التضامن مرفأ أخيرًا لسفينة الإنسانية الجانحة
باسم سليمان 8 أغسطس 2025
هناك بعض المفاهيم الإنسانية التي لم تأخذ حقّها في الدراسة والتمحيص والتطبيق إلّا بعد زمن طويل من صكّها، على الرغم من الإرهاصات العديدة والمديدة لها في التاريخ الإنساني، فإذا أخذنا مفهوم الحقوق الاجتماعية للإنسان، فلقد تأخّر الاعتراف بها إلى القرن الثامن عشر، فاشترعت أولى خطواتها بإلغاء العبودية. أمّا الحقوق السياسية فلقد نُوقشت بعمق منذ أفلاطون، لكن التطبيقات العملية احتاجت الثورة الفرنسية عام 1789 وتلتها الحركات الاشتراكية والديمقراطية التي وقفت في وجه أنظمة الحكم السياسية التقليدية من إقطاعية إلى ملكية. فيما انتظرت الحقوق الإنسانية ازدهارها في القرن العشرين ومن أهم نتائجها المساواة بين الذكر والأنثى في الحقوق والواجبات. وإذا يمّمنا شطر فكرنا نحو مفهوم بدأت تعلو أسهمه في الألفية الثالثة وما نقصده هو (التضامن/ SOLIDARITY)! لكن لماذا التضامن الآن؟ لقد تعرّضت الكثير من الحركات السياسية والاجتماعية للإجهاض، فالشيوعية التي قال عنها ماركس بأنّها: “الاستيلاء الحقيقي على الجوهر الإنساني من قِبل الإنسان ولأجله” انتهت إلى استبدادية ستالينية. بينما الرأسمالية التي وعدت بدولة الرفاه، فلقد بدأت تتآكل أمام السوق النيوليبرالي. ومن هنا بدأ البحث عن مفهوم ليس بسياسي وفق المعتاد، كما عهدنا بالديمقراطية أو الرأسمالية أو الشيوعية، بل بمفهوم يسمح للأفراد والشعوب، بأن يكون لهم فعالية في مواجهة تلك الحركات السياسية والاجتماعية التي أثبتت بعد تطبيقها بأنّها لا ترى بالإنسان إلّا شيئًا أو سلعة تخضع للعرض والطلب، إلى جانب أنّ وعي الإنسان بالكوارث الطبيعية كالاحترار العالمي وفشل قمم المناخ المتتالية بالحدّ منه، دفعه إلى البدء باتخاذ مواقف ضد التصنيع اللامحدود. ومن هنا بدأ علماء الاجتماع كإميل دوركهايم في كتابه: (تقسيم العمل في المجتمع 1893) وإريك فروم في كتابه: (الإنسان من أجل ذاته 1947) طرح رؤى جديدة أمام تراجع أفكار عصر الأنوار الأوروبي. وعلى الرغم من تنبّه علماء الاجتماع لهذا المفهوم مبكّرًا إلّا أنّه ظل خطابيًا، يسمع في خطب السياسيين وحتى رجال الدين من دون تطبيق حقيقي. وعندما وجد له تأصيلًا في الحركات المناهضة للعنصرية والحركة النسوية وحركات ذوي الإعاقة من سبعينيات القرن الماضي، استبعد من الدراسة المنهجية العلمية في العلوم الاجتماعية والفلسفية والسياسية؛ والحجّة بذلك، لأنّه يقوم على الحبّ والصداقة والتحيّز، وهذه مشاعر ذاتية لا تخضع للموضوعية العلمية. هذا الاحتجاج ليس بعيدًا عن الصحّة بالمطلق! لقد انطلقت حركة (كلّنا يونانيون) في أوروبا والتي نرى لها أشباهًا كثيرة في زمننا إثر مذبحة خيوس عام 1822 التي قامت بها القوات العثمانية بحقّ اليونانيين. ولقد خلّد دولاكروا هذه المجزرة بلوحة معروضة الآن في متحف اللوفر. تضامن الأوروبيون مع اليونان لأسباب عديدة نذكر منها؛ بأنّ اليونان المهد الفكري لأوروبا بالإضافة إلى أنّ حقّ تقرير المصير قد بات يُؤخذ بالاعتبار في تلك الأزمنة حتى أقرّته الأمم المتحدة في مبادئها. لكن لنعد للمذبحة التي أطلقت شرارة التضامن، ألم يكن يقابلها مجزرة كبيرة قامت بها القوات اليونانية بحقّ المدنيين الأتراك في منطقة البيلوبونيز اليونانية؟ طرحت الحرب السورية على العالم مشكلة اللاجئين الذين تدفّقوا نحو أوروبا، وقد كان للمستشارة الألمانية ميركل موقف مشرّف باستقبال اللاجئين على الرغم من معارضة الأحزاب اليمينية فقد خاطبت الشعب الألماني، بأنّ هذا واجبهم وأنّ التضامن مع الكوارث التي تصيب الشعوب يظهر مدى التشبّع بالقيم الإنسانية. لكن من طرف آخر تتغاضى ألمانيا عن الهولوكوست الإسرائيلي بحقّ الفلسطينيين، وتصرّ بأنّ المواقف الداعمة لإسرائيل من صلب الروح الألمانية! وهنا لكي لا نقع في جدلية الثنائيات الضدية التي يسبّبها مفهوم التضامن، وقد تحجب عنّا معناه الحقيقي، لنتذكّر الأول من أيار عيد العمال في كلّ أنحاء العالم. ويعود اتخاذ هذا اليوم، بسبب أحداث دامية جرت في منطقة (هاي ماركت شيكاغو) حيث أطلقت القوات الأمريكية النار على العمال المضربين من أجل تحسين واقع العمل، فكان هذا اليوم تعبيرًا عن التضامن مع حقوقهم والذي تطوّر فيما بعد ليصبح: “يا عمّال العالم اتحدوا”. إذن التضامن مثله مثل الكثير من المفاهيم البشرية يحتاج إلى صقل حتى يظهر معدنه الأصيل. قبل أن نغوص أكثر في مفهوم (التضامن/ SOLIDARITY) علينا تمييزه عن مجموعة من المصطلحات الأخرى التي تتقاطع معه وتتوازى وتتعارض من مثل: (التكافل، والتماسك، والتعاطف، والتعاضد، والتراحم). يعود مفهوم التكافل إلى علم البيولوجيا، حيث يقوم كائنان بالاعتماد على بعضهما في تأمين مصادر حياتهما. أمّا التماسك فيتعلّق أحيانًا بالصمود الفردي أو الجماعي في مواجهة المصاعب وعادة ما يكون مؤقّتًا. بينما التعاطف فهو موجّه نحو شخص أو مجموعة محدّدة. فيما التعاضد يقوم على تكاتف جهات معينة لأجل القيام بعمل ما. ولا يبتعد التراحم عن المعاني السابقة بسبب أصله الأسروي أو القبائلي أوالديني، إلّا أنّه عادة ما يكون منصبًا نحو الفئات التي تشترك في قرابات عصبية أو رحمية أو عقيدة دينية معينة. إذن ماهو التضامن؟ أضافت شركة فيسبوك إبّان وباء كوفيد رمزًا تعبيريًا عن شخضٍ يحتضن قلبًا إلى جانب الرموز الأخرى التي اعتمدتها وسائل التواصل الاجتماعي للتعبير عن التفاعل مع المنشورات التي يبثّها المشتركون فيها. وقد قالت الشركة عنه، بأنّه من أجل إظهار التضامن والتعاطف غير المشروط -بعد الإغلاق الذي شمل معظم كوكب الأرض إثر انتشار الوباء- مع الآخرين بالمطلق! يعدّ التضامن نشاطًا عاطفيًا وفكريًا وعمليًا يتجاوز آليات المشاعر الكلاسيكية المعروفة من حبّ وغضب وحزن ودهشة وإعجاب وضحك التي لها طبيعة نسبية، فالإنسان لا يحبّ كلّ شيء، ولا يغضب من كلّ شيء، ولا يحزن من كلّ شيء، ولا يدهشه كلّ شيء، ولا يضحك من كلّ شيء، لذلك كان رمز التضامن المعتمد من شركات السوشيال ميديا، فهو وإنْ كان يجمع ما سبق من مشاعر إنسانية، إلّا أنّه يتجاوزها، فهو لا يقف عند فرد أو دين أو أثنية أو عرق أو قومية، فهو افتراض متأصّل في الطبيعة البشرية المشتركة للإنسانية جمعاء، كما تكلّم عنها أرسطو وسبينوزا؛ وكما قال عنه عالم النفس والفيلسوف الألماني إيريك فروم، بأنّ التضامن يتّجه نحو الإنسان بالمطلق. هذه النظرة المطلقة عن مفهوم التضامن، لم تتأسّس كلية بل تطوّرت، فكان لها مسيرة تاريخية منذ أنْ أُكّدت في القانون المدني الذي أصدره نابليون بونابرت، فلقد كان لها إرهاصات سابقة، فهي بداية لم تكن تتعلّق مباشرة بالتضامن الإنساني كما نعرفه الآن، وإنّما كان له طبيعة حقوقية مالية تتعلّق بتكافل المدينين نحو الدائن في سداد الدين، لكن مفهوم التضامن ينطلق من هذه النقطة، فكل إنسان مدين للطبيعة الإنسانية التي تحدّد هويته ككائن عاقل وأخلاقي، ولكي تكون إنسانًا عليك أن تسدّد دينك نحو الإنسانية.
هذه المصطلحات التي ذكرناها آنفًا والتي تتقاطع مع مفهوم التضامن لا تغطي كلّ العلاقات الإنسانية التي نشأت مع ظهور الدول القومية والثورة الصناعية وتقسيم العمل، فعالم الاجتماع إميل دوركهايم رأى بأنّ المصانع والرأسمالية وظهور الدولة القومية وتوسّع المدن والصراع الطبقي وما نتج عن ذلك من تقسيم للعمل يتجاوز العلاقات التي كانت تستند إليها الجماعات البشرية ومنها الحرفية في شدّ أواصرها، أسواء كانت أسروية أو حتى ضمن مهنة معينة، ممّا مهّد لظهور التضامن مستعارًا من المجال القانوني. لكن على الرغم من ذلك أهمل المصطلح من قبل العلوم الاجتماعية والفلسفية والسياسية التي انصبت دراساتها نحو مواضيع أخرى من مثل: الديمقراطية، والقومية، والمجتمع، والتعددية الثقافية، وحقوق الإنسان. ونحن الآن نغذّ السير في الألفية الثالثة ومع اكتساح آليات السوق التي تهدّد دولة الرفاه الممثّل لها بالدول الأوروبية، وتجذّر الفردية كأسلوب حياة يقوّض العلاقات الأسروية، عاد النظر إلى مفهوم التضامن كحلًّ لمشاكل المجتمع الإنساني المتواترة بشدّة.
الإنسان المتضامِن:
حلّل عالم النفس إيريك فروم ضرورة التضامن الإنساني من خلال العديد من كتبه، حيث عرض فيها تصوّره للأخلاقيات التضامنية. يربط فروم بين نهجه في الدراسة والتحليل وبين تقاليد أرسطو وسبينوزا الأخلاقية، فيتساءل عمّا يجعلنا بشرًا؟ ويخلص إلى أنّ الوعي الذاتي، والعقل، والخيال هو ما يجعل الكائن البشري إنسانًا، لكن هذه القوى الإنسانية أفسدت الانسجام الذي كان يعيشه الإنسان عندما كان كالحيوانات الأخرى، فهو كائن مفارق للطبيعة. ويجادل بأنّ ظهور العقل قد خلق انقسامًا داخل الإنسان أجبره على السعي الدائم لإيجاد حلول جديدة لوجوده. الإنسان جزء من الطبيعة، ومع ذلك فهو ملزم دائمًا بتجاوزها، وهذه المفارقة اسماها فروم: بــ “الثنائيات الوجودية”: (معرفة موتنا المحقّق مقابل غنى الحياة، وإدراك الإمكانات الهائلة للبشرية مقابل قدراتنا الفردية المحدودة، وبأنّنا لا نطيق الوحدة). في ضوء هذه الثنائيات الضدية، بحث الإنسان عن تناغم جديد لوجوده، ورأى بأنّ الأخلاق والتضامن يمكّنانه من اختيار مسارات إنسانية من أجل تنمية إمكانياته الظاهرة والكامنة فيه. وعندما نختار كبشر المسار التضامني، فمن الممكن ساعتها لأفراد المجتمع البشري تحقيق الرضا في حالة من الارتباط والتضامن مع إخوانهم البشر، وأن يكونوا جزءًا من المجتمع والطبيعة. وهنا يجب على المجتمع الذي يرغب في تعزيز هذا النهج أن يدعم مفهوم التضامن ليس بين أفراده فقط، وإنّما على مستوى العالم، ويجب أن يكون هدف جميع الأنشطة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المجتمعات البشرية هو تطوّر كل شخص ونموه.
يقدّم منظور الطبيعة البشرية المشتركة الذي نظّر له أرسطو وسبينورا وفروم أساسًا فلسفيًا للدعوة إلى التضامن الإنساني على مستوى العالم، فالطبيعة المشتركة لأفراد البشرية تثبت كم نحن متشابهون على الرغم من كل ما نراه يفرّقنا. إذ أنّ هذا المنظور للإنسان يشكل أساسًا للتعاطف والرحمة مع ضحايا القمع والاستغلال والكوارث، وتحذيرًا من عدم استدامة استمرار الليبرالية الجديدة العالمية التي تتجاهل عواقبها الاجتماعية والفردية والبيئية. تطرح الأهداف المعيارية للتضامن التي تتجلّى بالإنتاجية، والعقلانية، والمحبّة، كما استخلصت من آراء فروم معايير تقيمية واسعة النطاق يمكن استخدامها لتحديد السياسات والممارسات والحركات التي تواصل الكفاح من أجل التضامن الإنساني على مستويات الحياة اليومية، والسياسات المتمركزة حول الدول، والسياسات العالمية؛ بحيث لا تقع في المطبات التي ذكرنا أمثلة عنها أعلاه. هذه الرؤى التي قدمها فروم لمفهوم التضامن ما زالت تناضل لتجد لها مكان قدم في عالمنا الحالي، لكن هل نفقد الأمل وواقع الإنسانية يزداد صلافة وشرًّا؟ يعمل النهج الإنساني للطبيعة المشتركة للإنسان على التضامن كطريق لا حياد عنه من أجل إخضاع القوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتكنولوجية للاحتياجات الإنسانية الأساسية للناس في كل مكان؛ وذلك عن طريق قوة التضامن الأصيلة في كل إنسان، بغية إنتاج سياسة إنسانية تسدّ العجز الأخلاقي الناتج عن قوى السوق النيوليبرالية والقوى السياسية المتصارعة حول العالم.
هناك قصة تراثية تكاد تكون مشتركة في الثقافة البشرية تتكلّم عن أبٍ جمع أولاده ليقدِّم لهم نصيحة قبل أن يموت، فطلب منهم إحضار حزمة من العيدان ومن ثم محاولة كسرها، ففشلوا واحدًا تلو الآخر. وعندها قام بتوزيع عود واحد من عيدان المجموعة لكلّ واحد منهم مكرّرًا طلبه بأن يقوم كلّ واحد منهم بكسر عوده، فكسروه! وهنا قال لهم، بأنّ تضامنهم يُفشل من يحاول كسرهم، وتفرقهم يسهل لمن يريد كسرهم أن ينجز مبتغاه.
ليس التضامن مفهوما فلسفيًا كالحقّ والعدالة، وليس اجتماعيًا كالقبيلة أو الحسّ القومي، وليس اقتصاديًا كخطّ التجميع المتحرّك الذي ابتدعه هنري فورد من أجل تسريع وتيرة الإنتاج الصناعية، وليس سياسيًا كالأحزاب المتنافرة التي تقود دول العالم، وليس أسرويًا كعلاقة العائلة بأفرادها؛ بل هو تكافل، وتماسك، وتعاطف، وتعاضد، وتراحم بعيدًا عن الانتماءات الدينية والسياسية والاقتصادية والمجتمعية. وإذا استعرنا عنوان كتاب فروم (الإنسان من أجل ذاته) سيكون التضامن هو: الإنسان من أجل ذاته وغيره، فهو الحل الأخير قبل أن ندخل عصرًا ديستوبيًا يغترب الإنسان فيه نهائيًا عن ذاته ومعناه.
باسم سليمان
كاتب من سورية

باسم سليمان's Blog
- باسم سليمان's profile
- 24 followers
