باسم سليمان's Blog, page 12

August 25, 2023

جوزيف كونراد في “الشّريك الخفيّ”: قبطان النفس البشرية – مقالي في ضفة ثالثة – باسم سليمان

يرى لويس ممفورد في كتابه “المدينة عبر العصور” أنّ اختراع المرآة ـ المرآة كما نعرفها الآن ـ في البندقية في القرن السادس عشر سمح للإنسان أن يرى صورة وجهه كما يراه الآخرون. وهذا أدّى وفق تحليله إلى الشروع في تدوين السير الذاتية. ترافق هذا الأمر بالإيذان لعصر اللوحات الشخصية/ البورتريه بالانتشار. وكما يذكر ريجيس دوبريه في كتابه “حياة الصورة وموتها” فإنّ البورتريه لم يكن مسموحًا به بداية إلّا للملوك والأبطال. وحتى هؤلاء كان مبرّر تواجدهم في اللوحة أن يكون موضوعها الرئيسي إحدى الشخصيات المقدسة الدينية. تطوّر الأمر في ما بعد ليسمَح للرجال بأن تكون لهم لوحة شخصية. وأخيرًا، حازت النساء على هذه الميزة. وللحقيقة، فإنّ كل من السير الذاتية والبورتريهات هي منصّة متقدمة عن الإرهاصات الأولى للتعبير عن الذات البشرية الفردية والمستقلّة عن مجتمعها أيًّا كانت بنيته. إنّ اكتشاف الذات ككينونة مستقلّة جاء متأخرًا حتى عصر النهضة والتنوير، لكن هذا المعطى الجديد أدّى إلى سؤال جوهري عن طبيبعة هذه الذات، وممَّ تتكون؟ وليس غريبًا أن يرى ديكارت بأنّ الذات منفصلة عن الجسد الإنساني، وتتصل به عبر الغدة الصنوبرية، حيث تم إعلاء هذه الذات عن جسدها المادي. هذا الغلو جوبه من قبل عدد من الروائيين، حيث جعلوا البحث في الذات الإنسانية مدار سرديات روائية كثيرة حايثوا فيها الذات بعيدًا عن أمثلتها. وقد عالجوا موضوعة الذات التي استفاقت على فرادتها واستقلالها وفطامها عن مجتمعها بطريق عديدة. وكان من بينها ثيمة القرين أو الشبيه، ليكتشفوا من خلال هذه الثيمة بأنّ تلك الذات منقسمة على جوهرها، متصارعة مع كليّتها وأجزائها، وأنّها هشّة أمام هذا الفطام المبكر عن المجتمع، فلم تعد الأنساق العرفية والأخلاقية التي كان يؤمّنها لها مجتمعها كافية لتبدّد غرابتها في عالم كانت تراه طوع يدها، فلم تلبث أن اكتشفت كم هي ضائعة فيه! وكم أنها لا تعلم شيئًا عن نفسها وعنه!
لقد أُدرجت ثيمة القرين في الرواية والشعر والمسرح والرسم والنحت. وقد شُغف الروائيون بها، فمن قصة إدغار آلان بو؛ وليم ويلسون، إلى “دكتور جيكل ومستر هايد”، التي كتبها ستيفنسون، فرواية “دوريان غراي” مع أوسكار وايلد، ورواية “القرين” مع دستويفسكي، ورواية “عام وفاة ريكاردو ريس” لساراماغو، التي استوحاها من فرناندو بيسوا الذي يبدّل شخصيته مع كل كتاب يؤلّفه، وكأنّه يستمد هذه الفكرة من كنيته التي تعني الشخصية، كما حلّل جيروم ستولينز في كتابه “النقد الفني، دراسة جمالية وفلسفية”. هذه الثيمة وجد فيها الأدباء منفذًا للولوج إلى الذات الإنسانية من أجل كشف غموض هذه الذات. وقد عرّف د. شاكر عبد الحميد في كتابه “الغرابة، المفهوم وتجلياته في الأدب”، مفهوم القرين: بأنّه ظهور أو تجلّ شبحي لحالة داخلية نفسية تُحدث انقسامًا داخل الذات، وفي الوقت نفسه تُحدث التكامل الخاص بهذه الذات على الأقل أمام نفسها، من خلال الانقسام ذاته.
لم يتخلّف صاحب رواية “قلب الظلام” جوزيف كونراد عن استخدام هذه الثيمة، ففي رواياته نلقى هذه الموضوعة بحدّة، إذ عالج في روايته كيف أنّ البحث عن الوحش الخارجي كشف له عن الوحش الذي يسكن الذات، إلّا أنّ روايته “الشريك الخفي”، التي ترجمها إسكندر حبش، وصدرت عن دار ديلمون الجديدة ـ دمشق 2022 كان لها خصوصية، فالقرين هنا يصبح مصدر قوة والتحام لأجزاء الذات المتشظّية، فالرواية تسرد على لسان قبطان سفينة إنكليزي أُنيطت به مهمة قيادتها إلى الوطن، وكيف اختلق قرينًا له اسمه ليغات ليواجه المصاعب التي كان لا بدّ من خوضها، فهو جديد على قيادة السفن. وهذه السفينة لا يعرف عنها شيئًا، وبحارتها مؤتلفون، وهو الغريب بينهم، والعلاقة متوترة مع ضباطه المساعدين، وهو يعرف أن الرتب تفرض احترامًا شكليًّا فقط، لذلك كان يرى نفسه منبوذًا شبيهًا بقرينه ليغات الذي كان بحارًا مشهودًا له بالخبرة الكبيرة.
هرب ليغات من سفينته بعدما قتل أحد الضباط. ولو لم يفعل ذلك لكانت السفينة قد غرقت في عاصفة هوجاء. كان هذا الضابط عقبة كبيرة أمام ليغات، ولم يكن من حلّ إلّا بإزاحته، حتى لو كان بشنقه عبر يديه كأنّهما حبل متين.

“الذات البشرية التي عالج كونراد غموضها في روايته “الشريك الخفي” هي ذاته بشكل أو آخر في إحدى جوانب الرواية”

في ليلة صافية، أمر الضابط الشاب بحارته أن يخلدوا إلى النوم، وأنّه من سيقوم بالحراسة ليلًا. لقد كان الأمر غريبًا، لكنّ البحّارة نفذوا الأمر، هكذا بقي القبطان الشاب على ظهر السفينة، وعندما لحظ أن سلم السفينة لم يُرفع جيدًا، ذهب ليتفقده، وهناك وجد ليغات الهارب متعلّقًا به بعد أن سبح كيلومترات عدة بعيدًا عن سفينته الأم سيفورا، والتي لها دلالة العدالة. هذا اللقاء الغريب بين القبطان الشاب وصنوه البحار القاتل الهارب سرعان ما أصبح أليفًا. فقد أخذه إلى قمرته التي لها شكل حرف (L) حيث خبّأه بعيدًا عن أعين بحارته. يشي شكل قمرة القبطان الشاب والحرف الأول من اسم البحّار الهارب ليغات بتطابق، فحرف اللام وفق رسمه في اللغة الإنكليزية، وخاصة قاعدته التي ينتصب فوقها خطّ مستقيم تترك مكانًا للاختباء.
إنّ هذا التشبيه الذي قدمه كونراد بين قمرة القبطان الشاب وحرف (L) يومئ بمضمرات النفس البشرية الخفية على صاحبها وعلى الآخرين. لقد قصّ ليغات قصة العاصفة التي عصفت بهم، وكيف دفعه واجبه بإنقاذ السفينة من الغرق إلى قتل البحار المتعنّت. هذه القصة وجدت تعاطفًا من قبل القبطان الشاب، وخاصة بعدما أصبح مدار التشابه بينهما، سؤالًا مطمئنًا للقبطان، بأنّه عليه أن ينقذ ليغات. لم تمض فترة طويلة حتى وصل قارب من السفينة سيفورا بحثًا عن البحار القاتل، وصعدوا إلى سفينة القبطان الشاب، الذي راوغ قبطان السفينة عبر الادعاء بقلة السمع، وكأنّه لا يريد أن يسمع صوت العدالة العمياء، التي لا تحسب حسابًا للظروف الاستثنائية التي دعت ليغات إلى أن يقتل. لم يسلّم القبطان الشاب البحار الهارب، وأصبح التفكير منصبًا كيف يؤمّن له هروبًا آمنًا، لكن خطيرًا جدًا على السفينة. وكانت الحجّة بأن يقتربوا من اليابسة حتى يلتقطوا الريح التي تهب من اليابسة. أمر القبطان بحارته وضباطه بتنفيذ خطّة الاقتراب من إحدى الجزر مع كل المخاطر المترتبة على ذلك، وخاصة أن الأمر سيتم في الليل.
لقد ملأ كونراد روايته بالرموز، فالليل الذي تبحر به السفينة كناية على ليل النفس البشرية. وأمّا ليغات البحار المقتدر، لكنْ المتمرد على القوانين، فهو جزء من نفس القبطان التي تقف حائرة أمام المسؤوليات الجديدة التي تحملها. ولم تكن السفينة مع بحارتها وضباطها وجهوزيتها إلّا تعبيرًا عن نفس القبطان.
لا ريب بأنّ ليغات، أكان شخصًا حقيقيّا أمّن له القبطان الشاب مهربًا، أم كان خيالًا اختلقه القبطان كي يحل مشاكله عبره، قد لعب دورًا حاسمًا في تثبيت القبطان الشاب في منصبه أمام ضباطه وبحارته، فبعد تلك المناورة الخطيرة من الاقتراب من البر والتي رتبت أن تنتفخ أشرعة السفينة بالرياح وتدفعها قدمًا كانت العامل الحاسم في مراسيم تنصيب القبطان الشاب الفعلية في قيادة السفينة.
كان الاقتراب من البر اللحظة المناسبة لهروب ليغات، ولقد منحه القبطان قبعته كي تحميه من شمس النهار، إلّا أنّ القبعة سقطت على رأسه، وأصبحت علامة في سواد الليل تؤشّر له كفنار كي يبتعد في اللحظة المناسبة عن البر فلا يصطدم به.
سبح ليغات إلى بر جديد ليبدأ حياة جديدة، وأقلعت سفينة القبطان تمخر عباب البحر بكلّ ثقة. لقد ألقى القبطان نظرة أخيرة من مؤخرة سفينته ليعاين قبعته البيضاء التي تطفو على سطح البحر محدّدة الموقع الذي نزل فيه ليغات إلى البحر: “لألقي نظرة خاطفة، فانية على قبعتي البيضاء التي تُركت في اليم لتحدّد الموقع الذي هبط فيه شريك قمرتي الخفي، وشريك أفكاري، كما لو كان ذات الثانية ـ لينال عقابه: رجل حرُّ وسباح أبيّ، مضى يشق طريقه نحو مستقبل جديد”.
إنّ الذات البشرية التي عالج كونراد غموضها في روايته “الشريك الخفي” هي ذاته بشكل أو آخر في إحدى جوانب الرواية، فقد كان كونراد يتأفّف من نظرة النقاد الذين لم يتوجّوه سيد الرمز والكلمة الصائبة، على الرغم من كل رواياته الأخرى الناجحة. وإذا رأينا أن الرواية هي سفينة القبطان الشاب الذي استقبل ليغات، والتي ناور بها حواف اليابسة في عتمة الليل، وأثبت جدارته كقبطان، فعلى النقاد/ البحّارة والضباط أن ينصّبوه قبطانًا يمخر عباب الذات البشرية، حتى ولو أبان تلك النوازع الشريرة فيها.
هكذا كانت ثيمة القرين نافذة أطل عبرها الروائيون على النفس البشرية قبل أن يفتتح المحلّلون النفسيون طبقاتها الشعورية واللاشعورية، فكانت تلك السرود الروائية داعمًا أساسيًّا في رحلة استقلال الذات البشرية عن أرحامها السابقة، من دينية وسياسية واقتصادية واجتماعية، لذلك لنا أن نقول بأنّ ثيمة القرين قد لعبت دورًا مهمًا في الكشف عن الذات البشرية الحديثة.    https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/secondbank/2023/8/25/%D8%AC%D9%D8%B2%D9%8A%D9-%D9%D9%D9%D8%B1%D8%A7%D8%AF-%D9%D9%8A-%D8%A7%D9%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D9-%D8%A7%D9%D8%AE%D9%D9%8A-%D9%D8%A8%D8%B7%D8%A7%D9-%D8%A7%D9%D9%D9%D8%B3-%D8%A7%D9%D8%A8%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D8%A9

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 25, 2023 13:49

August 21, 2023

فيلم “صوت الحرية: أطفال ليسوا للبيع

مقالي في صفحة سينما الصباح العراقية العدد5757 ليوم الاثنين 21 آب لعام 2023

قد يكون Sound of Freedom/ صوت الحرية، الفيلم الذي ربح اللوتو الأمريكي في بداية الموسم السينمائي لعام 2023، فلقد تفوّق على فيلم إنديانا جونز وبطله هاريسون فورد الحصان الرابح في شباك التذاكر. لقد حقّق إيرادات ذهبية تجاوزت المئة مليون دولار، على الرغم من ميزانيته البسيطة، ومازال مستمرًا في تجاوز التوقّعات. وعلاوة على ذلك، فقد أثار جدلًا بين الأطراف السياسية الأمريكية، وأشار إلى نظرية المؤامرة، التي تومئ إلى بعض القضايا الإنسانية الشائكة، وخاصة عند نقصان الأدلة، وإن لم يكن قد لحظها الفيلم ضمن سياقه!

يستند الفيلم إلى القصة الحقيقية للعميل الأمريكي تيم بالارد (جيم كافزيل) الذي استقال من وظيفته الحكومية مضحيًا بتقاعده، ليذهب في مهمّة سرّيّة إلى كولومبيا. ومن ثمّ يقوم بإشادة مصيدة يشترك معه في إقامتها مجموعة من الأصدقاء إلى جانب الشرطة الكولومبية للإيقاع بعصابة تقوم بخطف الأطفال واستعبادهم جنسيًا.

يقول المخرج المكسيكي أليخاندرو مونتيفيردي، بأنّ فكرة الفيلم قد جاءته بعدما حضر برنامجًا وثائقيًا عن تجارة الأطفال الجنسية، حيث أثّر ذلك فيه كثيرًا، وأراد أن يلقي حصاة في البركة الساكنة. وعندما بدأ بالإعداد لفيلم يناقش القضية تعرّف على قصة بالارد، وبعد اللقاء به، أصبحت قصته، هي محور الفيلم.

يعرض لنا الفيلم كيف يتم خداع الآباء عن طريق جذب أبنائهم إلى مسابقات تُعنى بمواهب الأطفال وخاصة الفنية منها، ومن ثم اختطافهم. وفي بعض تحرّيات الشرطة الأمريكية يُوقع بالارد بأحد المتحرشين وينقذ طفلًا كان بين يديه الوسختين. يخبره الطفل بأنّ أخته أيضًا مخطوفة، ويهديه قلادة كانت أخته قد أعطته إياها قبل تفرّقهما. كان بالارد ربّ أسرة مكونة من عدد من الأطفال، لذلك لم يكن قادرًا على تصوّر أن يخلو سرير أحد أبنائه بهذه الطريقة القاسية. يسافر بالارد إلى كولومبيا، وهناك يلتقي بأحد الأشخاص الذي صحا ضميره، بعد أن اكتشف بأنّ الفتاة التي معه في إحدى الحفلات، ما هي إلّا فتاة لم تتجاوز الخامسة عشر من عمرها، لكن العصابة دفعتها إلى الملاهي، بعدما استنفذت عمرها الصغير مع الشياطين.

يتم اختراق تنظيم إحدى العصابات من قبل بالارد، ويقوم بإقناع رئيستها، التي كانت ملكة جمال سابقة، بأنّه يعدّ مع مجموعته حفلة صاخبة على إحدى الجزر، حيث سيتوافد الأغنياء ويجب عليها تأمين الكثير من الأطفال من أجل إمتاعهم. هكذا يقع أفراد العصابة في الكمين ويتم إنقاذ الكثير من الأطفال، لكن أخت الطفل لم تكن موجودة. وبعد عدّة تحرّيات يعلم بأنّ أحد قادة الكتائب المسلحة الثائرة على الحكومة الكولومبية في الأدغال يمتلك الفتاة. يستغل بالارد عرفًا يسمح للأطباء بدخول مناطق العصابات من أجل مساعدة المرضى ومعالجتهم من سكان تلك المناطق. يتنكّر بزي طبيب، ويأخذ معه لقاحات الكوليرا، فهناك شبهة بوجود عدوى. يصل بالارد إلى منطقة العصابة ويقتل رئيسها ويسترد الفتاة وتعود إلى عائلتها وأخيها، وينتهي الفيلم النهاية السعيدة التي نتمنّاها حقًا، بإنقاذ طفل جديد من جحيم الاستغلال الجنسي.

تقدّر ميزانية الاتجار بالأطفال واستغلالهم جنسيًا حول العالم، بما يعادل مئة وخمسين مليار دولار، حيث يتم إرسالهم إلى الكثير من البلدان، وخاصة أمريكا التي تستحوذ على حصة الأسد من هذه التجارة، فلقد أراد مخرج الفيلم والممثل جيم كافزفيل الذي لعب سابقًا دور السيد المسيح في فيلم من إخراج ميل غيبسون عام 2004 إيصال رسالة توعية وحض على كشف تلك المنظمات العنكبوتية المنتشرة في أنحاء الكرة الأرضية، حيث قال كافزفيل في نهاية الفيلم: ” أطفال الله ليسوا للبيع”.

قلنا بداية، بأنّ الفيلم أثار تداعيات سياسية ومؤامراتية، فقد اعتبره البعض وسيلة دعائية لليمين السياسي الذي يركّز على قيم الأسرة. أمّا لجهة نظرية المؤامرة، فقد صرّح نجم الفيلم جيم كافزفيل، بأنّه هناك شبكة من الأغنياء والسياسيين، وهم وراء خطف الأطفال من أجل استخلاص أحد الهرمونات من أجسادهم، يظن بأنّه يطيل الأعمار. وبالأضافة إلى ذلك، فلقد رافق إنتاج الفيلم مجموعة من المعوقات الملتبسة فقد كان ملك شركة 20 th Century Fox التي استولت عليها ديزني، والتي لم توزع الفيلم، وألقته في أدراجها، على الرغم من أنّه يعود لعام 2018، لكن في عام 2023 تدخلت شركة أخرى وقامت بالتوزيع مع حملة كبيرة على السوشيال ميديا وإنشاء تطبيق إلكتروني، لشراء التذاكر لمن لا يستطيعون اقتناءها.

هذه الأسباب مجتمعة دفعت بالفيلم إلى الصدارة. مع أنّ حبكته ساذجة، وحواراته ليس بالعمق الكافي. حتى أنّ جيم كافزفيل ليس بسوية الأداء ذاتها التي رأيناها في فيلم ميل غيبسون. لكن القضية التي يطرحها الفيلم تغفر له سقطاته الفنية، فالاتجار بالأطفال، والاستغلال الجنسي لهم، من أخطر وأشنع القضايا التي يعانيها عصرنا، ويجب تسليط الضوء عليها، حتى لو كان بإشعال عود ثقاب، يشبه ما أشعلته بائعة الكبريت في القصة المعروفة.

باسم سليمان

خاص سينما الصباح

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 21, 2023 06:23

August 18, 2023

قصة قصيرة لـِ باسم سليمان: ضحك الضباع – في مجلة القناص

انظروا إلى بلادته! إنّه عديم الإحساس! إنّه عار على المفترسات؟

كان التمساح يسمع ما تقوله الحيوانات عنه؛ فيحار بما يردّ عليها، كي تتوقّف عن السخرية منه؛ ومع ذلك احتمى بصمته هربًا من تهكّم الحيوانات، وأخفى حزنه وغضبه في قلبه، فليس من أحد يشكو إليه، إلّا نفسه: ما الذي أختلف به عن الأسد، والضبع، وكلب السهوب، حتى يتم ازدرائي من قبل حيوانات الغابة؟

لم تكن هواجس التمساح تفارقه بحثًا عن الأسباب التي نحت بالحيوانات حتى تقذفه بأشنع النعوت. وفي صباح أحد الأيام قرّر أن يكسر قوقعة صمته، ويسأل عدوه اللدود فرس النهر عن الأسباب التي كانت وراء ازدراء الحيوانات له. ولا بدّ أنّ فرس النهر الذي يكنّ له كراهية منقطعة النظير، سيخبره بالأسباب الحقيقية الكامنة وراء تلك النعوت التي دمّرت حياته، وأفقدته الثقة بنفسه، لكي يزيد آلامه، نكاية به، لكنّه سينال جوابًا طالما بحث عنه.                                                           

لقد راهن التمساح نفسه على أنّ فرس النهر سيخبره الحقيقة وإن لم يفعل، فإنه سيهجر المياه العذبة إلى المياه المالحة، ففي البحر متّسع للمنبوذين أمثاله. وهناك سيغمر هدير الأمواج كلّ الأصوات والذكريات التي ما فتئت تعذّبه.

التمساح: صباح الخير يا عدوّي الطيب.

فرس النهر: أيّها التمساح، من قال لك، بأنّني عدوّك؟ فأنا لا أقبل بأعداء لا يمتلكون ذرّة من الشرف، ولكن لا أمانع أن أتبادل معك التحية، فصباح الخير.

بلع التمساح الإهانة كما يزدرد قطعة لحم صغيرة: أشكر كرمك بالردّ على تحيتي، فقل لي يا من لست ندًا لك لأكون عدوًا، لماذا أهان من المفترسات والطرائد معًا؟

فرس النهر: ألم تعرف السبب بعد! لأنّك بليد المشاعر، وعديم الإحساس. إنّ المفترسات الأخرى تجهد وتعمل، وتكاد تفقد حياتها في جولات الصيد، أمّا أنت، فتظلّ كامنًا تحت السطح، وما إن تقترب فريسة ظمأى من شطّ النهر حتى تقوم باصطيادها، فتغرقها في الماء الذي كانت تظنّه منجاتها من الموت عطشًا؛ أيوجد مفترس غيرك بهذه النذالة؟

التمساح وكأنّه كتلة من صبر: إذن ينقصني الإحساس.

فرس النهر: نعم، لكن هيهات أن تحوزه، فهو طبع وليس تطبّع. لذلك أجبتك عن سؤالك، كي تعرف أنّه لا أمل لك بأن تغيّر سمعتك بين الحيوانات.

التمساح: لا أمل لي إذن!

فرس النهر: لقد أخّرتني عن موعدي الغرامي، إنّه موسم التزاوج وأنا مليء بالمشاعر الجياشة.

قفز فرس النهر من الماء، عابرًا الضفة، رشيقًا كأنّه غزال، فجفل طائر الزقزاق وطار بجناحه المكسور. تمنّى التمساح لو لم يجبه فرس النهر، وخسر الرهان مع نفسه، وغادر هذه الغابة إلى الأبد. ومع ذلك كان قد استرعى انتباهه أسلوب طيران الزقزاق، فأراد الاستفسار منه عن السبب: غريب أمرك أيّها الزقزاق، لماذا تطير كأنّك مكسور الجناح، ولم يمسّك فرس النهر بسوء؟

لم تجر محادثة سابقة بين الزقزاق والتمساح، ومع ذلك لم يتفاجأ بسؤاله، فقد خيّل إليه بعد أن سمع ما دار من حديث بين فرس النهر والتمساح وأسلوب طيرانه بجناح مكسور، بأنّ التمساح سيسأله، ومن لحظتها أضمر أمرًا: يا مرحبًا بالتمساح؛ ساكن النهر العظيم، سأجيبك حالًا عن سؤالك، لكن قبلًا لتعلم أنّني لا أتملّقك، فأنا لست من طرائدك، وإنّما إجابتي عن سؤالك ماهي إلّا تقديرًا لك بداية، ولمصلحة فيها منفعة جمّة لك ولي. إنّني أفعل ذلك كي أجعل الحيوانات المفترسة تلحق بي وتذهل عن عشّي، معتقدة بأنّني طريدة سهلة المنال لأنّ جناحي مكسور.

دُهش التمساح من إجابة الزقزاق: يا ليتني بذكائك، لكنت غيّرت نظرة الحيوانات عنّي.

لمعت عينا الزقزاق، وكأنّه حظي بسرب من الجراد على الغداء: لدي الحلّ!

عندما سمع التمساح ما قاله الزقزاق عن وجود حلّ، لم يصدق: حقًّا، أطلب ما تريد.

الزقزاق: كلّ ما أريده أن أنظّف أسنانك من بقايا الطعام!

شعر التمساح بالإحباط من الزقزاق، فحتى وهو ميت، لم يهجس أحد بأن يقترب من فكّه، فخبط بذيله الماء كاظمًا غيظه: لا تسخر منّي أيها الزقزاق يكفيني ما نالني من فرس النهر.

طار الزقزاق إلى غصن قريب جدًا من التمساح من دون أنّ يظهر عليه الخوف: إنّني لا أسخر، ها أنا بين قوسي فكّك، وأنا واثق من أنّك لن تفترسني، ففي داخلك شعور يخبرك بأنّني أملك الحلّ. والحلّ سيؤّمن لي ولك منافع لم تخطر على بالك سابقًا، فمن خلال تنظيف أسنانك سأحصل على طعامي، وأنت ستحافظ على أسنانك قوية.

تبرّم التمساح ضجرًا من الزقزاق: سأجاريك وليغضب منّي النهر إن منعتك عن قوتك الذي تراه في فمي، لكن أريد حلًا، لا يشبه جناحك المكسور.

الزقزاق: كلّ ما تحتاجه هو الملح والماء!

التمساح: ها قد بدأنا بالتهكّم.

الزقزاق: أبدًا، فما قصدته بالملح والماء؛ الدموع. اجعَل عينك تذرف الدمع، وأنت تمزّق طريدتك.

التمساح: ولِم الدموع؟                                                                                      

الزقزاق: إنّها التعبير المادي عن الإحساس الذي تفتقده بطبعك، فمن يرى الدموع تطفر من عينيك، كيف له أن يحكم أنّ صاحبها بلا عواطف. والأهم من ذلك، هي البديل عن المخاطر التي تفتك بالمفترسات الأخرى وأنت في منجى منها، وقد ذمّك فرس النهر بسبب ذلك. لقد أصبحت الشمس في كبد السماء وقريبًا سترد الغزلان والجواميس وحمير الوحش لشرب الماء، صِد واحدة منها، وما إن تبدأ بالتهامها، اذرِف دمعك، وسترى النتائج في الحال.

التمساح حائرًا: إن نجحت خطتك، سيكون فمي مفتوحًا لك أبدًا، والنهر شاهد عدل.

الزقزاق: اتفقنا.

كَمُن التمساح في الماء لا يظهر منه شيء، منتظرًا أن تحدث المعجزة على يد الزقزاق. بدأت الحيوانات العطشى تتوافد إلى النهر، وما هي إلّا لحظات حتى سقط حمار وحش بين فكّي التمساح، فبدأ بالتهامه، بينما تتساقط الدموع مدرارة من عينيه. راقبت الحيوانات من مفترسات وطرائد التغيير الجوهري الذي أصاب التمساح غير مصدّقة.

في صباح اليوم التالي مرّ فرس النهر من قرب التمساح، فألقى التمساح عليه التحية. ردّ فرس النهر: صباح الخير يا عدويّ اللدود!

ذهل التمساح من تحيّة فرس النهر وصاح به: أحقًا أنا، عدوّك اللدود. فأجابه فرس النهر: نعم، أنت عدوّي اللدودّ!                                                                                    

إنّ ما حصل للتو كان بالنسبة للتمساح أجمل من أسمن الفرائس التي اصطادها. خبط الماء بذيله فرحًا، ونادى على طائر الزقزاق: لك ما وعدتك به، يا أجمل الطيور.                                                             

طار الزقزاق إلى فم التمساح المفتوح وبدأ يتناول طعامه من بين أسنانه.                         

كان هناك ضبع قد سمع حديث الزقزاق والتمساح، فأراد أن ينغصّ على التمساح فرحته، وينتقم من الزقزاق الذي يخدعه كلّ مرّة بأسلوب الجناح المكسور. والأحرى أنّه رأى مغنمًا لا يجوز عليه أن يفوته.

الضبع: سأخبر الحيوانات بأنّ دموعك دموع كذب، أيّها التمساح، إن لم تمنحني جزءًا من فرائسك.

ارتعد التمساح خوفًا من كلام الضبع وهمس: أرجوك لا تفعل، لك ما تريد.                                                      

سخر الزقزاق من تهديد الضبع وقال للتمساح: لا تترجّه، فلن يصدّقه أحد، فالكلّ يعرف بأنّه ماكر، كاذب، خبيث.

أجاب الضبع الزقزاق: نعم، أنا ماكر، وكاذب، وخبيث، لكنّ المثال قائم في فكر الحيوانات، وما الذي يمنع القياس عليه، فالبارحة كان التمساح بلا رحمة، أمّا اليوم، فهو بكّاء على ضحاياه. وأنا قد كنت كاذبًا، لكنّني اليوم صادق!

استبدّ الخوف بالتمساح من أن يخسر نظرة الاحترام الجديدة كمفترس يمتلك من المشاعر ما يدفعه للبكاء على فرائسه، فدمعت عيناه حقًّا، وصرخ بصوت مخنوق من القهر: أيّها الزقزاق…

الزقزاق: ثق بي، ولن يصيبك مكروه أبدًا.

أسقط الضبع من حسابه الجدل مع الزقزاق، وشنّ هجومًا كاسحًا على التمساح، فقال له، بأنّ تاريخه السيئ كمفترس بلا شفقة ما يزال حاضرًا في الأذهان، ولن تكفي دموعه على فريسة واحدة لتمحو سيرته، فمرور الزمن، هو الكفيل بأن يمنحه صفة المفترس المتعاطف. وبالتالي فإنّ إخبار الحيوانات بالحقيقة، سيقطع مرور الزمن، وتعود ذكريات الحيوانات المخيفة عنك، والأولى بك أن تقبل العرض الذي قدمته لك. أصابت التمساح حيرة كبيرة جرّاء كلام الضبع المنطقي، فتأمّل النهر الذي يجري إلى حتفه في البحر، وكلّم نفسه: هو رهان آخر، وليكن ما يكون.                                                                                 

رفض التمساح أن يعقد صفقة مع الضبع، فهدّده الضبع بالويل والثبور، وعظائم الأمور، وطفق يخبر الحيوانات، بأنّ دموع التمساح ليست إلّا دموع كذب. لم تصدّق الحيوانات كلام الضبع، ولم تعلّل عدم تصديقها له، لكنّ القصة لم تتوقّف هنا، بل إنّ الحيوان العاقل بين الحيوانات والذي يُسمّى الإنسان، ذهب في تمثّل دموع التماسيح مذاهب شتّى؛ ومن وقتها والضباع تضحك.

ضحك الضباع؛ قصة قصيرة لـِ باسم سليمان

https://qannaass.com/%d8%b6%d8%ad%d9-%d8%a7%d9%d8%b6%d8%a8%d8%a7%d8%b9-%d8%a8%d8%a7%d8%b3%d9-%d8%b3%d9%d9%8a%d9%d8%a7%d9/

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 18, 2023 06:53

August 7, 2023

التزوير الجميل للتاريخ في فيلم المرأة الملك – باسم سليمان

مقالي في سينما الصباح الاثنين 7 آب لعام 2023 العدد 5745

يطرح فيلم: المرأة الملك/لعام 2022 The woman king، على المشاهد سؤالًا، لم يكن من ضمن أجندة صنّاع الفيلم؛ عن خطورة تزوير التاريخ من أجل طرح قضايا إنسانية. لكن قبلًا، لنطلع على الفيلم الذي تدور أحداثه عن محاربات أغوجي التابعات للمملكة داهومي وقائدتهن الجنرال نانيسكا (فيولا ديفيس الحائزة على جائزة الأوسكار ومنتجة الفيلم). تشكّلت مملكة داهومي بين أعوام 1625 إلى1894 في عزّ تجارة الرقيق في إفريقيا الغربية، حيث ماتزال آثار هذه المملكة باقية إلى الآن في جمهورية بنين. يسرد الفيلم حكاية نانيسكا التي تحمل آلام اغتصابها من قبل أحد قادة مملكة أويو، التي كانت في صراع مع داهومي بسبب تجارة العبيد، وحملها منه، وإنجابها لطفلة، تتخلّى عنها بعد أن تضع علامة على جسدها. وتقود الأقدار الفتاة الصغيرة ناوي/ ثوسو مبيدو، لتصبح محاربة، تحت قيادة أمها نانيسكا.

ذاع صيت محاربات أغوجي، اللواتي تم تشكيلهن على يد الملكة هانغبي كحرس شخصي لها، وأطلق الأوربيون عليهن؛ الأمازونيات، لكن لم يلتحقن بجيش داهومي إلّا على زمن الملك غيزو (1828-1858) بسبب النقص الكبير في المحاربين الذكور. على هذه الخلفية، بنت المخرجة جينا بايثوود رؤيتها، استنادًا لسيناريو دانا ستيفينز، لتكشف تاريخ العبودية في إفريقيا، الذي اشترك فيه البيض والسود، حيث قامت ممالك إفريقية ببيع سكانها أو أسراها إلى البيض الذين شحنوهم إلى العالم الجديد.

حملت قصة الفيلم العديد من القضايا الإنسانية والنسوية، حيث كانت النساء تحت عبودية مزدوجة، فمن جهة كان الذكور من آباء وأخوة وأبناء، ومن جهة أخرى كان التجار البيض. نشأت الفتاة ناوي في أحد بيوت داهومي، لكن رفضها الزواج بأحد العجائز، دفع بسيدها إلى إلحاقها بفرقة أغوجي عقابًا لها. وتبدأ الفتاة بالتدرّب والتعرّف على عالم تلك المحاربات لتفوز في حفل تخرجهن بالسيف الملكي. تتعقّد العلاقة بين نانيسكا وناوي، لتكتشف بأنّ تلك الفتاة المشاكسة ابنتها. وفي المعركة الأخيرة بين داهومي وأويو وعلى الرغم من انتصار داهومي تؤسر ناوي وتباع كعبدة للبيض. يقرّر الملك غيزو منح نانيسكا منصب المرأة الملك، بسبب انتصارها وتحقيقًا للأساطير القديمة للشعب الداهومي، التي تنص على أنّ المُلك يكون مناصفة بين ذكر وأنثى، لكن نانيسكا تترك كل شيء وتذهب لإنقاذ ابنتها.

يعرض الفيلم قضايا مهمة ضمن حبكته، على الرغم من الخلطة الهوليودية على صعيد قصة الحب التي جمعت بين أحد التجار ذي الأصول الإفريقية وناوي، وتصوير المعارك، والخطب الرنّانة للملك غيزو. ومع ذلك فقد بيّن الفيلم بأنّ قضية العبودية الشائنة في تاريخنا الحديث، لم تكن لتكون بهذه الحدّة، لولا المشاركة الفعالة للممالك الإفريقية فيها عبر الاتّجار بأفراد شعوبها.

استطاعت فيولا ديفيس أن تقدم شخصية نانيسكا بحرفية عالية، ما بين صورتها العلنية كجنرال لا تهاب الموت، وصراعها الداخلي مع حادثة اغتصابها، وتعرّفها على ابنتها، التي تركتها من أجل أن تصبح قائدة فرقة أغوجي، وجدالها مع الملك من أجل استبدال تجارة العبيد بتجارة زيت جوز الهند، وما تنتجه المملكة من منتجات أخرى. تكسب نانيسكا قضيتها وتصبح داهومي أول مملكة تتوقّف عن تزويد الأوروبيين بالعبيد.

لم تكتف المخرجة بالأحداث التي جرت في إفريقيا، بل قدمت استشراقًا مستقبليًا، في مشهد دال، حيث نرى المقاتلة ناوي في لباس سنراه كثيرًا في الأفلام التي تناولت قضية العبودية في أمريكا. وكأنّها تقول بأنّ مقاومة العبودية ستكون في العالم الجديد المسمى أمريكا، أيضًا.

قالت المخرجة جينا بأنّ ابنها سألها: لماذا ليس لدينا أبطال؟ وما قصدته جينا، لماذا ليس للملوّنين سير بطولية كالبيض! وهكذا جاءتها الفرصة لتحقّق حلم ابنها عبر تقديم فيلم عن مقاتلات الأغوجي، لكن بعد عرض الفيلم ظهر بأنّ تلك المقاتلات، لم يكن كما صوّرهن الفيلم، بل كنّ اليد الضاربة لمملكة داهومي، التي شيّدت مجدها عبر الاتّجار بالعبيد. في تحقيق للصحفية زورا هيرستون عام 1927 كشفت فيه، بعد لقائها أحد آخر الناجين من تجارة العبودية، بأنّ فرقة أغوجي هاجمت قريتهم وذبحت الكثير وساقت البقية كعبيد للبيع.

قبل الذهاب باتجاه الإدانة، لمخالفة الفيلم الوقائع التاريخية، ألا يحقّ لنا أن نجادل، ونقول بأنّ سوبرمان بطل أمريكي من صناعة الخيال، فما الفرق! مادام الهدف من الفيلم هو فضح تاريخ العبودية حتى لو بقصة خيالية زوّرت التاريخ! لكن هناك قصص حقيقية في إفريقيا عن مقاومة العبودية، نذكر منها مملكة تدونغو – أنغولا- في زمننا الحاضر، التي قادت نضالًا طويلًا ضد البرتغاليين والعبودية، فما المانع، لو كانت قصة الفيلم تدور عنها؟

لاريب أنّ الغضب الذي صُب على الفيلم، ليس بسبب التزوير بشكل حاسم، بل لأنّ أكثرية المشاهدين تمنّوا أن تكون الجنرال نانيسكا وناوي موجودتين حقًّا، كما قدمهما الفيلم. لقد حقّق الفيلم نجاحًا كبيرًا على صعيد الجمهور، لأنّ حاجة الضعفاء إلى بطل منقذ حاسمةٌ، حتى لو كان وهمًا، لكن من الأفضل أن يكون حقيقيًا.

باسم سليمان

خاص سينما الصباح

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 07, 2023 04:10

August 4, 2023

أوبنهايمر في مرآة زوزيما: في ضرورة تقيّد العلم بالأخلاق – مقالي في ضفة ثالثة

يقول فرانسوا نودلمان في كتابه؛ عبقرية الكذب، بأنّ الحكم الأخلاقي يعطّل مقدرتنا النقدية الموضوعية في مقاربة موضوع ما. لا زالت الوصمة الأخلاقية تطارد مخترع البارود ألفرد نوبل، على الرغم من كل الجوائز التي مُنحت باسمه، للمبدعين ورجال السّلام في عصرنا الحديث، فكيف الحال مع والد القنبلة الذرية جي روبروت أوبنهايمر، الذي قال عن نفسه، مستلهمًا من أحد الكتب الهندوسية حوارية، دارت بين الإله فيشنو الذي حاول أن يقنع الملك الشاب كريشنا، بعدالة الحرب التي دعاه إليها، ضد أبناء عمومته، فأجابه الشاب: “الآن أصبحت الموت، مدمّر العوالم”؟ فهل أراد كريستوفر نولان من فيلمه: (أوبنهايمر) أن يكون أشبه بمرآة زوزيما التي صنعها الإسكندر ومن خلالها كان يعرف خفايا زواره عندما ينظرون إليها؟ واستخدمتها المذاهب الغنوصية للتطهير، فما إن يرى الشخص انعكاسه في المرآة حتى يرى عيوبه، فيعمل على التخلّص منها. ليست الإجابة معقّدة فقط، بل تناقض ذاتها بذاتها!

استند نولان في سرديته السينمائية إلى كتاب: (بروميثيوس الأمريكي: انتصار ومأساة جي روبرت أوبنهايمر) للكاتبين مارتن شيروين وكاي بيرد، اللذين اشتغلا على سيرة تأريخية ذاتية لِعالم فيزياء الكوانتا الألماني الأصل الأمريكي الجنسية جي روبرت أوبنهايمر، وكيف قاد فريقًا كبيرًا من العلماء، فيما عرف بمشروع مانهاتن السّرّي في منطقة لوس ألاموس الصحراوية لتصنيع القنبلة الذرية، التي ستنهي الحرب العالمية الثانية بالضربة القاضية. لكنّ هذا الاستناد أعاد تصنيعه نولان عبر سرده المتشظّي واللاخطي وتبادل أزمنة السرد بين المستقبل والماضي والحاضر؛ مستعرضًا المعضلة الأخلاقية وتعالقها بالعلمي والسياسي، والتي بموجبها أصبح أوبنهايمر بطلًا قوميًا ومن ثم خائنًا، إبّان المرحلة المكارثية التي طاردت كل الميول الماركسية والشيوعية لدى الأمريكيين.

دارت أحداث الفيلم، ما بين المحكمة، ومنطقة تصنيع القنبلة، ونشأة أوبنهايمر، الذي لعب دوره (كيليان مورفي) باقتدار كبير جدَا. لقد كان أوبنهايمر شابًا مفتونًا بالنجوم والثقوب السوداء، وعلم الفيزياء ما بعد النيوتونية الذي ابتدره أينشتاين بنظرية النسبية.  لقد كان سعي أوبنهايمر لاكتساب المعرفة لا يوقفه شيء، فلقد عمد إلى تسميم تفاحة قد يأكلها أستاذه في الجامعة، لأنّه منعه من التواجد في محاضرة لعالم الفيزياء الشهير نيلز بور. ولكي نفهم شخصية أوبنهايمر أكثر، نذكر هذا المثال من حياته، فلقد تعلّم الهولندية خلال أسابيع فقط، لكي يلقي محاضرة بها. هذا الأوبنهايمر لم يجد الجنرال ليزلي غروفر( مات ديمون) صعوبة في إقناعه، عندما عرض عليه أن يترأس مشروع مانهاتن. وسريعًا لبس أوبنهايمر البدلة العسكرية مفتخرًا، لكنّ أحد أصدقائه العلماء أنّبه لذلك، فهو عالم وليس عسكريًّا.

في مشهد يجمع أوبنهايمر مع أينشتاين، يسأله عن الاحتمالات التي من الممكن أن تحدث بعد تفجير القنبلة الذرية، فهل سيؤدي ذلك إلى تفاعل متسلسل يسبّب احتراق الغلاف الجوي. أجابه أينشتاين بأنّ الجواب: “تقريبًا صفر!” ومع ذلك أقدم أوبنهايمر على تصنيع القنبلة الذرية. وعندما انهزمت ألمانيا بانتحار هتلر، وبدأت الأصوات المعارضة تقول، بأنّ العلة لاختراع القنبلة قد انتهت، فلماذا نُكمل صناعة هكذا سلاح مدمّر. كان جواب أوبنهايمر بأنّ اليابان وجنودها الأشبه بالروبوتات خطر داهم ويجب إيقافه. لقد كان أوبنهايمر يتوق للعلم بقدر ما يشتهي السلطة، ويرغب أن يكون دنجوانًا وخطيبًا في الوقت نفسه. وكأنّه ثقب أسود لا ينجو منه حتى الضوء، لكن عندما غمره ضوء القنبلة الذرية التجريبية المسماة: (ترينيتي) في صحراء نيومكسيكو بدأ بالنظر إلى نفسه في مرآة زوزيما. 

الفارماكوس؛ السّم والترياق:  

ليس أوبنهايمر بروميثيوس الذي جلب النار للبشر وعاقبه زيوس على فعلته، بأن قيّده وسلط عليه نسرًا ينهش كبده فقط، بل هو أشبه بأوديب في مسرحية سوفوكليس الذي أنقذ طيبة من الهولة بعد أن أجابها على سؤالها: “من يمشي في الصباح على أربعة قوائم، وفي الظهر على اثنتين وفي المساء على ثلاثة” بالقول، بأن هذا الكائن هو: “الإنسان”. كافأت مدينة طيبة أوديب، وأصبح ملكًا، وتزوّج الملكة التي كانت أمّه، ولم يكن يعرف بأنّها كذلك، وأنجب أختيه/ ابنتيه من أمّه، إلى أن كشف له الكاهن تريزياس الحقيقة، ففقأ عينيه وخرج من طيبة بعدما دمّر أخلاقياتها. هذه النقطة تشبه استيقاظ أوبنهايمر على السؤال الأخلاقي في العلم، وكيف انتهك كل المعايير، فاليابان كانت ذاهبة إلى الاستسلام. لقد تغيّر أوبنهايمر وحاول إقناع الرئيس الأمريكي ترومان بالكفّ عن إنتاج القنبلة الهيدروجينية، والتي تعتبر القنبلة الذرية مزحة تجاهها، وهو يشعر بأنّ دماء الضحايا على يديه. سخر منه ترومان، وطلب إبعاد هذا البكّاء. وكما حاسبت طيبة أوديب ولعنته، بدأت الحقبة المكارثية، وأعيد فتح الدفاتر القديمة، لتطارده لعنة الشيوعية. و قد قاد المعركة ضده صديقه لويس ستراوس(روبرت داوني جونيور- الرائع) الذي كان يحسده. تم تدمير أوبنهايمر وحرم من صلاحياته العلمية والأمنية، لكنّه أصبح مناضلًا من أجل منع انتشار الأسلحة النووية.

وهنا، هل كان قصد نولان تبييض صفحة أوبنهايمر، أم كان استحضاره من أجل التحذير من تبعات الذكاء الصنعي؟ لقد أشار نولان في إحدى اللقاءات بأنّ هذا المقصد كان حاضرًا، فعلى الرغم من أنّ فكرة الفيلم كانت موجودة في ذهنه، إلّا أنّ اختراع الذكاء الصنعي عجّل بولادة الفيلم. فمازال يذكر في فتوته بأنّه كان يعتقد هو ورفاقه، بأنّهم سيموتون في المحرقة النووية. وهو باستحضاره أوبنهايمر يقدّم السّم والترياق لمقاربة الذكاء الصنعي، وكأنّنا مع المصطلح اليوناني: الفارماكوس الذي يعيد تطهير المدينة من لعناتها.

لا يذهب نولان إلى إدانة العلم، بل إلى ضرورة تقيّده بالأخلاق. ولكي نفهم ذلك، فلنذكر ما طرحه أستاذ القانون روجر فيشر، والذي أثار زوبعة من الانتقاد، بعد قوله، يجب وضع الكودات السّرّية لإطلاق الصواريخ النووية ضمن كبسولة تُزرع في جسد متطوّع، والذي يجب أن يظلّ مع الرئيس الأمريكي، وعندما يريد إطلاقها يجب أن يقوم الرئيس بقتل هذا المتطوّع واستخراج الكبسولة من جسده. إنّ ما قصده فيشر بأن يشعر الرئيس بالتبعات الأخلاقية والإنسانية لفعلته، قبل أن يقدم على المحرقة التي ستبيد الإنسانية. لقد عمل نولان على تشريح أوبنهايمر أمام المشاهدين في المرحلة التي كان بها سمّا، وبلحظته الأخرى التي أصبح فيها ترياقًا، وبذلك استحضر مقولة رينيه جيرار في كتابه؛ العنف المقدس، بأنّ المسرح الإغريقي ومآسيه، كان الهدف منه تذكير اليونانيين بلحظة العنف الماضية وضرورة عدم إنتاجها من جديد، فالفعل التطهيري يحدث بإعادة التوازن لقطبي الوجود البشري العلم والأخلاق. هذا التوازن الاستراتيجي دفع علماء ممّن كانوا في مشروع مانهاتن لتسريب أسرار صناعة القنبلة الذرية إلى الإتحاد السوفييتي سابقًا وهما: كلاوس فوكس وتيودور هول، اللذان كان جوابهما عندما كشف أمرهما، وتم استجوابهما، بأنّهما فعلا ذلك، كي لا تنفرد دولة واحدة بهذا السلاح، فتعيد استنساخ تجربة ألمانيا النازية. وفي استتباع للمعضلة الأخلاقية التي ناقشها نولان في حيثيات فيلمه، لاريب بأنّ عالم الاجتماع الياباني ماساهيرو موريوكا كان حاضرًا في ذهنه. لقد طرح هذا العالم معضلة أخلاقية على عيّنات من الشعب الياباني، الذي كان ضحية للقنبلتين الذريتين، وما زالت آثارهما الجسدية والنفسية حاضرة، بأن دعاهم إلى ركوب قطار مفترض، وعليهم الاختيار بين سكتين، لا محيد عنهما، ولا يمكن إيقاف القطار عن مسيره. فإذا اختاروا السكة الأولى سيدهس القطار خمسة أشخاص، بينما لو سلكوا السكّة الثانية سيدهس القطارشخصًا واحدًا. كانت الإجابة بالأغلبية الساحقة، بأن يسلك القطار السكّة الثانية، وليضحّى بشخص واحد مقابل نجاة الخمسة الآخرين! وهنا، أجابهم عالم الاجتماع الياباني، بأنّهم اختاروا ما فعله الرئيس ترومان، الذي أمر بإلقاء القنبلتين على مدينتيهما العزيزتين!

في مفارقة ساخرة بين جدية الحرب القاتلة واختيار أي المدينتين اللتين ستقصفان؛ بالصبي الصغير والرجل السمين  – أسماء القنابل الذرية- كانت مدينة كيوتو الجميلة والتراثية والتي احتضنت الحاضرة الإمبراطورية اليابانية ألف سنة، أحد الخيارات، لكنّها استبعدت، لأنّ أحد أعضاء اللجنة التي ستقرّر أي المدن ستقصف، كان قد زراها في ما مضى، ووصفها بأنّها مدينة جميلة، ومن السيئ تدميرها. ولو أنّ هذا العضو زار هيروشيما أو ناغازاكي، لكانت أسماء مدن أخرى هي التي اختيرت لتقصف. وبالأسلوب نفسه استبعدت مقاربة جماليات الفيلم الرائعة جدًا؛ من إخراج وتصوير وسيناريو وموسيقا، لأجل مقاربة الانعكاس الزوزيمي – نسبة إلى مرآة زوزيما- الأخلاقي الذي يجب أن ينعكس فينا، بعد مشاهدة الفيلم.

كان العالم الألماني فون براون رائد علم الصواريخ البالستية التي قصف بها هتلر لندن، وكان يعتبر شخصية دموية جدًا، لكن عندما وقع بيد الأمريكان تم تناسي ماضيه، لصالح قيادة ما يعرف الآن بوكالة: ناسا والتي لولاها لتأخرالأمريكان كثيرًا عن ريادة الفضاء. وهنا، كيف سيكون تقييمنا الأخلاقي بحقّه، هل سنتجه إلى الاختلاف بين الأبيض والأسود، وينتهي الأمر، أم سنرى أنّ الأخلاق والعلم منطقتان رماديتان علينا تعلّم استخلاص اللون الأبيض منهما. هذا التحليل هو ما ذهب إليه نولان في فيلمه عندما واجهنا بمرآة زوزيما.

لم يكن شكل السيرة الذاتية لفيلم أوبنهايمر، إلّا الذرة المتفجّرة، التي يجب إعادة تجميعها، حتى تحدث الاستضاءة الأخلاقية بكل تعقيداتها، فلم يكن هدف نولان، لا الإدانة ولا التبرئة، بل استجواب اكتشافاتنا العلمية أمام الأخلاق أو جواب أوديب: “الإنسان”. أشار نولان أنّ الذكاء الصنعي قد حفّزه لإنتاج الفيلم تحذيرًا من التبعات التي سيقود إليها، فكما أنّ القنبلة الذرية كانت ستقود إلى فناء البشرية لو صح الاحتمال الصغير عندما قال أينشتاين: “تقريبًا صفر”، سيكون للذكاء الصنعي ذات النتائج لو أسيئ استخدامه. في مشهد زوزيمي لأوبنهايمر، وهم يحتفلون به، تراءى له وجه فتاة يحترق باللهب، فيما علقت قدمه بجثّة محترقة. لقد كانت هذه الفتاة التي مثّلت المشهد، هي ابنة المخرج كريستوفر نولان!

من هنا عودة إلى تحذير نودلمان، بأنّ وصف أوبنهايمر بفرانكشتاين عصرنا أو بروميثيوس أمريكا، ماهو إلّا انسحاب من جدلية العلم الأخلاق، وقبولنا بقصف هيروشيما، فقط لأنّنا زرنا كيوتو!  

أوبنهايمر/   oppenheimerفيلم لعام 2023، أخرجه وكتب السيناريو له كريستوفر نولان. كاميرا: هويت فان هويتما. موسيقى: لودفيغ غورانسون. يعرض الآن، و قد حقّق نجاحًا كبيرًا على صعيد النقّاد والجمهور، ويخطو حثيثًا لينال ترشيحات لجوائز عديدة ومن ضمنها الأوسكار.

باسم سليمان

https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/arts/2023/8/4/%D8%A3%D9%D8%A8%D9%D9%D8%A7%D9%8A%D9%D8%B1-%D9%D9%8A-%D9%D8%B1%D8%A2%D8%A9-%D8%B2%D9%D8%B2%D9%8A%D9%D8%A7-%D9%D9%8A-%D8%B6%D8%B1%D9%D8%B1%D8%A9-%D8%AA%D9%D9%8A%D8%AF-%D8%A7%D9%D8%B9%D9%D9-%D8%A8%D8%A7%D9%D8%A3%D8%AE%D9%D8%A7%D9

خاص ضفة ثالثة

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 04, 2023 03:45

July 24, 2023

بلاك بيري؛ نابليون الهواتف النقّالة- باسم سليمان

مقالي في جريدة الصباح عدد5735 ليوم 24 الاثنين تموز 2023

يقدّم فيلم Blackberry لعام 2023 سيرة حياة أول هاتف نقّال ذكي حظي بكيبورد كالكومبيوتر، واستطاع الولوج إلى الإنترنت، وإرسال الإيميلات، والكثير من رسائل المحادثة؛ وكل ذلك في جهاز واحد تحتويه راحة اليد. في ذلك الوقت من أواخر عقد التسعينات من القرن المنصرم، والسنين الأولى من الألفية الثالثة، كان جهاز بلاك بيري العصا السحرية للاتصال، فقد غيّر طبيعة العلاقات البشرية بالتواصل؛ من اللقاء الواقعي إلى اللقاء الافتراضي.

صعدت الشركة الكندية المصنّعة لهاتف بلاك بيرى كالصاروخ، وكأنّها نابليون بونابرت، الذي غيّر وجه أوروبا إلى الأبد، حيث سيطرت على 45% من سوق أسهم الاتصالات، ومن ثم هوت كالنيزك. لقد تأسّست تلك الشركة ذات العلامة الفارقة في تاريخ الاتصالات على يد كل من العالم مايك لازاريدس (جاي باروتشيل) مع صديقه دوغ فريديان(مات جونسون) والمدير المالي جيم بالسيلّي( جلين هورتون).

استند المخرج مات جونسون في السيناريو الذي وضعه لفيلمه على كتاب (ضياع الإشارة) الذي يؤرّح لصعود الشركة، التي أبدعت البلاك بيري على قمة جبل صناعة الهواتف. ومن ثمّ تدحرجها نزولًا كانهيار ثلجي؛ هكذا أصبح للشخصيات الاعتبارية سيرتهم الذاتية، كما للأشخاص الطبيعيين. لم يذهب جونسون الذي لعب دور دوغ فريديان؛ الصديق المقرّب للعالم مايك لازاريدس لتقديم توثيقية إحصائية وجداول بيانات فقط، بل عمل على دراسة العلائق الجدلية بين الفكر المالي الرأسمالي، الذي لا يعترف إلّا بمبدأ الربح ممثلًا بجيم بالسيلّي، والعلم المحض. قبل أن ينجذب إلى دورة رأس المال من خلال العالم مايك لازاريدس. وبينهما ينوس دوغ فريديان معبرًا عن أهمية العلاقات الإنسانية في مواجهة المال والعلم.

من هذه السيرة الذاتية لهاتف البلاك بيري وضع مات جونسون السيناريو الذي كتبه بالاشتراك مع ماثيو ميلر، ليكون خليطًا من الكوميديا والأمل والتعاطف بين فرقاء الشركة معبرًا عن روح العلم والإنسانية قبل أن ينضم إليهم جيم بالسيلّي ممثّلًا لشيطان رأس المال، لتنتهي تلك السيرة بشكل تراجيدي. لقد كان مايك مهووسًا بالدّقة والجودة العلمية، قبل أن يتعطّر برائحة رأس المال، فعندما ذهب إلى أحد رؤوس المال كي يعرض عليه اختراعه الجديد، ويتحصّل منه على استثمار في مشروعه، انشغل بتصليح أحد الأجهزة الصينية، حتى كاد أن ينسى لماذا جاء. فيما بعد أخبره جيم بأنّ الكمال لا يجلب الخير! وما قصده، بأنّ الربح، لا جودة المنتج، هو ما سيصنع المجد للشركة.

استطاع جيم أن يحلّق بالشركة سريعًا، فاشترى المهندسين من الشركات الأخرى وتلاعب بالأسهم تحت غطاء النجاح الكبير لهاتف بلاك بيري، الذي أصبح علامة للتقنية التي ستقود مستقبل الاتصالات. هذا الواقع الجديد بدّل من أخلاقيات مايك العلمية ودفعه للانخراط في السعي وراء الربح. حاول دوغ الصديق القديم لمايك أن ينبّهه، لكن العالم المفتون بالربح، تناسى الجودة والسعي وراء الاكتشافات الجديدة. لم يستمع مايك لصديق عمره، ممّا أدّى إلى انسحاب دوغ من الشركة التي بدأت علائم المرض تظهر عليها. وخاصة بعد أن بدأت تحريات أجهزة الرقابة المالية عن نشاطاتها المالية المريبة.

وجاء عام 2007 وظهر ستيف جوبز بهاتف iPhone مع شاشة اللمس. رفض مايك التقنية الجديدة التي أبدعها ستيف وانتقدها، وحكم عليها، بأنّها محكومة بالفشل! وكأنّه أصيب بالحكمة المحذّرِة، بأنّ رأس المال جبان، ولن يستثمر في تقنية سخيفة، فمن سيستبدل أزرار البلاك بيري بلمسات الأصابع على الشاشة! هكذا هرب العالم من ضوء العلم إلى ظلمة المال، وأراد أن يغرق السوق بأجهزة بلاك بيري كأي تاجر، وإن لم تكن بالجودة المطلوبة، حتى يسيطر على سوق الهواتف بشكل نهائي. لقد تناسى انتقاده السابق للصناعات الصينية ذات الجودة السيئة، إبّان مقابلته لأحد رؤوس المال لكي يأخذ منه تمويلًا من أجل البلاك بيري. والآن يرتكب ذات الخطأ الذي جعل من المنتج الصيني رمزًا لسوء الصنع في ذلك الزمن ، فخرج هاتف البلاك بيري معيبًا بعد أن كان مثالًا للتقنية والجودة. ينتهي الفيلم ونحن نرى العالم مايك لازاريدس أمام كمية هائلة من الصناديق الكرتونية والتي تحوي هواتف البلاك بيري منشغلًا بإصلاحها جهازًا وراء جهاز! هل استفاقت روح العلم فيه من جديد، أم أنّه أصبح ملوثًا بفايروس المال، فعندما حاصرته الإدارة الضريبية بالاتهامات أخبرهم بأنّ جيم بالسيلّي هو المدير المالي. استطاع أن يهرب من المسؤولية إلى حدّ ما، لكن شركة بلاك بيري سقطت من عليائها، فيما ستيف جوبز يحلّق عاليًا.

يطرح الفيلم أسئلة مضمرة في ثنايا تصويره لتاريخ ولادة هاتف بلاك بيري وموته، تزداد حدّتها يومًا وراء يوم، عن ماهية العلاقة السوية والأخلاقية بين رأس المال والعلم والإنسان. حاز الفيلم على تقييمات جيدة من النقّاد والجمهور، وشارك في المهرجان السينمائي في برلين ويعد خطوة واثقة في المسيرة الإخراجية لمات جونسون تضاف إلى أفلامه الوثائقية السابقة: الأوساخ، وعملية الانهيار الجليدي.

باسم سليمان

خاص سينما الصباح

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 24, 2023 10:03

July 19, 2023

عن مفهوم الكذب في تاريخ الإنسان وحاضره – مقالي في صفة ثالثة – باسم سليمان

تساءل جاك دريدا(1) عن إمكانية كتابة تاريخ لمفهوم الكذب، مادام التاريخ الإنساني يعتوره الكذب؟ فالتاريخ الإنساني قد كُتب بشكل سياسي، والسياسة أرض الكذب الخصبة، وفق ما شرحت حنة أرندت في كتابها: السياسة والحقيقة. لكن مع أحقية تساؤل دريدا، ولأنّ المفاهيم تستند في تعريفها إلى أضدادها، فتدرك الحقيقة بمقابلتها بالوهم، والواقع بالخيال، والكذب بالصدق، تبدو المهمة مستحيلة، لكن كما قال فرانسوا نودلمان(2) بأنّ إدانة الكذب أخلاقيًا منعت علينا اكتشاف طابعه المعقّد والغني. هذه الإدانة الأخلاقية للكذب بموضعته مقابل الصدق، حوّلت الكذب إلى مجرد نفي للصدق، لكن وجوده يدور مع مدار الصدق، ممّا يعيدنا إلى استفسار دريدا عن كيفية كتابة تاريخ صادق عن مفهوم كاذب من دون أن نقع في شرك الخداع! لكنّ التخفيف من حدّة الحكم الأخلاقي يفتح لنا مفهوم الكذب على مصراعيه في تاريخ الإنسان وحاضره.

يقول الفيلسوف مونتين(3) بأنّه: “لو كان للكذب – وللحقيقة بالمثل- سوى وجه واحد، فنحن إذن بألف خير. لأنّنا حينها، سوف نحسب الحق ذلك النقيض لما يتفوّه به الكاذب، لكن الوجه الآخر، هو أنّ للحقيقة ألف وجه ومدىً لا ينتهي”. وهذا يعني بأنّ للكذب ألف صيغة وصيغة، وليس أوّلها، بأنّه مضاد للصدق! لنأخذ على سبيل المثال، لتبيان مقولة مونتين؛ الخدعة العظيمة المسماة: حصان طروادة، للقائد أوديسيوس عند هوميروس والتي بسببها هُزمت طروادة على يد الإغريق. لقد اختار أوديسيوس الحصان شكلًا لخدعته، لأنّ أهل طروادة كانوا من مربي الخيول، وسيلقى التمثال الضخم للحصان هوى في نفوسهم، بحيث يذهلهم عن الخداع الذي يكتنفه، وسيسكت أيّة أصوات معارضة متيقّظة لِما يمكن للهدية أن تحمله من مكر. يذكر لنا التاريخ بأنّ الشطرنج كان من الوسائل التي استخدمها الجنود الإغريق لقضاء الوقت في حصار طروادة الذي استمر لسنوات. ومن هذه اللعبة جاءت خدعة الحصان لأوديسيوس. والمعروف بأنّ حركة الحصان على رقعة الشطرنج تشبه حرف اللام (L)، فهو ينطلق مستقيمًا ثم ينحرف بزاوية قائمة. إذن حركة الحصان بذاتها، هي شكل الخدعة التي كثيرًا ما ذكرت في آداب الحروب من أيام القائد الصيني سون تزو صاحب كتاب؛ فنّ الحرب.                                             هذا الشكل لحركة الحصان أو حرف(L) كان يشبه قمرة القبطان في رواية جوزيف كونراد؛ الشريك الخفي، والتي استخدمها كونراد للتعبير عن خفايا النفس البشرية. وبالعودة إلى أوديسيوس، فهل حقًا قام بخداع الطرواديين، أم قدّم لهم حقائق يعرفونها جيدًا، فلماذا خدعوا ولم يتبيّنوا؟ مع أنهّم أهل الأحصنة ويلعبون الشطرنج، ويعرفون حركة الحصان المخاتلة  الممثّلة بهدية أوديسيوس؟ يذكر لنا التاريخ، بأنّ الإله هرمس بعد ولادته بيوم واحد، قام بسرقة قطعان الإله أبولو. وعندما اتهمه أبولو وهو ممثلٌ للعقل في الثقافة الإغريقية، ردّ عليه مجمع الآلهة بما معناه، كيف له أن يفعل ذلك وهو مجرد وليد صغير. هكذا حار ردًّا إله العقل أمام التبرير العقلي الذي قُدم له!  إنّ التعداد اللامنتهي للحقائق، هو ما يسمح للكذب، بأن يكون فعّالًا لهذه الدرجة، وموجودًا بفعالية عبر تاريخ الإنسان.

تقدّم لنا الديانات السماوية تنبيهات بألّا نكذب، وأن عاقبة الكذب كبيرة، وأن آدم لو لم يقع ضحية لكذب الشيطان ما كان هبط من الجنة. لن ندخل في مماحكة، بأنّ الشيطان قال حقًّا، لكنّه أراد به باطلًا، بل سنقدم مثالًا من أهم فيلسوف في تاريخ البشرية، والذي مازالت مقولاته نافذة، أي أفلاطون. فعندما أراد أفلاطون أن يبني مدينته الفاضلة لجأ إلى (الكذبة) نضعها بين قوسين، لأنّه كما أوضح نولدمان نقلًا عن مونتين، بأنّ (الكذبة) تتلخّص بقول خاطئ دون قصد الإضرار، فيما ذمّ (الكذب) المطلق، لأنّه يتجلّى باختلاق خديعة عن وعي وإرادة، مع قصد الإضرار. لقد قسّم أفلاطون أهل المدينة الفاضلة وفق تدرّج المعادن، الذهب، ومن ثم الفضة، أخيرًا النحاس، وادعى أنّ هذا التقسيم من صنع الآلهة، ولا إمكانية لنقضه. وبالطبع أهل الذهب هم حكام المدينة، وأهل الفضة هم حراسها، وأهل النحاس هم العوام الذين لا شأن لهم. لنا الحق أن نتساءل كيف تُبنى مدينة فاضلة على خداع أهلها، حتى لو كانت الكذبة منزّهة عن الإضرار وفق ما اِرتأى صانعها!

يذهب خوان رنخيل(4) إلى أن التجمع البشري لم يكن ليتم لولا ملح الكذب! وإذا نظرنا إلى الطبيعة وخاصة حيواناتها بأنّها جميعًا تمارس الخداع للبقاء على قيد الحياة، فالخطوط التي تلّون جلد حمار الوحش تساعده في التماهي مع الطبيعة من حوله. كذلك ذات الخطوط تسمح للنمر أن يتخفّى جيدًا عن طريدته. وبناءً عليه، أليس الإنسان مخلوق الطبيعة الأعز، هو أكثر المخلوقات استخدامًا للكذب لضرورته الحاسمة!                                                      

حبل الكذب ليس قصيرًا أبدًا:

تقدّم لنا مصر الفراعنة أوائل القصص عن الكذب(5) بأنّه قد كان الأخ الأصغر للصدق. وحدث أن استعار الصدق مدية أخيه، لكنّه أضاعها، وعندما عرض عليه مدية أخرى تشبهها رفض الكذب قبول ذلك، واشتكى إلى مجمع الآلهة، وشرع بوصف مديته بطريقة مجازية بحيث لا يمكن لأية مدية في العالم أن تضاهيها. هكذا ذهبت محاولة الصدق بتعويض أخيه هباءً، وحكمت المحكمة عليه بسمل عينيه والجلوس بوابًا على باب بيت الكذب. وتدور الأيام وتعجب امرأة غنية بالصدق الأعمى، فيضطجع معها وينجبها ولدًا. وتدور رحى الأيام، ويكبر الولد، ويعيّر بأنّه مجهول النسب، فيذهب لأمّه، فتخبره بأنّ الصدق هو والده، فيكرمه ويقرّر أن ينتقم من الكذب. يبتكر الولد خطّة محكمة، وذلك بأن يضع لدى راعي قطعان الكذب ثورًا جميلًا ويخبر الراعي إن حفظه له لمدّة معينة، فسيعطيه هدايا كثيرة ما إن يعود ليستلم منه الأمانة. يغيب ابن الصدق، ثم يعود بعد زمن، ليجد أنّ الكذب قد أعجب بالثور وذبحه، فيشتكيه لمجلس الآلهة، ويصف ثوره بأوصاف هائلة، بحيث لا يمكن لأي ثور أن يماثله. وفي الوقت نفسه يرفض عروض الكذب بأن يهبه أي ثور يختاره من قطيعه. ترفض الآلهة طلب ابن الصدق، فهذا الثور الذي يصفه لا يمكن أن يوجد! وهنا يتدخّل ابن الصدق ويذكّرهم بقضية أبيه، وكيف صدّقوا الأوصاف الخيالية التي أوردها الكذب عن مديته، ولم يصدّقوا ذات الأوصاف التي أوردها هو عن ثوره. وهنا سقط في يد الآلهة، وحكموا على الكذب بالعماء وأن يجلس بوابًا على بيت الصدق.

هذه القصة خطيرة الدلالة، وتقوّض التعارض بين الصدق والكذب، فابن الصدق لم يكن لينتصر في دعواه لولا الكذب. والأكثر دلالة بأنّ بواب الصدق هو الكذب، وبواب الكذب هو الصدق! قال القديس أوغسطين بأنّه يمكن للإنسان أن يقول أشياء صادقة ويكون كاذبًا ويقول أشياء خاطئة ويكون صادقًا، لكن من يستطيع أن يعرف النوايا؟

نعود إلى مقولة مونتين، بأنّ تعددية أوجه الحقيقة، هي ما تسمح للكذب بهذا المدى الخلّاب لفعاليته في وجود الإنسان، بل وضرورته. أراد الفيلسوف الأخلاقي كانط بأن يجعل من رفض الكذب عامًا، بحيث لا يمكن الكذب تحت أية مصلحة وضروة. وعدّ الكذب شرَا مطلقًا، وضرب مثلًا، بأنّه لو التجأ شخص إلى دار شخص آخر خوفًا من قتلة يطاردونه، لا بدّ أن يخبرهم الحقيقة، حتى لو قتلوا هذا الشخص البريء المختفي بالداخل! هذا التطرّف الأخلاقي دفع ببعض المفكّرين للهزء من أخلاقية كانط الأكثر شرًا من الكذب ذاته. هذه الشفافية أو الصدق المطلق الذي يدعو إليه كانط يذكرنا بالسجن الذي ابتكره جيرمي بنتام واسماه: (بانوبتيكون والذي يعني: الذي يُرى منه كل شيء) وتحوّل إلى إحدى سيمات المدن الديستوبية وما يمثله من إرهاب الأخ الأكبر الذي يريد أن يعرف كل شيء. إن صدقًا من هذا النوع مع التنوعات الكبيرة لطبائع البشر سيؤدي إلى انهيار المجتمع البشري، ولهذا كان القدماء واعين جدًا لأهمية الكذب مع إدانته، فأفلاطون سمح بالكذب للطبيب لفائدة المريض، والقادة لمصلحة المجتمع، حتى أنّ أحد المفكرين الكريتيين نسبة لجزيرة كريت ويدعى إيبيمنديس، وذلك قبل الفلاسفة العظام – سقراط ، أفلاطون ، أرسطو-الذين صبغوا البشرية بأفكارهم، سخر من هذه القسمة الحدّية بين الكذب والصدق قائلًا: (كلُ أهل كريت كاذبون) هذا الكريتي، هل كان يقول الحقيقة/ الكذب، عندما قال جملته! هذه المناقضة؛ كما يسميها أهل الفكر، حاول الرياضي والفيلسوف برتراند راسل أن يحلّها عبر رفضها، لأنّها تصادر القدرة على الحكم. فيما ذهب إلياس كانيتي إلى إعطاء سامع هذه المقولة الحقّ في منحها الصدق أو الكذب. مهما يكن، فهذه المناقضة تكشف عن قدرة الإنسان على قول شيء يكتنفه بعض التناقض، لكنّه – أيضًا- مدعوم بالحجة العقلية ويكون في الوقت نفسه كاذبًا.  

ابتدأنا هذه الفقرة بالمثل السائر، بأنّ حبل الكذب قصير، واتضح لنا من القصة الفرعونية أنّ إحقاق الحق لم يكن إلّا بارتداء لبوس الكذب، فهل حبل الكذب قصير؟ أمّا مقولة إيبيمنديس، فقد حيّرت كبار مفكري عصورنا الحديثة، ولو استمعوا لمقولة لودفيغ فيتغنشتاين، بأنّ الكذب تلاعب بالألفاظ يقتضي دربة شأنه شأن غيره من المهارات العقلية، لكانوا تفطّنوا لِما أشار إليه جاك دريدا من اختلاف بين الحكم القطعي والتأملي، فالحكم القطعي أشبه بعملية الجمع على سبيل المثال في الرياضيات الكلاسيكية: (1+1=2) فيما الحكم التأمّلي يترك الباب مفتوحًا على نتائج أخرى، بل حتى النتائج يغضّ البصر عنها، لصالح السير بين المطلق والنسبي. إذن الكذب نشاط عقلي يحتاج مقدرات كبيرة مثله مثل غيره من الأنشطة الفكرية الإنسانية التي نمتدحها وقبل أن ننتقل لمناقشة عنوان كتاب فرانسوا نودلمان، هل يكذب الفلاسفة، سنتطرق لمعنى كلمة الكذب في التراث العربي، كما ناقشها عبد الله الغذامي(6) فينقل قول الزمخشري بأنّ الكذب: “كلمة مشكلة، قد اضطربت فيها الأقاويل، حتى قال بعض أهل اللغة: “أظنها من الكلام الذي درج ودرج أهله ومن كان يعلمه”. هذه الكلمة تحمل وفق الزمخشري المعنى ونقيضه، بل أكثر من ذلك بأنّ من كان يعلم معنى هذه الكلمة قد ذهب وانقرض علمه معه. هذا الاضطراب الدلالي لكلمة (الكذب) يبلغ حدًّا تسقط معه شروط المعنى المقنّن؛ وهذا يذكّر بالفرق بين الحكم القطعي والحكم التأملي كما بينه جاك دريدا. ويذهب أبو علي الفارسي في شرحه لكلمة الكذب: “الكذب ضرب من القول، وهو نطق، كما القول نطق، فإذا جاز في القول الذي الكذب ضرب منه أن يتسع فيه، فيجعل غير ناطق، جاز في الكذب، أن يجعل غير ناطق” ويشرح الغذامي ذلك، فالكذب صوت لغوي مطلق الدلالة أشبه ما يكون بلغة الصمت، أو لغة الحيوان المبهمة، لا يفكّ لغزها/ معناها، إلّا بالتفسير والتأويل. لكن لنرى وجه الكذب القطعي كما جاء في الخبر؛ قال الخليفة عمر بن الخطاب: “كَذَبَ عليكم الحجُّ. كَذَبَ عليكم العمرةُ، كَذَبَ عليكم الجهادُ. ثلاثة أسفار كذبْن عليكم” أي وجبوا عليكم، وشبيه هذا القول: “كذبتك الظواهر” أي عليك المشي في حرّ الهواجر. أي أنّ وجوبية الشعائر ترفض أي تقاعس وتسويف. ويتابع الزمخشري في الشرح، بأنّ الكذب جرى مجرى المثل لديهم، والمراد بالكذب الترغيب والبعث. وممّا تقوله العرب ويخدم توجّهنا بشكل حاسم: “كَذَبَته نفسُه؛ إذ منته الأماني وخيلت إليه من الآمال ما لا يكاد يكون. وذلك ما يرغب الرجل في الأمور ويبعثه للتعرّض لها. ويقولون العكس أيضًا: صدقته نفسه، إذا ثبّطته وخيّلت له المعجزة والنكد عند الطلب” ولذلك سموا النفس بالكذوب!

إذن الكذب من أهم الدوافع لدى النفس للإقدام، بل تصبح كلمة الصدق أقل دلالة وفقيرة مقابل كلمة الكذب. قال المفكر إيراسموس: “إنّ عقل الإنسان معدّ، كي يفتتن بالكذب، أكثر بكثير من افتتانه بالحقيقة”. هكذا نرى أنّ الاشتباك الأخلاقي مع كلمة كذب، سيبعد عنّا اكتشاف القوى المضمرة والفعّالة في الكذب، ألم تقل العرب: “أجمل الشعر أكذبه”. وبعد أن بيّنّا غنى كلمة الكذب، سنيمّم شطر مقالنا نحو أجمل وأبدع ما سطره الفلاسفة من أفكار، كان الكذب اليد الخفية التي تحرك الماريونيت الإبداعية لهم. رويدًا رويدًا، بدأت تظهر لنا الطبيعة المعقّدة للكذب والأهم غناه الذي ينقذ الحقيقة من عريها المنفّر، والصدق من بلاهته.

أنف بينوكيو المبدِع:

كتب كارلو كولودي قصّته بينوكيو، بإيحاءٍ من كتاب جاك جان روسو؛ إميل/ التربية 1762 فعدّ من أهم الكتب التي تنظّر للتربية الحديثة، وبسببه أصاب روسو الكثير من المشاكل، فقد أحرق كتابه من قبل الشرطة بعد أن أدانته جامعة السوربون، وندّد به رجال اللاهوت في أوروبا. وفي القصة الأساس يُشنق بينوكيو بسبب كذبه، لكن بسبب نجاح القصة التي نُشرت مسلسلة بإحدى الجرائد طلب رئيس التحرير من كولودي أن يعدّل النهاية كما نعرفها الآن. لكن ما الرابط بين بينوكيو والفيلسوف والمفكر التنويري روسو. للحقيقة قام روسو بإيداع أطفاله الذين أنجبهم من خادمته تيريز في الميتم، وأنكر هذا التصرف، وكتب كتاب؛ إميل، ليغطي فعلته تلك وحتى كتابه؛ الاعترافات الذي جأر فيه بمجموعة من الأكاذيب، لأنّه عابد للحقيقة، لم يتطرّق فيه لفعلته الشائنة. لقد جعل روسو نفسه في الاعترافات شهيد الحقيقة وفي كتابه؛ روسو ضد جان جاك، انقسم على نفسه، وجعل من جان جاك المدعي العام عليه، لينتهي بأن أصبح جان جاك يستشهد بمقولات روسو من أجل تبرئته. لقد عدّ روسو نفسه ضحية مؤامرة كبيرة، فقط لأنّه عاشق للحقيقة. لكن الحقيقة أن روسو مرّر فعلته الشنعاء تحت ستار من نظريات وأقاويل الحقيقة والصواب والتي أصبحت طروحاتها من أعمدة الفكر الإنساني. هل كان روسو يكذب على نفسه، وهل من الممكن الكذب على النفس؟ بشكل أو آخر لقد نجا روسو من أفعاله الشنعاء كبينوكيو وأصبح فيلسوف الحقيقة! رفض جاك دريدا هذه الإمكانية؛ أي الكذب على النفس، مع أن حنة أرندت أقرّتها في معرض الكذب السياسي وخاصة في الأنظمة الشمولية، لكنّ روسو اعتبر  جملة سقراط المشهورة: “اعرف نفسك بنفسك” جملة ذات دلالة مخاتلة، وكأنّه يقرّ بإمكانية الكذب على النفس! هل فعل ذلك، لكي يبرّر إبداعاته التي سترت فعلته النكراء، وبأنّها لم تكن ستارًا يخفي تحته فعلته الشنعاء التي لم يعترف بها أبدًا؟

لسنا في معرض الإدانة هنا، فقد استطاع ميشيل فوكو بأن يفتح للفلسفة بابًا رائعًا ومذهلًا على الحياة العملية، عندما ناقش حيوات الفلاسفة القدماء. هكذا أصبحت فكرة المطابقة بين الفكر والممارسة منظرًا لها مع فوكو، بحث اكتشفنا معه الكثير من التناقضات التي اعتورت حياة الفلاسفة. في المحاضرات الأخيرة لفوكو وكانت بعنوان: شجاعة الحقيقة! ياللعجب كان فوكو يخبئ إصابته بمرض السيدا، طاعون المثليين، عن تلامذته ومجتمعه، وفي الوقت نفسه خطب عن ضرورة أن تكون الحقيقة شجاعة. هل كذب فوكو؟ ليست الإجابة سهلة، فسيمون دي بوفوار بينما كانت تكتب كتابها؛ الجنس الآخر، الذي يعدّ مانفيستو الحركة النسوية، كانت تعيش قصة حبّ عاصفة مع الأديب الأمريكي نيلسون ألغرين، حيث تمنّت فقط أن تكون خادمة بين يديه! لم تعمل بوفوار على تخبئة الرسائل المليئة بأفكار وممارسات تتعارض بالمطلق مع مبادئ الحركة النسوية، بل تركتها لتفتح وتنشر بعد موتها. ما الذي قصدته بوفوار بذلك؟ لربما كانت تريد القول، بأنّ النفس الإنسانية أعقد بكثير من الأفكار التي تطرحها حتى لو كانت لفيلسوف أو مفكّر.

يعتبر سارتر من أهم مفكّري عصرنا، وينتسب إليه مفهوم الالتزام، حتى أن الكلمة ارتبطت به، ومع ذلك كان الصامت الأكبر إبّان الاحتلال النازي لفرنسا وقيام حكومة متواطئة مع الاحتلال. لم يخرج صوته للعلن إلّا بعد أن وضعت الحرب أوزارها. إنّ محاكمة صاحب فلسفة الوجودية ورفض أفكاره بسبب صمته إبّان الاحتلال الألماني، سيفوت علينا فلسفة كان لها شأن كبير في صياغة توجّهات القرن العشرين. لا يختلف الفيلسوف سورين كيركغارد عن من ذكرناهم، فقد كان هو الآخر يعيش حيوات متناقضة، قدّمها من خلال كتبه، التي مهرها بأسماء مختلفة، فتارة يكون قديسًا وتارة زنديقًا، وكثيرًا ما مدح كيركغارد حياة الصدق والحقيقة وأن تطبيقها ممكن وخاصة بين الزوج والزوجة، لكنّه لم يتزوج وترك خطيبته!

يعتبر جيل دولوز فيلسوف الترحال والبداوة، فقد كان يرفض الاستقرار ويكره الحدود، وهو الذي لم يسافر إلّا مرة واحدة نتيجة مرضه الرئوي، لكنّه قدّم لنا فلسفة واسعة الأمداء عن فكرة أن يكون الإنسان حرّا كالبدوي يتصيّد مواطن سقوط المطر، لا تحدّه حدود ولا يقعده عن تجواله شيء!

تتكلّم حنة أرندت ـالتي كانت تعيش علاقة حب عاصفة مع الفيلسوف مارتن هيدغر المتزوج-عن العصر الحالي بأنّ الكذب فيه أصبح ينشىء حقائق واقعية مثله مثل الصدق! وأنّ هذا العصر عصر الكذب الأكبر سياسيًا، لكن بعيدًا عن الاشتباك الأخلاقي مع السياسة التي هي فنّ الممكن بامتياز، هل لنا أن نشكر الكذب على الإبداعات الرائعة التي قدّمها هؤلاء الفلاسفة الكَذَبَة، بالتأكيد نعم! لأن فلسفة الحقائق بدءًا بالدينية وانتهاء بالسياسية كان لها الباع الأكبر بارتكاب أكبر الفظائع عبر التاريخ. إنّ ما يدعونا إليه كتاب فرانسوا نودلمان، ليس البحث عن الكذب بأفكار الفلاسفة وتناقضها مع حياتهم الواقعية ومن ثم إدانتهم، بل التنبّه على قدرة الكذب في الكشف عن حقائق هذا الوجود، مثله مثل الحقيقة، سواء بسواء، بل أكثر.

وعود على بدء، نقول بأنّ كتابة تاريخ الكذب في التاريخ الإنساني، لا يكون إلّا بتفكيك مقولات الحقيقة والصدق، لأنّه كما قالت القصة الفرعونية: بوّاب الصدق هو الكذب، وبوّاب الكذب هو الصدق.    

المصادر والهوامش:

تاريخ الكذب، جاك دريدا، ترجمة رشيد بازي. صادر عن المركز الثقافي العربي 2016.عبقرية الكذب -أو هل كذب كبار الفلاسفة، فرنسوا نودلمان، ترجمة إياد عيسى. صادر عن دار سبعة، السعودية 2022.ميشيل دي مونتين، فيلسوف فرنسي – القرن السادس عشر- يعتبر رائد فن المقالة وجمعت كتابابته في مجلدين تحت عنوان: محاولات. تاريخ الكذب، خوان خاثينتو مونيوث زنخيل، ترجمة طه زيادة. صادر عن دار الخان- الكويت2022.مجلة الهلال عدد تموز 1992جماليات الكذب مقال لعبد الله الغذامي في مجلة فصول، المجلد الحادي عشر، العدد 1 لعام 1992.

باسم سليمان

https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/civilisation/2023/7/19/%D8%B9%D9-%D9%D9%D9%D9%D9-%D8%A7%D9%D9%D8%B0%D8%A8-%D9%D9%8A-%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%D8%A5%D9%D8%B3%D8%A7%D9-%D9%D8%AD%D8%A7%D8%B6%D8%B1%D9

خاص ضفة ثالثة

الكذب - تاريخ - ثقافة
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 19, 2023 07:25

“العروس” في فرحها ومأتمها… تمثيلات وأقدار متشابكة – مقالي في رصيف22 – باسم سليمان

يُقال مصر هبة النيل. ويُقال بأنّ النيل لا يفيض ما لم تُقدم له عروس كأضحية. ويُقال بأنّ فيضان النيل متأتٍ عن دموع إيزيس التي سفحتها على جسد أوزيريس. ويُقال بأنّ سامية بنت المعلّم بشندي كانت قد خرجت في وقت سابق من بيت زوجها خالد عبد الباري في منطقة حدائق الأهرام مغضّبة قاصدة بيت أهلها في السيدة زينب، غايتها الطلاق. لا يختلف الخبر الأخير عن سامية بنت بشندي عن الأخبار الأسطورية التي ذكرت في مقدمة المقال من حيث الاقتضاب والترميز. تبدأ الرواية بتوصيف حركة سيارة سامية الدائرية حول تمثال طلعت حرب قبل أن تنحرف لتدخل شارع قصر النيل وتركن سيارتها أمام بناية العروس، حتى يفتح فعلها الحدث الروائي على أخبار وأخبار؛ فلقد مرّ إلى الآن عشر سنوات على زواجها من خالد عبد الباري. تعتبر بناية العروس معلماً خاصاً في مدينة القاهرة، فوصية الحاج مرزوق عشم الله إلى عمر عبد الظاهر أن يعطيها كامل اهتمامه، فهي جوهرة حياته. كانت العروس تتألّف من بناء بسبع طوابق، وضع حجر أساسه في الخمسينات من القرن العشرين، وإذا ماثلنا كل طابق بعقد من السنوات، سنصل في العدّ إلى عام 2022؛ إذن نحن أمام بناية تمثل تاريخ مصر الحديث، وما جرى فيه من أحداث.  

في روايته الجديدة المسماة : (العروس) الصادرة عن دار ديوان للنشر لعام 2023 يضعنا الروائي المصري حمدي الجزّار أمام أرضنة الأسطورة والتاريخ والحاضر، بل تشذيرهما في يوميات أناس تكاد من عفويتها أن تذهلك عن المقاصد. تشرع الرواية سردياتها من قرار سامية بالذهاب إلى المطعم الذي يعمل به زوجها خالد الذي يحتل الطابق الأول من بناية العروس، لتستخلصه من براثن الراقصة الجديدة سماهر، وفقاً لظنونها! ولأنّها إيزيس اللحظة الحاضرة تلتقي بالعم شاهين صديق أبيها ذلك الذي رأى معجزة النيل، حيث تتوقّف مياهه عن الجريان؛ ومن يشرب من مائه في تلك اللحظة يظل فيه عرق الصبا حتى الممات. فهل كان شاهين تمثيلًا للنيل؟ لكنّ شاهين لم ينجب، وانتهى به الحال بوابًا لبناية العروس، كما هو حال نهر النيل بعدما بنيت السدود على منابعه.

لم يكن اليوم الذي توجّهت فيه بنت المعلم بشندي الذي بنى قصر رئيس مجلس إدارة العروس؛ عمر عبد الظاهر، إلا يوم رأس السنة وكما هو معروف، فهذا اليوم يحمل دلالاته المثيولوجية، وأمّا في زمننا الحالي، ففي هذا اليوم تختم السنة المالية وتقام الاحتفالات، لكنّ الجزّار عبر توليفته حمّله كافة الدلالات، ليصبح جردة حساب لميزانية تاريخ مصر الحديث. تهبط سامية من سيارتها بفستانها الأسود، لتتخيّل خالد ببذلته البيضاء، ورويدًا تغمرها أضواء الاحتفالات بالسنة الجديدة ويختفي زمن الأبيض والأسود، وما يحمله من حنين وذكريات عن زمن البدايات في الخمسينات وما قبلها في القرن المنصرم، قبل أن تتكاثر الألوان وتفقد ثنائياتها ومعانيها.

هذه الحركة السردية التي افتتحتها سامية تدفع بتيار السرد للتدفّق ليطالعنا عمر عبد الظاهر من سكان حي السيدة زينب، الذي كان ذا منبت بائس، لم تجعله شهادتا الحقوق وإدارة الأعمال يطفو على السطح كزهرة لوتس، حتى جاءه الحاج مرزوق عشم الله، لينتشله من فقره ويسلمه رئاسة إدارة العروس، ناقلًا إياه من خط الفقر الأفقي إلى خط الغنى الرأسي. وتكرّ السنوات، ثم تهلّ هذه الليلة، ليلة رأس السنة، ليطلبه الحاج إلى قصره، ويسلّمه صندوقاً بما يحمله الصندوق من دلالات. احتوى الصندوق وثيقتي توزيع الأسهم على مجلس إدارة بنياية العروس، وتثبيته نهائياً على سدّة رئاستها. خان عمر الحاج مرزوق وزوّر وأعاد تقسيم الأسهم، لأن الحاج أعطاه صفرًا في عدّاد الأسهم، لكنّه منحه دفّة الإدارة. أمام هذه القسمة التي رأى فيها عمر هضماً لجهوده في العروس، فقام بالتلاعب وإنشاء وثيقة جديدة مهرها بختم الحاج وقلّد توقيعه، فكانت النسخة أصلاً جديداً يُبنى عليه. وحدث ذلك بموافقة المحامي باهر العقدة الذي صدّق بتوقيعه على الوثيقة التي أنشأها ابتداءً عمر عبد الظاهر، بدلًا ممّا أعطاه إياه الحاج مرزوق عشم الله. هكذا أخرج عمر بحركة كش ملك، عدوّه اللدود الحاج فتحي أبو درقة من كعكة الحاج مرزوق، ومنح نفسه حصة الواحد زائد خمسين سهمًا، ليكون له القول النهائي في المجلس الذي يتألّف بالإضافة إليه، من الحاج فتحي أبو درقة رجل الأعمال، وثروت رجل الإعلام، والموسيقية نانيس وريثة حصة والدها الموسيقار العظيم في إدارة العروس حيث تصدح ألحان أبيها مرافقة الراقصة سماهر وهي تتلوى كأفعى. هذه التوليفة لمجلس الإدارة بمكان ما، تمثل أهم الأطراف اللاعبة في تاريخ مصر!

كان الطابق السفلي للعروس تحت الأرض لا يدخله أحد إلا بإذن. وبينما تدور وقائع اجتماع مجلس الإدارة الذي سيتقرّر بموجبه مستقبل العروس بإبقائها كمطعم وعلامة فارقة في وسط القاهرة أو بتحويلها لكاباريه آخر، ممّا ينتشر في القاهرة، لا أصالة فيه ولا تاريخ، جرت الحياة في المطعم أعلاه صاخبة وذاهلة عمّا يحدث في الأسفل. تقاوم سامية إغواءات المذيعة هايدي التي تحاول إقناعها بأن تصاحب رجل الإعلام ثروت، متأملة أن يكافئها رجل الإعلام الغني ثروت، لو تمت هذه الصفقة بترويض سامية، وذلك بأن يمنحها برنامجها الخاص في محطته الإعلامية. فيما رضخ طلحة أبو درقة للتقسيمات الجديدة بعد أن ضبطه أسعد مدير الأمن في المطعم، وهو يتحرّش ببائعة الأزهار القاصر، فلم يدافع عن أبيه الذي تم تجريده من حصصه في العروس واستبعاده نهائياً. هذه التغييرات التي أقرّت في ليلة رأس السنة، لم تطل فقط مجلس إدارة العروس، بل امتدّت إلى مطبخها، حيث اسلتم حمّو الترسة الذواق الجديد لمطعم العروس بدلًا من العم برسوم رئيس الطباخين القديم على أيام الحاج، لتكون أول ولائمه للمجتمعين في الأسفل سلحفاة مطبوخة ليأكلوا لحمها ويشربوا دمها.

يعيش الحاج مرزوق عشم الله في قصره في جبل المقطم، بعيداً عن الناس وقريباً منهم، فهو الذي يموّل الصدقات الخارجة من مقام السيدة زينب، مهتمًا بمرضى الحي وفقرائه. وفي الوقت نفسه ينهمك في ملذّاته، لكنّه في المقابل يعيش برؤى المتصوّفة الزاهدين عن الدنيا. وعندما استدعى عمر كان قد قرّر الاستقالة من الدنيا والاستعداد للحاق بالحياة الآخرة. هل كان اختياره لعمر ليرثه في قيادة العروس اختباراً أم لتشابه ما بينهما؟ لم يكن للحاج مرزوق زوجة وأولاد، فقط خدم مخلصين جداً، ودوماً كان يترك مسافة بينه وبين زائره مهما كان قريباً. هذه الصيغة للحياة التي يعيشها الحاج مرزوق رغب عمر باستنساخها، فقد بنى على هضبة المقطم فيلته وظل أعزب، وفي باطنته رغبة استنساخ سيرة حياة الحاج مرزوق كاملة. وعندما انتهى الاجتماع خرج تاركاً أعضاء مجلس الإدارة في ذهول متأبطاً عصا تشبه عصا الحاج مرزوق.

هذا الخليط من البشر الذي يودّع السنة المنصرمة ويستقبل السنة الجديدة بالشرب والأكل والموسيقى في مطعم بناية العروس، غير منتبه لما جرى في الطابق التحت أرضي للعروس من إعادة توزيع الأسهم على ملّاك العروس وتنصيب عمر عبد الظاهر نفسه رئيسًا لمجلس إدارتها. ومن ثم طي حقبة الحاج مرزوق عشم الله وإخراج فتحي أبو درقة خال الوفاض، ممّا يعني أن عهداً جديداً قد بدأ ليس كسابقه، فالصندوق الذي يشبه الصندوق الذي وضعت فيه إيزيس أعضاء زوجها بعدما قتله إله الشر سيت، أو أنّه يماثل تابوت العهد لدى بني إسرائيل، أصبح كصندوق باندورا، ستخرج منه الشرور كلّها.

لقد تم الاستغناء عن الطباخ القبطي برسوم الذوّاق، الذي جعل من مأكولات العروسة، كأنّها من الجنة بالطباخ حمّو الترسة، الذي لا يتورّع عن ذبح رمز الحكمة وتقديمها طعاماً للمجتمعين في الطابق السفلي للعروس. كان للعم برسوم ابن، ربّاه بدموع العين، لكنّ الشاب ترك أباه وذهب إلى الصحراء للترهبن، بعدما اتهم أباه بأنّه يعمل في مطبخ الشيطان. هكذا فقد العم برسوم مستقبله في العروس وابنه أيضاً، فانطوى على نفسه يجتر ذكريات الماضي الجميل.

لم يكن النحّات إبراهيم مطر صديق خالد وحبيب الموسيقية نانيس، الذي كان من الشخصيات التي تشارك في احتفال رأس السنة في مطعم العروس، إلا مطروداً من رضى أبيه، الذي رأى في اشتغال ولده في الفن إعادة لزمن الأصنام. هذه التناقضات كانت ترقص عليها الراقصة الشابة سماهر الآتية من عزبة سوبك؛ إحدى العشوائيات التي تتكاثر حول القاهرة.

تتشابك أقدار الساهرين في العروس، فيما عمر عبد الظاهر يتوجّه إلى قصره في المقطم مطمئناً لما آل إليه حاله في السهرة الأخيرة للسنة المنصرمة، ولكي يختم الساعات الأخيرة قبل بزوغ الشمس من الشرق، طلب أن تُحضر إليه الراقصة سماهر التي اكتشفها كل من خالد وإبراهيم مطر، لكن خالد يهرّب سماهر من وجه عمر عبد الطاهر ويغادر هو ومطر المطعم، بعدما أوكل للعم شاهين متابعة وصول زوجته سامية إلى بيت الزوجية. أعجب خالد في مشغل النحات إبراهيم مطر بنحت لطائر، لربما كان نسراً، أو عقاباً، أو شاهيناً، أو الإله حورس الذي يمثّل عادة بصقر. وعندما أخبر صديقه برغبته في اقتنائه يطالبه أن يدفع ثمنه بكل البطاقات المالية التي يحملها! وكأنّه يقول له من يريد أن يشبه الإله حورس لا يجب أن يكون مالكًا لأن المال يفسد النفوس.

قد تكون سامية بنت بشندي، هي إيزيس بمفهوم وهموم هذا العصر! ولهذا يعهد خالد/ أوزيريس أمر حمايتها في طريق عودتها إلى البيت إلى العم شاهين الذي يتماثل مع النيل في ضعفه الحالي وعقمه. فيما يشبه عمر عبد الظاهر في خيانته للأمانة بآدم، أمّا الحاج مرزوق عشم الله فهو أشبه بالإله. لكلّ شخصية في الرواية إسقاطاتها الأسطورية، والدينية، والتاريخية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، واليومية. فالنحات إبراهيم مطر، هو المصري باني الأهرامات، والراقصة سماهر، هي تلك العروس التي سيتم التضحية بها، ليعود النيل للتدفّق والفيضان، أمّا الفلاحون أبناء النيل، فهم من ينقذون خالد/ أوزيريس. مهما تقنّعت الشخصيات التي أوردها الجزّار في روايته، كي لا نستشف تمثلاتها الأسطورية والواقعية، إلّا أنّ رمزيتها تحضر بقوة، لأنّها متغلغلة في الوجدان المصري. هكذا ينتصب تمثال طلعت حرب وبيده الرسالة أو المخطوطة، التي يجب قراءتها جيداً لاستبصار إلى أين مصر ذاهبة.

يموت الحاج مرزوق أخيراً، وعندما يعرف المدير عمر عبد الظاهر بذلك، يذهب إلى قصره، وهناك يتفاجأ بأنّ القصر عبارة عن خرابة، وكأنّ ما كان يراه في كل قدوم إليه، ليس إلّا خيالات! وفي رؤية أقرب للحلم يخبره فيها الحاج معنى الوثيقتين، بأن من يحكم لا يجب أن يملك. يحاول عمر حضور الجنازة لكن يُمنع. هكذا تبدأ العروس سنتها الجديدة برئيس مجلس إدارة خان الأمانة، بينما يقف تمثال طلعت شاهداً على ذلك.                                                                                                      يشبه الروائي حمدي الجزّار في سرديته هذه العم برسوم، وليس الطباخ حمّو الترسة ذابح السلحفاة رمز الحكمة. فهو يقدّم مصر على طاولة الرواية عبر أطباق من حيوات أشخاص متنوعين يدمج فيها ماضي وحاضر مصر ورائحة المستقبل، تاركاً للقارئ متعة تلمظ الرموز والإشارات واستنشاق الروائح والدلالات المتبخّرة من تلك الأطباق.

في نهاية الرواية يأخذ النحات إبراهيم مطر صديقه خالد إلى الجيزة لتصوير الأهرامات بعد تساقط المطر. وهناك يتركه من دون النقود، ليعود إلى القاهرة حاملاً النحت الذي أعجبه. وفي عزبة سوبك يطعن، لكن يتم إنقاذه من الفلاحين، لتنتهي الرواية بخروج الأطباء معلنين نجاته أمام كل من زوجته سامية وصديقه إبراهيم مطر. تقول الأسطورة بأنّ ما بقي في صندوق باندورا بعدما خرجت منه الشرور كلّها إلى العالم، هو الأمل فقط!

باسم سليمان

https://raseef22.net/article/1094080-%D8%A7%D9%D8%B9%D8%B1%D9%D8%B3-%D9%D9%8A-%D9%D8%B1%D8%AD%D9%D8%A7-%D9%D9%D8%A3%D8%AA%D9%D9%D8%A7-%D8%AA%D9%D8%AB%D9%8A%D9%D8%A7%D8%AA-%D9%D8%A3%D9%D8%AF%D8%A7%D8%B1-%D9%D8%AA%D8%B4%D8%A7%D8%A8%D9%D8%A9

خاص رصيف22

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 19, 2023 07:22

July 4, 2023

في البدء كانت الدمعة… وفي الختام – مقالي في ضفة ثالثة

باسم سليمان 4 يوليه 2023

يصوّر ألبير كامو، في روايته “الغريب”، البطل ميرسو، بأنّه عديم الشفقة. وعندما تتم محاكمته لقتله رجلًا، تأتي شهادة الشهود، بأنّه لم يذرف دمعة واحدة خلال جنازة أمّه. هذه المعلومة البسيطة كانت كافية لتجعل القاضي يرجّح كفّة الإدانة بحقّ ميرسو، ومن ثم إصدار الحكم عليه بالإعدام!
لم تبكِ جاكلين كينيدي زوجها جون، رئيس الولايات المتحدة الأميركية، في جنازته! وعلى الرغم من إلصاق الدموع بأعين النساء، إلا أنّ الحكم على هذا التصرّف من الجمهور كان إيجابيًا! ليس للدموع سيرة واحدة، فقد ارتبطت باللذة والسعادة والحبّ إلى جانب علاقتها الأصلية بالحزن والبكاء. وتعالقت بالصدق والإخلاص والبطولة، إضافة إلى الكذب والخيانة والضعف. لقد قال الشاعر الألماني شليغل تعبيرًا عن هذا الكم الكبير من الازدحام في المعاني الذي تحمله الدموع: “الكلمات! ما هي؟/ دمعةُ واحدة ستقول أكثر منها جميعًا”.
ابتدعت الأساطير عددًا من القصص عن كيفية خلق البشر، ففي الأسطورة البابلية خُلق البشر من دم الإله كنغو، وفي الديانات التوحيدية من التراب، أمّا الفرعونية، فقد خلقوا من دموع الإله رع، حيث أطلق عليهم رع: “أبناء دموعي”، واستكمالًا لهذه الأسطورة، فالنيل الذي يعدّ شريان الحياة في مصر كان يفيض بسبب دموع إيزيس التي سفحتها على موت الإله أوزيريس. ويعزو شعب الماوري في نيوزيلندا في أقاصي الجنوب ندى الصباح إلى دموع الرب رانغي إله السماء، التي ذرفها على الإلهة الأرض عندما انفصل عنها. ولدى الإغريق التصور ذاته، فالندى الصباحي هو دموع الإلهة أورورا على ابنها ممنون.
كانت ملكة مدينة طيبة نيوب، حفيدة زيوس، قد رزقت بسبعة ذكور وسبع إناث، فتفاخرت على الإلهة ليتو التي لم تنجب غير طفلين هما الإلهان: أرتميس، وأبولو، فانتقما منها لإهانة والدتهما، بأن قتلا جميع أولادها، فطفقت تبكي وتولول وتستعطف زيوس أن ينقذها من بؤسها، فحوّلها إلى حجر لعلّها ترتاح من حزنها، إلا أنّ الحجر ظل يبكي. وهنالك أسطورة تفسيرية تربط الدموع باللؤلؤ، فالفايكينغ يعتقدون بأنّ اللؤلؤ هو الدموع المتجمدة للآلهة فرايا، رمز الحب والتكاثر، وأيضًا إلهة الحرب والموت. حزنت فرايا لاختفاء زوجها الإله أود، فبكت عليه بحرقة، فتحولّت دموعها التي سقطت في البحر إلى لؤلؤ. ونسب التراث العربي اللؤلؤ إلى دموع آدم وحواء بعد هبوطهما من الجنة، ومن هذه الخلفية الأسطورية رسم الفنان مان راي لوحته التي تعرض عينين تتناثر حولهما الدموع كاللآلئ.

يعود أول ذكر للدموع في الحفريات الأثرية إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، إلى الألواح الطينية في رأس شمرا، والتي تتكلم عن موت الإله بعل، وكيف بكته زوجته عنات. وتخبر هذه الألواح بأنّ عنات: “أتخمت نفسها بكاء، حتى صارت تشرب الدموع كالخمر”.
مهما يكن من الأساس الأسطوري للدموع، إلا أنّها شأن إنساني بحت يرتبط بفكره وعواطفه وجسده وثقافته، وكانت لها استخدامات دينية وسياسية وجندرية وأدبية في تاريخها المديد. يقول رولان بارت: “بدموعي أروي قصة، وأنتج أسطورة من الحزن”.

لم يتم التعرّف على الجهاز الدمعي بشكل كامل إلّا في القرن المنصرم، عبر التشريح. وتقع الغدد الدمعية الرئيسة في تجويف صغير بين العظم الجبهي ومقلة العين. وهذه الغدد مسؤولة عن إفراز الدموع الناتجة عن التهيج، كالتي تتساقط عند تقطيع البصل، أمّا الدموع الانفعالية، فهي التي تنشأ عن البكاء، أو الضحك. إلى جانب غدد صغيرة تفرز الدموع المسؤولة عن استمرارية ترطيب العين.
ساد اعتقاد طويل الأمد يمتدّ من أبقراط إلى عصر النهضة بأنّ الدموع منشؤها الدماغ، وهي متعلّقة بسوائل الجسم الأساسية، من دم وبلغم وسوداء وصفراء. وكان يعتقد بأنّ اختلال تركيز هذه السوائل وتراكمها يؤدي إلى مرض الجسم، ولذلك كان الدواء عبر تفريغها. وبالنسبة للدماغ، كان التفريغ يتم عبر الدموع والبكاء. وقال أحد الأطباء في القرن السادس عشر إنّ: “الدموع رطوبة برازية يطرحها الدماغ”. من هذه الفكرة الفيزيولوجية ظهرت كلمة التطهر/Catharsis، التي عرفناها في تعريف أرسطو للتراجيديا ودورها في تنقية انفعالات الخوف والشفقة.
رأى ديكارت بأنّ الانفعالات تؤدي إلى تبخّر جزئيات من الروح الحيوانية في الإنسان، فتتكاثف في دموع. ويشير إلى أن البكائين أكثر شفقة ورأفة، فيقول في عاطفة الحب بأنّ تدفّق المزيد من الدم نحو القلب مع وجود برودة الحزن يؤدي إلى تكاثف تلك الأبخرة بشكل دموع. في حين ذهب داروين إلى أنّ الدموع ناتج عرضي، لا علاقة له بالانفعالات والعواطف والتفكير، فلا تختلف الدموع النفسية عن الانعكاسية والقاعدية.
عندما كتب أفلاطون محاوراته، شن هجومًا على الانفعالات والعواطف، واعتبرهما ممّا يحرف العقل عن مساره، فشبّه الانفعالات بحصان قزم بشع، في حين مثّل العقل بحصان أبيض جميل، وإنّ جمعهما سوية ليقودا مركبة الإنسان سيؤدي إلى الانحراف. جاء رد أرسطو على أفلاطون لتبيان ما في التراجيديا والكوميديا من منافع عبر تصريف الزائد من مشاعر الخوف والشفقة، وجعلهما متوازنين. يقول أوفيد بأنّ البكاء يزيل الغضب. فيما كتب سينكا أن الدموع تهدئ الروح. وأشار أحد اللاهوتيين المسيحيين في القرن السابع عشر إلى التشابه بين الماء الذي ينظف الجسد، والدموع التي تطهر الروح. في مكان ما، استند سيغموند فرويد في تحليلاته عن الأمراض النفسية إلى فكرة التطهير، ورأى أن تلك الأمراض نتاج رغبات مكبوتة غير متصالح معها. كان ينوم مغناطيسيًا مريضه ليقوده إلى لحظة كبت تلك الرغبة وتفريغها بالبكاء والكلام، إلى أن ابتكرت إحدى مريضاته، وتدعى بيرثا بابنهايم، وصفًا لعلاج فرويد بقولها بأنه علاج بالكلام. ولا يخفى عنا ارتباط العبرات بالكلام، عبر الجذر (عَبَرَ). إنّ الكشوفات الحديثة عن أسباب الدموع تختلف عما سبق، فهي نتاج تعاضد جسدي عصبي نفسي، فكري وعاطفي، وخاصة الدموع الانفعالية، أمّا القاعدية، فهي لترطيب العين، والانعكاسية لتطهيرها من الأوساخ، أو ما يثير حساسيتها. لكن الاعتقادات الشعبية والثقافية ظلت ترى في نظرية التطهير أرضها الخلفية التي تحيل تفسيراتها لتساقط الدموع.

جنس الدموع:

إنّ المعاني الإنسانية للدموع لا تتعلّق فقط بجنس من يبكي، أكان ذكرًا أم أنثى، ولا عمره، أكان كبيرًا أو صغيرًا، فهنالك تداخلات ثقافية اجتماعية تخلط المعايير، حسب الزمان والمكان. تعود أقدم محاولة للتمييز الانفعالي بين الجنسين إلى أرسطو: “المرأة أكثر تعاطفًا من الرجل، ومن السهل إثارة دموعها”، ومع ذلك كان لعادات المجتمعات ما تفرضه من أشكال التعبير على الذكر والأنثى. لقد فرضت النزعة الرواقية العقلية على الرجال أن يكونوا ضنينين بدموعهم، والأحرى معرفة كيفية استخدامها أخلاقيًا واجتماعيًا وسلطويًا، فقد سُئل روسو عن الرجولة، فرأى أنها القدرة على التعبير من خلال الدموع، أو ما يمكن تسميته البكاء الأخلاقي، وليس الانفعالي، والذي كان كثيرًا ما يستخدم من قبل السياسيين، لكن النزعة الرأسمالية خفّفت من ذلك كثيرًا، ودعت إلى رجل عملي لا تهزه النوائب. لكن بعد حربين عالميتين أصبح المنطق أن يكون الرجل أكثر حساسية، هكذا بدأنا نرى السينما تكرّس الرجل الحسّاس العاطفي ذارف الدموع. يجمع أكثر علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع على أن كل الثقافات تقسم المظهر الانفعالي بين الرجال والنساء، فلكل منهم دوره، حيث تلعب النساء دورًا أكبر في مظاهر الحداد، حيث نرى الندابات، أو البكاءات، جلّهن من النساء، حتى أصبحت مهنة لهن.
تعرضت دموع النساء إلى التهكّم من قبل الرجال، حيث تكلّم المحلّل النفسي ألفريد أدلر، الذي يعد من تلاميذ سيغموند فرويد، على ما يسمى استبداد الدموع الذي تمارسه النساء على الرجال. أما الكاتب ج. ك. مورلي فقال عن دموع النساء: “إنّ أعظم قوة مائية في العالم هي دموع المرأة”. لكن الشاعر أوفيد نصح الشاب أن يبكي بين يدي حبيبته لكي يغويها. وفي الوقت نفسه، ينصح الأنثى أن تتعلم تزييف دموعها من أجل الإغواء. مهما يكن من سيطرة النساء على عالم الدموع، إلا أنّ دموع الرجال اكتسبت حظوة جيدة في رأي الناس بعد أن كتب غوته روايته “آلام فرتر”، حتى أن إميل سيوران شبه الدموع بالموسيقى، مقتفيًا نيتشه في ذلك قائلًا عنها: بأنّها شكل من أشكال الفن، وبأنّها تجربة جمالية.

قوّة الدموع:
ترى كاي كارمايكل في كتابها “طقوس البراءة؛ الدموع والقوة الاحتجاج” أنّ دموع الضحايا في بعض الثقافات شكل من أنواع الاحتجاج، لذلك كانت تعمد إلى تحريم تلك الدموع. لم يكن سوفوكليس في مسرحيته “أنتيغون” إلا ملاحظًا لقوة الدموع الاحتجاجية والانتقامية. وهذا ما حدا بالملك كريون لأن يمنع أنتيغون من دفن جثة أخيها في أرض الوطن والحداد عليه. هذا الموقف عبّر عنه المشرع الإغريقي صولون في القرن السادس قبل الميلاد بأن أقرّ مجموعة من القوانين تضبط الحداد العام، وخاصة للنساء، لقدرته التخريبية الثأرية على أثينا. وفي عصرنا الحديث، وخاصة لدى الديكتاتوريات، تنتشر مثل هذه التحريمات، ولربما من أشهرها تحريم المجلس العسكري في إثيوبيا عام 1994 على الأمهات أن يبكين أولادهم المختفين!
تعرض حكاية شعبية صينية إبّان بناء سور الصين بأنّ إحدى النساء بكت بشدّة عندما علمت بموت زوجها في بناء السور، ودفنه بين حجارته. لقد تحولت دموع تلك الأرملة إلى سيل جارف غمر سور الصين العظيم لأكثر من مئتي ميل، انتقامًا لموت زوجها. لكن إلى جانب قدرة الدموع الانتقامية، فإنّ لها قدرة على إحلال الصلح، ففي المصادر التاريخية الرومانية اشتبك الرومان مع جيرانهم، ولولا تدخل النساء من الجانبين والبكاء، لدارت حرب طاحنة، لكن دموع النساء أطفأت فتيل الحرب. وفي قصة كتبها الأخوان غريم عن شخص يدعى جون الحديدي استبدل انتقامه بالحزن العميق والدموع.

تساعدنا الدموع في مواجهة الواقع، وبالأحرى الهروب منه، ففي رواية “أليس في بلاد العجائب”، تبكي أليس كثيرًا حتى تطفو فوق دموعها، وتذهب مع طوفان الدموع بعيدًا. يقول سارتر بأنّ الانفعالات بناءة أكثر مما توحي به، فعندما نجد أنفسنا في موقف لا يمكن تحمله، فإننا نعيد إنشاء العالم بواسطة انفعالاتنا، كما الثعلب في قصة إيسوب، فعندما لم يطل العنب قال عنه بأنه حامض. لكن سارتر يرى الاكتفاء بالانفعال والدموع موقفًا عقليًا متراجعًا. على عكس طبيب الأعصاب والنفس، أنطونيو داماسيو، الذي يذهب إلى أن العقل الخالي من الانفعالات والتعبير عنها بواسطة الدموع هو وعي متدهور. نستطيع أن نكون متحيّزين لداماسيو، فدموع الصدق والإخلاص والإيمان، وحتى الفرح واللذة، دلائل مهمة على قوة الانفعالات والعواطف في دعم مواقفنا العقلية. يتساءل هاملت في مسرحية شكسبير كيف للممثّل في الفرقة التي استقبلها القصر أن يبكي؟ ويصف بكاء الملكة هيكوبا على بريام ملك طروادة وهو غير قادر أن يكون له انفعال صحيح تجاه عمّه الذي قتل والده!
تبدأ الدموع مع لحظة ولادتنا، وتشيعنا في لحظة وفاتنا، سواء كانت مجرد عارض جانبي للحزن، أو تطهيرًا، أو نتيجة للعلاقات المتشابكة بين العقل والأعصاب والنفس والجسد، والفكر والانفعالات. لكنَّ للحياة، كما مثلها الإغريق، وجهين؛ ضاحك وباك، وفي الضحك والبكاء نجد الدموع. وكما يقول فيلسوف الجماليات جورج سانتيانا: “الشاب الذي لم يبكِ شخص متوحش. الرجل العجوز الذي لن يضحك شخص أحمق”.

ملاحظة: يستند هذا المقال إلى كتاب: “تاريخ البكاء؛ تاريخ الدموع الطبيعي والثقافي” لتوم لوتز، ترجمة عبد المنعم محجوب، الصادر عن دار سبعة السعودية عام 2022.

https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/civilisation/2023/7/4/%D9%D9%8A-%D8%A7%D9%D8%A8%D8%AF%D8%A1-%D9%D8%A7%D9%D8%AA-%D8%A7%D9%D8%AF%D9%D8%B9%D8%A9-%D9%D9%D9%8A-%D8%A7%D9%D8%AE%D8%AA%D8%A7%D9 https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/civilisation/2023/7/4/%D9%D9%8A-%D8%A7%D9%D8%A8%D8%AF%D8%A1-%D9%D8%A7%D9%D8%AA-%D8%A7%D9%D8%AF%D9%D8%B9%D8%A9-%D9%D9%D9%8A-%D8%A7%D9%D8%AE%D8%AA%D8%A7%D9

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 04, 2023 14:39

July 3, 2023

بابليون؛ الحبّ بقناع الهجاء

للمخرج داميان شازيل

مقالي في سينما الصباح الاثنين 3 تموز 2023 العدد 5719

لم يرد صاحب فيلم La la land الأوسكاري، أن يكون رؤوفًا بهوليوود في فيلمه الجديد Babylon لعام 2022، فالتشبيه المباشر لها بمدينة بابل الفاسدة، واضح جدًا. هذه المدينة التي اجتمع أهلها كي يبنوا برجًا ليطّلعوا على أمور السماء، وكاد الأمر أن يتم لهم، ولكان لتاريخ الأرض والسماء حكاية أخرى، لولا فطنة الآلهة بأن بلبلوا ألسنتهم. وقد سبق شازيل في تشبيه هوليوود ببابل، كينيث أنجر في الخمسينيات في كتابه:Hollywood Babylon/ هوليوود البابلية؛ الذي أبان فيه تفوق الجانب المظلم على المشرق في مدينة الفن السابع.

يبدأ الفيلم بحفلة ماجنة تجمع المنتجين مع الممثلين والأغنياء، في أحد قصور لوس أنجلس في عشرينيات القرن المنصرم، عندما كانت السينما مازالت صامتة. يكلّف الخادم مانويل توريس (دييغو كالفا) المهووس بأضواء السينما أن يحضر فيلًا إلى الحفل! قد يتبادر إلى الذهن بأنّ الفيل إحدى شطحات المخرج، لكنّ الفيل كان عامل جذب لأنظار المحتفلين المخمورين، حتى يتم في الخلفية تهريب جثة فتاة شبه مقتولة في غرفة أحد الأغنياء المعتوهين. فما أراد شازيل أن يقوله من مشهد الفيل: “لقد فضحت خدعة الـ(أبرا كادبرا السحرية) فلا فيلة أخرى ضمن أحداث الفيلم، سأريكم الفراشات التي تحوّلت إلى جثث، لكن هي من صنعت مجد هوليوود”.

يغطي الفيلم حقبة السينما الصامتة ومن ثمّ تحولها إلى ناطقة، وبدايات الركود الاقتصادي في أمريكا، وما نتج عن ذلك من استبعاد ممثلين لهم شهرتهم لم يستطيعوا أن يجاروا التحول التقني كجاك كونراد (براد بيت)، الذي صرخ بوجه زوجته الممثلة المسرحية التي كانت تعلمه كيفية التلفّظ برقي حتى يكون مناسبًا للأفلام الناطقة التي بدأ إنتاجها عام 1927، بأنّه عندما كان يُكتب: “ممنوع دخول الكلاب والممثلين” كان يناضل من أجل السينما وجعلها متعة للشعوب البسيطة والآن يستبعد! لم يسمح كونراد للموجة الأخلاقية الجديدة التي اكتسحت هوليوود بموجب (قانون هايز) الذي يمنع تصوير العري والمخدرات بعد مطالبات من أصحاب الفضيلة، الذين علّلوا الركود الاقتصادي بفجور هوليوود، أن تطلق رصاصة الرحمة عليه، لذلك انتحر. كانت الممثلة (كلارا بو) أيقونة الإغراء في العشرينات، ولقد استمدت منها شخصية نيلّي لاروي (مارغوت روبي). كان لكلارا سيرة حياة بائسة جدًا، فأبوها سكير وأمها مصابة بفصام الشخصية حتى أنّها حاولت قطع حنجرة ابنتها. أحبّ مانويل توريس نيلّي لاروي والتي بمكان ما، هي هوليوود بوجهها الخيّر والشرير. حاول كثيرًا أن ينقذ نيلّي، لكنّها ورطته مع عصابة أضطر بعدها أن يعود إلى المكسيك لينجو بنفسه من الموت. أمّا عازف الساكسفون، فقد آثر الانسحاب على الرغم من كل الأبهة التي منحته إياها هوليوود، إلى إحدى الحانات ليعزف براحة ضمير تشبه أصداء أصوات الزنوج عندما كانت تصدح من حقول القطن، لكنّه حرّ. إذن، شازيل لا يرغب بتصوير أرض أخرى للأحلام، ليداعب خيال المشاهدين، ولا النقّاد، ولا الذين يمدحون هوليوود بهيكليتها الصارمة، كالناقد الفرنسي أندريه بازان في مقارنة بين السينما الأوروبية والأمريكية بقوله، بأنّ ما يميزهوليوود أنّها مؤسّسة منظمة أكثر منها إبداعات أفراد؛ وهذا سرّ عبقريتها واستمرارها. ويرى شازيل بأنّ لهوليوود وجهها المظلم، لكنّ القمر ينير سماء الليل.

لم يحقّق الفيلم المشتهى منه، فقد خسر على صعيد النقّاد والجمهور والإيرادات، فما الغريب في ذلك! أليست هذه هوليوود التي تكلّم المخرج عنها في فيلمه، لكن قبل أن ننساق مع الإحصاءات، فالفيلم على صعيد التصوير والسيناريو والتمثيل فيه الكثير من الجودة والمتعة والتأمّل في هذا الفن، والانتصار لتاريخ الأفراد المغيبين لصالح التاريخ المبهر لهوليوود. بابليون هو فيلم عن أصوات هؤلاء المغيبين،، وذلك عبر إزاحة فيل الأضواء الذي يعمي البصائر والأبصار لنعود ونرى الذين محاهم تاريخ هوليوود، أكانوا نجومًا مشهورين كجاك كونراد نجم السينما الصامتة، أو نيلّي لاروي الفتاة التي تشبه العاهرة التي حملت علم الثورة الفرنسية في لوحة دولاكروا ونست أن تحلق شعر إبطيها، أو عازف الساكسفون الخلاسي الذي طلب منه تسويد وجهه أكثر ليلقى قبولًا لدى المشاهدين. والمكسيكي مانويل توريس المتقنّع بجنسية إسبانية حتى لا يزدرى، هبوطًا إلى الكومبارس. كان أحد أخوة وارنر براذرز، هو مطوّر الشريط الصوتي الذي حوّل السينما إلى ناطقة، قد مات في اليوم السابق لافتتاح أول فيلم ناطق للشركة عام 1927. هذه المفارقات التراجكوميدية كثيرة في هوليوود، بل هي ما جعلها مكنة لا تهدأ وقابلة للحياة إلى الأبد.

لقد صنع شازيل مجده الإخراجي بفلمين: ضربة السوط، وأرض الأحلام. وتقهقره أيضًا بفلمين: الرجل الأول، وبابليون. وهذه الأفلام جميعها تتكلّم عن أفراد كانوا عبّادًا لأحلامهم، لكنّهم صنعوا التاريخ، كنيل آرمسترونغ الذي وصل إلى القمر في فيلم: الرجل الأول. عاد مانويل إلى لوس أنجلوس بعد زمن طويل، وهناك كان في انتظاره كل من جاك ونيلّي وغيرهم الكثير من الممثلين والكومبارس على الشاشة البيضاء، هكذا تصنع هوليوود خلود حتى من تقتلهم في الواقع.

باسم سليمان

خاص سينما الصباح

قد تكون صورة ‏‏شخص واحد‏ و‏نص‏‏
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 03, 2023 08:21

باسم سليمان's Blog

باسم سليمان
باسم سليمان isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow باسم سليمان's blog with rss.