باسم سليمان's Blog
September 28, 2025
خيانة المثقفين… جوليان بيندا كمثال!
باسم سليمان 28 سبتمبر 2025 مقالي في ضفة ثالثة
خيانة المثقفين، جوليان بيندا كمثال!
مقالي في ضفة ثالثة
الخيانة قديمة قدم الإنسان على هذه الأرض، أمّا المثقف فهو مفهوم حديث ظهر في تسعينيات القرن التاسع عشر، وسريعًا ارتبطت الخيانة بالمثقف كأنّ أحدهما ولد من أجل الآخر! يعود مصطلح “خيانة المثقفين” إلى الفيلسوف الفرنسي جوليان بيندا في كتابه: La Trahison” des clercs” الذي صدر عام 1927 بعد حرب عالمية طاحنة أعادت تعريف العقل البشري ذاته وما صكّه من مفاهيم ومصطلحات. لم تكن فكرة إلصاق الخيانة برجال الدين والسياسة والعسكر والمعرفة غائبة أبدًا عن التاريخ البشري، لكنّها دومًا كانت مؤقّتة، أسواء نسبت إلى فرد أو جماعة، فهي تنتهي بمعاقبة الخائن أو إبعاده أو القضاء عليه، بينما مع بيندا، فلأول مرّة أصبحت ترتبط بفئة معينة من المجتمع، ولا تنفكّ عنها أبدًا، على الرغم ممّا يناط بهذه الفئة المعينة، أي المثقفين، من مسؤوليات معرفية وأخلاقية.
يقول الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي، بأنّ المثقفين أقلّية مميّزة، يمنحهم وضعهم المعرفي أن يكونوا أوصياء على قيم الإنسانية كالعقل والعدالة والخير. وفي مقاله عن “مسؤولية المثقفين عام 1967” بيّن الارتهان الكبير من قبل مثقفي أمريكا للسلطة السياسية على عكس ما هو مفترض منهم. لم يكن مقال تشومسكي إلّا استكمالًا لكتاب بيندا لكن بخيانات جديدة قام بها المثققون الأمريكيون تناسب مصالح سلطات بلادهم. أمّا فلاديمير لينين، فرأى بأنّ الطليعة الثورية تتطلب مشاركة المثقفين لشرح تعقيدات الأيديولوجية الاشتراكية للبروليتاريا غير المتعلّمة وعمال المدن الصناعية، وذلك لدمجهم في الثورة، لأنّ تاريخ جميع البلدان يظهر أنّ الطبقة العاملة، بجهودها الذاتية فقط، لا تستطيع تطوير سوى وعي نقابي لا يقود إلى الثورة الشاملة. واستتبع هذا القول: “المثقفون أقدر الناس على ارتكاب الخيانة لأنّهم الأقدر على تبريرها” يا للعجب! ومثله فعل جورج لوكاش إذ وضع على عاتق المثقفين كامل المسؤولية لأنّهم وفق وجهة نظره، هم الطبقة الاجتماعية المتميّزة التي توفّر للقيادة الثورية أدوات التفسير الواضح الذي يشرح للعمال والفلاحين الوضع الراهن الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وكيف يقومون بتغيره. وبالمثل ذهب المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي عادّا أنّ كل معرفة قائمة على أساس وجودي، والمثقفون يبدعون المعرفة، إذن هم يخلقون الواقع الجديد. وبما أنّهم طبقة اجتماعية مميزة عن الطبقة الحاكمة في مجتمعهم وغير خاضعين للتجاذبات المصلحية، فهم الأقدر على حماية المعرفة الإنسانية وقيمها. واستكمالًا لهذا النهج ذي النغمة العالية في اختراع فئة اجتماعية تحلّ مكان السلطة ورجل الدين والطبقات الاجتماعية التقليدية تحدث الفيلسوف الوجودي سارتر عن دور المثقفين في المجتمع، بأنّهم الضمير الأخلاقي لعصرهم، فمسؤولياتهم الأخلاقية والمعنوية تتمثّل في مراقبة اللحظة الاجتماعية والسياسية، والتحدث بحرية إلى مجتمعهم، وفقًا لضمائرهم. إنّ ما نستنتجه من أقوال هؤلاء المفكّرين أنّ العدالة والحقيقة أنيطت حراستها بالمثقفين، فإن فسدوا انهارت القيم الإنسانية في مواجهة قوى الاستبداد والتخلف. وأمام هذه السطوة المعرفية للمثقفين والمسؤولية الأخلاقية نحو مجتمعاتهم في مواجهة الاستبداد والظلم والقمع لم يكن أمام وزير الدعاية النازية إلّا أن يقول: “كلّما سمعت كلمة المثقف تحسّست مسدسي”.
لقد أصبح المثقف في القرن العشرين هادم أصنام لا يقف بوجهه شيء! وإذا عدنا بالزمن إلى الوراء نجد أنّ إرهاصات وضعية المثقف في القرن العشرين كان لها بوادر مع الفلاسفة والخطباء والأدباء والمفكرين، فسقراط اتهم السفسطائيين بأنّهم يبيعون الحقيقة مقابل السلطة والمال حيث تعدّ محاورة “جورجياس” دليلًا على ذلك. لقد كان شيشرون فيلسوفًا وخطيبًا رومانيًا شهيرًا هاجم الخطباء مثلما فعل سقراط، لأنّهم وضعوا قدراتهم البلاغية والإقناعية في خدمة الطغاة ورأى في ذلك انحرافًا عن دور الفيلسوف، كما رسمه سقراط ومن بعده أفلاطون. وعلى نفس المنوال ذهب فلاسفة التنوير “ديدرو وفولتير وروسو” فلقد أشاروا إلى المفكرين المرتزقه الذين يبرّرون الاستبداد. وقد تحدث روسو بشكل خاص عن فساد المفكِّر الذي يساير الطبقة المترفة ويهمل عامة الشعب. أمّا كارل ماركس فلقد انتقد المثقفين الهيغليين الذين تواطؤوا مع السلطة، وعدّهم خائنين لرسالة الفلسفة التحرّرية. وعليه لم تكن نظرة بيندا للمثقفين جديدة، فهي استمرار لقناعة راسخة لدى البشرية، لكنّه أطّرها بعدما كانت مجرد تحذير عام.
Clercs/ الكتبة: عندما عنون بيندا كتابه لم يذكر كلمة المثقفين بل “الكتبة /Clercs” وهي كلمة لاتينية ترتبط بأصول كهنوتية دينية، وكأنّ بيندا كان يرى بالمثقفين كهنة الأخلاق والمعرفة. وسريعًا أصبح هذا العنوان مجازًا يُعلي من شأن الحقيقة في وجه الفساد الأخلاقي، ويُعاقب المثقفين الذين يستسلمون لإغراءات الاستبداد السياسي، عبر خيانة المهنة الفكرية ذاتها التي ينبغي أن يكرّسوا حياتهم من أجلها لتحقيق العدالة والخير، لكنهم استبدلوا بلباس الثقافة السيف، فبدلاً من تحدي السلطة، أصبحوا خدّامها ومنظريها. كانت فترة ما بين الحربين العالميتين إحدى أهم لحظات التاريخ التي عاشها بيندا، فشهد صعود الفاشية والنزعات القومية والمشاعر الوطنية الجارفة في وجه مبادئ التنوير التي تدعوا إلى أخلاقيات إنسانية تتجاوز العرق والدين والمشاعر الوطنية. فهذه القوى الصاعدة لا تتعامل مع العنف كشرٍّ لا بدّ منه، بل كخلاصٍ في حدّ ذاته. لذلك كتب: “سيُسمى قرننا بحقٍّ قرن التنظيم الفكري للكراهية السياسية”. ورويدًا رويدًا تحققت استنتاجاته فلقد وقعت الحرب العالمية الثانية التي كانت أشد فتكًا من الأولى. قدّم بيندا كتابه بقصة عن ليو تولستوي: “لقد شهد تولستوي ضابطًا زميلًا يضرب رجلًا سقط من صفوف العسكر، فسأله إن كان لم يسمع بالأناجيل قط. فردّ الضابط متسائلًا: إن كان تولستوي لم يسمع بلوائح الجيش قط. بالنسبة لبيندا، كان من المنطقي أن يُجيب الضابط كما فعل، ولكن مع ذلك كان من الضروري وجود رجال مثل تولستوي للاحتجاج”. لقد عدّ بيندا هؤلاء المثقفين كرجال الدين بالتزامهم بالمبادئ الأخلاقية. كتب بيندا: “بفضل هؤلاء الكتبة مارست البشرية الشرّ لألفي عام، لكنّها مع ذلك قدّمت الخير في الوقت نفسه. كان هذا التناقض شرفًا للبشرية، إذ فتح ثغرةً كانت الحضارة تنزلق من خلالها وتتقدم للأمام”. وما قصده بيندا بأنّ هؤلاء الكتبة كانوا ينتجون أفكار الخير والشرّ، لكن شيئًا ما تصدّع في مجرى التاريخ الأوروبي وطغى خطاب الشرّ على الخير، تحت تأثير صعود القومية والرأسمالية والعوامل التاريخية السياسية والاجتماعية الحادّة في القرن التاسع عشر، فلقد بدأ المثقفون يبشّرون بحقّ القوة المطلقة؛ وهذا الأمر لم يخطر حتى على ذهن ميكافيلي، فعندما نصح الأمير بتنفيذ مخططاته بلا رحمة، لم يقل بأنّ القسوة في حدّ ذاتها خير، بل ضرورية فحسب. لكن مع القوى السياسية والاجتماعية في القرن العشرين الصاعدة غدت القوة حقّ مطلق للسلطة والأخطر من ذلك بدأ حرّاس العدالة والحقيقة بوضع الأسباب المنطقية لتبريرها.
طرح بيندا في كتابه ثنائية المثقفين والعامة، فالمثقفون يُشكلون طبقةً راقيةً من رجال الفكر والمعرفة، يسعون وراء الحقائق الروحية أو الفكرية، بينما يسعى العامة إلى المكافآت المادية. كان العامة رهينة الأحقاد الفئوية والقومية والوطنية والاقتصادية، وبالتالي، نظريًا، لا يمكن الوثوق إلّا بالمثقفين للتحدث باسم الحقيقة، لأنّهم وحدهم من يعلون من شأنها. لكن بيندا حذّر من أنّ السلطة السياسية قد تغري المثقف بالتخلي عن غايته الحقيقية بالقول: “تبدأ هزيمة الكاتب من النقطة التي يدّعي فيها أنّه براغماتي”.
لقد جادل بيندا، بأنّ خيانة المثقفين نابعة من تدنيسهم لنزاهتهم الفكرية، حيث سمحوا للمصلحة الشخصية والسياسية أن تتغلب على ولائهم للحقيقة. يرى بيندا أنّ على المثقفين الوقوف في وجه السلطة عندما يلحظون بأنّ القيم السامية للحقيقة والجمال والعدالة تُشوّه. لم يرفض بيندا الاهتمام السياسي للمثقف، بل أنّ دورهم تأكّد كمثقفين عندما انخرطوا في الاحتجاج السياسي. واستشهد بيندا بعدة أمثلة على هذا الانخراط، فلقد تدخل إميل زولا في قضية دريفوس ذلك الضابط اليهودي الذي اتهم بالتجسس بغير حق، ممّا دفع إميل زولا لكتابة مقال كان فارقًا في تشكيل مفهوم المثقف بعنوان “أنا أتهم” دفاعًا عن دريفوس؛ كذلك استشهد بدفاع فولتير عن “جان كالاس” البروتستانتي الذي اتهمته الكنيسة زورًا، بأنّه قتل ابنه ليمنعه من التحول إلى الكاثوليكية؛ أمّا سبينوزا فقد صدم بالوحشية المطلقة التي عامل بها الهولنديون الأخوين “يوهان وكورنيليس دي ويت” حيث أعدموهما من دون محاكمة بعد حفلة جنون وصلت إلى أن قطّعوا جسديهما وأكلوا شيئًا منه بعد أن اتهما بتحطيم الاقتصاد الهولندي. إذن الاهتمام السياسي للمثقف لا يضيره إلّا إذا تحول إلى سياسي وخادم للسلطة وبدأ بالعمل ضد العدالة والحقيقة. جوليان بيندا المثقف الخائن: لقد أراد بيندا من المثقف أن يكون وفيًا لقيم العدالة والحرية والخير، وأن يكون نزيهًا وحياديًا لا تأخذه في الحق لومة لائم، ولا أن يسعى وراء مصالحه الشخصية والمادية. لقد رغب أن يتحول المثقفون إلى سقراطيين يشربون الشوكران من أجل الحقيقة وحدها. ومنذ ذلك التاريخ الذي وضع بيندا فيه أفكاره وعنوان كتابه يتصادى بين أهل الثقافة ذاتهم يتراشقون الاتهامات بخيانة مبادئ القيم الإنسانية، وكأنّه لا يكفيهم قول غوبلز بحقّهم الذي على ما يبدو هو قول كل سلطة في هذا العالم يواجهونها. ويبقى السؤال الأهم، هل شرب جوليان بيندا من كأس سقراط أم…؟ إنّ العودة إلى سيرة حياة بيندا، ستكشف لنا كم هو صعب ارتباط الفكر بالممارسة، وكيف من الممكن للكتبة/ المثقفين أن يخونوا المبادئ العليا للإنسانية والأفدح أنفسهم! وكأنّ تحذير لينين قد وجد مثاله التطبيقي! في ثلاثينيات القرن العشرين أصبح بيندا يساريًا، فلقد تخلّى عن النزاهة والحيادية التي يتصف بها المثقف نحو القضايا السياسية، بل غدا ستالين مثاله الأعلى وكأنّه استبق إعجابه بــ”ماتياش راكوشي” الأمين العام للحزب الشيوعي في المجر بين عامي 1948 و1956 الذي كان ديكتاتورًا قضى على خصومه بأبشع الوسائل حتى لقب بتلميذ ستالين. لقد عدّ بيندا بمكان ما ستالين الديكتاتور العادل الذي بشّر به أفلاطون، ياللغرابة! وعندما قامت الحرب العالمية الثانية اختبأ من خصومه السياسيين والمثقفين الذين خضعوا لحكم هتلر، فلقد اتهم بأنّه شيوعي الهوى، لكن ما إن انتهت الحرب حتى شنّ حملة هوجاء على خصومه طالب بإعدام المتعاونين مع النازيين بما فيهم المثقفين، وكأنّه نسي استشهاده بسبينوزا عندما دافع عن الأخوين الهولنديين. وجادل بأنّ هؤلاء المثقفين مذنبون بالخيانة مرتين، الأولى الخيانة الفكرية والثانية خيانة وطنهم، هذا من جهة. أمّا من جهة ثانية فلقد ذكر المؤرخ الأمريكي “مارك ليلا” بأنّ بيندا لم يدن المجازر التي ارتكبها الشيوعيون في الحرب الأهلية الإسبانية، وإنّما قدّم لها تبريرًا، واستشهد ليلا بقول بيندا: “أقول على الكاتب الآن أن ينحاز. عليه أن يختار الجانب الذي، إن كان يهدد الحرية، فليهدّدها على الأقل ليوفر خبز الناس جميعًا، لا لمصلحة المستغلين الأثرياء. عليه أن يختار الجانب، الذي إن كان لا بدّ أن يقتل، فليقتل الظالمين لا المظلومين. على المثقف أن ينحاز إلى هذه المجموعة من الرجال العنيفين، إذ لا يملك إلّا الخيار بين انتصاراتهم أو انتصارات الآخرين. سيمنحهم، أي الشيوعيين، توقيعه. ربما حياته. لكنّه سيحتفظ بحقّ الحكم عليهم. سيحتفظ بروحه النقدية”. لقد ختم بيندا كلامه بشكل جيد عن السبب في وقفته مع الشيوعيين في إسبانيا على الرغم من مجازرهم خلال الحرب الأهلية الأسبانية، فلقد رأى أن تأمين الخبز للجائعين يرجح كفة الشيوعيين، لكنّه في الثلاثينيات لم يوجّه نقدًا إلى ستالين عندما عصفت المجاعة بأوكرانيا في عامي 1932 – 1933 التي سميت بـ”هولودومور/ وباء الجوع” لقد اتهم المجتمع الدولي ستالين بالتسبّب بها لأجل القضاء على النزعة الوطنية في أوكرانيا، ومع ذلك صمت بيندا وتغلّبت أهواؤه السياسية على ملكته النقدية التي طالب بها المثقفين لكي لا يكونوا خونة، مع أنّ الأوكرانيين أكلوا بعضهم من الجوع. كان ماتياش راكوشي المذكور أعلاه مثالًا أعلى لبيندا حتى بعد إعدام “إيمري ناجي” اليساري الذي قام بثورة ضده وضد النفوذ السوفييتي في المجر، بمحاكمة صورية شكلت صدمة لليسار السياسي في أوروبا. زار بيندا بودابست بعد إعدام إيمري ناجي وعندما عاد إلى فرنسا، شكر راكوشي على دعوته إلى بودابست، وعدّ دفاع راكوشي عن ستالين شبيهًا بدفاع زولا عن دريفوس! والآن لنا أن نتساءل، هل خيانة بيندا لكتابه تقلّل من قيمة الأفكار التي طرحها فيه؟ من حقنّا أن تكون إجابتنا بالإيجاب؛ فما بني على باطل فهو باطل. لكن ألّا تبين لنا خيانة بيندا ضرورة الاهتمام أكثر بتحذيراته، لأنّ خيانته أظهرت لنا سهولة انزلاق المثقف إلى دوامة المصالح السياسية حتى وهو يعارضها. والشيء الأهم بعد أكثر من قرن على ولادة المثقف، هل مازال مفهوم المثقف كما صكّه كل من سارتر وتشومسكي وإدوارد سعيد وغيرهم الكثير قادرًا على الصراخ كما فعل إميل زولا : “أنا أتهم”! ليست الإجابة مهمة، فلم تعد خيانة المثقف للمبادئ الإنسانية قضية عظيمة، لقد انفكّ الارتباط بين الخيانة والمثقف، ليس لأنّ الخيانة اندثرت، بل العكس هو الصحيح! ولننظر من حولنا؛ فالأمثلة كثيرة جدًّا، حتى أصبح من السخف ذكرها!
باسم سليمان
كاتب سوري

September 18, 2025
لماذا استُبعد ذوو الإعاقة في الفلسفة؟
باسم سليمان 18 سبتمبر 2025 – ضفة ثالثة
لقد كان مفهوم الإعاقة طوال التاريخ الفلسفي مغفلًا أو مهملًا. وإذا أراد الفلاسفة تمثيل الإعاقة الجسدية أو العقلية، فغالبًا ما يستخدمون هذا التمثيل بشكل سلبي دعمًا للمفهوم المعياري للتجسيد البشري: “العقل السليم في الجسم السليم” في مقابل تلك الحالات التي لا تتوافق مع هذا التجسيد، فلم ينظر الفلاسفة إلى الأشخاص من ذوي الإعاقة إلّا من خلال عدسة الذات الفلسفية الكلاسيكية؛ أي أنّ الكائن البشري حتى يكون ملحوظًا ضمن إطار المفهوم الفلسفي يجب أن يملك قدرات عقلانية وجسدية متواشجة مع ما هو طبيعي وصحي، وأي تجسيد آخر يخالف هذه الافتراضات يعزل أو يبعد وحتى يقتل! هذا هو موقف الفلسفة الكلاسيكية -والتي تعني حبّ الحكمة- من ذوي الإعاقة في مقابل الأدب والأسطورة اللذين أفسحا حيزًا لها. وما دام موضوع المقال يتكلّم عن علاقة الفلسفة بالإعاقة والفلسفة ذات منشأ يوناني، فليس من ضير أن نذكر شيئًا عن الإعاقة في الأسطورة والأدب اليوناني. لقد كان الإله “هيفايستوس” من ذوي الإعاقة، أمّا على صعيد الأدب اليوناني، فقد كان أهم اثنين من مبدعيه من ذوي الإعاقة؛ بداية بهوميروس الأعمى وصولًا إلى إيسوب الحكيم الذي كان يعاني من إعاقات حركية. والأهم من ذلك يتجلّى في أنّ أهم شخصية أدبية في التراث اليوناني والعالم والتي مازال تأثيرها فاعلًا على الأدب حتى اليوم هي “أوديب: مسرحية لسوفوكليس” كانت الشخصية الرئيس فيها، من ذوي الإعاقة ، فكلمة “أوديب” تعني من له قدم عوجاء، فلماذا نبذت الفلسفة الإعاقة من مفاهيمها؟
بدأت الفلسفة تتحرّر من هذا الإرث مع بداية السبعينات من القرن العشرين مع ظهور الدراسات النسوية وما بعد الاستعمار والإعاقة وغير ذلك من دراسات حداثية وما بعد حداثية. لكن من أين أتى هذا التمثيل السلبي للإعاقة الذي حكم الفلسفة طويلًا؟ يعتبر أفلاطون الأب المؤسّس للفلسفة وهو صاحب أول تنظير فلسفي قصد منه وضع أسس نظرية وعملية للتمثيل المعياري للجسد البشري. في محاورة “تيماوس” أشار أفلاطون إلى ما يعدّه تجسيدًا للإنسان الذي يستحق التقدير، فإلى جانب الجمال الجسدي، اعتقد بأنّ الروح يجب أن تكون على الأقل بنفس الجمال الجسدي. فإذا كان هناك خلل بين جمال الجسد وجمال الروح، فوفقًا لأفلاطون: “الحياة في مجملها ليست جميلة”. وما يقصده أفلاطون بأنّ الجمال لا يكون دون التوازن المثالي بين الروح والجسد، فهو يرى بأنّ جمال الروح لا يرتبط بالضرورة بالذكاء فحسب، بل بالقيم الأخلاقية والجماليات الجسدية. هذا المعيار يستبعد أي شخص لا يحقق التوازن بين الروح والجسد، فحتى لو كان الشخص يتمتع بجمال روحي استثنائي، فهو لا يقدّر إذا كان يعاني من إعاقة جسدية، لعدم وجود التوازن. لقد أصبح المعيار الذي وضعه أفلاطون قانونًا فلسفيًا لاستبعاد الإعاقة، فأصبح حالها كقوله عن الطفل الذي يولد معوّقًا: “مُنْتَزَعًا عن الأنظار إلى مكان سرّي ومخفيّ”. هكذا غدت الفلسفة التي تُعنى بعلم الوجود تقصي الإعاقة إلى مكان سريّ ومخفيّ، مع أنّها إحدى حالات الوجود الإنساني. قد يقول قائل بأنّ أفلاطون لم يأت بجديد باستبعاده الإعاقة من الدرس الفلسفي، فبعض العادات والأعراف في ذلك الزمن كانت تنصّ على ذلك. وعلى سبيل المثال كانت مدينة إسبرطة عندما يولد طفل يُعرض على حكماء المدينة الذين يقرّرون فيما إذا كان صحيحًا أو معيبًا، وعلى أثر ذلك، إمّا يسمح له بالعيش أو يترك في العراء. وكانت القناعة التي تبرر ذلك، بأنّ ولادة طفل ضعيف يعدّ رسالة تحذيرية من الآلهة إلى عائلة أو مدينة عاصية؛ وهكذا كان يتم ردّ الرسالة إلى الآلهة عبر ترك الطفل في العراء أو رميه في هوّة، والتي تفسّر بأنّها ترك للمعاصي. لكن هذا لا يعني أنّ الأمر كان متبعًا كقانون، فالانتقادات التي طالت المؤرّخ بلوتارخ الذي نقل هذه القصة، بأنّه لم يكن معاصرًا لإسبرطة، ولم يوجد عظام أطفال في تلك الهوّة المقصودة، لكن مسرحية “أوديب” استندت لمفهوم النبذ للطفل الضعيف، مع أنّها بيّنت النتائج القاسية على هذه العادات. وعندما نعود إلى أفلاطون وتحليله الفلسفي لاستبعاد ذوي الإعاقة نجده لا يستند إلى تلك الأعراف، فهو لا يوافق على الأسطورة التي تقول بأنّ الطفل الضعيف هو رسالة من الآلهة، بل يقيم إقصاءه على بُنى عقلية ومنطقية، وهذا هو الفرق بين العادات والأعراف التي كانت سائدة في زمن أفلاطون ومنهجه الفلسفي للتجسيد المعياري للوجود البشري الذي أنتج إقصاء للأشخاص من ذوي الإعاقة.
“أدوناتوس”:
لم تكن اليونان القديمة تمتلك تصنيفًا مشابهًا للمصطلح الذي تم التوافق عليه في زمننا: “الأشخاص من ذوي الإعاقة” بل لم يكونوا فئة محدّدة بشكل واضح، مع أنّه قد وجدت كلمة تعبّر عنهم، وهي “أدوناتوس” والتي تعني “غير قادر”. وقد تشمل من يولد بإعاقة أو من تصيبه أثناء حياته. وهذه الكلمة كان يقصد منها عدم قدرة الشخص على القيام بواجباته نحو المجتمع، فالمحدد لهذه الكلمة هي القدرة على العمل والانتظام في البناء الاجتماعي؛ لا الوضع الصحي، وقد قال أرسطو تلميذ أفلاطون، بأنّ الكائن الذي لا يستطيع الانسجام مع هيكلية المجتمع هو إمّا وحش أو إله! وبالتالي فقد عدّ المعوّق ككائن بريّ وحشي وعصيّ على التدجين الاجتماعي. وفي محاورات أفلاطون طرح على لسان سقراط فكرة: “المدينة الضرورة” والتي تعني أنّ لكل فرد فيها عمله المخصوص حتى يقع ضمن الحقوق والواجبات الاجتماعية، وقد تطورت هذه الفكرة مع كتاب “الجمهورية” وتصوّر المدينة الفاضلة. وإذا عدنا إلى إسبرطة، فعندما يقرّر حكماؤها بأنّ الطفل سليم تخصّص له أرض، وهذا يعني قبوله اجتماعيًا، لأنّه فاعل اقتصاديًا.
كانت فكرة المدينة الضرورة، بمكان ما، هي تمثيل لتقسيم أفلاطون الكينونة البشرية إلى ثنائيتين: الروح والجسد؛ وبما أنّ الروح تعود إلى عالم المثل، والجسد إلى عالم المحاكاة الفاني والعابر، فإنّ الوظيفة المتاحة للجسد هو تمكينه الروح للالتحاق بعالمها المثالي، فالجسد المادي لا يمكن له أن يرتقي إلى ذلك العالم. إنّ الوجود البشري لا يقوم إلّا بالمجتمع، فالفرد عليه أن يمضي في حياته منسجمًا مع أصله المثالي وفي الوقت نفسه أن يقوم بواجبه نحو المجتمع إلى أن يتخلّص من قميصه البشري؛ ومن هذه الفكرة نفهم تضحية سقراط عندما حكمت عليه المدينة بالموت، فهو قد قام بواجبه نحوها، لكن عندما تم تهديده بالموت أي الفناء الجسدي، استهونه في مقابل الخلود الروحي. هذا التقسيم تطوّر مع أفلاطون في مدينته الفاضلة وأصبح ثلاثيًا: “النوس/ العقل، الروح- والثوموس/ النفس- والإبيثوميا/ الجسد،الشهوة” لكن لم يعد الهدف تطهير الروح من الجسد، بل سيطرة الروح على الجسد لإقامة المدينة الفاضلة أرضيًا. هذا التطور المفهومي هو الذي فتح باب البحث عن تجسيد معياري للجسد يخدم المدينة الفاضلة التي تصوّرها أفلاطون كحل لهزيمة أثينا أمام إسبرطة وسقوطها داخليًا أيضًا.
وبهذا التصور، ينتقل أفلاطون من وصف الوجود البشري، بأنّه إعطاء الأولوية للملكة الفكرية للنفس على الجسد المادي، إلى مفهوم للنفس مكوَّن من قدرة عقلانية، بالإضافة إلى جوانب نفسية وجسدية. والفرق الجوهري بين مفهوم الثنائي للوجود البشري والمفهوم الثلاثي المقدم في الجمهورية، هو الادعاء بأنّ الغاية الطبيعية والحقيقية للروح العاقلة ليست تطهير الروح من الجسد كليًا، بل تنظيم الجوانب غير العقلانية للوجود البشري في كلٍّ متناغم. والأهم من ذلك أنّ المفهوم الثلاثي للروح يفتح الباب أمام الإدارة المباشرة والعقلانية للتجسيد البشري، حيث يمكن، بل ويجب، جعل الجسد المادي والعالم المادي متوافقين مع إملاءات العقل. يقول أرسطو تعبيرًا عن ذلك في كتابه “الأخلاق النيقوماخية”: “حتى لو لم يُلقِ أحدٌ منا باللوم على من وُلد مُعاقًا، فإنّنا مع ذلك نُلقي باللوم على أولئك الذين ينجم قبحهم عن الإهمال وقلة الحركة”. إنّ ضرورة استخدام العقل التي طرحها أفلاطون للتلاعب بالعالم الطبيعي تنبع من الاعتقاد بأنّ العقل نفسه يعمل كسمة مميزة للبشر، فالبشر نتاج نظام طبيعي مفهوم، ويجب الحفاظ عليه من خلال التطبيق السليم للمبادئ العقلانية استنادًا إلى مفهوم غائي وطبيعي للتجسيد البشري. لقد فهم أفلاطون الصحة الجسدية والنفسية ليس فقط كحالات طبية للجسم، بل كمؤشرات على الأداء السليم للطبيعة البشرية نفسها، حيث يتعلق الحفاظ على الصحة بالغاية الطبيعية للبشرية. لقد جادل سقراط بأنّ “قيام الصحة هو إرساء علاقة طبيعية بين عناصر الجسم، وهي السيطرة والتحكم، بينما التسبب في المرض هو جعل أحدهما يحكم الآخر أو يخضع له خلافًا للطبيعة”. وبالتالي، لا تُوصف الصحة بأنّها حالة جسم فرد معين، إذا ما نُظر إليها بمعزل عن غيره، بل كخير موضوعي مرتبط بالنظام والجمال والأداء السليم كنوع من التناغم. على النقيض من ذلك، يرتبط المرض والخلل الوظيفي ارتباطًا مباشرًا بالاضطراب والقبح وسوء حالة النفس، والأهم من ذلك اعتبر المرض ظلمًا يجب اجتثاثه لأجل النظام.
المدينة الفاضلة:
لقد قسّم أفلاطون مدينته الفاضلة إلى ثلاثة أقسام تمثيلًا لتقسيمات الوجود البشري التي لحظناها أعلاه: (طبقة الأوصياء تعادل العقل – طبقة الجنود تعادل النفس- طبقة الصناع تعادل الجسد). إنّ مبدأ التخصّص، الذي اعتمده أفلاطون كمبدأ عقلاني، يحكم المدينة الفاضلة يقوم على الاعتقاد بأنّ ما هو عقلاني هو الأصلح. جادل أفلاطون بأنّ المبادئ العقلانية للتنظيم ينبغي أن تُملي السياسة الاجتماعية، وأنّ العقل يجب أن يُستخدم للتلاعب بعقول المواطنين وأرواحهم وأجسادهم لخلق نوع من الانسجام الفردي والاجتماعي المُتماهِي مع العدالة. والنتيجة النهائية لهذه الاعتبارات، هي أنّه، بما أنّ الانسجام يُمثل الغاية المثالية للبشرية الفردية والجماعية، فإن كون الإنسان إنسانًا بالمعنى المثالي والمعياري يفترض وجود القدرة الجسدية والعقلانية التي تحقق الانسجام المثالي، وأي شذوذ عن ذلك يجب رفضه. إذا كان التجسيد البشري السليم يتميّز بالقدرة الجسدية والعقلانية على تحقيق الانسجام الفعال بين أجزاء الروح والجسد المادي، فبقدر ما تعتبر الصحة خيرًا موضوعيًا، فإن غياب هذه القدرة يُمثل حالةً من اضطراب الغاية الطبيعية والمعيارية للطبيعة البشرية أو فشلها. وبالمقارنة، وبالنظر إلى هذا المفهوم الأفلاطوني للتجسيد الإنساني المعياري الذي ينشأ من خلال تطبيق قواعد أو معايير عقلانية، فمن الواضح أنّ الأفراد ذوي الإعاقة الفكرية أو الجسدية، لا يمكنهم تحقيق العدالة ودخول المدينة المثالية من خلال تشكيلهم عقلانيًا وجسديًا لتحقيق هذه الغاية، فهم غير قادرين على إزالة ما هو وحشي أو دون بشري منهم. لم يكن أفلاطون يرى بأن الإعاقة هي خلل حيادي في القدرة، وبالتالي لا يمكن تعريف الإعاقة كحالة ذاتية، ولا من خلال التفاعل بين الفرد ذي الإعاقة والمجتمع، لأنّ المجتمع المثالي يرفض وجودهم، لأنّهم بنظره نوع من الشذوذ على النظام. تتبع هذه النتيجة منطقيًا، بأنّه يجب النظر إلى الأفراد الذين يفتقرون إلى هذه القدرات المثالية على أنّهم دون البشر أو أشبه بالحيوانات، وهو نوع معيب من التجسيد يُعرّف بـ”الظلم” الذي يجب تطهيره من أجل إحلال النظام.
قتل الأطفال من ذوي الإعاقة:
لم يقدّم أفلاطون مبدأ صريحًا للإعاقة الجسدية والعقلية، لكن تنظيره عن الجسد المعياري والقدرة العقلية سيؤدي مباشرة إلى مفهوم عقلاني للإعاقة يرفض التجسيد البشري المعيب. إنّ التنظير العقلاني والمنطقي الذي طرحه أفلاطون عن التجسيد المثالي سيقود إلى الاعتقاد بأنّ وجود الأفراد ذوي الإعاقة في حد ذاته يصبح رمزًا أو تجسيدًا للاضطراب والاختلال الوظيفي والظلم الذي يجب تطهيره. لذلك يرتكز رفض الأفراد ذوي الإعاقة في الجمهورية على ثلاثة مزاعم رئيسية: أولاً، لا يتمتّع الأفراد من ذوي الإعاقة بجودة حياة تُلبي كرامة الإنسان. ثانياً، لا يستطيع الأفراد من ذوي الإعاقة الجسدية أداء أيّة وظيفة مجتمعية، وفقًا لمبدأ التخصص. ثالثاً، لا يستطيع الأفراد من ذوي الإعاقة الذهنية الاستجابة للتربية الأخلاقية لأنّهم غير قابلين للشفاء أخلاقيًا. إنّ رفض الأفراد من ذوي الإعاقات الجسدية ضمن البرنامج الذي اشترعه أفلاطون للمدينة الفاضلة يعود إلى مبدأ التخصّص في العمل. وكما ذكرنا تتميز المدينة الفاضلة بالضرورة المادية، حيث يتلقّى كل فرد ويقدّم فقط ما يحتاجه، وبالتالي لا يوجد ترف أو ندرة. وبالتالي يمكن لهذه المدينة التي تخيّلها أفلاطون أن توجد، لأنّ كل فرد يؤدي وظيفة متخصصة واحدة فقط. وهكذا، فإن الأفراد الذين لا يستطيعون أداء وظيفتهم المعينة بسبب الولادة أو بسبب حادث خلال الحياة، يقلِّلون من إنتاجيتهم، كما يُجسِّدون نوعًا من المقاومة الطبيعية للاتساق المنطقي الداخلي للمدينة المثالية، إذ يمثِّلون تهديدًا محتملًا يجب العمل على زواله.
يقترح أفلاطون أن تمارس المدينة الفاضلة القتل الفعّال، أي قتل الأطفال حديثي الولادة المعاقين أو غير القابلين للشفاء أخلاقيًا. لا يقوم تبرير أفلاطون للقتل الفعال لهؤلاء الأفراد إلى عدم مساهمتهم في المجتمع فحسب، بل إلى افتراض أنّ بعض الأفراد يفتقرون إلى القدرة الفكرية على الاستجابة للتربية الأخلاقية منذ الولادة. ويضرب سقراط مثلًا على ذلك، بأنّ الطبيب يجب أن يكون على دراية بالأمراض، ولكن إذا استحوذ عليه المرض، فإن أي تشخيص لاحق من قبله سيكون فاسدًا. ويتابع بالقول بأنّ القدرة على التمييز بين الخير والشرّ تُكتسب من خلال القدوة الحسنة والتربية الأخلاقية السليمة. ومع ذلك، فإنّ تنمية الشعور بالخير والشرّ تتطلّب بالضرورة قدرة فكرية أو عقلية سابقة تستجيب للتربية الأخلاقية حتى تكون التربية اللاحقة مؤثّرة. ونظرًا لأنّ هذه المتطلبات، يفتقر إليها الأشخاص من ذوي الإعاقة بنظر أفلاطون، فهم لا يستطيعون بلوغ الصلاح الأخلاقي، وبالتالي من الضرورة شطبهم من الوجود.
جرس الإنذار:
تتجلّى خطورة أفكار أفلاطون، بأنّها تصدر عن تطبيق المبادئ العقلانية على التجسيد البشري وتتجذّر فيه. لقد اعتقد أفلاطون بأنّ العالم الطبيعي مهنْدسٌ وفق نظام معقول يسمح للعقلانية البشرية أن تفهمه، لأنّ العقل نفسه نتاج لهذا النظام. لكن العقدة الكأداء تكمن في أنّ هذه المبادئ أو المعايير العقلانية المجردة تفشل في تقديم وصف كافٍ للتجسيد البشري. إنّ الرغبة في تحديد التجسيد المثالي أو المعياري للبشر تُنكر أنّ التجسيد البشري نفسه قائم على الاحتمالات لا اليقين، تمامًا كما هو الحال في كل شيء داخل عالم الوجود. ولا يمكن للمفاهيم المعيارية للتجسيد البشري أن تبدو كاملة، أو عقلانية إلّا بإخفاء هذه العقدة؛ لذلك سعى أفلاطون إلى وأد ذوي الإعاقة حتى يكتمل تصوره العقلي للتجسيد المثالي للإنسان. فالعقل يسعى إلى فهم العالم الطبيعي، لكن هذا الفهم يُشكك به بسبب وجود عناصر تقع خارج هذا النظام العقلاني الذي رسمه للكون الطبيعي، وهنا تظهر الضرورة وفق أفلاطون لاتخاذ إجراءات مثل القتل لذوي الإعاقة وتبريرها فلسفيًا، فالمبادئ العقلانية مُجرّدة وعامة، وإذا كانت مُتجذّرة في ضرورات منطقية أو طبيعية، فلا يُمكنها قبول أيّ استثناءات. لقد أدت هذه الرؤية الأفلاطونية لأن يتم استبعاد ذوي الإعاقة من الدرس الفلسفي. وإذا ما استحضروا، فلن يكونوا إلّا كتمثيل سلبي، كما قال عالم الإعاقة “لينارد ديفيس”. ولقد كانت هذه الرؤية وحججها المنطقية سببًا للكثير من المآسي التي تعرض لها ذوي الإعاقة، لم يكن آخرها، المجزرة التي ارتكبتها النازية بحقّ المرضى وذوي الإعاقة استنادًا للمنطق الأفلاطوني في المحاججة وبناء الأسباب الداعية لإبادة المعوقين.
إنّ الاكتفاء برفض المنطق الأفلاطوني، كما فعلت الأديان، على سبيل المثال، وذلك بمنع قتل الأطفال مهما كان وضعهم الصحي، لا يكفي! لأنّ المنطق لا يدحض إلّا بالمنطق، لا بشيء آخر. لذلك نقول بأنّ الفشل متجذّر في جوهرالمبادئ العقلانية التي تدعو إلى التجسيد البشري المثالي، لأنّها تختصر البشر إلى معايير قابلة للتحديد، بشكل تعسفي. فهي تحوّل البشر إلى كائنات غير ملموسة، لأنّها تنمّطهم إلى سمات، أو ملكات، أو إمكانيات يمكن تحديدها عقلانيًا حتى تبدو صحيحة؛ لكن ستظلّ هذه المبادئ العقلانية دائمًا محدودة الرؤية، نظرًا لطبيعة التجسيد البشري المتنوّع والذي لا يقف عند حدّ. إنّ المنطق الذي يحاول إثبات عقلانيته بشطب ما يخالفها، هو منطق لا يختلف عمّا يراه بأنّه شذوذ. ولربما أفضل طريقة لدحض حجج أفلاطون الحاسمة، بأنّ نتذكر بأنّ سقراط كان يسلّي نفسه، قبل تنفيذ حكم الإعدام، بنظم قصص إيسوب المعاق بشكل شعري، وليس بأيّة مبادئ فلسفية عقلانية أو حجج منطقية أخرى.
باسم سليمان

September 2, 2025
لبنان أجمل كذبة أم أسوأ حقيقة؟… تساؤلات “هند أو أجمل امرأة في العالم” – مقالي في رصيف 22
عندما قرأتُ عنوان رواية هدى بركات الجديدة (هند أو أجمل امرأة في العالم) الصادرة عن دار الآداب لعام 2024 والحائزة على جائزة الشيخ زايد لعام 2025؛ حدستُ بأنّ هذا العنوان كأي خبر من طبيعته أن يحتمل التصديق والتكذيب! أمّا هنادي، فلم تكن تملك هذا الخيار، فلقد كان عليها أن تصدّق أخبار أمّها عن أختها الكبرى (هند) ذات الجمال الخارق، ما دامت هي على النقيض منها قبيحة جداً؛ فما أصعب ألّا تملك حرّية التكذيب أو التصديق! تضعنا بركات مبكراً في روايتها في خضم حلبة مفهوم الثنائيات لغاية في نفس يعقوب؛ بين الجمال والقباحة، والتاريخ والذاكرة، والمتن والهامش، والصدق والكذب، والجدلية غير المتكافئة لصالح إحدى هذه الثنائيات، وذلك من خلال شخصية هنادي التي تخبرنا عن سيرتها الذاتية وضمناً عائلتها/ وطنها، بعد عودتها من فرنسا، التي هربت إليها من فجيعة أو اضطهاد أمٍّ لم تكن قادرة على احتضانها بعد إصابتها بمرض الأكروميغاليا (اضطراب هرمون النمو في الغدة النخامية الذي يسبّب تضخم الأطراف وملامح الوجه). وكأنّ الأمّ هي الأخرى قد أصيبت بنقص كبير في هرمون الأوكسيتوسين (هرمون الحبّ الذي له الدور الأكبر في عاطفة الأم نحو وليدها) فلفظت ابنتها. تتساءل هنادي، لِم لا يتم حقن الأمهات بهذا الهرمون، فهو متوفّر في الصيدليات، حتى يتم تفادي اللحظة التي تتحوّل فيها الأم من الأم الحانية إلى الأم الجافية، وتحبس ابنتها في عليّة البيت هرباً من الفرانكشتاين الذي آلت إليه! ولا يختلف الوطن برأي هنادي عن ذلك، فهو مثل الأم يحتاج إلى حقنة أوكسيتوسين هو الآخر، حتى تتحاب طوائفه، ولا يطرد مواطنيه خارجاً عبر اللجوء والهجرة!
كانت أمّ هنادي مثل كتبة التاريخ تملأ سمع تلك الصغيرة عن جمال أختها هند أو عنها! والكتبة يملؤون سمع المواطنين، بأنّ لبنان قطعة من جنّة الله على الأرض! لقد صنعت الأم حلم يقظة تهرب إليه، كلّما أمعن المرض تفشياً في جسد طفلتها هنادي. كانت هنادي محاكاة لطفلة مثالية تُدعى هند، حاولت الأم بشتى الوسائل الإيمانية والطبية أن تطابق بين المثال والواقع. وعندما فشلت، كان الحلّ بالنسبة لها، أن تقصي الواقع إلى العليّة، وأن تهرب إلى أضغاث أحلامها المثالية. تعلّمت هنادي، مع الوقت، من هروب أمّها من الواقع، كيف تهرب هي الأخرى من عليّة أمّها وصولاً إلى فرنسا، لكن على أحدٍ ما أن يتم الحكاية!
ضمير المتكلم:
لا يمكن أن تكون رواية هدى بركات، بأيّ صيغة أخرى نعرفها للسرد في الروايات، إلّا بضمير المتكلّم، ليس لأنّه المعبّر الأصدق عن الشخصية التي تسردها الرواية، بل لأنّه الأقدر على تمثّل الذاكرة، فالذاكرة بالنسبة لهنادي هي المفتاح والقفل. عادت هنادي من باريس بعد أن استنزفت هروبها حتى القطرة الأخيرة، فلقد هجرت رشيداً، ذا الذراع المقطوعة، ذلك الجزائري الذي اتخذ من اسم فرانسوا لقبًا له هربًا من ماض يشبه الأكروميغاليا، فقد تضخّمت ذاته الفرنسية إبّان الاحتلال الفرنسي على حساب هويته الوطنية، فلجأ إلى فرنسا كي لا يتّهم بالخيانة، لذلك عندما رأى هنادي تقف في طابور المشرّدين تبناها/ أحبّها، لأنّه رأى فيها عطباً يتآلف مع عطبه، لكنّه في النهاية وقع فريسة للمخدرات. تجلس هنادي تحت ظل شجرة صفصاف باكٍ على حافة مجرى نهر يابس، أو سيل عقيم، أو مجرور…! وهي مثل هذه الصفصافة التي يبس قسمها الأكبر، لكنّها ما زالت تحتفي بغصن أخضر تستجلب له الماء، لربما من رطوبة البحر في بيروت أو دمع الجالسة تحتها. تجلس هنادي مثل بوذا تحت شجرتها وتنير ماضياً تخلطه بالحاضر لتشكّل عصيرًا من ذكريات مؤلمة وفرحة عاشتها، ومحاولات فاشلة وناجحة لرسم بورتريه لأمّها وأبيها على الأقل بطريقتها، لا كما سردت أمّها. لقد أرادت هنادي إعادة كتابة ذاتها وضمناً عائلتها/ وطنها بقصد أو غير قصد، فتارة تعود إلى طفولتها -عفواً- طفولة هند وتسرد عن ذكريات اهتمام أمّها بها، وكيف كانت قادرة على أن تخرج من جلباب مجتمعها الطائفي الذي يعبد المسيح، وينسى في الوقت نفسه، بأنّ المسيح فلسطيني، فلماذا يُكره الفلسطيني في لبنان؟ هذا التناقض في شخصية الأمّ بأن تقبل الفلسطيني وتنكر ابنة بطنها، لم تكن هنادي قادرة على فهمه. لقد نجت هنادي، في قبولها للآخر، من تحيزات أمّها الغريبة، بدءاً بأختها الخيالية، مرورًا بأكروميغاليتها، فلن تضن بعد ذلك، بحبّ إلى آخر جمعها به هذا الوطن، أو الحي الذي عاشت به. لقد صادقت هنادي نبيل ذلك الشيعي الفقير الذي يعمل مع ميكانيكي سيارات في حيّها، رافضة الاتهامات بحقّه، بعدما جاءها صاحب المحل ليريها صورة، تخبر بأنّه قتل أو استشهد في بلد جار للبنان، أو أن تجد في أحمد الباكستاني ذلك المهاجر نحو الجنّة الأوروبية، لكنّه استقر في لبنان، صديقاً آخر يفتح لها منافذ الكون عبر الانترنت لتلتقي بأمّ منصور في العالم الافتراضي في وطنها الجديد ألمانيا، تلك النازحة من سورية أو فلسطين جارتها في البناية التي سكنتها بعد عودتها. تلك الجارة التي لم تهلع من قباحة هنادي وساعدتها حتى تتعافى من إصابتها بعد الانفجار الكبير الذي ضرب مرفأ بيروت. وأن تبحث مع أحمد عن أبيها؛ ذلك الشاب الذي هرب إلى فلسطين/ إسرائيل مع جيش لحد وحاول الرجوع فيما بعد، لكن الأمور لم تتيسّر سياسياً، فتزوج هناك وأنجب أخاً لها هاجر إلى أمريكا، وعندما اتصلت هنادي بأخيها من أبيها، حضر الأمن على إثر ذلك، ليقبض عليها ويحقّق معها بسبب التواصل مع العدو. لقد انتهت أمّ هنادي مصابة بمرض ألزهايمر، لربما بسبب فصامها المستمر بين الواقع والخيال، فماتت لا تدري شيئاً عن صراعاتها التي خاضتها في حياتها لتجعل الواقع كالمثال. أمّا هنادي، فلقد كانت أكثر ديمقراطية، إنْ صحّ التعبير، ممّن هم حولها، فلقد تصالحت مع الأكروميغاليا بأسهل الطرق، وذلك بأن تستبدل حذاء رجالياً يمنحها الراحة في المشي بحذائها النسائي الضاغط على قدمها. إنّها تشبه قطتها زكية العوراء والمقطوعة اليد التي التجأت إليها من عنف شارع القطط أو البشر وعاشتا سوية. وفي مشهد أخير تسدل هدى بركات به الستار على بطلتها تكون هنادي وزكية فيه على حافة مجرى النهر: “هذه السنة كانت ثلوج المرتفعات أكثر كرماً من سابقاتها. فهناك جدول رقيق، فتيلة من الماء تتلوى في المجرى العريض وقد تصل إلى البحر. لكن الصفصاقة لم تعد هنا.” لقد كانت هنادي سيدة القفل والمفتاح، لأنّهما يمثلان باب الحياة والموت، فعبرها تآلفت الثنائيات، فالجميل ابن للقبيح، والهامش أب للمتن، والتاريخ أخ للذاكرة، والصدق توأم سيامي مع الكذب؛ وكبوذا أنهت هنادي تعالقها مع هذا الوجود أو تعلّقها وأصبحت حرّة كقطط الأزقّة. هنادي الجميلة:
يقول عالم الإعاقة ليونارد كريجل، بأنّ الإعاقة استعارة سلبية، في الأعم الأغلب من سرديات البشر عنها، من الأسطورة انتهاءً بالأدب. وعندما غصت في هذه الرواية أكثر فأكثر تداعت إلى ذهني رواية (فرانكشتاين) لماري شيللي، وكيف أصبح ذلك المخلوق رمزًا للقرن التاسع عشر بماديته العقلية الباردة الكئيبة الوحشية، فهل أنا أمام استعارة سلبية للإعاقة في رواية بركات؟ والسبب في هذا الشعور هو تنامي التشابه بين لبنان بثنائيتيه: الجميل والقبيح، فلبنان جميل في الخيال قبيح في الواقع، يتقاطع مع هند/ الجميلة وهنادي/ القبيحة في الرواية، بحيث يصبح من السهولة إسقاط تاريخ لبنان وحاضره على شخصية هند/ هنادي. لقد كانت هند جميلة كالكذبة ولن نستطيع أن نحسم طوال صفحات الرواية صدق هذه الكذبة من عدمها، فهل اخترعتها أمّ هنادي عندما بدأ حلمها يتحوّل إلى كابوس على إثر إصابة طفلتها هنادي بمرض الأكروميغاليا كنوع من التأقلم، فأبدعت عالم المثال لتجابه به بشاعة الواقع، عالم المحاكاة وفق الفلسفة الأفلاطونية، أم أنّه حقيقة كان لها طفلة تُسمى هند إن شربت الماء بان من حلقومها، وعندما فقدتها، لعبت صولد كامل على طاولة الأمنيات، بأن يهبها الله ابنة أخرى لها كعب يشبه حلوى (راحة الحلقوم) كما قال الطبيب، الذي فضّل كي لا يخدش ذلك الجمال لتلك الطفلة الجميلة أن يزرق الأطعوم الذي سيحميها من مرض الجدري في كعبها، فلا يبقى من أثره إلّا شامة أو بالأحرى طالع كطالع أخيل في الإلياذة الهوميرية.
ليست الإجابة من السهولة بمكان عن سوء استخدام استعارة الإعاقة، أو حسن استخدامها في رواية هدى بركات، فهذا يعود إلى القارئ، ففي رواية ماري شيللي تذكر في إحدى فقراتها بأنّ فرانكشتاين لم يقتل فلاحاً أعمى التقاه في بحثه عن خالقه لكي يقتله. والسبب في ذلك بأنّ الفلاح الأعمى لم ير قبح فرانكشتاين فعامله كإنسان، فأحبّه فرانكشتاين، لكن عندما دعاه الفلاح إلى بيته هلعت عائلة الأعمى خوفاً من الوحش، فقتلهم فرانكشتاين أجمعين. هذه الفقرة الصغيرة نادراً ما اقتبست عندما يتم الاستشهاد برواية ماري شيللي، فدومًا كانت الاستعارة تتعلّق بوحشية فرانكشتاين. وعلى نفس المنوال وقعت أنا في ذات المطب، وأسقطت شخصية هند/هنادي على لبنان، وسيقع غيري من القرّاء أيضًا في المطب نفسه، لكن مع تدافع صفحات الرواية تباعًا تحت ناظري كأحجار الدومينو بدأت جماليات قباحة هنادي تتبدّى، أجمل من هند في عالم المثل وإذا كان من المفروض أن أقيم مشابهة بين لبنان وهند/ هنادي في الرواية والواقع، فسأختار هنادي، هنادي الجميلة جدًا حتى القداسة.
باسم سليمان

في خصائص اللون الأصفر على مرّ العصور
باسم سليمان 2 سبتمبر 2025
أُلقي القبض على أوسكار وايلد في لندن في أبريل ١٨٩٥! وفي اليوم التالي، نشرت صحيفة “وستمنستر غازيت” اللندنية عنوانًا رئيسيًا: “اعتقال وايلد، وبيده كتاب أصفر”. كان أوسكار وايلد قد أدين سابقًا بتهمة الفحش في كتاباته من قبل المحاكم! والآن مع ما عنونت تلك الصحيفة في صفحتها الرئيسية، ثبتت التهمة على وايلد أمام الرأي العام، فأي رجل شريف سيتجوّل في الشوارع علنًا حاملًا كتابًا أصفر؟ لا تتعلّق النظرة السلبية للكتب الصفراء بذلك الوصف الذي نصبغه على الكتب القديمة التي أصفرت أوراقها بسبب الزمن، وأنّها لم تعد تسمن ولا تغني من جوع معرفي! وإنّما جاءت هذه البدعة من فرنسا، فلقد كانت الأدبيات الشهوانية، منذ منتصف القرن التاسع عشر، تجلّد بأغلفة صفراء زاهية، لتلفت الانتباه! فهل كان الكاتب إدغار آلان بو محقًا بذمّها: “التفاهة الأبدية للكتيبات ذات الغلاف الأصفر” مع أنّ بو كان متمردًا على الكتابة الكلاسيكية ورائد الكتابة البوليسية، التي صنفت هي الأخرى ككتب صفراء! لقد كان اللون الأصفر بالنسبة لبعض الكتاب والرسّامين في أواخر القرن التاسع عشر رمزًا حداثيًا وجماليًا وانتفاضة على المفاهيم الفيكتورية المتزمّتة، لذلك كان الكتاب بالغلاف الأصفر رمزًا للثورة، حتى أنّه أطلق على العقد الأخير من القرن التاسع عشر: “التسعينيات الصفراء” بسبب كسرها للتقاليد الفيكتورية. لقد خصّ الشاعر الإنكليزي “ريتشارد لو جاليان” مقالة مطوّله عن أهمية اللون الأصفر الثورية قائلًا: “حتى عندما يفكّر المرء في الأمر، يكاد لا يدرك كم من الأشياء المهمة والممتعة في الحياة صفراء”. يعدّ اللون الأصفر، بحسب الدراسات العلمية من الألوان التي تلحظها العين بسرعة، حتى عند السير بسرعات عالية وهو يرى أيضًا من مسافات بعيدة. ولربما أفضل شرح ممكن لهذه الحقيقة العلمية يكمن في إشارات المرور حيث يتوسّط اللون الأصفر بين الأحمر/ المنع، والأخضر/ السماح، فهو لون التنبّه والحذر والاستعداد. ولربما من هذا المنطلق لجأت بعض الانتفاضات الشعبية إلى اللون الأصفر تعبيرًا عن غضبها. ففي هونغ كونغ 2014 تصاعدت الاحتجاجات المطالبة بالديمقراطية، وأمام قمع الشرطة ورشّ المتظاهرين بسائل الفلفل الحار، عمد المتظاهرون إلى رفع مظلات صفراء بوجه سائل الفلفل الحار، وإعلانًا بأنّ حركتهم الاحتجاجية تُسمع أصداؤها وتُرى في كل البلاد. وعلى نفس المنوال كانت حركة: “السترات الصفراء” في فرنسا عام 2018 التي يرتديها العمّال من أجل التنبّه لهم وهم يقومون بأعمالهم الخطرة، والتي قامت احتجاجًا على الضرائب التي فرضتها حكومة الرئيس الفرنسي ماكرون على الوقود. امتدت هذه الحركة من المناطق الريفية إلى عاصمة الأنوار، حيث ظهر المحتجون وهم يرتدون سترات صفراء في مواجهة بذلات الشرطة السوداء. خرج آلاف المتظاهرين التايلانديين في عام 2020 إلى شوارع بانكوك مطالبين الملك “ماها فاجيرالونغكورن” بالتنازل عن السلطة، وقد حدث أثناء قمع التظاهرات أن لجأ بعض المتظاهرين إلى نفخ طائر بط أصفر مصنوع من البلاستيك، لحمايتهم من رشاشات المياه القوية التي تطلقها الشرطة باستخدام سيارات إطفاء الحرائق. رويدًا رويدًا تبنّى المتظاهرون البط الأصفر رمزًا لثورتهم على الملك. إذن لم يكن رسامو وكتاب القرن التاسع عشر مخطئين برؤية اللون الأصفر كأسلوب احتجاج وثورة. بالعودة إلى قضية وايلد، فلقد اقتحم الجمهور الدار المسؤولة عن ذلك الكتاب الأصفر الشنيع الذي شوهد بيد أوسكار وايلد محاولين منعها من نشر الفسق. وللحقيقة كان ذلك الكتاب هو “أفروديت” رائعة الكاتب الفرنسي بيير لويس!
اللون الأصفر لون قديم وقوي منذ أن أشرقت الشمس على الأرض، فالشمس هي النجم الأصفر الذي منح سوبرمان قوته ومنح الأرض الحياة، فليس غريبًا أن تكون المغرة الصفراء هي اللون الذي صبغ به ذلك الحصان البري في كهف لاسكو في فرنسا، والذي يعود إلى أكثر من سبعة عشر ألف عام قبل الميلاد. كان اللون الأصفر من الألوان المفضلة للفراعنة في صبغ جدارياتهم، في الأهرامات وداخل المقابر، فقد وجدت في قبر: “توت عنغ أمون” علبة تحوي المغرة الصفراء، أليست الشمس هي الإله: “رع/ أمون” خالق كل شيء في اعتقادات الفراعنة الدينية، فهو صاحب تلك الصبغة التي وجدت في قبر الملك. الأصفر لون الذهب لدى الفراعنة وهو المعدن الذي لا يفنى، حيث كانوا يعتقدون بأنّ جلود وعظام الآلهة من الذهب، ولربما من هنا جاء المثل العامي، بأنّ شخصًا: “عظامه من ذهب”. كان الرومان مولعين بالذهب، فمدينة بومبي التي دفنها بركان فيزوف برماده، قد حفظت الكثير من الجداريات المليئة بالرسومات المصبوغة بالمغرة الصفراء.
قلنا بأنّ العلم منح اللون الأصفر خصائص مهمة من حيث وضوح رؤيته، لذلك استخدم كإشارة تنبيه عالية الجودة، فأصبحت أكثر سيارات الإطفاء وباصات المدارس وتكاسي الأجرة صفراء، بالإضافة إلى الآلات في المصانع ومعداتها. خلال فترة ما بعد القرون الوسطى في أوروبا، رسّخ اللون الأصفر كإشارة لخيانة يهوذا الإسخريوطي للسيد المسيح، على الرغم من أنّ الكتاب المقدّس لم يذكر ملابسه قط. لربما يرجع وصف يهوذا باللون الأصفر إلى الملك ميداس اليوناني الذي كان مولعًا بالذهب الأصفر، فطلب من الآلهة أن تمنحه يدًا تحول كل ما يلمسه إلى ذهب. ولا يختلف يهوذا عنه، فقد خان السيد المسيح بمقابل ثلاثين قطعة من الفضة. ومع أنّ الفضة ليست صفراء لكن ميداس ويهوذا مغرمين بالمعدنين الثمينين. ومن هذا المنطلق، ارتبط اللون الأصفر أيضًا بالحسد والغيرة والازدواجية وبالمرض، فلقد كان ينظر إلى المرض قديمًا، بأنّه انعكاس للروح، فالروح الجيدة تمتلك جسدًا سليمًا والروح السيئة تعيش في جسد مريض أصفر باهت. واستتبع ذلك تقليد في عصر النهضة يقوم على تمييز الغرباء من غير المسيحيين، مثل اليهود، باللون الأصفر، وقد حدث الأمر ذاته في عصرنا بأن أجبر اليهود في الزمن النازي على خياطة نجمة داود صفراء على ثيابهم. وعندما أراد الغرب التأفّف من هجرة الشعوب الشرق آسيوية إليه أطلق على هذه الهجرة: “الغزو الأصفر”. وفي إسبانيا في القرن السادس عشر، كان المتهمون بالهرطقة والذين رفضوا التخلّي عن آرائهم يُجبرون على المثول أمام محاكم التفتيش الإسبانية مرتدين عباءة صفراء. كذلك ارتبط اللون الأصفر تاريخيًا بمقرضي الأموال، حيث يصوّر شعار مقرضي الأموال بثلاث كرات ذهبية معلّقة على قضيب، في إشارة إلى أكياس الذهب الثلاث التي يحملها القديس: “نيكولاس” شفيع مقرضي الأموال. بالإضافة إلى ذلك، يوجد رمز الكرات الذهبية الثلاث في شعار عائلة ميديشي، وهي سلالة إيطالية شهيرة من المصرفيين والمقرضين للأموال في القرن الخامس عشر، بالإضافة إلى ما سبق، فقد كانت من أهم العائلات الإيطالية الراعية للفنّ الذي صبغ عصر النهضة الأوروبية بجمالياته.
تعدّ الصين بلد الشعب الأصفر، حتى أنّ أول إمبراطور أسطوري صيني، يسمى الإمبراطور الأصفر، ويحكى أنّ آخر إمبراطور صيني في القرن العشرين كان يُدعى “بوئي 1906- 1967”. هذا الإمبراطور كان محاطًا باللون الأصفر في صغره، وذلك لأنّ اللون الأصفر بالنسبة للصينيين هو لون السماء والآلهة. لم تصفُ الحياة للإمبراطور الأخير الذي انتهى بستانيًا قرب قصره يعتني بالزهور المتنوعة الألوان ومنها الصفراء، بعدما تم تأهيله سياسيًا من قبل الشيوعيين بقيادة الزعيم ماو تسي تونغ.
لا يمكن أن يكون الأصفر أصفر من دون الرسّام فان غوغ الذي كان مولعًا به. وفي رسالة لأخته عام 1888 كتب لها: “ننعم الآن بطقس جميل ودافئ وهادئ، وهو مفيد جدًا لي. الشمس، ضوء لا أستطيع وصفه إلّا باللون الأصفر” رسم غوغ الكثير من اللوحات مستخدمًا اللون الأصفر من لوحات عباد الشمس، إلى الغرفة الصفراء، وحقول القمح، والكتب الصفراء، وكأنّه يثور بطريقته على زمنه وعلى تقاليد الرسم القديمة. وجاراه في ذلك بول غوغان عندما رسم لوحة للسيد المسيح وأطلق عليها اسم: “المسيح الأصفر”، دلالة على ثورة المخلّص في زمن المادة.
إنّ وصف الكتب السيئة الصيت بالصفراء، استمر مع الصحافة المليئة بالإشاعات، والتي تتصيّد مشاهير هذه الأيام، يرجع وصف هذه الصحافة بالصفراء إلى أوائل مجلات الكوميكس، التي نالت هذا اللقب عام 1895 وكان ذلك بسبب أنّ أشهر الشخصيات فيها فتى يدعى: “الفتى الأصفر” نسبة لقميص النوم الأصفر الذي كان يرتديه، عند قيامه بمغامراته الهزلية. تعدّ بيجامة بروسلي أشهر بيجامة في العالم وبها غزا عقول الشباب في الشرق والغرب، حتى شباك تذاكر السينما التي كانت تخصّص لنجوم هوليوود فقط. لربما لبس تلك البيجامة لأمر في نفسه وقد تكون تطبيقًا لمقولة قديمة عن غزو الشعوب الصفراء. وكعادة المخرج الكبير كوينتن تارانتينو في التقاط اللاشعور في المجتمعات الغربية، استخدم في فيلمه الحركي “اقتل بيل 2003” اللون الأصفر، فقد ألبس بطلة الفيلم “أوما ثورمان” بيجامة صفراء.
ليست دلالات الأصفر السلبية متعارضة مع الإيجابية، فهو اللون الذي تنطبق عليه مقولة: “بأنّ الضد يظهر حسنه الضد” وما ضدّ الأصفر لون آخر، بل الأصفر ذاته؛ مات غوغ فقيرًا مدقعًا، والآن تباع لوحاته ذات اللون الأصفر بملايين الدولارات.
ليست هذه تناقضات في اللون الأصفر، بل جدليات، فهو لون الشمس، وكما أنّ ضوءها يبدّد ظلام الليل ويكشف المستتر، كذلك من ينظر إليها مباشرة تعميه، فالأصفر تارة يكون بيضة تُكسر أو حجرًا يفج، ومن يريد استخدامه كرمز في الحياة والفنون والآداب والمجتمع والاقتصاد والسياسة عليه أن يجيد اللعب بقطعة نقدية صفراء بقذفها إلى الأعلى متوقعًا على أي وجه ستستقر عندما تسقط على الأرض.
باسم سليمان
كاتب من سورية

August 17, 2025
الحديقة: هل هي مهد المعرفة الإنسانية؟
باسم سليمان 17 أغسطس 2025
لم يجد الفيلسوف اليوناني أبيقور (341-270 ق.م) أفضل من الحديقة مكانًا ليشرح فيه دروسه الفلسفية، معلنًا عدم اكتراث الآلهة بالبشر، لذلك يجب مجابهة مخاوفنا من الموت والألم من دون انتظار السماء. جاء بعده بسبعمائة عام القديس أوغسطين (354-430 م) الذي اعتنق الديانة المسيحية وقال، بأنّ العناية الإلهية تشمل الكون كلّه وقد حدثت هذه اللحظة المصيرية في حديقة بيته. استخدم الأرستقراطيون البريطانيون الحدائق لعرض النباتات التي استجلبوها من الأراضي التي استعمروها دلالة على سيطرتهم على العالم. بينما استخدم الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين الحدائق للحفاظ على نباتات أسلافهم. لقد أنشأت كل حضارة بشرية حدائقها الخاصة، لأسباب عملية كالطعام والدواء، ولأسباب ثقافية وسياسية، بل لأسباب أكثر عمقًا كمحاكاة للجمال المطلق، وأن تكون مرآة للروحانيات، والأهم البحث عن المعرفة.
يقال بأنّ الحدائق المعلّقة في بابل كانت إحدى عجائب الدنيا السبع في العالم القديم، وقد بناها الملك نبوخذ نصر من أجل زوجته التي شعرت بالحنين إلى طبيعة بلادها في فارس! فهل كان ذلك الحنين؛ هو السبب في بناء تلك الحدائق الأسطورية؟ لا ريب أنّه الحنين إلى زمن بدئي متخيّل، أُلْبِس رغبة زوجة نبوخذ نصر! فالأساطير الإنسانية تكلّمت عن حديقة/ جنّة كان فيها الإنسان، لا يعرى ولا يشقى، كما وصفته الأدبيات الدينية والأسطورية، وأطلق الشاعر اليوناني هزيود على ذلك العصر اسم: الزمن الذهبي، كجنة ديلمون السومرية التي يصادق بها الذئب الخروف، أو الجنّة التي كوفئ فيها أتونبشتم – نظير النبي نوح- بالخلود والتي سعى إليها جلجامش، لكن الآلهة كتبت على البشرية الموت، وعلى ما يبدو أنّ نبوخذ نصر كان في دخيلته يعيد محاكاة جنّة ديلمون، لربما يسرق لحظة سلام وخلود من جنّة متخيّلة. لا تختلف هيكلية الجنّة في الديانات التوحيدية عن ما ذُكر، فلقد أسكن آدم أبو البشر وزوجته في الجنّة حتى ارتكبا الخطيئة، فأهبطا إلى الأرض، لكن وعِدت البشرية بالعودة إليها إنّ آمنوا وعملوا صالحًا. هذه الجنّة السماوية تشبه حقول الإليزيه اليونانية التي عدّت كمستقرّ للأبطال وفاعلي الخير في حياتهم الثانية ما بعد الموت. لا تختلف أوصاف الجنّة عن الحديقة، فكلاهما منطقة مسوّرة، مليئة بالأشجار والأزهار من كل صنف ونوع، تجري فيها الأنهار، ويعيش فيها الإنسان بطمأنينة وهدوء، وكأنّها منطقة وسطى بين الطبيعة البكر بمخاطرها والمدينة بمساوئها، فهي الفضيلة التي قال عنها أرسطو: لا إفراط ولا تفريط، فالحديقة تمثّل مساحة حوار بين الطبيعة البرية والعالم البشري المصطنع، فهي تجسّد أفضل ما فيهما، لذلك كان تخيّل الجنّة على شاكلة الحديقة. الحديقة مكانٌ للوداعة والوفرة والسهولة، مُحاطٌ بمخاطر البرية والمدينة، لكنّه مليءٌ بكرم الطبيعة واستقرار المدينة. لقد صيغ مفهوم الحديقة في الفكر الإنساني، لتشبه تلك الأجواء الرعوية الخيالية، التي لطالما سعى إليها أسلافنا الرُحّل بحثًا عن مكان لطيف الأجواء، محميّ، مليء بالغذاء والأمان والسكينة.
تتعدّد أسماء الحديقة من جنّة، إلى روضة، إلى بستان، إلى حقل، لكن المعاني لهذه الأسماء والدلالات متشابهة، لا من حيث خضرة النباتات ووفرة الزهور وتنوع الثمار، أو الهدوء أو الأمان فقط، بل لأنّها كانت الأساس لوجود الإنسان على هذه الأرض، والمكان الذي بدأت به أسئلته الوجودية، بعيدًا عن القراءة الأخلاقية الدينية لخطيئة آدم بمخالفة أمر الإله، لقد كانت خطيئة آدم في صميمها رغبة معرفية، لأنّه قد ذاق شجرة المعرفة، والمعرفة تفتح الآفاق. هكذا أطل آدم من خلف سور الجنّة إلى الأرض، واشتهى أن يعمّرها بذاته، أن يصنع حديقته الخاصة. يدعم هذا التصوّر قرار أوديسيوس الذي رفض البقاء مع الحورية كاليبسو في حديقتها السماوية وفضل العودة إلى بيته في إيثاكا حيث مزرعته وزوجته بينلوبي.
“يجب علينا أن نعتني بحديقتنا”:
هذه الجملة هي آخر ما قاله بطل رواية فولتير (كانديد). لقد كانت الرواية برمّتها نقدًا لاذعًا لفلسفة لايبنيتز المتفائلة، وخاصة مقولته بأنّ العالم كما نعرفه هو أفضل العوالم الممكنة للإنسان. لقد كان فولتير ناقمًا كبيرًا على الأوضاع السياسية والاقتصادية والدينية والفلسفية في القرن الثامن عشر وخاصة في فرنسا، ورأى بأنّ فلسفة لايبنيتز تهرب من مواجهة الواقع عبر تفاؤل مصطنع. تسرد الرواية حكاية الشاب كانديد الذي كان متعلّقًا بمعلمه (بانغلوس)، والذي هو بمكان ما هو تمثيل للايبنيتز. تدور رحى الأقدار ويتعرّض كانديد لأشدّ المصائر جنوحًا، وعندما يضع أفكار معلّمه تحت مجهر التطبيق العملي يكتشف هشاشتها. إنّ الإحالات في رواية كانديد، بمكان ما، تذكرنا بآدم وزوجته اللذين قبض عليهما متلبّسين بالخطيئة الجنسية، كما قبض صاحب القصر على كانديد يقبّل ابنته، فطرده من القصر والحديقة، لكن في النهاية يلتقي كانديد بحبيبته ويقرّر مع رفاقه زراعة حديقتهم الخاصة، أو تطبيق رؤيتهم الخاصة للعالم كما يريدون، لا كما تكتب الأقدار. إذن المطلوب منّا أن نعتني بحديقتنا الخاصة، لكن لماذا؟ يعود لليونانيين اختراع: (الأغورا/ الساحة؛ مركز المدينة حيث كان المواطنون الأحرار يجتمعون للحديث بشؤونهم العامة). إنّ الفضاء السياسي للأغورا هو فضاءٌ للكلمات المشتركة، كالحقوق والواجبات وإلى ما ذلك، فهي لم يكن لها وجود إلّا من خلال الجدال العام بين المواطنين الذين من خلال النقاش والمحاورة، هكذا كانوا يحوّلون آراءهم الذاتية إلى عناصر تُعنى بالشأن العام. لقد ابتكر اليونانيون الأغورا/ المدينة للحفاظ على الشروط السياسية للوجود. كتب جيل دولوز: “إذا أردنا حقًا القول، بأنّ الفلسفة والسياسة نشأت مع الإغريق، فذلك لأنّ المدينة، على عكس الإمبراطورية أو الدولة، ابتكرت الساحة العامة، كقاعدة لمجتمع المواطنين الأحرار”. لكن بمجرد خروجهم من السياق السياسي، يرجع البشر إلى حالة ليست بالسياسية بالمعنى التخصّصي، فيعودون للانخراط بمصالحهم الذاتية الأنانية. وهنا يأتي دور الحديقة في استكمال دور الساحة العامة. إنّ خلق فضاء سياسي عبر الساحة العامة، بقدر ما يُمكّن من إرساء أسس عالم مشترك يحكمه القانون، إلّا أنّه يُنتج في الوقت نفسه، المكان الحقيقي الوحيد الذي تتجلّى فيه الطبيعة البشرية المشتركة. ففي الأغورا يتعرّف البشر على بعضهم البعض كمواطنين سياسيين. أمّا في الحديقة فيجتمع البشر تحت أفق عالم جماعي من الترابط. إذن الحديقة وفق الرؤية الفلسفية اليونانية هي المكان الذي يتخلّص فيه الإنسان من التجاذبات الحادة بين مصالحه الخاصة الشخصية والمصالح العامة، فهي أقرب لفترة النقاهة بعد المرض. هذه الرؤية للحديقة لم تأت من قاعدة الراحة التي تعقب التعب، بل من رؤية علاجية لمشكلة ما؛ لتكن على سبيل المثال سياسية. يُحكى أنّ أكاديموس وهو بطل يوناني كرّمته أثينا بأن منحته بعد موته قبرًا في منطقة طبيعية خلّابة أقرب للحديقة، لأنّه منع الصدام بين مؤسس أثينا البطل (ثيسيوس) الذي خطف الجميلة (هيلين)- التي تسببت فيما بعد بحرب طروادة – وشقيقيها، بأن أخبرهما عن مكان وجودها، وبهذه الطريقة أطفأ أكاديموس فتيل الخصام. أمّا معنى (أكاديموس) فهو المكان الهادئ: (أكا) تعني هادئ و(ديموس) تعني مكان، وعندما نجمع هاتين الكلمتين تتجلّى لنا الحديقة: المكان الهادئ. إذن الأكاديميات الفلسفية اليونانية التي ترجع بجذرها اللغوي إلى اسم أكاديموس، يجب أن تكون على شاكلة الحديقة، أي مكانًا هادئًا كان في نظر اليونانيين مدخلًا للتأمّل في الإنسانية، ملخّصًا المثال للكمال البشري: (الجميل والصالح)، فالحديقة هي مكان للتعلّم والمعرفة وإدراك الجميل والصالح من خلال تحضير الإنسان ليكون قادرًا على مواجهة المدينة والسوق والطبيعة. الهدف من التعليم في الحديقة، هو جعل البشر سكانًا للمدينة ولمحيطها أيضًا، لأنّها حالة برزخية بين ما يصنعه الإنسان وبين الحالة البكر. ومن هذا التفسير لمعنى الحديقة نستطيع أن نفهم لماذا كان الفلاسفة من مشّائين، إلى رواقيين، إلى كلبيين، إلى أبيقوريين، يلقون محاضراتهم في أماكن تعدّ ضمنًا من الحديقة كالرواق أو الممرات بين الأشجار، أو حتى جعل الحديقة ذاتها مدرسة فلسفية كما فعل أبيقور. ومن هذا التفسير نستطيع تفسير دهشة المؤرخ هيرودوت عندما رأى حديقة نموذجية عند الليبيين الذين كانوا يعدون أقل حضارة من أثينا وروما.
حديقة أليس في بلاد العجائب:
هذا المعنى الفلسفي الذي تتجاوز فيه الحديقة جمالياتها الطبيعية مكّنها من أن تصبح رمزًا متعدّد الدلالات، نذكر بعض الأمثلة عليه، فعلى الصعيد السياسي أصبحت حديقة (هايد بارك) في لندن آخر الأماكن على الأرض – كما يقال- التي يسمح فيها لأي شخص التحدث علنًا من دون إذن مسبق! هذه الحديقة تذكرنا بحدائق الفلسفة اليونانية، وبصراعات فلاسفتها، فالحدائق الأوروبية مثّلت العقلانية الديكارتية بأشكالها الهندسية ومتاهاتها كما في متحف اللوفر، بينما في إنكلترا كانت أكثر تجريبية اتباعًا لمفكريها. وإذا اتجهنا نحو الشرق نجد في اليابان حدائق تتبع رؤية (وابي سابي) وهي فلسفة زنّية (مذهب الزن) ترى الجمال في الأشياء الزائلة والبسيطة والصغيرة، وهي نظرة زهدية على عكس الحضارة الغربية. أمّا دينيًا، فلقد اختار السيد المسيح درب الآلام في بستان (جَثْسَيْماني) ليرفع الخطيئة عن البشرية، وكأنّه لكي تجب خطيئة حديقة آدم، لا بدّ من حديقة بالمقابل لترفع الخطيئة عن البشرية. لقد احتاج بوذا لورقة ذابلة في حديقة قصره ليكتشف حجم المعاناة الهائلة التي يعيشها البشر. عندما نريد التعبير عن جمال حديقة ما، نصفها بأنّها كالجنّة، ولم يتم التوصل لتطبيق هذه الاستعارة بشكلها الواقعي إلّا في الأندلس إبّان الحكم العربي لها. يقول الباحث والمفكِّر الإسباني خوسيه ميغيل بويرتا في كتابه (الجمالية في الفكر الأندلسي) بأنّه عندما بنى آل نصر غرناطة كان في خواطرهم وغاياتهم محاكاة الجمال الإلهي للجنّة ويستعير قول الشاعر ابن خفاجة تأكيدًا لقوله: يا أهل أندلس لله درّكم ماء وظلّ وأنهار وأشجار ما جنّة الخلد إلّا في دياركم ولو تخيّرت هذا كنت أختار لا تختشوا بعد ذا أن تدخلوا سَقرًا فليس تُدخل بعد الجنّة النار. بينما فنيًا أصبحت الحديقة هي الفضاء المكاني في اللوحات الذي تمتد عليه الألوان من مايكل أنجلو إلى رسّامي عصرنا، لذلك يقول مؤرخ الفن الإنكليزي هوراس والبول (1717-1797): “إنّ البستنة من أوائل الفنون الجميلة”. لا يذكر علم التاريخ الحدائق إلّا بخفر، لكن الآداب كان لها الباع الأكبر بذكرها، فمن حكم بيدبا، إلى ألف ليلة وليلة، غدت الحدائق أرضًا للثورة على التقاليد والأعراف، بل أصبحت رمزًا للحرية. وإذا أردنا أن نبحث عن أولى الفضاءات المكانية بعيدًا عن السرّية التي بدأت الذكورة والأنوثة تلتقي فيها بالعلن، سنجد الحديقة، فالشارع له صبغة ذكورية جدًا، فيما البيت فأنثوي جدًا، لذلك كانت الحديقة هي المكان الأنسب الذي رصدته الفنون والآداب لهذا اللقاء. وكما ساعدت الحديقة في كسر تابوهات المجتمع المحافظ رمزت أيضًا لقدرتها الشفائية، ففي رواية الحديقة السرية للكاتبة: (فرانسيس هودسون برنيت) نكتشف كيف أن العناية بالحديقة – أي البستنة- قادرة على أن تعيد الصحة لجسد الفتى الصغير المريض. ومن هنا كانت فترات النقاهة في القرن العشرين وخاصة للمصابين بالحروب تكون في الحدائق الملحقة بالمشافي. لم يجد (لويس كارول: اسم مستعار لعالم الرياضيات تشارلز دودسن ) في روايته (أليس في بلاد العجائب) إلا الحديقة ليفتتح بها مغامرة أليس في عالم خيالي عجيب. وإذا دققنا في شخصيات هذه الرواية نجد الرياضيات والفلسفة والآداب والفنون والدين والسياسية تومئ بهدوء من خلف الأشجار والزهور والجداول.
الحديقة أمل البشرية:
أن تعتني بحديقة، كما قال فولتير، فهذا يعني أن تكون جزءًا من شبكة من العلاقات الإنسانية والطبيعية، فلا شيء يبقى وحيدًا في الحديقة، تسقط البذرة في الأرض، فتصبح نبتة مكونة من الشمس والريح والماء. يأكل الطائر ثمرة النبتة، فتُغلّف فضلات الطائر البذرة وهي تسقط عائدةً إلى الأرض. يموت النبات، ويموت الطائر، فيتحوّلان لغذاء للديدان وللبذور، التي تنبت من جديد. يصبح الأحياء أمواتًا، والموتى أحياءً، فممَ تتكون هذه الدورة في النهاية؟ أمن الذرات، أم من شبكة من الروابط؟ يقول ديمقريطس، بأنّ الكون يتألّف من ذرات مفردة! لكن لا يوجد شيء من الأشياء، يقوم عليه كل شيء آخر، بل شبكة لا نهائية من العلاقات، كلّ جزء منها يستعير وجوده من مشاركته في الكلّ. سعى ديمقريطس إلى إيجاد أساس الوجود في ذرة مطلقة، أبدية. لكن حجر الأساس المفهومي هذا، لم يكن موجودًا إلّا في العقل البشري، فالذرة تتشكل من عناصر أصغر وأصغر، أمّا في الفلسفة البوذية التي انطلقت من الحديقة، فتقول: الواقع علاقات، وبقدر ما نحسن إقامة هذه العلاقات الترابطية كما في الحديقة، سنكون قادرين على فهم الكون وعلى الاعتناء بأخوتنا في الإنسانية المتنوعين كالأشجار والزهور في الحديقة من دون الاكتراث بمبدأ أولي هو السراب بعينه.
باسم سليمان
كاتب سوري

August 8, 2025
التضامن مرفأ أخيرًا لسفينة الإنسانية الجانحة
باسم سليمان 8 أغسطس 2025
هناك بعض المفاهيم الإنسانية التي لم تأخذ حقّها في الدراسة والتمحيص والتطبيق إلّا بعد زمن طويل من صكّها، على الرغم من الإرهاصات العديدة والمديدة لها في التاريخ الإنساني، فإذا أخذنا مفهوم الحقوق الاجتماعية للإنسان، فلقد تأخّر الاعتراف بها إلى القرن الثامن عشر، فاشترعت أولى خطواتها بإلغاء العبودية. أمّا الحقوق السياسية فلقد نُوقشت بعمق منذ أفلاطون، لكن التطبيقات العملية احتاجت الثورة الفرنسية عام 1789 وتلتها الحركات الاشتراكية والديمقراطية التي وقفت في وجه أنظمة الحكم السياسية التقليدية من إقطاعية إلى ملكية. فيما انتظرت الحقوق الإنسانية ازدهارها في القرن العشرين ومن أهم نتائجها المساواة بين الذكر والأنثى في الحقوق والواجبات. وإذا يمّمنا شطر فكرنا نحو مفهوم بدأت تعلو أسهمه في الألفية الثالثة وما نقصده هو (التضامن/ SOLIDARITY)! لكن لماذا التضامن الآن؟ لقد تعرّضت الكثير من الحركات السياسية والاجتماعية للإجهاض، فالشيوعية التي قال عنها ماركس بأنّها: “الاستيلاء الحقيقي على الجوهر الإنساني من قِبل الإنسان ولأجله” انتهت إلى استبدادية ستالينية. بينما الرأسمالية التي وعدت بدولة الرفاه، فلقد بدأت تتآكل أمام السوق النيوليبرالي. ومن هنا بدأ البحث عن مفهوم ليس بسياسي وفق المعتاد، كما عهدنا بالديمقراطية أو الرأسمالية أو الشيوعية، بل بمفهوم يسمح للأفراد والشعوب، بأن يكون لهم فعالية في مواجهة تلك الحركات السياسية والاجتماعية التي أثبتت بعد تطبيقها بأنّها لا ترى بالإنسان إلّا شيئًا أو سلعة تخضع للعرض والطلب، إلى جانب أنّ وعي الإنسان بالكوارث الطبيعية كالاحترار العالمي وفشل قمم المناخ المتتالية بالحدّ منه، دفعه إلى البدء باتخاذ مواقف ضد التصنيع اللامحدود. ومن هنا بدأ علماء الاجتماع كإميل دوركهايم في كتابه: (تقسيم العمل في المجتمع 1893) وإريك فروم في كتابه: (الإنسان من أجل ذاته 1947) طرح رؤى جديدة أمام تراجع أفكار عصر الأنوار الأوروبي. وعلى الرغم من تنبّه علماء الاجتماع لهذا المفهوم مبكّرًا إلّا أنّه ظل خطابيًا، يسمع في خطب السياسيين وحتى رجال الدين من دون تطبيق حقيقي. وعندما وجد له تأصيلًا في الحركات المناهضة للعنصرية والحركة النسوية وحركات ذوي الإعاقة من سبعينيات القرن الماضي، استبعد من الدراسة المنهجية العلمية في العلوم الاجتماعية والفلسفية والسياسية؛ والحجّة بذلك، لأنّه يقوم على الحبّ والصداقة والتحيّز، وهذه مشاعر ذاتية لا تخضع للموضوعية العلمية. هذا الاحتجاج ليس بعيدًا عن الصحّة بالمطلق! لقد انطلقت حركة (كلّنا يونانيون) في أوروبا والتي نرى لها أشباهًا كثيرة في زمننا إثر مذبحة خيوس عام 1822 التي قامت بها القوات العثمانية بحقّ اليونانيين. ولقد خلّد دولاكروا هذه المجزرة بلوحة معروضة الآن في متحف اللوفر. تضامن الأوروبيون مع اليونان لأسباب عديدة نذكر منها؛ بأنّ اليونان المهد الفكري لأوروبا بالإضافة إلى أنّ حقّ تقرير المصير قد بات يُؤخذ بالاعتبار في تلك الأزمنة حتى أقرّته الأمم المتحدة في مبادئها. لكن لنعد للمذبحة التي أطلقت شرارة التضامن، ألم يكن يقابلها مجزرة كبيرة قامت بها القوات اليونانية بحقّ المدنيين الأتراك في منطقة البيلوبونيز اليونانية؟ طرحت الحرب السورية على العالم مشكلة اللاجئين الذين تدفّقوا نحو أوروبا، وقد كان للمستشارة الألمانية ميركل موقف مشرّف باستقبال اللاجئين على الرغم من معارضة الأحزاب اليمينية فقد خاطبت الشعب الألماني، بأنّ هذا واجبهم وأنّ التضامن مع الكوارث التي تصيب الشعوب يظهر مدى التشبّع بالقيم الإنسانية. لكن من طرف آخر تتغاضى ألمانيا عن الهولوكوست الإسرائيلي بحقّ الفلسطينيين، وتصرّ بأنّ المواقف الداعمة لإسرائيل من صلب الروح الألمانية! وهنا لكي لا نقع في جدلية الثنائيات الضدية التي يسبّبها مفهوم التضامن، وقد تحجب عنّا معناه الحقيقي، لنتذكّر الأول من أيار عيد العمال في كلّ أنحاء العالم. ويعود اتخاذ هذا اليوم، بسبب أحداث دامية جرت في منطقة (هاي ماركت شيكاغو) حيث أطلقت القوات الأمريكية النار على العمال المضربين من أجل تحسين واقع العمل، فكان هذا اليوم تعبيرًا عن التضامن مع حقوقهم والذي تطوّر فيما بعد ليصبح: “يا عمّال العالم اتحدوا”. إذن التضامن مثله مثل الكثير من المفاهيم البشرية يحتاج إلى صقل حتى يظهر معدنه الأصيل. قبل أن نغوص أكثر في مفهوم (التضامن/ SOLIDARITY) علينا تمييزه عن مجموعة من المصطلحات الأخرى التي تتقاطع معه وتتوازى وتتعارض من مثل: (التكافل، والتماسك، والتعاطف، والتعاضد، والتراحم). يعود مفهوم التكافل إلى علم البيولوجيا، حيث يقوم كائنان بالاعتماد على بعضهما في تأمين مصادر حياتهما. أمّا التماسك فيتعلّق أحيانًا بالصمود الفردي أو الجماعي في مواجهة المصاعب وعادة ما يكون مؤقّتًا. بينما التعاطف فهو موجّه نحو شخص أو مجموعة محدّدة. فيما التعاضد يقوم على تكاتف جهات معينة لأجل القيام بعمل ما. ولا يبتعد التراحم عن المعاني السابقة بسبب أصله الأسروي أو القبائلي أوالديني، إلّا أنّه عادة ما يكون منصبًا نحو الفئات التي تشترك في قرابات عصبية أو رحمية أو عقيدة دينية معينة. إذن ماهو التضامن؟ أضافت شركة فيسبوك إبّان وباء كوفيد رمزًا تعبيريًا عن شخضٍ يحتضن قلبًا إلى جانب الرموز الأخرى التي اعتمدتها وسائل التواصل الاجتماعي للتعبير عن التفاعل مع المنشورات التي يبثّها المشتركون فيها. وقد قالت الشركة عنه، بأنّه من أجل إظهار التضامن والتعاطف غير المشروط -بعد الإغلاق الذي شمل معظم كوكب الأرض إثر انتشار الوباء- مع الآخرين بالمطلق! يعدّ التضامن نشاطًا عاطفيًا وفكريًا وعمليًا يتجاوز آليات المشاعر الكلاسيكية المعروفة من حبّ وغضب وحزن ودهشة وإعجاب وضحك التي لها طبيعة نسبية، فالإنسان لا يحبّ كلّ شيء، ولا يغضب من كلّ شيء، ولا يحزن من كلّ شيء، ولا يدهشه كلّ شيء، ولا يضحك من كلّ شيء، لذلك كان رمز التضامن المعتمد من شركات السوشيال ميديا، فهو وإنْ كان يجمع ما سبق من مشاعر إنسانية، إلّا أنّه يتجاوزها، فهو لا يقف عند فرد أو دين أو أثنية أو عرق أو قومية، فهو افتراض متأصّل في الطبيعة البشرية المشتركة للإنسانية جمعاء، كما تكلّم عنها أرسطو وسبينوزا؛ وكما قال عنه عالم النفس والفيلسوف الألماني إيريك فروم، بأنّ التضامن يتّجه نحو الإنسان بالمطلق. هذه النظرة المطلقة عن مفهوم التضامن، لم تتأسّس كلية بل تطوّرت، فكان لها مسيرة تاريخية منذ أنْ أُكّدت في القانون المدني الذي أصدره نابليون بونابرت، فلقد كان لها إرهاصات سابقة، فهي بداية لم تكن تتعلّق مباشرة بالتضامن الإنساني كما نعرفه الآن، وإنّما كان له طبيعة حقوقية مالية تتعلّق بتكافل المدينين نحو الدائن في سداد الدين، لكن مفهوم التضامن ينطلق من هذه النقطة، فكل إنسان مدين للطبيعة الإنسانية التي تحدّد هويته ككائن عاقل وأخلاقي، ولكي تكون إنسانًا عليك أن تسدّد دينك نحو الإنسانية.
هذه المصطلحات التي ذكرناها آنفًا والتي تتقاطع مع مفهوم التضامن لا تغطي كلّ العلاقات الإنسانية التي نشأت مع ظهور الدول القومية والثورة الصناعية وتقسيم العمل، فعالم الاجتماع إميل دوركهايم رأى بأنّ المصانع والرأسمالية وظهور الدولة القومية وتوسّع المدن والصراع الطبقي وما نتج عن ذلك من تقسيم للعمل يتجاوز العلاقات التي كانت تستند إليها الجماعات البشرية ومنها الحرفية في شدّ أواصرها، أسواء كانت أسروية أو حتى ضمن مهنة معينة، ممّا مهّد لظهور التضامن مستعارًا من المجال القانوني. لكن على الرغم من ذلك أهمل المصطلح من قبل العلوم الاجتماعية والفلسفية والسياسية التي انصبت دراساتها نحو مواضيع أخرى من مثل: الديمقراطية، والقومية، والمجتمع، والتعددية الثقافية، وحقوق الإنسان. ونحن الآن نغذّ السير في الألفية الثالثة ومع اكتساح آليات السوق التي تهدّد دولة الرفاه الممثّل لها بالدول الأوروبية، وتجذّر الفردية كأسلوب حياة يقوّض العلاقات الأسروية، عاد النظر إلى مفهوم التضامن كحلًّ لمشاكل المجتمع الإنساني المتواترة بشدّة.
الإنسان المتضامِن:
حلّل عالم النفس إيريك فروم ضرورة التضامن الإنساني من خلال العديد من كتبه، حيث عرض فيها تصوّره للأخلاقيات التضامنية. يربط فروم بين نهجه في الدراسة والتحليل وبين تقاليد أرسطو وسبينوزا الأخلاقية، فيتساءل عمّا يجعلنا بشرًا؟ ويخلص إلى أنّ الوعي الذاتي، والعقل، والخيال هو ما يجعل الكائن البشري إنسانًا، لكن هذه القوى الإنسانية أفسدت الانسجام الذي كان يعيشه الإنسان عندما كان كالحيوانات الأخرى، فهو كائن مفارق للطبيعة. ويجادل بأنّ ظهور العقل قد خلق انقسامًا داخل الإنسان أجبره على السعي الدائم لإيجاد حلول جديدة لوجوده. الإنسان جزء من الطبيعة، ومع ذلك فهو ملزم دائمًا بتجاوزها، وهذه المفارقة اسماها فروم: بــ “الثنائيات الوجودية”: (معرفة موتنا المحقّق مقابل غنى الحياة، وإدراك الإمكانات الهائلة للبشرية مقابل قدراتنا الفردية المحدودة، وبأنّنا لا نطيق الوحدة). في ضوء هذه الثنائيات الضدية، بحث الإنسان عن تناغم جديد لوجوده، ورأى بأنّ الأخلاق والتضامن يمكّنانه من اختيار مسارات إنسانية من أجل تنمية إمكانياته الظاهرة والكامنة فيه. وعندما نختار كبشر المسار التضامني، فمن الممكن ساعتها لأفراد المجتمع البشري تحقيق الرضا في حالة من الارتباط والتضامن مع إخوانهم البشر، وأن يكونوا جزءًا من المجتمع والطبيعة. وهنا يجب على المجتمع الذي يرغب في تعزيز هذا النهج أن يدعم مفهوم التضامن ليس بين أفراده فقط، وإنّما على مستوى العالم، ويجب أن يكون هدف جميع الأنشطة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المجتمعات البشرية هو تطوّر كل شخص ونموه.
يقدّم منظور الطبيعة البشرية المشتركة الذي نظّر له أرسطو وسبينورا وفروم أساسًا فلسفيًا للدعوة إلى التضامن الإنساني على مستوى العالم، فالطبيعة المشتركة لأفراد البشرية تثبت كم نحن متشابهون على الرغم من كل ما نراه يفرّقنا. إذ أنّ هذا المنظور للإنسان يشكل أساسًا للتعاطف والرحمة مع ضحايا القمع والاستغلال والكوارث، وتحذيرًا من عدم استدامة استمرار الليبرالية الجديدة العالمية التي تتجاهل عواقبها الاجتماعية والفردية والبيئية. تطرح الأهداف المعيارية للتضامن التي تتجلّى بالإنتاجية، والعقلانية، والمحبّة، كما استخلصت من آراء فروم معايير تقيمية واسعة النطاق يمكن استخدامها لتحديد السياسات والممارسات والحركات التي تواصل الكفاح من أجل التضامن الإنساني على مستويات الحياة اليومية، والسياسات المتمركزة حول الدول، والسياسات العالمية؛ بحيث لا تقع في المطبات التي ذكرنا أمثلة عنها أعلاه. هذه الرؤى التي قدمها فروم لمفهوم التضامن ما زالت تناضل لتجد لها مكان قدم في عالمنا الحالي، لكن هل نفقد الأمل وواقع الإنسانية يزداد صلافة وشرًّا؟ يعمل النهج الإنساني للطبيعة المشتركة للإنسان على التضامن كطريق لا حياد عنه من أجل إخضاع القوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتكنولوجية للاحتياجات الإنسانية الأساسية للناس في كل مكان؛ وذلك عن طريق قوة التضامن الأصيلة في كل إنسان، بغية إنتاج سياسة إنسانية تسدّ العجز الأخلاقي الناتج عن قوى السوق النيوليبرالية والقوى السياسية المتصارعة حول العالم.
هناك قصة تراثية تكاد تكون مشتركة في الثقافة البشرية تتكلّم عن أبٍ جمع أولاده ليقدِّم لهم نصيحة قبل أن يموت، فطلب منهم إحضار حزمة من العيدان ومن ثم محاولة كسرها، ففشلوا واحدًا تلو الآخر. وعندها قام بتوزيع عود واحد من عيدان المجموعة لكلّ واحد منهم مكرّرًا طلبه بأن يقوم كلّ واحد منهم بكسر عوده، فكسروه! وهنا قال لهم، بأنّ تضامنهم يُفشل من يحاول كسرهم، وتفرقهم يسهل لمن يريد كسرهم أن ينجز مبتغاه.
ليس التضامن مفهوما فلسفيًا كالحقّ والعدالة، وليس اجتماعيًا كالقبيلة أو الحسّ القومي، وليس اقتصاديًا كخطّ التجميع المتحرّك الذي ابتدعه هنري فورد من أجل تسريع وتيرة الإنتاج الصناعية، وليس سياسيًا كالأحزاب المتنافرة التي تقود دول العالم، وليس أسرويًا كعلاقة العائلة بأفرادها؛ بل هو تكافل، وتماسك، وتعاطف، وتعاضد، وتراحم بعيدًا عن الانتماءات الدينية والسياسية والاقتصادية والمجتمعية. وإذا استعرنا عنوان كتاب فروم (الإنسان من أجل ذاته) سيكون التضامن هو: الإنسان من أجل ذاته وغيره، فهو الحل الأخير قبل أن ندخل عصرًا ديستوبيًا يغترب الإنسان فيه نهائيًا عن ذاته ومعناه.
باسم سليمان
كاتب من سورية

July 27, 2025
تغريدة خارج السرب للشاعر السوري باسم سليمان في ديوانه: “رأسي البسط، جسدي المقام، أنا كسر بين الأرقام ” مجلة الأقلام العراقية 2025 – وداد سلوم
صدر عن السلسلة التي يشرف عليها الشاعر أدونيس لاستقصاء التجارب الشعرية الشابة والمتميزة، ديواناً للشاعر السوري باسم سليمان بعنوان: ” رأسي البسط ، جسدي المقام
أنا كسرٌ بين الأرقام.”
عنوان يدير رأس القارئ لاحتشاده الواضح معرفياً وفلسفياً في بيان واسع الادراك لتوصيف الذات وعلاقة الخاص بالعام، وفي تعبير عن موقف وجودي واضح عبر مزج التعبير الرياضي بالشعري مما يوحي بمدى عمق اللغة الشعرية وتمكنها عند باسم بدايةً، واتصالها على مدار المجموعة بالفلسفي والمخزون الثقافي العالي. وليأتي توكيد الشاعر لمقولة النقصان الإنساني لكن خارج التواضع الممجوج وفي صلب الادراك الفلسفي والصوفي له.
ففي الإطار الذاتي نرى تأكيد علو العقل على الجسد، فالرأس مكان العقل حاوي الفكر والخيال يحلق عالياً بينما تشد الجاذبية الجسد إلى مقامه الأبدي في الأرض, ويمتد بين البسط والمقام رياضياً؛ خط مستقيم كأنه الجسر المعلق الذي يصنع عليه الانسان معادلاته الخاصة في درب الحياة المحدود بالعمر الآدمي, في ثنائيات متواشجة ومتعاكسة، متناقضة ومتحدة وتستند إلى بعضها؛ بين الروح والجسد, الرغبة والعقل, وببن خلود الفكر والفناء المادي.
وفي الإطار العام يخبرنا أنه الكسر ببن الأرقام الصحيحة المتعالية عن الآني النسبي في سلم الانجاز الفكري والمعرفي المكتمل بذاته. إنه النقصان الساعي والمحرض في متوالية الحياة.
تنسحب عناية سليمان من عنوان الديوان إلى اختيار كل عناوين قصائده فتبدو وكأنها مقاطع شعرية مكتملة وربما تماثل “الومضة” الشعرية فنقرأ مثلاً:
” في الصوت، يجلس الصدى وحيدا ً.”
” سريري كسم الإبرة، أشتهي أنثى كالخيط”
أو “عشاقك صيرهم ثديك أخوة لي في الرضاع”
ساحباً هذا الاختلاف من العناوين إلى جسم القصيدة حيث يخرج سليمان عن الالتزام بالهيئة الطباعية المعروفة للقصيدة فنجد أنه اعتمد السطر المتصل أيضاً والجمل الطويلة تارة. وتارة اخرى حيوية الحواريات وحيوية البناء في تقديم السبب والنتيجة أو الصورة والانطباع، كما في قصيدة (لا أريد ضمك, أريد تنوينك) حيث اعتمد: المرآة والانعكاس، واللعبة اللغوية لإحداث مفارقته الخاصة.
يقول الجاحظ: “الشعر فن تصويري ” في إشارة لأهمية الصورة الشعرية التي تمنح القارئ امكانية السفر عبر القصيدة وتذوق الجمالي فيها عبر دمج الحواس مع الفكرة / المعنى، والتحليق في الخيال لرفع التلقي إلى ذروة المتعة والجمالية. وهي وسيلة التواصل المباشر بين القارئ والشاعر وأمام الكم الهائل من الصور المتداولة والمألوفة والمستوحاة من الذاكرة الجمعية الثقافية، باتت مهمة الشاعر من الصعوبة بمكان في ابتكار صورة مختلفة تسجل له الحضور بقوة الابتكار والتميز، وتثير دهشة القارئ وتعيد انتاج المتعة لديه عبر تحريض خياله، إن الجدة في الصورة تشكل معياراً حقيقياً يستحق الوقوف عنده.
يسجل سليمان في ديوانه المنتقى من مجموع دواوينه السابقة ولهذا يمكن اعتباره اختزالاً لتجربته الشعرية التي تميزت منذ البداية بقدرة سليمان على ابتكار الصورة واجتراح الجديد فتعدى التصوير المشهدي إلى الصورة الثقافية الغريبة و المحرضة للخيال في حساسية عالية, تجعل القارئ يتوقف عند بلاغة صورته، مهما اختلفت الفكرة، حتى في الموضوعات المطروقة كالحب والعلاقة بالأنثى و الجسد إذ تناولها بأسلوب مختلف وزاخر بالصور الجديدة :
أنا سلمك
فلا تحمليني
بالعرض أو الطول
بل احضنيني
كإطفائي ينقذ النار من الماء”
وفي مكان آخر:
القدم لقياس الأفق
القامة لقياس الشجر
الشبر لقياس الشعر
المرفق لقياس الفستان
القبضة لقياس الدمع
الآن في قلب المقياس العشري
قلبك هو الميزان”
أما من حيث تناوله المواضيع فقد أعاد تعريف الأشياء هادماً ما ثبت في الذاكرة البصرية والثقافية، صانعاً قاموسه اللغوي الخاص المتسع بأدواته لنجد مشهدية مختلفة في استخدامه للمفردات التي تلبس ما يفصله باسم من لبوس جديد: فللريح ساقان كلسان أفعى، والبعد ظرف زمان لامتناع المكان، والياسمينة تنام على استخارة أن تقطعها أنامل الحبيبة، و النهد كمأة تنضج في هزيم الرعد .
يعتمد الشاعر وهو الذي لم يكتف بالشعر فأصدر روايتين ( نوكيا) و( جريمة على مسرح القباني ) على الجملة الإخبارية بكثرة في إعادته لتعريف الأشياء بذكاء ونباهة عالية ما يحرض ذهن القارئ للبحث عن جديد الفكرة وجديد المتعة في صورة ممهورة باسمه.
يقول في قصيدته عكاز:
نساء يتمددن في لحم الظهيرة
يحلقن بالضوء زغب الظل في إبط المسافة
والعرق بخور في مجامر الرجال”
ويقول في قصيدة اخرى:
“نهدك عقرب الثواني
ألدغ به دقائقي وساعاتي
أطرد به هذا الزمن الحرون على اللقاء”
أو ” أذكر سريري كحد سيف الساموراي
وقد كنتِ حجر الشحذ”
يقول شربل داغر “الشعر فعل ثقافي” وفي بلاغة الصورة عند باسم تأخذ المعاني طريقها المختلف القوي حيث يتمادى الفلسفي تحت جلد اللغة التي تلعب بمهارة في اتيان المخزون الثقافي لدى الشاعر والذي نلمسه أيضاً في غزارة انتاجه الصحفي ودراساته المنشورة لتواكب الثقافة قدرة إتيان اللغة بمهارة الدلالات، لنقرأ مثلاً:
“الظل فعل ماض ناقص
قمر يتمشى إلى محاقه.”
صورك قصر بناه سنمار
كعاشق منح الشعر حجر السر”
هكذا نلاحظ كيف شكل سليمان معجمه الخاص على المستوى اللغوي والمستوى الشعري والمعرفي دون الوقوع في الإلغاز الممتنع وهو حين أعاد تعريف المحيط من كائنات وأشياء, أعاد الاعتبار للثانوي المنسي والمهمل وللقبح المكروه في ارتباطه العضوي بالنقيض، وما خرج عن الذائقة الجمالية المألوفة فاظهر للقارئ ذلك الجمال المخفي بدءا من الأشياء الجامدة إلى الكائنات والتفاصيل الانسانية التي عف عنها الشعر وغض بصره لاحتفائه بالجمال الواضح بينما يؤكد باسم تلازم القبح مع الجمال والجوهر في كومة المنسي والقدرة على اكتشاف مواضيع جديدة للقصيدة وإبراز قدرة الشعر والشاعر على الكشف فيما نسيه وتعالى عنه الآخرون:
يقول :
الصبار كائن الوحدة، لم يحدث ان عانقه أحد
حتى ثماره الشهية تقطف من بعيد”
قد ينفع لوح الصبار كدريئة للتدريب على القنص
هكذا كان النبي أيوب متروكاً لمكر الشيطان
الصبار ليس شجرة لتلصق به الخطيئة
بل هو المغفرة التي زرعها الله على حدود البستان”
في الديوان قصائد كثيرة تخاطب الأنثى، شريكة الحب والحياة والتي تشكل العلاقة بها جسداً وروحاً زاوية للنظر إلى العالم.
يقول في قصيدة الأمل يتغذى من خيباته:
“أفكر كيف أن اللغة في الحب أول العذال
أفكر إذ أنت هنا
أنني لا أفكر بل أنظر وبين الفكر والنظر
مسافة من قمر “
الأنثى الشريكة والند في القصيدة تملي عليه كشهرزاد وهو إذ يستمع إلى الحكاية، يستنطق أبطالها بينما تقوم الحبيبة بإعادة حياكة خيوطها من جديد بصوت الأنثى:
“في الهواء حياة كاملة تمر النساء عبر النسمات
فيركض الرجال مع الريح، وفي العاصفة هناك حفلة رقص.”
الأنثى تدعو للحب وتدرك ما تمنح وما تغير في الرجل الحبيب وهذا ما يلمح لقدرة سليمان على استقراء شعورها والتعبير عنه في قصيدته في قدرة لملامسة الحالة الشعورية للأنثى والتعبير عنها شعرياً، ما يعكس رؤيته للمرأة، وللحب، وللجسد الحامل المكتمل ليس فقط بالرأس بل بالجسد الاخر للخلق والاستمرار، والأنثى ككائن شريك ممهور بالحب والجمال.
يبرع باسم بإتيان الدهشة والانتباه على وجه القارئ فقصيدته تعلق بالذاكرة لمفارقتها السائد ولاحتشادها بالفكرة والتجديد، بالحاسة والمعنى وبالذكاء المتلفت لما حوله بعين ناقدة ومتبصرة وحس جمالي يسجل له يقول:
لا تقل قبراً’ بل حفرة هكذا تخدع اللغة، وتصبح الجثة شجرة.”
خرج سليمان صاحب (مخلب الفراشة) من حالة التجريب إلى تحقيق الفرادة واكتمال الأدوات، قال عنه أدونيس أنه لا يشبه أحداً من الشعراء وشعره يخط طريقه الخاص والفريد، فقد حقق قطيعة جمالية وشعرية عن السائد من الشعر في جيله. ولهذا كان فاتحة الإصدارات التي أتت على شكل سلسلة، إذ يمكننا القول أنه من التجارب الشعرية المعدودة ذات الصوت المتفرد.
وداد سلوم شاعرة وكاتبة سورية





“أيتام الجبال”: عندما نكون آباء وأمهات أنفسنا
باسم سليمان27 يوليه 2025
يقول الفيلسوف الأمريكي لويس ممفورد، بأنّ ظهور المرآة في القرن السادس عشر- كما نعرفها اليوم- مكّن الإنسان من أن يرى صورته كما يراها الآخرون، ممّا ساهم في بدء تدوين السيرذاتية، من حيث هي صورة فردية مخصوصة عن الكائن البشري وعلاقاته بمحيطه الاجتماعي والطبيعي. ويقال بأنّ ظهور الرواية في القرن الثامن عشر سمح للإنسان ككائن مفرد مستقل أن يسرد تاريخه بموازاة تاريخ المجتمع الذي يعيش فيه ومتقاطعًا معه. استحضرت أفكار ممفورد مضافًا إليها معنى فنّ الرواية بعد قراءة سرد السورية نجاة عبد الصمد في روايتها (أيتام الجبال الصادرة عن منشورات ضفاف في لبنان، ومنشورات الاختلاف في الجزائر، ودار سامح في السويد لعام 2025) ليس لأنّ الرواية سيرة ذاتية للمؤلّفة، فهي لم تصرّح بذلك، وليس لأنّها وضعت اقتباسًا في مقدمتها لحنا آرنت: “إذا كانت هناك أيّة مراجعة للماضي، فهي إعادة سرد ما حدث” بل لأنّ الشخصية الرئيسية في الرواية (سبيل حسن رافع) تغيّت أن تكون الرواية سيرة ذاتية لها/ وتاريخية لجبل الدروز/ العرب، عبر ضمير المتكلّم؛ مرآتها أو لوحتها التي راحت ترسمها قطبة قطبة بدأب نملة وصبر عنكبوت، رافضة أن تكون مثل دوريان جراي (رواية لأوسكار وايلد) الذي سُحر باللوحة الشخصية التي رسمها صديق له، فرغب أن تقع عوادي الزمن على صورته في اللوحة، بدلًا منه، فينجو هو! تتحقّق أمنيته، فيظل في ريعان شبابه، فيما الزمن يمرّ على لوحته الشخصية ولأجل ذلك خبأها عن الأعين. وعندما ولج إلى مخبأ اللوحة بعد زمن طويل، رأى صورته الشخصية التي أدهشته في صباه قد أصبح فيها عجوزًا نالت منه الحدثان، فحطم اللوحة وطعن نفسه، وفي الصباح وجد الخدم سيدهم العجوز ميتًا على الأرض، وقربه لوحة لشاب في أبهى صورة، إنّها صورة السيد وهو في ريعان الشباب. لقد رفضت سبيل أن تكون دوريان جراي آخر، أسواء في سرديتها عن نفسها أو أسرتها أو مجتمعها الدرزي خصوصًا والسوري عمومًا، لقد أخرجت أثاث البيت بعفنه وبقّه وحنيّته وذكرياته من الظلال إلى الشمس.
تبدأ سبيل استنطاق ماضيها من اللحظة التي تغادر فيها سورية إلى الاتحاد السوفيتي سابقًا بموجب منحة علمية تؤهلّها لدراسة الطب، وكأنّها باستفتاحها السرد تقول: (أبتعدُ لأراني) وهذه الجملة هي تحوير لمقولة سقراط: “تكلّم كي أراك” وها هي قد بدأت بالتكلّم لتفكّ عقدة (غورديان – عقدة من حبال لا يمكن فكّها أبدًا اُمتحن بها الإسكندر المقدوني للتأكّد من شرعية تنصيبه قائدًا، فما كان منه إلّا أنْ شطرها بسيفه إلى نصفين بدلًا من فكّها عقدة عقدة) حبلًا حبلًا رافضة ضربة الإسكندر، ومنطق المحو، وليس بالإمكان أفضل مما كان، بل هي ترى بأنّ الوقوف عند حياة كلبهم “أبو نبحة” في درب الحجل في جبل الدروز المربوط دومًا، سيساهم في إعطاء (أل) التعريف لحياتها المُنكَرة والناكرة في الوقت نفسه، فالأولى أن تفرش حياتها وحياة أسرتها، بل وأصولهم أيضًا التي تعود إلى الشوف في لبنان وجبل الشيخ، فهي ثمرة هذه الشجرة شاءت أم أبت، ولأنّ الحقيقة تحيا في التفاصيل وتموت في التعميم تمتلئ الرواية بالكثير من الحيثيات، فذاكرة الطفولة، هي الخلايا التي ستتكوّن منها الشخصية فيما بعد، وأي استبعاد سيؤدي إلى عقد أوديبية، لذلك كان فرويد يحثّ مرضاه على التداعيات الحرّة من دون رقيب ذاتي أو خارجي.
وكما قلنا سابقًا تستغل سبيل مغتربها في الاتحاد السوفيتي لإعادة قراءة ماضيها، فهي في مأمن، فلم تعد مضطّرة لخياطة شفتيها كي لا تقول ما لا يستساغ من العائلة والمجتمع. هكذا تعود عبر قفزات زمنية متواترة ومتتابعة إلى الماضي في كل فصل من الرواية، لتفكّك ما آلت إليه حالها، فهي في علاقة شائكة مع أب لا يتقن إمساك العصا من المنتصف، بين حاجات الدنيا وغايات الآخرة، فهو ذلك الطفل في الماضي البعيد الذي دفع أبوه مؤنة القمح لكي يتعلَّم التعاليم الباطنية التوحيدية للدروز غير مكترث من مجاعة قد تفتك بالعائلة. في حين عندما نجحت سبيل وأختها في البكالوريا يتعذّر الأب بعدم قدرته على تأمين تكاليف الجامعة! وللحقيقة لم يفعل ذلك بخلًا أو عوزًا وإنّما لأنّ تعاليم دينه تقول، بأنّ الأنثى لها خروجان، الأول من بيت أهلها إلى بيت زوجها والثاني إلى القبر. لقد كسرت سبيل وأختها اشتياق ومن بعدهما سلسلة الإناث اللواتي وصل عددهن للتسعة- حتى جاء (الرجوَة) أخوهم الذكر- عادات وأعراف المجتمع الدرزي الذي ينقسم إلى فئة (الأجاويد) وتحتهم يأتي الجُّهال. وفئة ثانية تدعى (الجسمانيين) التي لم تستلم عقيدتها الباطنية وفق تعاليم الإمام علي بن حمزة مؤسس الطائفة الدينية الدرزية. وفئة ثالثة تنشطر إلى الأغنياء والفقراء، هكذا كانت بنية المجتمع المحلّي الذي خاضت سبيل غماره. لقد كانت تلك الطفلة التي زرعت بنفسها حلمًا أن تتعلّم وتكتب القصص وتكون فاعلة في مجتمعها كفسحة بيضاء في معطف أسود، فالمجتمع الدرزي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي كان مازال يعيش في معتزله الجبلي نتيجة أحداث سياسية ودينية معينة، فانعكس ذلك تقوقعًا غير مبرّر، لكنّه يخدم طبقة الأجاويد والأغنياء منه والسلطة التي كانت تحكم البلد آنذاك.
وأنا أقرأ عن طفولة سبيل والفقر والجوع وقلّة الحيلة وانخراط الأطفال في عمالة لصالح العائلة كرعي البقر أو الزراعة؛ تذكّرت طفولتنا في الساحل السوري، وكيف كان الأهل يقدّمون مصالح الذكور على مصالح الإناث. وكيف كان التلاميذ يأخذون كتبهم معهم في رعي المواشي إلى البرية وفلاحة الأرض، ومع ذلك كان هناك إصرار عجيب على التعلّم ووعي غريب لأهميته من أطفال لم يغادروا قراهم إلّا نادرًا. لقد ذكرت التشابه بين أطفال السويداء والساحل السوري، كي لا يفسّر هوس سبيل بالعلم كحالة نادرة أو تبهير لسيرة فتاة نجحت من بيئة معدمة، ولأنّني عشته، وهذا الأمر لا تختلف ظروفه، في كل أنحاء سورية في ذلك الزمان.
تفكيك المثال الأعلى:
قد يكون اشتباه الأهل، بأنّ (اشتياق) البنت البكر في عائلة حسن رافع مريضة بالقلب، هو سبب الاهتمام والعناية بها من قبلهم، في حين قد أهملت البنت الثانية الشخصية الرئيس في رواية نجاة عبد الصمد، وهذا ما أيقظها مبكرًا في تأكيد أناها، فالمرآة التي تكلّم عنها ممفورد، ليست مجرد انعكاس بل مقارنة. صحيح أنّ الفتاتين كانتا كالتوأم في الحبّ والمشاركة والتضامن وحتى في أشدّ حالات الخصام، إلّا أنّ حسن اشتياق والمعاملة الخاصة لها، قابله إهمال سبيل، الفتاة غير الجميلة والتي عليها أن تكون ذكر العائلة في القيام بالأعمال، والذي أجّل قدومه إلى عاشر ولادة لأمّها بعد تسع بنات. في الحقيقة لا تميّز العقيدة الدرزية بين ذكر وأنثى، فالفقيه الدرزي (عبد الله التنوخي) يقول بالمساواة، لكن ككلّ المجتمعات تقع الأنثى في الدرجة الثانية بعد الذكر. كانت سبيل تقيم مقارنات دائمة، أسواء كان الأمر في بيتهم في (درب الحجل) أو عندما انتقلوا إلى أطراف السويداء، فالعين ترى والأذن تسمع والأفعال والعادات والأعراف تكشف عن خفايا القناعات. لماذا هناك بنات يلبسن الأساور والعقود ويكشفن عن شعرهن، في حين يلزمها والدها بالإشارب والثوب الأسود الطويل، حتى أنّ أمّها قصّت شعرها في نوبة غضب منها. لماذا كانت المعلّمة الدينية لها ولأختها تمنح امتيازات لبنات الأجاويد والأغنياء، في حين تهملها مع أنّها حفظت التعاليم السرّية قبلهم بكثير؟ وهل حقّا فئة الجسمانيين سيذهبون إلى النار، لأنّهم يعلّمون أولادهم بعد الصف الخامس؟ لقد كان مسموحًا للأطفال من ذكور وإناث أن يتعلّموا حتى الصف الخامس وبعدها يتم إخراجهم من المدرسة لسببين؛ الأول كي لا يطلعوا على العلوم الدينيوية، والسبب الثاني أنّهم خلال سنوات التعليم القليلة قد أصبحوا قادرين على قراءة وخطّ التعاليم الدينية. هذه المفارقات كانت سبيل تعيها وتكافح من أجل كسرها وترى والدها ينوس ما بين أن يكون رجل دين تقليدي كي يكسب رضا المجتمع الكهنوتي الدرزي، ومحاولته أن يتماشى مع العصر. وفي خضم هذا التجاذب الذي يعيشه والدها، أصبحت هي وأخوتها البنات ساحة المعركة، مرّة يهديهم عقودًا وأساور، ومرّة أخرى يصرّ على رفض تعليمهن. ومن جهة أخرى يهدي سبيل كتاب عن فنّ القصة، وفي المقلب الآخر يعترض على دخولها الجامعة. لم يكن هذا الأب يجيد التعبير عن الحبّ، كان يراه فعلًا، لا احتضانًا، لا قبلة على الخدّ؛ والتزامًا بالتعاليم الدينية، بينما ترغب سبيل بأن تغمرها تلك اليد المتشقّقة من كثرة الأعمال، أو تلوذ بصدره باحثة عن دفء الأبوة. كلّ تلك المفارقات صنعت من سبيل بنتًا مقدامة، قد تكون أحيانًا سادية بحقّ نفسها وغيرها، وحتى مازوخية، فهي لا تحيد عن هدفها مهما كان، حتى لو تمنّت الموت لأهلها من أجل تحقيق غايتها، وبالمقلب الآخر رغبت لو أنّها تشبه اشتياق المحبوبة من الآخرين ومن عائلتها وإنْ انتهت حياتها كأمّها.
لقد أفرجت سبيل وهي تسرد نفسها منذ وعت ذاتها كطفلة تمشي حافية تحت المطر وفي عين الشمس عن جحافل من التفاصيل، فإذا كانت الملائكة تسكن في عموم الأقوال، فالشياطين تعشّش في تفاصيلها، لذلك تمتلئ الرواية بالأحداث والقصص والخبايا، فمن تحرّش الشرطي بها إلى عشقها للشاب تميم الذي سيكون في انتظارها في روسيا، إلى كذباتها البريئة، وحتى سخريتها من المعتقدات، مضت سبيل تقلّب ألبوم صور طفولتها ومراهقتها بين متاهة وصراط مستقيم. لم تدن أباها ولا مجتمعها بالمعنى الحرفي، بل ذهبت عميقًا في التحليل، بأنّ التقاليد والأعراف البالية ليست من صلب العقيدة الدرزية، بل إنّ سماحتها واسعة وقادرة على تقبل محدثات الأزمنة، فعندما حرن أبوها كبغل رافضًا ذهابها إلى الجامعة تدخل العم نجيب ذلك المعلِّم العائد من الجزائر وأخذها إلى أحد المشايخ الكبار الذي أفتى بالسماح لها بأن تذهب إلى الجامعة، كي تعود إلى السويداء كطبيبة تعالج النساء من أمراضهن. قد نرى في فتوى الشيخ براغماتية مذهبية، لكن ألم تنتظر الكنيسة أربعة قرون حتى تعتذر من غاليليو.
على الرغم من النقد الشديد في الرواية للمجتمع الدرزي، لكنّ هذا المجتمع يشبه كلّ المجتمعات السورية في تلك الحقبة، وحسن والد سبيل يشبه آباء ذلك الزمن، وأمّها تشبه أمهات ذلك الزمن، لقد كانوا بسطاء يرون السماء قاب قوسين أو أدنى، وأنّ الدنيا دار عبور إلى آخرة هي المستقر. لقد كانوا كرماء وشرفاء وأخلاقيين، حتى وهم يرتكبون ما نراه اليوم أخطاء قاتلة أو تخلفًا أوغلظةً غير مبرّرة، ففي عصور قديمة كانت القرصنة من الأعمال الشريفة.
أيتام الجبال:
لم تكسر سبيل مرآتها، وإنّما نظرت إلى انعكاس صورتها في عين أبيها وأمّها ومجتمعها، ورويدًا رويدًا أصبحت مرآتهم. كذلك لم تخبئ لوحتها، بل أخذت تضيف لونًا فوق لون وتمزج ما يحلو لها من الألوان. لقد نجحت سبيل في حياتها على الرغم من الصعوبات والجراح الأليمة، أمّا الحلم الذي كان يسوقها في طفولتها، فلقد أصبحت هي من تمسك بلجامه توجّهه أنّى شاءت. لقد أنهت سنوات دراستها في مدينة زاباروجيا في الاتحاد السوفيتي إبّان سقوطه وتفكّك جمهورياته. وفي لحظة تخرجّها من الجامعة كانت تحت راية أخرى، راية دولة أوكرانيا التي ولدت من جديد، كأنّ الدولة الجديدة مثل سبيل التي استقلّت وغدت كينونة مستقلة عن عائلتها يفخر والدها بها بعدما سمع بنجاحاتها وإن كان بشكل موارب، بينما كان دعاؤه عليها يوم سافرت بعدم التوفيق خلبيًا، ليس نابعًا من قلبه. أتى عنوان الرواية (أيتام الجبال) كاشفًا عن محنة الأجيال التي ولدت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، فلقد كانوا في برزخ يجمع بين ضفتيه؛ رؤية آباء وأمهات كان تغيّر التقاليد والعادات سريعًا جدًا بالنسبة لهم، بحيث لم يستوعبوا العالم الجديد، فظلّوا حذرين نحوه وأحيانًا رافضين له. وأبناء يشدّهم العالم الجديد إليه بقوة، مع رغبة شديدة بالقطع مع الماضي. وإلى الآن ما زلنا نتخبّط بين ماضٍ يدسّ رأسه في شؤون الحاضر، وحاضر لا يعي تمامًا لحظته الفارقة، فنحن أقرب للأيتام في هذا العالم، علينا أن نكون آباء وأمهات ذواتنا، لربما نعلّم آباءنا وآمهاتنا البيولوجيين أن يكونوا أبناءً من جديد في زمن سريع التغيّر.
وكما نجحت سبيل في تحقيق أحلامها، نستطيع القول عن الروائية السورية نجاة عبد الصمد، بأنّها قد قدّمت رواية غنية ودسمة وعميقة كانت فيها أحيانًا، كمبضع الجراح تبتر ما يجب الصمت عنه بالإيماء. وأحيانًا أخرى تمرّر يدًا حانية على السرد، فيشعّ وضوحًا.
باسم سليمان
كاتب من سورية

July 18, 2025
اليد: ذلك العضو الذي يضارع العقل؟
باسم سليمان 18 يوليه 2025
تعدّ اليد من أعظم تجلّيات الميكانيكا البيولوجية للجسد البشري، وهي من أبرز التكيّفات الحيوية في تاريخ التطوّر، والتي نقلته من خانة الرئيسيات مع القردة ليكون إنسانًا مفردًا عنها، فهي آلته الفاعلة في الوجود بشكل مباشر. وأمام هذه الميزات التي تملكها اليد أصبحت مدارًا للتفكّر الإنساني لدورها الحاسم في نشوء حضارته، فهي ليست متلقية سلبية لأوامر الدماغ، بل تعيد تشكيله، من خلال وضع أفكاره موضع التنفيذ العملي. وإذا اعتبرنا أنّ البصر والسمع من أهم المُدخلات الأساسية في العقل الإنسان والتي تزوّده بالمعرفة عن نفسه والعالم المحيط به، فلولا تلك الحاسّتان لوقع الإنسان في عنتٍ شديد من أجل الحصول على المعلومات واستخلاص المعرفة، وخاصة في بدايات وجوده على الأرض. وبالمثل لو لم تكن اليد عضوًا أساسيًا في تركيبة الإنسان الجسدية، لما استطاع أن ينقل أفكاره إلى حيّز الفعل. هذه الأهمية الكبيرة لليد مكّنتها من أن تصبح استعارة فعلية أو مجازية للتعبير عن الفعالية الإلهية في الوجود على الرغم من المنحى الإنساني في تجريد الآلهة عن الخصائص البشرية. لذلك ليس غريبًا أن يكون التشبيه المحتذى للفعالية الإلهية مصوّرًا باليد، أسواء كانت هذه الأدبيات كتابية أو أيقونية، ما دام الإنسان قد خُلق على صورة الإله. كانت اليد استعارة مفضّلة لتمثيل كلمة الإله أو فعله في الثقافة الإنسانية، فمن لوحات معبد (دورا أوروبوس) اليهودي في سورية وصولًا إلى لوحات مايكل أنجلو على سقف كنيسة (سيستينا) في روما، ظهرت اليد كاستعارة كتابية أو كرسم، عندما رُغب بتمثيل فعل الإله أو نطقه من دون مخالفة القاعدة التي تنصّ على أنّ لا يكون هناك رسمٌ كامل له أو نحت، حيث كانت تصوّر يد الإله خارجة من داخل غيمة أو من جانب اللوحة لتعبّر عن كلمة الإله وفعله. ولم تخالف ما يُسمى بالديانات الوثنية هذه الاستعارة حيث نرى الإله (أتون) عند الفراعنة المرمّز له بقرص الشمس والتي يُمثل لأشعّتها بأيدٍ كثيرة دلالة على العطاء الذي لا ينقطع من الإله أتون. وبالمثل كانت الديانة البراهمية في الهند، فالإله (براهما، وشيفا، وفيشنو) عادة ما يصوّروا أو ينحتوا بأيدٍ عديدة دلالة على تعدّد أفعالهم. وإذا ذهبنا أعمق في التاريخ إلى الإنسان البدائي نجد أنّه قد ترك لنا رسومًا ليديه، لا لوجهه، في كهف (شوفيه) في فرنسا على سبيل المثال. تقول أسطورة من حضارة بالي في إندونيسيا بأنّ الإله هو من حفر تلك الكهوف التي سكنها الإنسان في تلك الأزمنة القديمة. ونستطيع بموجب هذه الأسطورة أن نفسّر وجود رسوم للأيد في الكهوف، كإشارة للفاعل؛ أي أنّ الإنسان هو الذي رسم تلك الحيوانات البديعة على جدران الكهوف.
آلة الآلات:
قال أرسطو عن اليد بأنّها ” آلة الآلات” وقد عدّها هدية الطبيعة لهذا الكائن الذكي المدعو بالإنسان، فهو يرى بأنّ الطبيعة كالحكيم تمنح الكائنات الأعضاء المناسبة لها، ولا أنسب للإنسان الذكي من اليد. وعندما شرح فريدريك إنجلز في كتابه (ديالكتيك الطبيعة)عن أهمية العمل في حياة الإنسان، وجد أنّ العمل هو الذي حوّل القرد إلى إنسان ولم يكن ليحدث ذلك لولا اليد، حتى أنّه منح اليد كونها آلة العمل أهمية كبيرة، ليس على صعيد العمل فقط، بل لأنّها ساهمت في نشوء اللغة، فالأصوات المرافقة للعمل كانت من الإرهاصات الأولى للغة، فاليد تومئ وتشير وهذا يعني التواصل الذي تحوّل فيما بعد ليصبح نطقًا. إنّ اليد وفق إنجلز هي التي خلقت العمل والعمل خلق اللغة، وكلاهما كوّنا المجتمع الإنساني، وبقدر ما يسيطر العقل على اليد تعمل اليد على تطوير العقل. ويؤكّد المفكّر إرنست فيشر ذلك في كتابه (ضرورة الفنّ) بأنّه لو لم يكن للكائن السابق للإنسان يد والذي تطوّر فيما بعد إلى إنسان، لم يكن هناك من حضارة، فاليد العضو الأساسي للحضارة. وعلى نفس المنوال قال اللغوي والمفكر الروماني كوينتيليان في القرن الأول الميلادي عن اليد بأنّها: ” يكاد يُقال بأنّ اليدين تتحدثان! ألا نستخدمهما للمطالبة، والوعد، والاستدعاء، والرفض، والتهديد، والتوسّل، والتعبير عن النفور أو الخوف، والتساؤل أو الإنكار؟ ألا نستخدمهما للإشارة إلى الفرح، والحزن، والتردّد، والاعتراف، والتوبة، والقياس، والكمية، والعدد، والوقت؟ ألا تملكان القدرة على الإثارة والمنع، والتعبير عن الموافقة، والدهشة، والخجل؟”. إذن اليد ليست آلة محضة بل آلة لها روح!
اليد ظاهر الروح:
عندما أراد هيغل أن يشرح كيف تتجلّى الروح في العالم في كتابه (فينومينولوجيا الروح) لم يجد غير اليد واللغة والساقين للتمثيل لفعاليتها في الوجود، فإذا كانت الساقان أداته في التنقل واللغة وسيلته في التواصل، فاليد هي الركيزة الأساسية لفعاليته في الوجود. وهو يرى بأنّ باطن الروح لا يمكن أن يتجلّى إلّا بصفته عضوًا، حيث عدّ الفم والساق واليد المظهر المعبّر عن الروح ومن دونها يبقى الباطن باطنًا غير مصرح عنه. وهذه الرؤية الفلسفية تتقاطع مع الرؤية الدينية عن الإله، فالإله المتجرّد المتعالي يشبه الروح في باطنيتها ومن دون تلك الآلات من فم وساق ويد سيبقى كنزًا مخفيًا غير مدرَك ولا مدرِك بالنسبة للإنسان. لكنّ هذا الاستخلاص الفلسفي لهيغل سبقه تجاذبات بين الفلاسفة عن كينونة اليد ومعناها ودورها في حياة الإنسان.
يعارض أرسطو الفيلسوف الطبيعي أنكساغوراس (500 قبل الميلاد) الذي زعم بأنّ اليد من جعلت الإنسان ذكيًا، فأرسطو كان يرى بأنّ كون الإنسان ذكيًا رتب له عضوًا كاليد. لكن لماذا هذا الاختلاف بين الرؤيتين. قال أرسطو عن اليد بأنّها “آلة الآلات” فهي صانعة كل آلة وعلى الرغم من تلك الصفة إلّا أنّ أرسطو كان يميل إلى رؤية سلبية للجسد غير فاعلة بالعقل. على العكس من أنكساغوراس. ليس التعارض بينهما متمنعًا على الحلّ، فهما يقولان الشيء ذاته عن اليد، لكن لكلّ منهما زاويته في الرؤية. لربما يعود الخلاف بينهما إلى أنّ أرسطو يرى اليد ضمن النظرة الأداتية، بينما أنكساغوراس يراها أبعد من الأداتية، أي أنّها ليست آلة فقط. وقد أوضح الفارابي هذه النقطة في كتابه (آراء أهل المدينة الفاضلة) حيث قارن بين اليد ومبضع الجراح، فالمبضع أداة مفارقة للجسد الإنساني، في حين اليد أداة متصلة بالجسد الإنساني هذه المحايثة المباشرة لليد تعني أنّ اليد في مواصلة للعقل بشكل مباشر ومن هذا المنطلق رفع الفارابي اليد عن الأداتية المحضة. ويعد تحليل الفارابي خطوة مهمة في تحرير اليد من نظرة أرسطو الأداتية المحضة لليد. وعلى ما يبدو أنّ ديكارت أدلى بدلوه أيضًا في طبيعة اليد، فقد ذكر مثالًا عن طفلة قُطعت ذراعها وأخفي الأمر عنها، لكنّها كانت تشعر بآلام في أصابع الذراع المقطوعة وهو ما يعرف اليوم طبيًا بالطرف الشبحي. رأى ديكارت بأنّ الألم في النفس وليس في الأصابع، ولا يمكن أن يكون في اليد، فهو لم يكن يستطيع أن يتصوّر بأنّ هذا الألم ناتج عن تداخل أعصاب اليد في النفس حتى لو بعد البتر، فبالنسبة لديكارت الألم موجود في النفس واليد خارج النفس، لذلك لا تتألّم اليد. لقد كانت نظرته للجسد بأنّه مجرد آلة وضمنًا اليد وهذه نظرة كلاسيكية مستقاة من أرسطو. إنّ المثال الذي طرحه ديكارت عن الطرف الشبحي أثبت من حيث لا يريد، بأنّ الألم هناك في الأصابع وإن كان شبحيًا، فهو موجود؛ وهذا دليل على رؤية الفارابي، بأنّ اليد آلة مواصلة للنفس، لا مجرد أداة خارجة عنها، وما ألم الأصابع إلّا دلالة على هذه التواصلية حتى بعد البتر. لقد كانت نظرة ديكارت كلاسيكية للجسد، وأنّه مجرد متلقٍ سلبي لفعالية الروح، لكنّ هيغل أعاد طرح القضية برؤية أخرى تعيد للجسد وأعضائه دورًا جليًا في تجلي الروح في العالم كما رأينا أعلاه. ومن رؤية هيغل قارب هيدغر اليد، فلم يكتف بالنظرة الأداتية لليد، بل اعتبرها (العضو) الذي يميّز الإنسان، وقال بأنّ القردة لا تملك يدًا، فما تقوم به اليد البشرية لا تستطيع القردة أن تفعله بأيديها المشابهة لليد البشرية: ” فحرمان الحيوان من اليد، يعني حرمانه من الفكر واللغة، ومن القدرة على الهبة والعطاء” وقد قال عن اليد بأنّها تفكّر وتتكلّم. وقد شرح جاك دريدا هذه النقطة من كلام هيدغر بأنّ العقل حاضر في كلّ حركات اليد، وأنّ اليد ليست أداة محضة كما رآها أرسطو وديكارت.
قد تكون هذه الأفكار عن اليد قد ذهب زمنها، فبعد أن أثبت العلم، بأنّ الجسد يقف ندًا أمام الدماغ (موطن العقل) لأنّنا لا نفكر بشكل محض ومعزول عن جسدنا. وبقدر ما يملي العقل على الجسد من أوامر يبادله الجسد بأوامر أخرى، فالعلاقة ديالكتية بين العقل والجسد ولا يقوم أحدهما من دون الآخر. هذه النظرة التي لم تعد تفصل بين نفس وجسد كانت الرواقية قد وضعتها موضع التطبيق منذ زمن طويل، حيث تشرح الرواقية كيفية تكون المعرفة في العقل البشري عن طريق أخذ اليد كمثال، لا عضوًا آخر، لأنّها الأقدر على التعبير عن مراحل نشوء المعرفة في الدماغ البشري. تشرح الرواقية بأنّ اليد المبسوطة تعني تلقي المعلومات، ومن ثمّ تقبض اليد على تلك المعلومات مشكّلة قبضة؛ وأخيرًا تضع اليد الأخرى كفّها على قبضة اليد التي احتازت المعرفة، أي أنّ المعلومات قد استوعبت تمامًا، ولا يصل لهذه المرحلة إلّا الفليسوف. لم تكن استعارة الرواقية لليد مجرد استعارة عابرة، بل لأنّ اليد هي التمثيل الأصح عن الفكر كما قال هيدغر.
تعدّ الفلسفة الوجودية المعبّر الأكبر عن فعالية الإنسان في هذا الوجود من بين فلسفات عديدة. فالوجودية كفلسفة تمنح الإنسان سيطرته المطلقة على وجوده بعيدًا عن الآلهة أو جهات أخرى، فلا يد تعلوه كما تعلو يدٌ فوق الدمى في المسرح. يقول سارتر في رواية (الغثيان) على لسان بطلها (روكونتان): “أرى يدي ممدودة على الطاولة. إنّها حيّة؛ إنّها أنا. إنّها مستلقية على ظهرها، تريني بطنها السمين، تبدو كحيوان مقلوب. أُسلي نفسي بتحريكها بسرعة كبيرة، كمخالب سلطعون سقط مقلوبًا… أشعر بيدي. إنّها أنا”. كان بإمكان سارتر أن يحيل جوهر الوجودية للعقل، لكنّه تبصّر تمثال (المفكّر) للنحّات رودان ورأى كيف تسند اليد ذلك الرأس ولولاها لتهاوى.
باسم سليمان
خاص ضفة ثالثة

July 4, 2025
جدار الفصل العنصري في فلسطين وسيكولوجيا الغيتو
باسم سليمان 4 يوليه 2025
“جدارٌ في الرأس” هذه هي الاستعارة التي وصّف بها الشعب الألماني شعوره ولاشعوره إزاء جدار برلين حتى بعد هدمه، نجدها أكثر موضوعية وذاتية عندما نقارب بها واقع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، أسواء كان الأمر على الصعيد العقائدي التنظيري أو الممارساتي على الأرض، فالجدار في العقلية الصهيونية هو مدماك وجودي لا يمكن أن تقوم من دونه، وليس لأنّ الآخر كما تدعي رافضًا لها، بل لأنّها هي بذاتها ترفض الآخر، لذلك ترفع الجدران والأسوار والأسيجة في وجه الآخر. وهذا ما نجده في أول الإرهاصات التطبيقية للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين عندما كانت تحت الانتداب البريطاني، قبل أن تشرع بعد زمن طويل ببناء جدار الفصل العنصري حول الضفة في حزيران عام 2002 إبّان حكومة أرئيل شارون مستندة بمشروعية هذا الأمر إلى أسباب أمنية إثر الانتفاضة الفلسطينية وهجمات المقاومة. لقد أنشأت إسرائيل الكثير من المستوطنات الزراعية ما بين عامي (1936- 1939) تحت مسمى (سور وبرج). أمّا كيف كانت تقام تلك المستوطنات؟ فالأمر كان يتم تحت جنح الظلام، حيث تُقام المستوطنة على مساحة كيلو متر مربع، تُبنى فيها عدّة أكواخ وبرج للحراسة وتحاط بسور خشبي مزودج مملوء بالرمل والحصى مع الأسلاك الشائكة. وقد كانت تجهّز أجزاء المستوطنة مسبقًا، بحيث ما إن يحضر المستوطنون إلى موقع البناء حتى يشرعوا بالعمار، وذلك تفاديًا للاعتراض المزيّف من سلطة الانتداب البريطاني. قد نتصوّر أنّ مصطلح (سور وبرج) قد كان وصفًا للطبيعة المادية المستوطنة، لكن إذا عدنا إلى نشيد الأنشاد في التوراة، سنجد أنّ هذا المصطلح قد أتى ضمن استعارة شعرية عشقية، يا للغرابة!: “أَنَا سُورٌ وَثَدْيَايَ كَبُرْجَيْنِ”. لا يمكن أن تبتدع هذه الاستعارة الشعرية من فراغ، بل هي انعكاس لعقيدة الجدار في الفكر اليهودي، وعند البحث عن هذه العقيدة الجدارية، نلقى أنّ هناك أكثر من استعارة في نشيد الأنشاد تذكر الأسوار والأبراج: “عُنُقُكِ كَبُرْجِ دَاوُدَ الْمَبْنِيِّ لِلأَسْلِحَةِ- فَمَاذَا نَصْنَعُ لِأُخْتِنَا فِي يَوْمٍ تُخْطَبُ؟ إِنْ تَكُنْ سُوراً فَنَبْنِي عَلَيْهَا بُرْجَ فِضَّةٍ” وعند التوسع في البحث في أسفار التوراة الأخرى، نجد الحضّ والأمر على بناء الأسوار والجدران لا يفارق عقلية اليهود في ذلك الزمن، وقد انعكس ذلك على الفكر الإسكاتولوجي/ الأخروي في رؤيا يوحنا اللاهوتي، فبعد أن تنتصر العقيدة اليهودية على الأرض كما يتصوّرون، ما الداعي حينئذ لأن تكون أورشليم المقدسة التي ستهبط من السماء وتجمع شمل اليهود مسوّرة بذلك الحرص! في سفر أشعيا نجد بأنّ الأمان والخلاص بالنسبة للإسرائيليين لا يكون إلّا بمدينة محصنة، حتى لو كانوا وحدهم لا دول أخرى معادية قربهم: “فِي ذلِكَ الْيَوْمِ يُغَنَّى بِهذِهِ الأُغْنِيَّةِ فِي أَرْضِ يَهُوذَا: لَنَا مَدِينَةٌ قَوِيَّةٌ. يَجْعَلُ الْخَلاَصَ أَسْوَارًا وَمَتْرَسَةً”. وبالمقابل إن أراد الرب معاقبة الإسرائيليين فإنّه يهدم أسوارهم كما جاء في سفر التثنية: “وَتُحَاصِرُكَ فِي جَمِيعِ أَبْوَابِكَ حَتَّى تَهْبِطَ أَسْوَارُكَ الشَّامِخَةُ الْحَصِينَةُ الَّتِي أَنْتَ تَثِقُ بِهَا فِي كُلِّ أَرْضِكَ. تُحَاصِرُكَ فِي جَمِيعِ أَبْوَابِكَ، فِي كُلِّ أَرْضِكَ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ ” إذن السور هو عقيدة وقناعة وإيمان لا يمكن أن تقوم للإسرائيلي حياة من دونه، ومن الطبيعي أن تتسلّل هذه العقيدة حتى إلى الاستعارات الشعرية. وكما كانت التوراة شغوفة بمصطلح السور واستعاراته دعي الشعراء لتخليد ذكرى إقامة تلك المستوطنات (سور وبرج) في القرن العشرين، ففي قصيدة الشاعر (يعقوب أورلاند 1914- 2002) “حنيتا” التي تغنّت بإقامة مستوطنة (حنيتا) التي تأسست عام 1938 كتب: “حنيتا/ أنتِ حدود سنوسّعها/ أنتِ حدود سنحدّدها / أنتِ جدار الفولاذ / في ليالي الحصار / أنتِ الحلم المنشود”.
الغيتو:
هو مصطلح وضع لتوصيف تواجد اليهود في المدن الأوروبية، حيث كان يعتقد بأنّهم يجبرون على العيش في مناطق مخصوصة انعزالية، لا تسمح لهم بالاختلاط بشعوب تلك البلاد. وكان الغيتو يعتبر نوعًا من العنصرية، مشابهًا لمصطلح (الأبارتيد) في جنوب أفريقيا إبّان الحكم الأبيض العنصري لها، الذي قسم المجتمع إلى بيض وسود، وحصر السود في (بانتوستانات: بانتو تعني المتكلمين باللغة البانتو وهي لغة محلية، وستان تعني أرض) وبذلك يتم فصل السود عن البيض في تلك البانتوستانات العنصرية.
لكن هل كان الغيتو حقًّا هكذا؟ لننظر في رأي رئيس المنظمة الصهيونية (ناحوم غولدمان) في الخمسينيات من القرن العشرين الذي يقول: “إنّ الغيتو يُعتبر اكتشافًا يهوديًا من الناحية التاريخية. ومن الخطأ القول بأنّ الغوييم (الأغراب) قد أرغموا اليهود على الانفصال عن بقية المجتمع. هناك فرق بين أن يختار المرء جيرانه بحرية، أو أن يكون مرغمًا على السكن في مكان معين. إنّ الغيتو، لم يكن مجرد مجموعة من المنازل والمؤسسات اليهودية المحاطة بسور، سواء كان هذا السور مبنيًا أم سورًا نفسيًا، لم يكن سجنًا جماعيًا لليهود فرضه الآخرون عليهم، وإنّما كان سورًا دفاعيًا داخليًا، حقيقيًا ورمزيًا في آنٍ واحد، شكّل حصنًا شيّده اليهود لأنفسهم”. إذن كان غولدمان يعاكس كلّ التعريفات التي وضعت للغيتو، بأنّه آلية إقصاء، فهو يراه عبقرية يهودية تحافظ على نقاء عرقهم وعقيدتهم وثقافتهم. ولا يأتي تحليل غولدمان من عدم، فالعقيدة اليهودية التي تمنع اليهود من الزواج من الآخرين، والنصّ على أنّ القومية اليهودية لا تكون إلّا بالدم، بل أكثر من ذلك إذ أنّهم يعتقدون بأنّهم شعب الله المختار، فلا ريب بعد ذلك، أن يسعوا بكلّ جهد ليحيطوا أنفسهم بالأسوار، وليس الآخرين من فعلوا ذلك بهم. وإن كانت هناك حالات عديدة أجبر اليهود بها على العيش في مناطق مخصوصة، إلّا أنّ الأمر كان يوافق هواهم. وعندما نادى الشاعر الإصلاحي (ليف جوردن) بضرورة انفتاح اليهود على الشعوب من حولهم وخروجهم من محابسهم العقائدية والمادية في قصيدته: “انهض يا شعبي” قائلًا: “كن يهوديًا في بيتك وإنسانًا خارجه” لم يلق آذانًا صاغية لهذه الدعوة الإنسانية، فعقلية الغيتو متجذّرة في العقيدة الإسرائيلية.
النكبة الثالثة:
عدّ الفلسطينيون جدار الفصل العنصري، بأنّه نكبة ثالثة، قد أصابتهم بعد نكبة حرب 1948 وحرب 1967 لأنّه قد قطّع أوصال الضفة وفصلها عن أراضي عام 1948 المحتلّة، ولهم كلّ الحقّ في ذلك، فقد فتت البقية الباقية من فلسطين المحتلّة. بينما رأى الاحتلال به جدار الحماية والأمان متعلّلًا بالانتفاضة وهجمات المقاومة الفلسطينية. وعندما بدأ بناء الجدار على يد أرئيل شارون في حزيران عام 2002 لم يكن استجابة مباشرة للأحداث في الحقيقة، كما أراد شارون أن يظهر الأمر، فقد كان الجدار أحد أحلامه، منذ عام 1973 وقد وضع مخططًا له على حائط مكتبه عام 1976 يتضمّن رسومًا أولية للسور الذي ستقطع به أوصال فلسطين وقد كان يسميه: “سور الصين العظيم”. ومنذ ذلك الوقت والفكرة تتردّد في الأوساط الإسرائيلية، ففي عام 1994 اقترح وزير الشرطة (موشيه شحال) خطّة لفصل الضفة وغزة عن أرض فلسطين وتتالت الاقتراحات إلى أن شُرع ببناء الجدار على يد أرئيل شارون.
كان مسار الجدار وفق ما أعلن عنه، بأنّه سيكون على الخطّ الأخضر الذي يفصل الأراضي المحتلة عام 1948 عن عام 1967 لكن في حقيقة الأمر بُنى الجدار في أراضي الضفة بعمق يتراوح ما بين 5 الى 10 كلم، فاقتتطع الكثير من أراضي الضفة ومنع الفلسطينين من العودة إلى الأراضي ما بين الجدار والخطّ الأخضر، فتدهورت الثروة الزراعية لديهم، وهجّروا، ومنعوا من مصادر المياه التي استولت عليها إسرائيل، إلى جانب أنّ الخط غدا كحبل المشنقة، ففي مدينة كقليقلة أصبح محيطًا بها بالكامل. يبلغ عرض الجدار ما بين 80 إلى100 متر ويتكوّن من: أسلاك شائكة لولبية، وخندق بعرض 4 أمتار وعمق 5 أمتار يأتي تاليًا للأسلاك الشائكة. وبعد ذلك شارع معبّد بعرض 12 مترًا؛ وهو شارع عسكري لدوريات المراقبة والاستطلاع، ويلي ذلك شارع مغطى بالتراب والرمل الناعم بعرض 4 أمتار، بهدف كشف آثار المتسلّلين على أن يجري تمشيط هذا المقطع من السور مرتين يوميًا صباحًا ومساء. ومن ثمّ جدار إسمنتي يعلوه سياج معدني إلكتروني تنصب عليه معدات إنذار وكاميرات وأضواء كاشفة وعناصر أمنية. يتراوح ارتفاع الجدار ما بين 4.5 و9 أمتار. أمّا من الجانب الإسرائيلي، فتعاد نفس بنية الجدار التي ذكرناها آنفًا. يمتد الجدار مسافة 730 كلم أي أكثر من ضعف طول الخط الأخضر الذي يصل الى 320 كلم. إنّ مقارنة جدار الفصل العنصري مع خط (بارليف) الذي أقامته إسرائيل على الضفة الشرقية للقناة بعد احتلال سيناء لتمنع القوات المصرية من العبور لا يقل شدّة وعنفًا عنه. كذلك الأمر على خط (آلون) على الجبهة السورية، لكن هل صمدت تلك الخطوط الدفاعية التي أقامتها إسرائيل على الجبهتين الشمالية والجنوبية؟
الأسوار وفتاة البالون:
يذكر الرسّام بانكسي الذي رسم لوحة غرافيتية عام 2005 قرب حاجز قلنديا على جدار الفصل العنصري وكانت تلك اللوحة الغرافيتية تمثل فتاة تمد يدها إلى بالون أحمر، بأنّ أحد العجائز الفلسطينين الذي أبدى إعجابه بالرسم قد قال له: “عُد إلى وطنك، فأنت تُريد تجميل الجدار ونحن نكره أن يكون هذا الجدار جميلًا”. أراد بانكسي أن يعلن احتجاجه على جدار الفصل العنصري، بأنّ البالون الذي يمثل الأمل قادر على تجاوز الجدار مهما ارتفع وارتدى الأسلاك الشائكة. وفي الوقت نفسه كان العجوز على حقّ أيضًا، فهذا الجدار رمز للبشاعة التي لا أمل معها. بين الرؤيتين أصبح الجدار معرضًا للاحتجاج الفلسطيني والعالمي ضد عنصريته التي أنشئ من أجلها، فقد رسم الكثير من الفنانين الفلسطينيين والعالميين عليه موقفهم المناهض له، وبذلك تم تقويض رمزيته المعنوية على الأقل بنظر الفلسطينيين وكلّ إنسان حرّ حقًا.
أثبتت أحداث السابع من أكتوبر عام 2023 وهم التسمية الإسرائيلية للجدار، بأنّه جدار الأمن والأمان. ومن هذا المنطلق لا يمكن أن يكون هناك من أمن وأمان إلّا بالسلام، لكن هل من بنى الجدار يريد ذلك؟ يبقى الجواب معلقًا في ذمّة الإنسانية على هذه الأرض.
باسم سليمان
كاتب من سورية

باسم سليمان's Blog
- باسم سليمان's profile
- 24 followers
