
أنتج هذا الواقع أدبًا عرف بأدب السجون، وهو مبثوث في الكتب التراثية. وأظهر هذا الأدب معاناة السجين من جهة، والتذلّل إلى السلطات حتى تعفو عنه من جهة أخرى. ولقد عرفنا عبره كثير من أخبار السجون والمسجونين.
ونختم هذا المقال برأي الفقه الإسلامي، الذي نتج عن واقع الحال، فلقد ذكر الكتّاني في “التراتيب الإدارية” عن الماوردي: “الحبس الشرعي ليس هو السجن في مكان ضيق، وإنّما في تعويق الشخص، ومنعه من التصرف بنفسه، سواء أكان في بيت، أو في مسجد. وأمّا الحبس الذي هو الآن، فإنّه لا يجوز عند أحد من المسلمين، وذلك لأنّه يجمع الكثير في موضع يضيق عنهم غير متمكنين من الصلاة والوضوء. وقد يرى بعضهم عورة بعض، ويؤذيهم الحرّ في الصيف والبرد في الشتاء”. ولا ريب أنّ هذا الرأي الفقهي فيه من المثالية الكثير، فالواقع كان ينكره جملةً وتفصيلًا؛ وما أشبه البارحة باليوم(9).
https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/revisions/2022/2/13/%D9%D9-%D8%A7%D9%D9%D8%A7%D9%D8%B9-%D8%A5%D9%D9-%D8%A7%D9%D9%D8%AE%D9%8A%D8%B3-%D8%B9%D9-%D8%A7%D9%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-%D8%A7%D9%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D9%D8%A7%D9%D8%B3%D8%AC%D9%D9
المصادر والهوامش:
1- الأغاني لأبي فرج الأصفهاني، تحقيق سمير جابر ـ دار الفكر ـ بيروت.
2- لسان العرب لابن منظور. النِّسْعُ، سَيْرٌ يُضْفَرُ عَلَى هَيْئَةِ أَعِنَّةِ النِّعَالِ تُشَدُّ بِهِ الرِّحَالُ.
3- المخصص لابن سيده: العذراء؛ قيدٌ يوضع في حلق الإنسان، فيمنعه الأكل والكلام وإطباق فكيه.
4- القاموس المحيط للفيروزآبادي: مقطرة السجان؛ هي خشبة فيها فروق على قدر سعة الساق يحبس فيها الناس.
5- النهاية في غريب الحديث لابن الأثير الجزري، الناشر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية قطر.
6- القاموس المحيط: الأساوير مفرده أسوار؛ قائد الفرس والجيد الرمي بالسهام والثابت على الفرس.
7- لسان العرب: السبابيج قوم من السند كانوا في البصرة يعملون كجلاوزة وحراس سجون.
8- وفيات الأعيان لابن خلكان، دار صادر ـ بيروت.
9- طرفة بن العبد: كُلُّهُمُ أَروَغُ مِن ثَعلَبٍ/ ما أَشبَهَ اللَيلَةَ بِالبارِحَه.
February 12, 2022
الحبّ يجري كأرنبٍ/والفراق يمشي كسلحفاة؛هكذا نستمع للقصّة كالأطفال…
نص من ديوان: مخلب الفراشة
كنتُ أقولُ عن خيبتكِ: إنّها خابية[1]
أسوقُ إليها الينابيع
وإنْ كنتُ راعيًا للسّراب
فكلّ خداع أمّه ماء
أنا ما أنكرتُ رحمي يا أنثى
ورجمتُ الثّدي وقلتُ: إنّه زنّاء
كلّ ما في الأمر
أنّني تامّ الخطيئة
ولم أقل:
ليت الفتى حجر[2]
بل ليته مات.
****
هكذا…
رحتُ أحنّطُ الهواء، أنزعُ نجومَه، وأضع الخادراتِ مكان القلبِ، أحبسُه في فانوس الحكاية لعلّني أعود طفلَ أنفاسكِ.
هكذا…
ارتديتُ مسوح كيلوباترا، ربّيتُ شعاع الضّوء، فنضج كأفعى الغياب، أرسلتُها في سريري، فلدغتِ الحلمَ قبل الاحتلام.
هكذا …
كنتُ يهوذا، أعفّ عن تقبيلكِ، وأكتبُ مأساتي في الخفاء، إلى أن شاء النّصّ، فسقط النّصيف وعرفتُ أنّني مقتول، فخنتُ الفتق، وأسدلْتُ الرّتقَ وقبّلتكِ.
هكذا…
أُطعمُ نملَ الوجع، شعير الذّكريات، فيما تطحنين قمحَ خيانتي، وتسكّنين به زمنًا قادمًا.
****
أدعكُ كعبَ الذّاكرة بحجر الخفَاف[3]
ليصبح الانعكاس صقيلًا.
أتركُ المرآة كالأميرة النّائمة
وأعطي إلى صانع المجامر
قبلتي النّحاس
ومن ثمّ أمضي بلا شفاه. ظلّي كبينوكيو[4]
يقول: الشّمس لا تغرب
إلّا أنّه يطول كغيابكِ حتى مشرق الشّمس. التقطُ القمرَ من وجه الماء
أقول عن نوره: عطشٌ
وأرفعه إلى السّماء. هكذا…
كنتُ ذئبَ يوسف
لأنّ القمر لا يكتمل
إلّا بعواء.
****
هكذا…
كانتْ تنزعُ أضلاعَ صدري واحدًا، واحدًا، قائلة:
يحبّني لا يحبّني.
21/ 5/ 2014
[1] – جرّة من فخار تعبأ بالماء.
[2] – إشارة إلى بيت الشاعر الجاهلي تميم بن مقبل.
[3]– حجر يستخدم في تنظيف القدم من الجلد الميّت.
[4] – قصة دمية خشبية.

أذن من طين. أذن من عجين – باسم سليمان
أذن من طين
ليست إلا بعضًا من آدم
أنسجها على دولاب الحرير
وأشويها في عين الشمس
ثم أحطمها
كما يكسر الشاعر
الوزن في الحنين
فلا أسمع وسوسة
العاشقين.
أذن من عجين
أدسّ فيها الخمير
وأخبزها كقرص القربان
وأبتلعها كحوت في جوفه يونس أو خاتم
فلا أصغي إلى ثرثرة الربّان
عن حوريات يخطفن البحارة الشبان
فينقذوهن من الموانئ والمشيب.
أذن كفم
أذن كعين
فلا يخدعنك
محور الصوت
ولا محور التدوين
إذن
أذن من طين
أذن من عجين
لا تهجر الجرس
أيّها الرنين.

January 28, 2022
نحن والمسرح.. عندما أضعنا ظلّ ابن دانيال! باسم سليمان28 يناير 2022
تكمن أهميّة تراث ما بالقدرة على قراءته بالشكل الصحيح! فهل قرأنا تراثنا كما يجب؟ إنّ أفضل الأجوبة تكمن في تقديم الأمثلة، ولنأخذ معضلة الرقابة في عالمنا العربي، ولنقارنها بالرقابة في تراثنا، فنجد أن كتّابنا في الماضي كانوا يضمّنون مقدمات كتبهم دفاعًا موضوعيّا عن ما يعرضونه من أخبار قد لا توافق أذواق البعض. ونستشهد بابن قتيبة في كتابه؛ عيون الأخبار، الذي ضمنه دفاعًا موضوعيًّا يسدّ على المتزمّتين منافذ هجومهم بالقول: “وسينتهي بك – أي المتزمّت – كتابنا هذا إلى باب المزح والفكاهة، وما روي عن الأشراف والأئمة فيها، فإذا مرّ بك حديث تستخفّه أو تستحسنه، أو تعجب منه، أو تضحك له، فاعرف المذهب فيه وما أردنا به، واعلمْ أنّك إن كنت مستغنيًّا عنه بتنسّكك، فإن غيرك، ممن يترخّص فيما تشدّدتَ فيه، محتاج إليه، وإنّ الكتاب لم يعمل لك دون غيرك، فيهيأ على ظاهر محبتك، ولو وقع فيه توقي المتزمّتين، لذهب شطر بـهائه، وشطر مائه، ولأعرض عنه مَن أحببنا أن يُقبِلَ إليه معك”.
إنّ الفقرة التي أوردناها لابن قتيبة، تشير إلينا بالذي كان يتوجب علينا فعله تجاه تراثنا، حتى لا نفقد ما يحويه من كنوز، فلا نعرض عنها لأنّها لا تتفق مع أذواقنا، وتكشف لنا كيف أضعنا أهم كاتب مسرحي في قروننا الوسطى، وكل ذلك لأنّه كان فاحش الكلام بذيء القول، لكن أليس لكل مقام كلام، وبهذا يستبعد الحرج، فلو تمعّنّا في قول ابن قتيبة لمَا انتظرنا من الباحث الفذ مارفن كارلسون أن يتحفنا بعجائب ابن دانيال.
إنّ غياب المصطلح من العدّة المفهومية لفنّ ما، لا يعني انعدام وجوده في الواقع، فالتطهير/Katharsis في الفن المسرحي الذي رأى فيه أرسطو سببًا معقولًا ومشروعًا للنظر بشكل إيجابي إلى المأساة بعدما أسقطها أفلاطون من عداد جمهوريته(1) لا نجد له مقابلًا مفهوميّا في مسرح خيال الظل العربي، لكن لنتأمل هذا الخبر الذي يبحث في منشأ خيال الظل والذي يرجعه إلى الصين. يحكى أنّ أحد أباطرة الصين، قد سيطر عليه حزن عميق إثر موت زوجته، ولم تفلح كل المساعي كي يسلاها، حتى قام فنان باختيار امرأة لها شبه كبير بزوجته، وجعلها تمرّ خلف ستارة بيضاء، فسقط ظلّها على الستارة. وأخبر الفنان الإمبراطور بأنّ هذا الخيال، هو طيف زوجته الحبيبة، فكان الخيال شفاء للإمبراطور من حزنه وسقمه(2).
أليس ما حدث مع الإمبراطور هو التطهير، حيث تعود النفس إلى اتزانها العاطفي والإنفعالي بعد مشاهدتها المأساة. لن نكتفي بهذا المثل من بلاد الصين، حيث أنّنا سنتناول في هذا المقال خيال الظل العربي ورائده ابن دانيال الموصلّي الذي ذهب مارفن كارلسون(3) إلى وصفه بأنّه أرستوفانيس العرب(4). يذكر بأنّ القاضي الفاضل وزير صلاح الدين بعدما رأى عرضًا لخيال الظل قال: “رأيت موعظة عظيمة، رأيتُ دولًا تمضي ودولًا تأتي، ولمّا طُويَ الإزار- طيّ السجلّ للكتب- إذا المحرك واحد”(5). وورد لدى الأبشيهي في المستطرف في كل فن مستظرف، أبياتًا اختلف في نسبتها إلى الشافعي، لكنّها ذات دلالة مهمة على تجذّر فن خيال الظل في الثقافة العربية:
رأيت خيال الظلّ أعظم عبرة/ لمن كان في علم الحقائق راقي
شخوصًا وأصواتًا يخالف بعضها/ لبعض وأشكالًا بغير وفاق
تجيء وتمضي بابة(6) بعد بابة/ وتفنى جميعًا والمحرّك باقي.
إنّ هذه الأبيات تنمذج مفهوم المسرح وفق الثقافة العربية الإسلامية، وتكاد تكون صدى لمقولة هوراس في كتابه فن الشعر، بأنّ من أهداف المسرح المتعة والتعليم(7). ولا يختلف هذا التفسير عن ما ذهب إليه القاضي الفاضل بعدما رأى إحدى مسرحيات خيال الظل. إذن كان لنا تطهيرنا الأرسطي، وإن غاب مصطلحه عن ثقافتنا.
تعود أقدم إشارة، إلى الآن، لفن خيال الظل العربي، إلى ماورد في كتاب الديارات للشابشتي، حيث أورد خبرًا عن الشاعر دعبل الخزاعي – القرن الثالث الهجري- بأنّه أراد هجاء أحد المخنثين، فتراجع دعبل عن ذلك بعد أن ردّ عليه قائلًا: “والله لإنْ هجوتني لأخرجنّ أمّك في الخيال” أي خيال الظل. هذا دليل آخر على أنّ خيال الظل قديم في تراثنا وكان له حضور حقيقي، وهذا ما يبرهن عليه الباحث شموئيل موريه(8) في مقالته؛ العرب والمسرح من الجاهلية إلى القرن التاسع عشر، حيث يقول بأنّ آراء المثقفين والمسرحيين العرب ذهبت في اتباع آراء المستشرقين في أوائل القرن العشرين المنصرم؛ على أنّ العرب عرفوا المسرح عبر خيال الظل والدمى ولم يعرفوه بشريّا! ومن ثمّ يتابع شموئيل عبر تقديم الأدلة التي تثبت ممارسة العرب في تراثهم للمسرح البشري، الذي أسقطناه من حسابنا متبعين في ذلك رأي المستشرقين، مع أنّ الأدلة التي استند عليها شموئيل مورفيه مبثوثة في كتبنا التراثية. وها هو باحث آخر ويدعى مارفن كارلسون قد انطلق من ذات الأسس التي ابتنى عليها شموئيل أطروحته ومن ثم توسّع في دراسة مسرحيات ابن دانيال الثلاثة: طيف الخيال، وغريب وعجيب، والمُتيَّم والضائع اليتيم، ليصل بموجب مسرحية ابن دانيال؛ المُتيّم والضائع اليتيم إلى المقارنة البنيوية الفنية التي يتقاطع فيها مسرح ابن دانيال مع مسرح أرستوفانيس.
يتناول مارفن في مقالته مرحلة مفصلية في تاريخ المسرح العربي في الزمن المملوكي من خلال بابات ابن دانيال، وخاصة مسرحيته المُتيّم والضائع اليتيم التي حققها الراحل د. إبراهيم حمادة في كتابه؛ خيال الظل وبابات ابن دانيال/ 1961، لكنّه عمد إلى حذف أكثر أجزاء بابة؛ المتيم والضائع اليتيم، لما فيها من فحش في الألفاظ! فغيّب عنّا جوهرة مسرحية مع أن ابن قتيبة قد حذرنا من اتباع رقابة المتنزمّتين. لقد سمّى كارلسون ابن دانيال بأرستوفانيس العرب، وهذه التسمية ليست له، بل للباحث وليم هسلي الذي استند فيها للتشابه بين أسلوبي ابن دانيال وأرستوفانيس الفاحش والبذيء. هذا الفحش في الكلام أغمض الطرف عن إبداع ابن دانيال، فلم تتجاوز المقاربة بينه وبين أرستوفانيس البذاءة اللفظية، فيقول كارلسون: “وهي أنّه عند كل من الكاتبين تختلط هذه المادة الدنيوية بشعر غنائي رائع مشكلة مزيجًا صادمًا من الأسلوب والموضوع”. ويعلل تأخر الكشف عن التقارب البنيوي الفنّي المسرحي بين ابن دانيال وأرستوفانيس لتأخر ترجمة بابة؛ المتيم والضائع اليتيم إلى الإنكليزية. ولنا أن نسأل، ألم يضيع د. حمادة على الباحثين العرب فرصة إيجاد تلك التقاطعات الحتمية بين مسرح أرستوفانيس وابن دانيال. ماذا لو أنّه لم يمارس تلك الرقابة الأخلاقية الضارة بالإبداع؟
يشرح كارلسون بالتفصيل اللحمة بين مسرح أرستوفانيس وابن دانيال، ويرى أنّه لم يوجد حتى في الغرب من قام بنسخ البنية المعقّدة والمركّبة للمسرح الأرستوفانيسي، لذلك يستغرب وجودها عند ابن دانيال بهذا التفصيل الملحوظ، فبحث عن صلة تفتح الباب على مصراعيه تفيد بأنّ العرب قد اطلعوا على المسرح الإغريقي بشكل أكبر ممّا كان يعتقد، ويورد رأيّا لأحد أساتذة الكلاسيكيات أوليفر أوفيروين بأنّ مسرحيات ميناندر كانت ضمن المناهج التعليمية في العصور الوسطى العربية، لكن كارلسون يمعن في البحث معلّلًا ذلك بأن ألفة العرب بالتراث اليوناني كانت مقبولة، لأنّ العرب في القرون الوسطى قد ترجموا قدرًا مهمًا من المؤلفات اليونانية، لكن التحدّي يكمن في الإطلاع على مسرحيات مخصوصة كمسرحيات أرستوفانيس ذات اللغة الصعبة حتى على المتعلِّم تعليمًا جيدًا. ويتابع بأنّ اعتراضه لا يوصد الباب أمام الباحث، فالعلاقات بين البيزنطيين والمماليك كانت لها أيام جيدة، وقد اهتم البيزنطيون جدًا بمسرحيات أرستوفانيس، ومن المعقول جدًا أنّها قد تسرّبت إلى مكتبات القاهرة عبرهم، فقد وصلت شعبية أرستوفانيس في القرن الثالث عشر إلى مستويات عالية في العاصمة البيزنطية، فقد اهتمت الأسرة الحاكمة هناك بمسرحياته. ويدعم هذا التوجّه العلاقات الدبلوماسية والثقافية الكبيرة بين المماليك والبيزنطيين، ولأنّ ابن دانيال كان من حاشية الملك قلاوون، كان له علاقات قوية مع ولي عهده ووزيره ابن الخليل الذي ظهر في إحدى مسرحيات ابن دانيال، فلا بدّ أنّه قد اطلع على نتاج أرستوفانيس.
إنّ ما قدّمه مارفن كارلسون عن عبقرية ابن دانيال يطرح علينا سؤالًا ممضًّا عن علاقتنا السيئة مع تراثنا، فأول البحوث التي نقّبت عن مسرحنا كانت مع الباحث الألماني جورج ياكوب وغيره من الباحثين الغربيين الذين قطعوا صلتنا مع المسرح البشري، وأثبتوا لنا معرفتنا بمسرح خيال الظل والدمى فقط. ومن ثم ردّد بعدهم الباحثون العرب مقولاتهم. ولم يشذ عن هذا النهج إلّا قلّة لم تسعفهم المراجع ولا البحوث ونمثل لهم بقول يوسف إدريس صاحب الحدس الصحيح الذي سجله في مقدمة مسرحيته الفرافير: “إنّه متى وجد شعب ما، فلا بدّ أن يخلق هذا الشعب فنونًا، كافة ألوان وأشكال الفنون، فنونًا متميّزة عن فنون الشعوب الأخرى ومختلفة اختلاف الحياة عند هذا الشعب وعند ذاك، نستطيع أن نقول: أنّ هناك مسرحًا مصريًّا كائنًا في حياتنا وموجودًا، ولكننا لا نراه لأنّنا نريد أن نراه مشابهًا ومماثلًا للمسرح الإغريقي والأوروبي الذي عرفناه وترجمناه واقتبسناه وعرّبناه ونسجنا على منواله من أواخر القرن التاسع عشر إلى اليوم”. وأمام هذا الواقع ألا يحقّ لنا أن نستخدم التطهير الأرسطي لنعيد اكتشاف تراثنا باتزان وعقلانية وموضوعية تستبعد الأحكام المسبقة والأخلاقيات اللاعلمية التي شوّهت رؤيتنا تجاه ماضينا بين التليد والمتخلّف؟
إنّ ميزة ابن دانيال الهارب من الموصل بسبب غزو المغول إلى القاهرة، أنّه لم يستكن للتقليد بل صعد بإبداعه إلى القمم التي نكتشفها، وللأسف مع باحث غربيّ، لكن هذا الباحث كان من الموضوعية بمكان، أنه لم يحمّل ابن رشد فهمه المغلوط لفن الشعر لأرسطو الذي أخذه الأوربيون عنه، بل شرح بأنّ فهم ابن رشد كان موافقًا للتقاليد والقناعات المسرحية التي ورثها الغرب عبر الرومان، لذلك تقبلوها بكلّ رحابة صدر، وكأنّه يخفف المسؤولية المعرفية عن ابن رشد. وهاهو من جديد يمنحنا أرستوفاننا العربي الذي غمطناه حقّه عبر أخلاقيات زائفة ورقابة بائسة، فهل سنقبله وفق تبعية الغالب للمغلوب، أو لأنّنا نرغب حقّا بإعادة الصلة الحقّة مع تراثنا؟
هوامش ومصادر:
، المركز القومي للترجمة- 2010.مجلة الفيصل، العدد 119- السنة العاشرة، كانون الثاني 1987.مجلة مسرحنا، الأعداد: 594-595 سنة 2019. المقال: (ابن دانيال، أرستوفان العرب- مارفن كارلسون ترجمة سباعي السيد). وقد نال مارفن كارلسون عن هذا المقال جائزة أوسكار بروكيت بعد أن نشره في مجلة الدراما المقارنة/ Comparative Drama.مؤلف مسرحي كوميدي يعتبر من رواد الكوميديا في اليونان القديمة.مطالع البدور في منازل السرور، تأليف علاء البهائي الغزولي مطبعة دار الوطن مصر 1881.والبابة: مشهدٌ مسرحيّ، وتترادف مع كلمة فصل مسرحي.نظريات المسرح، الجزء الأول، مارفن كارلسون.http://www.jehat.com/ar/JanatAltaaweel/maqalatNaqadeya/Pages/7-5-2008.htmlباسم سليمان
خاص ضفة ثالثة

January 21, 2022
January 19, 2022
طارق بوحالة: القلق الوجودي في رواية جريمة في مسرح القباني لباسم سليمان
يتخذ الأديب السوري باسم سليمان من الكتابة “شعرا وقصة ورواية ومقالا صحفيا” مساحة للبوح يسجل فيها أهم مواقفه من الحاضر العربي عموما والسوري خصوصا. وهو يملك في رصيده الإبداعي أعمالا كثيرة، يمكن أن نذكر منها: مجموعة قصصية بعنوان: تماما قبلة، صدرت عام 2009، ورواية “نوكيا” الصادرة عام 2014، و”جريمة في مسرح القباني” وهي روايته الصادرة عن منشورات ميم الجزائرية عام 2020، وفيها حاول باسم سليمان المزج بين أساليب عديدة.
تستحضر هذه الرواية مدينة دمشق لتجعل منها فضاء رحبا تتمسرح عبره أحداثها المختلفة، ويلجأ باسم سليمان إلى استدعاء مجموعة من الأمكنة “الخاصة” التي لها علاقة عضوية بالخطاب العام المؤسس لتمفصلات الرواية. فمقر الشرطة، ومسرح القباني، وجسر الرئيس، ومزة الجبل، وحارة الخزان وغيرها هي الأمكنة التي تم توظيفها قصد رسم معالم الشخصيات الرئيسية التي تلعب دورا بارزا في تشكيل الأحداث الفاعلة فيها.
ونعثر على شخصيّات المحقق هشام والمساعد جميل وبائع الكتب المستعملة وعبد الله بن أمة الله الذي يعد بمثابة الخيط الجامع لخيوط العملية السردية، كونه “الضحية” التي تدور حولها التحقيقات بهدف كشف تفاصيل الجريمة. كما يستدعي الروائي شخصية من الواقع السوري وهي المحامي السوري ” هائل منيب اليوسفي” الذي كان يكتب نصوصا للتمثيلية الإذاعية “حكم العدالة” . وقد اقترضت الرواية من هذه التمثيلية شخصيتي المحقق هشام والمساعد جميل.
وتحاول رواية “جريمة في مسرح القباني” الغوص في العوالم الجوانية لأهم شخصياتها، ويتجلى ذلك من خلال البحث في مواطن الصراع النفسي الذي تعيشه شخصيات كل من المحقق هشام وأحدب جسر الرئيس وعبد الله ابن أمة الله. ونجد شخصية المحقق التي تتجسد في الرائد هشام، الذي يشرف على عملية التحقيق في جريمة مقتل عامل النظافة ومحرك الدمى “عبد الله بن أمة الله” يوم عيد الأضحى في مسرح القباني، ويتعرف هذا المحقق على أحدب جسر الرئيس بائع للكتب المستعملة، أين كان يزوره في بسطة الكتب لاقتناء بعض الكتب.
أما شخصية أحدب جسر الرئيس فهي من الشخصيات المحورية التي تنبني عليها أحداث الرواية، فهو المتهم الرئيس في جريمة قتل عبد الله بن أمة الله الذي وجد جثة هامدة في مسرح القباني، خاصة وقد كانت بينهما علاقة صداقة. ولبائع الكتب المستعملة حكايته الخاصة التي ترسمها الرواية، فهو…القادم من مدينة حلب عام 1979 إلى دمشق هربا من ثأر يطارد عائلته، كانت انفجارت الأزبكية بدمشق عام 1981 سببا في إصابة ساقه مما خلف أيضا حدبة في ظهره ، كان يعمل حارسا ليليا في مسرح القباني، وبائعا للكتب المستعملة في، وهو الأمر الذي سهل عليه أن يعيش متنكرا عن الذين يطاردونه قصد الثأر منه… (ص25)
ويتم اتهام أحدب جسر الرئيس بجريمة قتل عبد الله بن أمة الله، كونه كان حاضرا في مسرح القباني وقت الجريمة، صبيحة عيد الأضحى. غير إنه يدافع عن نفسه قائلا: ” طلب مني زجاجة ماء، فهرعت إلى محرسي لأجلب له ما يروي عطشه، ولما عدت وجدته مستلقيا على خشبة المسرح. تحيط به الدمى ومن ضمنها دمية الجثة التي تمسك بخيط يلتف على رقبته، فيما تقبض الدمى الأخرى على ثلاثة خيوط. تنطلق من يده اليسرى وساقيه، بينما بقيت يده اليمنى حرة من قيد الخيط، ظننت أنها خدعة أو مزحة ثقيلة منه، إلا أن ذلك لم يدم طويلا ، فقد كان ميتا، لم أدر ماذا أفعل، فاتجهت كالمسرنم واتصلت بمخفر الشرطة مبلغا عن وجود جثة على مسرح القباني. (ص 30)
أما الشخصية الثالثة فيمثلها عبد الله بن أمة الله، وهو “للحقيقة لا يملك اسمه الأول، فكما نعرف، اللقيط لا يوضع على بطاقته الشخصية اسم الأب والأم والنسبة، هو من النازحين من تفجيرات الأزبكية في الثمانينات من القرن الماضي، لقد وجده أحد الجنود ملقى على الأرض بجانب الحطام الذي خلقه التفجير يلفه قماط قد اسود وأكلت النار بعض أطرافه، مما تسبب له بحرق كبير في وجهه وحروق متفاوتة في جسده، ليودع في الأخير في ميتم زيد بن حارثة… (ص22)
وترتبط شخصية عبد الله بن أمة الله بلحظة حزينة من تاريخ سوريا تعود إلى عام 1981 على إثر تفجيرات الأزبكية التي خلفت حوالي 175 ضحية، السبب الذي جعل “عبد الله بن أمة” يعيش في ميتم زيد بن حارثة في دمشق، وبعد بلوغه السن التي تسمح له بمغادرته، يجد نفسه في الشارع مستقبلا حياته الجديدة التي يبدأها عامل نظافة يجوب شوارع وحارات دمشق.
يمتلك عبد الله بن أمة الله هواية جمع الصور وتحريك الدمى، فهو موهوب في هذا الفن، إذ يشكل بالدمى التي يمتلكها عالما موازيا للعالم الحقيقي الذي لم يمنحه إلى وجها مشوها وهوية مضطربة. ففي هذه الدمى يبحث عن هوية بديلة، هوية غير مجروحة، وذات متخففة قدر الإمكان من العنف والفوضى والمعاناة. كما تستمد هذه الشخصية وجودها من الواقع الخاص الذي تعيشه سوريا منذ سنوات عديدة. ويجعل عبد الله بن أمة الله من عالم الدمى نوعا من التعويض عما تعيشه الذات المقهورة جراء ما تعيشه باستمرار. كما إنه كان يعول على جمع الصور أن يجد نصفه المشوه، باحثا فيها عن عائلته، وعن أهله، ولكن هيهات.
وتُظهر هذه الرواية على موقف وجودي خاص، حيث تؤخذ شخصياتها المحورية مهمة تبيان هذه الحالة، التي تتحول مع تنامي أحداث النص إلى نوع من القلق، الذي ينسحب على كثير من الأفراد في عالما العربي الجريح. لهذا نقع على نوع من التداخل بين مصائر هذه الشخصيات، إذ يتجلى كل ذلك ضمن إطار نسيج سردي تتوزع فيه الأدوار وتتباين الأفق، رغم تشابه أسباب ومنطلقات رؤيتهم لهذا القلق الوجودي. وهو ما يتجسد بشكل لافت مع المحقق هشام وبائع الكتب المستعملة وعبد الله بن أمة الله.
ويتداخل في هذه الرواية أيضا عالم البشر بعالم الدمى، فهما يتقاسمان النظرة نفسها إلى المصير المشترك، فكل من شخصيات العالم البشري ودمى العالم الموازي تنطلق من رؤية فجائعية للعالم، وهي خاصية لصيقة بهذه الرواية، مما يجعلنا نضعها ضمن “حساسية” خاصة تجمع بين المتناقضات، حيث نعثر على حالات الحدّ والشبهة، والشفقة والنقاء والتضحية والثواب والعقاب والتحول والخطيئة …الخ، وهي الحالات التي لا يمكن إلا أن تجتمع في الإنسان كونه كذلك.
تستمر أحداث الرواية ضمن مخطط سردي يطبعه طقس شعائري، تمتزج فيه مواقف عديدة تجاه الوجود الإنساني، ومصيره المحتوم، كما يختلط الدنيوي بالمقدس، وذلك من خلال تمثيل سردي تتماثل فيه قصة الأضحية كما جاءت عند النبي إبراهيم عليه السلام، بحيثيات موت عبد الله بن أمة الله صبيحة عيد الأضحى، وما لهذه الحادثة من رمزية خاصة. وكذا حضور قصة قابيل وهابيل وعلاقتها بقتل الإنسان لأخيه الإنسان انطلاقا من فرضية الإزاحة من المكان.
أما “الجثة” فهو اسم “دمية” من عالم الدمى الذي يملكه عبد الله بن أمة، وهي بطلة مسرحيته التي وسمها بـ “مسرحية الجثة”، التي يحصل عليها المحقق هشام بعد زيارته لغرفة الضحية. وتدور أحداث المسرحية بمناسبة الحوار الذي يدور بين الجثة ومنكر ونكير، لهذا هذه فإن هذه الفكرة تحيل على الصورة المتخيلة لما قد يقع للإنسان بعد موته.
تبقى رواية جريمة في مسرح القباني من الروايات المحفّزة في كل مرة على القراءة، والسبب في ذلك أنها تتمنع على الرؤية الوحيدة والقراءة النهائية، خاصة وقد ركزت على الأسلوب السردي البسيط. والطرح الفكري المركب؛ بمعنى إن الروائي باسم سليمان يسعى جاهدا إلى الاعتماد في تشكيل نظرته العامة على مخزونه الثقافي والمعرفي المتميز، مما يوفر للقارئ طبقتين؛ الأولى ترتبط بروح شفافة سردا ولغة، والثانية طبقة معرفية وفكرية واسعة ومركبة. وقد تم له ذلك من خلال شخصيات عمله ومدى انخراطها في التعبير عن واقع قلق متوسلة بخطاب يحاول تفكيك جملة من الأسئلة الوجودية المتعلقة بمصير الإنسان الذي أصبح تائها.
د. طارق بوحالة – الجزائر

https://www.almothaqaf.com/b/readings-5/960891-%D8%B7%D8%A7%D8%B1%D9-%D8%A8%D9%D8%AD%D8%A7%D9%D8%A9-%D8%A7%D9%D9%D9%D9-%D8%A7%D9%D9%D8%AC%D9%D8%AF%D9%8A-%D9%D9%8A-%D8%B1%D9%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%AC%D8%B1%D9%8A%D9%D8%A9-%D9%D9%8A-%D9%D8%B3%D8%B1%D8%AD-%D8%A7%D9%D9%D8%A8%D8%A7%D9%D9%8A-%D9%D8%A8%D8%A7%D8%B3%D9-%D8%B3%D9%D9%8A%D9%D8%A7%D9?fbclid=IwAR3ev54CmA59d5U-SSRwsysYSidCuGj3VnT-EgH6SWZTp6MSlBcArtiDwok#.YekAsJ-jabY.messenger https://www.almothaqaf.com/b/readings-5/960891-%D8%B7%D8%A7%D8%B1%D9-%D8%A8%D9%D8%AD%D8%A7%D9%D8%A9-%D8%A7%D9%D9%D9%D9-%D8%A7%D9%D9%D8%AC%D9%D8%AF%D9%8A-%D9%D9%8A-%D8%B1%D9%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%AC%D8%B1%D9%8A%D9%D8%A9-%D9%D9%8A-%D9%D8%B3%D8%B1%D8%AD-%D8%A7%D9%D9%D8%A8%D8%A7%D9%D9%8A-%D9%D8%A8%D8%A7%D8%B3%D9-%D8%B3%D9%D9%8A%D9%D8%A7%D9?fbclid=IwAR3ev54CmA59d5U-SSRwsysYSidCuGj3VnT-EgH6SWZTp6MSlBcArtiDwok#.YekAsJ-jabY.messenger
January 17, 2022
الله جميل يحب الجمال… لماذا طلب العرب قديماً عمليات تجميل؟
إنّ التاريخ حمّال روايات مختلفة يتجاذبها المتن والهامش، وعادة ما يسود المتن بالرواية الرسمية لكنّ الهامش يكتنز دومًا بالمفاجآت! ومن خلال قراءة كتب التراث الهربي نجد أنّ مفهوم الجمال بصيغتيه المعنوية والمادية، قد نال قصب السبق بالاهتمام، فهل عرف العرب الجراحات التجميلية؟
ليس من المبالغة أن نقرّر بأنّ الأطباء العرب والمسلمين كانوا روادًا في جراحة التجميل؛ هذا ما يزعمه الدكتور محمود الحاج قاسم محمد في كتابه “الطب عند العرب والمسلمين، تاريخ ومساهمات” مضيفًا أن الآلات الجراحية التي اخترعها الزهراوي وعرض لها في الجزء الثلاثين من كتابه موضّحة بالرسوم، مازال الطب يستخدم معظمها إلى الآن. ويستكمل القول، بأنّه ليس في التراث العربي الطبي ما يُدعى الجراحة التجميلية (التقويمية) بشكل مخصوص، لكنّها تدخل في عموم الجراحة.
لا ريب أنّ مصطلح طب التجميل -كما نعهده الآن- سيكون فضفاضًا على تلك الممارسات التي سنرصدها في كتاب ابن سينا “القانون في الطب” الذي خصص أربعة فصول للحديث عن الزينة وأدواتها والوصفات الطبية لها، وكتاب “التصريف لمن عجز عن التأليف” للزهراوي.
جراحات تجميلية في الطب العربي الإسلامي؟
إنّ ترجيح الظنّ بوجود جراحات تجميلية في الطب العربي الإسلامي، سيكون قائمًا على الغايات والفوائد المرجوة من هذه العمليات الجراحية وهذا ما سنورده أدناه:
عرض الرازي في كتابه “الحاوي” عن شقاق الشفة/ شفة الأرنب، الناتج عن الولادة أو الجروح في الحرب وغيرها، وشرح كيفية إعادة الهيئة السليمة لهذه الشفة، ويأتي تعليقه على المخطئين في تطبيبهم للشفة المشرومة مبرزًا الجانب الجمالي، فيقول: “الساهون يقطعون ذلك خلفًا، وفعلهم في ذلك خطأ، وذلك أنّهم يقطعون قطعة من الجلد واللحم معًا، ثم يجمعون طرفي الجلد ويخيطونه، فتجيء الشفة أصغر ممّا كانت”.
ويصف الزهراوي الشفة التي تصاب بالثآليل والبثور الدائمة، فيوصي الطبيب أن يقلب الشفة، وبالتالي تتم معالجتها من الداخل، وذلك كيلا تظهر الجروح على سطح جلد الشفة الخارجي. أما ثآليل الأنف والتي يرى فيها الزهراوي ما يسيء إلى جمال الأنف، فيعرض كيفية استئصالها عبر التجريف والكي.
وفي حالات الأصابع الملتصقة ووجود إصبع زائدة في الكفّ، فيقدّم صاحب كتاب “التصريف” حلولًا لبتر الإصبع الزائدة وفصل الأصابع الملتصقة عند الولادة، أو نتيجة لعرض ما. ويختم حديثه بضرورة أن تكون الجراحة بطريقة تصلح فيها شكل العضو.
لم تتوقف المجتمعات العربية عند الاهتمام بالزينة والتجميل، وصلاح الأعضاء الجسدية بل سعت إلى تجميل الأعضاء التالفة سواء كان الأمر بالجراحة أو بالمعالجة الطبية
ونرى الجراحة ذات الغاية التجميلية بوضوح في إصلاح ثدي الرجل الذي يشبه ثدي النساء. ويعلّق الدكتور محمود الحاج أنّنا نرى في هذه المعالجة الطبية عند الطبيب العربي علي بن العباس والزهراوي الغايات التجميلية بوضوح. يقول الطبيب علي بن العباس: “من الرجال من يعظم ثدياه حتى يصيرا قريبين من أثداء النساء، فيستقبح منهم ذلك”. ومن ثم يصف كيف يشق الثدي، وينزع الشحم، ويخاط الجلد مع مراعاة ألا يتهدّل الثدي.
يؤدي فقدان الأعضاء في الجسد إلى خسارة حركية وجمالية، وبالتالي ضرورة تعويض العضو المفقود. ومن الأمثلة التي يذكرها التراث، بأنّ الزمخشري قطعت رجله لعارض أصابه، فاستعاض عنها برجل من خشب.
وقد ذكر ابن قتيبة في ترجمة الشاعر خلف بن خليفة أنّه كان أقطع اليد، وله أصابع صنعت من جلد. وهناك من وضع أنفً من ذهب، وهو عرفجة بن سعد الذي أصيب في واقعة يوم كلاب وقطع أنفه، فاستبدله بأنف من فضة، فصدئ وتعفّن، فأمره الرسول أن يتخذ أنفًا من ذهب، لأنّ الذهب لا يصدأ. ونصح الزهرواي من تسقط أسنانهم بإعادة تثبيتها بأسلاك من ذهب أو ينحت على مثالها من عظام البقر وتثبّت في الفم.
تطبيب وتجميل
نستطيع أن نجادل بأنّ الجراحات التي رأينا فيها مقدمات لطب التجميل بأنّها من باب الداء والدواء، وأمّا الغاية التجميلية، فإن كانت عارضاً مقصودًا أو غير مقصود، فلا يجب أن نشطّ بالتفسير ونحمل الألفاظ أكثر مما تحتمل من معانٍ. لكن لكي نستوضح أكثر ميلنا نحو وجود غاية تجميلية في تلك الجراحات، لا بدّ أن نعرض لبعض أدوية الزينة التي جاءت في قانون ابن سينا.
في الفصل المتعلّق بالشعر، يقدم لنا ابن سينا وصفات عديدة للمحافظة عليه وإنباته ونزعه. فمنها ما يتعلّق بمكافحة الصلع وتكثيف شعر اللحية وتثبيت شعر الحواجب ويقدم وصفة لذلك: “يؤخذ القصب المحروق ويمزج مع رماد الضفادع المحروقة ويخلط مع بزر الجرجير المسحوق بدهن الغار”. أمّا في إزالة الشعر، فيشير إلى استخدام النورة والزرنيخ مع قليل من الصبّار، ولهذا المزيج تأثير مزيل للشعر.
ويضيف فصلًا لمنع إنبات الشعر، فبعد نتف الشعر يطلى الموضع بالبنج والأفيون والخل والشوكران. ويتابع ابن سينا في وصفاته المتعلّقة بكيفية تجعيد الشعر، ومنع الشيب، وما يشقّر الشعر(أي تحويله إلى اللون الفاتح)، وما يزيد من سواده. حتى إنّه ذهب إلى تفتيح الجلد بالمبيضات.
للحفاظ على جلدة الوجه من الشمس والريح والبرد، ولمن أراد التخلّص من الوشم/ التاتو/ ترك لنا ابن سينا هذه الوصفات
أمّا من أراد التخلّص من الوشم/ التاتو/ فصيدلية ابن سينا تقدّم له وصفة مجرّبة، وذلك بأن يغسل موضع الوشم بملح النطرون/ ثم يوضع عليه نبات البطم أسبوعاً. وبعدها يفرك جيداً بملح النطرون، وإن لم ينفع يجب معالجة كل نقطة من نقاط الوشم عبر تتبع مغارز إبر الوشم.
وماذا عن السمنة؟ هي الأخرى تصدى لها ابن سينا بوصفات منحّفة، ولم يكتف بذلك، بل ذهب إلى كيفية تنحيف أعضاء معينة. وفي المقلب المضاد للسمنة، هناك الهزال؛ ويرى ابن سينا أنّ تطبيب الهزال يكون على العكس من تطبيب السمنة، ومن ثم يقدم وصفات عن كيفية تسمين المصاب بالهزال، حتى أنّه ذهب إلى تسمين أعضاء مخصوصة، كالشفة النحيفة حتى تصبح مكتنزة، ويتم ذلك عبر جذب الغذاء إلى ذلك العضو وحبسه عليه وتحويله إلى طبعه، وذلك عبر تدليكه حتى يحمرّ، ومن ثم يُطلى بالزفت.
وفي الحفاظ على جلدة الوجه من الشمس والريح والبرد ترك لنا ابن سينا هذه الوصفة: “يطلى الوجه، أو اليد ببياض البيض، أو بماء الصمغ، أو يؤخذ السميد المنقوع في الماء المصفى ويخلط بمثله ببياض البيض، ويمسح به الوجه”.
المحبب والمباح والمحرّم
جاء في الحديث عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله بأنّه: “لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيّرات خلق الله تعالى”. جاء ذكرنا لهذا الحديث ليكون متمّمًا للسؤال الذي ابتدأنا به المقال: هل عرف العرب والمسلمون طب التجميل والزينة؟
ذهب الفقهاء في تفسير الحديث بأنّ اللعن جاء لأنّه يدخل في باب الغشّ وتغيير خلقة الله، ولكن لو تأملّنا الجراحات والوصفات الطبية عند الرازي وابن سينا وعلي ابن العباس والزهراوي، ألا تدخل في تغيير خلقة الله كالشفة الشقاق وتصغير الثدي، أو بماذا يختلف الأنف الذي من ذهب عن من تصل شعرها بشعر مستعار؟ فلماذا لم يثر عليها الفقهاء؟
تأتي الإجابة من خلال الوصفات التي أوردها ابن سينا، فهي ذات غاية تجميلية واضحة، أكانت على مستوى الشعر أم التنحيف أم تسمين الشفة وغير ذلك، والغاية التجميلية من المآرب التي يسعى إليها الدين الإسلامي. اهتمت المجتمعات العربية والإسلامية بالزينة والتجميل، وصلاح الأعضاء الجسدية، فالسواك والرائحة الطيبة والكحل دعمت بأحاديث نبوية للحض عليها. ولم تتوقف المجتمعات العربية عند الممارسات اليومية التجميلية فقط، بل سعت إلى تجميل الأعضاء التالفة، سواء كان الأمر بالجراحة أو بالمعالجة الطبية. إنّ الأمثلة التي أوردناها تشير بأنّ الحديث المذكور أعلاه لو كان ذا صدى كبيرًا في عقلية المجتمعات الإسلامية والعربية في ذلك الزمان، لم نكن لنجد الجراحات التي عرض لها الزهراوي ولا الوصفات الدوائية لابن سينا.
باسم سليمان
خاص رصيف 22
https://raseef22.net/article/1085873-%D8%A7%D9%D9%D9-%D8%AC%D9%D9%8A%D9-%D9%8A%D8%AD%D8%A8-%D8%A7%D9%D8%AC%D9%D8%A7%D9-%D9%D9%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%B7%D9%D8%A8-%D8%A7%D9%D8%B9%D8%B1%D8%A8-%D9%D8%AF%D9%8A%D9%D8%A7-%D8%B9%D9%D9%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%AA%D8%AC%D9%D9%8A%D9 https://raseef22.net/article/1085873-%D8%A7%D9%D9%D9-%D8%AC%D9%D9%8A%D9-%D9%8A%D8%AD%D8%A8-%D8%A7%D9%D8%AC%D9%D8%A7%D9-%D9%D9%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%B7%D9%D8%A8-%D8%A7%D9%D8%B9%D8%B1%D8%A8-%D9%D8%AF%D9%8A%D9%D8%A7-%D8%B9%D9%D9%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%AA%D8%AC%D9%D9%8A%D9

باسم سليمان's Blog
- باسم سليمان's profile
- 24 followers
