الحديقة: هل هي مهد المعرفة الإنسانية؟

باسم سليمان 17 أغسطس 2025

لم يجد الفيلسوف اليوناني أبيقور (341-270 ق.م) أفضل من الحديقة مكانًا ليشرح فيه دروسه الفلسفية، معلنًا عدم اكتراث الآلهة بالبشر، لذلك يجب مجابهة مخاوفنا من الموت والألم من دون انتظار السماء. جاء بعده بسبعمائة عام القديس أوغسطين (354-430 م) الذي اعتنق الديانة المسيحية وقال، بأنّ العناية الإلهية تشمل الكون كلّه وقد حدثت هذه اللحظة المصيرية في حديقة بيته. استخدم الأرستقراطيون البريطانيون الحدائق لعرض النباتات التي استجلبوها من الأراضي التي استعمروها دلالة على سيطرتهم على العالم. بينما استخدم الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين الحدائق للحفاظ على نباتات أسلافهم. لقد أنشأت كل حضارة بشرية حدائقها الخاصة، لأسباب عملية كالطعام والدواء، ولأسباب ثقافية وسياسية، بل لأسباب أكثر عمقًا كمحاكاة للجمال المطلق، وأن تكون مرآة للروحانيات، والأهم البحث عن المعرفة.

يقال بأنّ الحدائق المعلّقة في بابل كانت إحدى عجائب الدنيا السبع في العالم القديم، وقد بناها الملك نبوخذ نصر من أجل زوجته التي شعرت بالحنين إلى طبيعة بلادها في فارس! فهل كان ذلك الحنين؛ هو السبب في بناء تلك الحدائق الأسطورية؟ لا ريب أنّه الحنين إلى زمن بدئي متخيّل، أُلْبِس رغبة زوجة نبوخذ نصر! فالأساطير الإنسانية تكلّمت عن حديقة/ جنّة كان فيها الإنسان، لا يعرى ولا يشقى، كما وصفته الأدبيات الدينية والأسطورية، وأطلق الشاعر اليوناني هزيود على ذلك العصر اسم: الزمن الذهبي، كجنة ديلمون السومرية التي يصادق بها الذئب الخروف، أو الجنّة التي كوفئ فيها أتونبشتم – نظير النبي نوح- بالخلود والتي سعى إليها جلجامش، لكن الآلهة كتبت على البشرية الموت، وعلى ما يبدو أنّ نبوخذ نصر كان في دخيلته يعيد محاكاة جنّة ديلمون، لربما يسرق لحظة سلام وخلود من جنّة متخيّلة. لا تختلف هيكلية الجنّة في الديانات التوحيدية عن ما ذُكر، فلقد أسكن آدم أبو البشر وزوجته في الجنّة حتى ارتكبا الخطيئة، فأهبطا إلى الأرض، لكن وعِدت البشرية بالعودة إليها إنّ آمنوا وعملوا صالحًا. هذه الجنّة السماوية تشبه حقول الإليزيه اليونانية التي عدّت كمستقرّ للأبطال وفاعلي الخير في حياتهم الثانية ما بعد الموت. لا تختلف أوصاف الجنّة عن الحديقة، فكلاهما منطقة مسوّرة، مليئة بالأشجار والأزهار من كل صنف ونوع، تجري فيها الأنهار، ويعيش فيها الإنسان بطمأنينة وهدوء، وكأنّها منطقة وسطى بين الطبيعة البكر بمخاطرها والمدينة بمساوئها، فهي الفضيلة التي قال عنها أرسطو: لا إفراط ولا تفريط، فالحديقة تمثّل مساحة حوار بين الطبيعة البرية والعالم البشري المصطنع، فهي تجسّد أفضل ما فيهما، لذلك كان تخيّل الجنّة على شاكلة الحديقة. الحديقة مكانٌ للوداعة والوفرة والسهولة، مُحاطٌ بمخاطر البرية والمدينة، لكنّه مليءٌ بكرم الطبيعة واستقرار المدينة. لقد صيغ مفهوم الحديقة في الفكر الإنساني، لتشبه تلك الأجواء الرعوية الخيالية، التي لطالما سعى إليها أسلافنا الرُحّل بحثًا عن مكان لطيف الأجواء، محميّ، مليء بالغذاء والأمان والسكينة.

تتعدّد أسماء الحديقة من جنّة، إلى روضة، إلى بستان، إلى حقل، لكن المعاني لهذه الأسماء والدلالات متشابهة، لا من حيث خضرة النباتات ووفرة الزهور وتنوع الثمار، أو الهدوء أو الأمان فقط، بل لأنّها كانت الأساس لوجود الإنسان على هذه الأرض، والمكان الذي بدأت به أسئلته الوجودية، بعيدًا عن القراءة الأخلاقية الدينية لخطيئة آدم بمخالفة أمر الإله، لقد كانت خطيئة آدم في صميمها رغبة معرفية، لأنّه قد ذاق شجرة المعرفة، والمعرفة تفتح الآفاق. هكذا أطل آدم من خلف سور الجنّة إلى الأرض، واشتهى أن يعمّرها بذاته، أن يصنع حديقته الخاصة. يدعم هذا التصوّر قرار أوديسيوس الذي رفض البقاء مع الحورية كاليبسو في حديقتها السماوية وفضل العودة إلى بيته في إيثاكا حيث مزرعته وزوجته بينلوبي.

“يجب علينا أن نعتني بحديقتنا”:

هذه الجملة هي آخر ما قاله بطل رواية فولتير (كانديد). لقد كانت الرواية برمّتها نقدًا لاذعًا لفلسفة لايبنيتز المتفائلة، وخاصة مقولته بأنّ العالم كما نعرفه هو أفضل العوالم الممكنة للإنسان. لقد كان فولتير ناقمًا كبيرًا على الأوضاع السياسية والاقتصادية والدينية والفلسفية في القرن الثامن عشر وخاصة في فرنسا، ورأى بأنّ فلسفة لايبنيتز تهرب من مواجهة الواقع عبر تفاؤل مصطنع. تسرد الرواية حكاية الشاب كانديد الذي كان متعلّقًا بمعلمه (بانغلوس)، والذي هو بمكان ما هو تمثيل للايبنيتز. تدور رحى الأقدار ويتعرّض كانديد لأشدّ المصائر جنوحًا، وعندما يضع أفكار معلّمه تحت مجهر التطبيق العملي يكتشف هشاشتها. إنّ الإحالات في رواية كانديد، بمكان ما، تذكرنا بآدم وزوجته اللذين قبض عليهما متلبّسين بالخطيئة الجنسية، كما قبض صاحب القصر على كانديد يقبّل ابنته، فطرده من القصر والحديقة، لكن في النهاية يلتقي كانديد بحبيبته ويقرّر مع رفاقه زراعة حديقتهم الخاصة، أو تطبيق رؤيتهم الخاصة للعالم كما يريدون، لا كما تكتب الأقدار. إذن المطلوب منّا أن نعتني بحديقتنا الخاصة، لكن لماذا؟                                                                                                 يعود لليونانيين اختراع: (الأغورا/ الساحة؛ مركز المدينة حيث كان المواطنون الأحرار يجتمعون للحديث بشؤونهم العامة). إنّ الفضاء السياسي للأغورا هو فضاءٌ للكلمات المشتركة، كالحقوق والواجبات وإلى ما ذلك، فهي لم يكن لها وجود إلّا من خلال الجدال العام بين المواطنين الذين من خلال النقاش والمحاورة، هكذا كانوا يحوّلون آراءهم الذاتية إلى عناصر تُعنى بالشأن العام. لقد ابتكر اليونانيون الأغورا/ المدينة  للحفاظ على الشروط السياسية للوجود. كتب جيل دولوز: “إذا أردنا حقًا القول، بأنّ الفلسفة والسياسة نشأت مع الإغريق، فذلك لأنّ المدينة، على عكس الإمبراطورية أو الدولة، ابتكرت الساحة العامة، كقاعدة لمجتمع المواطنين الأحرار”. لكن بمجرد خروجهم من السياق السياسي، يرجع البشر إلى حالة ليست بالسياسية بالمعنى التخصّصي، فيعودون للانخراط بمصالحهم الذاتية الأنانية. وهنا يأتي دور الحديقة في استكمال دور الساحة العامة. إنّ خلق فضاء سياسي عبر الساحة العامة، بقدر ما يُمكّن من إرساء أسس عالم مشترك يحكمه القانون، إلّا أنّه يُنتج في الوقت نفسه، المكان الحقيقي الوحيد الذي تتجلّى فيه الطبيعة البشرية المشتركة. ففي الأغورا يتعرّف البشر على بعضهم البعض كمواطنين سياسيين. أمّا في الحديقة فيجتمع البشر تحت أفق عالم جماعي من الترابط. إذن الحديقة وفق الرؤية الفلسفية اليونانية هي المكان الذي يتخلّص فيه الإنسان من التجاذبات الحادة بين مصالحه الخاصة الشخصية والمصالح العامة، فهي أقرب لفترة النقاهة بعد المرض. هذه الرؤية للحديقة لم تأت من قاعدة الراحة التي تعقب التعب، بل من رؤية علاجية لمشكلة ما؛ لتكن على سبيل المثال سياسية. يُحكى أنّ أكاديموس وهو بطل يوناني كرّمته أثينا بأن منحته بعد موته قبرًا في منطقة طبيعية خلّابة أقرب للحديقة، لأنّه منع الصدام بين مؤسس أثينا البطل (ثيسيوس) الذي خطف الجميلة (هيلين)- التي تسببت فيما بعد بحرب طروادة – وشقيقيها، بأن أخبرهما عن مكان وجودها، وبهذه الطريقة أطفأ أكاديموس فتيل الخصام. أمّا معنى (أكاديموس) فهو المكان الهادئ: (أكا) تعني هادئ و(ديموس) تعني مكان، وعندما نجمع هاتين الكلمتين تتجلّى لنا الحديقة: المكان الهادئ. إذن الأكاديميات الفلسفية اليونانية التي ترجع بجذرها اللغوي إلى اسم أكاديموس، يجب أن تكون على شاكلة الحديقة، أي مكانًا هادئًا كان في نظر اليونانيين مدخلًا للتأمّل في الإنسانية، ملخّصًا المثال للكمال البشري: (الجميل والصالح)، فالحديقة هي مكان للتعلّم والمعرفة وإدراك الجميل والصالح من خلال تحضير الإنسان ليكون قادرًا على مواجهة المدينة والسوق والطبيعة. الهدف من التعليم في الحديقة، هو جعل البشر سكانًا للمدينة ولمحيطها أيضًا، لأنّها حالة برزخية بين ما يصنعه الإنسان وبين الحالة البكر. ومن هذا التفسير لمعنى الحديقة نستطيع أن نفهم لماذا كان الفلاسفة من مشّائين، إلى رواقيين، إلى كلبيين، إلى أبيقوريين، يلقون محاضراتهم في أماكن تعدّ ضمنًا من الحديقة كالرواق أو الممرات بين الأشجار، أو حتى جعل الحديقة ذاتها مدرسة فلسفية كما فعل أبيقور. ومن هذا التفسير نستطيع تفسير دهشة المؤرخ هيرودوت عندما رأى حديقة نموذجية عند الليبيين الذين كانوا يعدون أقل حضارة من أثينا وروما.

حديقة أليس في بلاد العجائب:

هذا المعنى الفلسفي الذي تتجاوز فيه الحديقة جمالياتها الطبيعية مكّنها من أن تصبح رمزًا متعدّد الدلالات، نذكر بعض الأمثلة عليه، فعلى الصعيد السياسي أصبحت حديقة (هايد بارك) في لندن آخر الأماكن على الأرض – كما يقال- التي يسمح فيها لأي شخص التحدث علنًا من دون إذن مسبق! هذه الحديقة تذكرنا بحدائق الفلسفة اليونانية، وبصراعات فلاسفتها، فالحدائق الأوروبية مثّلت العقلانية الديكارتية بأشكالها الهندسية ومتاهاتها كما في متحف اللوفر، بينما في إنكلترا كانت أكثر تجريبية اتباعًا لمفكريها. وإذا اتجهنا نحو الشرق نجد في اليابان حدائق تتبع رؤية (وابي سابي) وهي فلسفة زنّية (مذهب الزن) ترى الجمال في الأشياء الزائلة والبسيطة والصغيرة، وهي نظرة زهدية على عكس الحضارة الغربية. أمّا دينيًا، فلقد اختار السيد المسيح درب الآلام في بستان (جَثْسَيْماني) ليرفع الخطيئة عن البشرية، وكأنّه لكي تجب خطيئة حديقة آدم، لا بدّ من حديقة بالمقابل لترفع الخطيئة عن البشرية. لقد احتاج بوذا لورقة ذابلة في حديقة قصره ليكتشف حجم المعاناة الهائلة التي يعيشها البشر. عندما نريد التعبير عن جمال حديقة ما، نصفها بأنّها كالجنّة، ولم يتم التوصل لتطبيق هذه الاستعارة بشكلها الواقعي إلّا في الأندلس إبّان الحكم العربي لها. يقول الباحث والمفكِّر الإسباني خوسيه ميغيل بويرتا في كتابه (الجمالية في الفكر الأندلسي) بأنّه عندما بنى آل نصر غرناطة كان في خواطرهم وغاياتهم محاكاة الجمال الإلهي للجنّة ويستعير قول الشاعر ابن خفاجة تأكيدًا لقوله:                                                                      يا أهل أندلس لله درّكم                                                                                         ماء وظلّ وأنهار وأشجار                                                                                        ما جنّة الخلد إلّا في دياركم                                                                                ولو تخيّرت هذا كنت أختار                                                                                     لا تختشوا بعد ذا أن تدخلوا سَقرًا                                                                                 فليس تُدخل بعد الجنّة النار.                                                                           بينما فنيًا أصبحت الحديقة هي الفضاء المكاني في اللوحات الذي تمتد عليه الألوان من مايكل أنجلو إلى رسّامي عصرنا، لذلك يقول مؤرخ الفن الإنكليزي هوراس والبول (1717-1797): “إنّ البستنة من أوائل الفنون الجميلة”. لا يذكر علم التاريخ الحدائق إلّا بخفر، لكن الآداب كان لها الباع الأكبر بذكرها، فمن حكم بيدبا، إلى ألف ليلة وليلة، غدت الحدائق أرضًا للثورة على التقاليد والأعراف، بل أصبحت رمزًا للحرية. وإذا أردنا أن نبحث عن أولى الفضاءات المكانية بعيدًا عن السرّية التي بدأت الذكورة والأنوثة تلتقي فيها بالعلن، سنجد الحديقة، فالشارع له صبغة ذكورية جدًا، فيما البيت فأنثوي جدًا، لذلك كانت الحديقة هي  المكان الأنسب الذي رصدته الفنون والآداب لهذا اللقاء. وكما ساعدت الحديقة في كسر تابوهات المجتمع المحافظ رمزت أيضًا لقدرتها الشفائية، ففي رواية الحديقة السرية للكاتبة: (فرانسيس هودسون برنيت) نكتشف كيف أن العناية بالحديقة – أي البستنة- قادرة على أن تعيد الصحة لجسد الفتى الصغير المريض. ومن هنا كانت فترات النقاهة في القرن العشرين وخاصة للمصابين بالحروب تكون في الحدائق الملحقة بالمشافي. لم يجد (لويس كارول: اسم مستعار لعالم الرياضيات تشارلز دودسن ) في روايته (أليس في بلاد العجائب) إلا الحديقة ليفتتح بها مغامرة أليس في عالم خيالي عجيب. وإذا دققنا في شخصيات هذه الرواية نجد الرياضيات والفلسفة والآداب والفنون والدين والسياسية تومئ بهدوء من خلف الأشجار والزهور والجداول.

الحديقة أمل البشرية:

أن تعتني بحديقة، كما قال فولتير، فهذا يعني أن تكون جزءًا من شبكة من العلاقات الإنسانية والطبيعية، فلا شيء يبقى وحيدًا في الحديقة، تسقط البذرة في الأرض، فتصبح نبتة مكونة من الشمس والريح والماء. يأكل الطائر ثمرة النبتة، فتُغلّف فضلات الطائر البذرة وهي تسقط عائدةً إلى الأرض. يموت النبات، ويموت الطائر، فيتحوّلان لغذاء للديدان وللبذور، التي تنبت من جديد. يصبح الأحياء أمواتًا، والموتى أحياءً، فممَ تتكون هذه الدورة في النهاية؟ أمن الذرات، أم من شبكة من الروابط؟ يقول ديمقريطس، بأنّ الكون يتألّف من ذرات مفردة! لكن لا يوجد شيء من الأشياء، يقوم عليه كل شيء آخر، بل شبكة لا نهائية من العلاقات، كلّ جزء منها يستعير وجوده من مشاركته في الكلّ. سعى ديمقريطس إلى إيجاد أساس الوجود في ذرة  مطلقة، أبدية. لكن حجر الأساس المفهومي هذا، لم يكن موجودًا إلّا في العقل البشري، فالذرة تتشكل من عناصر أصغر وأصغر، أمّا في الفلسفة البوذية التي انطلقت من الحديقة، فتقول: الواقع علاقات، وبقدر ما نحسن إقامة هذه العلاقات الترابطية كما في الحديقة، سنكون قادرين على فهم الكون وعلى الاعتناء بأخوتنا في الإنسانية المتنوعين كالأشجار والزهور في الحديقة من دون الاكتراث بمبدأ أولي هو السراب بعينه.

باسم سليمان

كاتب سوري

https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/revisions/2025/8/17/%D8%A7%D9%D8%AD%D8%AF%D9%8A%D9%D8%A9-%D9%D9-%D9%D9%8A-%D9%D9%D8%AF-%D8%A7%D9%D9%D8%B9%D8%B1%D9%D8%A9-%D8%A7%D9%D8%A5%D9%D8%B3%D8%A7%D9%D9%8A%D8%A9خاص ضفة ثالثة

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 17, 2025 07:30
No comments have been added yet.


باسم سليمان's Blog

باسم سليمان
باسم سليمان isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow باسم سليمان's blog with rss.