باسم سليمان's Blog, page 9

February 15, 2024

البيضة والحجر – قصة في العدد الثاني عشر من مجلة ميسلون 2024 – باسم سليمان

يُقال، والقولُ ذمّة مفتوحة على الكلام، إنّ ديكًا قالتْ عنه عرافات الطيور، سيولد من بيضة دخيلة، دحرجها زلزالٌ من عشّ دجاجة إلى أخرى، سيغيّر أحوال الدجاج من طيور تطير ذات صوت جميل إلى طيور قد غلّتْ أجنحتها وسُجنت في أمكنتها، ويومًا ما سيستعبدها مخلوقٌ ذو قدمين، حرّ اليدين، فما إنْ سمع الدجاج ذلك حتى أحاطوا أعشاشهم بالأسيجة، وبذلوا ما استطاعوا من جهدٍ لتدارك هذه النبوءة التي فيها انطفاء ذكر الدجاج كطيور حرّة ملعبها السماء، ولا يتسلّط عليها أحد.

وجاء يومٌ رقصت الأرض فيه وتمايلت بين قرون ثورها، واختلطت دمدمة الأرض بصياح الطيور، وما إن انجلت الغمّة حتّى هبّ كلُ ذي جناح يتفقّد بيضه، ومن كثرة الخوف نسيت كلّ دجاجة عدد بيضها، ومنهن من تكسّر بيضها، وجرّاء ذلك نشبت مشاداتٌ، كلّ يدعي أنّ بيضه قد تدحرج ليعوض بيضه المكسور أو المفقود، ولم تهدأ الحال إلّا بحلول الليل وانبلاج فجر يوم جديد، والاقتناع أنّه لا مجال إلّا بقبول الحال.

كرّت الأيام وظهر ديكُ الطيور جميلًا وقويًا وسيطر على الأجنحة وقال: يجب أن تتوقّف هذه الهجرة الدائمة! سأقسم الطيور إلى قسمين: قسم له السماء، وقسم له الأرض. وهكذا يكون لنا شأن كبقية المخلوقات، أرض نحيا عليها، ريح نتقلّب على ظهرها، فنملك السماء والأرض.

احتجّت الطيور ونشبت بينها معارك تطاير فيها الريش، حتى ملأ واديًا من المخدات. فمن خرج على ديك الطيور رفع جناحيه فوق ظهره وهاجر ومن صمت، قلّم له الديك أجنحته.

أمّا الدجاج وكونه من بطانة الديك، فقد شاركه الصراع على أمل أن يتركه يطير؛ لكنّ الديك قال لهم: أنتم بنو جلدتي ولست أرى خيرًا منكم لتكونوا عونًا لي على الطيور التي قصصت أجنحتها كي لا تغافلني، فتنمو لها أجنحة من جديد وتطير ولكي تكونوا، أيضًا، عبرة وقدوة لهم، سأقصّ لكم أجنحتكم.

علتْ أصوات الدجاج مطالبة بحقّ الطيران، وتقدّم ثلاثة ديكة مندوبين عن البقية ليصيحوا عنهم، وينقلوا إلى ديك الطيور وجهة نظر واحدة، قوقأة واحدة.

فما كان من الديك إلا أن ابتدرهم بالقتال، ودارت معركة حامية الوطيس صمد فيها الديكة على أمل أن يتقدّم غيرهم، لكنّ كلّ من رأى القتال انسحب إلى الخلف خائفًا على ريشه من النتف، وما هي إلّا لحظات حتى وقف الديك على جثث الديكة الثلاثة، وصاح: هل من معترض؟

صمت الدجاج ودارت رحى الأيام والحال لا تتغيّر، وعملت الطبيعة عملها، فقصّرت أجنحة الطيور التي لا تطير على قاعدة”العضو الذي لا يستخدم يضمر” أمّا ديك الطيور، فكان كلّ صباح يجمع الدجاج، ويأخذ منهم خبر الطيور الأرضية إلى أن استتب له الأمر وعلم أن الأجيال القادمة لن تطير، فوقف على صخرة وخطب في قومه قائلًا: ها قد ثبت ملكي على الأرض ولم يبق خارجًا على سيطرتي إلا طيور السماء، سأرفرف بأجنحتي، وألحق بها لأعيدها إلى طاعتي.

واستمر في خطبته والدجاج شاخص إليه يستمع، في حين كان هنالك ثعلب يتسلّل من خلفه، وقد وقع تحت نظر الدجاج الذي قال في سرّه: ها قد جاء الفرج!

وبينما هو في زهوه بدأ في تحريك جناحيه، لكنّهما خاناه وهوى عن الصخرة متخبطًا، فانقض عليه الثعلب كاسرًا رقبته، فهلّل الدجاج فرحًا ورغب في أن يطير لوقته لكن أجنحته خانته، فهوى على الأرض يندب قدره. ولم يطل الوقت حتى سمعت الطيور بما حلّ بالديك، فاجتمعت وتشاورت وقالت: لن يرضي كرامتنا وتغيّر نمط حياتنا إلا أن ننتقم من الدجاج. وهكذا حاصرت الطيور قبيلة الدجاج، وتلت عليها حكمها المبرم: أيّها الدجاج، لما قدمتموه في سالف الزمان من صمت وسكوت عن الديك المتجبّر نحكم عليكم بالآتي: نمنعكم الغناء حتّى تنسوه ويصبح في خلفكم طبيعة أصيلة، أمّا أنتم أيتها الديكة المتخاذلة، فليس لكم الصياح إلا إعلانًا عن طلوع الفجر، ليتذكر كلّ مخلوق فعلتكم الشنعاء، وأمّا أنتن، أيتها الدجاجات، فالتي ستصيح منكن سوف تذبح. وهكذا صار الحكم الصادر طبيعة في الدجاج. وعلى ما تقدّم وما رُكب في طبيعة الدجاج، فما إنْ ظهر الإنسان، حتى استعبده إلى آخر الزمان.

——-

باسم سليمان

كاتب سوري، يحمل إجازة جامعية في الحقوق من جامعة دمشق، يكتب مقالات نقدية وإبداعية في عديدٍ من المجلات والصحف والجرائد السورية والعربية، ويكتب أيضًا في مجال تغطية النشاط الفني والأدبي، صدرت له كتب إبداعية متنوعة: تمامًا قبلة (قصة)، عن دار كيوان 2009، وطبعة ثانية عن دار سين 2019؛ تشكيل أول (شعر)، دار البيرق –دمشق 2007؛ لم أمسس (شعر)، دار أرواد، طرطوس 2011؛ مخلب الفراشة (شعر)، دار أوراق–دار ديلمون الجديدة، دمشق 2015؛ الببغاء مهرج الغابة (شعر)، دار الروسم، بيروت العراق 2016. وطبعة ثانية عن دار دلمون، دمشق 2021؛ نوكيا (رواية)، دار ليليت في مصر 2014، وطبعة ثانية عن دار سين في دمشق 2018؛ جريمة في مسرح القباني/ الحد والشبهة (رواية)، دار ميم في الجزائر2020. وصدر له كتب فكري بعنوان “الحب عزاؤنا الأخير”، مقالات –دار سين –دمشق 2022.

البيضة والحجر
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 15, 2024 11:05

February 8, 2024

“تشريح السقوط”: الوجه الحقّ للحقيقة في نسبيتها لا مطلقها – باسم سليمان – ضفة ثالثة

في الفيلم الجديد: (تشريح السقوط/Anatomy of a Fall- للمخرجة الفرنسية جوستين تريت التي حازت بموجبه على السعفة الذهبية في مهرجان كان للدورة 76 لعام 2023، وهي ثالث مخرجة تنالها في التاريخ الطويل للمهرجان. ولقد تم ترشيحه لأوسكار أفضل فيلم، ومخرج، وممثلة في أوسكار 2024) تعمّق المخرجة تفكيكها لِمؤسسة الزواج والتي من خلالها تقارب الأدوار الجندرية لكلّ من الذكر والأنثى ضمن بُنى المجتمع، عبر تحليل واقعة سقوط الزوج صموئيل (صموئيل ثيس) من عليّة البيت وموته، فهل كان هذا السقوط  ناتجًا عن انتحار، أم مجرد سقوط ناتج عن زلة قدم، أم أقدمت الزوجة ساندرا (ساندرا هوللر) على قتله؟ يبدأ الفيلم بسقوط كرة صغيرة عبر درج البيت التي يلتقطها الكلب (سنوب) مع موسيقى لشوبان – المقطوعة الرابعة المسماة: (الاختناق)، ومن ثم تنتقل الكاميرا إلى مقابلة صحفية مع ساندرا، فيتّضح لنا بأنّها كاتبة، تستوحي مضامين كتبها من حياتها الشخصية، بعد أن تمزجها بالخيال. تحاول الصحفية استكمال الحوار على الرغم من الموسيقى العالية التي تصدح من العلّية، حيث الزوج صموئيل يعمل على استكمال تجهيز البيت. ترمز الموسيقى الصاخبة لفرقة (50 Cent) لاعتراض الزوج على نشاط زوجته، والأغنية بذاتها تعبّر عن ازدراء تجاه المرأة. هكذا نكتشف العلاقة المتأزّمة بين الزوجين، فكلاهما كاتب؛ أحدهما ناجح والآخر فاشل لم يستطع أن يتقدّم بأي مشروع بدأ به. تنهي ساندرا المقابلة بسبب الموسيقى الصاخبة وتغادر الصحفية، وبذات الوقت يخرج الصبي دانيال(ميلو ماتشادو غرانر)  البالغ من العمر إحدى عشر عامًا، مع كلبه للتنزّه، والذي فقد جزءًا كبيرًا من بصره عندما كان في الرابعة بعد تعرضه لحادث سيارة، وفي ذلك الوقت كان في رعاية أبيه، الذي قصّر بواجبه، فأرسل المربية بدلًا منه لتصطحبه من المدرسة.  بعد عودة دانيال من نزهته يجد أباه ملقًى على الثلج، فيصرخ بأعلى صوته، لأنّ الموسيقى الصاخبة مازالت تصدح، فتهرع إليه ساندرا التي كانت تقضي قيلولة رغم الضجيج الذي كانت تتجنّبه بوضع سدادات للأذنين تمنحانها بعض الهدوء. 

مسرحة الجريمة:

تحضر الشرطة ويتم دراسة واقعة سقوط صموئيل، عبر رمي دمية من العلّية لرؤية كيفية سقوطها، ودراسة بقع الدم المتناثرة، وفحص الجثة للتيقّن من سبب الوفاة، الذي ظهر بأنّه نتيجة لاصطدام الرأس بحافة قاسية. وهكذا بين ليلة وضحاها تصبح ساندرا مشتبهًا بها في مقتل زوجها، ليتحوّل الفيلم إلى أمثاله من أفلام (دراما المحاكم) حيث المرافعات المتضادة بين النائب العام ومحامي ساندرا، وتعارض الأدلة والشهادات، بين ما يؤكّد ضلوع ساندرا بالجريمة وبين ما ينفي عنها التهمة.

يستجوب النائب العام ساندرا، ومن خلال استجوابه تتكشّف العلاقة الشائكة بين الزوجين، فساندرا ألمانية المولد، تتكلم الإنكليزية، وكانت تعيش حياتها الناجحة في بريطانيا قبل أن تنتقل مع الزوج الفرنسي إلى منطقة في جبال الألب بعيدًا عن صخب المدينة، بعد تأزّم وضعه المادي والنفسي إثر الحادثة التي أصابت ابنهما دانيال، لتعيش ساندرا اغترابها اللغوي والمكاني مضحيّة لأجل العائلة، فيما صموئيل قد لجأ إلى طبيب نفسي يشكو من خيانات ساندرا له وعدم اكتراثها بحبسته الكتابية، وأنّها لا تعطي وقتًا كافيًا للعائلة. وفي تسجيل خاص أجراه صموئيل لمشادة كلامية مع ساندرا نكتشف أنّه قد اتهمها بسرقة أفكاره وبخيانته. تدافع ساندرا عن نفسها بأنّها تحبّ صموئيل، لكن كيف لها أن تثبت ذلك، وهي لم تخنه إلّا لحاجتها البيولوجية للجنس، لا للحب! أمّا على صعيد السرقة، فهي استعارت فكرة من أفكار زوجها، التي أهملها، وأبدعت من خلالها كتابًا يتجاوز الثلاثمئة صفحة. إضافة إلى أن صموئيل حاول الانتحار بتناول كميات كبيرة من دواء الأسبرين الذي وجد في قيئه، فلماذا لا يكون سقوطه انتحارًا.

في خضم تلك المرافعات يصرّ دانيال على حضور الجلسات، على الرغم من صغر سنه، لأنّه يريد أن يعرف، هل أنّ أمّه حقًا قد قتلت أباه، أم أنّه انتحر، أم سقط بشكل عفوي؟ فهو لا يستطيع أن يعيش مع تلك الهواجس، فهو يريد الحقيقة بعيدًا عن حكم القضاء. كان دانيال يتعلّم العزف على البيانو، ولكنّه يتدرّب عن طريق الخطأ والصواب بالاستماع إلى المقطوعة، ومن ثمّ مقارنتها مع عزفه، حتى أنّه ذهب لإطعام الكلب حبوب الأسبرين بكثرة ليعرف ما حدث مع أبيه، فلقد وجد كلبه مرة في حالة إعياء شديد في ذات الزمن الذي حاول فيه أبوه الانتحار وخمّن أنّ الكلب أكل القيء المملوء بالأسبرين. وعندما رأى نفس النتائج أدلى بشهادته التي قصّ فيها محادثة جرت مع أبيه وأخبره فيها، بأنّه من الممكن أنّ كلبه سنوب قد يموت، على الرغم من كلّ الحبّ الذي يكنّه له، لذلك عليه أن يكون مستعدًا لذلك اليوم. ما قصده دانيال بذكره لتلك المحادثة، بأنّ والده كان يقصد أنّه من الممكن أن يموت، وعلى دانيال أن يكون قويًا لتحمّل ذلك.

مكر جوستين تريت:   

في لقاء مع الممثلة ساندرا هوللر، أخبرت بأنّها، قد سألت المخرجة تريت عن حقيقة موت صموئيل؛ هل انتحر حقًا، أم أن شخصية ساندرا قتلته؟ لم تجبها المخرجة أبدًا عن هذا السؤال!

لم تذهب تريت في رؤيتها إلى تقديم حقائق للتبرئة أو الإدانة، وكأنّها مع مقولة الفيلسوف السفسطائي بروتاغوراس الذي قال بأنّ: “الإنسان هو مقياس كل شيء”، فلكلّ من شخصيات الفيلم نظرته الخاصّة للحادثة التي وقعت – حتى نحن- والأسباب التي أدّت إليها، فهل كان صموئيل مظلومًا من زوجته، التي انتزعها من بيئتها ولغتها ومحيطها الأدبي الناجحة فيه، إلى عزلة جبال الألب وكآبته، متخليًا عن مشروعه الأدبي، مضافًا إلى ذلك غيرته المبطّنة منها؟ وهل كانت مقاومة ساندرا لذلك، بأنّها استمرت بالكتابة والعيش معه، ولو مع بعض الخيانات، إدانة لها؟ ومن جانب آخر، ألم تكن هي من صمتت على إزعاجات صموئيل، ابتداءً بالموسيقى الصاخبة، إلى الشجارات الكثيرة، وتسجيل ما يحدث بينهم بشكل سرّي، بحيث سمحت له بالتمادي في سحبها إلى منطقته السوداء! أمّا دانيال، فقد غيّر شهادته البدئية، بأنّه قد سمع والديه يتحدثان من دون شجار قبل الحادثة، بعدما أغلق باب البيت وخرج للتنزّه. وعند إعادة تمثيل شهادته لِما حدث، لم يستطع أن يسمع الصوت الآتي من العلية من قبل الممثلين الذين أحضرتهم الشرطة لإعادة تشخيص الواقعة مع وجود الموسيقى الصاخبة، لكنّه سمع ذلك، حين تم إدخاله إلى البيت، فهل بدّل دانيال شهادته من أجل المحافظة على ذكرى جيدة عن علاقة والديه، معلّلًا ذلك بأن الأمور اختلطت عليه! وهل كانت شهادته الحاسمة، عندما سرد المحادثة التي جرت بينه وبين والده عن موت الكلب سنوب من أجل أن لا يخسر كلّ شيء بموت والده وسجن أمّه. ألم يكن النائب العام محقّا، عندما قال بأنّ الأدلة هي ما يعني المحكمة، لا الرؤية الشخصية للمتهمة والشهود، وكأنّه يردّ على مقولة بروتاغوراس، بأنّ المقياس لا يمكن أن يترك لرغبة وإرادة الشخص، وإلّا لدخل المجتمع بالفوضى، فمادامت المتهمة ساندرا تمزج كتابتها بالحقائق والتخييل، ألا نستطيع أن نستند إلى أحد كتبها التي تتحدث فيه عن وقائع جريمة مشابهة لِما حدث! وهنا ترد عليه ساندرا، بأنّ هكذا منحى في الإثبات سيؤدي إلى اعتبار الكاتب ستيفن كينغ المشهور برواياته عن الجرائم قاتلًا متسلسلًا!

تمعن تريت بخلط الحقائق بالتخييل والشبهات بالحدود، والأسئلة بالأجوبة، فسيناريو الفيلم هو نتاج للتعاون بينها وبين زوجها الممثل والمخرج (آرثر هراري) والشخصيات في الفيلم تحتفظ بأسمائها في الواقع كالممثلين: ساندرا هوللر وصموئيل ثيس، مضافًا إلى ذلك أنّ كلًّا من المقتول والمتهمة كاتبان ومن المحتمل أن موت صموئيل الذي حدث بهذا الشكل الغامض نتاج تخييله الذي جعله واقعًا، كذلك ساندرا، حتى أنّنا لم نشهد قراءة الحكم النهائي في القضية من قبل القاضية، بل عبر خبر بثته إحدى المحطات التي تتابع حيثيات المحاكمة، وكأنّنا مع سؤال: من يحدّد صدقية الخبر، هل حكم المحكمة، أم أقوال المتهمة والشهود، أم الدلائل، أم مصلحة دانيال، أم أنّ تريت وهراري كانا يختبران علاقتهما الزوجية من خلال هذا الفيلم؟ إذن الحقيقة غائبة بداية بموت أحد أطرافها، فكيف تتضح؟ لذلك كانت شخصية دانيال ضعيفة البصر تحاول أن تهتدي إلى حلّ ما، إلى تأقلم ما، لا إلى حقيقة مطلقة، فهذا هو ما تستطيعه، وما نستطيعه نحن! لذلك يقول نيتشه: “لا وجود لحقائق بل مجرد تأويلات”.

تشريح السقوط؛ هو الفيلم الثالث الطويل للمخرجة جوستين تريت بعد فيلميها: (فيكتوريا وسبييل) من تمثيل:  ساندرا هولر، سوان أرلوند، ميلو ماتشادو جرانر، أنطوان رينارتز، صموئيل ثيس، وآخرين.

باسم سليمانhttps://diffah.alaraby.co.uk/diffah/secondbank/2024/2/6/%D8%AA%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D8%AD-%D8%A7%D9%D8%B3%D9%D9%D8%B7-%D8%A7%D9%D9%D8%AC%D9-%D8%A7%D9%D8%AD%D9-%D9%D9%D8%AD%D9%D9%8A%D9%D8%A9-%D9%D9%8A-%D9%D8%B3%D8%A8%D9%8A%D8%AA%D9%D8%A7-%D9%D8%A7-%D9%D8%B7%D9%D9%D9%D8%A7

خاصة ضفة ثالثة

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 08, 2024 11:50

January 26, 2024

كيف صنع التعب حضارتنا؟ مقالي في موقع قناة الميادين عن تاريخ التعب – باسم سليمان

وصف أبقراط (التعب) بأنّه: “أقرب الجيران إلى المرض” ومع ذلك كان يعتبر حالة طبيعية يحتاج الإنسان بعدها إلى الراحة، مثلما يعقب النوم اليقظة. لم يأخذ التعب من فكر القدماء كثيرًا، إلّا أنّه في عصرنا أصبح مركزيًا وشاملًا حياة الإنسان كلّها، من هذا المنحى انطلق المؤرِّخ والأنثربولوجي جورج فيغاريلو مسلطًا الضوء على التعب، من خلال سبر تاريخي وفلسفي وأنثروبولوجي وسيكولوجي لظاهرة التعب في تاريخ الإنسان في كتابه: (تاريخ التعب: من العصور الوسطى إلى حاضرنا – الصادر عن دار صفحة سبعة للنشر والترجمة لعام 2023).

إنّ تأملًا في مفهومنا اليومي عن الإنهاك الجسدي والنفسي الذي نعيشه، المجسّد بكلمة: التعب، يبيّن لنا؛ نحن من سعينا إلى إدراك فرادة شخصياتنا وذواتنا المستقلّة، كأنّنا سيزيف وقد توقّف يستبصر العقوبة التي لا يستطيع منها فكاكًا، والتي طبقت عليه من قبل الآلهة بدفع حجر نحو أعلى الجبل، مافتيء يتملّص من ساعديه ليعاود الدحرجة إلى الأسفل؛ بأنّ التعب أصبح جزءًا من طبيعتنا الإنسانية في القرن العشرين والحادي والعشرين، كما كان صفة لسيزيف في الأسطورة. هذا التعب الذي بات يُعبر عنه بكلمات عديدة تكشف لنا أنواعه المختلفة التي يعاني منها إنسان العصر الحديث: (الضغط النفسي- الفتور- الاحتراق الذهني – السقم – العجز – الاكتئاب – القلق…) وكأنّ لفظة التعب باللاتنية /fatigatio التي تعتبر أقدم مصطلح لكلمة التعب بالمعنى التقني والطبي والثقافي؛ نمت وتشعبت لترتبط بصلة حتمية ما بين الصفات والنعوت التي نطلقها على الإنهاك الذي نعيشه حاليًا. لقد ولِد مصطلح التعب ونظّر له في القرون الوسطى، حيث تم لحظه وتصنيفه وتقييمه ونسبه إلى فئات دون فئات. يقول فيغاريلو بأنّ التعب في قلب الكائن البشري، وهو ضعف حتمي في كينونته يجسد نهايته الحتمية على غرار المرض والشيخوخة والموت. فالتعب ينبع من عائق داخلي يمثل النقصان المجبول في طينة الإنسان ومحدودية استطاعته ومن عقبات كأداء خارجية تتبدّى له بالعالم المحيط. فالتعب ليس مرضًا حتى ينتظر شفاؤه، بل أكثر أشكال القصور التي يعاني منها الإنسان ابتذالًا وقد عبّر الروائي والقاص غي دو موباسان في القرن التاسع عشر عن تلك الحتمية في جبلة الإنسان: “وفي الأخير أنهكه التعب الشديد؛ فنام”.

الإنسان كائن التعب:

ينطلق فيغاريلو في رحلته الشيقة المتعبة خلف تاريخ التعب وتجلياته من العصور الوسطى إلى جائحة الكورونا وبذلك يقيم موازنات ومقارنات عن تطور مفهومه، فالتعب الذي يرتبط بالعمل والعامل حاليًا لم يكن ملحوظًا في القرون الوسطى، فلقد كان الفارس المقاتل والحاج إلى الأماكن المقدسة هما من يُلحظ تعبهما، فالفارس يمنح الأوسمة والمراتب والإقطاعات على قدر المجهود والتعب الذي تحمله في الحروب، والحاج ينال الغفران نتيجة لمعاناته من مشاق الطريق ومخاطره في سعيه إلى الأماكن المقدسة، حتى أنّ المجرم كان ينال المغفرة بعد أن يحكم عليه أن يحج إلى أحد القديسين، فبدلًا من الثياب المخططة للسجناء، كان المجرم يرتدي قبعة ويحمل عصا وينطلق مشيًا في سعيه إلى التكفير عبر التعب. هذه النظرة المخصصة إلى التعب كانت تتعاضد مع رؤية الطب في تلك الأزمنة إلى جذور التعب والناتج عن فقدان السوائل من الجسم، حيث يصبح التعرّق خطرًا ونزيف الدم مرعبًا، وإن كان من أنف أحدهم بعد مطاردة طيور الحجل، فهو دلالة على نقصان السوائل في الجسم، وإشارة إلى أنّ التعب قد نال من الجسد، مثلما حدث مع الدوق دو بيري. لم يلحظ التاريخ معاناة الفلاحين والعمال والعبيد وركّز على الدوق دو بيري! ممّا يُظهر لنا كم كان مفهوم التعب الذي نعرفه حاليًا من العضلي إلى الذهني مغمضًا لارتباطه ببنيات المجتمع الفكرية، فإن لم تشرعنه هذه المنظومات الفكرية وتلحظه فهو سيظل غائبًا على الرغم من وجوده الصارخ، فعندما توّج الاتحاد السوفييتي سابقًا العامل (أليكسي ستخانوف) كأحسن عامل، لاستخراجه مئة طن من الفحم في ليلة واحدة من دون أن يتعب؛ كان هذا الفكر يمدح الفكر الشيوعي لا جهد العامل، الذي كان من الممكن عدم رؤية تعبه لو كان في منظومة سياسية أخرى. لقد كان ارتباط التعب بالفكر الديني في العصور الوسطى هو ما جعل الفارس في الحروب الصليبية ممدوحًا لتعبه ومثمنًا له. ولا يفرق عنه الحاج والمجرم في رحلتهما لنيل الغفران. ومن جهة أخرى كان هذا الفكر يهمل التعب في الطبقات الفقيرة ويضاء عليه عند الطبقات الغنيّة وعلية القوم.

عبر هذه المقارنة نجد أنّ التعب الملحوظ كان نظرة مرتبطة بالديني والمجتمعي إلى جانب الطبي، فلقد نصح أطباء ذلك العصر المتعبين أن يكثروا من شرب الماء والمرطبات لتعويض فقد السوائل، حتى درجت في الأدبيات كلمة: (الانتعاش) دليلًا على الراحة بعد التعب. هكذا نجد الطبيب قسطنطين الأفريقي في القرن الحادي عشر استنادًا لنظرية السوائل في الجسم ينصح أحد مرضاه: “عليك تجنب الأعباء الثقيلة والعزوف عنها لأنّ القلق المفرط يجفّف أجسادنا” 

تنوّع فهم التعب مع بداية النهضة الأوروبية وتزايد الفضول الفكري حوله وقسم جندريًا، فالرجال هم من يخضعون للتدقيق فيما يتعلّق بمظهرهم الجسدي لمعرفة مدى ملاءمتهم وتحمّلهم لأنواع معينة من العمل كأن يصبحوا جنودًا.  وبدأت ملاحظة آثار التعب على العقل بسبب المجهود الفكري، مع أنّ مظاهر التعب الفكري لم تكن قد حدّدت بعد كما في قرننا الحالي، لكن بدأ الحديث عن السأم من عمل ما، مايمكن اعتباره أول دليل على الاعتراف بالجانب النفسي للتعب. ومع البدء في قياس الوقت والمسافة بشكل أكثر دقة للمسافرين والعمال، بدأت الخلافات تنشأ حول مقدار العمل الذي يُطلب من العمال القيام به أيضًا. على الرغم من استمرار الاعتقاد بأنّ السبب الرئيسي للإرهاق هو عدم توازن السوائل الجسدية، فقد بدأ تطوير تفسيرات أكثر تحديدًا وبدأ إيلاء المزيد من الاهتمام للعلامات التحذيرية الدقيقة للإرهاق، حتى مع بقاء طرق العلاج مماثلة لتلك الموجودة في العصور الوسطى. فلم يبدأ الاعتراف بالفقر كجذر للتعب حتى أواخر القرن السابع عشر، وهذا لا يعني أنّ وضع الفقراء كان يتحسّن. كان لا يزال يُعتقد أنّ الفقر مستوطن في المناخ والجغرافيا والعجز ولا دخل للبنى الاجتماعية التي بناها البشر فيه.

 التعب وعصر التنوير:

جلب القرن الثامن عشر مزيدًا من التركيز على المشاعر بسبب فكر التنوير، وسعيًا للتغلب على التعب بطريقة لا تتعلق بالدين.وتم التعرف على المزيد من مصادر التعب، وبالتالي، أصبح التعب أكثر شخصية. لم يعد الضعف علامة على سقوط البشرية، بل أصبح تجربة إنسانية حقيقية بدأت تدفع الناس إلى الاهتمام بتجاربهم الشخصية، هكذا امتلأت رسائل نابليون لجوزفين بكلمة التعب. بدأ العلماء بفحص الهشاشة الوجودية للإنسان عن كثب، لكن لم يكن هناك حتى الآن أي دليل على أنّ الضائقة النفسية تلعب دورًا في التعب. ومع ذلك، أصبح مفهوم الإرهاق أكثر شخصية، وبدأ الناس في إيلاء المزيد من الاهتمام لتجاربهم الخاصة بالإضافة إلى ما يمليه المجتمع، مما مهد الطريق للوعي بالبعد النفسي للإرهاق. حيث بدأ العلماء في تصنيف التعب على أنّه فقدان النشاط جسديًا كان أو نفسيًا.

دفعت دراسة التعب إلى تحليل العمل كأحد مصادر التعب، فلقد كان عصر التنوير يهدف إلى زيادة الكفاءة وتنظيمها مع احترام حدود جسم الإنسان. وبدأ العمال في عدد لا يحصى من المجالات في التمرّد ضد الرتابة الآلية الخالية من الروح في وظائفهم، الأمر الذي أدّى إلى تغيير في فهم التعب، عند أرباب العمل. أمّا طبيًا فقد انتقلت العلاجات إلى تقوية ألياف الجسم؛ أصبحت الكهرباء وسيلة شائعة للقيام بذلك، كما كانت التمارين الرياضية التي تعمل على بناء القدرة على التحمل إحدى الوسائل لدفع التعب.

في القرن التاسع عشر انتقلت الدراسات وتصنيفات التعب، إلى الاعتراف بالحرمان واليأس كمصادر للتعب، ممّا دعا إلى البحث عن ظروف عمل أفضل وساعات عمل أقصر. حيث أصبح الشعور بالتعب بمثابة علامة على مشاركة الفرد في رفاه مجتمعه، بالإضافة إلى محاولته تحسين مكانته في الحياة. ومع ذلك ظل الجانب الأكبر من التعب ينظر إليه جسديًا، حيث تم الانتقال طبيًا إلى الرئتين اللتين تعتبران مزوّد الجسد بالطاقة، فأصبح انتقاء العمال والجنود حسب الصدر العريض وعظام الترقوة القوية فهما يعتبران علامات على القدرة على العمل وتحمّل التعب.

التعب والإرهاق العقلي:

تسلل العنصر النفسي من التعب إلى الفهم العام، وخاصة بعد تطبيق أسلوب الحزام الناقل من قبل  فورد في إنتاج السيارة. فقد خفض ساعات العمل من أكثر من 9 ساعات إلى حوالي 6 ساعات فقط في ستة أشهر؛ ومع ذلك، ارتفعت شكاوى العمال من أنّهم فقدوا القدرة على التفكير بأنفسهم. احتلت الصحة النفسية مساحة كبيرة في الثقافة مطلع القرن العشرين، لكنّها لم تصل إلى عالم العمل.

ومع ذلك، فإنّ التركيز المتزايد على التجربة الفردية أفسح المجال لفهم منحيين للتعب: الجانب الجسدي والجانب العقلي؛ وذلك أدّى إلى الاهتمام بالمشاعر عند النظر في التعب. بدأ الفكر في تضمين المفاهيم العقلية/العاطفية للإرهاق، وأصبحت فكرة أنّ الإرهاق يمكن أن يحدث بسبب الكثير من التطوّر، فمع تزايد الهوس بالسرعة في نهاية القرن التاسع عشر أصبح القلق بشأن الحمل الزائد للأخبار، مدار شكوى من الصحفيين، فلم يعد بإمكانهم الراحة ولكن عليهم أن يكونوا مستعدين في أي لحظة. حتى الرئيس الأمريكي  روزفلت اعترف بعبء الاضطرار إلى البقاء متيقظًا دومًا في كتابه: “الحياة الشاقة”.

لم يوفّر التعب حتى التعليم، لدرجة أنّ أحد المعلّقين الاجتماعيين اشتكى من أنّ الأطفال لديهم يوم عمل أطول من البالغين، وكان يعتقد أنّ الإفراط في العمل يتلف الجسد، والزيادة في التعليم ستؤدي إلى إتلاف دماغ الطفل. ونتيجة لذلك أخذت تأثيرات الصحة البدنية والعقلية تجد لها موضع قدم في مكان العمل والتعليم، لكن أرباب العمل أصرّوا على أنّ الإرهاق يتراجع بشكل مطرد حتى عندما أنكر العمال ذلك، وهو ما يدعوه فيغاريلو بالتناقض المركزي للمجتمع الحديث. شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر مولد المواد المصنعة كعلاجات للتعب. ولقد تم اكتشاف الكوكايين في عام 1855 ووصفه الأطباء على نطاق واسع بعد عام 1880. واعتقد الكثيرون أنّ احتساء كوكتيل من الكوكايين والنبيذ مع كلّ وجبة من شأنه أن يعيد أنماط النوم الصحية، ويزيد الإنتاجية، ويقضي بشكل شبه كامل على مشاعر الإرهاق والعجز المؤلمة الناجمة عن الوهن العصبي. وفي إطار السعي لاستعادة الحيوية، بدأ أيضًا استخدام مركبات أخرى، مثل مسحوق الأفيون وأنواع مختلفة من المخدرات، على نطاق واسع كعلاج للتعب العقلي والجسدي. وكان العلاج الرئيسي هو اقتراح إمكانية التغلب على التعب بقوة الإرادة.

ظهر في القرن العشرين رؤية أخرى للتعب إضافة إلى ما سبق إذ أصبح يُنظر إلى التعب على أنه ينشأ من العقبات التي تحول دون تحقيق الذات وكل مصدر عام للاستنزاف الجسدي والعقلي. أنتجت الحرب العالمية الأولى مستويات غير مسبوقة من التعب في العالم وجعلته مشكلة ملحّة، وكانت المرة الأولى التي أعطى فيها الباحثون وزنًا متساويًا بين ما تم الشعور به وما لُوحظ. ومنذ ذلك الحين، حصل التعب على مكانه في عالم علم النفس.

خلال الفترة ما بين الحربين العالميتين، اكتشف الباحثون أنّ العمال شعروا بالهزيمة والاكتئاب بسبب الكساد. وضاعف تلك المشاعر التقدّم التكنولوجي مما أدى إلى خلق المزيد من أنواع التعب بدلاً من الراحة للعمال. وقد نبّه علم النفس المهني، بأنّ الحلول النفسية هي العلاجات الأكثر جدوى، فعندما درس الباحثون آثار الحرب العالمية الأولى، رأوا أنّ سبب الإرهاق هو أسلوب الحياة الحديث وليس المجهود البدني. فأصبحت العلاقة بين الجسدي والعقلي متبادلة، مما دفع الرياضيين والمفكرين إلى العسكريين (بما في ذلك قوى المحور والحلفاء)، إلى استخدام الأمفيتايين وغيره من المركبات الكيميائية لمقاومة التعب.

حقّق المجتمع بعد الحرب العالمية الثانية تطورات للتخفيف من تعب العمال،  كخطط التقاعد والإصلاحات الشاملة لأماكن العمل، والتي ركّزت بشكل أكبر على الصحة البدنية والعقلية للعمال أكثر من التركيز على الإنتاجية. كان الهدف تصميم مكان عمل مريح للعمال وتخفيف المجهود الذي يحتاج العامل إلى القيام به. ومع ذلك تغلغل الإرهاق بشكل عام في المجتمع، والذي أثاره الشعور المتجدّد بالتقدم المجتمعي نحو المدينة الفاضلة، ولكنه ظهر بشكل مختلف اعتمادًا على الوضع الاجتماعي: بالنسبة للبعض، كان ذلك فراغًا لا يمكن ملؤه؛ وبالنسبة للبعض الآخر، كان ذلك بمثابة السعي لتحقيق شيء أفضل؛ فيما كان ذلك لآخرين شعورًا غامرًا بالهزيمة.

ظلّ السؤال متواجدًا بقوة في مفهوم التعب؛ لماذا شعر الناس بالفراغ الوجودي مع كل تلك التطورات؛ من تحديد أوقات العمل والإجازات والرعاية الصحية. كانت إحدى الإجابات هي أنّ الناس كانوا يضعون أهدافًا غير قابلة للتحقيق، ولكن الواقع كان يشير إلى أن ظروف العمل،  من انتقال مراكز الشركات خارج البلاد، والزيادة في الوظائف المؤقتة غير الدائمة، والعدد الذي لا يحصى من سياسات الشركة والمبادئ التوجيهية التي تفتقر إلى طريقة واضحة للمتابعة كانت كلّها أسبابًا لزيادة التعب. فمع انتشار تقنيات المراقبة الرقمية على العمال ارتفعت مستويات الضغط النفسي. وفي إحصاء جرى عام 2017، كانت كلمة (الضغط النفسي) هي الخيار الأول لـ 78% من العاملين عندما يُطلب منهم وصف علاقتهم بعملهم.

لقد كان التعب في خلفية الصورة عندما بدأ فيغاريلو كتابه، لكن مع تقدّمه في الزمن نحو عصرنا الحالي، غدا التعب في واجهة الصورة، ولن يُهزم أبدًا، فارضًا وجوده الأبدي على حياتنا. لذلك يجب أن نقرأ تاريخ التعب، للنظر في كيفية تشكيل التعب لقصصنا الفردية وكذلك تاريخنا البشري.

باسم سليمان

https://www.almayadeen.net/arts-culture/%D9%D9%8A%D9-%D8%B5%D9%D8%B9-%D8%A7%D9%D8%AA%D8%B9%D8%A8-%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D8%AA%D9%D8%A7

خاص الميادين

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 26, 2024 09:35

“قِناع بلون السماء”: أقنعة الروائي الأسير باسم خندقجي – مقالي في ضفة ثالثة – باسم سليمان

باسم سليمان26 يناير 2024

بدءًا من الرسوم الموجودة في كهف لاسكو الفرنسي، حيث رسم الإنسان القديم الحيوانات التي سيصطادها، متقنّعًا بالفنّ والسحر حتى يسيطر عليها، إلى القناع على المسرح الإغريقي الذي كان الممثّل يرتديه لينتقل من شخصية إلى أخرى، أصبحت تقنية القناع ثيمة مهمة في الآداب؛ لأنّ التخييل هو القناع الذي نفرّ عبره من الواقع، وفي الوقت نفسه نواجهه إلى أن نفصح عن شخصيتنا الحقيقية في النهاية. لاريب أنّ مقولة ابن خلدون بتقليد المغلوب للغالب هي تقنّع سلبي، وهذا ما سيبينه نور مهدي الشهدي عبر لعبة لغوية للدلالة المخفية لكلمة القناع بالإنكليزية: Mask)) التي تلفظ بالعبرية (مسخا) وبالعربية (مسخ) المشوّه الملامح، لكنّ نور لبس وجه الإسرائيلي الأشكنازي أور شابيرا!

إنّ طموح الأدب أن يكون أكثر إبداعًا من الواقع! ومن هذه الرؤية سنقترب من رواية: (قناع بلون السماء، للروائي الفلسطيني باسم خندقجي، والصادرة عن دار الآداب لعام 2023 والتي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة البوكر لعام 2024). عندما يمرض الواقع يُشفى بالتخييل؛ هذا كان لسان حال نور في جداله مع صديقه مراد الذي حُكم عليه يالسجن بعد أن قبض عليه من قبل قوات الاحتلال الاسرائيلي لاتهامه بمحاولة إطلاق النار على الجنود الإسرائيليين. كان مراد يعيب على نور الانشغال بأسطورة مريم المجدلية، كونه خريج المعهد العالي للآثار الإسلامية التابع لجامعة القدس، وتخلّيه بموجب مؤهّلاته عن الاشتباك فكريًا مع أفكار الكولونيالية الصهيونية، أو حتى دعم أهالي حي الشيخ جرّاح في القدس بإثبات ملكيتهم للبيوت في مواجهة سعي الصهاينة لتهويده، مادام يملك العلم ذاته الذي زوّرت به الصهيونية التاريخ لتثبت حقّ تواجدها في فلسطين، فالأولى به أن يستخدمه لينقض إدعاءاتها.    

قناع نور:                                                                                            من هذه المشهدية الحوارية الجدلية التي تجري بين نور ومراد، لكن من طرف واحد، ينشئ خندقجي روايته، فنور بعد اعتقال صديقه مراد أصبح وحيدًا، فيخاطبه عبر تسجيلات يودعها ذاكرة موبايله، مستكملًا حواراتهما السابقة قبل الاعتقال ومتممًا مرافعته لإقناع صديقه مراد بأنّ معركة التفاصيل لا تقل أهمية عن معركة المبادئ التي جهّز مراد نفسه لها بدراسة العلوم السياسية ونيله الماجستير في الدراسات الإسرائيلية في كلية الدراسات العليا التابعة لجامعة القدس على الرغم من سجنه، ليدحض افتراءات الصهيونية الفكرية. اختبر مراد بعد سجنه تلك الكثافة الضاغطة على الكينونة التي عاشها محمود درويش إبّان سجنه وكتب بموجبها قصيدته: (أحنّ إلى خبز أمي) من أجل أن لا تعدم قوى الكينونة لديه، كما قال مراد، فالسجن يُجهض فعل المقاومة، ولذلك لجأ الكثير من الأسرى الفلسطينيين للامتناع عن الطعام احتجاجًا ومقاومة للعدمية الوجودية التي فرضها عليهم الاحتلال بسجنهم، فبهذه الطريقة يؤكّدون له قصور عنجهيته عن إرادة المقاومة. لم يذهب مراد إلى ذلك، بل رأى بالاشتباك الفكري وتفكيك أسس الكولونيالية الصهيونية عبر دراستها ومجابهتها بأدواتها ذاتها، خيارًا مازال متاحًا، مثلما فعل الفلسطيني إدوارد سعيد. وكان مراد يريد لنور الذي يعيش خارج قضبان السجن أن يدخر جهده ووقته من أجل هذه المهمة، لا أن ينخرط في سعي خلّبي بحثًا عن تلك المجدلية التي استبعدها التاريخ الرسمي للكنيسة من سرديته، إلّا في شذرات معدودة. مع أنّ مراد هو من أوقد جذوة المجدلية في صدر نور بعد أن طلب منه أن يحضر له إلى السجن كتابين: (شيفرة دافنشي لدان براون- والدم المقدس والكأس المقدسة، لميشيل بيجنت) لكنّ نور كان يكرّر لصديقه المولع بحرب المبادئ والأسس، بأنّ التفاصيل المهملة والتي قد لا تعني شيئًا لحاضر يستعر بنار الاحتلال، يمكن لها أن تساهم في إطفاء تلك النار الجهنمية. لقد كانت وجهة نظر نور بأنّ خارج السجن هناك كثافة ضاغطة تشظي الوجود نهائيًا، ويتمنّى أن يكون سجينًا ليخفّف من عبئها، فهو ابن اللد اللاجئ في مخيم رام الله. وهو ابن مناضل انقلب على ذاته بعد خروجه من السجن وتوقيعه على ورقة يمتنع بموجبها عن الأعمال النضالية التي تُسمى إرهابية من قبل سلطة الاحتلال وفق اتفاقها مع السلطة الفلسطينية بعد إتفاق أوسلو، والذي صدم أكثر بعد خروجه ورؤية رفاق الدرب يستغلّون المناصب التي منحت لهم من قبل السلطة الفلسطينية، فأصبح بائع شاي وقهوة على عربة من خشب معيدًا ذكرى مقهى والده، الذي امتلكته عائلته قبل النكبة الفلسطينية عام 1948.  فيما نور أصبح عجيًا منذ لحظة ولادته، فقد ماتت أمّه بعد ولادته مباشرة وهو الملقّب بــ(السكناجي – تعريب لكلمة: الأشكنازي) من قبل أطفال الحي، لأنّ ملامحه أوروبية، وهو من كان يعمل ليؤمن مصاريف دراسته، فأبوه قد رفض محاولة السلطة الفلسطينية تبييض صفحتها بعد أن تخلّت عنه وذلك بمنح ابنه معونة دراسية. لقد شعر نور بأنّه لقيط؛ لا أم له ولا أب، ولولا حادثة صغيرة تجلّت بأن قام بقص شعره الأشقر ليوقف تنمّر رفاقه عليه وذهاب أبيه إلى المدرسة مهددًا، لمَا شعر بتلك الأبوة أبدًا، لذلك كان نور يؤكّد لمراد بأنّ سجن الخارج أشدّ وطأة من السجن الذي يعانيه مراد، فمعادلته واضحة: سجن سجّان سجين، أمّا في الخارج فقد استولت المجاهيل على طرفي المعادلة، ممّا يجعلها مستحيلة الحل. لقد كسر أبوه البوصلة، فأصبح بلا وجه، ومن كان بلا وجه يسعى لقناع يستر به فقدانه للملامح.

يعاني نور تهميشًا متعدّد الجوانب، بدءًا من الأسرة إلى مجتمعه الفلسطيني، مرورًا بمنعه من الحصول على تصريح العمل كونه أحد أبناء المناضلين، لذلك كان يعمل متخفيًا، فإن قبض عليه أودع السجن. وعندما طلب منه مراد أن يحضر له رواية دان براون اطلع عليها، فاكتشف تلك المرأة التي سكبت عطر الناردين على قدمي المسيح ووقفت تحت صليبه وكانت أول من ظهر لها بعد قيامته من الموت ومع ذلك أهملتها المنظومة الذكورية لتلاميذ المسيح، ومن بعدها الكنيسة، فهل رأى فيها شبهًا له؟ وخاصة، أنّ المجدلية كانت محور العديد  من الأناجيل غير الرسمية والكتابة الأبوكريفية (المنحولة) الغنوصية! فهل يشبه وجود نور وجود المجدلية، لذلك كان سعيه لكشف حقيقتها التاريخية مطلبًا شخصيًا في الوقت نفسه؟

لم تفض دراساته المكثّفة وبحوثه المضنية في سعيه لإثبات تاريخية مريم المجدلية إلى نتيجة، فالأدلة والأحفوريات التي وجدها لا ترتقي لإقامة دراسة علمية محكّمة عن وجود المجدلية، ممّا دفعه ليحوّل هذه الجهود إلى رواية، إلى خيال لا يعكس الواقع كما هو التعريف النمطي للأدب، بل يذهب وفق رؤية أدونيس، بأنّ القصيدة تزيد من سعة الأرض والرواية قادرة على إعادة فتح خزائن التاريخ عبر مساءلة حقائق التاريخ القارة وأساطيره المشتهاة وخرافاته اللاشعورية، أليس التاريخ خيالًا معقلنًا، كما قال نور.

قناع الروائي:

لا يخفي نور منهجه في كيفية الاشتغال على روايته المفترضة، بل يناقش تخييله لإيجاد المبرّرات العقلية والسببية والوثائقية التي سيزود بها بطل روايته (نسيم شاكر) المختص بالآثار وفق ما فعل دان بروان في روايته (شيفرة دافنشي)، مع أنّه يرى أنّ بروان قد سرق المجدلية من فلسطين إلى أوروبا. ومع ذلك كان يقصي بعض الأدلة المبهمة ويثبت البعض الآخر؛ من أناجيل نجع حمادي المنحولة غير المعترف بها من قبل الكنيسة، إلى الدراسات التاريخية التي وضعت عن حياة المسيح. وملاحظًا بأنّ تلك العلاقة المتوترة بين بطرس أهم تلامذة المسيح والمجدلية، ساهمت بشكل كبير في طمس حياة تلك الأنثى التي كانت أول من رأت المسيح بعد قيامته من الموت ووقفت تحت صليبه، بينما أنكره بطرس ثلاث مرات. وكأنّ نور بهذا الأسلوب يعالج واقعه، فما الذي سيقبله منه وما الذي سيرفضه؟ لكنّه ظلّ في متاهته لا يستطيع الفرار منها إلى أن أتته الفرصة المواتية، فلقد اشترى من سوق البالة معطفًا وجد فيه بطاقة شخصية زرقاء لإسرائيلي أشكنازي يُدعي أور شابيرا! ومعنى أور في العربية النور وفي الوقت نفسه تومئ إلى موطن النبي إبراهيم الذي اشتجرت منه الديانات السماوية الثلاثة. وهذه البطاقة الشخصية إن لبس نور ملامحها، فسيمتلك الفرصة الذهبية ليبني هيكل روايته على أرض الواقع، وخاصة أنّ دراسته كانت عن ثورة باركوخبا اليهودية التي قمعها الرومان ما بين عامي 132- 136 ميلادي. وعندما رأى إعلان معهد أولبرايت للأبحاث الأثرية نيته افتتاح موسم التنقيب الثاني عن معسكر الفيلق الروماني السادس قرب موقع مجدو الأثري (وادي اللجون) في شمال فلسطين قرب سهل مرج ابن عامر، وهو المعروف باسم هرمجدون، حيث ستقوم المعركة النهائية بين الخير والشر بعودة المسيح للاقتصاص من أعدائه. خرج نور من متاهته بعد أن رأى في قرية مجدلة، التي تعود إليها مريم المجدلية الواقعة على الشاطئ الغربي لبحيرة طبريا واقعًا يستطيع أن يخصبه بتخيلاته.

قناع أور شابيرا:

ذهب نور ببطاقته الشخصية الجديدة إلى القدس والتي كانت على وشك الاشتعال احتجاجًا على محاولات الصهاينة تهويد حي الشيخ جرّاح وهناك يلتقي بصديقه المغربي الأصل الصوفي الشيخ مرسي، الذي يؤمن له سيرة عمل باسم نور شابيرا. يلتحق نور – عفوًا – أور شابيرا بمجموعة التنقيب بقيادة البرفسور بريان حيث تعجب به فتاة إسرائيلية تدعى أيالا من اليهود المزراحيم/ الشرقيين تعود أصولها إلى حلب وفي خضم تعريف أعضاء البعثة بأسمائهم يتفاجئ نور بصوت أنثوي يعلن عن نفسه: سماء إسماعيل فلسطينية من حيفا من عرب 1948. كاد نور أن يخلع قناع أور شابيرا بعد رؤيته سماء، لكنّه تمالك نفسه، فالبحث عن معطيات تدعم روايته عن المجدلية أوقف تعريه. كان على أعضاء البعثة أن يلتقوا في كيبوتس/ مستوطنة مشمار هعيميق، التي أقيمت على قرية أبو شوشة، حيث زرعوا غابة من أجل طمس معالم القرية.

يدخل نور مستوطنة مشمار هعيمق رافضًا اسم كيبوتس لها مستبدلًا إياه بمصطلح المستوطنة، مستذكرًا ما علّمه إياه مراد عن الفرق بين المصطلحين، فالمستوطنة تشير إلى الاحتلال، أمّا الكيبوتس فخضوع وقبول به. وعلى حاجزها الأمني يبرز البطاقة الشخصية لأور فيدقّق الحارس فيها، ولكنّ قدوم أيالا بسيارتها ينقذه حيث تخبر الحارس أن أور منهم. هكذا يلج نور إلى أرض تخييله. تبدأ الحفريات ويزداد تقرّب أيالا منه ومع ذلك كانت تتهمه بأنّه أشكنازي ينظر إليها نظرة دونية كونها من اليهود الشرقيين. يحاول نور التهرب منها والتقرّب من تلك السماء التي ما فتئت تعلن عن هويتها الفلسطينية، محاولة أن تشرح لأعضاء البعثة الأوروبيين بأنّ المنطقة كانت قرى فلسطينية زوّر الاحتلال تاريخها.

كان سهل مجدو مسرحًا لحروب كثيرة وهناك هزم الجيش العربي عام 1948 أمام العصابات الإسرائيلية، وفي الوقت نفسه وجد فيها نور أرضًا صالحة لتخيله، فبعد ثورة باركوخبا اليهودية التي شتتها الرومان تهرب عائلة سمعان الأعرج تلميذ المجدلية من القدس إلى قرية مجدلة ومعهم صندوق مقدس، فيه عطر الناردين وجدائلها، ويقومون بدفنه بإحدى الآبار ليظل قابعًا في الظلمة إلى أن يأتي المسيح في آخر الزمان فيحيي المجدلية. وفي خضم الصراع بين الواقع والتخييل ترتفع نبرة الجدل بين نور وقناعه لينتهي، بأن يقول القناع لنور: إذا اعتبرتك إنسانًا، سأختفي أنا في المقابل. ينقذ حضور سماء نور من سيطرة القناع عليه، فيحاول إفهامها بأنّه فلسطيني من اللد، وما القناع الذي يرتديه ممثلًا بشخصية أور شابيرا، إلّا لمقتضيات اشتغاله على رواية ترصد حياة المجدلية، فتجاوبه سماء بأنّه أحد رجالات المخابرات، فما الذي يريده منها إلى أن تقول له: بأنّ تلك البطاقة الشخصية الزرقاء هي كابوسها الذي سعت للتخلص منه طوال حياتها، بينما أنت، يا نور سعيت إليها، فأي فصام في الشخصية تعيشه! يحلم نور في الليل بأنّه دخل غابة أبو شوشة ووجد البئر، فيهبط إلى داخله وفي ممر سري ينفتح على غرفة مضيئة يجد المجدلية جالسة يشع من وجهها النور، لكنّه كان وجه سماء! يُعلن عن انتهاء الحفريات وإقفال موسم التنقيب، لأنّ حماس قد هدّدت بقصف المنطقة إذا خرجت المظاهرات الإسرائيلية في القدس. يغادر الجميع وعلى محرس المستوطنة يخبر رجل الأمن أور بضرورة تغيير بطاقته الزرقاء القديمة إلى أخرى جديدة، فيجيبه، بأنّ من يدخل التاريخ ينسى الحاضر! يغادر نور المستوطنة يتنازعه شعور بين الخيبة والرجاء، فتقف قربه سيارة يتبيّن له بأنّ راكبها هو سماء وقبل أن يستقلّها ينزع قلادته ذات النجمة السداسية ويمزّق بطاقته الزرقاء ويعيد برمجة لغة موبايله من العبرية إلى العربية، قائلًا لسماء:”أنت هويتي ومآلي”.

قِناع مراد:

قبل الدخول في تحليل قناع مراد، لا بدّ من إيراد بعض المعلومات عن الروائي باسم خندقجي، فهو من مواليد نابلس في العام 1983، اعتُقِل من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلية في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 2004، وقد كان في سنته الجامعية الأخيرة في جامعة النجاح الوطنية في قسم الصحافة والإعلام. حُكم عليه في 7 أيلول 2005 بثلاثة مؤبّدات. بدأ حياته الأدبية في السجن بمقالات جمعها في كتاب: “مسودات عاشق وطن”، ومن ثم: “وهكذا تحتضر الإنسانية” عن تجربة الأسير الفلسطيني في سجون الاحتلال، وله في الشعر مجموعة “طرق على جدران المكان” و”شبق الورد إكليل العدم”، ليتجه إلى الرواية، بدءاً من روايته: “مسك الكفاية: سيرة سيدة الظلال الحرّة”، و”نرجس العزلة” التي دشّن إطلاقها فعاليات ملتقى فلسطين الأول للرواية العربية في العام 2017، فرواية “خسوف بدر الدين”، إلى رواية: “قناع بلون السماء” التي نقاربها الآن.

بعد أكثر من سبعين سنة على النكبة والفلسطيني لا يُرى إلّا كفدائيّ أو نازح أو أسير أو شهيد. وما أراده خندقجي من سرديته الروائية ليس الاشتباك مع أسس الاحتلال فقط عبر تعرية وحشيته، بل مع حياة الفلسطيني الذي يعاني كغيره من البشر من مشاكل عائلية وخيبات وجودية وسطوة تقليد المغلوب للغالب. ومن هذه النقاط كان الجدل الإيجابي بين نور ومراد، بين الرؤية المثالية التي قيدنا بها الفلسطيني وبين رؤيته على أرض الواقع، وكأنّ خندقجي بارتدائه قناعي نور ومراد يعيد مقولة محمود درويش: “أنقذونا من هذا الحب” بعد أن طلب منه إعادة قصيدة: “سجل أنا عربي” في إحدى المهرجانات الشعرية، فهناك تفاصيل أخرى يحياها الفلسطيني من الضرورة تسليط الضوء عليها، فكما ذهبت الصهيونية العالمية باستغلال المحرقة النازية ليس فقط، بخطوطها الكبرى، وإنّما عبر تفاصيلها الصغيرة، لابدّ للفلسطيني أن يُري العالم تلك التفاصيل، فالمقاومة لا تنحصر بالبندقية والكلمة الأكاديمية، وإنّما مضاف إليها؛ صياح أبي نور على مشروباته، فهو مقاومة أيضًا، وإن تبدّت كهزيمة لسيرة مناضل. إنّ حصر النكبة بذكرى من دون تسليط الضوء على أنّها حالة يومية في حياة الفلسطينيين، سيحولها إلى شعار فارغ؛ وهذا ما كان نور يقوله لمراد، بأنّ الاحتفال السنوي بذكرى النكبة يعني ضمنًا، بأنّها انقضت مع أنّها معاشة في كل لحظة يعيشها الفلسطيني.

لم يكن لجوء خندقجي لتقنية الأقنعة لرفاهية تخيلية، بل لأنّ الفلسطيني يعيشها بشكل يومي ما بين مراد ونور وأور، فهو في احتكاك دائم مع المحتل؛ مرة مقاومًا، وأخرى مهادنًا، وأحيانًا متشبهًا، وكثيرًا كإنسان عادي أخذته ضرورات الحياة. إنّ الفلسطيني أشبه بالمجدلية، فعلى الرغم من أنّها لم تجزع لحظة الصلب، ولم تهرب كبقية التلاميذ عندما ضُرب الراعي، إلّا أنّ التاريخ الرسمي يهملها! ومن هذه النقطة جاءت فكرة خندقجي لاستحضارها في مخيال الرواية وما رؤية نور للمجدلية بوجه سماء، إلّا للقول بأنّ عرب فلسطين عام 1948 على الرغم من جنسيتهم الإسرائيلية فإنّهم لا يقلّون فلسطينية عن فلسطيني الضفة وغزة. وما اختيار زمن الرواية وانتهاء عمليات التنقيب بقصف حماس بالصواريخ للمستوطنات الإسرائيلية، إلّا للقول، بأنّ خيارات الفلسطيني تتسع من المجابهة الأكاديمية إلى الرصاصة والتخييل، فالشعوب لا تنجو من دون سردية خيالية تدعم سرديتها التاريخية.  

إنّ رواية: (قناع بلون السماء) مليئة بالتفاصيل والإشارات والرموز التي تفسّر وتؤول بالكثير من الدلالات، حيث نجد مقولة: بأنّ الأدب يطمح لأن يكون أكثر إبداعًا من الواقع؛ متواجدة بقوة في هذه الرواية. وفي الختام ما الذي سيتغيّر في الرواية، لو كان الأسير الروائي باسم خندقجي قد كتب روايته فيما بعد السابع من تشرين الأول 2023، هل كان اسم نور مهدي الشهدي الذي لبس قناع أور شابيرا في قائمة المقاومين الشهداء! سيُترك الجواب للقرّاء، لأنّ الرواية تستحق القراءة، وهي إضافة مهمة جدًا للإبداع الفلسطيني.  

باسم سليمان

https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/books/2024/1/26/%D9%D9%D8%A7%D8%B9-%D8%A8%D9%D9%D9-%D8%A7%D9%D8%B3%D9%D8%A7%D8%A1-%D8%A3%D9%D9%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%D8%B1%D9%D8%A7%D8%A6%D9%8A-%D8%A7%D9%D8%A3%D8%B3%D9%8A%D8%B1-%D8%A8%D8%A7%D8%B3%D9-%D8%AE%D9%D8%AF%D9%D8%AC%D9%8A

خاصة ضفة ثالثة

 

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 26, 2024 09:32

January 8, 2024

قصائد هايكو في فيلم الأيام العظيمة لفيندرز

               باسم سليمان

مقالي في الصباح العدد 5849 يوم الاثنين 8 كانون ثاتي 2024

كيف يمكن الحصول على السعادة من الأشياء البسيطة، ومن الأعمال الروتينية حدّ الملل؟ وكيف يمكن اقتناص الفرح والملذّات الصغيرة بمواجهة جروح الحياة الكبيرة؟ لربما تأتي الإجابة من قصيدة شاعر الهايكو الكبير باشو: “بركة قديمة، ضفدع قفز، صوت الماء”. هذه الفلسفة الشعرية نراها بوضوح في فيلم: (Perfect Days/ الأيام العظيمة لعام 2023) للمخرج الألماني فيم فيندرز الذي كتب السيناريو للفيلم بالاشتراك مع الكاتب الياباني تاكوما تاكاساكي، الذي رُشح الفيلم للعديد من الجوائز وحصد بطله كوجي ياكوشو (هيراياما) على جائزة أفضل ممثل في مهرجان كان لعام 2023.

تعود فكرة الفيلم لدى فيندزر إلى الاحتفالية التي تقيمها السلطات اليابانية بيوم المراحيض العالمي، حيث يتتبّع يوميات عامل المراحيض هيراياما الهادئ واللطيف، الذي قارب منتصف عمره، من لحظة استيقاظه على صوت مكنسة عامل النظافة، ليشرع في روتينه اليومي بالنظر إلى الأشجار التي تظلّل نافذته. ومن ثم قراءة سطر من الكتاب الذي داهمه النعاس وهو يبحر بين صفحات في الليلة الماضية. وبعد ذلك يحلق ذقنه وينظّف أسنانه، ويروي نباتاته الصغيرة ويرتدي لباس العمل ويشتري قهوته، ويركب سيارته الصغيرة المكتظة بأدوات التنظيف، ليبدأ يوم عمله الطويل ترافقه الشمس من شروقها، ليشيعها في غروبها. هكذا يقلع هيراياما بسيارته وما إن يطل على برج شجرة السماء في طوكيو، حتى يدخل الكاسيت في فم آلة التسجيل لتصدح أغنية تتكلّم عن تلك الأيام الجميلة التي عاشها المغنّي. ينهمك هيراياما بعملية تنظيف المراحيض لدرجة الوسواس، لكن مع الوقت نلحظ أنّ هذا الوسواس، ليس إلّا تفانيًا في العمل، عندما يستخدم مرآة للتأكّد من نظافة الحواف الداخلية لكراسي المراحيض التي لا ترى بالعين مباشرة. إنّ هيراياما يستمتع بكلّ لحظة من عمله، قد يكون ذلك صادمًا لنا عندما نقوم بتنظيف قذارات الآخرين؛ وهذا ما يعبّر عنه زميله الشاب في العمل متأفّفًا من طبيعة هذا العمل، فلا يعترض عليه هيراياما إلّا بابتسامة. يقضي هيراياما استراحة الغذاء في باحة معبد، حيث يأكل طعامه بهدوء مراقبًا الأشجار والناس الغرباء. وعندما ينهي عمله يجد متعة في قضاء بعض الوقت وهو يغمر جسده بالماء الساخن في الحمام العام. وبعد ذلك يتوجّه إلى أحد المطاعم الشعبية وأخيرًا ينهي ليلته بقراءة كتاب لوليم فوكنر.

هذه اليوميات المتشابهة، يعيشها هيراياما بسعادة تامة، فوجهه يفيض حبورًا، حتى صمته لا يكسره إلّا بكلمات قليلة، كأنّه شجرة من تلك الأشجار المولع بتصوير ظلالها. لا يستخدم هيراياما أيًا من تقنيات العصر الحديث في عام 2023 فمازال يستخدم تلك الكاميرات بأفلامها السوداء التي تحتاج إلى تحميض تحت الضوء الأحمر في غرفة مظلمة، ويستمع للموسيقى من أشرطة الكاسيتات، إنّه يعيش في زمن آخر. ينقل لنا فيندرز هذا الروتين يومًا بعد يوم حتى يأخذ من وقت الفيلم ما يقارب نصفه، ونظن بأنّ هيراياما أبدي في هذا التكرار السعيد حتى التشهّي بأن نكون مثله.

لم يكن يسدّ تدفق نهر الروتين البسيط والهانئ الذي يعيشه هيراياما أي شيء إلى أن تدخل حياته فجأة ابنة أخته المراهقة التي هربت من بيتها. وهنا نكتشف بأنّ علاقته بأسرته تشوبها تعقيدات عميقة، بل هو من أسرة ميسورة جدًا. تعجب الفتاة بعمل خالها وترافقه إلى تنظيف المراحيض، لتجد مادة لصفحتها على السوشيال ميديا. وعندما تسأله عن علاقته المعقّدة بأخته تخبره بأنّ أمها لم تكن ترغب بالتحدّث في ذلك، وعندما تأتي أخته بسيارتها الفارهة وسائقها لتأخذ ابنتها يحتضنها هيراياما. يعود بعد ذهاب ابنة أخته إلى روتينه، وهنا تتغيّر نظرتنا إليه، لنفهم أكثر كيف من الممكن جني السعادة عبر التخلّي عن كلّ المكتسبات مع شرورها والاغتناء بأشيائنا البسيطة، كأنّنا شجرة، أو نبتة صغيرة في أصيص، أو شعاع شمس، أو أغنية، أو صفحة من كتاب. يداوم هيراياما على زيارة مكتبة تبيع الكتب المستعملة ليشتري منها ما يعجبه ويقضي وقتًا ممتعًا في مطعم صغير تديره أنثى تقاربه في السن، لكنّها مطلّقة منذ سبع سنوات. هناك إعجاب مخفي بينهما، لكنّه يتعكّر، عندما يجدها تحتضن أحد الرجال، فيقود دراجته مبتعدًا، بعد أن يشتري الدخان ومشروبًا، ليذهب ويجلس تحت أحد الجسور في طوكيو. يتبعه الرجل الذي كانت سيدة المطعم تحضنه، ليظهر أنّه طليقها السابق جاء ليعتذر منها بعد انتشار السرطان في جسده وأصبح موته وشيكًا. يتقاسم الرجلان الدخان والمشروب وهنا يسأل هيراياما الرجل: هل الظلال تصبح أكثر كثافة عندما تتقاطع؟ يحاولان الوصول إلى إجابة، ويلعبان لعبة يحاول كل منهما فيها دوس خيال الآخر. وفي النهاية يطلب الرجل الغريب من هيراياما أن يعتني بطليقته. وينتهي الفيلم بالروتين الذي اعتدناه من هيراياما في أول الفيلم بابتهاج مشرق ليوم جديد يعيشه.

هذا الفيلم عبارة عن قصائد هايكو علينا قراءتها في الحياة البسيطة للطبيعة حولنا وفينا في تكرارها وروتينها المستمر إلى الأبد، وسيمثّل اليابان في أوسكار 2024.

باسم سليمان

الصباح

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 08, 2024 03:02

January 1, 2024

الغضب الساطع: فلسطين في الفنّ الرحباني

باسم سليمان 1 يناير 2024 مقالي في ضفة ثالثة

لم تغب قضية فلسطين عن فيروز والرحابنة، بل رافقت نهوضهم، وأغنت مشوارهم الإبداعي، وأصبحت إحدى العلامات المتفرّدة في تجربتهم الفنيّة، حيث ضمّخوها ببصمتهم المميّزة، وشكّلوا منها نسيجًا خاصًا قائمًا بذاته، تتجاوز غيرها من التجارب التي قاربت المأساة الفلسطينية، فقد كان لهم قصب السبق في إخراجها من أسلوب الشكوى والنواح، إلى مدارات الأمل والثورة، عبر ثيمة الحنين إلى الأرض، وحتمية العودة إليها. وتأتي شهادة محمود درويش دليلًا دامغًا على جوهرية الفنّ الرحباني بالنسبة لقضية فلسطين: “إنّ الشعب الفلسطيني لم يبدع أغنيته الوطنية كما أبدعتها له وللعرب الظاهرة الرحبانية. لقد أشهر الفلسطيني هويته الجمالية بالأغنية الرحبانية العربية، حتى صارت هي إطار قلوبنا المرجعي، هي الوطن المستعاد، وحافز السير على طريق القوافل الطويل”.
ترجع علاقة فيروز والرحابنة بالقضية الفلسطينية إلى السنوات الأولى من نشاطهم الفنّي، فلقد ذكر منصور الرحباني بأنّه كان مع عاصي وفيروز في زيارة إلى مصر بناءً على دعوة جاءتهم من راديو (صوت العرب) من القاهرة عام 1955، حيث سجّلوا مجموعة من الأغاني. وقد عرض عليهم مدير الإذاعة في ذلك الوقت، أحمد سعيد، أن يستقلّوا طائرة إلى غزّة، لكي يستمعوا إلى الأغاني الفلسطينية من أفواه أهلها. لكن خوف الرحابنة من ركوب الطائرة منع تلك الزيارة إلى غزّة، فأحضرت التسجيلات إلى مبنى إذاعة العرب، حيث استمع إليها الأخوان رحباني مع فيروز، فلم يجدوا فيها إلّا نواحًا واستجداءً وشكوى. وقد علّقوا على تلك الأغاني، بأنّ: “قضية فلسطين لا تعالج هكذا، لا يسترد فلسطين إلّا الفلسطينيون، لا ابن القاهرة، يموت عن القدس، ولا ابن الشام، ولا ابن بيروت”. ويكمل منصور بأنّهما لحنّا أغنية: “راجعون” تعبيرًا عن قناعتهما بأنّ الحقّ لا يسترده غير أصحابه. تقول كلمات الأغنية، ونختار منها هذا المقطع الذي يعبر عن رؤية رحبانية تتجاوز الشكوى والاستجداء والحزن: (بلادي أطلّي قليلًا فإنّنا راجعون/ في هدأة السكون في رهبة الحصون/ أصحابنا على الطريق الرحب يهتفون/ في الأمطار راجعون في الإعصار راجعون/ في الشموس في الرياح في الحقول في البطاح/ راجعون راجعون راجعون/ بالإيمان راجعون للأوطان راجعون/ في الرمال والظّلال في الشعاب والتلال/ راجعون راجعون راجعون). من خلال تأمّل كلمات الأغنية نرى الشعور الثوري، الذي أخذ يتّضح في الأغاني التي كرّسها الرحابنة لفلسطين، بعيدًا عما ترتب على نكبة 1948، والخطابات السياسية الفارغة من قبل القادة العرب الذين هُزمت جيوشهم شرّ هزيمة، فقد أسّس الرحابنة لرؤية فنيّة ستندمج مع العمل الثوري الفلسطيني في ما بعد. وتعليقًا على هذه الريادة المشهودة للرحابنة في مقاربة القضية الفلسطينية فنيًا، يقول الناقد اللبناني نزار مروة عام 1986 عن أغنية (راجعون) في ندوة تلت رحيل عاصي: “… ينهض حوار مؤثّر بين جموع الشعب الممثّل بالكورال، وبين ضميرها في الصوت المتفرّد؛ فيروز”. فهذه الأغنية تظهر لنا ذلك الحوار؛ حيث الجوقة هي الشعب الفلسطيني المشرّد، وفيروز ضميره. حيث تتكرّر هذه العلاقة وتتوضّح في أغنية (القدس العتيقة)، فتغنّي فيروز: (يا صوتي ضلك طاير زوبع بهالضماير/ خبرهن ع للي صاير بلكي بيوعى الضمير). إذًا، فيروز أصبحت حاملة الأمانة الفلسطينية، التي تشبه المزهرية السريعة العطب والكسر، إنْ هي سقطت من ضمائر الفلسطينيين والعرب، لذلك اختارتها تلك السيدة الفلسطينية، لتكون هدية لفيروز، لكي تعرّفها مقدار المسؤولية التي أصبحت على عاتقها بعد زيارتها للقدس: (حكينا سوا الخبرية وعطيوني مزهرية/ قالوا لي هيدي هدية من الناس الناطرين).

تجلّت القضية الفلسطينية في الأغنية الرحبانية بثيمات عدة، كانت أهمّها مفهوم العودة والرجوع إلى الأرض المحتلّة، حتى لا تكاد تخلو أغنية لهم عن فلسطين من الأمل في الرجوع والحضّ على العودة، والذي كثيرًا ما كان يظهر في عناوين تلك الأغاني، منذ أغنيتهم الأولى (راجعون)، وما تلاها: (سنرجع يومًا ـ سيف فليشهر ـ جسر العودة).
تمتاز هذه الأغنيات بنبرة رومانسية عاطفية مليئة بالحنين، لكن على الرغم من تراجيديتها، إلّا أنّها تشعّ بالأمل الواثق، فما تقوله الطبيعة الأبدية في أغنية (سنرجع يومًا) لا بدّ متحقّق: (هنالك عند التلال تلالٌ/ تنام وتصحو على عهدنا… سنرجعُ خَبّرني العندليب/ غداة التقينا على منحنى)، فإذا كان البشر يأخذهم النسيان، فعناصر الطبيعة محصّنة ضدّ ذلك، فالتلال الخالدة ستبقى تردّد صدى العهد الذي قطعه الفلسطينيون على أنفسهم بالعودة، وتذكّر كلّ نسّاء. وكلّ عندليب يفقس في عشٍّ بُني على غصن شجرة في فلسطين، سيكرّر لحن العودة، ككلّ العنادل التي مضت، والتي تغرّد الآن، والتي ستفقس من بيوضها مستقبلًا. وفي أغنية (سيف فليشهر) نجد تأكيدًا على مقولة الطبيعة في أغنية؛ سنرجع يومًا: (الآن، الآن وليس غدًا/ أجراس العودة فلتقرع) فمستقبل العودة يُصنع من خلال المعركة مع المحتل. ومع أغنية (جسر العودة) تتغيّر الأسماء مع الأمل الصاعد من بئر القهر والحسّ الثوري الذي بدأ يتشكل رويدًا رويدًا، ممّا يشرعِن للفلسطيني تبديل الأسماء مع حالته الراهنة، فإذا كان جسر الهزائم الذي أودى بهم إلى النزوح سمّي: جسر الأحزان، فلقد أصبح مع فيروز جسر العودة: (يا جسر الأحزان، أنا سمّيتك جسر العودة)، هكذا تستكمل فيروز النبوءة التي نراها الآن عيانًا في غزّة، حيث يكبر طفل المغارة ليصبح فدائيًا: (وبليلة عتمٍ أبيض كالأُولى للميلاد/ مَلْآى بغموض الآتي وبفرح الأعياد/ يأتي من صمت الأشجار/ طفلٌ في سن العشرين/ يحتفل اليوم بميلاده/ عَيّده العيد برشّاش/ فمضى يتصيّد ويقيم/ في أرض أبيه وأجداده).
تقتضي حتمية الرجوع إلى الأرض في الأغنية الرحبانية الاستناد إلى ثيمة المكان، فتغنّي فيروز: (يا ربوع بلادي يا أحبّ الربوع)، وقد استحضر الرحابنة مفردة (ربوع) لما تحمله من دلالات تراثية وآنية على أنّ فلسطين، هي أرض الجدود وأرض الأبناء، هذا من جهة. أمّا من جهة ثانية، فكلمة (ربوع) تومئ إلى فصل الربيع، وما يدل عليه من قيامة الطبيعة من مواتها في الشتاء. وكأنّ أرض فلسطين ربيع دائم. فيما نجد في أغنية (يافا) ذلك الميناء الجميل في فلسطين، أمثولة عن صراع البحارة/ الفلسطينيين مع العاصفة، وكأنّنا مع الإله بعل الكنعاني في مواجهة يم. تحدثنا فيروز عن ذكريات يافا، وكيف واجه البحارة عاصفة هوجاء، حتى قال الناس: (إنّنا ضائعون/ إنّنا هالكون/ في الأبد البارد)، لكن في النهاية عادوا: (عدنا مع الصباح/ جئنا مع الرياح/ كما يجيء المارد) تمتلك كلمات الرحابنة إيحاءاتها الخاصة، فالمارد هو الذي يحقّق الأماني، والبحارة هم الشعب الفلسطيني، وسيعودون محقّقين الأمنيات: (الناس الناطرين) في كلمات أغنية (القدس العتيقة). هكذا تختم فيروز الأغنية بالمقول الأبدي للفلسطينيين: (وسنرجعُ نرجعُ يا يافا)؛ لأنّ ملاعب الطفولة هي الرحم الذي ينمو فيه حبنا للأوطان، تأتي أغنية (بيسان) ممثّلة هذا الحلم: (أذكرُ يا بيسان/ يا ملعب الطفولة/ أفياءك الخجولة/ وكل شيءٍ كانْ).
لن تكتمل جغرافيا الأرض الفلسطينية بأغنيات الرحابنة، إلّا بذكر حجر العقد، أي القدس، لِما تحمله من معان ورموز، من الديني إلى السياسي، ولِما تشكّله من جوهرية للقضية الفلسطينية، لأنّها زهرة المدائن، وبهية المساكن، ومدينة الصلاة. زارت فيروز والرحابنة القدس مرتين، ترافقت الثانية مع زيارة البابا بولس السادس للقدس في كانون الثاني عام 1964، حيث مشت على درب الآلام، ورافقت ترتيلاتها خطوات البابا في حجّه إلى الأماكن المقدسة المسيحية في القدس. أنتجت هذه الزيارة أيقونتين غنائيتين صدحت بهما فيروز: (زهرة المدائن… والقدس العتيقة). وكما رأينا الأمانة/ المزهرية التي أعطتها المرأة المقدسية لفيروز في أغنية (القدس العتيقة)، نجد في أغنية (زهرة المدائن) أن الغضب الساطع يتفجر، لتشرق هذه الأمانة صبحًا يفلّ ظلام ليل المحتل، فالغضب الساطع هو نهر الأردن الذي اغتسل فيه السيد المسيح، وهو سواعد الثوار: (الغضب الساطع آتٍ وأنا كلي إيمان/ الغضب الساطع آتٍ سأمرُّ على الأحزان/ من كلّ طريق آتٍ بجياد الرهبة آتٍ/ وكوجه الله الغامر آتٍ آتٍ آتٍ). هنا ننتقل مع الرحابنة من موضوعة الحنين إلى الأرض السليبة، وخاصة بعد حرب حزيران/ يونيو 1967، والهزيمة المدوية للعرب، وسقوط القدس كلية تحت سطوة الصهاينة، إلى مواجهة ثقافية مع المحتل، فهذه الأغنية تأتي كردّ على المقولة الصهيونية بأنّ أرض فلسطين هي الأرض الموعودة لهم، لتقول بأنّ تلك المقولة مجرد وهم، وسينقضها الغضب الساطع الذي يشبه وجه الله الغامر، ولأنّ من أسمائه السّلام، فالقدس هي مدينة السلام، وبها سيهزم وجه القوة، وتُمحى آثار القدم الهمجية: (الغضب الساطع آتٍ بجياد الرهبة آتٍ/ وسيهزم وجه القوّة/ البيت لنا والقدس لنا/ وبأيدينا سنعيد بهاء القدس/ بأيدينا للقدس سلام آتٍ)، فيعمّ السّلام وجه الأرض.

“تجلّت القضية الفلسطينية في الأغنية الرحبانية بثيمات عدة، كانت أهمّها مفهوم العودة والرجوع إلى الأرض المحتلّة، حتى لا تكاد تخلو أغنية لهم عن فلسطين من الأمل في الرجوع والحضّ على العودة”




لا يستطيع الفنّ إلّا أن يحلم بتغيير الواقع، وهذا الحلم هو ما يصنع الأمل؛ وخاصة عندما لا يكون فنًا تخديريًا تسويفيًا، بل يكون التزامًا أخلاقيًّا وإبداعيًا. وهذا ما فعله الرحابنة عندما تناولوا قضية فلسطين، لذلك ظلّ فنهم المعبّر الأصدق عنها، ومَن كتبوا مسرحية: (ناطورة المفاتيح) حملت فيروزهم مفتاح القدس: (لن يقفل باب مدينتنا، فأنا ذاهبة لأصلّي/ سأدقّ على الأبواب وسأفتحها الأبواب). ولا ريب في أنّ ما يحدث الآن في غزّة هو أغنية فيروزية عنوانها: “ولعت”، لتتحقق مقولة الرحابنة: لا يحرّر فلسطين غير أهلها.

https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/opinions/2024/1/1/%D8%A7%D9%D8%BA%D8%B6%D8%A8-%D8%A7%D9%D8%B3%D8%A7%D8%B7%D8%B9-%D9%D9%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9-%D9%D9%8A-%D8%A7%D9%D9%D9-%D8%A7%D9%D8%B1%D8%AD%D8%A8%D8%A7%D9%D9%8A

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 01, 2024 08:10

December 21, 2023

الورد والفخار؛ قصتي في مجلة الرافد – باسم سليمان

عندما وقعت عيناها على أصص الفخّار المنقوش على جوانبها أبيات من الشعر، كبيت الأعشى في وداع حبيته هريرة: “ودِّعْ هُريرةَ إِنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ/ وهلْ تُطِيقُ وداعًا أَيُّها الرَّجلُ”؛ طلبت من صاحب دكّان الفخاريّات أن يشحن إلى محلّ بيع الزهور جميع الأصص المزيّنة بالأشعار. لم تأخذ نفسًا، فما إن وصلت الأصص، بدأت تختار لكلّ زهرة أصيصًا مناسبًا من وحي بيت الشعر المكتوب عليه، فكان حظّ الأصيص الذي حمل بيت الأعشى؛ زهرة أذن الفأر، والتي تعني “لا تنساني/ forget me not”. أمّا نبتة الصبار، فقد اختارت لها أصيصًا حمل بيت شعر لأبي صخر الهذلي: “عجبتُ لِسَعْيِ الدهرِ بيني وبينها/فلمّا انقضى ما بينَنا سكن الدهر”. هكذا اختارت لكلّ زهرة ونبتة في محل بيع الزهور الذي تمتلكه أصيصًا وبيت شعر. كان وقع هذا الأمر على عشّاق نباتات الزينة رائعًا، فأصبح محلّها علامة فارقة في المدينة يُقصد من كل مكان.

نمت مبيعاتها وكأنّها في فصل الربيع، فطلبت من تاجر الفخّار أن يؤمّن لها طلبيات جديدة من تلك الأصص التي رصّعت بأبيات الشعر، وتمنّت عليه أن يطلب من صانع الفخار أن يزيّن أصصه بشعر أدونيس، ومحمود درويش، ونزار، فوعدها خيرًا.

لم  يكن صانع الفخار الذي يسكن في قرية نائية غرب البلاد، يأمل أن تزدهر مبيعاته بهذا الشكل، والأهم أنّ محبته للشعر، هي من فتحت له باب هذا الرزق. بدأ يتخيّر أبياته ويستذكر حبّه القديم، ففي كل بيت شعر ينحته على الفخار، هناك تفصيل يخصّه ويجمعه بتلك الفتاة التي سحرت قلبه، عندما كان في ريعان الشباب؛ فنحت على أصيص يميل لونه للزرقة شعرًا لأدونيس في ذكرى لقائه الأول بها: “خَرَجَ الوردُ من حَوْضِهِ/ لمُلاقاتها، كانتِ الشَّمسُ عُريانةً/ في الخريفِ، سِوَى خَيْطِ غيمٍ على خَصْرها./هكذا يُولَدُ الحبُّ/ في القريةِ التي جئتُ مِنها”.

حاولت بائعة الزهر أن تعرف من التاجر، من هو صانع تلك الأصص الرائعة. خاف التاجر على رزقته، فقال لها بأنّه يستوردهم عبر البحر، وأنّه من اقترح على ورشة الفخار في تلك البلاد خلف البحار أن يزيّنوا الأصص بأبيات الشعر، فشكرت له رهافة ذوقه، وقالت له: أودّ منك أن تطلب منهم أن يكتبوا على بعض الأصص جملة لمحمود درويش: “بكأس الشراب المرصَّع باللازوردِ انتظرها، على بركة الماء حول المساء وزَهْر الكُولُونيا انتظرها”، فوعدها خيرًا.

كان يسافر التاجر في بداية كل شهر إلى تلك القرية الجبلية المطلّة على البحر، ويشتري ما أنتجه صانع الفخار، ويعطيه ورقة بالأشعار الجديدة التي طُلبت كتابتها. غدا صانع الفخار سعيدًا بإنجازه الخاص الذي يعيشه كما يشتهي، ويحياه مع بيت الشعر كما يود، من اللحظة التي يخلط فيها الصلصال بالماء، ثم يديره على العجلة ويشويه في الفرن، ويضعه بعد أن تنضجه النار تحت ضوء الشمس والهواء، وأخيرًا يقرأ بيت الشعر الذي نحته عندما كان الصلصال لينًا على الفخّار القاسي.

كان يفكّر أنّ حياته عبارة بيت شعر مكتوب على صلصال لين، لكنّه لم يمتلك الحظّ، ولا الجرأة، لأن يضع حياته في الفرن؛ لذلك كان يعتبر كلّ فخارة تخرج من الفرن وعليها بيت شعر من اختياره أو من تلك الورقة التي كان يأتي بها التاجر؛ بديلًا عن حياته التي لم تتقسّ في فرن الحبّ.

كثيرًا ما تمعّن بالخطّ المكتوب على تلك الورقة، التي حملها التاجر له، فكان قلبه يخفق كما لم يعهده منذ زمن طويل. ومع كل جملة شعرية أو بيت شعر مكتوب يقرؤه، تتدفق عليه الذكريات من الزمن الماضي، ولا يستفيق منها، إلّا وقد أنجزت يداه أصيصًا رائعًا من الفخار مكتوبًا عليه: “قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيْبٍ وَمَنْزِلِ…” فتتساقط دموعه على الصلصال الطري.

كم تمنّت أن تنام في المحل بين الأصص والزهور، لتقرأ على ضوء الشمعة بيتًا لأبي نواس: “حامِلُ الهَوى تَعِبُ/يَستَخِفُّهُ الطَرَبُ-إِن بَكى يحقُّ لَهُ/ لَيسَ ما بِهِ لَعِبُ” ومن ثم تمسك زهرة وتنزع تويجاتها قائلة: يحبني، لا يحبني…

أمّا هو، عندما أضناه الشوق أمسك بأصيص، وحدّق فيه كثيرًا، كأنّه يرى حياته من خلاله، وبعد ذلك رفع نظره إلى الرفوف التي تحمل الأصص، ومن ثم ضرب الأصيص بالحائط، فتهشّم وتناثر إلى قطع عديدة، فالتقط آخر، وقذفه نحو الحائط ، وهو يقول: تحبني، لا تحبني…

***

تقول الحكاية: منذ عشرين سنة تخاصم حبيبان؛ هي أصبحت بائعة ورد في العاصمة، وهو أمسى صانع فخار في قرية نائية غرب البلاد.

https://arrafid.ae/Article-Preview?I=WCHbRtqO1Us%3d&m=5U3QQE93T%2f0%3d
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 21, 2023 03:33

December 20, 2023

الطعام: كتاب الحياة والإبداع

باسم سليمان 20 ديسمبر 2023 – مقالي في ضفة ثالثة

ابتداءً، سنستخدم أسلوبًا تحليليًا في فهم اللغة (1)، ليؤمّن لنا منظورًا نبني عليه رؤى هذا المقال، فلو قلبنا كلمة (طبخ) وقرأناها بشكل معكوس (خبط) والتي تعني- بعد تدبّر أكثر دلالاتها- اللانظام، فكما يقال: خبط عشواء؛ فهذا يؤدي إلى أنّ معنى طبخ – الضد من خبط – النظام. فالطبخ من أوائل الأنظمة التي سنّها الإنسان. حيث تأتي الكلمة اليونانية (فنّ التذوّق/ gastronomy) وهي مؤلفة من كلمتي: المعدة والقوانين(2) وكأنّ فن التذوق يعني: قوانين المعدة! وهذا يدعم توجّهنا في القراءة الدلالية لكلمة (طبخ).

كان اكتشاف النار عاملًا حاسمًا في نشوء حضارة الإنسان، وبواسطتها انتقل من الطعام النيء إلى المطهو، وبذلك فارق عالم الحيوان، فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يطهو وبهذا الفعل يصبح استثناءً عن بقية المخلوقات. وليس غريبًا أن تتصوّر القبائل التي تعيش في جزر المحيط الهادئ(3) بأنّ البشر الأصليين خُلِقوا من عجينة من الأرز والذرة المشكّلة في قوالب، أي المطهوة وكأنّ الأسطورة تقول بأنّ الإنسان هو طبيخ الإله، ولهذا فالإنسان يقلّد الإله، فهو يطبخ أيضًا، فالطعام عماد حياته الرئيسي وبه يحيا.

يقول الكاتب الفرنسي جان بريلات(4): “قل لي ماذا تأكل، أقول لك من أنت”، وكأنّه يعيد مقولة سقراط: “تكلّم كي أراك”، فالطعام ليس مجرد حاجة جسدية فقط، بل هو رمز ديني وسياسي وثقافي واجتماعي واقتصادي. وكما قال كلود ليفي ستراوس (5) عن الطعام/ المطبخ، بأنّه يتوسط العلاقة بين الطبيعة والثقافة، فعندما نقوم بتحويل مادة غذائية من شكلها الخام/ النيء إلى الشكل المطبوخ، نحن نقوم بعملية تتضمن الكثير من الدلالات التي بموجبها يصبح الطعام مدونة معرفية قادرة على تشكيل صورة نستطيع أن نقرأ من خلالها المجتمع البشري في فترة زمنية ما. وليس هناك أدلّ على محورية الطعام في تشكيل البُنى المعرفية للإنسان، إلّا ارتباطه بالخطيئة الأساسية – الهبوط من الجنة- بسبب فعل الأكل من الثمرة المحرمة. وقد يقول قائل بأنّ هذا الأكل ترميز للعملية الجنسية وليس متعلقًا بالأكل كما هو متعارف عليه، لكن الأسطورة بأدواتها الرمزية تخادع، فالطعام لدى بعض القبائل الهندية(6) يعني الممارسة الجنسية وبتعبير أدق يعني: “الأكل حتى التخمة” والدلالة تكمن بأنّ الأعضاء الجنسية للذكر والأنثى؛ هي طعام متبادل بينهما. هذه الفكرة عبّر عنها الشاعر جورج هيربوت في بدايات القرن السابع عشر بالقول: “يقول الحبّ، لا بدّ أن تجلس وتتذوّق لحمي، وهكذا جلست وأكلت”. وهذا ما فعلته الغانية التي أرسلها جلجامش لكي تغوي أنكيدو، فتحويله من حيوان لإنسان كان عبر الجنس. والجنس هنا لم يكن بشكله الطبيعي الحيواني الفجّ، بل عبر المرور بغانية المعبد المتجمّلة بالحلي والثياب والعطور، أي بأدوات الحضارة البشرية. وبعد تلك الواقعة نفرت الحيوانات من أنكيدو، فلم تعد تشاركه الشرب من مياه الينابيع، ولا تناول الطعام النيء، ولا هو عاد يفعل ذلك، فلقد انتقل إلى مدينة أوروك وتعرف إلى المشروبات والأطعمة المطهوة.

إنّ التدقيق بالعرض الإلهي في المدونات الدينية السماوية لآدم، نستنتج منه بأنّ التزام آدم أبي البشرية بالأوامر والنواهي الإلهية، سيؤمّن له البقاء في الجنة، حيث لا جوع ولا عري. وعندما يخالف ذلك، تكون العقوبة، بأن يصبح تأمين طعامه عبر العمل الشاق بعد إهباطه إلى الأرض. ولم تختلف ما سُمي بالديانات الوثنية عن التوحيدية، من تصوّر وجود جنّة بدئية كان الطعام متوفرًا فيها، حيث الأرض تمنح غلالها بمجانية والأشجار قطوفها دانية يتحصل عليها الكائن البشري من دون جهد. وهذا ما أشار إليه الشاعر اليوناني هزيود في كتابيه: (الثوجونيا/ أنساب الآلهة والأعمال والأيام). وفي قصيدة الأبيقوري الروماني لوكريتيوس؛ طبيعة الأشياء، نلقى وصفًا لذلك الزمن الذهبي، فالأرض مليئة بالثمار والذرة، وتتدفق أنهار الحليب والعسل وتقطر شجرة البلوط بالعسل.

وإذا كان لنا أن نضع أحد الأطعمة التي لعبت دورًا أساسيًا في تاريخ الإنسان، فسنجد أنّ الخبز هو الرائد الأول، فمن خلاله عبّر الإنسان عن هواجسه الوجودية وآماله الغيبية، فتخلل أفكاره وأمثاله وحكاياه كلبنة تنشأ من خلاله الحضارة أو تُهدم. وفي منطقتنا العربية اختلط الخبز بالدين والسياسة والأدب والفن. والخبز اسم جنس يعدّ من الحبوب، كالقمح والشعير والذرة والأرز وغير ذلك، لذلك قال الشاعر العربي(7):                       

في حبّة القلب منّي/ زرعت حبّ ابن حبّة. 

وابن حبّة هذا هو الخبز، الذي قال السيد المسيح عنه: “َليْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ”. تأتي حكمة المسيح تعبيرًا عن العلاقة العميقة بين الإنسان والخبز كرمز عن الطعام، بحيث أن الإنسان كان يظن أن الخبز سبب بقائه حيًّا؛ من هذه القناعة أتت المقارنة التي أجراها المسيح. لكن فكرة أنّ الطعام سبب الحياة لدى الإنسان لم تقتصر عليه ككائن حيّ، بل إنّ شعوب ما بين النهرين كانت تقدّم وجبات من الطعام للآلهة صبحًا ومساء حتى أنّ أرستوفانيس بمسرحيته الطيور، تم إخضاع الآلهة لرغبات بعض البشر عندما شكّلوا حلفًا مع طيور السماء لتحجب دخان القرابين. وليس تقليدًا سخيفًا، أن يصنع الجاهلي إلهًا من تمر وعندما يجوع يأكل إلهه، فهو يمارس قناعة طوطمية، بأن يدفع إلهه إلى إعادة الخصب للأرض عبر أكله. 

لقد جاء في ملحمة جلجامش(8) في الجدل الذي جرى بينه وبين أتونبشتِم ما معناه بأنّ الإنسان هو مجرد رغيف خبز، مصيره أن ييبس ويعلوه العفن، هكذا قدّرت الآلهة مصيره. يقرر أتونبشتِم اختبار جلجامش، ليكون مستحقًا للحياة الأبدية، فيطلب منه ألّا ينام لستة أيام وسبع ليال، لكنّ جلجامش العنيد والصابر لا يلبث أن يقع تحت سلطان النوم.  يطلب أتونبشتِم من زوجته أن تخبز رغيفًا عن كل يوم من أيام جلجامش التي سينامها وأن تؤشّر على الحائط عدد الأيام. وهكذا مضت الأيام وصنع مقابلها من الأرغفة: “أصبح الرغيف الأول يابسًا، وتلف الرغيف الثاني، والثالث لم يزل رطبًا، وابيضت قشرة الرغيف الرابع، والخامس لم يزل طريًّا، والسادس قد خبز في الحال، ولما كان الرغيف السابع، لا يزال على الجمر مسّه، فاستيقظ الرجل. وعندما استيقظ جلجامش قال لأتونبشتِم: لم تكد سنة النوم تأخذني، حتى مسستني فايقظتني!” وعند ذلك يقول له أتونبشتم، أنظر إلى أرغفة الخبز! فيتكلم جلجامش بأنّ الموت يجري منه مجرى الدم، فما الحل؟ قُدّر على الإنسان أن تكون حياته مستندة بشكل كلي على الطعام.

هذه النتيجة أوضحها الفراعنة حيث أطلقوا على الخبز اسم: العيش؛ كناية عن أنّه قوام الحياة مطلقًا، لذلك كان الفراعنة يضعونه في قبور موتاهم. تنص تعويذة ترافق الميت: “أنا لن آكل العذرة لأنّني سأنال تاج أنوبيس الأبيض ذي الخبز الأبيض(9)”. فقد كان الفراعنة عبر وضعهم الخبز قرب الميت يطبقون ما سينطق الإله به: “انهض هذا خبزك الطازج وجعتك الطازجة”.

إنّ ثيمة الطعام متغلغلة في الأصول الفكرية الأسطورية للإنسان، فالأسطورة اليونانيّة عندما تعرض لنا قصة سرقة النار من قبل برومثيوس لإعطائها للإنسان حدثت بعد أن أحتج زيوس على قسمة أجزاء الثور المضحّى به له، من قبل برومثيوس، فقام زيوس بإخفاء النار وطمر أسباب معاش الإنسان في التربة، وبالتالي ذهب إلى غير رجعة الزمن الذهبي الذي تكلّم عنه هزيود ولوكريتوس حيث الأرض تعطي الإنسان محاصيلها وثمارها من دون جهد منه. وبعد أن فعل ذلك خلق له باندورا وصندوقها المملوء بالشرور، وكأنّنا مع سردية الخطيئة التي أهبطت آدم وحواء من الجنة، ففي التوراة يقول يهوا لآدم أن يأكل أكلًا من كل أشجار الجنة ما عدا شجرة واحدة، وفي القرآن كذلك.

هذه الأساطير تفيد بأنّ أول خطوة في حضارة الإنسان كانت انتقاله من مرحلة التقاط الطعام إلى إنتاجه، أي انتقاله من مرحلة مشابهة الحيوان إلى مشابهة الآلهة، وبالتالي اعتماده على نفسه في إحيائها، وهذا ما يقوله أحد الطباخين الذي كان يرد بمكان ما على التفريق الذي أجراه أفلاطون بين الطاهي والطبيب. كان الطب في العالم القديم يقوم على نوعية الأغذية التي يتناولها المريض لا على طيبتها أو مذاقها الرائع. وما أراده أفلاطون من ذم الطاهي ومدح الطبيب هو أن لا ينجرّ الإنسان وراء شهواته وليقتصر طعامه على إقامة الجسد فقط، من أجل أن يتفرّغ العقل للتفكير بالمثل العليا، لكن الطاهي (10) يقول بأنّ مهنته: “بسبب المتع التي ظللت أتحدث عنها، كفّ الكلّ عن التهام جثة، وقرروا أن يعيش بعضهم مع بعض، وتجمّع الناس وسكنوا المدن، وكل ذلك بسبب فن الطاهي، كما أسميه”.

هذا الاعتماد الذاتي للإنسان على نفسه، بإنتاج طعامه، لم ينسه فضل الآلهة أو زمنه الذهبي كما كان أنكيدو، لذلك اشترع أطعمة محلّلة وأخرى محرّمة، فالديانة اليهودية مليئة بالمحظورات الطعامية بالإضافة إلى حتمية التضحية بأبكار الحيوانات والمحاصيل للإله. أمّا المسيحية التي جاءت برخصة سماحية كل الأطعمة، لأن الذي ينجس كما قال السيد المسيح، ليس ما يدخل الفم بل ما يخرج منه، أي الكلام السيئ. بينما الإسلام كان وسطًا بين اليهودية والمسيحية، فجاء تحريمه للأطعمة التي أكلت في المجاعات كالدم والميتة والخنزير؛ الذي له إشكاليته الخاصة، بأنّه الحيوان قاتل الآلهة من أدونيس إلى أتيس. فإذا تأمّلنا ذلك، كان الطعام بحلاله وحرامه أول القوانين التي وضعتها الآلهة على الإنسان أو استنّها لنفسه. ومن هنا نفهم شعيرة الصوم التي تواجدت في كل الأديان أرضية كانت أو سماوية، والتي تختصّ بالامتناع عن الطعام والشراب والجنس، وكلّها قوام وجود الإنسان على الأرض.

أهمية الطعام لدى الإنسان كان لا بدّ أن تظهر في منتجاته الثقافية وخاصة الأدبية منها. وقد رأينا كيف تداخل الطعام مع الأسطورة والدين والسياسة، ولذلك كانت المجاعات تترك أثرًا لا يمحى في ذاكرة الشعوب، وقد ذكر ابن الجوزي بأنّه في سنة 343 هجرية أكل الناس الأطفال والجيف بسبب الجوع. وقد سجّلت ذاكرة الجوع قصة هانسل وغريتل التي دوّنها الأخوان غريم، حيث تقوم زوجة الأب الشريرة بترك الطفلين في الغابة، ليموتا، لأنّ الطعام لا يكفي. يتجوّل الطفلان على غير هدى في الغابة، ليجدا بيتًا مصنوعًا من الحلوى وهناك تحتجزهما ساحرة شريرة تعمل على تسمينهما من أجل أكلهما، فتسجن هانسل وتجبر أخته على خدمتها. وكانت تدفع الطعام اللذيذ ليأكله هانسل ويسمن، لكن هانسل يمد عودًا لتلمسه الساحرة بدلًا من يده، فتجده نحيفًا فتؤجّل أكله، وفي النهاية يتمكّن هانسل وأخته من دفع الساحرة إلى فرن الطعام وحرقها والعودة إلى أبيهما مع المجوهرات التي كانت الساحرة تمتلكها، ليعيشوا أغنياء يتوافر الطعام لديهم بكثرة. هذه القصة قد تم تهذيبها، فهي تعود إلى زمن المجاعة في القرن الرابع عشر ميلادي التي ضربت أوروبا، حيث كان الناس يتخلصون من الأطفال والعجائز عبر تركهم في الغابة ليصبحوا طعامًا لجوعى آخرين أو يقومون بأكلهم. بعيدًا عن تاريخية القصة أو تخييلها، هناك رمزية تكمن في أنّ الطفلين لم يتمكنا من القضاء على الساحرة، إلّا بعد تمكّنهما من ضبط شهواتهما نحو الطعام.

طعام يدٍ، لا طعام يدين

لا تختلف علاقة العرب بالطعام عن غيرهم من الشعوب في تحميله الدلالات الكثيرة، وخاصة أنّهم كانوا يعيشون في بيئة شحيحة بالموارد الغذائية، ممّا جعل من الطعام جوهر الكرم. وفي الوقت نفسه حوّل الانغماس في الطعام إلى خطيئة أخلاقية إن لم تتم مشاركته مع الغير، ومن هذا المنطلق اشتهر حاتم الطائي بكرمه في إطعام الجياع، فلم يحفظ حصانه، مع ما يشكّله الحصان للعربي من فخر وعزّ، بأن ذبحه على مائدة الجوعى. وليس غريبًا أن يبتدره ابنه طالبًا أن يذبحه لإطعام ضيوفه. هكذا لعب الطعام دورًا محوريًا في حياة العرب في الجاهلية، حتى أنّ امرئ القيس ذبح ناقته لإطعام بنات عمّه، على الرغم مما كان يخبئ تحت هذا الكرم من رغبات مجنونة: 

وَيَوْمَ عَقَرْتُ للعَذارى مَطيّتِي/ فيا عجبًا من كورِها الْمُتَحَمَّلِ/
فظلَّ العذارى يرْتَمينَ بلحمها/ وشحمٍ كَهُدَّابِ الدَّمَقس الْمُفَتَّلِ.

وإذا تتبعنا سطوة الطعام بالنسبة للجاهليين، نجد أن عمرو بن عبد مناف، جد الرسول الكريم، قد ساد قريش بعد أن أطعمهم في سنة جوع، والذي نال اسمًا آخر بعد تلك الواقعة وأصبح هاشمًا، بعد أن هشم الكعك على الثريد، فقال الشاعر:                                           

عَمْرُو الَّذِي هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ/ قَوْمٌ بِمَكَّةَ مُسْنِتِينَ عِجَافِ.

إن تعفّف العربي الجاهلي عن الطعام، على الرغم من ندرته، قد تغيّر بعد الفتوحات الإسلامية وتدفّق الموارد المالية والسلع، حيث يقول زياد بن حنظلة في فتح الخليفة عمر بن الخطاب إيلياء/ بيت المقدس:

وألقت إليه الشام أفلاذ كبدها / وعيشًا خصيبًا ما تعد مآكله.

هذه الوفرة غير المعتادة لدى العرب في شبه جزيرتهم في الطعام والانغماس في ملذّاته، تصدى لها الخليفة عمر، وفي الخبر أنّ الخليفة دخل على ابنه فوجده يأكل لحمًا مأدومًا بسمن، فعلاه بالدرة/ العصا وقال له: “لا أم لك، كُل يومًا خبزًا بلحم، ويومًا خبزًا ولبنًا، ويومًا خبزًا وسمنًا… ويومًا خبزًا قفارًا”… هذا المنهج في التقشّف خرج عنه العرب فيما بعد، حيث جاء في الأثر أنّ عوف بن القعقاع كان يعدّ من أعراب البصرة، فطلب من خادمه أن يعد طعامًا يشبع من يرد إليه، وعندما رأى ما صنعه خادمه من ألوان الطعام المختلفة التي لم تكن العرب تدركها واستظرافهم لها الواحد بعد الآخر، فقال له: “فهلا جعلته طعام يد، ولم تجعله طعام يدين”، وهذا كناية عن تناول الطعام باليدين نهمًا إليه، بسبب تعدّد أنواعه، كما يقول الجاحظ. ومن تبعات الطعام السياسية أنّ العباسيين بعد إزاحتهم بني أمية عن الحكم، نقّبوا في أخبارهم عن ما يشين سيرتهم، فكان نهمهم للطعام أحد المثالب التي أثيرت بحق بني أمية حتى أنّ أحد الشعراء، كما يذكر الثعالبي في كتابه (يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر) قد قال: وصاحب لي بطنه كالهاوية/ كأنّ في أمعائه معاوية.

هكذا تواردت الأخبار عن النهم للطعام في الزمن الأموي من قبل الخلفاء والأمراء كأحد الوسائل في الدعاية السياسية للعباسيين. لكن مع الزمن العباسي، تفتح المطبخ العربي بشكل كامل على إرث الطعام الفارسي والرومي بشكل خاص مع أطعمة البلاد التي فتحوها. وأمام هذا الواقع الجديد بدأ الأدب يتخذ من الطعام إحدى ثيماته، فنجد ابن الرومي وكشاجم قد دبجا القصائد في مدح بعض الأطعمة، حتى أن إبراهيم بن المهدي المشهور عنه قول الشعر في الطعام، ينشئ أبياتًا يصف فيها خبز الفتيت الذي أهداه له ابن أخيه الأمين وفي الوقت نفسه يعلن موالاته السياسية له. وتعدّدت قصائد إبراهيم بن المهدي، فيقول في وصف أكلة تُدعى النرجسية:

يا سايلي عن أطيب المآكل/ سألت عنه اليوم غير جاهل
خذ يا خليلي أضلعًا من لحم/ ولحم فخذ بعده والشحم
واطرحه في الطابق فوق النار/ ثم أقله بالربّ والأبزار… 

هذا التغيّر في استخدام ثيمة الطعام من جوهر الكرم عند الممدوح أو انتفائه عند المهجو، جعل من الشاعر أبي مخفف يقول:

دَع عَنكَ رَسمَ الدِيارِ/ وَدَع صِفاتِ القِفارِ
وَصِف رَغيفًا سَرِيّا/حَكَتهُ شَمسُ النَهار
أَو صورَةُ البَدرِ لَمّا اِس/تَتَمَّ في الاِستِدارِ
فَلَيسَ يَحسُنُ إِلّا/ في وَصفِهِ أَشعاري.     

  

لم يعد الوقوف على الأطلال والتشبيب والفخر والمدح والهجاء من أولويات القصيدة، فالحاجة إلى الطعام أولى وجمالياته تفوق ما درج الشاعر العربي على استحضاره في قصائده.

تداخلت الثقافات في الزمن العباسي وتنوعت الأطعمة بشكل كبير وظهرت كتب الطبخ وقد أورد ابن النديم في فهرسه العديد من أسماء مؤلفيها، كذلك فعل المسعودي في (مروج الذهب) وكانت هذه المؤلفات تجمع بين أدب النديم والمسامرة والطبيخ، كما عند الشاعر كشاجم الذي كان طباخ سيف الدولة الحمداني. وظهرت طبقة الكدية، هؤلاء الطفيليون الذين أنشأ لهم الجاحظ كتابًا سمّاه (البخلاء). ونستطيع أن نعتبر كتاب (الطبيخ) لمحمد بن حسن البغدادي صلة الوصل بيننا وبين ما ضاع من تلك الكتب سواء كانت ترجع لإبراهيم الكاتب أو عمّ الخليفة الأمين، التي ذكرها كل من ابن النديم والمسعودي، فقد ملأه بوصفات إعداد الطعام وبالأشعار المصاحبة لها. وأمام هذا الواقع المتطوّر حيث انتقل الطعام من الحاجة البيولوجية إلى التمتّع المحض به، لا يجب أن نستغرب كيف غيّر زرياب عادات الطعام في الأندلس ومنها انتقلت إلى أوروبا.

الوفرة في الطعام بدأت بالتناقص وخاصة بعد سقوط الدولة العباسية، ليتحوّل الطعام إلى صوت سياسي. وإذا كان الشاعر اللاتيني الكوميدي جوفنيال قد كشف عن آليات السلطة الرومانية في إسكات شعبها، وذلك بتأمين الخبز له وإشغاله بالمهرجانات، فإن الشاعر ابن الجزار وصل به الأمر أن يقسم بالرغيف:                                     

قسمًا بلوح الخبز عند خروجه/ من فُرنه وله الغداة بخار
ورغائفٍ منه تروقُكَ وهي في/ سحب الثِفال كأنّها أقمار
فكأنّ باطِنه بكفّك درهم/ وكأنّ ظاهِر لَوْنه دينار.

وإذا كانت تعتبر ألف ليلة وليلة اللاشعور الجمعي للشعوب العربية والإسلامية في ذلك الزمن، فمن الطبيعي أن يكون الطعام فيها نسقًا فاعلًا ومعبّرًا عن أحوال الناس ومعبرًا بين طبقة وطبقة اجتماعية، ففي الليلة السابعة والعشرين، يتزوّج أحد التجار من جارية زوجة الخليفة هارون الرشيد زبيدة ويحدث أن يقدم له طعام الزرباجة – تصنع من اللحم- فيأكل وينسى أن يغسل يديه وعندما خلا إلى الجارية شمّت منه رائحة الزرباجة، فاستشاطت غضبًا، ووصفته بأنّه سوقي لا يعرف آداب الطعام. هكذا أصبح الطعام وآدابه محدّدًا يفصل بين طبقات المجتمع.
غابت آثار الطعام عن السرديات العربية إبّان الحكم العثماني للمنطقة، ولربما تلمح لنا هذه النادرة إلى السبب، فيحكى بأنّ أحد الخلفاء العثمانيين أحبّ الباذنجان جدًا وكان هناك شاعر في حاشيته، عندما رأى ولع الخليفة بالباذنجان، شرع يدبّج القصائد في مدح الباذنجان. ولكن بعد مدّة من الزمن سئم الخليفة من الباذنجان، فأمر طباخيه أن ينفوه عن مائدته، وفي الحال تغيّرت قصائد الشاعر من المدح إلى هجاء الباذنجان، فاستفسر الخليفة عن ذلك، فأجابه الشاعر: أنا من حاشيتك يا مولاي، ولست من حاشية الباذنجان!

مع بدايات القرن العشرين وظهور طلائع نتاج الأدب العربي في الشعر والقصة والرواية عاد ذكر الطعام على استحياء، حيث نجد ذكرًا له لدى طه حسين في كتابه (الأيام) واستخدمه نجيب محفوط كثيمة ثانوية داعمة في سردياته، لكن لم يكن بحدّ ذاته موضوعًا لمحكيه. ونجد ذكرًا للمجاعة لدى هاني الراهب في روايته (الوباء) حيث يرصد المجتمع السوري في القرن العشرين، حيث يُجبر والدان على ترك طفلهما الرضيع تحت الجسر لمشيئة الأقدار، لعدم قدرتهما على إطعامه. ظل ذكر الطعام في الأدب العربي مجرد شذرات حتى لو كان عنوانًا لأحد الكتب. فقد كتب توفيق يوسف عواد رواية (الرغيف) راصدًا فيها المجاعة التي حدثت في زمن الحرب العالمية الأولى، حيث وصف المعاناة الشّاقة من أجل الحصول على رغيف واحد. أمّا الشاعر نزار قباني عبر حنكته اللمّاحة، فقد عنون إحدى قصائده بالثلاثية التي تحكم العقل العربي (خبز وحشيش وقمر). وقد يكون الكاتب محمود السعدني من أوائل من جعل الطعام موضوعًا لمحتوى كتابه (وداعًا للطواجن)، لكن لن نجد في أدبنا العربي تخيلًا كاملًا كُتب من أجل الطعام وحده، كما في رواية لورا إسكوفيل التي صدرت عام 1989 بعنوان (كالماء بالنسبة للشوكولاته) فهي رواية تدور عن أسرار الحبّ والحياة كما يكشف عنها المطبخ. وتعد رواية (خبز على طاولة العم ميلاد) لمحمد النعاس (ليبيا) الفائزة بجائزة البوكر من الروايات العربية التي استخدمت ثيمة الطعام وخصوصًا الخبز لرصد التغيرات الجندرية، لكن ما زال دخول الشاعر والقاص والروائي العربي يقتصر على شم روائح الطعام المنبعثة من المطبخ من دون ولوجه، لربما يعود ذلك إلى انشغاله بقضايا أخرى أكثر أهمية من التلذّذ بوجبة طعام مكتوبة بالحبر.

هذا الفقر السردي في تناول الطعام في منتجنا الثقافي الحديث تم تعويضه إلى حدٍ ما في الدراسات التاريخية والاجتماعية، وتحقيق المخطوطات القديمة المتعلّقة بالطعام، فنجد الباحثة نادية الغزي تصدر خمسة مجلدات بعنوان (حضارة الطعام في بلاد الرافدين وبلاد الشام).

إنّ الأمثلة المذكورة أعلاه عن الطعام في منتجنا الثقافي، هي مجرد علامات، لا بدّ هي قاصرة جدًا عن رصد سيرة الطعام في ثقافتنا العربية الحالية، على الرغم من أنّ الثورات جميعها تبدأ عندما تجوع المعدة؛ وقديمًا سُئل أشعب ما ناتج جمع اثنين إلى اثنين، فأجاب: أربعة أرغفة.

المصادر:

1- جدلية الحرف العربي وفيزياء الفكر والمادة، محمد عنبر. دار الفكر – دمشق 1987.
2- الطبخ في الحضارات القديمة، كاثي ك. كوفمان، ترجمة سعيد الغانمي. هيئة أبو ظبي للسياحة والسفر- مشروع كلمة لعام 2012.
3- أنثروبولوجيا الطعام والجسد، التنوع والمعنى والقوة، كارول م. كونيهان. ترجمة: سهام عبد السلام. المركز القومي للترجمة -القاهرة 2013.
4- Jean Anthelme Brillat-Savarin – Wikipedia
5- كلود ليفي ستروس – ويكيبيديا (wikipedia.org)
6- أنثروبولوجيا الطعام والجسد، التنوع والمعنى والقوة، كارول م. كونيهان. ترجمة: سهام عبد السلام. المركز القومي للترجمة -القاهرة 2013.
7- صناجة الطرب في تقدمات العرب، تأليف نوفل الطرابلسي، دار الرائد العربي، بيروت، الطبعة الثانية 1982.
8- ملحمة جلجامش، طه باقر. مديرية الثقافة العامة، بغداد 1971.
9- مجلة الفنون الشعبية، العدد34 لعام 1991.
10- الطعام في العالم القديم، جون إم ويلكنز وشون هيل، ترجمة إيمان جمال الدين الفرماوي. الناشر مؤسسة الهنداوي- القاهرة 2017. 

https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/revisions/2023/12/20/%D8%A7%D9%D8%B7%D8%B9%D8%A7%D9-%D9%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%A9-%D9%D8%A7%D9%D8%A5%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D8%B9?fbclid=IwAR04i-gwMXZNhTDesyQDIj-UhMcszGmkd0QTuQnSOlaSh_pm7HjVXFfWn_k https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/revisions/2023/12/20/%D8%A7%D9%D8%B7%D8%B9%D8%A7%D9-%D9%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%A9-%D9%D8%A7%D9%D8%A5%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D8%B9?fbclid=IwAR04i-gwMXZNhTDesyQDIj-UhMcszGmkd0QTuQnSOlaSh_pm7HjVXFfWn_k

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 20, 2023 07:40

December 18, 2023

كيف تم إجبار اليهود العرب على الهجرة إلى “إسرائيل”؟ مقالي في موقع قناة الميادين

إنّ مقاومة الاحتلال الصهيوني على أرض فلسطين، لم تتوقّف يوماً، وإن تنوّعت أساليبها من الكلمة إلى البندقية، مع أنّ هذا المحتل لا يفهم إلّا لغة القوة. وجاءت أحداث غزة الحالية لتثبت مرّة أخرى ضرورة إعادة قراءة تاريخ المنطقة، من أجل الكشف بأنّ تخبّط العرب؛ هو ما سمح لكيان كهذا بأن يوجد. وإنّ استمرار التشتّت العربي سيؤدّي إلى ضياع القضية الفلسطينية كليّة. إنّ الأجيال الشابة من العرب قد يُدهشها ويفاجئها تسمية أحد الأحياء في مدنها العربية بالحي اليهودي، فأين ذهب سكان هذا الحي؟ وهل اليهودي هو الصهيوني؟ فإذا كان كذلك! فكيف سمحنا بوجوده بيننا! وإن لم يكن، فكيف تخلّينا عن مواطن من بلدنا، لنتركه نهباً للصهيونية، فقط لأنّه يدين باليهودية! 

يأتي كتاب د. خيرية قاسمية: (يهود البلاد العربية) الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية لعام 2015 كجواب عن الأسئلة التي أثرناها أعلاه، حيث تُقدّم فيه بانوراما تاريخية عن وجود اليهود في البلاد العربية، منذ لحظة ظهور الديانة اليهودية مع النبي إبراهيم، حتى السنين الأولى من القرن الواحد والعشرين. كما تسلّط الضوء على وجود اليهود العرب في فلسطين، والذين هاجروا إلى الكيان الصهيوني منذ بدايات القرن العشرين، وذلك لأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية، استغلتها الصهيونية العالمية لتحقيق مآربها. 

وقد بيّنت في كتابها الطبقية والعنصرية التي مارسها اليهود الغربيون (الأشكناز) تجاه اليهود العرب، والمعاناة التي عاشوها بعيداً عن بلدانهم الأصلية، ممّا دفع الكثير من اليهود العرب ومفكّريهم لإعادة تبنّي مصطلح: (اليهود العرب) في مقابل المصطلح الذي صكّته الصهيونية: (المزراحيم/اليهود الشرقيون)، وذلك لأنّ اليهود العرب لهم تراثهم العربي الأصيل، واستبداله بعادات وأعراف اليهود الغربيين سيؤدّي إلى محوهم وطمسهم في المجتمع الإسرائيلي. 

هذه التناقضات التي وجدها اليهود العرب في المجتمع الإسرائيلي دفعتهم إلى أن يعلنوا عن انتمائهم لثقافتهم العربية، كالمفكّر سامي شالوم شطريت، ونعيم جلعادي، وإيلا شوحط، وديفيد ربيعة. حيث بدأت الأصوات اليهودية العربية تكشف عن مطالبها بضرورة رفع الحيف عنها، هكذا بدأنا نجد في الدراسات التاريخية صدى لهذه المطالب، فيكشف الباحث يئير أورون أستاذ التاريخ في الجامعة المفتوحة في “إسرائيل” في كتابه: (المحرقة والنهضة والنكبة) عن أنّ الكيان الصهيوني ينكر الحقائق التاريخية ويمنع أي حوار بين الرواية الإسرائيلية والروايات المعارضة لها.  

يقول الروائي اليهودي سامي ميخائيل ذو الأصول العراقية: “كلّ يهودي قَدِم إلى إسرائيل، هو بمثابة لاجئ، وقليلون هم من جاءوا بدافع المحبة إلى إسرائيل”. هذه المقولة تكشف لنا أنّ هجرة اليهود العرب إلى فلسطين المحتلة، كانت لأسباب أخرى على غير ما تشيعه الصهيونية من تشبّعهم بفكرتها عن وطن قومي لليهود يُقام على أرض فلسطين. ويعلّل الكاتب اليهودي إسحاق بن زفي عدم تجاوب يهود البلاد العربية مع الحركة الصهيونية حتى الحرب العالمية الأولى بــ: بعدهم عن مركز التجمّعات اليهودية في أوروبا، وقلّة عددهم في البلاد العربية، واشتباه السلطات العثمانية بالحركة الصهيونية.                                                    

لقد نشأت الصهيونية كحركة في قلب المجتمعات الأوروبية نتيجة لعدد من العوامل لم تكن ضمن حسابات اليهود العرب إلى حدّ كبير، لكن مع وعد بلفور وسقوط الدول العربية تحت الاحتلال الأوروبي، تغيّرت الظروف وأصبح اليهود العرب مطلباً للحركة الصهيونية، وخاصة بعد قيام “دولة إسرائيل” عام 1948. لقد وجد قادة الحركة الصهيونية بأنّ التفوّق السكاني اليهودي لن تحقّقه الهجرة من الدول الغربية، حيث بلغ التزايد السكاني للفلسطينيين ضعف النمو السكاني لليهود. حتى أنّ بن غوريون اعترف أنّ ما ينقص “إسرائيل” هو القوة البشرية، وشجب الصهيونيين لإرسالهم المال والنصيحة، بدلاً من اليهود المدرّبين. 

أمام هذا الواقع بدأت أنظار الحركة الصهيونية تتطلّع بجدية إلى اليهود العرب، إلى أن صدر إعلان قيام “دولة إسرائيل” وتنظيم عملية التجمّع بقانون العودة الذي تبنّاه الكنيست عام 1950 والذي ينصّ على حقّ الهجرة لكلّ يهودي وتمتّعه بالجنسية الإسرائيلية بشكل آلي. ومع ذلك لم يبلغ تعداد المهاجرين من البلاد العربية والإسلامية ما بين عامي 1919 إلى 1948 من الهجرة اليهودية العامة إلى فلسطين إلّا تسعة بالمئة فقط. 

تزايدت هجرة اليهود العرب بعد حرب 1948 نتيجة لما قامت به المخابرات الإسرائيلية من خطط لنقل اليهود من البلاد العربية إلى “إسرائيل” كعملية (عزرا ونحميا) من العراق، و(البساط الطائر) من اليمن وغير ذلك، مستغلّة حالة التشتت في القرارات من قبل الدول العربية؛ من فرض حالة الطوارئ أثناء الحرب والتضييق على اليهود، وما أشاعته الصهيونية من أخبار عن رغبة المجتمعات العربية بطرد اليهود وحتى قتلهم، مضخّمة بعض الحوادث المتفرّقة، كحادثة الفرهود في العراق، أو الأعمال التخريبية التي طالت أحياء بعض اليهود في المدن العربية بعد خسارة العرب المعركة في عام 1948. 

إنّ مصطلح: (اليهود العرب) يقابله لدى الصهاينة مصطلح: (المزراحيم) والذي يعني اليهود الشرقيين الذين كانوا يقيمون في البلاد العربية، أو البلاد التي كان أكثر سكّانها من المسلمين. وما قصدته الصهيونية من هذا المصطلح أن تقطع الصلات الطبيعية لهؤلاء اليهود مع البلاد العربية والمجتمعات المسلمة التي كانوا يعيشون بين ظهرانيها. ولقد رفضت الصهيونية مصطلح اليهود العرب لأنّه يشير إلى أنّ الهوية اليهودية؛ هي دين وليست انتماء عرقياً أو جنسية. 

إنّ الصراع بين هذين المصطلحين أثار ضجة كبيرة في المجتمع الصهيوني في “إسرائيل”، كان أحد أسبابها أنّ الأشكناز/ اليهود الغربيين كانوا ينظرون إلى اليهود الذين هاجروا من البلاد العربية نظرة دونية انعكست على أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فكتب عالم الاجتماع اليهودي يهودا شنهاف وهو من أصول عراقية كتاباً بعنوان: (اليهود العرب) رفض فيه مصطلح المزراحيم الذي يميّع ويمحو ثقافة القادمين من البلاد العربية من اليهود، وأصرّ على أنّ اليهود العرب هم أصحاب ثقافة عربية خالصة.  

اليهود العرب: 

نستطيع القول إنّ اليهود العرب قد عاشوا بشكل طبيعي في مجتمعاتهم العربية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، حيث كانوا يتكلّمون اللغة العربية بلهجاتها المختلفة، وكانوا أعضاء فاعلين في مجتمعاتهم، فمنهم الأغنياء والفقراء والتجار والمفكّرون والمهندسون والأطباء والشعراء والأدباء، وأعضاء في المجالس النيابية والتشريعية وحتى اللغوية. ويرجع تاريخ وجودهم في المنطقة إلى النبي إبراهيم؛ وإن كان هذا التاريخ تختلط فيه الأسطورة والواقع، إلّا أنّ الحفريات والمدوّنات التاريخية لحَظَتهم، فمن السبي البابلي وإعادتهم إلى فلسطين إبّان الحكم الفارسي، ثم الفترة الهيلينية حيث تمّ توطين بعضهم في مصر، وصولاً للحكم الروماني، لكنّ هذا الوجود لم يكن يوماً يشكّل أمّة متجانسة. وكما يقول الكاتب اليهودي شلومو ساند في كتابه: (متى اخترع الشعب اليهودي؟ وكيف؟): إنّ اليهود لم يكونوا يوماً من الأيام قومية واحدة أو شعباً واحداً، ولا ينتسبون إلى عرق واحد. 

بدأت علاقة العرب المسلمين معهم على زمن الرسول محمد عبر وثيقة أمان تحفظ حقوقهم وحقوق المسلمين، لكنّهم نقضوها بالوقوف إلى جانب الكفّار. وعلى زمن الخليفة عمر تمّ إبعادهم عن شبه الجزيرة العربية، لكن ظروفهم إبّان الحكم الإسلامي العربي للمنطقة كانت جيدة ومعقولة تحت قانون أهل الذمة الذي يشمل أصحاب الديانات السماوية الأخرى، فقد عيّن الخليفة عمر أول رئيس لليهود ويدعى (بستنائي) الذي رافق جيش المسلمين لفتح بلاد فارس. ومثله فعل الخليفة علي، بحسب المصادر اليهودية، بأنّه عيّن (مار إسحق) حاخاماً أكبر للكوفة ورئيساً لليهود في البلاد الإسلامية. 

وتذكر باحثة يهودية أنّه في الزمن الأموي والعباسي لم تسجّل أيّ شكوى يهودية من حالات الاضطهاد طوال العهدين الأموي والعباسي بالمعنى الجمعي. ولقد عاش اليهود زمنهم الذهبي خلال الحكم العربي للأندلس. وفي الزمن العثماني لم يختلف وضعهم عمّا سبق، حتى إنّ العثمانيين استقدموا يهود بودابست والمجر إلى الدولة العثمانية بعدما عانوا من الفاقة والفقر فيها وأصبح اسمهم يهود الدونمة. 

لقد ظلّ الرأي السائد في العالم العربي والإسلامي حتى الثلاثينيات من القرن العشرين يرى الصهيونية خارج نطاق العلاقة التي تقوم بينهم وبين اليهود. وعلى الرغم من أنّ مؤتمر بلودان عام 1937 نصّ على نصرة فلسطين، وأنّ قضيتها موضع اهتمام الأمة العربية، لكن هذا لا يعني العداء تجاه اليهود المقيمين في البلاد العربية. وهذا ما أكّدته الجامعة العربية عندما دعت إلى إقامة دولة فلسطينية بأنّ على اليهود ألّا يخشوا شيئاً. 

أوضاع اليهود قبل هجرتهم إلى فلسطين المحتلة:يهود العراق: 

عاش اليهود في العراق كسكّانه الأصليين وتكلّموا العربية وليس غيرها من اللغات حتى أنّ جيلهم الأخير في العراق تخلّى عن الأسماء اليهودية وتسمّى بأسماء إنكليزية وعربية.

ساهم الاحتلال البريطاني للعراق بنهضة الطائفة اليهودية التي أظهرت ولاء تاماً له، مما حسّن من وضعهم الاقتصادي بعد أن أصبحوا المورّدين لاحتياجات الجيش البريطاني من الأطعمة، وزاد عدد اليهود في الوظائف الحكومية. وكعادة اليهود تجمّعوا في أحياء خاصة بهم وكانت لهم مدارسهم الخاصة، إلّا أنّ علاقاتهم مع العراقيّين شملت جميع النواحي، فكانوا الرائدين في تأسيس البنوك، وقد وصل تعداد أعضاء اللجنة الإدارية لغرفة تجارة بغداد من اليهود إلى الثلث. وعندما توّج فيصل بن الحسين أميراً على العراق استقبله اليهود باحتفال حيث ألقى كلمة قال فيها: “وإنّي أطلب من أبناء وطني العراقيين، أن لا يكونوا إلّا عراقيين”، فأنشد الشاعر اليهودي أنور شاؤول بهذه المناسبة: يا دياراً حبّها تيّمني/ لك في قلبي غرام أبدي.

وقد مُثّل اليهود في المجلس النيابي بأربعة مقاعد عام 1924 وأصبح لهم ستة مقاعد عام 1946. وقد انتسبوا إلى الحزب الشيوعي وكانوا من قادته. وقد نصّ تقرير لدبلوماسيين بريطانيين وأميركيين بأنّ الكبار من رجال الدين اليهود والأغنياء منهم ورجال الأعمال كانوا يرفضون ترك العراق والالتحاق بمستقبل غامض في فلسطين المحتلة. وكتب المندوب السامي البريطاني على العراق بأنّ وعد بلفور لم يلقَ استجابة لدى يهود العراق. 

ازدادت الدعاية الصهيونية في العراق بعد الحرب العالمية الأولى، ووجدت في حادثة الفرهود 1941 حصان طروادة التي استطاعت من خلاله أن تميل كفّة اليهود نحو الهجرة إلى فلسطين المحتلة. وقد ذهب ضحية أعمال الشغب، وفق التقديرات البريطانية، ما يزيد عن مئة قتيل يهودي وأكثر من ألف جريح، وتمّ تدمير أكثر من 900 بيت يهودي في بغداد. 

وبعد إعلان “دولة إسرائيل” اتخذت السلطات العراقية مجموعة من القرارات ساهمت في تسريع هجرة اليهود منها: الحجز على أملاكهم والطرد من الوظائف وغير ذلك، إلى أن ختم وضع اليهود بعملية عزرا نحميا، حيث كانت الطائرات تقلّ اليهود من العراق إلى قبرص، ومع ازدياد الهجرة هبطت الطائرات العراقية في اللد حاملة معها اليهود العراقيين ولم يبقَ في العراق، إلّا القلّة القليلة التي أخذت بالتناقص لتصل لأقلّ من مئة شخص في إحصاءات تعود إلى أواخر القرن العشرين وأوائل الواحد والعشرين. 

يهود سوريا: 

تموضع يهود سوريا في دمشق وحلب، وكعادتهم كان لهم شأن كبير في النشاط الاقتصادي. وقد حاولت الوكالة اليهودية استمالتهم بشتى الوسائل، إلّا أنّ قوات الاحتلال الفرنسي بسبب خصومتها مع الإنكليز عوّقت بعض الأنشطة الصهيونية كشراء الأراضي في جنوب سوريا. ومع صعود القضية الفلسطينية إلى واجهة الأحداث بالنسبة للعرب في منتصف القرن العشرين، وتفاعل العرب مع أخوتهم في فلسطين، ممّا أدّى إلى حوادث عنفيّة في حلب خاصة، فاستغلت الصهيونية تلك الأحداث لتعجّل من هجرة اليهود. وفي أعقاب محادثات السلام عام 1991 في مدريد، سمحت الحكومة السورية لليهود بالسفر، بشرط ألّا يذهبوا إلى الكيان الإسرائيلي فغادر نحو 2600 شخص ممّن ظل في سوريا من اليهود إلى كندا وأميركا، وعاد منهم إلى سوريا 160 يهودياً. 

يهود اليمن: 

لا يختلف وضع اليهود في اليمن عن غيرهم في البلاد العربية، إلّا باعتبارهم من أقدم الجاليات اليهودية في الوطن العربي. وظلّت هجرتهم إلى فلسطين المحتلة، لا تذكر، حتى قيام عملية البساط الطائر ما بين عام 1948 و1951 حيث تمّ نقل 45040 يهودياً من اليمن. ولقد روى التاجر أحمد القريطي كيف أُوكل إليه تجميع اليهود وتسفيرهم بعد الاتفاقية بين الإمام يحيى حاكم اليمن والوكالة اليهودية. أمّا من بقي منهم في اليمن، فيعدّون بالمئات، وقد تمّ نقلهم إلى فلسطين المحتلة إبّان أحداث اليمن الأخيرة. 

يهود الجزائر: 

وجد اليهود الذين تمّ تهجيرهم من الأندلس في المغرب العربي ملجأ لهم؛ وأصبح اسمهم السفرديم. وعندما دخلت فرنسا إلى الجزائر منحت الجنسية الفرنسية لليهود فيها، وعند جلائها عن الجزائر ذهب اليهود الفرنسيون مع المحتل إلى فرنسا. أمّا من بقي، فهم قلّة قليلة.              

أمّا يهود المغرب وتونس وليبيا والسودان والبحرين والكويت ومصر، فلا تختلف قصة هجرتهم إلى فلسطين عمّا سبق، إلا بتفاصيل معينة، أمّا في الإطار العام، فهي واحدة. 

لقد استغلّت الصهيونية تخبّط الأنظمة العربية وهزائمها المتتالية أمام “إسرائيل” وغضب الشارع العربي، الذي لم يكن لديه الوعي الكافي ليميّز بين اليهودي والمتصهين، ممّا أدّى إلى بعض الحوادث العنفيّة ضدّ اليهود العرب، ولتقوم الصهيونية بتضخيم هذا الواقع، وإقناع اليهود العرب بأنّ مستقبلهم الآمن في فلسطين المحتلة. 

يأتي هذا المقال كدعوة لقراءة كتاب د. خيرية قاسمية، التي وافتها المنية قبل إصداره، فلا يمكن استيعاب الحاضر والتأثير فيه من دون فهم الماضي. لأنّ العلاقة بين المقدّمات والنتائج ليست باتجاه واحد، بل هي كحركة النواس، وإن الاقتصار على لحظتنا الحاضرة يعني إيقاف قراءة الساعة الفلسطينية، التي يجب أن تظل تدقّ وإن كانت هذه الأيام بتوقيت غزة، إلّا أنّ الغضب الساطع آت. 

https://www.almayadeen.net/arts-culture/%D9%D9%8A%D9-%D8%AA%D9-%D8%A5%D8%AC%D8%A8%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%D9%8A%D9%D9%D8%AF-%D8%A7%D9%D8%B9%D8%B1%D8%A8-%D8%B9%D9%D9-%D8%A7%D9%D9%D8%AC%D8%B1%D8%A9-%D8%A5%D9%D9–%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9?fbclid=IwAR1ksybKV2kAA5f13aFAgmvPMMKyIisXgKdx6v3lGetPI8egG2vUYGsXDws

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 18, 2023 07:04

December 11, 2023

عندما يصيب فيروس العاطفة خوارزمية القاتل المحترِف

مقالي في صفحة سينما/ الصباح العراقية

عبر مونولوغ داخلي يَشرع القاتل المحترِف (مايكل فاسبندر) الذي لا نعرف له اسمًا محددًا، على الرغم من كثرة الأسماء التي ينتحلها خلال الفيلم، بتلاوة دستور العمل: “التزم بالخطة، لا تثق بأحد، تصرّف وفق تخطيط مسبق، لا ترتجل، لا تقاتل إلّا في المعركة التي تلقيت أجرًا عنها”. هكذا يفتتح المخرج ديفيد فينشر سرديته السينمائية في فيلمه الجديد لعام 2023 (القاتل/The Killer) والذي لم نكن لنعرف عن شخصيته شيئًا قبل أن يرتكب خطيئته، وذلك حين يفشل في اغتيال إحدى الشخصيات المهمّة، فتضاء الشاشة البيضاء. وكما كانت الخطيئة التي ارتكبها آدم في الجنّة سبب التواجد البشري على الأرض، ومن ثم اشترع الغفران ليتمكّن أبناء آدم من العودة إلى الجنة. كذلك أدّى إخفاق القاتل المحترِف في إنجاز مهمّته، إلى انتهاء الحالة الشبحية التي كان متواجدًا فيها، التي لا تسمح لنا بمعرفة شيء عنه إلّا من خلال نتائج أفعاله، المتجسِّدة في طرائده التي قنصها بكل برودة إعصاب وعاطفة ميتة. ومن هذا الزاوية سنفهم سبب المونولوغ الذي ابتدرنا به القاتل، فهو الآن مرئي لنا، عبر كاميرا فينشر، وأصبح ملزمًا بتبرير تواجده ضمن مشاهد التصوير، وكأنّه يطلب منّا غفرانًا ما.

يحاول القاتل المحترِف التخلّص من تبعات مهمّته الفاشلة بالعودة إلى مخبئه، ليجد أنّ مشغّليه قد اقتحموا قلعته، وأذاقوا صديقته الويلات، فيقرّر الانتقام! وهنا يحدث أول خرق لدستور القتل، لأنّ العاطفة كانت هي المحرِّك، لا الثمن الذي سيتقاضاه؛ على الرغم من تكراره لقواعد الدستور في كلّ عملية قتل يقوم بها بحقّ مشغّليه. وكأنّه عبر تكرار قواعد دستور القتل يحمي نفسه من أن يقع في فخّ التعاطف، فهو يجهز على حياة قاتلين محترفين مثله، لم يتجاوز مقتضيات عملهم، وما طُلب منهم من قبل أرباب عملهم، فلقد كانوا يردّدون مبادئ دستور القتل مثله، قبل إقدامهم على أيّة عملية تصفية، فأين يكمن خطأهم، حتى يعاقبهم؟ ينتقل القاتل المتحرِف من انتقام إلى انتقام بعزيمة ثابتة وتخطيط مسبق، وكأنّه يلعب الشطرنج، فيسقط خصومه واحدًا واحدًا، فالمخرج فينشر هذا ملعبه وخاصة في أفلامه: (Seven – Zodiac) ولن تصعب عليه إدارة مسرح القتل، حيث الاعتناء بأدقّ التفاصيل، وخاصة إذا كان يملك حصانًا جامحًا كالممثّل مايكل فاسبندر الذي عرفنا بسلسلة أفلام (X-Men) حيث لعب شخصية ماغنيتو التي تعرّضت للاضطهاد لأنّها من المتحولين، فتقرّر الانتقام من البشر. وفي هذا الفيلم لا يقدّم لنا فينشر قصة تبرّر تحوّل فاسبندر إلى قاتل محترف، فلماذا تعاطفنا معه، كما فعلنا مع جان رينو في فيلم (The Professional)؟ لربما المشهد الأول في الفيلم يوضح سبب انجذابنا نحوه- مع أنّه مجرد قاتل محترف آخر- عندما أخطأ وأصابت رصاصته تلك الأنثى باللباس المثير، التي كانت ستقضي ليلة مازوخية مع الهدف الذي طُلب منه اغتياله. تلك الأنثى التي تحمل بيدها سوطًا، لا تختلف كثيرًا عن القاتل المحترف، فكلّ منهما ينجز ما يُطلب منه. إذن كانت الشخصية التي طُلب من القاتل المحترِف أن ينهي حياتها فاسدة، فهل كان القاتل المحترِف لا يقبل عملًا، إلّا إذا تأكّد أنّ الشخص المطلوب قتله فاسدًا ويستحق أن تزهق روحه؟ لن نعرف ذلك من خلال اعتراف منه، لكنّ أفعاله بمكان ما تقول ذلك على الرغم من ترديده الدائم لدستور القتل، وبأنّه كائن لا يعترف بوجود الإله، لا تعنيه الأخلاق بشيء. من هذه الافتراضات يدخلنا فينشر في متاهته الأخلاقية ليكشف فينا ميلًا لأن نصبح قاتلين كرمى لعيون عدالة ما.

لكن لنتأمّل للحظة مونولوغ القاتل المحترِف، الذي يُذكّر به نفسه القواعد الصارمة لدستور القتل، فهل كان يفعل ذلك لينجز مهمته بشكل كامل ومهني، أم لإدراكه بأنّه قد خرق مبدأ البراغماتية التي لا تعترف بالعاطفة؟ هو بالتالي يتمنّى لو أنّ القتلة المحترفين مثله قد ارتكبوا خطأ ما، بأن لا يكونوا ميكانكيين لهذه الدرجة، لربما يعفو عنهم. لكن ألم يكن هو بهذه البراغماتية عندما كان يغتال إحدى الشخصيات! فما الذي جرى؟ لقد حدث التغيّر العاطفي في شخصيته الباردة حتى السكون المحض، ونرى ذلك عندما تطلب منه سكرتيرة مشغِّله أن يقتلها غيلة، كي يستطيع أولادها الحصول على التأمين الذي وضعته على حياتها. وفي مشهد آخر يشرب نخبًا أخيرًا مع قاتلة محترفة عذّبت صديقته، قبل أن يجهز عليها!

هذه الإشارات في الفيلم تقصّد فينشر تمويهها بشدّة، وخاصّة عندما كان القاتل المحترِف يفشي لنا بدخيلته عن نظرته إلى الحياة التي يرفض بموجبها أي تعاطف مع أحد، وكأنّ فينشر يقول لنا: لن أضع لكم فتاة كماتيلدا (ناتالي بورتمان) في فيلم (The Professional) تخلب ألبابكم كم فعلت بليون، بل سأسخر منكم عندما تتعاطفون وتنجذبون إلى القاتل المحترِف لمجرد أنّه أراد الانتقام، أمّا ما أريدكم أن تستنتجوه، بأنّ الخطأ الذي ارتكبه القاتل المحترِف؛ هو ما أظهر إنسانيته المخفية!

باسم سليمان

خاص الصباح

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 11, 2023 12:21

باسم سليمان's Blog

باسم سليمان
باسم سليمان isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow باسم سليمان's blog with rss.