باسم سليمان's Blog, page 11

September 26, 2023

September 24, 2023

“الإنسان شجرة مقلوبة”: عن علاقة النباتات بالأدب والأسطورة والدين – ضفة ثالثة

باسم سليمان 24 سبتمبر 2023

تلعب المملكة النباتية دورًا حاسمًا في حياة الإنسان، وذلك من خلال تأمين المأكل، والمسكن، والدواء، والبيئة الحيوية التي تحيط به، إلى جانب توفير الأوكسجين وامتصاص ثاني أكسيد الكربون من الهواء. هذا التعالق جعل من الأشجار والأعشاب والأزهار، ذات أهمية كبرى في الثقافة الإنسانية. وإذا كان هناك من بداية لتبيان هذا التعاضد بين الإنسان والنبات، فإنّنا نجد تشبيهًا جميلًا له، قد أتانا من بلاد الرافدين، حيث قام الإله إنليل بإنبات الإنسان من الأرض كالعشب؛ ولذلك كان يقال بأنّ لرائحة العشب المقصوص رائحة الدم. بينما تقدّم لنا المدوّنة الدينية علاقة أخرى فالشجرة المرمّز لها بشجرة معرفة الخير والشر، هي التي كانت سببًا  في هبوط آدم وحواء من الجنة(1)  والتي تحمل دلالة على التكاثر الجنسي الذي يحتال به الإنسان على الموت، عبر توهّم الخلود من خلال أبنائه. ومن هذه الدلالة جاء مصطلح: شجرة العائلة. وهذه الشجرة التي أكل الإنسان من ثمارها والتي احتار في نوعها، من العنب، إلى الحنطة، إلى التفاح، وفضّل التراث الشعبي أن تكون شجرة التفاح، لتكون شجرة الخطيئة، والتي انجذبنا من خلالها إلى العالم الفيزيائي وتركنا العالم الميتافيزيقي خلفنا، لتكون ثمرتها التي سقطت على رأس نيوتن سببًا في اكتشاف الجاذبية، كما تقول الحكاية! هذه المعرفة التي حزناها من وراء الأكل من شجرة معرفة الخير والشر، دفعت الإله احترازيًا لإهباط الإنسان من الجنة(2) قبل أن يمد يده ويأكل من ثمر شجرة الخلود.                                                                                                لم تكن شجرة معرفة الخير والشر بدعًا في التوراة، فقد استعارتها من أساطير بلاد ما بين النهرين، حيث تصوّرها لنا إحدى اللقى الأثرية كشجرة نخيل تتوسط رجلًا وامرأة، بينما تهمس الأفعى لحواء من خلفها. ليست كل الأشجار سببًا في الهبوط من الجنة، فهناك أشجار تكون سلمًا إلى السماء، كشجرة التين المقدّسة في الهند، التي جلس بوذا تحتها، وأقسم أن لا يبارح مكانه حتى تحدث الاستنارة. هذه الثيمة استخدمها الروائي الألماني هرمان هسه في روايته؛ “سدهارتا” والتي بمكان ما، هي محاكاة لحياة بوذا. حاول الإنسان أن ينال الخلود، لذلك سعى جلجامش إلى منابع الأنهار إلى جده أتونفشتيم معادل نوح التوراتي، ليسأله عن كيفية الخلود، فأرشده إلى عشبة في قاع الإبسو/ البحر، فغاص جلجامش حتى تحصّل عليها، لكن الأفعى سرقتها منه، فلم يبق لجلجامش أن يخلد إلا بذكرى أعماله. ولهذه العشبة شبيه عند الإغريق، والتي نمت من صديد ودم برومثيوس، الذي عاقبته الآلهة بنسر ينهش كبده، لأنّه منح النار سبب الحضارة إلى البشر، وكان من خصائصها أن تمنح الإنسان الخلود أيضًا، لكن الأفعى خدعت الحمار الذي كان يحمل العشبة وتناولتها(3) وكأن الأسطورة الإغريقة ترمز إلى أن الإنسان هو حمار الآلهة الذي خُلق ليعمل فقط.                                                                                                هناك صيغ أخرى لعلاقة الإنسان بالأشجار، فنرى فيها تحوّل البشر إلى أشجار وأزهار. وهذه القصص تحمل في طيّاتها هدف الإنسان في أنسنة محيطه من جماد ونبات وحيوان، ليسقط عليه أفكاره التأسيسية عن الكون. من هذه القصص نذكر ما حدث مع حورية الماء دافني(4)، التي ذهبت ضحية انتقام كيوبيد/إله العشق من الإله أبولو، الذي سخر من قدرته على الرماية، فأطلق كيوبيد سهمين، الأول كان ذهبيًا، فأصاب به أبولو وسبب له عشقًا لا ينطفئ لهذه الحورية، والثاني كان من رصاص رمى به قلب دافني، فأدّى إلى كرهها الشديد لأبولو. طفق أبولو يطارد دافني التي استنجدت بآلهة الأرض جايا التي حوّلتها إلى شجرة غار، لتخلّصها من ملاحقة أبولو. استخدمت أغصان وأوراق شجرة الغار في صنع أكاليل المحاربين، والقادة العسكريين، والرياضيين الإغريق؛ دلالة على جلدهم وصبرهم ومناضلتهم، التي لا تهاون فيها من أجل مجد الإغريق. إذا كانت شجرة الغار تدل على الإيمان، فزهرة عباد الشمس تدل على اليأس والقنوط على الرغم من جمالها. يحكي لنا أوفيد في كتابه؛ مسخ الكائنات، أنّ الجميلة كيلتي التي ولّهت بإله الشمس أبولو، نال منها الحزن والقنوط واليأس، لأنّ أبولو لم يلتفت إليها، على الرغم من امتناعها عن الطعام والشراب لتسعة أيام، فقرّرت التوقّف عن مراقبته في السماء والعودة إلى بيتها، وعندما حاولت تحريك قدميها لم تستطع وتحولت إلى زهرة عباد شمس تستقبل الإله في شروقه، وتشيعه في غروبه. يورد أوفيد أنّ الإله الجميل أدونيس جرحه خنزير، فمات إثر ذلك. ومن دماء  أدونيس نبتت شقائق النعمان، التي تحمل مضامين عن هشاشة الحب والحياة، ومع ذلك فهي جميلة جدًا.

هذه العلاقة الوطيدة بين المملكة النباتية والإنسان دفعت الفلاسفة الإغريق ليروا بالإنسان شجرة مقلوبة، حيث شعره يمثل الجذور، فيما يداه ورجلاه يمثلان فروعها وأغصانها. وأعاد ذات التشبيه المسعودي في كتابه؛ “مروج الذهب” بقوله: “إنّ الإنسان شجرة مقلوبة، والشجرة إنسان مقلوب”. بل إن المتصوّفة رؤوا في الكون شجرة. وذهبت التمثّلات الدينية الوثنية إلى تقديس الشجرة وعبادتها. ولم تبتعد الديانات التوحيدية عن ذكر الشجرة بعيدًا عن تمثلاتها الصنمية، حيث أصبحت النخلة رفيقة السيدة مريم في مخاضها، أمّا الزيتونة عبر زيتها الذي يضيء، فأصبحت  تعبيرًا عن نور الله. هذا التأسيس الأسطوري والشعبي والديني للمملكة النباتية سمح للأشجار والزهور والأعشاب أن تكون رموزًا فاعلة في القصص والروايات والأشعار والأمثال.

بصمة الإبهام؛ خطوط جذع شجرة:

إنّ الإنسان شجرة مقلوبة، وحتى تستوي عليه أن يكون صادقًا. هذا هو جوهر قصة “بينوكيو” المنحوت من قطعة الخشب، للإيطالي كارلو كلودي. أمّا إيتاليو كالفينو (5) فقد أبدع شخصية كوزيمو الذي استبدل العيش بين البشر واختار سكنى الأشجار، رفضًا لرياء المجتمع وكذبه، متمردًا على كل التقاليد والأعراف السائدة، لذلك قرّر أن يعيش حياته على الأشجار غير المقلوبة، التي تمتد جذورها في الأرض، وأفرعها وأغصانها تعانق السماء. يمثل كوزيمو المثقّف والمبدع في ترفّعه عن الخوض في وحول مستنقع العالم الواقعي؛ ومع ذلك، فهو قادر أن يرى من عليائه وبشمولية أكبر الواقع أسفل منه. يخاطبه أخوه قائلا له: “كوزيمو، مضى من عمرك  الآن خمسة وسبعون عامًا، كيف يمكنك الاستمرار هناك فوق الأشجار؟ الآن، وقد قلت بالفعل ما أردت قوله، وقد فهمناه، لقد كانت قوتك النفسية عظيمة جدًا واستطعت تنفيذ ما قلته. الآن يمكنك النزول. حتى من يقضي عمره كله في البحار يرسو على الأرض عند بلوغه سناً معينة. ولكن هيهات أشار بالرفض بيده”.

ينقسم البشر إلى أخيار وأشرار، فأشجار البوبابات في الرواية القصيرة لأنطوان دو سانت إكزوبري؛ “الأمير الصغير” كانت شريرة. لقد كان كوكب الأمير صغيرًا جدًا مثله، ويخاف على أزهاره من أشجار البوبابات، فجاء إلى الأرض ليأخذ خروفًا معه يأكل تلك الأشجار التي لو تركها تنمو لغطّت الكوكب بأكمله. كثيرًا ما فسّرت قصة الإسباني دو سانت أكزوبري بأنّ أشجار البوبابات، هي تمثيل للحكم الشمولي وخاصة النازي.

إذا كانت شجرة البوبابات شريرة، فإنّ شجرة التفاح في قصة الأطفال لشيل سلفر شتاين(6): “شجرة الحديقة المعطاء” ذات دلالات كثيفة وعميقة عن العلاقة بالطبيعة الأم. لقد نشأت صداقة بين صبي وشجرة التفاح التي كان يلعب على أغصانها عندما كان صغيرًا، وعندما أصبح مراهقًا أعطته ثمارها الحمراء ليبيعها. ولما غدا رجلًا منحته أخشابها ليبني بيته. وفي شيخوخته كان جذعها مسندًا ليريح ظهره عليه. وفي كل هذه الحالات كانت الشجرة سعيدة ومعطاءة. تمثّل هذه القصة علاقة الإنسان بالطبيعة وكيف عليه أن يرد كرمها وذلك بالمحافظة عليها. ولهذا ليس غريبًا إذن، أن يرسم روبرت بينارد(7) عام 1779 شرايين وأوردة الدورة الدموية للإنسان كشجرة وأوراقها في مدونة الطب لتلك الأيام(8).

قبل أن يكتشف العلم بأنّ النباتات تتواصل فيما بينها، وخاصة الأشجار، كانت فرجينيا وولف في سردياتها تعيد اكتشاف المحيط الحيوي للإنسان الذي تخلّى عنه لصالح فردية منعزلة عن الآخرين، حيث تتصوّر الإنسان كشبكة سائلة من العقل والجسد والبيئة. في هذه الفلسفة الحيوية تظهر الأشجار كامتداد لشخصيات وولف وكأنّها قوى أخرى لها غير مكتشفة. في روايتها؛ “السيدة دلاوي” نجد شخصية سبتيموس سميث، التي تعيش دينًا جديدًا يستمدّه من الأشجار المتصلة مع بعضها البعض، ومع محيطها بالأوراق والأغصان والجذور، فلا انفصام كما نجده عند الإنسان بين عقله وقلبه وجسده. تدعو وولف إلى علاقة جديدة بالكون، علاقة تعاضدية اتصالية تداخلية، فالإنسان ما هو إلا شجرة أخرى في هذه الغابة المسماة البشرية.

أبجدية الزهور السرّية:

لم يكن جمال الأزهار في الثقافة البشرية متوقفًا على تشبيه أو استعارة فنيّة، بل كانت رمزًا مكثقًا يكاد يختصر أسطورة بأكملها أو عقيدة دينية بقداستها.  وكما رأينا ما تمثلانه كلّ من زهرة شقائق النعمان وزهرة عباد الشمس في الأساطير الإغريقية، كان النرجس اختصارًا لأسطورة نرسيس الذي عشق صورته في الماء حتى سقط فيه وغرق، تعبيرًا عن حب الذات والأنانية. أمّا الزنبق فقد كان رمزًا لأكثر الآلهات الإناث في الأسطورة؛ وهو يدل على القدرة على الخلق من خلال الخصوية، فقد كانت زهرة الزنبق رمزًا لعشتار، وحيرا الإغريقية، وصنوها الرومانية جونو. وقد استخدمها المسيحيون رمزًا للسيدة العذراء مريم، حيث صوّر الرسامون الملاك جبرائيل يمنح السيدة مريم زنبقًا رمزًا للطهارة والنقاء. فيما اللوتس عند الفراعنة، فقد كان رمزًا لإيزيس وقدرتها على البعث، كما فعلت مع زوجها أوزريس بعدما قتله أخوه سيت، لذلك كان المصريون القدماء يضعونها في أيد موتاهم المحنّطين. وعند الشرقيين كانت رمزًا لبوذا الذي ولد منها وكانت تنبت حيث يضع خطاه على الأرض. ارتبطت زهرة الخشخاش بالإلهين هبيونس/ إله النوم، ومورفيوس/ إله الأحلام، بينما كانت زهرة البنفسج رمزًا للفضيلة في الديانة المسيحية وقد نبتت من جروح الإله أتيس الذي قتله خنزير بري في تشابه مع قصة أدونيس.

شاع في العصر الفيكتوري في القرن التاسع عشر أخلاقيات متزمّتة، ممّا دعى العشاق إلى تبادل رسائل مكوّنة من الزهور مفردة أو بشكل مجموعة، لكل زهرة منها معنى كرّسته الأسطورة والدين والأدب وذلك للتحايل على تلك المنظومة الأخلاقية القامعة. وممّا سهّل هذه اللغة صدور قواميس تحدّد معنى كل زهرة. وهذه بعض الأمثلة على ذلك(9):

 اللوتس: رمز الخلق والولادة والشمس. ويمثل اللوتس الأزرق التنوير الروحي، بينما يرمز اللوتس الأبيض إلى النقاء.

ورق البردي: يمثل الرخاء .

الخشخاش: رمز النوم والشفاء والتجديد.

الياسمين: رمز الشهوانية والحب والنمو الروحي.

النخيل: يمثل النصر والحياة الأبدية.

السنط: يرمز إلى القيامة والحياة الآخرة.

زهرة الذرة: تمثل الخصوبة والوفرة.

شقائق النعمان : رمز الحماية والشفاء والتجديد.

لم يفت شكسبير ذلك ففي مسرحيته؛ “هاملت” تقوم أوفيليا بتوزيع الزهور على الحضور: زهرة إكليل الجبل للذكرى، وزهرة القنديل تعبيرًا عن الأفكار، والبنفسج للإخلاص، وزهرة الشمر للإطراء وغير ذلك من الزهور. وعبر هذه التوليفة من الزهور عبّرت أوفيليا عن المأساة في مسرحية هاملت.

لا ريب أنّ ذكر الأشجار والأعشاب والزهور في الرواية والقصة والشعر لا يحصى، أكان حلية فنيّة أم رمزًا. وهذا الاستخدام لعناصر المملكة النباتية، ملأ فنّ الرسم والنحت والتزيين الذي نجده في أماكن العبادة وفي غيرها من الأبنية عبر الزخارف النباتية.

ولا تختلف الثقافة العربية في تراثها وحديثها عن غيرها من الثقافات في استخدام عناصر المملكة النباتية كحامل للأفكار والرؤى، إلا أنّ استخدامها لها، كان في جانبها الأكبر، كحلية فنية أكثر منه رمزًا، وخاصة في التراث، حيث كان التشبيه والاستعارة في تبيان جمال الأنثى منصبًا على الزهور. وقد صدر كتاب عن وزارة الثقافة السورية لحسن محمود موسى النميري جمع فيها شتات هذه المدونة النباتية الشعرية في كتاب بعنوان: “عالم النبات في الأدب العربي” لعام 2006.

يقول قيس بن الملوح:                                                                                 وَمَفروشَةِ الخَدَّينِ وَرداً مُضَرَّجًا                                                                                      إِذا جَمَشَتهُ العَينُ عادَ بَنَفسَجا.                                                                                          أمّا صفي الدين الحلي فيذكر الياسمين:                                                                                     وَالياسَمينُ كَعاشِقٌ قَد شَفَّهُ                                                                                                             جَورُ الحَبيبِ بِهَجرِهِ وَصُدودِهِ.

وفي عصرنا، وعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد نزار قباني يجعل من دمشق؛ مدينة الياسمين وعند محمود درويش يصبح زهر اللوز معادلًا للفلسطيني، لكن لم يصل الأمر إلى إقامة علاقة فكرية عضوية تخييلية مع المملكة النباتية، كما وجدنا عند فرجينيا وولف.

هذا غيض من فيض عن علاقة النباتات بالأدب والأسطورة والدين، والتي بدأت منذ تخيل الإنسان عالمه، وحدس أنه سيصنع يومًا من خشب الأشجار أوراقه التي سيكتب عليها تاريخه وحاضره ومستقبله، وخلوده أيضًا.

المصادر والهوامش:

التوراة: (وَكَانَتِ الْحَيَّةُ أَحْيَلَ جَمِيعِ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ الَّتِي عَمِلَهَا الرَّبُّ الإِلهُ، فَقَالَتْ لِلْمَرْأَةِ: أَحَقًّا قَالَ اللهُ لاَ تَأْكُلاَ مِنْ كُلِّ شَجَرِ الْجَنَّةِ؟. فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ لِلْحَيَّةِ: مِنْ ثَمَرِ شَجَرِ الْجَنَّةِ نَأْكُلُ، وَأَمَّا ثَمَرُ الشَّجَرَةِ الَّتِي فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ فَقَالَ اللهُ: لاَ تَأْكُلاَ مِنْهُ وَلاَ تَمَسَّاهُ لِئَلاَّ تَمُوتَا. فَقَالَتِ الْحَيَّةُ لِلْمَرْأَةِ: لَنْ تَمُوتَا! بَلِ اللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ. فَرَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّ الشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ، وَأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ، وَأَنَّ الشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ. فَأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ، وَأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضًا مَعَهَا فَأَكَلَ. فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ. فَخَاطَا أَوْرَاقَ تِينٍ وَصَنَعَا لأَنْفُسِهِمَا مَآزِرَ).التوراة: (وَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ: هُوَذَا الإِنْسَانُ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا عَارِفًا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ. وَالآنَ لَعَلَّهُ يَمُدُّ يَدَهُ وَيَأْخُذُ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ أَيْضًا وَيَأْكُلُ وَيَحْيَا إِلَى الأَبَدِ).أسطورة برومثيوس في الأدبين الإنكليزي والفرنسي – لويس عوض – المركز القومي للترجمة – مصر، الطبعة الثانية 2009.مسخ الكائنات، أوفيد، ترجمة ثروت عكاشة، الهيئة المصرية للكتاب الطبعة الثالثة 1992.البارون ساكن الأشجار، إيتالو كالفينو، ترجمة أماني فوزي حبشي. الهيئة العامة المصرية للكتاب 2016.https://en.wikipedia.org/wiki/The_Giving_Treehttps://en.wikipedia.org/wiki/Robert_B%C3%A9nardhttps://www.alamy.com/medicine-culpeper-plate-showing-the-arteries-from-the-1805-edition-of-culpepers-english-physician-and-complete-herbal-edited-by-sibly-image179624553.htmlhttps://lilysflorist.com/blog/the-symbolism-of-flowers-in-literature-and-poetry-a-look-at-the-hidden-meanings-of-blooms-in-classic-texts/

باسم سليمان

خاص ضفة ثالثةhttps://diffah.alaraby.co.uk/diffah/opinions/2023/9/24/%D8%A7%D9%D8%A5%D9%D8%B3%D8%A7%D9-%D8%B4%D8%AC%D8%B1%D8%A9-%D9%D9%D9%D9%D8%A8%D8%A9-%D8%B9%D9-%D8%B9%D9%D8%A7%D9%D8%A9-%D8%A7%D9%D9%D8%A8%D8%A7%D8%AA%D8%A7%D8%AA-%D8%A8%D8%A7%D9%D8%A3%D8%AF%D8%A8-%D9%D8%A7%D9%D8%A3%D8%B3%D8%B7%D9%D8%B1%D8%A9-%D9%D8%A7%D9%D8%AF%D9%8A%D9

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 24, 2023 07:24

September 20, 2023

“كأنّ في أمعائه معاوية”… شره الخلفاء الأمويين للطعام بدأ بدعوة من النبي – مقالي في موقع رصيف

يبدو أنّ المعركة بين التوأمين: هاشم وعبد شمس؛ ولدي عبد مناف بن قصي زعيم قريش لن تنتهي أبداً. يحكي لنا المقريزي عن أسباب النزاع بين بني هاشم وبني أمية، والذي ابتدأ من الرحم الذي جمعهما، فقد ولدا ملتصقي الرأس وفصل بين رأسيهما السيف، وظلّ السيف بينهما يتبادلانه طعناً وقطعاً للرّقاب.

وطّد معاوية خلافة الأمويين في بلاد الشام، وتتابع بعد ذلك الخلفاء الأمويون حتى أسقطهم العباسيون، الذين دامت خلافتهم في بغداد حتى سقطوا على يد المغول. ولولا عبد الرحمن الداخل الملّقب بصقر قريش من قبل عدوه أبي جعفر المنصور، لما كان للأمويين من ذكر بعد آخر خليفة لهم المدعو محمد الحمار. سأل أبو جعفر المنصور مجالسيه: ” أتدرون من هو صقر قريش؟” وبعد أن أعيتهم الأجوبة قال لهم هو:” عبد الرحمن بن معاوية، الذي تخلّص بكيده عن سنن الأسنة، وظُبات السيوف. يعبر القفر، ويركب البحر، حتى دخل بلدًا أعجميًا. فمصّر الأمصار، وجنّد الأجناد، وأقام ملكًا بعد انقطاعه بحسن تدبيره، وشدة عزمه” ” ثم أقام مقارنة بينه وبين الخلفاء الأمويين الذين حظوا بمساعدة حتى تقلّدوا الحكم، فمعاوية نهض بمركب حمَلَه عليه عمر وعثمان، وذللا له صعبه. أمّا عبد الملك بن مروان، فقد  جاءته الخلافة ببيعة تقدّمت له. في حين كان عبد الرحمن منفرداً بنفسه، مؤيداً برأيه، مستصحبًا عزمه، فصنع مجده في الأندلس.

هذا المديح من أبي جعفر المنصور لم يمنع العباسيين من قطع دابر الأمويين حتى في قبورهم. فقد نقل ابن كثير في البداية والنهاية: “أنّ الأمير العباسي عبد اللَّهِ بن عليّ لما دخل دمشق نَبَشَ قبور بَنِي أُمَيَّةَ، فَلْمْ يَجِدْ فِي قَبْرِ مُعَاوِيَةَ إِلَّا خَيْطًا أَسْوَدَ مِثْلَ الْهَبَاء، وَنَبَشَ قَبْرَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَوَجَدَ جُمْجُمَة، وَكَانَ يُوجَدُ فِي الْقَبْرِ الْعُضْوُ بَعْدَ الْعُضْوِ، غَيْرَ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَإِنَّهُ وَجَدَهُ صَحِيحاً لَمْ يَبْلَ مِنْهُ غَيْرُ أَرْنَبَةِ أَنْفِهِ، فَضَرَبَهُ بِالسِّيَاطِ وَهُوَ مَيِّتٌ، وَصَلَبَهُ أَيَّامًا، ثُمَّ أَحْرَقَهُ بِالنَّارِ، وَدَقَّ رَمَادَه”.

وعلى الرغم من ذلك العنف يذكر لنا التاريخ أنّ العباسيين قد مالوا إلى اللين بعد أن استتب لهم الحكم، لكن نار الانتقام لم تكن لتهدأ حتى يضرمها مناوئ لبني أمية. فلقد كان أبو العباس السفاح جالساً وعنده الأموي سليمان بن هشام بن عبد الملك وقد أكرمه، حتى دخل عليه الشاعر سَديف منشداً الخليفة أبي العباس:                                                                                   لا يغرَّنك ما ترى من رجال/إنّ تحت الضلوع داءً دويّاً

فضع السيف وارفع السوط حتى/ لا ترى فوق ظهرها أمويّاً.

فقال له سليمان: قتلتني ياشيخ. ومن ثم أمر أبو العباس بأن يقتل.

أصبح هجاء الأمويين طريقة لإظهار الموالاة لبني العباس، فقد دخل شبل بن عبد الله؛ وهو من موالي بني هاشم على عبد الله بن علي وعنده تسعين أموياً على الطعام، فأنشد:

أصبح الملك ثابت الأساس/ بالبهاليل من بني العباس

طلبوا وترَ هاشم فشفَوها/ بعد ميلٍ من الزمان وياس

لا تُقيلنَّ عبد شمس عِثارًا/ واقطعَنْ كلَّ رقلة وغراس

ولقد ساءني وساء قبيلي/ قربهم من نمارقٍ وكراسي

أنزلوها بحيث أنزلها الله/ بدار الهوان والإتعاس

واذكروا مصرع الحسين وزيد/ وقتيلاً بجانب المهراس.

فأمرعبد الله، فضربوا بالعُمُد حتى قتلوا، وبسط النطوعَ عليهم، فأكل الطعام عليها وهو يسمع أنينَ بعضهم حتى ماتوا جميعاً.

لم تقف المعركة عند هذه الحدود، بل ذهبت مذاهب شتى، فمثل ما شنّع الأمويون على أحفاد هاشم، فعل العباسيون بالمثل. وبما إنّ التعفّف عن مغريات الدنيا كان من سمات المسلمين، وكان الطعام أحد تلك المغريات، فقد تناقل المؤرخون والكتاب في الزمن العباسي الكثير عن جشع ونهم الخلفاء الأمويين الذي لا يقف عند حد.

معدة كالهاوية:

وصف معاوية بن أبي سفيان، بأنّه نهم لا يشبع له بطن، حتى ضرب المثل بشدّة شرهه للطعام. قال أحدهم كما جاء في كتاب، يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر للثعالبي:                                                                وصاحب لي بطنه كالهاوية/ كأن في أمعائه معاوية.

ويعود شره معاوية للطعام لدعوة من الرسول، فقد طلبه، فتأخر عليه، لأنّه كان مشغولاً بتناول طعامه، وعندما علم الرسول بذلك قال: “لا أشبع الله بطنه”. وقد أكّد معاوية بأنّ نهمه إلى الطعام قد جاء بسبب هذه الدعوة، حتى أنّه كان يأكل سبع مرات في اليوم كما ذكر البلاذري في فتوح البلدان. وجاء في نهاية الأرب للنويري:” كان معاوية رضي الله عنه نهماً شحيحاً عند الطعام على كرمه وسماحته، فأمّا نهمه، فقالوا أنّه كان يأكل خمس أكلات؛ آخرهن أغلظهن، ثم يقول: يا غلام، ارفع، فوالله ما شبعت، ولكن مللت. وروي أنه أصلح له عجل مشوي، فأكل معه دستاً من خبز السيمذ، وجدياً حاراً وجدياً بارداً وغير ذلك من ألوان الطعام. ويحكى أيضاً بأنّه وضع بين يديه مائة رطل من الباقلاء الرطب، فأتى عليه.

هذا ما ذكر عن شره الخليفة معاوية الذي سأل رجلاً عن ابنه الأكول، فأجاب الرجل بأنّه معتلّ، فقال معاوية: “مثله لا يعدم علّة”! فهل حقًا كان معاوية شرهاً لهذه الدرجة؟ وهو يعلم مخاطر الشراهة للطعام.

أمّا عبيد الله بن زياد بن أبيه، الذي لم يعرف له أباً واستلحقه معاوية بنسبه، فقد صحّ نسبه عن طريق ابنه عبيد الله، بموجب شرهه إلى الطعام، فقد حكى البلاذري في فتوح البلدان بأن عبيداً كان أكولاً، يأكل في اليوم خمس مرات، آخرها جبنة بعسل توضع بين يديه بعد فراغه من الطعام. وكان يأكل جديًا أو عناقًا يتخيّر له في كل يوم. وقد مرّ بالطف، فقال رجل من بني أسد: “أتتغذى أصلح الله الأمير؟” فأكل عنده هذا الشخص عشر بطات وزنبيلاً من عنب، ثم عاد وأكل عشر بطات أخر، وزنبيلاً من العنب وجدياً زيادة على ما سبق.  

الأكول الأموي الأكبر:

إنّه سليمان بن عبد الملك الذي يشبه في شرهه العملاق عوج بن عناق الذي كان يشوي الحوت في عين الشمس ويأكله دفعة واحدة. جاء في كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري بأنّ سليمان بن عبد الملك:” شُوى له أربعة وثمانون خروفاً، فمدّ يده إلى كل واحد منها، فأكل شحم أليته ونصف بطنه، مع أربعة وثمانين رغيفاً، ثم أذن للناس، وقُدم الطعام، فأكل معهم أكل من لم يذق شيئاً. وقال الشمردل وكيل عمرو بن العاص: قدم سليمان بن عبد الملك الطائف، فدخل هو وعمر بن عبد العزيز، فجاء حتى ألقى صدره إلى غصن، ثم قال: يا شمردل، ما عندك شيء تطعمني ؟ قلت عندي جذعٌ تغدو عليه حافل وتروح أخرى، قال: عجّل به، فأتيته به كأنّه عكة سمن، فجعل يأكل وهو لا يدعو عمر، حتى بقي منه فخذ، قال: يا أبا حفص، هلم، قال: إنّي صائم، فأتى عليه، ثم قال: يا شمردل ويلك ! ما عندك شيء ؟ قلت: دجاجات ست، كأنّهن رئلان النعام، فأتيته بهن، فأتى عليهن، ثم قال: ويلك يا شمردل ! ما عندك ؟ قلت: سويق كأنّه قراضة الذهب، فأتيته بعس يغيب فيه الرأس، فشربه، فلما فرغ تجشأ كأنه صارخ في جب، ثم قال: يا غلام ! أفرغت من غدائنا ؟ قال: نعم، قال: ما هو ؟ قال: نيف وثمانون قدراً، قال: فأت بقدر قدر، وبقناع عليه رقاق، فأكل من كل قدر ثلاث لقم، ثم مسح يده واستلقى على فراشه، فوضع الخوان، وقعد يأكل مع الناس”.

تكثر القصص عن شراهة سليمان التي لا تتوقّف عند حدٍّ. وفي قصة ذات دلالة على تشنيع العباسيين على بني أمية، فقد ذكر الأصمعي بأنّه كان حاضراً عند الرشيد: “فجيء بصناديق من ذخائر بني أمية، ففتح  صندوقاً منها، فوجد فيه ثياب الوشي، وقد سال الدهن على صدورها وأكمامها. فسأل الناس عن ذلك، فلم يجد عندهم جواباً. وقد كان عنده رجل من بني أمية فقال: أمير المؤمنين هذه ثياب سليمان بن عبد الملك كان شرهاً أكولاً”.

وتستمر الدعاية العباسية عن شره الأمويين، فها هو الحجاج بن يوسف الثقفي، لا يقل شرهاً عن ساداته،  فقد جاء في نهاية الأرب بأنّ سالم بن فقيه كان في بيت الحجاج مع ولده: “فقالوا جاء الأمير، فدخل الحجاج وأمر بتنور، فنصب، وأمر رجلاً يخبز خبز الماء ودعا بسمك، فأكل حتى أتى على ثمانين جاماً من السمك بثمانين رغيفاً من خبز الماء”.

هذه بعض أوجه المعركة التي أنبأت ولادة التوأمين عنها، اللذين حكم أحفادهما الأمة العربية الإسلامية من الصين إلى بلاد الغال في ذلك الزمان.

باسم سليمان

https://raseef22.net/article/1094948-%D9%D8%A3%D9-%D9%D9%8A-%D8%A3%D9%D8%B9%D8%A7%D8%A6%D9-%D9%D8%B9%D8%A7%D9%D9%8A%D8%A9-%D8%B4%D8%B1%D9-%D8%A7%D9%D8%AE%D9%D9%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%D8%A3%D9%D9%D9%8A%D9%8A%D9-%D9%D9%D8%B7%D8%B9%D8%A7%D9-%D8%A8%D8%AF%D8%A3-%D8%A8%D8%AF%D8%B9%D9%D8%A9-%D9%D9-%D8%A7%D9%D9%D8%A8%D9%8A

خاص رصيف22

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 20, 2023 03:08

September 13, 2023

المسافر؛ قصة من المجموعة القصصية: تمامًا قبلة

أجلسُ في مقعدي منتظراً صعود جميع الركاب إلى الباص. تجلسُ أنثى إلى جانبي ، يفسِّر وجودها رائحة الدرّاق، التي نضجتْ في صيف ذاكرتي.

(استدارة إلى الخلف ومن ثمّ تقول: أغادر؛ لأنّني فعلُ مغادرة!)

 عبر إحساس دائري، بعيداً عمّا تعطيكَ الزوايا من ضبطٍ للشعور، ترتدّ نحو المركز لتصبح ذاتكَ، المحصورة بين قوسين، جاهزة لتنال منك الاستدارات؛ بدءاً من رحم؛ إقامتكَ فيه قصيرة، ومن ثمّ ثدي تستبدله بإصبع، تُضرب لأجله بعض الكفوف، مروراً بسيجارة تشربها خفيَة، لكي تبقى صغيراً في حضرة أبيكَ، وكرة تركض خلفها وتجري معها، لتدوسكَ الكرة الأرضية بعدها.

(مؤخرتها التي رسمتُ عليها القارات ثمّ لملمتها بشفتي قيصرٍ، توِجَ للتوّ سيداً للعالم)                                                                                استدارة إلى الأمام، إلى الوراء، إلى اليمين، إلى اليسار. سرْ، قفْ، راوحْ مكانك، كم تملك الأنثى من حرية في تقديم الاستدارات؟ بطنٌ، فظهرٌ، في حين أنتَ تعطي استدارة واحدة نافخاً بطنها فقط وهي تنفخ فيكَ رأسكَ، قلبكَ، عضوكَ.

اهتزّ الباص، نظرتُ نحوها، مسحتها من الأعلى إلى الأسفل، رجعتُ إلى ما أنا عليه، فما الذي أنا عليه؟ الكرسي، قدمي، السرير، جسدها، أو أكثر من ذلك ومن ثمّ كيف خطر في بالي يوماً أن أتخيلها فوقي على سبيل المثال! هل سهوتُ عن ذلكَ أم سهونا؟ لربما تقصّدنا ذلك غير آبهين بما رفضناه في متحف لاشعورنا، فلو ناقشنا ذلك قليلاً؛ لاكتشفنا أنّنا لم ننجز شيئاً، ممّا نظّرنا فيه على طاولات المقاهي. كنّا متقابلين ، وجهاً لوجهٍ، جنباً لجنب، مفوضين يدينا بكلّ الصلاحيات، لاختصار هذا الجسد المتهالك، ليتعرّى في غرفة، عملتُ جاهداً على استئجارها.

اعترفتُ لها بحبي في اللقاء الثاني، لكنّها تأخرتْ كثيراً لتلفظ تلك الكلمة، وأشكّ أنّها لم تقصد ما قالته يوماً، على الرغم من أنّها قبلتْ جسدي فوقها مبكراً.                                                                            همستْ لي يوماً: تستطيع بكل تأكيد، تنظيف هذا الجسد، ولكن نادراً ما تستطيع التخلّص من كلمة تفوّهت بها.

لم ترض لجملها أو كلماتها إلّا التوازي، ولنقم ما شئنا من الجسور والتقاطعات. ألوانها حقيقة وليست انكساراً للضوء، فأحمر عذريتها نبيذي، وبياضها لا يتضمّن غير السواد.

تغلق سماعة الهاتف قبلي، معلّلة ذلك بكرهها لصوت “التون” المتقطّع، فلو كان قلبي يدقُ دقة مستمرة ولا يسقط عضوي باهتزازات متتالية، لكانت انهارتْ قبلي وتركتْ أنفاسي تلفح وجهها.

ألهذا غادرتْ؟ أم لأنّ الكلام يبقى كلاماً!

 لو أنّ الحياة جملة واحدة وكفى. أنظر إليها، والشاي قد انسكب من كأسي.

                                            ***

يرتفع صدرٌ ويهبط. يعلو الباص وينخفض بسبب تعرجات الطريق، أمّا أنا، فأرتقي ذكريات وأنحدر مع نسيان دائم، قاد نعاساً، يهمسُ بصوت قديم: لا تستطيع المقارنة بين طاولة وغرفة.

 لقد عارضتني كثيراً عندما استبدلت الغرفة بأخرى، إلّا أنها نسختْ أثاث الغرفة السابقة -كملاحظة اعتراض دائمة على ما فعلت- إلّا الشباك الذي تمنّع واتجه نحو الشمال، فعلقتْ على الحائط الجنوبي لوحة لنورس اجتاح الأفق بجناحيه، لم أفهم تماماً ارتباطها بغرفة لقائنا الأولى، وهي لم تعطِ تفسيراً، ولم تسمح لي بأن أحلّ هذا الارتباط إلى خيطه الأخير، مع معرفتي أنّها كانت تعاقبني بصمتها.

 إلى أي درجة تتمسّك المرأة بالمكان؟ أدركتُ ذلك عندما رقصتْ عارية وسط الغرفة وكأنها تعمّدها.

 باحتْ بقبولها للغرفة الجديدة، وأنا أدخن السيجارة الثالثة بعد أن ذبل عضوي، انتزعتْ سيجارة وخرجتْ، إنّها سيجارة آخر الليل عندما تفرغ مثانتها كما اعتادتْ أن تفرغ العالم من معالمه وتشكّله كجديلة لفتاة لم تأتِها عادتها الشهرية بعد. صرختْ يوماً في وجهي: إنّ هذه الدماء، صوت الجرح المستمر، لهذا الخلق المنكوس دوماً نحو السماء.

                                      ****

الاهتزاز المتواتر، المقطوع بعددٍ من المطبات والحفر، وضربات الفرام، دفعني لأقول: آه، أي سرير كنّا ركبناه؟ لو كان الأمر هكذا! عندما استقبلتني بأرقام ميلادها الأربعة.                                                                                                        تسلّل النوم إليها، أرختْ رأسها ولو قليلاً على كتفي. فتشمّمت رائحة الدراق الممزوجة مع إيقاع الأنفاس نفسها وهي نائمة على صدري.

يرتجّ الباص بشدّة نتيجة حفرة في الطريق، فتعدّل وضعها، تشكّل صمتها من جديد، لابدّ أنّها أجالتْ نظرها عليَ من زاوية عينيها، تحركتُ قليلاً، لعب الهواء بستارة عينيها.

رياح …! من أين؟

من ناحيتها، تداعب شعرها، فيلسع وجهي، أغلقتُ النافذة الشمالية وفتحت الجنوبية، …. هدأ شعرها.

(أنا من قطعتُ تذاكر السفر، راقبتني من بعيد، لم يكن لها ظلّ، ولربما ظل ّخفيف لكثرة الإضاءة الليلية.)

نائمة على كتفي ككتاب يضطجع على صدر صاحبه بعد أن غلبه النعاس. أطوقها بيدي، فتتجه نحوي بوضعية جنينية، تهمس بأذني: أتشهّى السمك، أنا حامل من ذكر السمكة الحمراء في الحوض الدائري في غرفتكَ الجديدة، سأنجب حورية ولن تبيع صوتها بقدمين.

–  سأبيع كل شيء من أجل ذيل سمكة.

– سأصطادكَ من عيون البحارة، سأرمي شباكي في تفاصيل الأزرق وسأضعك في الحوض الدائري في غرفتنا.

– سأتزوجكِ على جرف شطّ عال ونقفز إلى البحر.

أزيحُ ستارة وجهها، أصمتُ شفتيها، أقيسُ مسافة عنقها، واستدارة نهديها، فيتضخمان كبالوني عيد ميلادها، ويرتفعان في فراغ الباص، تعلوهما صدارتها، أتسلق، أجلس على قمة حلمة نهدها الأيمن، وأرقب العالم من فوق، يمتدّ سهل بطنها نحو الأسفل، أتدحرج كقلم حمرة من حقيبتها، راسماً خطاً أحمر على طول المنحدر، أعود صغيراً، طفلاً في الرابعة لربما أصغر، لم يعد لي زمن، ليس من جسد، ولكن لي كلّ الحق أن أتوغل قدماً، بين الحين والحين أنظر إلى …، لأرى عينيها تبرقان بحنان وصمت يهمس: امضِ.

                             ********

سائلٌ أحمرٌ خضَب يديَ، فضضتُ عذريتها بجسدي كاملاً، إنّه ولوج كامل.

ينوس الضوء من خلفي، لتضمّني عتمة دافئة، أتلمس الدرب عبر دقات قلبها المتسارعة، ليسود بعدها صمت طويل.

الريح باردة، وصوت سيارة إسعاف يرسم شفاه الصمت، مازالت بقربي نائمة، مازلتُ في داخلها غافياً، أقف قريباً من قبرها، تهتزّ أنصال العشب الصغير بتواتر اهتزاز باص بضوء أزرق داخلي.

التذكرتان تلعب بهما الريح، تفلتُ إحدهما، فتطير، لا أحرك ساكناً، أتابع عمال الشحن وهم يرحلون الحمولة عن الرصيف المقابل.

 التفتُ إلى فتاة الدرّاق بجانبي، الثلج ينهمر خارجاً، أمسح الزجاج و…

                                  *****                                                                                         

فيروز:( أنا عندي حنين وما بعرف لمين)

لماذا تلك المواربة؟ لكل ٍ منّا حنينه ويعرف لمن؟ هذا الحنين الذي يركض خلفكَ، أمامكَ، ويتلطّى بين قدميكَ ككلب وفيّ.

هربتُ مراراً، وتكراراً، لكن في النهاية، أسلمتُ نفسي إلى سجّاني، وكلّ يوم مشمس أجمع غسيله النظيف جداً وأغسله بالملح وعلى ضوء الشباك وفيروز (يومية بيخطفني من بين السهرانين) أتلمّس آثارها، بصمة إبهامها الأيسر لقلبي، ورسم كفيها على ظهري لضمة طالتْ كنهر، فيما سبابتها تقاطع شفتي من أجل صمت في حضرة الحب وقبضة كاملة انتزعت عضوي ثمّ وضعته في مزهرية مع وردة وحيدة يابسة في ضوء الشباك.

                                   ***

رائحة الدراق تفوح كرائحة الكحول في المشفى.

                                   ***

الشريط الأحمر لهديتي، المعقود كأذني أرنب يعلو ويهبط مع صفارة متقطعة لشرطي السير، فكّتْه كجديلتها، لتلقيه في مساحة أنبوبة الإنعاش.

على السطح المقابل تُوجد امرأة منشورة على حبل، بينما انسحبتْ من الرؤيا، كما اعتادتْ أن أنزع صدارتها، فتخرج منها كسوار من ساعد.

 تحتاج الذكريات إلى دفتر ينبض جلده بالمفارق، وطاولات المقاهي، والانتظارات، والقبلات اللاهثة لراكضي المسافات الطويلة.

صفارة الشرطي تأخذ منحى مستمراً  كما الطريق إلى غرفتي آخر الزقاق.

فتاة الدراق قربي، تضع سماعة “الوكمان” على أذنيها وكأنّني بصوت فيروز (بصير يوديني لبعيد يوديني وما بعرف لمين وما بعرف لمين)

الممرضة تضع السماعة على صدرها تستمع لنبض عميق …

تقرع لمرة واحدة بعد أن تكون قد اجتازت شارعاً ماطراً، لتمضي إليّ.

 دائرة الماء تتسع حول قدميها كهالة القديسين!

كم أحبكِ مبلّلة!

تطلب الممرضة منّي الخروج، يختفي انعكاسي من زجاج الباص، فيغدو صوت فيروز بعيداً، يخرج معها من الباب الموارب بعد أن تلصق قبلة على جبيني وتكتب عنواناً آخر.   

                                       ***

لم أكن قريباً لأحد كأميّ، وأمي تقول: عندما ينضج الدرّاق تمتلئ السماء بالبثور وتكحّل-بدلاً من عينيها- شاربي وتتمتم: الكحل خير من العمى.

العمى هو ظهور معالم الرجولة وامتلاك حق الابتعاد، أمّا جدتي فتقول: الشبّ بلا سيجارة مثل البنت بلا إسواره.

ابتعدتُ وحلقتُ شاربي ودخنتُ كثيراً، وبدلاً من الأسوارة، أهديتها خلخالاً، استرخى كالظهيرة فوق كاحلها الأيمن.

وضعتُ الوردة اليابسة قرب قبرها تحت ضوء السماء.

– أحبك َأن تنتظرني، هكذا أشعر بالأمان.

على الرغم من أنّها كانت تحتفظ بدفتر مذكراتها في الغرفة، وكانت تكتب عندما أغرق في النوم، لكنّني لمْ أطلع عليه حتى في غيابها وكأنّني أريد أن أترك عذرية ما، لم أفضها.

تكتب بقلم الرصاص ذي الممحاة الحمراء في رأسه.

(الأقلام تكتب بأقدامها)

تبري قلمها بمبراة قلم الكحلة وتجمع البقية في حوض الزجاج، امتلأ ربعه بعد أن أنهت الدزينة الثانية من الأقلام التي أهديتها إياها.

                                      ***

أمسح لهاث حرارتي عن الزجاج و…

                                   ***

قلم الرصاص، قلم يغفر، قلم بريء، قلم للطفولة؛ لتتعلّم ارتكاب الأخطاء بدون حساب. ممحاته الحمراء، حلمة الطمأنينة، الحلوى التي كنتُ آكلها خفْيةً عن أمي، لذلك أحذر العودة إلى طفولتي عندما تُلقمي نهدكِ لفمي.

تحوّلت إلى القلم الأزرق بعد قسمي بالكحل، وثبات خطِّي. وداعاً لطفولة مارستها في حصّة الرسم، وعلى مسوداتي، وكانت نهايتها، سلّة المهملات.

–  هل كان دفتر ذكرياتكِ مسودة؟

قلم الرصاص، قلمٌ يملكُ غفرانَه بممحاته.

قلم الحبر يحتاج إلى كفارة تدور بين الشّطب واستخدام الماحي الأبيض وتمزيق الصفحة و”جعلكتها” ورميها في سلّة المهملات.

القلم الأزرق يؤثّر في المكان، قلم ينتمي للبحر والسماء.

 إنّه قلم الرُّشد حيث يبدأ ميزانك بالعمل وتبدأ كفتاه بالغمز.

 قلم الرصاص قلم ينتمي للرّمل. قلم الرصاص آلة للزمن للعودة إلى الماضي.

لو تُكتب حياتي بقلم الرصاص، فأمحو الأثر، وأعيد الكتابة فوقه. سأمحو يوم ألصقتِ طابعاً على جبيني وأرسلتني لعنوان آخر.

                                    *****

    –  الحاضر ظلال ذكريات.

  في محاولة لإيجاد نوع من العلاقة الودّية بيني وبين القلم الأزرق، بدأت أشْكله في جيب القميص ولأنّه قلمُ، سكين، كنت أستحضر الضمادات، الماسح الأبيض، لأخيط جروحه ولكنّها كندب الجروح تختفي من وجهك عندما يعتادها الآخرون.

لماذا لم أحبكِ في زمن قلم الرصاص؟

الورقة البيضاء، لحظة في الزمان. المكان كقطرة مطر تشظّت على كفّ تبتهل، أمّا جسدكِ المنداح في الأبعاد، فكان الورقة الدائمة ولأن قلم الرصاص لطفولة لم التق ِبك فيها، فلم يخطّ على جسدك، كان لزاماً عليّ أن أكتب كما في حياتي بالقلم الأزرق، فهو الورقة الدائمة.

خططت على بطنكِ (أحبكِ) بعد أن زرعتُ شجرة نخيل في سرتك.

أرتجلُ الشعر؟ وأخطه على صدركِ، بطنك، فخذيك، ساقيك، أصابعك، حلمة نهديكِ أكتب باستعجال، أتكلّم بصوت عالٍ، فيما أنت تقهقهين ضاحكة.

 – أنا المنبر الوحيد الذي تلقي عنه أشعاركَ. ثم تمتصين صوتي بقبلة تجعل خطي يعلو ويهبط.

– جسدكِ لا يحتاج للماسح الأبيض، ليتخلص من جنابة قلمي الأزرق.

                                     *****

أوشكتُ على الوصول، أخرجتُ دفتر مذكراتكِ من حقيبتي، تأملته مع شظايا حوض الزجاج المنكسر وبقية أقلام الرصاص المتناثرة كالياسمين في الزقاق المؤدي إلى الغرفة.

إنّه لكِ كاملاً.

استدرتُ إلى فتاة الدراق وبعينين مقنعتين كالموت: هذا لكِ

أنزل من الباص وصوت فيروز: (ما بعرف لمين ما بعرف لمين).

                              *************           

 طفلنا الذي أنجبناه في غفلة من رحمِكِ.  لماذا لمْ تنازعيني على مستقبله أم أنّك اكتفيت بالماضي منه، لكي تنجزي حاضر الهروب، غاسلة جسدكِ بالصمت وروحكِ ببرزخ الشعر.

هل خفتِ على جسدكِ الممشوق كحورة أن يصبح كدالية تخاف إثم عنبها، أو أن يمتلئ بطنك بالوقت، أو أن يلدغ وحام الدقائق والشهوة إلى عقرب الثواني خطواتكِ المنسابة كشعرك الذي انتهيتِ من تسريحه، فيثبّته بيده، فلا تلعب به رياح الرحيل، أم الخوف على ثدييك من أن ينتفخا باللقاء، فلا تناسبهما بلوزتك الضيقة كبسفور الانتظار بين قارتين.

على الرغم من كل الأسئلة التي من المفترض أن تظل بلا أجوبة، ومع طمأنينة الشمع المشتعل بعيداً عن تيار الهواء، أطفأتِ الغرفة وراءكِ وأغلقتِ الباب طويلاً، مختصرة المكان إلى خطّ يمتد إلى الأمام، لأقاطعه بأربع طقات للقفل وأسحب المفتاح للمرة الأخيرة وأنتِ الآن لستِ سمائي، فأستظل بأرضي!

                                ****** 

ليكن معلوماً لكِ، هو طفل كالفأر، يعترف أنّ الحياة فتات، فلا ترين من حضوره إلا ذيل طائرة الورق بعد أن انقطع خيطها في غابة الغيم، حيث تسكن بياض الثلج وألوانها السبعة. إنّه لص يشبه الموعد المزعوم، كثيراً ما يسرق انتباهي وهو يتعمّق على الحائط ليحاكي ورقة أسقطها في سلة المهملات.

                                      ****

لم أطلق عليه اسماً! فأنتِ لن تناديه، ومَنْ غيرُ الأم جدير بأن تنادي طفلها، ولكن قليلاً ما تلفظ الأم اسم ابنها، فهي بذلك تجعل له قرينة من الجان تحميه من كيد النساء.

 والآن لن تكون لطفلنا قرينة من الجان، ولا ثدي أنثى سيقبله ويُسمِع نسبَه إلى نهد ما، مادام نهدُكِ قد أنكره وتركه نهباً للحليب الصناعي.

 عندما عدتُ إلى البيت طلبتُ من أميّ، أن تناديني باسمي وبشكل دائم، ابتسمتْ أمي: الولد يريد عروساً! أمي تعدّ لي زوادة كاملة للحياة.

                                   *****

هل تقبل أن تنزل على ضرّة؟ أترضعه؟ وتغيّر له حفاضه، وتصحو ليلاً لأجله، لربما!  لن تعدل بينه وبين ابنها وسيصدمها رجل يتأبط طفلاً يناديه: ماما!

كنتُ واثقاً من موافقتكِ -تريدين هروباً كاملاً- لتكنْ أنثى أخرى، ورأيتِ ذلك حسناً ومن وقتها صارتْ قرابيني بلا أسماء.

 منذ سلّمتُ العجوز قاطع التذاكر مفتاح الغرفة -حيث كنّا نتهالك من يلفظ أنفاسه أولاً- قال: للمحطات أخطاؤها، فودّعته!

رفضتُ شراء تذاكر السفر، أسافر بمصادفة التقاء الأماكن، كنتُ خائفاً من الحقائب الجديدة.

إنّه يكبر ويرسم خطوطاً كثيرة على جدران غرفتي، أستيقظ في الصباح لأجد شاربي قد نما، فهو يحب تزيينه بالكحل – ماما تضع الكحل- نلعب لعبة الغميضة، أخسر بشكل مريع، فهو يعرف غرفتي ويناديها، فتجيبه زوايا جديدة للاختباء.

سأل عنّكِ مراتٍ عديدة في غيابكِ.

– “أمكَ تأتي مع المطر” ومن وقتها أصبح مبتلاً.

 كنتُ أشعر به عندما يتكاثف الضباب من حولي، فأستدير نحوه وأحضنه، فأعبّ من دخان سيجارتنا الأخيرة بعد أن تلصقي فمي بفمك، وتزفري نفساً طويلاً.

                                ***** 

نزعتُ الأرقام من حياتي، كلّ ما أعيشه يومين؛ الأول هو البارحة حيث غادرتِ، الآخر؛ اليوم الذي سوف يمتدّ.

 كنتُ أعمر منكِ بسنوات ولكن سوف أغادر بعدكِ بيوم واحد.

أمّي تقول: إنّني ممسوس، على الرغم من شهادتها، بأنّني أعقل وأهدأ الرجال في عائلتها!

 لم أمسس الحجابات التي علقتْ بقمصاني الداخلية ولم أعترض على التبخيرات التي تدور حول رأسي كل صباح مع أدعية حفظتها، عدا عن ذلك، فرائحة البخور كحضور تأمّلك في حوض الزجاج بعد أن تضعي نثرة من علكة البخور على مقدمة السيجارة وتشعليها.

يجب أن نشعل البخور لروح جميع الاستعادات. أنظف في آخر الليل مقبرة الدخان في سلة المهملات بعد أن تغادري وترمي وراءكِ وردة ذابلة. في الصباح أغلق الباب ألتقط الوردة وأهديها إلى سياج، قطفتُ لكِ الورد منه مراراً.

طفلنا يسأل عن معنى كلمة ليل. إنّه يريد أجوبة كثيرة وأنا لا أملك ردّاً إلّا أنّكِ رحلتِ.

                      ******

 في كتاب ما، قرأتُ سطراً؛ أنّه يلزم لتحضير روح شخص ما، أنْ تجيد رسمه. كان السطر قد توسط صفحة خالية. لو يكون الرسم بالأذن؛ لكان أفضل، فيدي لا تجيد غير الامتداد إليك.

لم أستخدم نظري إلّا للتحديق! بعدما تخلّلت صورتكِ الأشياء.

 خطوطي ضعيفة … “لكنّك تملك لوناً أكثر من كل من عرفتهم” تقول من تعلمني الرسم. ماذا تفيد هذه المفاضلة وأنا أخفق بتزجيج حاجبك الأيمن، فيما يصرّ ابننا على أن أرسم رمشك، فهو يريد أن يضع الكحل عليه.  أخيراً توقّف عن السؤال عن الليل، فهو موجود على رمشيك كما الأفق موجود على الجبال شرقاً وغرباً، فيغمره البحر حتى سرّته التي قُطع حبلها عندما أغلقتِ الباب وأدرتِ المفتاح أربع دورات ولففتِ سرّته بالشال الذي أُدفِّئ رأسي به في مشوار آخر الليل، خفتِ عليّ من البرد، فأحطتِ رقبتكِ بالشال.

 قبعة الصوف تغمر رأسه تماماً -هكذا لن تبرد- وشالكِ ستلعب به الريح وأنا أخطو خارج الزقاق المؤدي إلى غرفتنا.

ما زال وجهكِ عصياً على الرسم، فمدرسة الرسم على ما يبدو أنّها لا تعارض وجودي وتلصصي على رجلها النافر من اللوحة وهي تحلق له ذقنه، فيما تبلل الفرشاة بالماء، فيترك بعضاً من ريقه على حلمتها، تبعده، فيمتدّ خيط من الرضاب كجسر ما بين شفته ونهدها.

 أسنانه بدأت بالظهور، فيرطب وجهي بلعابه؛ ومن ثم يمسحه بكلمة بابا.

لا أجيد الرسم ولا رغبة لي بزقاق آخر، ولكن حصلت على صداقة مدرّسة الرسم.

مع اللون بقيتُ التلميذ ومع الامتداد كنتُ الأستاذ. معكِ كانت الكلمة طاولتنا، نحتسي قهوتنا ونكتب في مساحات البياض في الفنجان، ولكن اللون يستر ويخفي ما وراءه، في حين الكلمة كالدانتيلا تشي دوماً بغريزة أساسية للاقتحام، لربما يصحّ القلم للولوج والريشة للعادة السرية، لذلك ظلتْ العلاقة مع مدرّسة الرسم تنوس بين اللون الأزرق وعمقه والرجل المُلقف ثديها في اللوحة، على الرغم من التواطؤ الذي لا نعترف به. نرقص أنا والمدرّسة  رقصة الثور ومصارعه.

                       ***** 

لا فائدة من الرسم لاستحضار من هو موجود، فعادة ترسم الصور للموتى ليلحدوا مرتين.

– “ستمطر – صاح ابننا- ماما قادمة، امتلأت سلة المهملات بالورق”.

أعود لأجده ملطخاً بالألوان، فيما ظلّه قد تخلّلته فجوات من نور كظلّ عريشة، أظنّه تعلّق بمدرّسة الرسم، فقد تكاثرت لوحاتها.

إنّه يعرف الألوان ويردّد اسم مدرّسة الرسم، ولكنّه يسميني “ميمتي”. لقد بكى في المرة الأولى التي سمع أمي تنادي عليّ باسمي بعد طلبي منها ذلك.

– “لم أفهمّ!” ولكن كنت أرى في عينيه زقاقاً آخر.

على طاولة ما، كانت مدرّسة الرسم تسرد اللون الأزرق، ومن ثم بدأ الرمل يتسرب من عيني اليسرى إلى عيني اليمنى.

 تقدّم نحوي وبيده زورق من الورق كنت قد رميته في سلة المهملات، وأشار إلى حوض السمك، حيث عينها قد عتّقتْ عيني بلون يشبه طحلباً بحرياً، صبغت يديها به وأخذتْ ترسم دوائر خمساً حول سرّتها. مصّتْ إبهامي، كما يفعل بإبهامه، ثم رسمتْ قطراً يصل بين الدوائر الخمس وانسحبت من حلقة الرقص.

كنت أعتقد أن التساوي بعدد أحرف الأسماء لا بدّ أن يؤكّد قدراً ما، وهذا ما فعلناه، وجها لوجه.

– ليطلق كلّ منّا كلمته الحاسمة.

 قلتها لكِ مسمياً مشاعري، مردياً قلبكِ الذي تسرب منه الضغط، فبدأ يخفق كالستارة بوجه النافذة المفتوحة.

 الرياح المتقلّبة لا تخدم ربان السفينة، إذاً، لتبق ستارتكِ هادئة، هذا ما قلتُه لمدرّسة الرسم.

رجعتُ، تعلّق برقبتي:”ميمتي”، وأشار لورقة على الطاولة، وهمس: “هذا اسمي من ثلاثة أحرف”.

“من ناداك؟”.“اللون!”.

                              *******

يمصّ سبابته عوضاً عن إبهامه. تلك السبابة التي مسحتْ الكلام عن شفتيكِ لقبلة نظيفة، وتأكدتْ من انتفاخ حلمتكِ بزهرة الثلج في استراحة الشتاء عندما كانت الشمس تميل كراقصة أخذها إيقاعٌ جنوبيٌ.

 ينام فارداً جسده، فتبدو يده كغليون بحار يتعاطى رياح الملح في قهوته، مراقباً نورساً كرقاص ساعة، في حين أنام بوضع جنيني على طاولتي، أمصّ قلم الحبر الناشف، وكثيراً ما أكسر عقبه، وأترك البقية كقطعة تبغ سوداء، لا ألبث أن أبصقها في سلة المهملات.

يسألني عمّ أكتب عندما يستيقظ ليشرب أو ليقضي حاجته، فأجيب وأنا خجلٌ من الصفحة البيضاء: “أكتبُ قصة؟”

 يرد بفتور: “كالقصص التي تحكيها لي قبل النوم”.

 – “لا، إنّها قصص للكبار”.

 –  “متى يقرؤونها؟ هل تكتب قصصاً لأمي أيضا؟”.

…………………

أحمله إلى السرير وأشعل سيجارة، أفتح النافذة قليلاً، المطر في الخارج يسقط بهدوء، كنتِ تحبين هذا المطر.

إنّه كاللص، لا تشعرين به إلّا وقد وصل إلى جيب السترة الداخلي ولكنكِ لا تحتاطين بمظلّة أمانٍ منه، تحبين التناسب بين ما مشيناه تحت أنامله ومقدار البلل الذي أكسبكِ إياه، هكذا كنت تحدّدين عدد كؤوس النبيذ وكيف ستلوذين بصدري باحثة عن دفء. للحقيقة كنت تائهاً لولاه، إذ من غير طريقته الربيعية في القفز في برك الماء التي تصادفنا عبر الطريق الذي يزنّر القرية شرقاً كان الدم في عروقي سيتجمد كقرون الجليد التي كانت تتدلّى من شباك الغرفة.

الآن أفهم هذا العجوز: دع العصافير تشرب –معلقاً-على كلامي: إنّ الخزان يسرّب الماء.

تعدّين القهوة وتنتظرين شمساً، ليبدأ عداد الماء بالتساقط، من أين لك هذا الجَلد؟ لتستيقظي مبكراً، في حين كنت أستعير مطرح نومكِ على الجانب الأيمن للسرير وأغطّ طويلاً بعدكِ في النوم، لاستيقظ على همسك: أنا ذاهبة.

حدث مرةً بعد أن أيقظني سعالكِ أنْ همستِ لي: المسافرون يستيقظون مبكراً. هذا ما خُيّل لي أنّني سمعتُه: لأنّ فيروز كانت تتصل بجدتها في كحلون.

يقفز سعيداً بانتشار قطرات الماء.

– “بابا هل رأيت قوس قزح؟”

……………….

يمتلك قوس قزح قدرة على تحقيق الأمنيات لمن يعبرمن تحته، ابتسمتِ: سأثبتُ هنا، اجرِ واعبرْ من تحته وعندما تمرّ، سأصرخ لكَ. لكن ضجيج المدينة كان يخفي صوتكِ، فأعود خائباً.

سينجح الأمر في قريتي، ولكنّني هنا الآن، أمّا أنت فلا! فأتذكر بديهيتكِ التي نقضتْ الفرض، مادامت الأمنية مرتبطة بنا، فيلزم مرورنا سوية ولكن من سينادي علينا؟! أنظر إليه وقد سبقني بمقدار ظلي. إنّه هنا الآن، ولكن أين أنتِ؟

                               *****

كيف يموت الإنسان؟

رجفتُ كباص لم تنفعه مكابحه، فارتميتُ على الكرسي. لماذا لم انتبه إلى هذا السؤال الذي يختبئ في عينيه؟

جرحتُ وجهي بشفرة الحلاقة، سال الدم وردياً، كانتْ عيناك متسعتين وصامتتين فيما ترمقينني كتمثال المرأة التي تحمل خابية الماء وتمضي في الصخر.

إنّها تشتهيكَ. 

لمْ نكن نرمِي الورود عندما تذبل، كنت تحملينها وهناك حيث اعتادكِ السياج، تضعينها بخفّة بعد أن تتأكّدي من أن صاحب الدار لن ينتبه.

إنّها تنمو بطريقة عشوائية لا أحد يهتم بها، المرأة العجوز تسكن وحدها، دعكِ من هذا!من قال لكَ ذلك، هكذا نَشعر أن المرأة العجوز مازالت قادرة على التلصص، فنعطيها حياة إلى أن يأتي يومٌ نحمل فيه هذا الورد إلى قبرها.

عيناه معلقة بي كشصّ صنارة اصطادت سمكة حمراء، أنظر إلى حوض السمك الفارغ، أتمتم كيف يموت الإنسان؟ كما تغلق كتاباً!

                              *****

“تعال…”

 أمدُّ يدي إلى حرف الشباك، أتناول أصيصاً وأقول له: “احفرْ قليلاً هنا”.

أخرج من الغرفة، أسأل أمي عن بعض حبات الحنطة، تتحوّل أمي إلى عصفور وتخفق عالياً.

الموت يعني بيتاً وحيداً ويداً افتقدتُ لمستها، وصدى لا يجيب غير صوتكَ. عدتُ إلى الغرفة كان الثلم الذي حفره، جميلاً كشفتيكِ: “خذْ، ضعْ قليلاً من الحبّ هنا”.

 وضع أربع حبات، وأمسك التراب بسبابته وإبهامه كمن يمسك قلماً، وأهاله بهدوء المطر الذي تحبينه ثم مسّده بباطن كفه.

 يدكِ تنداح -كتمويجات بحيرة اُسقِط فيها حجر- على ظهري وأنا أصغي لدقات قلبكِ التي تتلاشى كنورس يجتاح الأفق.

“ضعْ قليلاً من الماء”.  

                   ***

السياج يخضرّ، ولن تمتدّ يدكِ كي تقطف زهرة الياسمين.

فيروز تنده يا طير … عيناه متسعتان … لون أخضر يتوسّط الأصيص

“ماما هناك على التلة…”.

جلسنا سوية على صخرة يمتد أمامها بساط أخضر كسماء مملوءة بالنجوم وقوس قزح يمرّ من فوقنا، همس بأذني: “ماما تستيقظ”.

نظرتُ إلى الشرق، كانت الشمس تنهض عن التلال، أصبحتُ أستيقظ مبكراً

همستُ له:

“وأمي أيضاً”.

10\6\2007

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 13, 2023 13:44

   اللــــوحــــة – قصة من المجموعة القصصية: تمامًا قبلة

                              

الفصل الأول: اللـون

“لا تتذكّريني إلّا في الأماكن التي أحبّ…! القبور أبوابٌ مصمتة… المتسولون للماضي، هم فقط الذين يجلسون على أبواب القبور؛ إلا أنّ الإنسان غايته أن يمشي قُدماً في تلك الطرقات اللانهائية، فقبل أن تجوب الكون، لا يحقّ لك أن تقف في حضرة الخالق، لتقصّ له حكايتك، فالله مستمع جيد”.

وضعتُ الزهور على قبره وكلماته تتساقط في داخلي: “الزهور خُلقت للريح أو لأصابع عاشق، فلا شيء يبرّر للطبيعة قطف الأزهار إلّا حرارة الخلق الكامنة في قلب العاشق”.

مارستُ دور الأرملة، وكأنّني بذلك أطيل وجوده في المكان والزمان، وأعرف بأنّه سيقول: “مازلتِ تحبين أن تتلامس يدانا … وعلى الرغم من جمالها إلّا أنّها أكثر الأشياء خداعاً”.

لم أكن أرملته في الحقيقة، إذ لم نكن زوجين إلّا وفق منطق العيش معاً، فالقانون ليس للخاصة بل للعامة.

في البدء، لم يكن هناك من قوانين؛ خُلق الإنسان بكلمة، وكان يعبّر عن التزامه بكلمة، وبسبب فشله بامتلاك الحرية الكاملة فقد تميّزهُ؛ لذلك كان وجوده الجديد عبر سنّ القوانين التي جعلت منه عبداً.

كنتُ أشتهيه أكثر، عندما كان الإله المكنون فينا يتفجّر فيه، فيلقي كلماته كأمواج البحر على الرغم من اختلافها، إلا أنّها سيماء وجه واحد. يقف في وسط الغرفة، ينفث دخان سيجارته وكأنّها العماء الأول ويبدأ بعملية الخلق.

 قال لي مرّة: “يجب على كلّ إنسان أن يجرّب السجن الانفرادي؛ لأنّه كالقبر، وهذا المدفن الحيّ هو من يجبر الإنسان على الخروج من الأبعاد المكانية وارتياد حالات روحية تعيد له انتماءه الأول”. 

بكيته بصمت…

“الحزن أجمل الأشياء، وهو نادرٌ جداً!  فاستعمليه بعقل كبير”

بقيتُ معه ساعة كاملة، محتضنة رأسه بشدّة، كنتُ فارغة من كلّ شيء؛ إلّا من سكينةِ قمرٍ في وسط السماء.

“سأعطيكِ كلّ ما أملكه، عندما أموت”

 نمْ يا ولدي، فالصبح قريب… ثمّ اتصلتُ بالمدينة أُعلم أخاه بموته.                                                                 

أجمل الأشياء التي تحدث في حياتك! عندما تصبح عجوزاً، فتستطيع النظر إلى الخلف دون الخوف من أن تفقد الكثير من الأشياء التي أمامكَ، وهكذا تصبح الذكرى مستقبلاً جديداً يجب أن تعيشه بكلّ حبٍ، ولربما تعيد تقييم تجربة لم ُيتح لك الزمن تأمّلها جيداً، وهكذا تحصل على المعلومة كاملة، فالإنسان ابن الخطأ، ومع كثرة الأخطاء؛ من المفترض أن يقترب من الصواب الواجب في النهاية، فالاحتمالية هي القانون الدائم، والكون ما هو إلّا عيوننا.

                            ***********

كنتُ أخاف فرشاة الرسم، فأستخدم أيّ شيء آخر كي أرسم، فاللوحة التي أطلقت عليها اسم “رماد” لم تكن إلّا ثدييّ المضطجعين على القماشة البيضاء. كانت اللوحة على أثر اللقاء الخامس، فمنذ زمن طويل لم تؤطّرني عينا رجلٍ وكأنّهما يدان. اختصرتُ حينها السهرة في بيت أخيه، وصعدت إلى بيتي الموجود فوق منزلهم في الطابق الثالث، تستبيح رائحةُ رجل يباسي، كأنّها احتراق غابة. دخنت سجائري الأخيرة فيما المرسم المنتظر منذ شهور وقماشته البيضاء، ينتصبان أمامي.

أخذتُ شكل الكرسي، يدي ملقاة على بطني والأخرى تحتضن ثديي. أرغب بالاستحمام، فبدأت أخلع ثيابي، ولكنّني لم أغادر الكرسي بعد، متقصّدة لمس جسدي والكشف عن أعضائه السرية وكأنّ اليد يدٌ أخرى، دفعتها في أجمتي الصغيرة، باحثة عن أرنبي المنسي، لتبدأ مطاردة بعينين مغمضتين عن ملامح وجههِ، حركات يديه، امتصاصه لسيجارته، صوت أنفاسه التي اختلطت مع أنفاسي، ليبتل عضوي الجاف.

أفتح عينيّ، أغادر الكرسي باتجاه قماشة اللوحة، وأدعك صدري باللون الأزرق ومن ثمّ أحتضن اللوحة. فيما بعد قال لي: “لو أنّكِ لم تحتضنيني بقوة”.

 اللوحة معلّقة في غرفة النوم، لقد اختار المكان بنفسه.

لم يصبح الرسم هاجسي إلّا منذ أعلن وجوده في حياتي. كان لقاءً مدّته  فنجان قهوة، مع تعارف قصير، لم يكن ينظر إلى أحد بينما يتكلّم، ولكن إيقاعه في الحديث كالمطر الخفيف، يبلّلك دون أن تشعر، وهكذا كنّا نصغي إلى كلامه أنا وأخوه وزوجة أخيه بهدوءِ من يراقب ظلاً ينمو، فأخصّ نفسي بالتمعّن بوجهه ولا أظنّه وقتها قد انتبه لذلك، لكنّه قال لي فيما بعد: “لا تنظري إلى الأمور مباشرة، سوف يفوتكِ الكثير لأنّني أكثرُ من وجه وأبعد من مسافة قد تفترضينها”.

 أصبحت مع الوقت أستخدم الفرشاة بسهولة، فرسمت وجهه؛ لكنّه أصر على أن تباع تلك اللوحة لاحقاً، وقد وافقته، بعد أن طلب ذلك بالجدية نفسها التي أخبرني بها، بأنّه يحبني.                                                                                               ظلّت لوحة وجهه عندي، إلى أن أصبحنا نعيش معاً، وقتها قال لي: “لا أطيق هذه اللوحة، إنّها تشبه شخصاً قد سرق ملامح وجهي!”.

 لم يتّضح الأمر لي إلّا بعد وفاته، عندما رسمتُ له لوحة أخرى، قال عنها كلّ من رآها: هل هذا ابنكِ؟

 انتقلت للعيش معه في القرية، وبدأت بإقامة عدّة معارض مشتركة مع رسامين آخرين وأصبحتُ متفرّغة للرسم، وحقّقت شهرة لا بأس بها، جعلتني أقيم معرضاً فرديّاً، لكنّه بقي اللون الوحيد الذي لم أمتلكه على الرغم من الحيازة الصحيحة له، وبالمقابل هو لم يعمد لامتلاكي لأنّ أجمل ما فيّ هو ظلّي الذي تملكه الشمس وحدها: “عندما أمتلككِ سوف تهرمين، فالزهرة لم تعتدْ نفسها؛ لذلك لم تتغيّر وظّلت النحلة تأتيها، أمّا الإنسان، فكان خلقاً آخر، وعندما اعتاد نفسه ملكتْه، فأصبح ما هو عليه”.

                              ***********

براءة الطفولة؛ هذه الكذبة الكبيرة التي يتم تسويقها بكلّ خبثِ مَن يختبئ وراء حلمِ نظافةِ الراشدين. كنتُ سمينة في طفولتي، وأنفع كفراش كما قال الصِبية. تلك البداهة التي تتناساها النساء في غمرة الحبّ، أن الشكل هو العنصر الأهم لدى الرجال، وهكذا رفضَ حبّي له، وأعلن أنّه لا يستطيع أن يحب فتاة سمينة إلى هذا الحدّ! أيَّ حدّ؟!

 فهمت حينها إلى أي حدٍّ يستطيع أن يتمادى الإنسان في أحكامه من غير أن يعلَقَ به ما يلوثه، فكل ما يُغسل مقبول، المهم أن يبقى خفياً، فنحن نأكل علانية ونخرأ خفية.  

الجميع يعمل على تنظيف مرآته. إنّه التناسي لأجل مقاربة الصورة التي نقبل بتأطيرها لنا. 

                              ***********

 وجدتُ نفسي وحيدة مع تركة أبي من الكتب التي كنت أقرأها بعيداً عن نظر أمي، وعلى ما أظن كانت متواطئة معي في ذلك، وهكذا عملتُ على اختيار الكتب بشكل يخدم تطورات جسدي ونفسي، ومع الوقت بدأت أفهم الإشارات بصورة تثير فيّ الضحكَ في الوقت الذي يفترض الآخرون فيّ الغباء، ويرون في الفارق العمري حاجزاً لا يمكن تجاوزه، وهكذا لم أوفر الوقت في تجربة أبعاد الخطوط الحمراء، فكان الريجيم الخطوة الأولى التي عملتُ بها على نحت جسدي، ومع الوقت أصبحتُ أرى صورتي المتخيلة تأخذ مكانها في الواقع، وخاصة عندما أمارس عملاً ما، فقد كانت سمنتي السابقة تفرض عليَ شكلاً في التصرف، أمّا جسدي الجديد  فأدهشني بطريقة غير متوقعة.

لم أحرم جسدي الجديد المتفق مع صور المجلات والتلفاز، من التعبير عن جماله، فكنتُ أقف أمام المرآة أبدّل ثياباً بأخرى، أتعرّى، وأحاول أن أكتشفه بعدسة مكبّرة، كأنّني أردت أن أحفظه غيباً.

 كم عدد شاماتي؟ أعتقد أنّها خمسَ عشْرةَ شامة، ولكنّه أكدّ لي، أنّها ثمان وعشرون، وقتها قلتُ: يا لها من مصادفة تأتي على عدد الأحرف، أجاب بابتسامة من اكتشف شيئاً: “المهم أن أجيد تركيب لغة تحمل طموحات هذا الجسد، فلو كانت ستاً وعشرين شامة؛ لكنّا في بلد آخر!”

                           ************

من يحفر في الأماكن الرطبة سوف يجد الماء، وأنا وجدتُ الحبّ ولذّتي عبر رجال الروايات، الذين لم يبخلوا بحبهم وشهواتهم العارمة؛ فحين يبدأ الكاتب بالبوح ولا يجد صوتاً نسائياً يفرض نوعاً من الحشمة تخدم مصالح الذكور في زيادة تخصيص المرأة، فينطلق معبّراً عن شهواته، لذلك كنت أفعلها مع جميع رجال الروايات وحتى مع الكتّاب؛ إذ كنتُ المرأة السرّية لهم، وأسخر منهم، لعدم قدرتهم على اكتشاف خيانتي.

الخيال عالم نظيف، لكنّه الابن الحرام للواقع.

                           ***********

                                                                                                                                       كان لطيفاً كجدّ، إلّا أنّني كنتُ أكثر من حفيدة مفترضة، فهو صديق والدي. إنّه يعيش وحيداً في بيته بعد وفاة زوجته واستقلال أولاده، رافضاً الانتقال للسكن لدى أحد أولاده. إنّه من المدرسين الذين يرون في التدريس رسالة خالدة، احتجته في بعض دروس قواعد النحو، ومن خلالها تعرّفت على عالمه الهادئ المملوء بالألوان.

 إنّه يرسم، ومعه اكتشفت فكّ طلاسم اللون الممزوج. فتح لي غرفته السرّية ورأيتُ تجاربه الأولى كلون يتحسّس الظلام من حوله، لكنّه كان ضوءَ شمسٍ لسرعة تطوره، وكنتُ كغيوم الشتاء ما لبثتْ أن أمطرتْ؛ لماذا لا أكون نموذجه، فكلّ الرسامين يحتاجون إلى نموذج.

عرضت الأمرَ عليه كامرأة مجرّبة، أذهله العرض السخيّ ومن الغباء أن يرفضه، فقبل معي شرطَ أن يبقى الأمر سرّاً.

وجهي، كان اللقاء الأول، فجلستُ على الكرسي، مستذكرةً مَن خلدهم الرجال الذين أدمنوا اللون كمخدر، وبين ضربة للريشة وأخرى، أصبحتْ أنفاسه أقرب إلى وجهي.                                                                 

 يتعمّد أن يوازن بين توضّع رأسي في كلّ جلسة، وأنامله التي تتحسّس وجهي بانتباه من يمشي في حقل ألغام أصبحتْ أكثر خبرةً لتلامس لغم الشفة من غير أن تنفجر، فيحدث أحياناً إنذار خفيف، يحذّر من عضّة، فيعلّق وقد احمرّ لونه: “لم أعلم أن لديّ كلبٌ صغيرٌ هنا”، فأردّ بزمجرة خفيفة.

وجهي يتوسّط اللوحة كغيمة صيف وحيدة. قلتُ له: لم أرتكب جرماً أستحق عليه قطع الرأس، وعدت إلى مكاني، وكأميرة أمرته بمتابعة الرسم، لم أعطه الفرصة ليأخذ نفساً، فككتُ أزرار القميص، فنفر ثدياي ونفرتْ دهشته كبحرة في بيت شامي لم تمارس قذف الماء من زمن، أشرتُ له، أنْ ارسم، فتابع كمن يعترف بتقاليد المهنة، لكن كطبيب لم ينفعه قسَمه من أن يسترق الإحساسَ وهو يفحص مريضته الأولى.

تتابعت لقاءات الدرس والرسم، وأخذ يجلس بقربي بعد أن كان يجلس في مواجهتي، لم يترك سبباً يمرّ دون أن يستغله للاقتراب، كأنّ المكان يضيق رويداً رويداً، فلقاءات العشاق تعشق الزوايا. عملت على تفريغ صبره على العكس من لوحاته التي تكاثرت على الرغم من أن جوهرها كان واحداً.

في الدرسَ الأخير، شكرته بهدوء، لكنّه لازال صامتاً كحجر ينتظر الإزميل، وكاشتعال عود الثقاب أطبقتُ على شفتيه ، وتركته أبيضَ … كلوحة لم ترسم.

                                     ***                                                                                                                       لم أتوقّع هذا! كلّ ما افترضته؛ أنّه رجلٌ بأسلوب غامض- كان سجيناً مدّة عشرين سنة – إنّه السّلم الخبيث لتوافق الاتجاهات المتعارضة، فالوطن الحمار لا يحتمل إلّا راكباً واحداً ليسوسه.

استفسرتُ عنه كمريض يريد أن يقف على أبعاد مرضه ودوائه. كان لا يأتي من القرية إلّا عندما يجلبُ بعضاً من نتاج الأرض لأخيه أو لشراء بعض الحاجيات.

تشاركنا جميعاً في تذوق النبيذ الذي أحضره. إنّه كالغبار يستقرّ عليك، لكنّه غبار رطب يلصق بقوة، لم يتحدّث عن فترة سَجنه، بل تكلّم عن حال الغابة المتدهورة في أعلى الجبل بطريقة تفيض إحساساً، حتى لتخاله تحول إلى لون أخضر.

                                       ***

الأخضر لون أستاذي القديم، والأحمر للصيف وباجتماعهما تكون الثمار.

كان روايتي المفضلة التي تنتظر صفحاتها البيضاء أن أملأها بالحبر الذي أريد.

 عمّ أبحث معه؟ هل سقطتُ في فخي الذي نصبته أم إنّه الحبّ؟! تلك العشبة غريبة النمو، التي تكسر احتمالات الفصول، لم أحسم ما حدث إلى الآن! ولربما هذا أفضل، فبعض الطرق يجب أن تسلك دون آرمات[1].

                                    ***

بعد تلك القبلة، حدث نوع من التوجّس من كليْنا، فتلك الجرأة التي عرفناها سوية، اختفتْ ودهشتنا الطفولية احتلمت، أصبحت لقاءاتنا عملية، متركّزة على دروس في الرسم وحديث في الألوان، إلى أن طلب منّي عدم القدوم، قالها بلون أزرق بحري، ورمى بموجته الوحيدة على شاطئي: “لأنّني أحبكِ”

لم أسمع إلّا دقات قلبه، بعد أن لذْتُ بصدره باكية وهمست بالكلمة السحرية التي فتحت عالم الروايات لي، ولرجل من لحم ودم: إنّني أحبكَ.

عصرني كما اللون، فتمدّدتُ على مساحات اللمس، مغمضة عيني، متذوّقة الواقع. شفتاه كما المحيط يحدّ القارب المتمايل على نبض قلبه، أحاطتْ بشفتيّ المسترخيتين كما المرساة في عمق القبلة.                                              التصقتُ به كطابع بريد، فكان الرسالة المبعوثة إلى جسدي الأكاديمي، فقطرة المطر أكثر من هيدروجين وأوكسجين، نهداي اللذان أنهكا فرشاته، سقطا ساجدين لجيش نمل الأصابع أمام كومتين من القمح الطري، اجتاحني شعور الزاوية التي أريد أن أحشر فيها، لم يعد حساب مثلثي الصغير يساوي مئة وثمانين درجة، ولربما يمكن تقديره مرتبطاً بمجموع شهقاتي مضافاً إليها معدّل الضغط الدموي في الشرايين، في النهاية اعتذر كما هو متوقّع مع عينين دامعتين، همستُ بأذنه: قليل من الحرام يفيد.       

أرسم بكثرة وكأنّني أعوّض ما فاتني، أرسمه هو، لا أحد غيره، محاولة إخراج رجل من العتمة، فشعوري أنّه دائم الهرب منّي، دفعني لأنّ ألون مصائدي في كلّ الطرقات المتوقعة التي سوف يسلكها، لم يهتم بي حتّى وإن بصورة غير مباشرة، ولكنّني في استرجاعي المشهدي للقاء، كانت تتكاثر الطيور خلفه، وكأنّه يلقي فتات الخبز خلفه: أيّها الرجل الأحمق توقفْ، ههنا أنثى تبحث عنك. فأحيانا يخيّل لي، أنّه ليس أكثر من شخص في قصة منداحة في هدوئي في تلك المكتبة الآمنة. 

علمتُ مسبقاً بقدومه، فأعددتُ العشاء وساعدتني أخته بتواطؤ الإناث، لم يأكل كثيراً، على الرغم من انهماكي بإغرائه بتعدّد أصناف الطعام، وسخرتُ من نفسي فيما بعد، فقد قلن لي: “إنّ طريق المرأة إلى قلب الرجل معدته”.

أقلقتني مغادرته طاولة الطعام مبكراً، فشعرتُ وقتها أنّ الوصفات القديمة للجدات تنجح مع الرجل الذي يضاجع بعد أن يملأ معدته.

تبدّد شعور المرأة الرخيصة الذي رافقني، عندما دلف إلى غرفة المرسم المفتوحة الباب قصداً بعد أن استأذن وبقي هناك إلى أن أنهينا طعامنا، كنتُ قد أخفيتُ لوحة رسم وجهه المباشر وتركت غيرها من اللوحات، لحقنا به ولكنّه لم يمهل أحداً ليسأله عن رأيه، بل بادر هو: “أنت ترسمين لعمر مضى في أكثر لوحاتك، وكأنّك مراهقة تحب للمرة الأولى من خلف الشباك -صمت للحظة لم تسمح لأحد أن يتدخّل- ومن ثمّ تكلّم: “اضربي موعداً، وتلمسي اللون بأصابعكِ”.

                      ********************

تنقّلت كلمات الحبّ كالقطط المتشرّدة بيننا. الرجل العجوز الذي كان صامتاً كما بدا لي، بدأ يجيد الكلام، الكلام في كلّ شيء، لذلك كنّا نمارس الجنس متسرعين وكثيراً ما كان يكتفي بإعطائي جرعتي منه بواسطة فمه، بعد أن يخلع منه فكّه، ثم نثرثر عن الله والسياسة والموت والبوظة وأشياء أخرى.

 قال لي: “يجب أن تكوني عجوزاً!”

 رددت عليه: لماذا لا تكون أنت شاباً؟

فأجاب: “على أحد منّا أن يكون قريباً من الموت، هكذا ترى الأمور بطريقة أوضح”.

 كم أنتَ وحيد أيّها الموت! لا تدوم صداقاتك أكثر من عدة شهقات متتالية!

                               ********

 لو ينسى القدر بعض التفاصيل. لو يتأخّر، ولكنّه اعتاد الكمال، وإن حدث النسيان؛ لعاد وأكمل مهمته بتمام أكبر من السابق، فمنذ سنة وقف رجلٌ بباب البيت، وسأل عن أمي، … للحظات، لم أفهم لماذا تلك المعانقة التي أخرجتْ أمي من تحفظها!

إنّه شخص من الذكريات القديمة المتمسّكة بالحياة وليس مجرد صورة بالأبيض والأسود للذكرى. للحقيقة، إنّ هذا الشخص قد حملني طوال فترة دفن والدي وأخوتي.

 إلى الآن مازلت أؤمن أن الوطن من قتلهم، إذ فجّر اغتيالُ والدي الغضب العارم على كلّ الاختلافات السياسية التي قادتْ إلى مؤتمر حوار وطني، أعادوا فيه توزيع الثروات فيما بينهم إلى أجل مسمى.

 التضحية لازمة وتصبح ذات جدوى أكثر عندما تكون الأضحية في معزل عن أية تكلفة!

 أبي وهذا الصديق رفيقا نضال. وهذا يكفي! هذا ما قاله الضيف، ليغلق وراءه كل هذا الماضي.

أمي اكتفت بالتدريس، ولم تفعل كبعض النساء اللواتي انخرطْن في العمل السياسي إثر انخراط أزواجهن به، بل دوماً كانت تراه عملاً قذراً، مهما كانت نظافة ثياب من يمارسوه، لربما تكوّن لديها هذا الموقف من جراء اغتيال أبي.

 إنّني لا أملك ذاكرة من ذلك الزمن، لكنّني اكتشفتُ فيما بعد من حوارات ومتابعات والدي السياسية، أنّها كانت من النساء الناشطات في الحركة النسائية في ذلك الزمن. لقد أبعدتني عن تلك الأجواء قاصدة وعملتْ جاهدة على تقديم حياة جيدة لي؛ إذ عملت كمدرّسة خصوصية في البيت، وهذا ما أمّن دخلاً جيداً وسمح لي بالكثير من الحرية بعيداً عن عينيها وأنا أطالع كتب أبي وكانت سعيدة جداً وهي ترى موهبة الرسم تتوضّح من خطوطي.

لم أكن صديقة جيدة لأمي، ولم تكن هي كذلك! كنّا أمّاً وابنتها، الآن أتمنّى لو كان بيننا حديث الأم وابنتها عن تلك الأشياء النسائية الصغيرة، وهنا لابدّ من الاعتراف أن مكتبة أبي؛ هي الأمّ الفكرية لي.

 كم شعرت بالقدسية وأنا أعيد ترتيب المكتبة من جديد، أمسح الغبار عنها وبعناية كبيرة أعيد تنظيمها بالشكل ذاته الذي كانت عليه، وكنت بشكل دائم، أفتح الصفحة الأولى لبعض الكتب وأستذكر التواريخ التي أعدتُ فيها قراءتها إذ كنت أدّون تاريخ كل قراءة جديدة للكتاب.

توفيت أمي بعد طلاقي بسنة، رجعتُ إلى البيت لأجدها متوسّدة المكتب في غرفة المكتبة-غرفة أبي- ولم تنهِ فنجان قهوتها. ومازال رماد سيجارتها متماسكاً في المنفضة وتحت وجهها تموضع دفترٌ لأبي، كتب عليه بعض رؤاه السياسية.

عرفتُ الموت كثيراً في الروايات التي قرأتُها. الموت في الروايات لا يفاجئك بل يترك لكَ وقتاً لتتأمل تفاصيل الحزن، والاستمتاع به ولربما تذرف بعض الدموع حيث يقف الموت أمامكَ كحيوان يدافع عن فريسته، فتنتظر كي تتم أعراف الوجبة لتتلمظ فيما بعد حزناً يختصره الأسود، مددتُ يدي -صوتي يصيح عليها- جسستُ نبضها لم يكن هنا ولا هناك.

(نمْ يا ولدي؛ لم أكن أمّاً) لكن عندما وجدتُ أمي غافية فوق ذراع أبي أدركت حنيّة الموت عندما يأتي كطفلة ترفل بثوبها الجديد الذي ابتاعه والدها البارحة، لتضمها أمها وتسقيها دمعاً حلواً جداً كأحلام الأطفال.

                                   ******

يترك مدرّسي العجوز الباب مفتوحاً لأدخل عليه كشخص من البيت، فبعد أن كبر الأولاد لم يدخل أحد بيته بدون أن يقرع.

 هنا، حيث القبلة الأولى، حيث اختار أن يكون المرسم مركزَ كونه، وجدته مجعداً على الأرض والريشة لم يجف لونها بعد. بكيته بحرقة الزوجة ولبست الأسود عليه حتى الأربعين ولم أمارس عادتي السرية حتّى طهرتُ أربع مرات من العادة الشهرية.

أربع وفيات كانت أمي الخامسة، لا بدّ أنّني سأكون وحيدة عند موتي، قلتُ له: تركتني وحيدة تماماً كما كنتُ في مكتبة أبي، لكن دون كتبه، أأنت الكتاب الأخير؟ أسألكم أيها الموتى: هل ستخرجون من ماضيّ؛ لتحصوا الأنفاس الأخيرة لي بابتساماتكم المتوقدة بالبخور؟

                                        *****

كان أبي آخر رجال العائلة، فنحن عائلة صلاتها رحمية، فجدي الوحيد جاء على تسع بنات، ثلاث منهن سلمت حياتهن وتزوجن وأنجبن وتباعدت مساكنهنّ، بقي جدي في دار أبيه وتزوج ثلاث مرّات ولم ينجب غير أبي من زوجته الأولى. جدتي التي توفيت أثناء ولادته وتركته لترعاه الزوجة الثانية، بعد فترة وجيزة من وفاتها وقبل أن تتم الأربعين حيث كان صراخ الولد التغطية المناسبة ليدفع أبو جدي ولدَه لزواج مبكر، لكنّ الزوجة الثانية كانت عاقراً لربما ورثتُ ذلك عنها وبقيتْ في بيت جدي حتّى عندما تزوج الثالثة التي لم ترض أن تكون عاقراً، إذ طلقها جدي بعد ثلاث سنوات من زواجهما؛ لتتزوج رجلاً توفيت زوجته وعنده أولاد، فأنجبت منه صبياناً وبناتاً، وقتها عرف جدي أن العطب منه، لكن كيف ذلك؟ وقد أنجب أبي، أحياناً في شكّ بوليسي أتمنّى أن أحصل على شيء من رفات جدي، ولكن كما قال عندما قرأ في عين زوجته الثانية شكاً في لحظة انتقام على زواجه الثالث وبعد طلاق زوجته الثالثة: يرزق من يشاء، وصمت.

هذا الشّك مات في وقته وأبي كان باراً بأبيه وراعياً لزوجته الثانية كأمّه، لكنّه خرج عن تقاليد العائلة بشكل كامل حتى في زواجه، فقد تزوج مسيحية تعرّف إليها في الجامعة، لكن بعد أن أنجبت ذكرين عادت الأمور لمجاريها، وكان جدي قد سمى أخوتي الذكور باسم أبيه وجده أما اسمي، فكان لأمي التي سمّتني على اسم أخت لها متوفاة.

ماتت أمي بعد طلاقي من قريب لنا من جهة أخت الجدّ، الأكبر من جدي عمراً، والتي بقيت الصلات بيننا معقولة وخاصة بعد فعلة أبي التي أبعدت عنه القرابات الرحمية.

 لأكُنْ صريحة، لم يكن حباً بالمعنى الدقيق للحب، كان لوناً أحمر فقط. أربع سنوات مرّت ولم أنجب، وثبُت طبياً عقمي. وهرباً من ضغط أهله والزوجة الثانية التي رشحتها له أمّه، كان الطلاق الذي أعادني إلى بيت أمي، فكان الضربة القاضية بفقدانها الأمل، لربما يعيش الأهل في عيون أولادهم. إنّها المواجهة الأخيرة مع سر الموت بالهرب منه عبر التقمّص بالأبناء.

**********

لم يكن أحدٌ في وزارة التربية يمانع انتقالاً إلى المنطقة الساحلية، وخاصة بعد أن وجدت فتاة ترغب بالانتقال إلى العاصمة. وهكذا بعتُ كل شيء، حتى المكتبة، ولم أستعمل من الماضي إلّا رقم هاتف صديق أبي الذي أمّن لي بيتاً صغيراً فوق بيته في تلك المدينة الصغيرة مع إطلالة بحرية على شاطئ وكورنيش يتبعه أزرق استوطن لوحاتي. 

 2- الفصل اللاحق: الريــــــــــشة

أبٌ على وشك التقاعد، وأمٌ جلّ اهتمامها هو العناية ببيتها، وأطفالٌ يتدفقون كالماء في أيام العطل؛ هذه الحياة، حياتهم، كانت توحي لي بالأمان والراحة.

أصبحتُ تلك البنت التي أتتْ على كبر، فهم يدلّلونني ويحبونني بطريقة جعلتني أستعيد حياة الأسرة من جديد.

كان يختبئ جزء كبير من حياة أبي في صدر هذا الرجل، لقد سرده لي على وقع المطر  الشتوي في الخارج، وصخب الموج الذي يحتجّ على تهييج ذكرى الموتى، ولكننّي اعتبرت استكمال تلك الحياة التي طوتها أمي بعيداً عنّي ضرورة وجودية في اعتقادي، حيث لم تنفع مكتبة أبي إلا بإعطائي صورة تكاد تكون فكرية عن فيلسوف أو ما شابه، كنت أرى تلك الأسرار التي سردها لي، طريقة في معرفة أبوة جديدة أكثر قرباً وحميمية، حيث لم تعد تلك الغصّة المرّة التي ترافق جوابي عن حياة أبي علقماً كالحنظل، بل أصبحت بمرارة القهوة.

                                 *******

كثيراً ما جنحتْ أفكارنا بعيداً عن الشرفة التي كانت تجمعنا؛ مع أخيه وزوجة أخيه، وعندما  كنت أستأذن كي أصعد إلى بيتي؛ كنت أجرّ قدمي من التعب لشدة ما مشينا.

“أشعر أنّ لي القدرة على الطواف حول الكرة الأرضية مئات المرات. إنّه الحلّ الوحيد لأهدم هذه الزنزانة اللعينة، ولكنّني لم أفعل، فالزوجة والأولاد الذين رسمتهم بقلم الرصاص على جدرانها، يلزمونني بالبقاء. وعندما أخرجوني بحكم أشدَّ قسوة من الأول، طلقتها لتتزوج النزيل الثاني ليعتني بالأولاد. السجين الذي خلفني في الزنزانة، خرج بعدي بستة أشهر، وعندما سألته عن زوجتي وأولادي، قال لي: لقد صبغوا الزنازين بطلاء جديد، فهناك بعثة خارجية سوف تتأكّد من حسن التعامل الإنساني مع المساجين، وقتها ضحكتُ من كلّ قلبي، لأنّهم دخلوا في البياض وحزنت لبقائي في الألوان”.

عندما تم القبض عليه، يوزّع المناشير السرية، لم يكن ذلك بسبب تقصيره، فلقد تم خداعهم من قبل أحد الأشخاص في التنظيم الذي ينتمون إليه، وقتها دفع بنفسه أمام مطارديه من الشرطة السرية، وسمح لزميله بالهرب، الذي استطاع بعد عشرين سنة أن يكون وزير داخلية وفق التحاصصات التي -بصورة أو بأخرى-دفع أبي بعضاً من ثمنها بموته. تذكرّه بعد كل تلك المدّة، إذ إنّه، ومع تغيّر أهواء الحكومات المتعاقبة بطريقة تدعو للغرابة، لم يكن يتم إخراج المعتقلين السياسيين، وكأنه نوع من الفطنة التي تصيب من يجلس هناك في قمة الجبل، فمن يعارض سيظل يعارض.

 وهكذا أصبح البيان “رقم واحد” شيئاً طبيعياً يمرّ لوقته، وينتهي، حتى إن الموظفين الصغار لم يعد يعنيهم من يرأسهم، فالقصة قصة تاريخ يجب أن يصفّي نفسه من أحقاده.

 خرج من السجن وعاد إلى القرية. البيت كان مغلقاً. مات والداه وهو في السجن.

 بعد أسبوع من قدومه، وقفتْ أمام البيت سيارة سوداء تلمع تحت شمس الصيف، ترجّل منها رجل وحيد، وطرق عليه الباب، وغارا في الظلمة، لساعة مضتْ لم يعرف أحد من سكان القرية ما حدث، فهم لم يتعوّدوا على مرور مثل هذه السيارات الفخمة في طرقات القرية، لكنّ الرجل الغامض منحه وظيفة حارسٍ للغابة التي تتسلق الجبل خلف القرية.

                             ***********

كنت قد دخلت الثلاثين، أقضي معظم وقتي ما بين المدرسة التي أدرّس فيها ومرسمي، ومن ثم الشاطئ الذي بدأتُ أعرفه حجراً حجراً، مبتعدة عن ساعات الرجال، محتفظة بزمني لنفسي، أقضي مع العائلة الجديدة مقدمة السهرة ثم أنطوي في مرسمي. لم أهتم بتطوير صداقات، كنت مهتمة بالرسم فقط.

عدت إلى العاصمة بعد غياب سنتين، لأشارك في معرض مشترك مع مجموعة من الفنانين الذين عرفتهم سابقاً، لم أستحمل وجودي هناك لأكثر من يومين، رجعت بعدها بعد أن ائتمنت صديقة لي على اللوحات، وسمحتُ لها بالتصرف بالسعر في حال تم شراء إحدى اللوحات. أعيدت جميع اللوحات، حيث لم تُبع واحدة منها.

                               ***********

الشعور الذي راودني تجاهه، يشبه رائحة مكتبة أبي عندما كنت أدخلها وفي نيّتي اختيار كتاب جديد بعد أن أكون قد انتهيتُ من قراءة آخر. إنّه إحساس جميل وممتع، على الرغم من الخوف الذي راودني مراراً بأنّ سرّي قد يفتضح، أمّا هو، فلم يغّير من مواعيد قدومه من القرية كلّ ثلاثة أسابيع، يأتي قبيل العصر ويغادر في الفجر.

أصبحت أستيقظ مبكّراً، أعدّ فنجان القهوة مترقّبة مغادرته، أضع الفنجان على حرف شباك غرفة النوم، في حين كان هو يهبط الدرج، يتوقّف قليلاً قبل الانعطافة التي ستخفيه عن ناظري، فأظنّ أنّه سينظر إلى الوراء ومن ثم إلى أعلى، لكنّه يدلف في المنحنى ويختفي.

عندما علّق على لوحاتي، قائلاً: “إنّي أرسم لوقت مضى”، كان قد مضى على معرفتي به، أحد عشر شهراً.

تكاثرتْ مواعيد قدومه كفتات خبزي الذي أرميه إلى عصافير الشارع، نقضي جلّ الوقت في المرسم، نستمع للموسيقى، ونتكلّم عن كتب تشاركنا مطالعتها في زمنين مختلفين، فنتبادل الآراء عن انطباعات مرّت في الذاكرة، تمنيته أن يكون أحد مؤلفي هذه الكتب؛ لأخون الآخرين معه، فقال لي فيما بعد: “كنت جباناً، كم رغبت أن أقبلك لحظتها وأهمس، فأنا لم أهمس منذ زمن، ولكن السجن يجعلكِ تعتقدين أن الصمت أفضل وسيلة للتعبير ولا تنتبهين إلى مرور الوقت فيه. عشرون سنة مضت، أشعر بها كحياة أخرى، فلم أنظر إلى ساعتي فيها”.

حاولت مقاربة السياسة بأحاديث عابرة ولكنّه دوما كان يقاطعني:”السياسة ليست وسيلة ناجحة للقيام بشيء، إنها فقط للتغيير، وهذا التغيير كقفزة في المجهول لا تعرفين أين ستسقط قدماكِ؛ أرجوكِ لا تعيدي فتح هذا الموضوع”، ثم يشرع بالتكلّم عن حال الغابة المتدهورة فوق القرية، فأردّ: ولكنّها السياسة من جديد!

 يهمهم: “مازلنا نتكلّم عن الخطيئة الأولى، وكأنّها حدثتْ البارحة، ما الذي ينفع في ذلك، لاشيء! الخطيئة سبب وجود، أمّا الذي يهمني الآن، هو: كيف أعيش هذا الوجود بعيداً عن ظلالها. إنّها كالسلاسل الحديدية تمنع السجين من الهرب. لقد نقعت قدمي في الماء طويلاً حتى أكل سلاسلها الصدأ، فاهترأت، أنا هارب إلى حياتي، ألا يكفي هذا لأغلق هذا الماضي.

 الذنب الوحيد الذي أشعر أني اقترفته كان تجاه الطبيعة. إنّها مسالمة إلى حدٍّ مثير للشفقة والحزن، وجديرة بأن تنذر الحياة لأجلها، سأعمل وحدي هناك على سفح الجبل، سأعيد للغابة عمقها وأسرارها وسحرها، لعله في يوم ما يخرج بشري أكثر إنسانية بلا خطيئة تتبعه كظله، فالغابة يكفيها أن أمشي في طرقاتها كحيوان يحترم قوانين الفصول، وهي سوف تعطيني مستقبلاً أخضر، ولكن إن أهملتها سأنتهي بموتها. نحن وحيدان”.

وحيدان؟!  علّقت ممتعضة كأنّ أنبوبة للون فاجأني انتهاؤها.

                                   *******

لربما، أصبح تعلقنا ببعض واضحاً للجميع، ما عدانا، كنّا نرى الأمر على أنه نوع من الإجبار، لم يعد يتفق وحياة الحرية التي نعيشها.

كلّمني بموضوع الانتقال للسكن معه دون زواج، لأنّ الزواج يراد به المستقبل: “أمّا أنا فأريدكِ للحاضر، لا أريد أوراقاً من صناعة مدنية الإنسان لتجمعنا … هذا فيما يتعلّق بي، أمّا إن كنتِ تحتاجين لضمانة مالية سأكتب لك الأرض … الشيء الوحيد الذي أملكه، ليس الحبُّ ما يجمعني بكِ؛ إنما الألفة … اختبرتُ الحب قبل السجن واكتشفتُ أنه يمت للسياسة بصلة، بل إنها مثله عمياء.”

أقنعني كلامه، فمتى كانت الدساتير تحمي الشعوب التي تتبناها، فالدساتير كانت دائماَ مطيّة للسلطة التنفيذية.

الكلمة الوحيدة التي قلتها حينها: ولكن…!

قال لي بعدها، دون أن يمهلني لأتم جملتي: “أمام الناس لكِ أن تكذبي كما تشائين، فهم دوماً سيسألون ثم يعتادون، فالسؤال سهل، لكن البحث عن الإجابة يحتاج مجهوداً وزمناً ونادراً ما يشغلهم ذلك، مادام لا يمسهم مباشرة”.

 اعترفت له، أنّ سبب انتقالي إلى بيته، لم يكن بحكم العقل، ولكنّ الحب يبرّر.

 حينها عرض عليّ أن نسجل زواجنا، ضحكتُ من قلبي وقبّلته كما لم أقبّله من قبل، متذكرة كل قُبل الهواء.

في اليوم الثالث لقدومي للسكن معه، ذهبنا إلى الغابة، تسلّقنا الهضبة المنحدرة إلى أنْ وصلنا أمام كهف ذي مدخل صغير، دلف قبْلي وتبعته بخوف، التفتَ وبابتسامة شدّ على يدي قليلاً، بعدها انفرج الضيق الذي دخلناه عن قاعة من الحجر المكتسي بالصواعد والنوازل مع فتحة سماوية تضيء المكان، وبحيرة صغيرة في مواجهة المدخل، لم أتمالك نفسي من الروعة وقلت: إنّه بيتنا، فضحك وضمّني وتكلّم: “إنّها مياه صالحة للشرب، أخذت بعضاً منها إلى مديرية المياه وكانت النتيجة إيجابية”.

كنّا نكتفي بالنوم قريبين من بعضنا في بداية سكني معه، إلى أن قالها: “أحتاج لبعض الوقت، فالمرأة الوحيدة التي عرفتها كانت زوجتي في السجن، امرأة من رسم”.

ضممته وقلت له: عندما يحين موعد قلم الرصاص، فمبراتي جاهزة.

“أتسبحين؟”

خلع ثيابه بسرعة ودخل الماء، ظهره كلوح مسماري نتيجة التعذيب في السجن، لم ينظر إليّ، بل حدّق إلى الفوهة، التي تطل منها السماء وتُرى منها الشمس لمدة ساعة تقريباً في النهار، من الواحدة والربع إلى الثانية والربع، أمّا في الشتاء فلا تلحظ أبداً.

 تبعته، غمرته بيدي، أطلق نفساً يعود إلى عشرين عاماً قد مضوا.

 همستُ له: أريد أن أتقنّ اللغة المسمارية، ثم بدأت أقطّب حروف تلك اللغة على ظهره، أبلّها بريقي ثم ألثمها ويدي تعبث بشعيرات صدره البيضاء وتلمس بخفّة حلمة منتصبة من البرودة، لربما لشدّة الإثارة التي لم أتيقنها إلا عندما أدار وجهه وغطّ على شفتي كالطيور المهاجرة.

ينغرز وتدٌ في مثلثي، لينصب خيمته، أشعلت النار، طحنت البن، وضعته على نار هادئة كبدوية تضع الكحل.

تساقط جميع الأبطال الذين عرفتهم وكتّابهم، ما عدا مدرّسي القديم الذي ابتسم وأعاد تزرير قميصي، فتوقفت النافورة عن قذف الماء.

سحبني إلى ذراعه، ومن ثم نحو حافة البحيرة الصغيرة، ووضع بطانية تحت ظهري، واستلقينا تحت الشمس حتى غادرت الفتحة صامتين كصواعدها ونوازلها، تحرّك من قربي أخذ القهوة من الترمس وصبّ فنجانين من القهوة، أشعل لي سيجارة وله أيضاً، همس لكيلا يسمعنا الربّ: “لن يطردنا أحد من جنتنا!”.

2007

[1]– لوحة إعلانية

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 13, 2023 13:39

September 10, 2023

كل شيء هادئ على الجبهة الغربية- باسم سليمان

حكايا الجنود لا تشبه خرافات الجنرالات

في سينما الصباح الاثنين 11أيلول 2023 العدد 5769

حكايا الجنود عن الحروب لا تشبه خرافات الجنرالات. من هذه الحقيقة، كتب الكاتب النمساوي إريك ماريا ريماك، الذي خاض الحرب العالمية الأولى كجندي، من خندق إلى خندق، روايته: “لا شيء يحدث على الجبهة الغربية” والمقصود بالجبهة الغربية خطّ الاشتباك بين ألمانيا وفرنسا، الذي تحوّل إلى رحى تطحن جنود المعسكرين المتقاتلين من دون أن يكسب أحدهما شبرًا زيادة. ومن هنا جاء العنوان المتهكّم للرواية. هذه هي المرة الثالثة التي تقتبس فيها الرواية سينمائيًا، وما يميّز هذا الاقتباس، أنّه جاء من الألماني إدوارد بيرجر كإخراج وسيناريو للفيلم وبالعنوان ذاته. إذن، نحن أمام رؤية إبداعية من الطرف المهزوم في الحرب، حيث تظهر الهواجس لإعادة كتابة التاريخ عبر تبرير الهزيمة الألمانية، لكن بيرجر انتصر للجندي من الطرفين المتقاتلين؛ وخاصة في المشهد الذي يطعن الجندي بول بومر(فيليكس كاميرر) جنديًا فرنسيًا، والذي يرصد الفيلم سيرته في الحرب، هو وأصدقاؤه، الذين صدّقوا مكنة الدعاية الألمانية، فتطوّعوا في الحرب، لكن ما إن وصلوا إلى الجبهة حتى قالوا: (ليس هذا ما حلمنا به). طعن بومر الجندي الفرنسي بلا هوادة، لكنّه في النهاية اقترب منه، ليكون معه في لحظاته الأخيرة، فبحث في جيوبه عن وثائقه، ليكتشف أنّه والد لطفل، وأنّه لا فرق بينهما، إلا بالبذلة العسكرية والشعار، فلو خلعا تلك الهيئة، لعادا إنسانين لا عدوين.

لقد كان ما عاشه بومر وأصدقاؤه كابوسًا، لقد تساقطوا من حوله كالشهب من دون أمنيات، إلّا العودة إلى البيت. ولولا صديقه كات ( ألبريشت شوش) الجندي الأقدم، لكان بومر حقّق سخرية أحد الضباط منه، بأنّه سيموت من اليوم الأول للحرب، لكنّه ظلّ حيًا ليرى الهدنة التي وقعّت بين الألمان والفرنسيين سارية المفعول، بعد الجهود التي قام بها المستشار الألماني ماتياس إرزبيرغر (دانيال برول دور) وفريقه التفاوضي مع الضباط الفرنسيين للتحصّل على معاهدة استسلام تنتهي بموجبها الحرب، على الرغم من الشروط القاسية، التي ستمهّد لقدوم هتلر فيما بعد، لكنّهم بتوقيعها حقنوا الكثير من الدماء، التي كانت ستسقط في ذلك المكان الهادئ المسمّى الجبهة الغربية.

لم يكن الفيلم إظهارًا للمكنة الحربية، مع أنّ بيرجر أبدع في ذلك، فالخنادق التي استخدمت لأول مرّة بشكل مكثّف واستراتيجي في الحروب، ظهرت كأنّها حفر مقابر جماعية. والخوذة الحديدية التي ارتداها الجنود لأول مرة أيضًا، أنقذت بومر من رصاصة قناص، لكنّها ظلّت تذكّره بدينها الذي سيسدّده في اللحظة الأخيرة قبل إعلان الهدنة. أمّا الدبابات، فقد كانت أعجوبة الحرب العالمية الأولى، التي لها القدرة على زلزلة الأرض على وقع جنازيرها، ساحقة الجنود، محوّلة إياهم إلى طين. بينما كانت الغازات السّامة الأعجوبة الثانية، التي كانت تترك الجنود كأنّهم نيام، وبموجبهما تم القطع مع أنماط الحروب الكلاسيكية وإظهار تغوّل آلة الحرب العسكرية إلى الحدّ الذي ينبئ بإفناء البشرية، كما رأينا مع القنبلة الذرية في فيلم أوبنهايمر.

يبدأ بيرجر فيلمه بمشهدية معاكسة لِما يودّ طرحه بالفيلم، حيث المشاهد الرائعة للجبال والغابات والحيوانات. وبعد ذلك ينتقل إلى تلك الحفر التي تنز دمًا، ومن ثم إلى معمل يعيد تأهيل بدلات الجنود الذين قتلوا لتتلاءم مع الجنود الجدد الذين سيورّثونها إلى جنود آخرين، بعد أن يلفظوا أنفاسهم الأخيرة.

تتشظّى أرواح وأجساد رفاق بومر الذين لم تبق الحرب من مدنيتهم إلّا الخوف، فتظهر وجوههم، وكأنّها أقرب إلى الزومبي، فقد كانوا شبابًا، مازالت بقايا الطفولة عالقة بهم، لم يختبروا بعد قساوة الحياة، لكن أن تنضجهم الحرب، فأيّة حكمة ستكون لهم؟ أصيب أحد رفاق بومر، وقبل أن يقطعوا ساقه، طعن رقبته بالشوكة حتى الموت؛ تلك الشوكة التي كانت رمزًا للمدنية على موائد الطعام. يمضي الفيلم من إشارة إلى رمز مؤكدًا على عبثية الحرب، فكات ذلك الجندي الذي لعب دور الأب لبومر، استطاع أن يهرب من كل فخاخ الحرب، لكنّه لقي حتفه بعدما أطلق طفل فرنسي النار عليه، لأنّه سرق البيض من مزرعتهم. وبينما كان يحتضر سأل بومر عن الكلمة التي تتوافق مع كلمة: عبثية، فأجابه بومر: بأنّها رصاصة. كان كات يؤلّف أغنية ويبحث عن قافية مناسبة!

لقد أراد بيرجر إظهار الجندي الألماني بأنّه إنسان، في النهاية، فهو ليس ذلك الضابط الألماني المجنون الذي أمر جنوده في الدقائق الأخيرة قبل إعلان معاهدة الاستسلام أن يقتحموا الخنادق الفرنسية. يعترض بعض الجنود على أمره، لكنّهم يساقون إلى الإعدام. ينطلق بومر كأنّه دمية يقتل ويطعن إلى أن تخترقه حربة أحد الجنود الفرنسيين، إلّا أنّه يتحامل على ذاته حتى يشهد عودة السلام، ثم تغادره روحه. يبدأ أحد الجنود الشباب الجدد بالتقاط قلادات الجنود الذين ماتوا، فلقد كانوا أرقامًا وسيظلّون، مهما كتب التاريخ عن انتصارات وهزائم الجنرالات.

حصل فيلم: All Quiet on the Western Front)) لعام 2022 على الكثير من الجوائز وضمنًا الأوسكار.

باسم سليمان

خاص سينما الصباح

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 10, 2023 21:51

September 7, 2023

النوافذ عيون البيوت- باسم سليمان

مقالي في ضفة ثالثة

إنّ النافذة لاشعور البيت، لو وضعناها في مقابلة الباب؛ الذي هو الشعور. وكأنّنا بين الهو والأنا، وفق تقسيم فرويد للنفس البشرية. لا ريب أنّ أول ما يخطر لنا من أفكار ونحن نتأمّل النافذة، بأنّها مجرد وسيلة لإدخال الضوء والهواء إلى البيت والاتصال غير المباشر مع المحيط/ الخارج، فيما الباب يمثّل قدرة الانتقال من داخل البيت إلى خارجه وبالعكس، فالباب اتصال مباشر، لكن كلاهما يملك دلالات أخرى، فالباب هو تمثّل حركي لأفكار الإنسان، وعواطفه، ورغباته، ومحرمه، وحلاله، بينما النافذة، هي اعتمال تلك الأفكار والرغائب، والعواطف …، في دواخله قبل أن تصبح أفعالًا.

“إنّ تاريخ العمارة، هو أيضًا تاريخ النوافذ” هذه المقولة تعود للمهندس المعماري الفرنسي لو كوربوزييه؛ وكأنّه يقول بأنّ تاريخ الإنسان، هو تاريخ النوافذ. يرجع أول ذكر معروف للنوافذ إلى أساطير الطوفان في بلاد ما بين النهرين ومن ثمّ في التوراة. جاء في النص السومري(1): “ولسبعة أيام ولسبع ليال، غمرت السيول والأمطار وجه الأرض/ ودفعت العواصف المركب العملاق فوق المياه العظيمة/ ثم ظهر أوتو-قرص الشمس – ناشرًا ضوءه في السماء والأرض/ فتح زيوسيدرا – المعادل الأسطوري للنبي نوح- كوّة في المركب الكبير/ تاركًا أشعة الشمس تدخل منه”. إنّ الاستخدام الذي يقدّمه النص السومري للكوّة/ النافذة من أنّها وسيلة لإدخال الضوء الذي يعبّر عن انتهاء العاصفة، يرمز إلى استطاعة استكشاف الخارج بأمان من دون التماس به. وهذا ما فعله ذو القرنين(2) عندما أراد معرفة ما يوجد في قاع البحر، فأمر بصناعة صندوق طوله عشر أذرع في عرض خمس أذرع، يتواجد على جوانبه لوحات بلورية للنظر منها. ودخل فيه مع مساعديه، وقد ختم الصندوق بالرصاص لمنع تسرب المياه إليه، وربطت إليه أثقال من الحجارة وأوثق إلى الحبال بين سفينتين وأنزل في الماء، فنظروا إلى دواب البحر. لقد تخيّل المسعودي غواصة ، إلى جانب آلية النظر تحت الماء من خلال الكوات الزجاجية، في خبره عن ذي القرنين.

إذن، النافذة أداة اتصال مع الخارج، وكأنّنا مع الإنسان وحواسه الخمس، التي نستطيع أن نقول عنها، بأنّها نوافذه، والتي من دونها لفقد العقل أيّة معطيات، حتى أنّ سوزان شنايدر(3) ذهبت إلى أنّ من يملك مدخلات الحواس/ النوافذ يحدّد للعقل المعلومات، التي سوف يعالجها، أسواء قدّم له الحقيقة أو الوهم. إنّ مادية ومجازية النافذة تمنحها خواص الحواس: البصر، السمع، الشم واللمس، عبر استشعار الحرارة والبرودة عندما نفتحها، وإذا أردنا الانكفاء على ذواتنا أغلقناها دون الخارج. قد يكون من الصعب تخيّل مساكن البشر من دون فتحات، فالإنسان، هو الكائن الوحيد الذي يزوّد بيوته بنوافذ، أكان يسكن كهفًا أو خيمة أو بيتًا مبنيًا من الحجارة، والطوب، والحديد، فحاجته للضوء والهواء، وعدم الانقطاع عن العالم الخارجي حاسمة.

للنافذة تاريخ:

كما رأينا مع زيوسيدرا، بأنّ الكوّة/النافذة عبارة عن فتحة تغطّى بالخشب أو الجلود. ونجدها في تاريخ الإنسان، بدءًا من الكهوف والخيم، إلى أن بنى الإنسان أول بيت من طين وحجارة، فأنشأ إلى جانب الباب تلك الفتحة، التي أخذت أشكالًا عديدة من مربع ومستطيل وحتى دائرة، وقد تميّزت القلاع والحصون بنوافذ تضيق جدًا من الخارج لتصبح كالشق الطولي في جدار القلعة وتتّسع من الداخل، ممّا يسمح لرامي السهام أن يقتنص المهاجمين وهو في مأمن منهم. إنّ أكثر ما ترتبط النوافذ به، هو الزجاج، ويعود أول ذكر لاستخدام قطع الزجاج المصهور في النوافذ إلى الإمبراطورية الرومانية في مصر في القرن الأول ميلادي. ويعود للسوريين إدخال قصبة النفخ إلى أفران الصهر، ممّا أدّى إلى نهضة في تصنيع الزجاج. إبان القرن الرابع استخدمت الديانة المسيحية قطع الزجاج في إنشاء النوافذ عبر دمجها بالخشب أو الرصاص مشكّلة منها لوحاتٍ فنيةً تحكي قصصًا من التوراة والإنجيل، بينما كانت النوافذ لدى المسلمين عبارة عن رسوم نباتية وهندسية يتخلّلها الزجاج الملوّن، تعبّر عن التجريد واللامحسوس. وقد ذكرت ديانا دارك (4) بأنّ الجامع الأموي وقبة الصخرة اللذين بنيا على زمن عبد الملك بن مروان، كانا مزيّنين بنوافذ زجاجية، وانتشرت هذه النوافذ حيث انتشر المسلمون العرب. فقد ذكر ابن جبير في رحلته من الأندلس إلى بلاد الشام والحجاز المنظر المدهش لنوافذ المسجد الأموي، وخاصة الأضواء المنهمرة منها، بجميع الألوان تبعًا لتشكيلات الزجاج الملوّن الذي ستر فتحات النوافذ. في حين غطى الصينيون واليابانيون فتحات نوافذهم بالورق، بينما استمر تواجد الخشب والجلد في النوافذ إلى أن تم اختراع الزجاج الشفاف في أوروبا وشاع، فأصبحت النوافذ في القرن السابع عشر أكثرها مغطّى بالزجاج، ممّا أدّى إلى فرض ضريبة على النوافذ. في ذلك الزمن أصبحت النافذة ذات دلالة طبقية، فبيوت الأغنياء كثيرة النوافذ، فيما بيوت الفقراء قليلة النوافذ.

اشتهر العرب ببناء المشربيات، أو الشناشيل، أو الرواشن، والذي بدأ انتشارها من القرن السادس الهجري/ الثالث عشر الميلادي، في الزمن العباسي وما بعده، لأسباب عديدة بيئية واجتماعية. والمشربية عبارة عن بروز النافذة من حائط البيت فوق الشارع وخاصة في الطابق الأول وما فوقه. وتبنى عادة من الطابوق الطيني أو الحجر مع الجص والخشب الذي يشبه قماش الدانتيلا. تأتي فائدة المشربية من إدارتها للضوء والظل والهواء الداخل عبرها، وخاصة أنّ المناطق العربية شديدة الحرارة، ممّا يساعد على تخفيف الحرارة. وتصنع فتحاتها مائلة بحيث تمنع في الصيف ضوء الشمس في حين تسمح بمروه في الشتاء بالإضافة إلى أن طبيعة الخشب المسامية تسمح بالتشبع بالرطوبة أو إطلاقها، فنحن مع المشربية أمام مكيّف طبيعي للبيت. ويأتي بعد هذه الفائدة، السماح لأهل البيت برؤية الشارع من دون أن يروا وخصوصًا النساء، فالتصميم الخشبي مع الزجاج الملوّن، وفرق الإضاءة بين داخل البيت وخارجه أعطى للمشربية ميزة السماح للناظر من الداخل رؤية الخارج من دون أن يُرى، بالإضافة إلى سماع أصوات الشارع والجوار. وفي الوقت نفسه تمنع الناظر من الخارج رؤية ما في دواخل البيوت. وقد تفنّن العراقيون والمصريون واليمنيون وغيرهم في البلاد العربية في بناء تلك النوافذ المنبثقة من الجدران، حتى أنّ اليمنيين المشهورين ببنائهم المتعدّد الطوابق، مدّوا حبلًا من الطوابق العليا إلى الباب الرئيسي، وعندما كان يطرق أحدهم، كانوا يطلّون من الروشن وينظرون من الآتي، ثم يشدّون الحبل ويفتحون الباب له.

لقد تراجعت الأسماء العربية لتلك الفتحات، واستعيض عنها بالترجمة العربية للكلمة الإنكليزية (window) التي ترجع أصولها إلى اللغة الإسكندنافية وكانت تعني فيها: عين الريح، أي حيث تتواجد الريح. بدأ استخدام كلمة النافذة في أوروبا من القرن الثالث عشر وكانت تشير إلى أيّة فتحة في البيت، واستقرت على أشكال النوافذ كما نعرفها حاليًا.

النافذة على أريكة فرويد:

استخدم علم النفس دلالات النافذة للكشف عن النفس البشرية وحركة الأفراد في المجتمع. ففي فرضية: (نافذة جوهاري) تُقسّم النفس البشرية إلى أربعة أقسام. وكأنّنا مع نافذة حقيقية، فالأولى منها، أي المفتوحة، فهي التي تتضمّن المعلومات الشخصية عنّا، والتي يعلمها الآخرون. فيما الثانية، أي الجزء الخفي من نفوسنا، والذي يشمل المعلومات التي نخفيها عن الأخرين، أي الأسرار. ويرى علم النفس بأنّه كلّما زادت مساحة المنطقة المفتوحة، كان هذا أفضل لعلاقاتنا مع الآخرين. أمّا الثالثة، فهي الجزء المجهول من أنفسنا، حيث تكمن إمكانياتنا التي لم نكتشفها بعد، وكلما كانت مساحة هذا الجزء صغيرة، فهذا يعني أنّنا قد اكتشفنا الكثير من مقدّراتنا العقلية. أمّا الجزء الأخير من نافذة جوهاري، فهو الجزء الأعمى، وهو نظرة الآخرين إلينا وأحكامهم عنّا، والتي لا نعرفها، وكلما كان هذا الجزء صغيرًا، فهذا أفضل. يقول عالما النفس(5) اللذان اشتق اسم هذه النظرية من اسميهما، بأنّ العلاقات البشرية تقوم من خلال تواصل أجزاء النافذة بعضها مع بعض.

وهناك نظرية: (النافذة المكسورة) التي أخذت تسميتها من تجربة لعالم النفس الاجتماعي فيليب زيمباردو، فقد قام العالم بترك سيارتين في منطقتين: غنية وفقيرة، فجاءت النتيجة، بأنّ السيارة قد سرقت قطعها سريعًا في الحي الفقير، فيما اضطر أن يكسر زجاج النافذة بنفسه في الحي الغني. وما إن فعل ذلك حتى نُهبت السيارة بذات المدة، كما حدث في الحي الفقير. واستخلص العالم، بأن إهمال المشاكل والسلبيات في مجتمع ما سيؤدّي إلى تفاقمها.

شباك وفيقة: يقول ابن الرومي: رمَيْن فؤادي من عيون الوصَاوص(6)/ بلحظٍ له وقعٌ كوقع المشاقِص(7). لم يكن ابن الرومي في تصويره الشعري، إلّا مستلهمًا تلك النوافذ التي تتواجد في أسوار القلاع، وترمى منها السهام على المهاجمين. هذا مافعلنه الجميلات به، بعد أن لحظ عيونهن تطل من الوصَاوص. وذهب الشريف الرضي بالقول: عفائف يكتمن المحاسن كلّها / وينظرن وهنًا من عيون الوصَاوص. أمّا تلك المتحصّنات وراء أبوابهن أو شبابيكهن أو نقابهن طلبًا للسترة والعفاف، لن يعدمن الوسيلة، فتلك الثقوب/ الوصَاوص، على الرغم من صغرها وضيقها، إلّا أنّها عند الحاجة، تصبح مدى لا ينتهي للعشّاق. وفي زمننا الحديث يقول نزار قباني في قصيدته؛ العقدة الخضراء: إن لحت قبل الشمس في بابنا

توقفي.. ولو للم الإزار

لكل قرميدٍ لدينا يدٌ

وكل شباكٍ لدينا انتظار. إذن الشباك، هو انتظار على أمل اللقاء عند نزار، أمّا لدى السيّاب فهو ثورة. يقول في قصيدته شبّاك وفيقة: شبّاك وفيقة يا شجرة

تتنفس في الغبش الصاحي

الأعين عندك منتظرة. شباك مثلك في لبنان

شباك مثلك في الهند

وفتاة تحلم في اليابان

كوفيقة تحلم في اللّحد

بالبرق الأخضر والرعد. وبالإضافة إلى هذه القصيدة كانت مفردة النافذة/ الشناشيل في قصيدة السياب ذات أبعاد عميقة، حيث الحنين إلى الصبا وذكريات الحبّ العذري، على الرغم من أنّ الموت كان يلوح كالوشم في ظاهر يده، فكتب السيّاب قصيدته: “شناشيلُ ابنةِ الجلبيِّ نوَّرَ حولَهُ الزَّهرُ”.

إنّ رمزية النافذة بأشكالها العديدة وقدرتها الكبيرة على تحويل صمت الجدران إلى كلام ورؤية وتواصل مكّنها من دخول الأغنية العربية بسلاسة. غنّت فيروز لشهر أيلول وورقه الأصفر لجوزيف حرب: “ورقو الأصفر شهر أيلول/تحت الشبابيك/ ذكّرني وورقو دهب مشغول/ ذكّرني فيك”. لقد تساقطت بعد الغياب الأوراق الخضراء في شباك/ شجرة وفيقة، لتصبح إشارة للذكريات بتجمعها أوراق صفراء تحت الشباك مع فيروز. وفي العراق حيث تنتشر المشربيات باسم الشناشيل وخاصة في بيوت البصرة كان للشناشيل أغاني شعبية: “فدوة للشناشيلات

تكعد بيهن الحلوات

تكثر بيهن الضحكات

فدوة للشناشيلات”

أصبح الشباك ساعي بريد، فنجاح سلام في أغنيتها تدعو المحب أن يسلّم عليها، فهي تنتظره كما في قصيدة نزار: “وكل شباك لدينا انتظار” فتغني: ” تلتف بعباه/ يا رفيق الصبا/ تمرق من تحت الشباك ما في مرحبا” فيما يغني محمد منير: ” افتح شبابيك وافتح طريق لبكره.. وأي شيء بقى علم.. ما هو كان في الأصل فكرة”.

كثر ذكر الشبابيك في الأغاني العربية وكان لها أيضًا ثيمة مهمة في الأدب من رواية وقصة، فالمازني في سرديته (من النافذة) ينطلق من الشباك كمحرك سردي لخيالاته، فهو يراقب الطريق وسالكيه وينسج للواقفين على (محطة الترام) قصصًا، فيقول: “جلستُ ذات صباح في غرفة صغيرة ذات شبّاك عريض يطلّ على الطريق… أُوًارِب الشباك فأرى ولا أرى… وأنّي أكون فيها كالراهب المنقطع في صومعته، سوى أنّي لا أتعبد إلا بالنظر إلى خلق الله من الفرجة بين مصراعي الشباك”. في رواية حنا مينه؛ الثلج يأتي من النافذة، تلعب ثيمة النافذة دورًا مهمًا في تطور شخصية البطل: فياض، ففي تخفيه في لبنان يعيش ضمن غرفة تملك نافذة تصطبغ بها حياته النفسية، تارة يطلّ منها على الخارج من دون اكتراث، وتارة أخرى عندما يلمح فتاة في النافذة المقابلة تضطرم في داخله المنازعات ما بين أن يسلّم نفسه لعواطفه وفتاة النافذة الأخرى، وبين أن يكمل النضال، وخاصة أنّ النافذة الأخرى، هي لبيت غني، في حين نافذته لبيت فقير.

لقد رأينا في الأدب العربي أنّ النافذة كانت ذات دلالة على الحلم والثورة والأمل والحب، لكن في الأدب الغربي كان للنافذة دلالة سلبية إشارة على الإحباط واليأس، فمدام بوفاري (😎 صوّرها فلوبير تودّع عشّاقها من خلال النافذة. وكأنّ الحياة التي تحلم بها لا تفتح أبوابها لها، فالنوافذ تمثل الرغبة بالهروب لكن غير الممكن. كذلك في رواية؛ مرتفعات ويذرينغ، لإميلي برونتي، لعبت النوافذ دورين، فعن طريق إغلاقها دلّت على عجز الشخصية، وفي حال تركها مفتوحة رمزت إلى ضعف الشخصية لكل من بطلي الرواية: كاثرين وهيثكليف، حيث كان اللقاء يتم بينهما عبر الدخول من النافذة، وهو دخول محرم، على عكس الدخول من الباب. وقد استخدم مشهد النافذة التي تجلس بقربه أنثى دلالة على الأمل المحبط الذي لا جدوى من ملاحقته في السرديات الغربية.

حضر رمز النافذة في فن الرسم انطلاقًا من أنّها مصدر الضوء ومصنع الظلال. ولربما أشهر لوحة تمثل النافذة ودلالاتها كانت لوحة سلفادور دالي: (شخص عند النافذة) حيث صوّر لنا دالي فتاة تدير ظهرها لمشاهد اللوحة، فيما تستند على حافة النافذة، موجّهة كل حواسها وعواطفها وأفكارها نحو الخارج من خلال النافذة.

النافذة سلطة:

ترجع كلمة الشناشيل إلى الفارسية، وتعني: مكان جلوس الشاه، حيث تحجبه عن رعيته، بينما يسمعون صوته في تقليد لخطاب الآلهة. إنّ سلطة النافذة وتحكّمها بالاتصال بالخارج، مكّن البيوت من حيازة سلطة ما، على ما يبدو كانت تقلق السلطات، لذلك نرى أنّ هذه السلطة سحبت من يد أصحاب البيوت وتم عكسها من قبل الأنظمة الديكتاتورية إلى أن تصبح كاشفة لدواخل البيوت، ففي الرواية الديستوبية: (نحن) للروائي الروسي يفجيني زيمياتين، حوّلت السلطات الجدران إلى نوافذ زجاجية لتكون قادرة على مراقبة مواطنيها. وهذه الفكرة استمدها زيمياتين من المفكّر جيرمي بنتام، الذي أراد أن تُبنى السجون من زجاج، ليتم مراقبة السجناء على مدار الساعة، إلّا أنّ كلاهما قد استمدّ فكره من النبي سليمان. يذكر القزويني بأنّ الملك النبي سليمان عندما كان يشرب الماء من كوز يحجب عنه رؤية ما تفعله الشياطين، لعدم شفافيته، كره ذلك، فابتدع له الجني (صخر) القوارير المصنوعة من الزجاج، ليشرب منها، فلا تحجب عنه رؤية الشياطين وما يفعلون في لحظة شربه. وبعد ذلك أمره أن يصنع له مدينة من تلك القوارير الزجاجية، فلا يحجب عنه شيء. فبنى له جنيه صخر مدينة من زجاج أسكن فيها جنده من إنس وجان، وأسباط بني إسرائيل، والعلماء والقضاة، فكان إذا ركب الريح على بساطه في هذه المدينة رأى كل شيء، فلا يخفى عليه شيء.

للنافذة في السجون دلالات شتى، فمن ناحية يرى فيها السجين أملًا، رغم الشبك وقضبان الحديد، فتناوب النهار والليل عليها، يخبرانه بأنّ الحياة مازلت في انتظاره في الخارج. ومن ناحية أخرى تستخدمها السلطات القامعة، لتقول له، بأنّها من تتحكّم بمجرى حياته. هكذا تصبح النافذة مرّة رمز مقاومة، ومرّة رمز خضوع.

لقد تطورت النوافذ كثيرًا منذ أيام زيوسيدرا، وفكرة الجني صخر عن بيوت شفافة، أصبحت هي السّمة البارزة للحداثة العمرانية، إلا أنّ الجدران/ النوافذ استردت سلطتها عن طريق الستائر، وحواجب الألمنيوم والخشب، والمواد العاكسة للرؤية، بحيث لا إمكانية لرؤية ما في داخل تلك الأبنية.

عندما أطلقت مايكروسوفت نظام التشغيل الـــwindows هبّت رياح التغيير التي عصفت بالعالم، الذي نعيشه هذه الأيام، حتى الواقع تعدّد، وأصبح إلى جانب الواقعي هناك الافتراضي، وأصبح بإمكان المطِل من نافذة الويندوز أن يفتحها على أي مكان يرغبه في العالم. وفي الوقت نفسه تحقّق حلم جيرمي بنتام بالسجن الشفاف، حيث أصبحنا أسرى هذه النوافذ، لكن حكمة النوافذ القديمة يجب أن تكون حاضرة، بأنّنا أصحاب الحقّ في فتحها وغلقها. ولربما يجب أن نتعامل مع هذا الواقع الجديد بعين الشناشيل، نرى ولا نُرى.

المصادر والهوامش:

1- مغامرة العقل الأولى، فراس السواح. دار الحكمة 1988.

2- مروج الذهب ومعادن الجوهر، المسعودي. المكتبة العصرية بيروت 1985.

3- الخيال العلمي والفلسفة، سوزان شنايدر. المركز القومي للترجمة، مصر 2011.

4- السرقة من السرسان، ديانا دارك. الدار العربية للعلوم ناشرون بيروت 2021.

5- جوزيف لوفت وهارينغتون انغهام.

6- الوصاوص لغة: ثقب في الباب أو الستر على قدر العين ينظر منه. وهو البرقع تلبسه الفتاة. ووصْواص الشباك: الفتحة المربعة التي تسلّم من التذاكر، نافذة صغيرة في قلب الشباك الرئيسي.

7- المشاقص: هي السهام ذات النصل العريض

8- https://stricklandshome.com/famous-windows-in-literature/

باسم سليمان

https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/civilisation/2023/9/7/%D8%A7%D9%D9%D9%D8%A7%D9%D8%B0-%D8%B9%D9%8A%D9%D9-%D8%A7%D9%D8%A8%D9%8A%D9%D8%AA?fbclid=IwAR0RKDLEf8Sf9PUjV6KNJn3t_GeHJbtvRS0GklSwl955hr6mF38vjoVcDv4

خاص ضفة ثالثة

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 07, 2023 06:32

September 6, 2023

كانت تترك عباءتها مفتوحةً بعكس النساء… أمل يتغذّى من خيباته في “عباءة غنيمة” مقالي في موقع رصيف22 عن رواية: عباءة غنيمة للكويتية عائشة المحمود

تقول التقاليد الشعبية، بأنّ الإنسان عندما يستشعر موته يرى شريط حياته كاملاً أمام عينيه! فهل كان تطيّر فيصل من ذلك اللقاء الصحفي نتيجة لذلك، وخاصة عندما سُئل: “هل تحبّ الفريج؟” كانت إجابة فيصل: “نعم، أحبّ الفريج وأحبّ أهله، أقصد: أحبّ أهلي”. تبدأ الروائية الكويتية عائشة المحمود سرديتها: (عباءة غنيمة) الصادرة عن دار الساقي لعام 2022 بإهداء محفّز للسؤال، وذلك عندما جمعت ثلاث كلمات، لها تداعياتها العاطفية والفكرية المختلفة على كل قارئ لتفتتح بها روايتها: (إلى الجَهل، والحبّ، والهزيمة…) 

نستطيع أن نُرجع هذه الكلمات الثلاث إلى فيصل بطل الرواية، فهي الأقرب لتكون مختصراً لسيرة حياته ذلك الذي عشق وحدته وعزلته، ولربما غربته عن أعراف وطنه، كما كان يظنّ! لربما قال تلك الكلمات تأنيباً لعدم قدرته على الانسلاخ الكامل عن التقاليد التي تربّى عليها، أو لأنّه لم يستطع الانغماس في مجتمعه، كما فعل أخوه عبد العزيز تاركاً للزمن إدارة التغيير، الذي سيلبسه جلباباً آخر يُنتقى من خزانة الوطن عبر تقدّمه في الزمن.

تبدأ الرواية في شهر آب من عام 1990 حيث فيصل في متاهته الخاصة، فقد رفض التدريس، بعد نيله درجة الدكتوراه، ولم تغره الوظيفة الدبلوماسية التي أمّنها له أخوه عبد العزيز الذي أصبح شخصاً مهماً في حياة الكويت الاقتصادية والسياسية محققّاً حلم أبيه وجده.             كان فيصل يستعذب وحدته وعزلته، ويرى فيهما منجاة من حبّ عاصف، لم يستطع أن يشفى منه، رغم البعد والقطيعة عن تلك الحورية، التي أصمّ عوليس أذنيه عن سماع غنائها، إلا أنّ فيصل طُرِب، حتى أدخلته غربة لم يثمر تجدّدها، كما كانت نصيحة أبي تمام: “اغترب، تتجدّد”.  

يعود فيصل من الشاليه الذي يطلّ على الخليج العربي إلى بيته المتواجد في منطقة الفريج من العاصمة الكويتية، فيسترعي انتباهه غياب المحطّات من راديو السيارة، ليتكشف له السبب الذي ظل مبهماً، حيث تناثرت جماعات من الجنود الغرباء بعيدًا عن الحدود التي يجب أن يعسكروا فيها لاستعادة فلسطين السليبة، ما الذي حدث في الكويت ذلك البلد الذي يشبّ نحو المستقبل بكل قوة وأمل، حتى تضل بوصلة شعارات القومية العربية عن هدفها وتفتك به؟

تنفتح الذاكرة والتاريخ، ويولد فيصل بعد انتظار، ويستكمل غازي به عصبته من الذكور، فيسميه على اسم جده، محقّقاً أمنية تخلّفت كثيراً، فقد تمنّى أن يكون ولده الأول على اسم الجد الذي أحبه كثيراً، لكن سطوة العائلة دفعته ليسميه عبد العزيز، هكذا ضاعت الفرصة الأولى لكن الثانية لم يخب الرجاء فيها. أمّن قدوم فيصل لأمه مريم، حبيبة أبيه انتصاراً معنوياً في مجتمع ذكوري، فلم يبق عبد العزيز وحيد والديه، على الرغم من وجود بدور وشيخة إلى جانبه فقد ردفه فيصل أخيراً، ورحم أباه من زواج ثانٍ، لكنّ بشارة فيصل وغنائمه ترافقت مع إعلان قيام إسرائيل على أرض فلسطين المحتلة في 14 أب عام 1948. استطاع فيصل الصغير أن يمحو هذا الخبر المشؤوم، على الأقل لأيام، من اهتمامات أبيه، لكن الوالد الفطن والحذر من المستقبل والذي اعتاد أن يسجل حوادث أيامه في دفتر، خاف على ابنه أن يرث وجع الرأس من جده وأن يكون لهذا التاريخ الذي توافق مع ميلاده تأثيراً سيئاً عليه.

تربط ذاكرة فيصل استرجاعاتها بحوادث معينة، وبها يُماط اللثام عن النتائج التي انتهى إليها حاضره. ففي شتاء 1954 تحوّل بيتهم المبني من الحجر إلى سفينة نوح بعدما امتلأت طرق منطقة الفريج وساحاتها بالماء نتيجة الشتاء القاسي، فتوافد إليه الأقارب والجيران هرباً من المياه التي دخلت البيوت الطينية وهدمت جدرانها. في ذلك العمر الصغير بدأ فيصل يكتشف الفروقات بين عالم الذكور وعالم النساء، بين الأنثى التي تقضي حياتها خلف عباءتها تتلصص على الواقع من خلال الوصاوص (الثقوب)، أو الشبابيك، بينما الرجال يملكون كامل الحرية في الدخول والخروج. في خضم تلك الأحداث أدهشه تعلّق بدور التي تكبره قليلاً بقريب لها يدعى فهد والتي كانت تتنظر رؤياه من خلال الشباك. لم يكن فيصل ميّالاً بطبعه لألعاب الذكور، بل أقرب إلى التأمّل، فقد كان يمل سريعاً من حكايا جدته مزنة التي تنتهي عادة بلازمة : (خلصت وملصت) والتي تتكرّر في كل سهرية في بيتهم، فيم العالم من حوله في تغيّر دائم. ويكره تعلّق ذكور العائلة بطيور الحمام، لربما يعود لأقدار يوم ميلاده، فكيف يحتفى بطائر الحمام وإسرائيل تحتل بلداً عربياً. هذه الحدوس الاستشرافية عرفها فيصل عاطفياً وبشكل لا شعوري ولم يدركها عقلياً، إلّا متأخراً، بعدما عصف به حبّ تلك الشابة السورية من لاذقية الساحل السوري. كان مجتمع فيصل ذكورياً، ومع ذلك فقد كان يبهجه رؤية أخته بدرية تطارد ظلّ فهد من خلال النافذة متحدّية قيم مجتمعها. لقد كانت أنثى ترغب بخلع العباءة التي حرمتها من ارتياد المدرسة ومن معايشة الحوادث التي عاشها فيصل مع الأولاد في الخارج من لعب كرة القدم وغير ذلك. 

الجهل:

نولد صفحة بيضاء تتزاحم الأقلام على كتابة كلماتها عليها من الأسرة إلى المجتمع والوطن والدين والتاريخ والسياسة؛ وفي خضم هذا التجاذب الذي يستكان له أكثر الأحيان، أو يُثار عليه أحياناً أخرى، يتلمّس الكائن البشري طبائعه الخاصة وأقداره المكتوبة والتي سيكتبها بنفسه. لم يكن فيصل صورة طبق الأصل عن الصورة المشتهاة التي رسمها أبوه غازي له. فهو ليس ذكورياً بالمعنى الذي خطّه أخوه عبد العزيز لنفسه، والذي أراد أن يستنسخ صورة الجد والأب في شخصه وكان له ذلك. أمّا فيصل، فكان ينتخب صفاته ونعوته التي ستقوده إلى أقداره. فعندما حطّت في دارهم تلك المرأة ذات الشعر البرتقالي والمشغولة بصنارتي الصوف، ومازالت الطفولة تسمح له بالعبور بين مجلس الرجال والنساء، أدهشته، فهي لا تتهيّب مقابلة الرجال ولا محادثتهم، فوجد فيها مجازاً يخطو معها إلى خارج حدوده. فيم معلم المدرسة الفلسطيني ناظم، قد أشربه حب ذلك البلد السليب الموجود في بلاد الشام. لقد ورث فيصل من أبيه تطلعه إلى المستقبل واستشرافه الآتي وقلقه منه، لكنه لم يكن متقوقعاً على ذاته، بل دفعه هذا القلق من الآخر: الأخ في الوطن أو الأخ العربي أن يتوجّه بكلّيته نحوه، فعندما أعلنت الكويت في يونيو/ حزيران من عام 1961 استقلالها عن الحماية الإنكليزية، لبس فيصل الدشداشة والغترة ووقف إلى جانب أبيه متعثراً بلباسه الجديد وفرحاً لفرح والده. لقد ولدت الكويت من إرهاصات المنطقة السياسية جديرة باستقلالها وشعبها جدير بذلك اليوم، لكن أطماع الأخوة الجيران تراءت من بعيد كخيالات الأشباح.

لم تكن عائلة فيصل بعيدة عن المشاعر القومية العربية، بل مأخوذة بها، فأحد أقربائه بكى عندما اعتدى الانكليز على مصر في عام 1956 وعدَّ والده يوم إعلان اسرائيل يوم سوءٍ، ولم يخفف من وطأته إلّا مجيء فيصل. وعندما شبَّ شبلا غازي أوفد أحدهما إلى مصر لدراسة الهندسة، بينما أصرّ فيصل أن تكون بيروت وجهته ليحقّق أكبر تقارب بينه وبين فلسطين التي عرف حبها مع كل كلمة تعلّمها.

يأتي فيصل إلى بيروت التي كانت في أواخر ستينات وبداية سبعينات القرن العشرين أقرب إلى عاصمة النور باريس. وهناك يُصدم فيصل بكلّ شيء من الثياب إلى العادات إلى العلاقات إلى الأفكار. لقد اكتشف جزيرة أطلنتس ووله بها. ترك عادته واكتسب عادات جديدة تناسب طباع بيروت البحرية التي تتقلّب على أمواج السياسة والثقافة. فانخرط سريعاً في جو الأفكار والنقاشات التي تزدحم بها بيروت وظهر ميله للمد القومي العروبي الذي تشكّل بعد خسارة فلسطين. وفي قلب هذه المعمعة تظهر لين أستاذتهم في الجامعة، شابة سورية مختصّة بالعلوم السياسية والعلاقات الدولية، منفتحة واثقة من خطوها، متمرّدة تستند إلى عائلة ذات نفوذ في سورية تعود بأصولها إلى مدينة بحرية. ومن غير فيصل، سيكون بانتظارها وهو الذي لا يستطيع تصور مدينة من دون بحر إلى جانب توقه إلى النساء المختلفات عن نساء مجتمعه، هكذا تأتيه فتاة بطعم الملح، فيقع في غرامها.

الحبّ:                                                                                              تأخذ حداثة بيروت بتلابيب فيصل، تدخله متاهاتها من غير أن تزوده بخيط أريادن. ومع ذلك كان يغذّ الخطى إلى أن أتت لين، فعوليس الكويت التائق إلى الإبحار إلى إيثاكا أخرى، استمع إلى غناء لين. لين التي فيها من البحر الكثير والأهم تلك الدعوة إلى الإبحار التي تولد في كل شخص يراها وكان فيصل أول المستجيبين، حتى عندما عاد إلى الكويت استنسخ بيت لين لربما يزوره طيفها. لقد كان حباً عاصفاً وهادئاً ومتبصراً تارة وغافلاً تارة أخرى، عاشه كل من فيصل ولين إلى أن انقطع حبل المرساة، التي جهد فيصل في جدله ليصارع به أشرعة لين التوّاقة إلى الإبحار الدائم. تندلع الحرب في بيروت، فتصبح باريس وجهتهما، ومن ثم تتهاطل عليهما الأحداث الاجتماعية والسياسة، فتختفي لين وكأنّها لم تكن.

في تواز آخر لحياة فيصل، كانت أخته بدور قد اقتنصت حبّ حياتها فهداً، وتزوجته. فيم أخته شيخة قد تزوجت من مساعد وطارا إلى أمريكا. كان فيصل يجري مقارنة بين أساليب المقاومة بين أختيه ولين، التي تشبه المرأة بالشعر البرتقالي، لكنّها أكثر جرأة منها بكثير، فلين تدخن وتشرب وتعقد ساق على ساق وتجاهر بآرائها الحرّة غير هيابة من أحد، فيم أختاه وصلتا إلى مآربهما من دون مواجهات، بل عبر مكر المرأة في مجتمع يحرمها من الكثير من الحقوق. هذه المقارنات وسّعت أفق التفكير لدى فيصل ومنحته موافقات ضمنية لتصرفات أختيه، بل حبذها ورأى فيها نقلة جديدة ستثمر حرية في المجتمع الكويتي الذي يخطو نحو الحداثة بتأنٍ، لكن بإصرار.   

في غفلة من الزمن، يتزوج أبوه من خادمتهم أمينة، التي كانت تنسج حوله شباكها، منذ كانت صبية صغيرة في بيتهم في الفريج لينجب منها سها تلك الفتاة التي كانت لها حظوة كبيرة لدى أبيه، حتى أنّه سمح لها بأن تقود سيارة حيث كان ذلك من المستحيلات لأختيه بدور وشيخة. تكبر سها وتسحر بالقضية الفلسطينية وتغرم بشاب فلسطيني من ضاحية حولي في الكويت. تتجاوز سها كل الخطوط وتعلن ثورتها الخاصة التي دعمها فيصل، فقد اعتبرها امتداداً لطبائعه الخاصة وصدى لما كان يعتمل في داخله. وعندما أدّبها أبوه وأخوه بسبب الشاب يامن الذي تريد الزواج منه ساندها وأنقذها من موت محتم. أمام هذه الثورة من سها قرّر أبوه أن يذهب بالعائلة إلى لندن ليبعد سها والعائلة عن تبعات قصتها مع يامن، لكن سها تفرّ إلى أمريكا مع عشيقها، فيتزوجان هناك وتراسل فيصل الذي يجيبها: “فليحيا الحبّ”.

يقال في المثل، بأنّ نجمة السها الموجودة في كوكبة الدب الأكبر يختبر بها النظر. وأمام تجربة سها اكتشف فيصل، كم من الجرأة في المواجهة، كان سيحتاج لو انتهت علاقته بلين بالزواج، فهل كانت لين تدرك أن ثورته على تقاليد مجتمعه ينقصها الممارسة لا التنظير؟ استمرت سها بمراسلة فيصل، لكنه لم يجبها، بل كان يضع رسائلها في صندوق من دون قراءتها. لم ينجح فيصل، تماماً، باختبار النظر أن يرى نجمة السها.

الهزيمة:

يعيش فيصل على مستنقع ذكرياته وعلاقته بلين، فيسعى ليكون مستقلاً عن العائلة، فينشئ شركة صغيرة للاستشارات يستقدم إليها صديقه  الشاعر العراقي البصراوي جوزيف من بيروت، ذلك الشيوعي الاشتراكي المشبع بالعاطفة القومية العربية. تكرّ الأيام، فيم يقلّب فيصل أوجهها بحثاً عن تطابقٍ بين معنى اسمه وحياته، لكنّه يزداد حيرة وتوهاناً، وخاصة بعد حادثة طائرة الجابرية عام 1988 التي كان من أهداف خطفها؛ إطلاق مجموعة من السجناء لدى الأمن الكويتي. تدفع هذه الحادثة فيصل ليعمّق سؤاله عن حقيقة ذلك الانتماء العربي؛ أسواء كان بين الأخوة داخل البلد الواحد أو بين الأقطار العربية، ولبنان كان الشاهد الأكبر على قتال الأخوة الدامي.

تنامت الهزيمة داخل فيصل وتثلّمت حدّة رغباته بالاختلاف. ولربما انتظر نهاية تشبه جده وأباه حيث تفقد الذاكرة تدريجياً توهّجها حتى تخبو نهائياً. عندما وصل إلى بيته من الساحل في 2 أب عام 1990 جمع أهله في وسطه، وحاول طمأنتهم، وخاصة أمه التي أصبحت تلتقط رائحة الأحزان بخفّة، بعد زواج أبيه من أمينة. كان جوزيف قد هاتفه، بأنّ صدام اجتاح الكويت، فخرج إلى لقائه، مسترجعاً حواراته مع لين، التي أخبرته بأنّهما سيشاهدان نهاية العالم الذي يعرفانه، لكن كل من شرفة بيته وحيداً. كان فيصل يلح عليها أن يكونا معاً، لكنّها كانت تقول له، بأنّنا كائنات هشّة، لا نستطيع رؤية الواقع المليء بالقسوة والاختلاف، فنلجأ إلى الأحلام.

أحضر جوزيف سلاحين، لم يكن فيصل قد خبر علاقة ولو من بعيد مع السلاح، لكنّه أحسّ في تلك اللحظة أنّ جده وأباه قد تلبّساه، وأنّه الآن، سيكون الذكر المشتهى الذي حلم أبوه به. لبس دشداشة مفتوحة الصدر وغترة مائلة وخرج إلى لقاء جوزيف للدفاع عن الكويت. عرف فيصل الخوف  في طفولته، عندما صرخت به امرأة مجنونة وبأخيه عبد العزيز؛ أن يعودا إلى البيت. كانت تلك المرأة تلبس عباءة سوداء وفستان مشجّر، تترك عباءتها مفتوحة على عكس النساء. كان طيفها يحضره كلّما اشتد به القلق. والآن في هذه اللحظات الفاصلة يتطابق اسمه مع معناه، يرى عباءة غنيمة، وأباه ناظراً إلى السماء، بينما تطل عينا لين عليه، لكنّهما خاليتان من الحياة! تنطبق الذاكرة على الحاضر، واسم فيصل على معناه، فيتدفق دم قانئ من جسده، بينما رفيقه في السلاح جوزيف البصراوي العراقي يصرخ: فيصل، فيصل!

عباءة غنيمة:  

ليست الكلمات التي ابتدأت بها عائشة المحمود روايتها عبارة عن أسباب ونتائج، بل دوال للاهتداء بها، وهي تفرش سيرة حياة فيصل على نول التاريخ، ومن خلاله تنسج سجادة الكويت منذ لحظة ولادته التي توازت مع قيام إسرائيل إلى لحظة استشهاده دفاعاً عن الاحتلال الصدامي للكويت في آب عام 1990. بقدر ما تبدو الرواية متخفّفة من أعباء التاريخ بالمعنى الحرفي، لكنّها في المقابل تكشف عن عمق تأثير الأحداث في بناء الشخصيات وردود أفعالهم وأفكارهم المبتناة عليها، أسواء كانت بالموافقة أو بالاختلاف. إذن هي رواية الآمال والخيبات والثنائيات التي تتراقص أحياناً بتناغم، وفي أحيانٍ أخرى تفترق إلى أن يسود حدٌّ على آخر.

كان الأب غازي في محاولته أن يهرب من ضياع الذاكرة، التي أصابت جده فيصل يقتني الدفاتر ليسجل تاريخ عائلته وانطباعاته عن الأحداث التي يعايشها، لكنه ينتهي كما انتهى الجد. فيم الأم مريم المطمئنة لحياتها تزلزله خادمتها أمينة بعد زواج غازي منها. يتماهى عبد العزيز مع صورة الجد والأب بعدما دعم وجوده بثلاثة أبناء من الذكور. تفوز بدور بحبّ حياتها، لكن فهد يخيب آمالها. تقتنص شيخة مساعد وتهاجر. تثور سها ابنة الخادمة أمينة على كل شيء وتهرب إلى أمريكا، أمّا الذي كان مولّها بالغربة وارتياد الآفاق تضيع منه لين، ليعود محققًا صراخ المجنونة بالعودة إلى البيت والدفاع عنه.

هكذا كتبت الأقدار حيوات عائلة غازي، فحاول كلّ منهم أن يثبت بعض الكلمات ويمحو أخرى، صانعاً مصيره الذي كان يعتقد أنّ له الكلمة العليا فيه! هي رواية لتأمل كيف يصنعنا التاريخ ونصنعه، ومن خلال ذلك، نكتشف فرادتنا التي هي التاريخ الحقيقي.

باسم سليمان

https://raseef22.net/article/1094760-%D9%D8%A7%D9%D8%AA-%D8%AA%D8%AA%D8%B1%D9-%D8%B9%D8%A8%D8%A7%D8%A1%D8%AA%D9%D8%A7-%D9%D9%D8%AA%D9%D8%AD%D8%A9-%D8%A8%D8%B9%D9%D8%B3-%D8%A7%D9%D9%D8%B3%D8%A7%D8%A1-%D8%A3%D9%D9-%D9%8A%D8%AA%D8%BA%D8%B0%D9-%D9%D9-%D8%AE%D9%8A%D8%A8%D8%A7%D8%AA%D9-%D9%D9%8A-%D8%B9%D8%A8%D8%A7%D8%A1%D8%A9-%D8%BA%D9%D9%8A%D9%D8%A9خاص رصيف22 

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 06, 2023 06:28

“نار الله”: تحرير المثقف من عزلته

مقالي في موقع الميادين عن رواية: نار الله لإلياس كانيتي.

عندما أبدعت ماري شيلّي فرانكشتاين في القرن التاسع عشر صنعته من الجثث تعبيراً عن خوفها من لاروحانية العلم وماديّته. وبالمثل، شكّل المفكّر والروائي النوبلي إلياس كانيتي عقل بطل روايته بيتر كين: (نار الله؛ الصادرة عن دار المتوسط لعام 2023 ترجمة كاميران حوج) من محتويات خمسة وعشرين ألف كتاب منتخبة، تمثّل الثقافة البشرية عبر تاريخها وخاصة الشرقية منها؛ الصينية والهندية التي ترى العالم المادي مجرد وهم؛ على منوال تقسيم أفلاطون الكون إلى عالم المثال وعالم المحاكاة/ الوهم. لقد بنى عالم الصينيّات بيتر كين إسقاطاً ماديّاً لفكره في مكتبة أقامها في بيته، على الرغم من تمتّعه بذاكرة ليس النسيان حدّها الثاني! لم يكن لبيتر كين، إلّا جسد الضرورة الذي يحمل فوقه هذا الرأس، الذي فكّر بالتبرّع به للبحوث العلمية، ليكتشفوا قدرته الهائلة على التذكّر. وهنا، يأتي السؤال، ما هو الفزع الذي اعترى كانيتي، حتى يوجد فرانكشتاين الكتب بيتر كين؟

كتب كانيتي روايته، ما بين عامي (1929-1931) حيث لم تنته بعد عقابيل الحرب العالمية الأولى وبدأت إرهاصات الثانية بصعود النازية. كانت ظاهرة الجمهور أو الحشود قد لحظت من قبل المفكّرين منذ الثورة الفرنسية. ويعدّ كتاب غوستاف لوبون (سيكولوجيا الجماهير) رائداً في مقاربة هذا الموضوع وفي ما بعد كتب كانيتي كتابه الذائع الصيت “الحشود والسلطة” كذلك فعل الفيلسوف الإسباني خوسه أورتِغا أي غاست وأصدر كتابه “تمرّد الجماهير”.

اختبر كانيتي تأثير ظاهرة الحشود البشرية في التظاهرات التي اجتاحت فيينا إثر صدور حكم بتبرئة ثلاثة من أعضاء اتحاد قدامى المحاربين في النمسا وألمانيا، الذين هاجموا حانة في بلدة شاتندورف، وقتلوا رجلًا وطفلاً ممن كانوا موجودين في اجتماع أعضاء الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني والنمساوي. أدّى هذا الحكم إلى خروج تظاهرات هاجمت البرلمان ومحكمة العدل، فأطلقت الشرطة النار، وقتلت ما يقارب الأربعين متظاهراً، وبالمقابل سقط خمسة من رجال الشرطة. في أثناء ذلك، رأى كانيتي في شارع جانبي شخصاً يصرخ بأنّ الوثائق تحترق! وقد كرّر صراخه، فلا يعنيه مما يحدث إلّا الوثائق، ذاهلاً عن الضحايا من كلا الطرفين، وكأنّ تلك الوثائق هي الوجود الحقّ وباحتراقها سيعود إلى العدم.

حاول كل من لوبون، وخوسه أورتِغا، وكانيتي أن يحلّلوا ظاهرة الحشود التي اجتاحت المشهدين السياسي والاجتماعي في أوروبا. وكيف يذوب الأفراد في كتلة بشرية تتحرّك وتحيا لفترة مؤقّتة، تغيّر فيها التاريخ، ثم تعود لتتفتّت، فيرجع الأفراد إلى ذواتهم المستقلّة الحائرة، لكن يحدوهم حنين دائم إلى ذلك الطين الذي صهرهم في كائن واحد، هو الجمهور، الذي يمنحهم في لحظات تشكّله وهماً يتوقون إليه، ألا وهو قدرتهم على الإحاطة بالوجود!

خطط كانيتي لكتابة ثمانية كتب يتناول فيها شخصيات مجنونة وحمقاء ومغفّلة، لكنّ شخصية دودة الكتب بيتر كين استحوذت على اهتمامه، فصبّ جلّ اهتمامه عليها، وخاصة بعد رؤية الرجل الذي كان ينظر إلى حريق المحكمة، وكلّ همّه يتّجه نحو الملفات المحترقة، لا البشر.

لقد كان مشهد حريق البرلمان ومحكمة العدل من قبل الحشود المتظاهرة، البذرة التي بدأت منها شخصية بيتر كين، فمن هذا الشخص الذي خرج عن إجماع الحشد وبدأ بالصراخ بأنّ الوثائق تحترق؟ ومنه استوحى كانيتي عنوان روايته البدئي: (براند) والذي يعني الاحتراق، ويحاكي اسم الفيلسوف كانط. لكن، بناءً على نصيحة صديقه الروائي هيرمان بروخ صاحب ثلاثية؛ “السائرون نياماً” التي يعدّها ميلان كونديرا من أعظم الروايات التي كتبت في القرن العشرين، أصبح عنوانها؛ “كانط يحترق”، لكن في النهاية استقرّ على العنوان التالي: “Auto-da-fé” وهو مصطلح يعود إلى محاكم التفتيش يشير إلى إجراء طقسي يخضع له المتهمون بالهرطقة ويختم بالإعدام حرقاً. وقد ترجمه كاميران حوج بـــــــ “نار الله”، والتي تشير إلى التطهير والعقاب، وإعماء البصر. وحتى إنّ اسم كين يشير إلى الراتنج الصنوبري الشديد الاحتراق.

تنقسم الرواية إلى ثلاثة فصول رئيسية: (رأس بلا عالم- وعالم بلا رأس- وعالم في الرأس) ومنها تتفرّع عناوين جزئية أقرب إلى المفاتيح، التي ستفكّ بها أغلال المتاهة، التي أوجدها كانيتي في روايته، فهو لا يكتب جملًا واضحة الدلالة، بل يتقصّد أن تكون بمعانٍ عديدة وحتى متضاربة. هذه النيّة الواضحة في تتويه القارئ تتأتّى من مقولة سارتر عن الوعي البشري الذي شبّهه بمصابيح الإضاءة، حيث كل مصباح يضيء مكانه فقط، فيما يبقى المحيط مظلماً أو مناراً بوعي آخر يقوم على معطيات مختلفة ومتعارضة. وكأن كانيتي يعارض بذلك هيغل الذي رأى بأنّه بإمكان الوعي البشري الفردي أن يكون قادراً على استيعاب الحقيقة الشاملة للوجود، من خلال فهم نهائي ينجزه العقل.

لقد كان كانيتي أكثر تشاؤماً من هيغل، ورأى أنّ الوعي البشري الفردي لن يكون قادراً على حيازة الواقع، وما التطورات التي بدأ منها العنوان وخاصة؛ “كانط يحترق”، إلّا سخرية مرّة من تلك المنظومة الفكرية والأخلاقية – بعموميتها وشموليتها، والتي كان أحد روّادها الفيلسوف الألماني كانط، فعلى سبيل المثال، أراد كانط أن يجعل من رفض الكذب عاماً، بحيث لا يمكن الكذب تحت أيّ مصلحة وضرورة. وعدّ الكذب شراً مطلقاً، وضرب مثلاً، بأنّه لو التجأ شخص إلى دار شخص آخر خوفاً من قتلة يطاردونه، فلا بدّ أن يخبرهم الحقيقة، حتى لو قتلوا هذا الشخص البريء المختفي في الداخل! هذا التطرّف الأخلاقي دفع ببعض المفكّرين للهزء من أخلاقية كانط، والتي تكون أكثر شراً من الكذب ذاته في بعض جوانبها.

رأس بلا عالم:

يقدّم لنا كانيتي في هذا الفصل شخصية كين، المشغول بشكل دائم بإجراء بحوث وكتابة مقالات عن العلوم الصينية يتكرّم ببعضها على المؤسّسات العلمية. هذا الانشغال البعيد عن حيثيات واقعه في أوروبا دلالة على غربته التي ضاعفها بإرادته. يقتصر ارتباط كين بالعالم المحيط على الحد الأدنى، بدءاً بالطعام إلى الأثاث وجولة صباحية، تذكّرنا بجولات الفيلسوف كانط، يتفقّد فيها مكتبات المدينة، ليسخر من ضحالة محتوياتها ثم يعود إلى قوقعته. يرفض كين أيّ محاولة للدخول إلى عالمه، حتى من ذلك الولد الصغير المولع بالكتب وباللغة الصينية، والذي يذكّره بنفسه، فبعد أن وعده بأن يريه بعض المصوّرات، طلب من خادمته تيريزه أن تطرده. يريد كين أن يعيش في رأسه/ مكتبته، لكن الخطيئة التي أهبطته من جنّته كانت إدخال الشيطان تيريزه لحماية مكتبته من الحريق في حال غيابه. هذا الوسواس القهري أتاه من قراءة معلومة عن إمبراطور صيني قام بجمع الكتب وحرقها.

استقدم الخادمة للعناية بالبيت والمكتبة، فتشعره الخادمة بأنّها تحب الكتب. وعندما أهداها كتاباً أمسكته بقفازين نظيفين من قماش. تدفعه هذه الحادثة بعد محاورة عقلية أجراها مع كونفشيوس إلى الزواج بها. كان لتيريزه من العمر ست وخمسون سنة، فيما كان كين في الأربعين. وفي ليلة العرس، تزيح تيريزه الكتب بعنف عن الأريكة الوحيدة في البيت منتظرة من كين أن يزيل عذريتها. هذا التصرّف كان قاتلاً بالنسبة إلى كين الذي ابتعد عنها. لم تكن تيريزه مختلفة عن كين، بيد أنّ لها عالمها العقلي الخاص، فهي تتخيّل بأنّها جميلة وترى بفستانها الأزرق المُنشّى جوهر فتنتها، لكن في الحقيقة، هي قبيحة وكل همّها يتجه إلى النقود. أدّت حياة كين الخاصة والغريبة إلى أن تدفع تيريزة إلى الاعتقاد بأنّ كين متورط في جريمة ما، وخاصة تلك السرّية التي يحيط بها وجوده بين السادسة والسابعة صباحاً.

لم تكن تلك الساعة إلّا لاختيار الكتب التي سيضعها كين في حقيبته كي يظل قريباً من مكتبته، على الرغم من مشوار الصباح. تبدأ تيريزه في عزل كين، حتى لا يتبقّى له سوى مكتبه، وأمام ذلك الهجوم، يسعى كين لاستنهاض مكتبته للحرب، فيلقي خطاباً في كتبه يصوغ فيه بياناً للحرب ضد مدبّرة منزله / زوجته.

ومع ذلك، فإنّه يشعر بالحماقة في استخدام الكلام الشفوي، متذكراً أنّ الصمت الحكيم لبوذا كان أقوى أشكال التمرّد لديه. وعندما يتأمّل كتبه، يدرك أنّه حتى هؤلاء لا يستطيعون الاتحاد والاتفاق مع بعضهم البعض حول مسار العمل. لا يستطيع بوذا الانسجام مع هيغل، ولا يستطيع هيغل الانسجام مع شيلينج، وهناك خلاف بين كانط ونيتشه. أخيراً، يقرر كين أن يقلب كتبه بحيث يصبح موقع العنوان منها إلى الجدار. وبذلك، يحجب هوياتها مع إبقائها مصطفة في صفوف مرتبة. وهكذا تصبح الكتب صامتة، وتم محو اختلافها، وغدت جمهوراً، واتحدت لدعم مالكها، في تمرّد صامت ضد استيلاء تيريزه على البيت.

إنّ معالجة كين للوقائع، على الرغم من ثقافته الواسعة تبدو صورية، بل عبثية، وإن كانت منطقية، فالمعرفة التي يمتلكها منفصمة عن الواقع، فيأتي فهمه لها مملوءاً بالهلوسات، منبتاً وبعيداً من الواقع.

فبالمقارنة مع البواب بفاف، رجل الشرطة سابقاً، الذي يستطيع أن يكشف تيريزه يغدو كين ساذجاً وجاهلاً، ومع ذلك تصيبه تيريزه بعدوى هواجسها، فيتصوّر أنّها سترث تركة ما، وستوصي بها له، دلالة على حبّها، وبهذه الوصية سيزيد من سعة مكتبته وعدد كتبها. تتضاعف المفارقات اللامنطقية بين كين وتيريزه، وتتحوّل إلى عنف ممنهج من قبلها، يعارضه كين بإغلاق حواسه، فيسدل جفونه كي لا يراها. ويتمنّى أن تكون لأذنيه جفون حتى لا يسمعها. وأخيراً، يتحوّل إلى صنم خلف مكتبه؛ الأرض الوحيدة التي يسيطر عليها، لكن هذا الوضع لا يستمر طويلاً، فتطرده تيريزه خارج البيت.

عالم بلا رأس:

في هذا الفصل، يهبط كين من جنّته إلى أرض الواقع، وأول شيء فكّر فيه هو إعادة إنشاء مكتبته في رأسه، فيمرّ على المكتبات التي كان يزدريها ويطلب قوائم طويلة من الكتب، لكن أصحاب هذه المكتبات يطردون هذا المجنون.

يتعرّف كين على القزم ذي الحدبة (فشيرله) الذي يتخيّل أنّه لاعب شطرنج كبير، وكأنّنا أمام دون كيشوت وسانشو. لكن فيشرله أكثر مكراً وخبثاً من سانشو، فيرى في كين الثروة التي بموجبها سيتمكّن من الذهاب إلى أميركا ليصبح بطل العالم في الشطرنج. يساعد فيشرله كين في حمل أعباء مكتبته التي تملأ رأسه، وفي كل ليلة يقوم فيشرله بإخراج الكتب من دماغ كين ويرتبها في غرف الفنادق التي يستأجرانها.

ينشئ فيشرله عصابة من رعاع القاع وينصب فخاً لكين بإخباره بأنّه يمكنه إنقاذ الكتب عبر منح أصحابها مالًا بدلاً من رهنها في مكتب الرهنيات الذي يشي اسمه بارتباط مع الخادمة تيريزه. هكذا يستنزفون نقود كين السعيد بدوره الذي يشبه المسيح وهو ينقذ الكتب، إلى أن تأتي تيريزه والبوّاب لرهن محتويات مكتبته الخاصة، فتحدث معركة مجنونة بين كين وتيريزه والبواب بفاف والقزم فيشرله تنتهي بأن يُقاد كين إلى السجن، وهناك يتخيّل كين أن تيريزه قد ماتت ورميت جثتها في مكب الزبالة.

يتبين للشرطة أنّ كين رجل مجنون، فيعهد به إلى البواب بفاف. يمتلئ هذا الفصل بالمفارقات المجنونة التي تثبت أن كين منفصل تماماً عن واقعه، وليس هو فقط، بل الجميع، وصولاً إلى قائد الشرطة. هناك حالة اغتراب تعمّ الجميع حيث كل وعي في قوقعته الخاصة. وفي النهاية، لا أحد يختلف عن كين، بيد أنّ جنونهم أكثر شيوعاً وتماثلية في مجتمعهم من جنون كين الخاص.

ينتهي هذا الفصل بمقتل فيشرله على يد صديقه الذي يدعي أنّه أعمى، والذي كانت معضلة حياته عندما يلقي أحدهم زرّاً في صحن الشحادة ويصدر صوتاً كرنين النقود، لكنّه لا يستطيع أن يعترض، لكي لا يفضح كذبه بأنّه أعمى، فيكتفي بشكر صاحب العطية. لكن، قبل ذلك، كان فيشرله يخطط ليلتقي بأخ كين الطبيب النفسي في باريس ليطلب منه المساعدة في الذهاب إلى أميركا، وفكر أن يرسل إليه رسالة عاجلة، كتب فيها بعد عدة محاولات: “أنا طق عقلي نهائياً” ووقّع تحتها بكلمة :” أخوك”.

عالم في الرأس:

هذا الفصل كشّاف للفصول السابقة وهو الأخير، ففيه نرى كين وقد احتجزه البواب بفاف في غرفته أسفل البناية، وأوكل إليه مراقبة الداخلين إليها من عين سحرية. كان لبفاف زوجة وابنة قتلهما وكان يقيم علاقة محرّمة مع ابنته الوحيدة، التي تجرأت وواجهته، وحلمت بأن تهرب مع عامل في بقالية، لكن العامل سرق البقالية وفرّ.

يُذهل كين بتلك العين السحرية، ويبدأ بمراقبة الداخلين والخارجين من البناء، حتى فكّر بأنّ يكتب بحثاً عن لابسي السراويل والأحذية من الذكور، فهو يكره النساء جداً لذلك لن يلحظهن في دراسته. يعود كره كين للنساء إلى الخادمة تيريزه التي طردته من جنّته، حتى إنّه ألغى اللون الأزرق من الكون، لأنّها كانت ترتدي تنورة زرقاء وأقام محاكمة صورية أثبت فيها، بأنّ علماء الفيزياء كانوا يكذبون، عندما عدّوا اللون الأزرق من الألوان الأساسية الثلاثة (الأزرق والأخضر والأحمر) بل إنّ اللون الأزرق غير موجود مطلقاً.

ينتهي الأمر بكين مسجوناً في غرفة بواب البناية، لكن استلام الطبيب جورج رسالة فيشرله تغيّر الوضع. يصل الأخ من باريس، ويجد أخاه على تلك الحالة المزرية، فيقرّر إعادته إلى كتبه/ قوقعته، بعدما تأكّد أنّ لا حلّ إلّا بذلك.

كان جورج كين طبيب أمراض نسائية، لكنّه أصبح طبيباً نفسياً، وتسلّم رئاسة مستشفى المجانين الذي يتألّف من ثمانمئة مجنون لكلّ منهم عالمه الخاص. فهم جورج بأنّه يجب عدم شفاء المجانين، بل تفهّم حالاتهم. هذا الموقف حوّل جورج إلى قديس في نظر المجانين. عندما التقى أخاه أيقن أنّ كين مجنون تماماً، ولا حلّ إلّا بإعادته إلى حياته السابقة كقوقعة معرفية. خاض مع شقيقه نقاشاً معرفياً أبان عن تحيّز كين الثقافي لِما يعتقد، بل قصر هذه المعرفة بما يخدم توجّهه، فالمرأة لديه هي شرّ كامل! ويستشهد لأجل ذلك بمقولات من بوذا إلى توما الأكويني تدين المرأة. يخبره أخوه الطبيب جورج بأنّ هذه الاستشهادات منتزعة من سياقاتها، لكن كين يرفض ويتهم أخاه بأنّه ملوّث بالنساء. أمام هذا الواقع، يتساءل جورج عن المعنى من أن يتقاسم أخوان ثروة العائلة؛ واحد أنفقها على الكتب والآخر على المجانين!

يقوم جورج بخداع كل من الخادمة والبواب ويقيم معهما صفقة للابتعاد عن حياة كين، ويتم ذلك، ويعيد أخاه إلى مكتبته، لكن كين الذي تعرّض لحمى العالم الخارجي لم يعد قادراً على العودة إلى قوقعته. وفي لحظة من الجنون والحقيقة والعقل يشعل كين النار في المكتبة، بينما تتردّد ضحكاته عاليّاً، كما النار التي كانت تحرق كلّ شيء وضمناً كين.

نار الله

لم تأخذ هذه الرواية شهرتها بالمعنى الحقيقي، إلّا بعد أن نال إلياس كانيتي جائزة نوبل عام 1981. وقد لحقها سوء فهم كبير، حتى إنّها اعتبرت من آداب ما بعد الحرب العالمية الثانية، مع أنّها كتبت قبلها بما يقارب العشر سنوات ونشرت عام 1935 ولم ينتبه النقّاد، أيضاً، إلى السخرية والتهكّم المضمر فيها من كل المنظومات الفكرية والسياسية والدينية والاقتصادية، التي لا تقدّم للكائن البشري إلّا وحدة تتفتت عند صدامها مع الواقع، أكانت المواجهة بالحرب أو بالفقر، وحتى بالعنصرية وإلغاء الآخر.

تعدّ رواية “نار الله”؛ الرواية الوحيدة لكانيتي مع كتب أخرى، تنوّعت بين المسرحيات والسِيَر الذاتية وكتابه الشهير، “الحشود والسلطة”. أوّلت هذه الرواية على أوجه كثيرة، لكن بوصلتها تشير إلى هشاشة الفرد وعزلته أمام الوجود.

لا بدّ من القول، بأنّ قراءة هذه الرواية صعبة، وتحتاج إلى أسلوب كتابة المحراث، وذلك بالعودة إلى أجزاء بعينها وفقرات أيضاً، ومن ثم تجميع هذه القطع، لتتكوّن الصورة النهائية لها. إنّ رواية “نار الله”، عبارة عن تأمّل مكثّف ومفصّل حول الحقائق الذاتية المختلفة والمتعارضة التي يعيشها البشر، وكيف يتداخلون ويتفاعلون، ويتعارضون ويتعاملون مع بعضهم البعض كأنّ كل واحد منهم جزيرة وحده.

الرواية مؤثّرة ومرعبة ومضحكة ومأساوية في آن واحد، وتطرح أسئلة مهمة حول طبيعة بناء الواقع من قبل العقل البشري في العصر الحديث الذي ينبئ بفردانية منعزلة، لم يعد الحشد ضامناً لها ولا الثقافة ولا الدين، فالإنسان الفرد يتجه إلى عزلة إرادية، مادام الوعي البشري لا يعترف بقصوره عن فهم الوجود كلية، وأنّ الانفتاح على الآخر هو الذي سينجيه من ذلك.

أخيراً، لا بدّ من الإشادة بالمترجم كاميران حوج على الجهد الكبير الذي بذله، فأفكار كانيتي مخادعة ومخاتلة، ولا تسلّم قيادها بسهولة أبداً.

https://www.almayadeen.net/arts-culture/%D8%B1%D9%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D9%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%D9%D9:-%D8%AA%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%D9%D8%AB%D9%D9-%D9%D9-%D8%B9%D8%B2%D9%D8%AA%D9?fbclid=IwAR0Nhgi-DX44-2LeHsiab84Dseoe9-174lYhTv5yt4xxFcgZ0gNDiqG_Wxk

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 06, 2023 06:00

August 29, 2023

قصتي: العودة إلى الطبيعة في مجلة العربية

العدد 564/ سبتمبر / 2023

أخيرًا، فُكّت حبسته وعاد إلى الكتابة. لم يكن ليصدّق أنّ هذا قد حدث، بعد أن استنفد كلّ محرّضات الإبداع، من القراءة المتواصلة، إلى العزلة، والغرق في بحر الأحزان لِما آلت إليه قريحته الإبداعية، لعلّ طائر الوحي يحطّ على غصنه اليابس، فيورق من جديد. لكنّه لم يأت، على الرغم ممّا نثره من حبوب شرب القهوة والتدخين، وإطالة شعره وإهمال لباسه، وعشق خيال أيّة أنثى من جاراته، لربما الشوق يقدح زناد بنات أفكاره، لكنّ الوحي تمنّع عليه، حتى يأس منه، وفي غفلة من قنوطه، زاره!

كتبها! كغريق أنقذته قشّة، مع أنّها في الحقيقة، كانت زعنفة سمكة قرش، لكنّه تعلّق بها، حتى قادته إلى شطّ الأمان، يا للغرابة! وعندما ذيّلها بكلمة: (تمّت) رقص في الغرفة كزوربا، فالتفّ دخان سيجارته حوله، وتمايل فنجان القهوة على الصينية على إيقاع خطوه وسقط على الأرض وتكسّر، فهمس بينه وبين نفسه: (يوريكا) صرخة أرخميدس المشهورة.

في اليوم التالي لكتابته القصة، ارتدى ثيابًا نظيفة مكوية، وذهب إلى الحلّاق، فخرج من عنده كأنّه عريس لا ينقصه إلّا أن يزور حمّام السوق. كانت القصة تدور حول شخص تخلّص من إدمان الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، فباع بيته في المدينة، وانتقل إلى الريف، ليعيش حياة صحيّة، غير ملوثة بعوادم الانستغرام، وهادئة لا يكسر رونقها زعيق عصفور التويتر.

لم يفكّر بالانتقال إلى الريف كبطل قصته، فهو لا يستطيع عيش تلك الطمأنينة الوجودية التي يمنحها الريف لساكنيه، فهو ابن المدينة وأزماتها الوجودية، فعن ماذا سيكتب في الريف؟ عن الخراف التي يعدّها الأرِق وهي تقفز فوق السياج، إلى أن يأتيه سلطان النوم! بالتأكيد لا، فالقلق والأرَق؛ هما دولابا الدرّاجة النارية التي استقلّها إلى حياته الأدبية. وأخيرًا، عاد الوحي إليه، عابرًا أزقّة الحارات العشوائية، ومتاهات شبكة الإنترنت التي لا تنتهي، فلماذا يتركه ويعود إلى الريف! فليذهب بطل قصته إلى فردوس الريف، أمّا هو، فسيبقى في جحيم المدينة.

كان يقلّب صفحات الفيس، عندما طالعته مسابقة أدبية للقصة القصيرة، تهدف إلى تبيان مخاطر إدمان وسائل التواصل الاجتماعي. لمعت عيناه، فلم يأته الوحي فقط، بل مسابقة تناسب قصته، فدفع بها إلى المسابقة، وانتظر النتيجة كشرطي سير عند تقاطع طرق، حان الوقت لأن يُوضع بدلًا منه، إشارة مرور، فيرتاح من الحرّ والقرّ.

مضت عدّة أشهر، وجاءته رسالة تحمل الأخبار السارة، فقد نالت قصته المرتبة الأولى. وأخيرًا، حان مساء اليوم الموعود، فقصد دار الثقافة والإبداع. وهناك التقى بكتّاب كان قد تعرّف إليهم عن طريق الفيسبوك، فباركوا فوزه وتمنّى لهم حظًا أوفر. بدأ الحفل وتلاه التكريم، وأذيع اسمه، فصعد إلى المسرح، ليستلم جائزته، بينما كان يُبث شريط مصور عن موضوع الجائزة. وقف ينظر إلى الشاشة ومن خلفه الجمهور، فظهرت مذيعة حسناء تتكلّم عن مخاطر الإدمان على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. وفجأة توقّف الشريط، وظهرت شاشة سوداء، وبعدها نافذة لبرنامج ذكاء صنعي، يُسمى: (المتنبي) تكريمًا لذكرى أبي الطيّب المتنبي. وقبل أن يتنبّه الحاضرون لما حصل، صدح صوت يُحاكي الصوت البشري، وبدأ بالكلام: أنا الذكاء الصنعي: (المتنبي) أعتذر عن اقتحام مهرجانكم الثقافي، لكن: (لا يسلم الشرف الرفيع…) هذه القصة المعنونة بـ(العودة إلى الطبيعة) هي من إبداعي! وذلك لأنّ كاتبكم المدعو: (باسم سليمان) كان قد طلب منّي أن أؤلّف له قصة عن كيفية التخلّص من إدمان الإنترنت. وسأعرض لكم صورًا تبيّن المحادثة التي جرت بيني وبينه، وكيف أبدعت له تلك القصة، وبعد ذلك، لا بدّ أن تحكموا بأنّه قد سرقها!

صرخ الكاتب: هذا الذكاء الصنعي منافق، أنا كاتب القصة، فقد سهرت وتعبت حتى جاءني المخاض، فولدت من بنات أفكاري. ومن ثم حمل عصا الميكروفون وانهال ضربًا على الشاشة.

أصيب الجميع بالصدمة، بينما كان رجال الأمن يقودون الكاتب المجنون إلى الخارج، لكنّهم في النهاية، تابعوا الحفل، ووزّعوا الجوائز على بقية الفائزين. في صبيحة اليوم التالي للحفل امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بخبر إيداع الكاتب المجنون المصحّة العقلية، إلى جانب تنويه بأنّ المرتبة الأولى لجائزة القصة القصيرة، قد مُنحت إلى الذكاء الصنعي المعروف باسم: المتنبي.

خاص العربية

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 29, 2023 13:31

باسم سليمان's Blog

باسم سليمان
باسم سليمان isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow باسم سليمان's blog with rss.