باسم سليمان's Blog, page 14

May 31, 2023

حقائق تكشف لأول مرة عن اللقاءات الأولى بين المسيحية والإسلام – باسم سليمان – مثالي في رصيف 22

تقدّم لنا المرويّات التاريخية العديد من الأخبار، التي ترصد الاتصالات الأولى بين المسلمين والمسيحيين، وخاصة من الجانب الإسلامي، حيث نجد لقاء الرسول محمد عندما كان طفلاً بالراهب بحيرة، عندما سافر مع عمّه إلى الشام. وبعد ذلك هجرة المسلمين إلى الحبشة، بسبب اضطهاد قريش لهم، واستقبالهم باحترام من قبل ملكها النجاشي، وفي واقعة المباهلة عندما أتى مسيحيو نجران لرؤية الرسول في المدينة. وعندما سأل هرقل معاوية بن أبي سفيان قبل إسلامه عن الرسول في الحوار المشهور في الأدبيات الدينية الإسلامية. كان أبو سفيان في تجارة إلى الشام وعلم بذلك هرقل، فاستدعاه وأخذ يسأله عن الرسول، فاستحى معاوية أن يكذب وأخبر بحقيقة محمد إلى أن تنتهي المحادثة بقول هرقل: “فإن كان ما تقول حقاً، فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه”. ومن الجانب المسيحي هناك كتابات يوحنا الدمشقي على سبيل المثال والتي تناولت بعض الاختلافات بين العقيدتين المسيحية والإسلامية. هذه المرويّات خُطّت باللغات العربية واللاتنية واليونانية، وأخذت الجانب الأكبر من اهتمام الباحثين. وفي المقابل أُغفلت الكتابات باللغة الآرامية السريانية التي كتب بها مسيحيو بلاد الشام والعراق لسببين: الأول لغوي، فالاهتمام  قد انصب على الوثائق التي خطّت باللغة العربية واللاتنية، مضافاً إلى ذلك، تحوّل السريانية مع الوقت، إلى لغة شعائرية اقتصرت على الكنائس، ممّا أبعدها من أن تكون مصدراً للكتابة، فيما بعد في هذا الشأن. والثاني، عقائدي، لأنّ الدراسات الماقبل حداثية في العالم الغربي كانت تنظر إلى مسيحي الشرق الأوسط كمهرطقين، بسبب الخلاف الديني بين أتباع مفهوم الطبيعتين للمسيح والذي تبنته الكنسية الغربية بشكل رسمي منذ مؤتمر خلقيدونية 451 ميلادية، وأصحاب الطبيعة الواحدة الذي كان يعتنقه أكثر مسيحي الشرق، ممّا أدّى إلى تنحية وثائقهم من البحث التاريخي.

هذه الوثائق كانت قد نتجت عن اللقاء الأول بين مسيحي العراق وسورية والمسلمين. وقد كتبت باللغة الآرامية السريانية، وقد جمعها وناقشها الباحث مايكل فيليب بن في كتابه الجديد (حين التقى المسيحيون بالمسلمين أول مرّة، مرجع لأقدم الكتابات السريانية عن الإسلام) الصادر عن دار جليس في الكويت 2022 ترجمة عبد المقصود عبد الكريم. وقد قدّم وصفاً وعرضًا  لهذه الوثائق، التي تتنوّع بين سجلات تواريخ، ومراسلات، وأدب رؤيوي، ومحاورات وشذرات أخرى متفرّقة، سلسلها تاريخيّا، بحيث تغطي الفترة، من ما بعد موت الرسول 632 إلى سقوط الدولة الأموية على يد العباسيين عام 750ميلادية.

تكمن أهمية هذه الوثائق من أنّ أكثر النصوص التي كتبت عن بدايات الإسلام من طرف يختلف عقائدياً معه، ولكنّه صدر عن أناس كانوا ضمن سلطة الدولة الإسلامية. وقد أتت هذه الوثائق من مسيحي سورية والعراق، حيث سجلوا انطباعات أولية عن اللقاء مع الفاتح الجديد، سمحت بظهور التصوّرات الأولى للمسلمين من قبل الآخر. تختلف هذه الوثائق عن المدونات البيزنطية واللاتنينة، فهذه الأخيرة نشأت في الخارج من قبل البيزنطيين. لذلك تأتي مدونات المسيحيين الشرقيين مختلفة إلى حدّ ما عن ما كتبه الطرفان المسلم والبيزنطي. فقد سمح تواجد المسيحيين الشرقيين ضمن الدولة الإسلامة لقيام الفرصة لعلاقات أكثر قرباً وتعايشاً مع المسلمين. فقد ناقشت تلك الوثائق حالات الأكل مع المسلمين، وتوريث المسلمين، والزواج منهم، وحتى القتال مع جيوشهم، وغير ذلك الكثير، لكن هذا لا يعني أن جوّاً من التسامح والصداقة وانعدام العدوانية كان هو السائد، بل مزيجاً من كل ما سبق.  

يعرض مايكل فيليب بن هذه الوثائق بشكل متدرّج تاريخيّاً. ويهدف من ذلك إلى رصد الملاحظات والتغيّرات التي اعترت الكتّاب المسيحيين تجاه السلطة العربية الناشئة بقوة، والتي سيطرت خلال فترة قصيرة على أكبر إمبراطوريتين في ذلك الزمان، الفرس والرومان. حيث نجد في الوثيقة الأولى ذكر للرسول محمد، ومعركة اليرموك، وكيف هُزم الرومان، لكن من دون ذكر للدين الجديد، مع التركيز على دور الرسول في توحيد العرب. وقد وجدت هذه الوثيقة من خلال كتابة على الصفحة الأولى لأحد الأناجيل من قبل أحد المعاصرين للحدث. أمّا في رسائل البطريرك إيشوعياب الثالث إبّان الحكم الأموي، فتمنحنا نظرة عن الكيفية التي تم فيها التعامل مع الجباية لصالح سلطة جديدة. حيث نجد البطريرك يشير إلى مقولة المسيح بإعطاء مال قيصر للقيصر. ويلاحظ مايكل فيليب بن بأنّ البطريرك إيشوعياب الثالث، كأنّه كان غير معنيٍّ بالقادم الجديد مع عقائده الجديدة، فقد ركّز البطريرك في رسالته على شؤون إدارية وتنظيمية. بالإضافة إلى ما تقوم به الطوائف المسيحية المتواجدة ضمن الدولة الإسلامية من محاولة استخدام الحكم العربي في تنافسهم العقائدي. وعلى الرغم من ضخامة الحدث الذي شمل المنطقة كلّها، إلّا أنّ رسائل البطريرك إيشوعياب الثالث تأتي ضمن اهتمامه بتنظيم كنيسته في الأعم الأغلب.

يحلّل مؤلف كتاب: (حين التقى المسيحيون مع المسلمين أول مرة)بأنّ الغزوات الإسلامية لم تترك دماراً كبيراً، فقد شهدت النقوش على الكنائس في ذلك الزمن استمراراً لعمليات البناء وحتى إنشاء أبنية جديدة. تدفع هذه الملاحظة إلى الاستنتاج، بأنّ الخلاف الديني بين المسلمين والمسحيين لم يكن واضحاً بالقدر الكافي أو مهماً، حتى تتم مناقشته بشكل أوسع في رسائل البطريرك إيشوعياب. 

اختلفت مواضيع هذه الوثائق حسب تتاليها زمنياً، بحيث نرى استجابة مختلفة مع كل حدث، فبعد تأكّد الحكم الأموي بانتصار معاوية على علي، واتساع الفتوحات الإسلامية نرى بأنّ سجل خوزستان يهتم بالغزوات الإسلامية ويقدم بيانات مهمة حول المعارك التي نشبت. ومن هذه الملاحظات الجديدة لتلك الوثائق نستشف بأنّ الاهتمام المسيحي بالسلطة الجديدة قد بدأ يتبدّل، حيث ظهرت أسفار رؤيوية ترى بأنّ انتصار المسلمين غضب من الله على فساد المسيحيين، وأنّها علامة على نهاية الزمن، كما جاء في سفر رؤيا إفرام الذي كُتب بطريقة شعرية: “… هناك ينطلق شعب من الصحراء/ أبناء هاجر، خادمة سارة… يجبرون على دخول الأرض باسم الكبش/ مبعوث ابن الدمار/ وتكون هناك علامة في السماء/ كما قال ربنا في أنجيله… ينتشر النهابون عبر الأرض/ يأخذون النساء والأطفال أسرى/ ينتزعون الرضيع من أمه/ ويدفعون الأم للسبي”. تضمن سفر إفرام الكثير من الأوصاف المخيفة للغزاة الجدد، لكنّهم كانوا ضمن أجندة الله ليوم الدينونة.

تتابع ظهور تلك الأسفار الرؤيوية مع توطّد حكم عبد الملك بن مروان بعد انتصاره على الزبير وبنائه قبّة الصخرة وتزينها بكتابات قرآنية تعارض العقيدة المسيحية، واعتماد اللغة العربية بدلاً من اللغات التي كانت سائدة قبلاً، وصكّ النقود ذات الشعارات الإسلامية. وتتنبأ هذه الأسفار بنهاية العالم، وأنّ فترة حكم المسلمين قصيرة، سيعود بعدها البيزنطيين للحكم، ومن ثم تظهر أقوام يأجوج ومأجوج، ومن ثم المسيح الدجال، وأخيراً يأتي المسيح. لكن في المقابل كتب يعقوب الرهاوي في سجله التاريخي، بصورة أكثر موضوعية عن العلاقات المسيحية والإسلامية وأظهر معرفة جيدة بالدين الجديد. وقد جاء هذا التغيّر في الكتابات على أثر  استقرار الحكم للأمويين واستمراه زمنيّا، إضافة إلى التأكّد من أن أسفار الرؤى الأخروية لم تكن صحيحة  كرؤيا يوحنا الصغير ورؤيا مثيوديوس، اللتين تنبأتا بالزوال السريع للمسلمين، لكن ذلك لم يحدث.                                                                                               أدّت هذه التطورات في الكتابات المسيحية الشرقية إلى ظهور أدب المحاورات، بين قائد عربي وأحد رجال الدين المسيحيين، كمناظرة يوحنا الصغير ومناظرة بيت حلي. وتقوم هذه المناظرات على أسلوب سؤال وجواب، كاشفة عن تعمّق المعرفة المسيحية بالدين الإسلامي بشكل أكبر. ففي مناقشة بيت حلي، تدور الأسئلة والأجوبة عن مدى انتشار الغزوات الإسلامية والختان، وتفسير التوراة والأنجيل، والتثليث عند المسيحيين، والرسول محمد والقرآن، وتختتم تلك المناقشة بإعلان القائد العربي المسلم، بأنّه لولا الخوف من العواقب لاعتنق الكثير من العرب المسيحية.

ما تم تقديمه، أعلاه، غيض من فيض تلك الوثائق، والتي يجب الرجوع إليها بشكل مباشر في الكتاب، ليس لأنّها كُتبت من داخل البلاد التي سيطر عليها الإسلام، بل لأنّها تفتح الباب على مصراعيه أمام علم التاريخ المقارن والدين أيضًا. فالقراءات السائدة لتلك الفترة كانت تتأرجح بين الوثائق والمرويّات الإسلامية في مقابل الوثائق والمرويّات المسيحية البيزنطية. ومع هذه الوثائق أصبح لدينا جسر تواصل بين قراءتين حكمتا الرؤية على التاريخ الإسلامي وعلاقة المسيحيين في المراحل الأولى بالمسلمين.

باسم سليمان

خاص رصيف22   https://raseef22.net/article/1093437-%D8%A7%D9%D9%D9%D8%A7%D8%A1%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%D8%A3%D9%D9%D9-%D9%D9%D9%D8%B3%D9%8A%D8%AD%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D8%A7%D9%D8%A5%D8%B3%D9%D8%A7%D9 

h

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 31, 2023 08:55

نشيج الدودوك؛ حكايات وتأمّلات في الذات

مقالي في الصباح العراقية2023/05/31

إنّ تدوين السيرذاتية وفق لويس ممفورد، في كتابه: (المدينة عبر العصور) قد بدأت إرهاصاته إبّان اختراع المرآة – المرآة كما نعرفها الآن- في البندقية في القرن السادس عشر. فالمرآة سمحت للإنسان أن يرى صورة وجهه كما يراه الآخر. ترافق هذا الأمر بولادة عصر اللوحات الشخصية/ البورتريه وانتشارها. وكما يذكر ريجيس دوبريه في كتابه: (حياة الصورة وموتها)، بأنّ البورتريه لم يكن مسموحًا به في البداية إلّا للملوك والأبطال. وحتى هؤلاء كان مبرّر تواجدهم في اللوحة أن يكون موضوعها الرئيسي إحدى الشخصيات المقدّسة الدينية. وقد تطوّر الأمر فيما بعد ليسمَح للرجال، بأن تكون لهم لوحة شخصية. وأخيرًا حازت النساء على هذه الميزة. هكذا لعبت المرآة والبورتريهات دورًا بوصفها منصّة متقدّمة للتعبير عن الذات البشرية الفردية وكتابة تاريخها الشخصي الخاص بها. ومنذ ذلك الوقت والكتّاب يراودون ذواتهم في سرديات روائية وسيرذاتية أخذت شكلًا مرآويًا، يعكس الكاتب من خلاله إدراكه لذاته، أو لوحة له يتأمّلها على جدار وجوده.

يأتي كتاب: (نشيج الدودوك/ سيرة روائية؛ للروائي الأردني جلال برجس، الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر لعام 2023) ضمن إطار انعكاس الذات في اعترافات مونولوجية، ولوحة روائية أقرب للتحليل، يفسّر من خلالها برجس نمو ذاته الروائية عبر الزمن والمكان.

إنّ طفولة الشخص هي جذور شجرة شخصيته، هكذا يعود برجس إلى لحظة فارقة واجه فيها قلقًا داخليًا مضجًّا، لربما نتج عن تجارب لها وقعها في النفس الغضّة، كرؤية أول امرأة عارية وتلقيه صفعة منها لاقتحامه خلوتها. واكتشاف أنّ الموت هو نهاية الحياة. وأن من يمنحه المعرفة قد يكون ظالمًا، كما فعل أستاذ الرياضيات الذي جعله يبول في ثيابه، عندما منعه من الذهاب إلى الحمام، وحوداث أخرى كثيرة. هذا الضجيج الداخلي الذي أبعده عن سكينة وطمأنينة الطفولة، دفعت برجس إلى البحث عمّا يسكت هذا الضجيج، الذي كاد أن يمزّق شخصيته في أول تكوينها. ولولا اكتشافه الدواء من خلال حكايات جدّته التي لجمت هذه الفوضى الداخلية لنفسه وجعلتها غير متمنّعة القياد، وحوّلت صاحبها إلى راوٍ، لكان برجس قد أصبح: “ربما أكون إمّا مجنونًا أو مجرمًا مطلوبًا من العدالة”! ومن وقتها وهو يقتدي بتطبيب جدته الفطري عبر القراءة والكتابة والسفر، مروضًا هذا الضجيج الداخلي الذي أسماه: نشيد الدودوك!

لم يرد جلال برجس أن يقدّم سيرته الذاتية بتسلسل زمني محض، وكأنّها تأريخ، بل أرادها محايثة للحظته الحاضرة في عام 2022. فهو بقدر ما يروي للقارئ هذه السيرة إلّا أنّه يعيد اكتشاف ذاته كشخصية روائية؛ ومن هنا جاء توصيفه: نشيد الدودوك كسيرة روائية، لهذا الراوي الذي أصبحه. وهو بذلك يعيد تقليد جدته تلك الحكاءة العظيمة، فهي لم تكن تقصّ إلّا لرغبة ذاتية، بالإضافة إلى ما تتغيّاه في مسامع الآخرين. وعندما سردت القصة التراثية المشهورة في الأردن عن: “طيور شلوى” هؤلاء الأيتام الذين أصبحوا فرسان قبيلة عبد الكريم الجربا، كانت قد حدست بما يعانيه حفيدها، فأرادت أن تعلمه أنّ الحياة هي مشكلة يجب أن نعرف أن نجد لها حلًّا، حتى نستطيع عيشها، وكأنّها بفطرتها قد أخبرته سرّ القص وسرّ الحياة. يقول الباحث الأدبي التطوري بريان بويد كما يذكر جوناثان غوتشل في كتابه: (الحيوان الحكّاء) بأنّ العمل الفنّي بمثابة ملعب للذهن. وكما يؤدي اللعب إلى تنمية عضلات الأطفال فإنّ الحكايا تساعد على تنمية عضلات المخ.

هكذا أعطته جدّته طرف الخيط من أجل ترويض هذا الضجيج الداخلي، وهو من وقتها يقرأ. يقول برجس: (نحن لا نقرأ لنتسلى، نحن نقرأ لنعثر على أنفسنا؛ فنستمر مؤمنين بالحياة والحرية).

يعود برجس بذاكرته إلى الجذر الذي قاده إلى ملء الكثير من الدفاتر باليوميات قبل أن ينمو منه فرع الروائي المورِق، وذلك في تلك المواجهة التي استشعر فيها خطرًا قد ينال من أمّه من قبل أبيه، فوقف في مواجهته صامتًا إلى أن تراجع أبوه عن غضبه. في ذلك الوقت خرج الصغير يبحث عن ملجأ له، فلم يجد نفسه إلّا وهو أمام حانوت يبيع الدفاتر والأقلام، فاشترى دواءه المسكِّن منه، وشرع يخطّ حوارًا عاصفًا على الدفتر بينه وبين أبيه حتى استكانت نفسه.

يعرض جلال برجس حياته من خلال شخوص عائلته وأقربائه: الأب والأم، والعائلة من جد وجدة وعمّه عزيز الذي ورث عنه حب السفر، ورفاقه وقريته حنينا قبل أن تكبر مثله وتصبح مدينة. ومدينة مادبا التي كانت تتراءى له في طفولته كمنارة تعد هذا البحّار الصغير بالكثير من المغامرات. ولم يفت برجس أن يذكر أن التأمل في تلك النساء الواقعيات والخياليات اللواتي أنضجن قلبه وجسده؛ بداية من تلك المرأة التي عرفته بمحض الصدفة أنّ جسد المرأة جغرافية، بقدر ما هو واقعي بقدر ما هو خيالي. إلى أزميرالدا التي أخبرته كيف يصبح أحدب نوتردام الذي كان يطبع مناشير ثورية من خلال حبّه لها. إلى تلك المراهقة التي تشبه رابونزل بشعرها الأسود الطويل.

يكبر الطفل ويصبح مراهقًا، لكنّه لم يتخلّ عن حلمه بأن يطير بمساعدة الحذاء الرياضي الصيني الذي كان تعبيرًا عن حذاء هرمس من دون أن يعرف! ألم يقل يونغ بأنّ الكثير من المشاعر والأفكار تأتنا من الذاكرة الجمعية. أصبح ذلك الشاب مهندسًا عسكريًا في ميكانيك الطيران، لربما تحقيقًا لرغبة أبيه الذي كان عسكريّا في الجيش من دون أن يشعر. سنوات كثيرة قضاها في الصحراء يراقب الوحش الميكانيكي يحلّق في عين الشمس، مؤججًا فيه أحلام السفر والقراءة والكتابة. في تلك الأزمنة الصفراء قرأ جلال كثيرًا وكتب تجاربه الأولى في السرد، وتعرّف على أصدقاء لهم ذات الاهتمامات، لكنّ الضجيج الذي أرعبه في طفولته مازال يتحيّن الفرص لينقض عليه. يواجه جلال هذا الضجيج الذي بدأ يسمع من خلفه موسيقى عذبة بشراء العود ويتعلّم المقامات، إلّا أن أباه يكسر العود، فما يزيده ذلك إلّا إصرارًا على شرائه، لكن مع أول علامة يعزفها تتصدّى في داخله تقطع أوتار عوده الأول. وكما يقول: (يبدو أنّنا لا نرى الأشياء بمعزل عن ذاكرتنا)

أقام برجس هيكله السردي في كتابه نشيد الدودوك على ثلاثة أسفار قام بها إلى الجزائر وبريطانيا وأرمينيا. وثلاثة كتب رافقته: الغريب لألبير كامو، والهجرة إلى الشمال للطيب صالح، وداغستان بلدي لرسول حمزتوف. لم يكن اختيار هذه الكتب عشوائيًا فمن خلالها ناقش برجس مجموعة أفكار.

إنّ مسؤولية الكاتب أمام مصداقية كلمته دفعت برجس إلى مقاربة: (الغريب) تلك الرواية التي حظيت بقراءات كثيرة وتأويلات عديدة، نتجت بسبب أنّ كاتبها فرنسي الجنسية، جزائري المولد، وجودي الفكر، عبثي الأيديولوجيا، دافع عن الحرية والثورات. ومن هنا أمام تلك التناقضات التي عاشها ألبير كامو، هل كان (ميرسو) بطل روايته الغريب تعبيرًا عن ذاته في عبثيتها ووجوديتها المحضة، أم أنّ كامو عبّر من خلال ميرسو عن تناقض مبادئ الثورة الفرنسية مع طبيعة الاستعمار، وأن اللامبالاة التي تلقّى فيها ميرسو نبأ وفاة أمّه رمزًا لانقطاع عرى المبادئ عن الأمّة التي أبدعتها. مهما يكن، فتلك المقاربة التي أوجدها برجس، كان الهدف منها أن يقف الكاتب أمام المسؤوليات التي تفرضها عليه الكلمة، سواء أكان منتجها أو مستمعًا إليها. في قصة جدّته عن طيور شلوى، ما إن سمع شويش الطفل الأكبر بين أخوته الأبيات الشعرية لعجوز يستنكر فيه التعرّض لشرف القبيلة نتيجة الضرائب التي فرضت من قبل العثمانيين، حتى حمل سيفه واتبعه أخوته، فقادوا القبيلة زودًا عن حياضها.

كان على ألبير كامو أن يكون واضحًا أكثر، وعلى الرغم من إدانته للعنف بحقّ الجزائريين المنتفضين، إلّا أنّه قالها صراحة، بأنّه اختار أمه/ فرنسا.

في سفره إلى بريطانيا استكمالًا لعلم هندسة الطيران حمل برجس معه رواية: (الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح إلى بلاد شكسبير وديكنز، فهل كان هو الآخر: “مصطفى سعيد”؟ يسرد برجس عندما كان طفلًا، كيف أن طبيبًا أردنيًا شفاه من ألم في الأذنين، كان خريجًا من بريطانيا. لم تأت تلك الذاكرة اعتباطًا، فبرجس كان يقصد أنّ سطوة العلم والثقافة الغربية على أبناء الشرق، لا تختلف عن تلك السطوة التي واجهها مصطفى سعيد مع الاستعمار الإنكليزي للسودان. أراد برجس من انتقائه لرواية الهجرة إلى الشمال اختبار تحرّره، وأنّه لم يحرق كما فعلت جين موريس ثقافة الشرق التي يعتز بها مصطفى سعيد بطل رواية الطيب صالح، حتى توافق على الزواج منه، بل رأى في شكسبير وديكنز أمداء أخرى له. تلك المقارنة كان الهدف منها توضيح دور الثقافة في لحم الأرومة البشرية التي أنهكتها الحروب.

ومن هذه الرؤية الإنسانية، التي عبّر عنها النفري، وفاتت الغرب، بأنّ كل إبحار إلى الضفة الأخرى يعوّل عليه، كان لا بدّ أن تستكمل هذه السيرة بالذهاب إلى أرمينيا رفقة رسول حمزتوف وكتابه: (داغستان بلدي). طار برجس إلى يريفان عاصمة أرمينينا مدعوًا إلى مؤتمر يناقش الإرهاب مرددًا مع حمزتوف: “أيها المسافر، إذا لم تعرج على منزلي، فليسقط البرد والرعد على رأسك، البرد والرعد …أيها الضيف، إذا لم يرحب بك منزلي، فليسقط البرد والرعد على رأسي، البرد والرعد” وهناك يكتشف برجس معنى ذلك الضجيج الذي كبر معه حتى أصبح موسيقى. إنّها موسيقى آلة الدودوك المصنوعة من شجر المشمش التي يعبر فيها الأرمني عن أفراحه، وأحزانه، وذكرياته، وحاضره، ومستقبله.

طلب من حمزتوف أن يكتب بعض الأبيات عن بلده، فسخر وكتب كتابًا طار في الآفاق. واستمع برجس الطفل لحكاية جدته، فأبدع مقصلة الحالم، وسيدات الحواس الخمس، ودفاتر الوراق ، ونال جائزة كتارا والبوكر وغيرها، لكنّه مازال يعوّل على ابتسامة أبيه بعدما رأى اسم ابنه يذيّل إحدى قصائده المنشورة. لقد تصالح الابن والأب من خلال الأدب، أليس من الممكن أن يتصالح الأخ والأخ في الإنسانية عبر الأدب.

لكلّ منّا نشيده الخاص، قد يكون لآلة الدودوك، أو أيّة آلة أخرى، فالمهم، كما يقول جلال برجس: (الكتاب الجيد، هو ذلك الذي يحسّ القارئ، أنّ كاتبه ارتكب كل ذلك البوح من أجله).

باسم سليمان

خاص الصباح

https://alsabaah.iq/77989-.html?fbclid=IwAR3P-mpZJDbldEM225NGoPxf7f6fhsiDRXipRefJd0ROAOrZjn6QwZPEob0

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 31, 2023 04:59

نشيد الدودوك؛ حكايات وتأمّلات في الذات

مقالي في الصباح العراقية2023/05/31

إنّ تدوين السيرذاتية وفق لويس ممفورد، في كتابه: (المدينة عبر العصور) قد بدأت إرهاصاته إبّان اختراع المرآة – المرآة كما نعرفها الآن- في البندقية في القرن السادس عشر. فالمرآة سمحت للإنسان أن يرى صورة وجهه كما يراه الآخر. ترافق هذا الأمر بولادة عصر اللوحات الشخصية/ البورتريه وانتشارها. وكما يذكر ريجيس دوبريه في كتابه: (حياة الصورة وموتها)، بأنّ البورتريه لم يكن مسموحًا به في البداية إلّا للملوك والأبطال. وحتى هؤلاء كان مبرّر تواجدهم في اللوحة أن يكون موضوعها الرئيسي إحدى الشخصيات المقدّسة الدينية. وقد تطوّر الأمر فيما بعد ليسمَح للرجال، بأن تكون لهم لوحة شخصية. وأخيرًا حازت النساء على هذه الميزة. هكذا لعبت المرآة والبورتريهات دورًا بوصفها منصّة متقدّمة للتعبير عن الذات البشرية الفردية وكتابة تاريخها الشخصي الخاص بها. ومنذ ذلك الوقت والكتّاب يراودون ذواتهم في سرديات روائية وسيرذاتية أخذت شكلًا مرآويًا، يعكس الكاتب من خلاله إدراكه لذاته، أو لوحة له يتأمّلها على جدار وجوده.

يأتي كتاب: (نشيج الدودوك/ سيرة روائية؛ للروائي الأردني جلال برجس، الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر لعام 2023) ضمن إطار انعكاس الذات في اعترافات مونولوجية، ولوحة روائية أقرب للتحليل، يفسّر من خلالها برجس نمو ذاته الروائية عبر الزمن والمكان.

إنّ طفولة الشخص هي جذور شجرة شخصيته، هكذا يعود برجس إلى لحظة فارقة واجه فيها قلقًا داخليًا مضجًّا، لربما نتج عن تجارب لها وقعها في النفس الغضّة، كرؤية أول امرأة عارية وتلقيه صفعة منها لاقتحامه خلوتها. واكتشاف أنّ الموت هو نهاية الحياة. وأن من يمنحه المعرفة قد يكون ظالمًا، كما فعل أستاذ الرياضيات الذي جعله يبول في ثيابه، عندما منعه من الذهاب إلى الحمام، وحوداث أخرى كثيرة. هذا الضجيج الداخلي الذي أبعده عن سكينة وطمأنينة الطفولة، دفعت برجس إلى البحث عمّا يسكت هذا الضجيج، الذي كاد أن يمزّق شخصيته في أول تكوينها. ولولا اكتشافه الدواء من خلال حكايات جدّته التي لجمت هذه الفوضى الداخلية لنفسه وجعلتها غير متمنّعة القياد، وحوّلت صاحبها إلى راوٍ، لكان برجس قد أصبح: “ربما أكون إمّا مجنونًا أو مجرمًا مطلوبًا من العدالة”! ومن وقتها وهو يقتدي بتطبيب جدته الفطري عبر القراءة والكتابة والسفر، مروضًا هذا الضجيج الداخلي الذي أسماه: نشيد الدودوك!

لم يرد جلال برجس أن يقدّم سيرته الذاتية بتسلسل زمني محض، وكأنّها تأريخ، بل أرادها محايثة للحظته الحاضرة في عام 2022. فهو بقدر ما يروي للقارئ هذه السيرة إلّا أنّه يعيد اكتشاف ذاته كشخصية روائية؛ ومن هنا جاء توصيفه: نشيد الدودوك كسيرة روائية، لهذا الراوي الذي أصبحه. وهو بذلك يعيد تقليد جدته تلك الحكاءة العظيمة، فهي لم تكن تقصّ إلّا لرغبة ذاتية، بالإضافة إلى ما تتغيّاه في مسامع الآخرين. وعندما سردت القصة التراثية المشهورة في الأردن عن: “طيور شلوى” هؤلاء الأيتام الذين أصبحوا فرسان قبيلة عبد الكريم الجربا، كانت قد حدست بما يعانيه حفيدها، فأرادت أن تعلمه أنّ الحياة هي مشكلة يجب أن نعرف أن نجد لها حلًّا، حتى نستطيع عيشها، وكأنّها بفطرتها قد أخبرته سرّ القص وسرّ الحياة. يقول الباحث الأدبي التطوري بريان بويد كما يذكر جوناثان غوتشل في كتابه: (الحيوان الحكّاء) بأنّ العمل الفنّي بمثابة ملعب للذهن. وكما يؤدي اللعب إلى تنمية عضلات الأطفال فإنّ الحكايا تساعد على تنمية عضلات المخ.

هكذا أعطته جدّته طرف الخيط من أجل ترويض هذا الضجيج الداخلي، وهو من وقتها يقرأ. يقول برجس: (نحن لا نقرأ لنتسلى، نحن نقرأ لنعثر على أنفسنا؛ فنستمر مؤمنين بالحياة والحرية).

يعود برجس بذاكرته إلى الجذر الذي قاده إلى ملء الكثير من الدفاتر باليوميات قبل أن ينمو منه فرع الروائي المورِق، وذلك في تلك المواجهة التي استشعر فيها خطرًا قد ينال من أمّه من قبل أبيه، فوقف في مواجهته صامتًا إلى أن تراجع أبوه عن غضبه. في ذلك الوقت خرج الصغير يبحث عن ملجأ له، فلم يجد نفسه إلّا وهو أمام حانوت يبيع الدفاتر والأقلام، فاشترى دواءه المسكِّن منه، وشرع يخطّ حوارًا عاصفًا على الدفتر بينه وبين أبيه حتى استكانت نفسه.

يعرض جلال برجس حياته من خلال شخوص عائلته وأقربائه: الأب والأم، والعائلة من جد وجدة وعمّه عزيز الذي ورث عنه حب السفر، ورفاقه وقريته حنينا قبل أن تكبر مثله وتصبح مدينة. ومدينة مادبا التي كانت تتراءى له في طفولته كمنارة تعد هذا البحّار الصغير بالكثير من المغامرات. ولم يفت برجس أن يذكر أن التأمل في تلك النساء الواقعيات والخياليات اللواتي أنضجن قلبه وجسده؛ بداية من تلك المرأة التي عرفته بمحض الصدفة أنّ جسد المرأة جغرافية، بقدر ما هو واقعي بقدر ما هو خيالي. إلى أزميرالدا التي أخبرته كيف يصبح أحدب نوتردام الذي كان يطبع مناشير ثورية من خلال حبّه لها. إلى تلك المراهقة التي تشبه رابونزل بشعرها الأسود الطويل.

يكبر الطفل ويصبح مراهقًا، لكنّه لم يتخلّ عن حلمه بأن يطير بمساعدة الحذاء الرياضي الصيني الذي كان تعبيرًا عن حذاء هرمس من دون أن يعرف! ألم يقل يونغ بأنّ الكثير من المشاعر والأفكار تأتنا من الذاكرة الجمعية. أصبح ذلك الشاب مهندسًا عسكريًا في ميكانيك الطيران، لربما تحقيقًا لرغبة أبيه الذي كان عسكريّا في الجيش من دون أن يشعر. سنوات كثيرة قضاها في الصحراء يراقب الوحش الميكانيكي يحلّق في عين الشمس، مؤججًا فيه أحلام السفر والقراءة والكتابة. في تلك الأزمنة الصفراء قرأ جلال كثيرًا وكتب تجاربه الأولى في السرد، وتعرّف على أصدقاء لهم ذات الاهتمامات، لكنّ الضجيج الذي أرعبه في طفولته مازال يتحيّن الفرص لينقض عليه. يواجه جلال هذا الضجيج الذي بدأ يسمع من خلفه موسيقى عذبة بشراء العود ويتعلّم المقامات، إلّا أن أباه يكسر العود، فما يزيده ذلك إلّا إصرارًا على شرائه، لكن مع أول علامة يعزفها تتصدّى في داخله تقطع أوتار عوده الأول. وكما يقول: (يبدو أنّنا لا نرى الأشياء بمعزل عن ذاكرتنا)

أقام برجس هيكله السردي في كتابه نشيد الدودوك على ثلاثة أسفار قام بها إلى الجزائر وبريطانيا وأرمينيا. وثلاثة كتب رافقته: الغريب لألبير كامو، والهجرة إلى الشمال للطيب صالح، وداغستان بلدي لرسول حمزتوف. لم يكن اختيار هذه الكتب عشوائيًا فمن خلالها ناقش برجس مجموعة أفكار.

إنّ مسؤولية الكاتب أمام مصداقية كلمته دفعت برجس إلى مقاربة: (الغريب) تلك الرواية التي حظيت بقراءات كثيرة وتأويلات عديدة، نتجت بسبب أنّ كاتبها فرنسي الجنسية، جزائري المولد، وجودي الفكر، عبثي الأيديولوجيا، دافع عن الحرية والثورات. ومن هنا أمام تلك التناقضات التي عاشها ألبير كامو، هل كان (ميرسو) بطل روايته الغريب تعبيرًا عن ذاته في عبثيتها ووجوديتها المحضة، أم أنّ كامو عبّر من خلال ميرسو عن تناقض مبادئ الثورة الفرنسية مع طبيعة الاستعمار، وأن اللامبالاة التي تلقّى فيها ميرسو نبأ وفاة أمّه رمزًا لانقطاع عرى المبادئ عن الأمّة التي أبدعتها. مهما يكن، فتلك المقاربة التي أوجدها برجس، كان الهدف منها أن يقف الكاتب أمام المسؤوليات التي تفرضها عليه الكلمة، سواء أكان منتجها أو مستمعًا إليها. في قصة جدّته عن طيور شلوى، ما إن سمع شويش الطفل الأكبر بين أخوته الأبيات الشعرية لعجوز يستنكر فيه التعرّض لشرف القبيلة نتيجة الضرائب التي فرضت من قبل العثمانيين، حتى حمل سيفه واتبعه أخوته، فقادوا القبيلة زودًا عن حياضها.

كان على ألبير كامو أن يكون واضحًا أكثر، وعلى الرغم من إدانته للعنف بحقّ الجزائريين المنتفضين، إلّا أنّه قالها صراحة، بأنّه اختار أمه/ فرنسا.

في سفره إلى بريطانيا استكمالًا لعلم هندسة الطيران حمل برجس معه رواية: (الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح إلى بلاد شكسبير وديكنز، فهل كان هو الآخر: “مصطفى سعيد”؟ يسرد برجس عندما كان طفلًا، كيف أن طبيبًا أردنيًا شفاه من ألم في الأذنين، كان خريجًا من بريطانيا. لم تأت تلك الذاكرة اعتباطًا، فبرجس كان يقصد أنّ سطوة العلم والثقافة الغربية على أبناء الشرق، لا تختلف عن تلك السطوة التي واجهها مصطفى سعيد مع الاستعمار الإنكليزي للسودان. أراد برجس من انتقائه لرواية الهجرة إلى الشمال اختبار تحرّره، وأنّه لم يحرق كما فعلت جين موريس ثقافة الشرق التي يعتز بها مصطفى سعيد بطل رواية الطيب صالح، حتى توافق على الزواج منه، بل رأى في شكسبير وديكنز أمداء أخرى له. تلك المقارنة كان الهدف منها توضيح دور الثقافة في لحم الأرومة البشرية التي أنهكتها الحروب.

ومن هذه الرؤية الإنسانية، التي عبّر عنها النفري، وفاتت الغرب، بأنّ كل إبحار إلى الضفة الأخرى يعوّل عليه، كان لا بدّ أن تستكمل هذه السيرة بالذهاب إلى أرمينيا رفقة رسول حمزتوف وكتابه: (داغستان بلدي). طار برجس إلى يريفان عاصمة أرمينينا مدعوًا إلى مؤتمر يناقش الإرهاب مرددًا مع حمزتوف: “أيها المسافر، إذا لم تعرج على منزلي، فليسقط البرد والرعد على رأسك، البرد والرعد …أيها الضيف، إذا لم يرحب بك منزلي، فليسقط البرد والرعد على رأسي، البرد والرعد” وهناك يكتشف برجس معنى ذلك الضجيج الذي كبر معه حتى أصبح موسيقى. إنّها موسيقى آلة الدودوك المصنوعة من شجر المشمش التي يعبر فيها الأرمني عن أفراحه، وأحزانه، وذكرياته، وحاضره، ومستقبله.

طلب من حمزتوف أن يكتب بعض الأبيات عن بلده، فسخر وكتب كتابًا طار في الآفاق. واستمع برجس الطفل لحكاية جدته، فأبدع مقصلة الحالم، وسيدات الحواس الخمس، ودفاتر الوراق ، ونال جائزة كتارا والبوكر وغيرها، لكنّه مازال يعوّل على ابتسامة أبيه بعدما رأى اسم ابنه يذيّل إحدى قصائده المنشورة. لقد تصالح الابن والأب من خلال الأدب، أليس من الممكن أن يتصالح الأخ والأخ في الإنسانية عبر الأدب.

لكلّ منّا نشيده الخاص، قد يكون لآلة الدودوك، أو أيّة آلة أخرى، فالمهم، كما يقول جلال برجس: (الكتاب الجيد، هو ذلك الذي يحسّ القارئ، أنّ كاتبه ارتكب كل ذلك البوح من أجله).

باسم سليمان

خاص الصباح

https://alsabaah.iq/77989-.html?fbclid=IwAR3P-mpZJDbldEM225NGoPxf7f6fhsiDRXipRefJd0ROAOrZjn6QwZPEob0

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 31, 2023 04:59

May 15, 2023

جنّيّات إنشرين لمارتن ماكدونا، الحياة تتجلّى بتنوّع معانيها

مقالي -باسم سليمان- في صفحة السينما/ الصباح العراقية ليوم الاثنين 15/5/2023

لا تكتمل الخطيئة إلّا بغياب تعدّد معاني الوجود! وهذا ما تغيّاه المسرحي والمخرج الإيرلندي مارتن ماكدونا في فيلمه: (جنّيّات إنشرين 2022) حيث يقدّم لنا جزيرة إنشرين الخيالية عبر كادر تصوير مأخوذ من الأعلى، كأنّها قطعة من الجنّة، فالطبيعة جميلة جدًا وأهلها بسطاء هانئون وخاصة الصديقان: بادريك:(كولن فاريل) وكولم:(برندان غليسون) ، لكن فجأة يخبر كولم بادريك بأنّه لم يعد يريد هذه الصداقة، لأنّ بادريك شخص مملّ! وهو يريد أن يكون لحياته معنى، وذلك بأن يؤلّف مقطوعة موسيقية تخلّده. صُدم بادريك بذلك وسعى بشكل حثيث لإعادة الصداقة، لكنّ كولم يهدّده إن استمر في محاولاته سيقطع أصابع كفّه التي يعزف بها.

عبر هذه الكوميديا السوداء يغوص ماكدونا في حياة أهل الجزيرة، فيتضح لنا جحيمهم المضمَر، فالشرطي ممثِّل السلطة، هو أبٌ قاسٍ يدفع ابنه للانتحار، فيما كاهن الكنيسة يستغل اعترافات المؤمنين للسيطرة عليهم، أمّا صاحبة الحانوت التي تعتبر كصندوق بريد للجزيرة، لا تتورّع عن فتح الرسائل لتعرف محتوياتها، بينما تتجوّل في الجزيرة عجوز أقرب لساحرات مسرحية ماكبث لشكسبير مطلقة نبوءات الموت.

يعتبر بادريك مثالًا للطيبة والحبّ، ولا يختلف كولم عنه، إلّا أنّه أراد لحياته معنى مختلفًا، وهذا ما يرفضه بادريك، فالصداقة والحبّ كافيان لأن يكونا معنى للوجود من وجهة نظره. وهنا يتجلّى السؤال الوجودي، هل في بحثنا عن معنى خاص لحياتنا نقتل معاني الآخرين؟ أليست الحرب الأهلية الإيرلندية التي تدور رحاها في البر الرئيسي بعد الحرب العالمية الأولى، وتسمع أصداء إطلاق نيرانها إلى الجزيرة، بين من يريد الانفصال عن إنكلترا، ومن يريد البقاء تحت سيطرتها، وبين الكاثوليك والبروتستانت، صراعًا للمعاني؟

أراد ماكدونا أن نتعاطف بداية مع بادريك في مواجهة كولم الجاحد للصداقة، لكن هل بادريك الطيب والمحبّ يشعر بمعاناة الآخرين؟ فهو يسأل أخته التي تقتلها الوحدة في هذه الجزيرة، لماذا تقرأ روايات محزنة مادامت ليست مريضة ولم تفقد أحدًا! وعندما يعلن كولم حاجته للوحدة يرفض بادريك ذلك، رغم تهديد كولم بقطع أصابعه، ونتيجة إلحاحه ينفذ كولم وعده. رمى كولم أصابعه المقطوعة نحو بيت بادريك، ممّا أدّى إلى موت حمارة بادريك اللطيفة، وذلك بأن اختنقت بأحد أصابع كولم. يتفصّد بادريك غضبًا، ويعلن بأنّه سيحرق بيت كولم وأنجز ذلك من دون أن يعارضه كولم. لم يقبل بادريك بوجود معنى للحياة غير الذي يعرفه ومن أجل ذلك تحوّل إلى شخص عنيف بعدما كان رمزًا للطيبة.

تغادر أخت بادريك الجزيرة قاصدة البر الرئيسي، لأنّ لا معنى لحياتها فيها. يتشارك كولم مع موسيقيين آخرين في عزف مقطوعته التي من الممكن تسميتها: جنيات إنشرين، بينما تقطر الدماء من أصابعه المقطوعة. وفي ختام الفيلم يظهر بادريك وكولم على شطّ البحر. يشكر كولم بادريك لأنّه أنقذ الكلب من الحريق، فيرد عليه بادريك، بأنّه كائن طيب لا يستحق الحرق! ومن ثم يبدي كولم رأيًا بأنّ الحرب ستنتهي قريبًا، لكن بادريك يخبره بأنّها ستستمر! وفي خلفية هذا الحديث كانت تجلس العجوز خلفهما تراقب!

هناك شبهة عودة الصداقة في نهاية الفيلم بين بادريك وكولم حتى لو كانت منكّهة بالعداوة واختلاف المعاني. هل كان بادريك يحتاج لأن يقطع كولم أصابعه وتهجره أخته ويموت حماره المحبّب، حتى يدرك بأنّ مفاهيم الآخرين عن الحياة، لا يجب أن تتطابق مع مفهومه الأوحد عنها؟

لم تكن العجوز عبر نبوءاتها إلّا مارتن ماكدونا، وهو يقودنا في تعقيدات الشخصية البشرية، فطيبة بادريك أبانت في النهاية عن عنف لا ييأس. أما لامبالاة كولم بصداقة بادريك، فأظهرت أن الصداقة في منتهاها تضحية وغفران. أمّا الفتى الذي يصفه الجميع بالأبله، وينتحر في النهاية نتيجة عنف أبيه، دون أن يتدخل أحد لإيقافه، مع أن الجميع كان يعلم بهذا العنف. فلقد أعاد هذا الفتى الثقة إلى أخت بادريك عندما أعلن عن حبّه لها، ممّا دفعها إلى مغادرة الجزيرة بحثًا عن معناها الخاص. وبينما كان والده الشرطي يبحث عن بادريك لقتله، تخبره العجوز بأنّ ابنه قد غرق في البحيرة، فيكفّ عن مسعاه أمام هول فقدان ابنه الوحيد.

لقد تبدّت جزيرة إنشرين في بداية الفيلم ملائكية بالنظرة العامة، ومع الوقت ظهرت شياطين التفاصيل، ولربما كان بادريك هو الشيطان! على الرغم من طيبته ومحبته. ألم تقل لنا الأسطورة، بأنّ الشيطان كان ملاكًا، ولأنّه لم يصل إلى مبتغاه، تسبب بإهباط آدم وحواء من الجنّة.

لا يذهب ماكدونا لإدانة أحدٍ من أبطاله في جنيات إنشرين، وكأنّه يردّد مقولة أبي يزيد البسطامي: (إنّ في الطاعات من الآفات، ما لا تحتاجون معه إلى أن تطلبوا المعاصي). حاز فيلم مارتن ماكدونا العديد من التكريمات، واستحق جائزة أفضل سيناريو. ونال كولن فاريل جائزة أفضل ممثل في مهرجان فينيسيا ونافس على جوائز الأوسكار.

باسم سليمان

خاص الصباح

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 15, 2023 12:57

May 6, 2023

حصن سليمان: ميثولوجيا الطبيعة – باسم سليمان- مقالي في ضفة ثالثة

عندما تقع عيناك على الحجارة الكبيرة التي بُني منها سور حصن سليمان، والتي تصل إلى عشرة أمتار طولًا، والمترين ونصف المتر ارتفاعًا، ويصل وزن بعضها إلى 70 طنًّا، تحتار كيف اقتطعت، ونحتت، وبنيت بتلك الدّقّة المتناهية. فتدهش من الأمر، وحتى لو كان لديك تصوّر عمليّ ما عن كيفية عمارتها، إلّا أنّك تتخذ منحى تخييليًّا في حكمك، وتقول: من بنى هذا الحصن قد كان من جنّ سليمان! وهذا التعليل قد قالته العرب، عندما شاهدوا آثار تدمر، ليس لاستحالة القيام بمثلها، بل استنباطًا أحفوريًّا أسطوريًّا للتاريخ الذي قصّ على مسامعهم. ولمّا مرّوا بحصن سليمان كانت خيالات الجنّ تتراءى وراء عمارة تلك الحجارة الضخمة.
إنّ حيازة الواقع وفهمه، لا تقوم فقط على المعطى الحسّي، بل التخييلي أيضًا، وذلك لربطه بالأسطورة النشوئية، أو التعليلية، التي كانت علم وعقائد تلك الأزمنة القديمة.
يذهب الباحث طارق أحمد في مجلة “الحوليات الأثرية السورية” إلى تأصيل بناء الحصن استنادًا إلى المعتقدات الميثولوجية، حيث وجد بأنّ حجارته الضخمة قد قدّت من ذات الصخرة المقدسة التي بني عليها المعبد. وهذه الصخرة الضخمة شكّلت ساحة الحصن الداخلية، وعليها أقيم هيكل ومذبح للإله بعلشمين/ زيوس. ويضيف بأنّ كلّ ما نال الصخرة من تنظيم بنائي، من قطع ونحت وصقل، كان من أجل إبراز وظيفتها كصخرة مقدسة ينبثق منها الهيكل المقدس تعبيرًا عن قوة الآلهة. ارتبطت عناصر الطبيعة قديمًا بالعنصر الميتافيزيقي، حيث تصبح الجبال مساكن أو مجالس الآلهة والينابيع والغابات كذلك. ولكي نعلّل السبب بأنّ حجارة السور اقتطعت من الصخرة الأم، لا بدّ من أن نبحث عن معابد أخرى نحتت بالطريقة نفسها. لعبت الصخور الكبيرة والصغيرة دورًا دينيّا في حياة الإنسان، ليس أقلّها أن تنحت منها الأصنام، أو تتم عبادتها بشكلها الطبيعي، أو عن طريق تشكيلها بالعمارة بصورة تخدم تجلي قوة الإله من خلال بنيتها الصمّاء. هكذا نجد معبد زيوس في فقرا/ لبنان قد نحت ضمن الصخرة الضخمة، فيما تركت حوافها من دون تشذيب، وكأنّ المعبد قد ولد من رحم الصخر. تتكرّر هذه الثيمة الهندسية في كثير من المعابد الدينية الوثنية في العالم، وفي سورية، ولذلك حملت النقود الرومانية نقوشًا للصخور المقدسة، تبيّن الدور الذي لعبته الأحجار في تلك الأزمنة، كما الحجر المخروطي الممثّل لإله الشمس في حمص.
لا يكتمل المشهد الميتافيزيقي لحصن سليمان من دون وجود نبع له من القدسية شيء كثير. وهذا النبع يقع في القسم الجنوبي الغربي من حصن سليمان. تكثر الأساطير المتعلّقة بالماء فقد عدته المادة البدئية التي خلق منها الكون. وهكذا تسلسل تقديس الماء والاهتمام بمعانيه في كثير من العقائد الدينية، فليس غريبًا أن يكون الحصن قد بُني على نبع ماء مقدسٍ. وإذا استندنا إلى كتاب “منتخبات التواريخ والآثار” للدكتور جوزيف عبد الله، الذي يذكر فيه مدونات الرحّالة، من أزمنة الصليبين إلى منتصف القرن العشرين، نجد بأنّ هؤلاء الرحّالة قد دوّنوا ما شاهدوه بين اللاذقية وطرابلس مرورًا بطرطوس ومحيطها الجغرافي من معالم طبيعية وآثار  قديمة. وقد ذكروا أخبارًا عن كل الينابيع ذات الصبغة المقدسة، والتي تفيض في أيام محددة من السنة مرتبطة بمناسبات دينية، فيما تبقى جافة طوال العام. وقد لحظ  الرحالة ناصر خسرو هذه الاعتقادات الدينية في المنطقة حول الينابيع.
كان لحصن سليمان اسم قديم، وهو بيت خيخي/ كيكي. ويرى الرحالة رونيه دوسّو بأنّ خيخي/ كيكي مرتبط بنبات الخروع، والكلمة خيخي تعود إلى جذر (قيق) السامي الذي يعني الخروع، وتُنسب له قوى شفائية ضدّ الأمراض؛ إذًا يرتبط المعبد بشجرة معينة، أو بالغابة ككل. كانت الأشجار في القديم ذات أبعاد دينية، لذلك نجد على سواكف أبواب سور الحصن نحتًا لشجرة السنديان، وقربها نحت لسبع مفترس دلالة الخصب والقوة. وقد وجد الباحث ريه كوكيه كتابةً في أحد أجزاء المعبد عن الخاصية الشفائية لنبات لم تحدّد هويته، لكن على ما يبدو أنّه نبات الخروع. ولا ريب أنّ الخروع كان منتشرًا بكثرة في تلك المناطق قديمًا.
بعد أن جمعنا العناصر الثلاثة: الصخرة والنبع والغابة، نستطيع أن نفهم لماذا تم اختيار هذا الموقع لبناء حصن سليمان. فهذا الموقع كان يحتوي على العناصر المقدسة، لذلك كان المكان الأنسب لبناء المعبد. هذه الطريقة في اختيار مواقع المعابد المقدسة منتشرة كثيرًا في تاريخ الأديان الوثنية والسماوية.

 ووضع وصفًا مفصلًا له. وقد أشار دوسّو إلى أن النقش على الباب الشمالي هو تثبيت من الإمبراطورين فاليريان وغاليان للامتيازات التي منحها ملوك سورية لسكان حصن سليمان/ بيت كيكي، وذلك في القرن الثالث الميلادي. وينصّ أحد النقوش على أنّ السكان قد شيّدوا هذا المعبد من مالهم الخاص للإله بيت خيخي/ كيكي أواخر القرن الثاني الميلادي. وقد مُنح المعبد التحريمات الملازمة للمعابد الدينية، فقد نُصّ على أنّ من يلجأ إلى المعبد طلبًا للأمان له حق الحماية من دون سؤال. ورأى دوسّو تشابهًا بين حجارة بعلبك وحصن سليمان. وأثبت دوسّو بأنّ الثقوب الموجودة على الأبواب كانت لتثبيت الأحرف بدلالة وجود بقيّة من ألسنة نحاسية تعلّق الأحرف عليها. وأشار إلى وجود منحوتات عديدة على أبواب الحصن، منها منحوتة لسبع وشجرة سنديان، ونسر باسط جناحيه يحمل صولجانًا ويقف حوله ولدان مقدسان. وقد عمل دوسّو على استخراج رأس سبع مزخرف. وهو يرى بأنّ هذا النقش كان يمثل لدى اليونان رمز القوة.
كذلك مرّ بالحصن الباحث هنري لامنس، الذي لاحظ بأنّ هنالك علاقة وطيدة بين الحصن وجزيرة أرواد، وأشار إلى أنّ السبع المزيّن بشريطة، وهو الذي ذكره دوسّو، غير موجود! يذكر عبد الرحمن الخير في مقال له عن حصن سليمان في مجلة “القيثارة” عام 1946 بأنّ أحد المستشرقين الفرنسيين حاول أن ينتزع رأس عشتار من الجهة الداخلية للباب الشرقي بواسطة فأس. فهل لنا أن نظنّ بأنّ السبع المزخرف أصبح في عهدة الرحّالة دوسّو!
بدأت حياة هذه الحصن قبل الميلاد عندما بناه الفينيقيون/ الآراميون، ومن ثمّ ورثه عنهم الإغريق، ومن بعدهم الرومان. وقد ذكره ياقوت الحموي عندما عسكر جند المسلمين قربه. تتابعت القرون وما زال صامدًا ممثلًا ميثولوجيًّا للطبيعة بأبهى حلّلها: صخرة ونبع وغابة.
يقع الحصن في محافظة طرطوس في المنطقة الساحلية الجبلية في سورية. يبعد عن مدينة طرطوس المتموضعة على الساحل الشرقي للبحر المتوسط حوالي 50 كم شرقًا، وعن صافيتا حوالي 20 كم. ويتوسّط هضبة جبلية تحيط بها التلال. يرتفع حوالي 800 متر عن سطح البحر في الجهة الشمالية الغربية من قمة النبي صالح. كان المعبد محلًّا لعمليات مسح وحفر عديدة في القرن العشرين، لاستكشاف خباياه، لكن نظرة حاليّة إليه لا تستطيع أن تغض النظر عن الإهمال الذي يطاوله، حيث بعض أحجار الهيكل تكاد تتهاوى.

https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/revisions/2023/5/6/%D8%AD%D8%B5%D9-%D8%B3%D9%D9%8A%D9%D8%A7%D9-%D9%D9%8A%D8%AB%D9%D9%D9%D8%AC%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%D8%B7%D8%A8%D9%8A%D8%B9%D8%A9

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 06, 2023 07:37

May 3, 2023

من زجاج لا يحجب الشياطين إلى حكايات ذي القرنين… كيف أنتج العرب الخيالَ العلمي؟ باسم سليمان – مقالي في رصيف22

لا ريب أنّ أدب الخيال العلمي جنس صعب التعريف، وذلك لقدرته الكبيرة على استيراد عناصر أساسية من أنواع أدبية أخرى، وتضمينها في مفاهيمه. يقول ديفيد سِيد في كتابه:(الخيال العلمي- مقدمة قصيرة جدًا) بأن الخيال العلمي قد فُسّر بأوجه متعدّدة، فهوجو جيرنسباك الذي نحت تسميته عام 1929 اعتبره مزيجًا من الرومانسية والعلم والتنبؤ. أمّا روبرت هاينلاين أحد كبار كتّابه، فشرحه، بأنه تخمين واقعي لأحداث مستقبلية. في حين ذهب الناقد داركو سوفين على أنه يعتمد على تقديم بديل متخيل لبيئة القارئ. وذهب آخرون لاعتباره من القصّ العجائبي وحتى التاريخي. وترى الكاتبة جوانا روس بأن مفهوم الخيال العلمي يقوم على سؤال: (ماذا لو) أي تخييل فرضية معينة– على سبيل المثال- كالالتقاء بكائنات فضائية ومناقشة ما سيؤدي هذا اللقاء من إعادة تقييم لقناعاتنا الراسخة عن الجنس البشري. هذه الـ(ماذا لو) تشير وفق الناقد صامويل ديلاني إلى الاحتمالية، والتي تقود إلى أن الخيال العلمي يتأرجح بين الممكن والمستحيل. ومن هذه الرؤى المختلفة للخيال العلمي يرى ديفيد سِيد من المفيد النظر إلى الخيال العلمي على أنّه تجربة فكرية مجسّدة تقتضي تبديل مظاهر واقعنا المألوف أو تعطيلها.

إن تأصيل نشأة جنس أدبي معيّن يأخذنا إلى روافده الأولى، قبل أن تجتمع في نهر واحد، فالرواية كجنس أدبي ظهرت في أوائل القرن الثامن عشر، لكنها تعود بجذورها إلى مغامرات الحمار الذهبي للوشيوس أبوليوس القرن الثاني ميلادي، ودونكيشوت لسرفانتس وغير ذلك الكثير، لكن مع فولبير ودوستويفسكي نضجت الرواية. ولا يختلف الخيال العلمي كجنس أدبي عن هذه السيرورة، فمن لوقيانوس السميساطي في كتابه(القصة الحقيقية ) التي تكلّم فيها عن الصعود إلى القمر والحرب بين أهل القمر والزهرة، والمدينة الفاضلة لأفلاطون، مروراً بيوتوبيا توماس مور، وفرانكشتاين ماري شيلّي، ظهرت الجذور الأولية لسرد الخيال العلمي. ولكي لا نكون متساهلين في تأصيل الخيال العلمي، لنقل عن قصص السميساطي والمدينة الفاضلة لأفلاطون: خيال علمي بدائي، أمّا يوتوبيا توماس مور وقصص شيلّي فلنصفها بأنها: خيال علمي أوّلي، كما بيّن ديفيد سِيد. وهذا التصنيف لا يقلّل من قيمة هذه الأعمال أبدًا، لكن مع ارتباط الخيال العلمي بالعلم كما نعرفه حالياً، عبر ارتباط المعرفة بموثقية معطيات الحواس والتي يتم تمحيصها عن طريق الفكر الاستقرائي والاختبار التجريبي، اُعتبرت نهايات القرن التاسع عشر، هي البدايات الحقيقية له، وخاصة مع جول فيرن وهـ ج. ويلز والمجلات الأمريكية، التي أنشأها هوجو جرنسباك في بدايات القرن العشرين.

إنّ نظرة غير متفحّصة، تكاد تجزم بأن جذور الخيال العلمي تحسم انتماءه إلى العالم الغربي، حيث يقف كتاب: (القصة الحقيقية) للسميساطي كشاهد وحيد على مشاركة الشرق في هذا الجنس الأدبي. ومن هذا المنطلق سنبحث في التراث العربي عن جذور هذا الخيال، مع أن الكتّاب العرب من نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين بدأوا في  كتابة ما يعدّ خيالاً علمياً أولياً، إذا اعتمدنا تعبير ديفيد سِيد الآنف الذكر، حيث ساهم الأدب العربي في العديد من الرؤى اليوتوبية. فكتب فرانسيس مراش (غابة الحق) عام1865 وتبعه الكواكبي بكتابه؛ (أم القرى). ومن ثم يوسف إدريس بـ(جمهورية فرحات)، وسلامة موسى (أحلام اليقظة) عام 1926. هذا لجهة النوع المسمى بأدب اليوتوبيا في الخيال العلمي، لكن للكتّاب العرب مساهمات عديدة فيما يتعلّق بتعريف هوجو جيرنسباك للخيال العلمي، بأنه يجمع بين الرومانسية والعلم والتنبؤ، وذلك على مثال ما كتب جول فيرن وويلز. وسنعدّد بعض هذه القصص والروايات، كرواية (القارة المفقودة) للتونسي الصادق الرزقي، وتوفيق الحكيم في مصر في قصته (سنة المليون) ونهاد شريف في (قاهر الزمن) و (الأزمنة المظلمة) لنبيل فاروق، والمغربي عبد السلام البقالي في (الطوفان الأزرق) والسوري طالب عمران في (العابرون خلف الشمس) والسورية لينا الكيلاني والكويتية طيبة أحمد الإبراهيم.

إذن، لقد ساهم الكتّاب العرب حديثاً في سرود الخيال العلمي، لكن هل نجد في تراثنا بدايات أولية لهذا الجنس الأدبي؟ قبل أن نذكر الأمثلة التي تصحّ كجواب عن سؤالنا. لنتوقف قليلاً عند تعريف مفهوم العجب وفق القزويني، الذي أورده في بداية كتابه: (عجايب المخلوقات وغرايب الموجودات) وكأنه يدافع عن نفسه بذكر تلك العجائب التي لا يقبلها العقل لغرابتها عن منطق ما اعتاده من موجودات، وكأننا مع تعريف داركو سوفين للخيال العلمي، بأنه إدراك اغترابي، أي ينقض ما نألفه من أشياء. يقول القزويني:”العجب حيرة  تعرض للإنسان لقصوره عن معرفة سبب الشيء أو معرفة تأثيره فيه، مثاله أن الإنسان إذا رأى خلية نحل ولم يكن شاهدها من قبل، تعتريه حيرة لعدم معرفة فاعلها، فلو عرف أن النحل هو من قام بذلك بعمل تلك المسدسات التي يعجز عنها المهندس الحاذق عن الأتيان بمثلها، لازداد عجباً” ما يريد قوله القزويني بأن الناظر لا يجب أن يتوقّف عند هذه الحيرة، بل يعمل عقله، فيقبل عجبها، فتنفتح بصيرته لفهمها. لا يختلف القزويني في وضع فصل عن العجب في مقدمة كتابه، كي يبرر توجهه في ذكر تلك العجائب، عن الكتّاب الغربيين في بدايات الخيال العلمي، حيث كانوا يعتذرون عن شطحهم في الخيال.

البانوبتيكون؛ مدينة الملك سليمان الزجاجية:

إن الأمثلة التي نود ذكرها عن بدايات الخيال العلمي في التراث العربي، سنربطها قصدًا بأمثلة مشابهة لها في أهم سرديات الخيال العلمي الغربي، وذلك لتبيان كيف استلهم الغربيون أفكارهم الخيالية العلمية من التراث العربي. وسنبدأ بالرواية الديستوبية (نحن) للروسي يفجيني زيمياتين التي كتبها في بدايات القرن العشرين، وأظهر فيها ويلات الرقابة في الحكم الشمولي، حيث أن المواطنين فيها مراقبون من وراء الزجاج. لا ريب أن زيمياتين أخذ فكرة الرقابة من خلال الزجاج الذي لا يحجب ما وراءه من جيرمي بينتام الذي طرح فكرة مشروع لبناء سجن نموذجي يدعى: بانوبتيكون والذي يعني: الذي يُرى منه كل شيء. حيث يظل السجين منظورًا من قبل سجانيه. يذكر القزويني بأن الملك النبي سليمان عندما كان يشرب الماء من كوز يحجب عنه رؤية ما تفعله الشياطين، لعدم شفافيته، كره ذلك، فابتدع له الجني صخر القوارير المصنوعة من الزجاج ليشرب منها، فلا تحجب عنه رؤية الشياطين وما يفعلون في لحظة شربه. وبعد ذلك أمره بأن يصنع له مدينة من تلك القوارير الزجاجية، فلا يحجب عنه شيء. فبنى له جنيه صخر مدينة من زجاج أسكن فيها جنده من إنس وجان، وأسباط بني إسرائيل، والعلماء والقضاة، فكان إذا ركب الريح على بساطه في هذه المدينة رأى كل شيء، فلا يخفى عليه شيء. إن فكرة الرقابة التي كانت من أهم ثيمات الخيال العلمي في المدن الديستوبية والتي رأيناها عند جيرمي بنتام تعود إلى ماذكره التراث العربي عن الملك سليمان.

حي بن يقظان خلْق الطبيعة، لا الإله!:

يناقش الخيال العلمي كيفية تولّد الحياة متبعاً بذلك خطى العلم، بعيداً عن النظريات الدينية التي تحيل خلق الحياة إلى الإله. كتب ويلز روايته (حرب العوالم) عن غزو كائنات المريخ للأرض، ولاريب أن قارئ روايته قد تساءل كيف خُلقت تلك المخلوقات على المريخ، فهل هناك إله آخر هو من وهبها الحياة أم تولدت من تلقاء نفسها؟ لم يستطع الإنسان الانتصار في رواية ويلز على تلك المخلوقات الفضائية، لكن الميكروبات والجراثيم الأرضية هي من انتصرت. ولولا ذلك لسيطرت تلك المخلوقات التي تعتاش على مص دماء البشر على الأرض. وفي الفيلم الذي استلهم رواية ويلز من بطولة توم كروز لم تنفع أسلحة البشر ولا عقائدهم الدينية في الدفاع عنهم، بل الطبيعة الأرضية من فعلت ذلك، عبر جراثيمها التي لا تملك المخلوقات الفضائية وسائل دفاعية ضدها.

كتب ابن طفيل حكاية، حي بن يقظان، ليبرهن أن الإنسان قادر عن طريق العقل وحده أن يصل إلى الله والأخلاق حتى لو ربته غزالة. وتعتبر حكاية حي بن يقظان أصلاً لرواية، روبنسون كروزو، لدانيال ديفو. يُحكى أنه في جزيرة ملكها رجل شديد الأنفة والغيرة، وكان له أخت جميلة جدا، فمنعها من الزواج، لكن الفتاة تتزوج سراً من قريب للملك يسمى يقظان وتحمل منه. ولكي لا يفتضح أمرها، وضعت الطفل عند ولادته في قارب صغير، فقادته الأمواج إلى جزيرة بعيدة، لا يوجد فيها بشر، فتولت تربيته غزالة. حيث يشبّ حي بن يقظان ويصبح فيلسوفًا من دون مساعدة البشر. لكن هذه إحدى جوانب القصة، فابن طفيل يضع سردية أخرى لولادة حي بن يقظان استنادًا إلى خبريات الأقدمين، بأنه هناك جزيرة من جزر الهند تحت خط الأستواء يتولّد فيها الإنسان من دون أب وأم واسماها المسعودي: الواق واق. ومن ثم يناقش ابن طفيل الشروط الطبيعية من اعتدال حرارة الشمس والهواء والتراب في تلك الجزيرة والتي تؤمن شروطًا لولادة الإنسان من دون أب وأم.

فهل نحن، مع ابن طفيل، عند داروينية مختصرة من التراب إلى الإنسان مباشرة، بدلًا من جدٍّ مشترك لنا مع القرود خرج من رحمه الإنسان، أو إله يخلق الأشياء بكلمة؟ وعليه ما الذي يمنع أن نتصور أن المخلوقات الفضائية أولدتها طبيعة الكواكب التي تسكنها!

الغواصة:

كتب جول فيرن روايته: (عشرون ألف فرسخ تحت الماء) عن القبطان نيمو وغواصته العملاقة، لكن هناك قبطاناً أقدم منه، أراد اكتشاف أعماق البحر، إنه الإسكندر ذو القرنين، فلقد ذكر المسعودي في كتابه: (مروج الذهب ومعادن الجوهر) بأن الإسكندر أمر بصناعة صندوق طوله عشر أذرع في عرض خمس أذرع،  يوجد على جوانبه لوحات بلورية للنظر منها. ودخل فيه مع مساعديه، وقد ختم الصندوق بالرصاص لمنع تسرب المياه إليه، وربطت إليه أثقال  من الحجارة وأوثق إلى الحبال بين سفينتين وأنزل في الماء، فنظروا إلى دواب البحر، فإذا هي على هيئة البشر لكن برؤوس السباع. لقد تخيّل المسعودي غواصة وناقش كيفية منع الماء من التسرب إلى داخل الصندوق، والطريقة التي يجب تثقيله بها، لكي يغوص في الماء عبر تعليق الحجارة عليه، إلى جانب آلية النظر تحت الماء من خلال الكوات الزجاجية. ألم تكن إحدى أنماط الخيال العلمي وصف المركبات التي يسافر فيها الإنسان عبر الفضاء أو تحت الماء، كما في غواصة القبطان نيمو!

ألف اكتشاف واكتشاف:

تعتبر ألف ليلة وليلة مستودعًا هائلًا للأدبيات الغرائبية والفنتازية والخيال العلمي أيضاً، فلِم العجب! يعود حلم الطيران إلى الأساطير القديمة للبشرية، ففي بلاد الرافدين نجد أقصوصة (إيتانا والنسر) الذي صعد على ظهر النسر إلى مملكة الآلهة في السماء. وإيكاروس الذي صنع أجنحة من ريش وثبتها بالشمع وطار، لكن الشمس أذابت الشمع وسقط من السماء. وعباس بن فرناس الذي حاول الطيران، فدقّ عنقه، لكن في ألف ليلة وليلة هناك وسائل أكثر أماناً، كالحصان الخشبي. تقول شهرزاد: “بلغني أيها الملك السعيد، أن الحكيم عرّف ابن الملك لولب الصعود، وقال له افرك هذا اللولب، وإذ بالفرس قد تحرّك وطار بابن الملك إلى عنان السماء، ولم يزل طائرًا حتى غاب عن الأعين، فعند ذلك احتار ابن الملك في أمره… ثم أنه جعل يتأمل في جميع أعضاء الفرس، فقال ما أرى غير هذين الزرّين، ففرك الزر الأول الذي يشبه رأس الديك، فازدادت به الفرس طيراناً… فتركه وفرك الزرّ الثاني، فتناقصت حركات الفرس من الصعود إلى الهبوط”. ليس مهمًا أن يكون الحصان لا النسر هو الذي يطير، بل الإشارة إلى أن الحصان آلة، ولها مقابض تشبه ما نعرفه الآن من مقود الطائرة. والأهم من ذلك أن الحصان لا يطير بكلمة سحرية، وإنما بتحريك آلة فيه، وإن جهلنا كيفية حدوث ذلك، فويلز لم يشرح لنا كيفية عمل آلة الزمن التي طوى بها الزمن إلى المستقبل.

هذه بعض الأمثلة عن أوليات الخيال العلمي في التراث العربي. وما استئناف الكتّاب العرب كتابة هذا الجنس الأدبي في القرن العشرين، نتيجة للتأثر بقصص وروايات الخيال العلمي في الغرب، من دون التنبّه إلى أن تلك الكتابات الغربية في الخيال العلمي تدين في اقتباساتها لتراثنا العربي بشكل واضح، إنما يعود إلى جهلنا بكيفية قراءة تراثنا وإلى سطوة الغرب الحضارية. ومن هذا المنطلق وإن لم نكن كبلاد عربية نملك النهضة العلمية والتقنية والصناعية كما في الغرب، إلا أننا نستطيع أن ننتج خيالاً علمياً قادرًا على مساءلة الرؤى المستقبلية لمنطقتنا انطلاقاً من تبعيتنا العلمية للغرب، وفي الوقت نفسه من استغلال استيعابنا المتزايد للتقانة العلمية الآتية من الغرب، لكي نؤهل الأرضية اللازمة لإفراز سرديات خيالية علمية تماثل ما أنتجه الغرب.

باسم سليمان

https://raseef22.net/article/1092996-%D9%D9-%D8%B2%D8%AC%D8%A7%D8%AC-%D9%D8%A7-%D9%8A%D8%AD%D8%AC%D8%A8-%D8%A7%D9%D8%B4%D9%8A%D8%A7%D8%B7%D9%8A%D9-%D8%A5%D9%D9-%D8%AD%D9%D8%A7%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%B0%D9%8A-%D8%A7%D9%D9%D8%B1%D9%D9%8A%D9-%D9%D9%8A%D9-%D8%A3%D9%D8%AA%D8%AC-%D8%A7%D9%D8%B9%D8%B1%D8%A8-%D8%A7%D9%D8%AE%D9%8A%D8%A7%D9-%D8%A7%D9%D8%B9%D9%D9%D9%8Aخاص رصيف22

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 03, 2023 04:27

April 30, 2023

الرصيف الآخر – باسم سليمان- قصتي في مجلة أفكار الأردنية العدد 409 لعام شباط 2023

أنْ تجلس بهدوء، فهذا يعني أن تدع ظلّك يرسم حركة الشمس التي تتسلّق درج السماء، وهذا سيفضي إلى معرفة كم من الوقت يجب أن تقضيه في الصيد، ولا بدّ أنّه طويل أكثر من خيط الصنارة. كان الضوء والظلّ شهّيين على مكسر الموج؛ كي أحلم أن أكون رسّاماً، فألتقط سمك اللون في اللوحة، هذا ما قلته لصديقي الذي يهوى الرسم الانطباعي، ولا يبرح مرسمه. كنت أفكّر بأنّ ريشة الرسم كصنارة صيد السمك، عندما اخترت الصيّاد الذي سأجلس قربه، فقد وجد مكاناً جيداً لكرسيه، والحظّ كالتثاؤب معدٍ، لذلك جلست قربه على صخرة، أظنّها مناسبة، لأبدأ يوم الصيد الأول لي.

ألقيت التحية عليه، فلم يبادرني بشيء، بل كانت عيناه معلّقتين بالفلينة التي غاصت لتوّها في الماء، وبحركة ارتدادية كالأفعال الانعكاسية استقامت القصبة، وبدأت بالتأرجح يمنة ويسرة، فيما سمكة ترقص في هواء الموت رقصتها الأخيرة، قبل أن تستقر في كفن من قصب.

حضّرتُ عجينة الخبز، وثبتّها أعلى الشصّ، ومن ثم أرسلت قصبتي في الهواء، سقطت الفلينة على وجه الماء وبدأت الانتظار، ومراقبة الوقت يجري في ساعة اليد. مضت ربع ساعة، وفلينتي لا تحرّكها أنغام العمق. تسلّل الخدر إلى ساعدي، فأرحتها عبر غرز القصبة بين قدميّ، مسنداً إياها إلى فراغ بين صخرتين، متابعاً الصيادين من حولي، فكلّما انتشل أحدهم سمكة، أراقبه، ليس حسداً، بل لأغيّر مكاني، فالسمك لا يهدأ في مائه، إضافة إلى أنّ هذا المكان قد أنهى أبعاده هذا الصياد الصامت، فأصبح مجرد نقطة تتمثّل في شصّ صنارته.

تغطس فلينتي، فتجذب معها يدي الممسكة بالقصبة برخاوة. أضغط قبضتي بشدة وأرفعها عالياً، لأجد الشصّ عارياً، إلّا من حرابه الصغيرة. ألصق العجينة من جديد، أقذف بالصنارة إلى الماء، وأنظر إلى سلّة الصياد الصامت، فتبدو كمقبرة جماعية. يمضي الوقت، الساعة العاشرة الآن، أصبحت منهكاً وعطشاً، والعرق جعلني أشعر بالضجر، لم أصطد أيةَ سمكة، أنا من ذهب إلى البحر ورجع عطشاناً! ألملم عدّة الصيد، وأهمّ بالذهاب، فأسمع صوتاً يناديني: يا أنت! خذْ، ألتفتُ إلى الصياد الصامت وبيده السلّة المليئة بالسمك. أمسح العرق عن وجهي، وأقول: أنا؟ فيجيب: نعم أنت!

***

استعجلت القدوم في اليوم التالي، فوجدته في مكانه، حيّيته، وشكرته على سلّة السمك، ردّ بابتسامة مقتضبة وتابع هدوءه.

لم يكن يومي الثاني في الصيد أفضل من الذي سبقه، فلم أحظ، ولو بخيال سمكة، لكنّني تابعت رمي صنارتي، فلم أصطد غير سخرية السمك الذي أكل الطعم وهرب في زرقة البحر.

مدّ الصياد الصامت يده، قاصداً أن أناوله القصبة، فامتثلت لطلبه. قلّب الشصّ بين أصابعه ومن ثمّ وضع العجينة في مكان أعلى بقليل ممّا كنت أفعل، ثم رمى بالقصبة بخفّة لتسقط الفلينة بعيداً في الماء، وأعادها إليّ، وهمس: القصبة يدك الثالثة، فتعلّم استخدامها كيديك الأصليتين، ارخْ عضلات ساعديك، واذهل عن وجودها، ومن ثم استشعر كلّ اهتزاز غريب وماكر، فالموج له اهتزازات متواترة تتسلّل إلى أعصابك دون الإحساس بها، لكن ضمناً هناك هزّة نشاز وعلى أذن يدك أن تلتقطها، في تلك اللحظة، اجذبِ القصبة بسرعة إلى الأعلى.

وفي غمرة إنصاتي له، وإذ بحركة فجائية، فقد انتصبتْ قصبته كراية مزيّنة بسمكة، تخفق في الريح. انطلق نفير الحرب، ارتفعت رايات صيادين آخرين، فلم ألحظ أن دوري قد حان حتى صرخ بوجهي: الآن!

شهرت قصبتي، كانت السمكة هناك، قاب حلم وهروب، رقصت السمكة قليلاً مع رايتي، ثم قفزت إلى الماء، فرأيت محكمة الميدان أمام عينيّ، وحكماً كاد يصدر عن الصيادين، لكن لم يبالِ أحد، كأنّ ما حدث لا يعنيهم، نظرتُ إليه، فلم يعرني انتباهاً. سحبت الخيط، وضعت الطعم حيث وضعه، ثم قذفت الشصّ إلى الماء. – إنّها الهزّة النشاز التي سوف تطربك في المرة القادمة، لا تنظر إلى سلّتك الفارغة، بل انظرْ كم هو البحر كبير، وصنارتك صغيرة، اتساع بهذا الامتداد، احتمالاته كبيرة؛ لكن الانتظار يخفّف من عدد الاحتمالات، بل يجعلها على عدد أصابعك. النوتة جاهزة، ما عليك إلّا أن تنقر بإحساس مرهف على الوتر، وستسمع اللحن الذي تحبّ، وستجده كلّما كنت قادراً على الصمت بشكل أكبر.

صمت الصياد من جديد، وأنا كذلك. مرّ الوقت من أمامي كأنّه سمكة. اختفت ساعة يدي، بدأت أسمع حركة عقرب الثواني؛ تك، تك، من زعانف السمك الذي يقترب ويبتعد من عقرب الدقائق، إلى أن دقّت تمام ساعة الشصّ، فتحت السمكة فاها، وانطلق عصفور الساعة يعلن تمام انتصاب القصبة. كانت هناك كقلعة رفعت الراية البيضاء، سحبتها بهدوء، قبضت عليها بأصابعي، تحسّست الأوتار، رفعت النوتة عن الشصّ، شممتها كان لها رائحة المدى.

كانت حصيلة صيدي اليوم سمكتين، وسأقول للأصدقاء: إنّ حظي اليوم كان سيئاً، ليس كالبارحة، وسيصدّقون ذلك، فسلّة البارحة، هي البرهان.

***

أصبح الأمر تحدياً، فقد جئت اليوم باكراً، فسلّتي يجب أن تُملأ بالسمك. مازلت في موقعي نفسه، فلو كان الصياد الصامت يجد في الانتقال جدوى؛ لترك مكانه، فهو أكثر الصيادين حظاً، وسلّته دوماً عامرة.

تقريباً، كادت الشمس تنهي سلم الصعود إلى كبد السماء، وقد أتممت خمس محاولات فاشلة، أرى بهن السمكة تقول لي: ابتسم، سألتقط لك صورة، أريها إلى سكان عالم الماء، ومن ثم تختفي في الأزرق. تمنّيت لو أنّ السمك يملك علامات فارقة غير قصة النوع، لكي يكون لطريدتي هوية، أميّزها بها عن غيرها من السمك، عندما تقبض أصابعي عليها، فأهمس بأذنها: ابتسمي، سألتقط لك صورة، أريها إلى سكان عالم البر.

ثلاث سمكات صغيرات، أيّ صيد هذا! ما زلت قادراً على الصمود. بدأ الصيادون ينسحبون، عندما تربّعت الشمس في وسط السماء، كذلك شرع الصياد الصامت في جمع عدّة صيده ، على الرغم من أن سلّته لم تكن ممتلئة هذه المرّة، ولكن بالنسبة لي، كان صيده وفيراً. وعندما انتهى، أشار بيده إلى مكان آخر على الشاطئ، وقال: غداً، أتذهب إليه؟ قلت له: أين؟ قال لي: إلى الرصيف الآخر على ما يبدو أنّ السمك في هذا المكان، قد أخذ حذره كثيراً. السمك يتعلّم، فكل سمكة قبل أن تخرج من الماء تترك وصية تحذيرية إلى كائنات البحر: “ليس كلّ ما في متناول اليد يُعدّ جيداً، يجب بذل الجهد للحصول على الطعام الآمن”. لحظتها طربت أصابعي للحن المحبّب، وإذ بسمكتي الرابعة، قلت له: إنّها سمكة لم تسمع بعد الوصية، فأجاب: بل، الوصية لك، غداً أراك! وأنا في حيرة من ردّه، اقترب رجلان منه، انتشلاه من كرسيه، كما تنتشل السمكة الكبيرة بالشبكة، وأخذاه إلى سيارة قريبة، كان مشلولاً. واقفاً كصنارتي أنظر إليه، رفع يده من نافذة السيارة: غداً، ألقاك هناك.

تبتعد السيارة، تهتزّ قصبتي كإبرة مسح الزلازل، ثم تتوقّف، فأرى بطرف عيني السمكة ترسم خطاً منحنياً في الهواء، وتغوص في الأزرق، بعيداً إلى الرصيف الآخر.

باسم سليمان

خاص أفكار

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 30, 2023 07:02

خيانات عديدة في فيلم الإفطار الأخير – باسم سليمان

مقالي في الصباح العراقية العدد 5670 تاريخ الأجد 30 نيسان 2023

تحيل جملة (الإفطار الأخير) إلى أعظم الخيانات في التاريخ؛ وهي (العشاء الأخير)، حيث سلّم يهوذا المسيح بعد أن قبّله. يستيقظ الخيّاط سامي (عبد المنعم عمايري) ليجد زوجته رنده (كندة حنا) قد أعدّت له فطورًا ملكيًا، لتخبره بعدها، بأنها قد حدست بأن هذا يومها الأخير، وتطلب منه أن يتزوج من جمانة بعد وفاتها، لأنها تحبّه جدًا، فيجيبها سامي، مستغربًا طرحها، بأنه لا يحب، هذه الجمانة. عبر هذه المفارقة يبتدئ المخرج السوري عبد اللطيف فيلمه، حيث تتحقّق نبوءة رنده وتموت نتيجة سقوط قذيفة هاون. تجري أحداث الفيلم في حارة شامية، حيث افتتح سامي محلًّا للخياطة، كان مقصدًا لرجالات الدولة المهووسين بالبدلات الرسمية، فيلبي سامي طلباتهم بالحضور إلى مكاتبهم، ممّا أمّن له علاقات جيدة مع السلطة، سمحت له بخدمة أهل حيّه، لكنّه يفقد بهذه العلاقة الكثير من حريته، ففي عزاء زوجته كان يجب أن يفتح محلّه ليكمل خياطة بدلة رسمية لأحد المسؤولين.

ترتبط مهنة سامي بقصة (خيّاط الملك) الذي نسج له ثوبًا لا يُرى، إلى أن صرخ أحد الأطفال بأن الملك عار. لكن سامي يخيط لرجالات السلطة بدلات رائعة، ليظهروا فيها إلى العلن، وكأن البلاد ليس فيها حرب. فسامي عبر إظهاره رجالات السلطة، بأبهى حلّة، خان قصة الخيّاط الذي فضح تهافت الملك. أمام هذا الضغط الوجودي يعرض عليه صديقه؛ مساعد أحد المسؤولين، أن ينزل ضيفًا لدى أبيه في جبال الساحل السوري. وهناك يتعرّف على الرجل العجوز الذي يلعب دوره المخرج والذي فقد زوجته مؤخرًا، ليجد فيه رجلًا أنتج تأقلمًا ساخرًا من الحياة؛ أسواء من وحدته حيث هجره أولاده إلى حيواتهم وزوجته إلى الآخرة، بينما تتساقط صواريخ الإرهابيين على حقل زيتونه، فيواجهها بلامبالاة شجاعة، تثير استغراب سامي. يعود سامي إلى دمشق ويتزوج من جمانة، وفي ليلة دخلته يتخلّص من صورة زوجته المتوفّاة المعلّقة على الحائط بالرغم من اعتراض شبحها. وفي خضم مشهد حميمي مع زوجته الجديدة يتصل فيه أحد المسؤولين، لأخذ مقاسات بدلات جديدة لأحد أصدقائه. يلبي سامي طلبه من دون اعتراض على الرغم من دهشة زوجته جمانة، مع أنها الليلة الأولى لهما معًا. وفي صبيحة زواجهما على إفطار ملوكي، يعدها بأنه سيترك مهنة الخياطة ليتفرّغ لحياتهما الجديدة.

رأينا وجود خيانات عديدة ترتكب لربما سهوًا أو قصدًا، عن حب أو كره، في سياق أحداث الفيلم، فرنده لا تكتفي بموتها، بل كانت كما أوضح شبحها عاقرًا، لم تمنح سامي ولدًا، لكنها تحب سامي بجنون وهو يحبها بجنون مضحيًا برغبته أن يكون أبًا. كذلك سامي يخون مهنة الخياطة عندما أوهم المسؤولين بأن ثياب البلاد غير ممزقة، بل جديدة كحال بدلاتهم الرسمية ويخون صديقه الشاعر بأن يستمرأ كسله وتبطله من دون إيقاظه، بأن الكلمة حتى تكون شعرية يجب أن ترتبط بالفعل. ويخان سامي من أبي فتحي الذي طلب منه واسطة لإخراج أخيه من قبضة الأمن، مع أنه لا ينفك ينعت سامي، بأنه كلب السلطة. وعندما يرفض سامي ذلك بعد معرفته بأن أخا أبي فتحي كان إرهابيًا. ينتقم منه أبو فتحي ويلغم سيارته التي تنفجر منهية حياة سامي في اليوم الذي قرّر فيه أن يغيّر تاريخه.

إن السؤال الذي يطرحه الفيلم، وبشكل مضمر؛ هل كان سامي الخائن الأكبر بحقّ نفسه؟ لأنه كان الزوج الصالح لزوجته، والمواطن المطيع لدولته، والجار الكريم لأهل حارته، والصديق المناسب لشاعر اختل ميزانه! وعندما قرّر أن يحتجّ على سيرة حياته السابقة، ويبدأ حياة جديدة مع جمانة، تم اغتياله من قبل الإرهاب. هناك مشهد في الفيلم يساعد فيه سامي شابًا بإطلاق سراحه، بعد أن اعتقلته قوى الأمن على أحد الحواجز التي أوجدتها الحرب، حيث يبدو الشاب ممتعضًا ورافضًا لمسعى سامي!

كان هناك حياة حقيقية تنتظر سامي مع جمانة، لو لم يتم اغتياله، والتي هرعت بثوب النوم، تحمل دلو ماء تساعد فيه أهل الحي بإخماد النار ولربما إنقاذ سامي. ينتهي الفيلم بمشهد بلون نيغاتيفي يجمع سامي ورنده تعلوهما لمبة كهربائية وخلفها أبنية كأنها مهدمة، مجتمعان على طاولة فيها كؤوس الخمر دلالة على أنهما في دنيا الآخرة؛ يتناولان العشاء (الأخير)، محتفلين بعودتهما إلى بعضهما. وبهذا المشهد تستكمل الخيانات في الفيلم. أنشأ عبد اللطيف سردية فيلمه بخيانة مقصودة لواقع الحرب السورية إلى حدِّ ما، كي لا يقع قدر المستطاع بشرك التجاذبات السياسية، فأجمل ما في الفيلم كان المسكوت عنه. وذلك حتى يكون قادرًا على الإفصاح عن الإشارات والرموز، ومن ثم ترك تأويلها لكل مشاهد حسب زاوية رؤيته، عبر كاميرا لطيفة البؤرة، وسيناريو حسّاس للمفارقات التي امتلأت بها حياة سامي، وكل ذلك يسبح في موسيقى هادئة.

الإفطار الأخير فيلم للمخرج السوري عبد اللطيف عبد الحميد من إنتاج عام 2021 حائز على جائزة أفضل سيناريو في مهرجان الإسكندرية السينمائي دورة 37 لعام 2021. تمثيل عبد المنعم عمايري وكندة حنا.

باسم سليمان

خاص الصباح

قد تكون صورة ‏‏‏٤‏ أشخاص‏ و‏نص‏‏

أعجبني

تعليق

مشاركة

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 30, 2023 03:29

April 10, 2023

المشي فلسفة وثورة وتصوّفًا: عودة إلى الطبيعة المحضة – مقالي في ضفة ثالثة – باسم سليمان

يقول جون ويليامز: “ما فائدة الدنيا الواسعة إذا كان حذاؤك ضيقًا”. تضمر مقولة ويليامز فكرة تخلّي الصوفية عن متاع الدنيا؛ من ماديات وأفكار، المرموز إليها بالحذاء الضيق، ومن ثم ارتياد هذا الوجود مشيًا. يذكر فريديريك غرو(1) رأيًا للأنثروبولوجي هاينريش زيمر بأنّ  الفلسفة الهندوسية تميّز بين أربعة مسارات عن الحياة؛ آخرها هي مرحلة: الحاج المتسوِّل، وفيها ينطلق الشخص في سعي ديني عبر الدروب. إنّ الشكل المادي لهذه الرحلة الروحية هو المشي، والمشي قليلًا ما يكون مقصدًا لذاته، لكنّ الحاج الهندوسي الهائم على وجهه يجعله مقصدًا لذاته. فالمشي لا يحتاج إلى تدريبات، ولا تقنيات، ولا يوجد فيه منافسة مع آخر، ولا يرتب نتائج، كل ما يحتاجه الماشي ساقين وعصا يتوكأ عليها. المشي هو أن تأخذك الدروب في متاهاتها، وبالمقابل أن تطويها بقدميك، وفيها يزهد الحاج عن كل شيء، حتى يُعطى كل شيء.

لم يكن أرسطو وتلاميذه الذين أطلق عليهم تسمية المشائين، مشّائين كبارًا، كنيتشه ورامبو وروسو، لكن كان التفكير لديهم مقترنًا بالمشي، وهم يشبهون بذلك الفلاسفة الرواقيين، الذين كانوا يزرعون رواق مدرستهم بالمشي ذهابًا وإيابًا، فيما تحتدم نقاشاتهم، فما بين كلمة الرواق/ Peripatos وكلمة التحدث أثناء المشي/ Peripatein صلة اشتقاقية في اللغة الإغريقية.

في بلاد الإغريق القديمة، كان الكلبيون ومعلمهم ديوجين مشّائين كبارًا، فرغبتهم الكبيرة في تحطيم المعارضات الكلاسيكية بين ثنائيات الوجود، دفعتهم إلى تبسيط الوجود إلى عناصره الأولية والعودة إلى الطبيعة المحضة، التي تعارض الطبيعة الثقافية، لأنّ الحقيقة الحقّة تكمن في الرياح التي تضرب البشرة، والشمس الساطعة، والعواصف الرعدية، حيث تعاش التجربة بشكل عار، فالكلبي لا يحتاج إلّا أقل العناصر الضرورية لكي يحيا؛ قدمان قاسيتان لكثرة المشي وعصا وجراب صغير، وبعدها يمتلك الكون ساخرًا من ابتسامة الفيلسوف الحكيم الهادئة.

إنّ المشّائين الأوروبيين الذين وجدناهم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، هم استمرار للفلاسفة الكلبيين، فنيتشه يرفض أي فكرة لم تتشكل في الهواء الطلق، ويجب أن تكون ناتجة عن حرية الجسد واحتفال العضلات بها، فالأحكام المسبقة تأتي من السرير، من الخمول، وهي برأيه الخطيئة الكبرى. كان كتاب (الماشي وظلّه) الذي يقول عنه: “كل شيء في هذا الكتاب، ما عدا ربما بضع أسطر، تم التفكير فيه وأنا أمشي، وتم تسجيله على عجل في ستة دفاتر صغيرة” ولم تكن كتبه الأخرى من (جينولوجيا الأخلاق – العلم المرح- ما وراء الخير والشر – هكذا تكلم زرادشت) إلّا نتاجًا لفعالية المشي، يقول: “أجد نفسي مرّة أخرى ناسكًا، يمشي عشر ساعات بخطوات الناسك”. يحلّل نيتشه مذهبه، وكأنّه كلبي من زمن الإغريق: “نحن لسنا من أولئك الذين يفكرون فقط في خضم الكتب التي تنتظر فكرتها أن تولد من محفزات الصفحات؛ تتمثل روحنا في التفكير في الهواء الطلق، والمشي، والقفز، والتسلق والرقص، ويفضل أن يكون ذلك في الجبال الوحيدة أو على شاطئ البحر”.

لا يختلف نيتشه عن رامبو الذي قال عنه فرلين بأنه: “الرجل الذي انتعل الريح” فكتبه: (الإشراقات- والقارب السكران- وفصل من الجحيم) كانت نتاجًا لذلك الهروب الكبير من منزله: “وداعًا يا هنا، وإلى أي مكان” هذه كانت اللازمة – لربما- في بداية كل انطلاقة كان يمضي بها رامبو إلى أن وصل إلى نهاية المطاف مبتور الساق على سرير في مرسيليا، حيث كتب عنه في سجلات مشفاها: “ولد في شارلوفيل(2) وكان عابرًا مرسيليا”. تذكر أخته بأنّه قال لها قبل موته: “أنا سيواريني التراب، وأنت ستمشين تحت الشمس”. ماذا يعني المشي لهولاء الجوّابة الأبديين الذين عارضوا فكرة أرسطو العظيمة بأن: “الإنسان حيوان ناطق” بأنّه حيوان مشّاء! يقدم الفيلسوف الأميركي إمرسون الإجابة، بأنّ المشي عبر الغابات والجبال يجعله ينسلخ عن جلده الذي شكّلته الثقافة، كما تنسلخ الأفعى من جلدها القديم، حيث يعود طفلًا أو لا شيء، ليرى كل شيء.

شكل المشي لهؤلاء المفكرين ثورة على كل شيء، ولذلك لن نستغرب أن يجعل غاندي المشي التعبير الحقيقي عن ثورته اللاعنفية، فقد مشى هو وأتباعه من أجل كسر احتكار سلطات الاحتلال البريطانية للملح في الهند. ومشى من أجل وأد العنف الذي اندلع بين السيخ والهندوس والمسلمين بعد انسحاب بريطانيا. كان غاندي يرى بالمشي، برتابته وبطئه، طاقة الكون الأنثوية الساكنة والتي تعارض طاقة الذكور العنفية وكأنّه عبر المشي يعيد التوازن إلى طاقة الكون: الين/ الأنثى واليانغ/ الذكر التي اختلت بسبب عنف الذكر. يخاطبه الشاعر طاغور: “امشِ وحدك/ إن لم يردوا على ندائك، امشِ وحدك…يا أيّها النذير/ دُس على الشوك/ وامشِ وحدك على الطريق الملطخة بالدماء”.

في عصرنا الحديث رُبط المشي بالصحة الجسدية والعقلية، لكن لم نعد نرى مثل هؤلاء المشّائين الكبار الذين غيروا وجه الثقافة والفكر من مثل كانط، هولدرين، ثورو وغيرهم. لقد تم تنميط المشي وقد عبّر فريديريك غرو مؤلف كتاب (المشي فلسفة) عن نقطتين مهمتين في فلسفة المشي تغيب عنه حاليًا؛ الأولى: الرتابة؛ فالماشي الحقيقي لا يهدف إلى تحقيق نتائج زمنية من خطوه، فالهوس الذي يعتري مشاة هذه الأيام بتحقيق توقيت معين، يخالف فلسفة المشي، أمّا الثانية، فهي البطء. وهاتان النقطتان تضعان الماشي في الزمن والمكان الصحيحين، فيمتلكهما بقدر ما يفنى بهما. إنّ البطء ورتابة الحركة في المشي دفعت لودفيغ فيتغنشتاين للقول: “بأنّ الرابح في الفلسفة؛ هو الأبطأ”؛ ومع ذلك نحت رودان المفكِّر على هيئة رجل جالس تسند يده رأسه المثقل بالأفكار!

من الملاحظ أنّ ازدهار المشي كحالة فلسفية في أوروبا يرتبط بالحقبة الرومانسية التي مجّدت الهروب نحو الطبيعة، لقد كان هذان النمطان – المشي والرومانسية- سعيًا إلى الهروب من تغوّل المدينة التي طحنت فرادة الإنسان والتي لم يكن من الممكن استعادتها إلّا بالوحدة والعزلة والتأمل الذي تمنحه الطبيعة للماشي. كذلك لم يغب المشي عن الجوانب الدينية وخاصة في الحجّ نحو الأماكن المقدسة، لكنه كان مشيًا من أجل رصيد من التحمل والمعاناة يستبدلهم الحاج بالتطهّر من ذنوبه. فالمشي والتجوال عبر الدروب لم يكن ممدوحًا في الأزمنة القديمة، لأنّه كان صفة لقطاع الطرق واللصوص والشحاذين، وقد كان يفضّل عليه النزهة البسيطة في البساتين والحدائق، وعندما كسر الشاعر وردزورث هذه الصورة النمطية عن أنّ المشي من اختصاص الشحاذين والمعوزين، قُوبل بالرفض، لكنّه في النهاية كما يقول عنه كريستوفر مولي: “كان من أوائل من وضع ساقيه في خدمة الفلسفة”.

في تراثنا

لا نصادف مشّائين كبارًا في تراثنا، ولم تكن هناك نظرة فلسفية له. ولم تكن الأخلاق حينها تمدح التجوال بالمعنى الذي ورد عند نيتشه أو روسو. كان لدينا رحّالة؛ والمرتحل يختلف عن المشّاء، وذلك بأنّ الأول يقصد مكان ما، فيما المشّاء لا مقصد له، وإن كان يصل إلى أمكنة أو مدن معينة. ومع ذلك تمتلئ القواميس العربية والأشعار بذكر المشي!

ومشيتَ مشية خاشع متواضع(3): إنّ اعتناء العربي بالفراسة وتقفّي الأثر، قاده إلى ملاحظة فعالية المشي وربطها بشخصية الماشي، فأصبحت دالًا على أخلاقه، وأفكاره، وعواطفه، وسجاياه، وأهوائه. وقد قال الشاعر الأندلسي يحيى الغزال:

يُعرَفُ عَقلُ المَرءِ في أَربَعٍ

مِشيَتُهُ أَوَّلُها وَالحَرَك

وَدَورُ عَينَيهِ وَأَلفاظُهُ

بَعدُ عَلَيهِنَّ يَدورُ الفَلَك.  

ترتبط المشية بصاحبها، فإن كان فرحًا استخفّه الفرح، فيكاد يمشي وثبًا، وإن كان حزينًا تثاقلت خطواته حتى كاد يجرّ قدميه جرًّا. وتحضّ الديانات على أن يقصد المرء في مشيته، أي أن يعدل ولا يتكبّر، فالقصْد، هو بين الإسراف والتقصير.

يقول الشاعر عدي بن زيد:

فامشِ قاصدًا إذا مشيت وأبصر

إنّ للقصيد منهجًا وجسورًا. 

أمّا معنى أن يمشي المرء هونًا، أي بتواضع وسكينة. وهناك مشية التقلّع، أي أنّ المرء لا يبطئ ولا يعجل، وكأنّه ينحدر من ارتفاع؛ وهي صفة لأصحاب أولي العزم والهمة؛ وهي أعدل المشيات وأبعدها عن مشية الهوج والتماوت والمهانة. يقول حسان بن ثابت:                 

دعوا التخاجؤ وامشوا مشية سجحًا

إنّ الرجال ألو عصب وتذكير؛ والمعنى: (دعوا التخاجؤ: هو مشي فيه تبختر، والمشية السجح: السهلة الحسنة، والعصب: شدة الخلقة، والتذكير: كونهم على خلقة الذكور). وقد عدّد ابن القيم الجوزي هذه المشيات (4) فهناك مشية السعي، وهي التي يطلب بها العمل، ولها معنى فقهي متعلق بمناسك الحج في الدين الإسلامي. تكاد الصفات السابقة  للمشي من القصد والهون والتقلّع والسعي أن تكون تنويعًا على هيئة واحدة من المشي المقبول دينيًا وأخلاقيًا واجتماعيًا. أمّا إذا أسرع المرء في مشيه، فيسمى رملًا. وإذا قارب بين خطواته سُمي خببًا. وإذا قارب العدو سُمي نسلانًا، وهو المشي الذي لا يزعج الماشي ولا يكربه بمشقات العدو. وإضافة لهذه المشيات؛ هناك، مشية الخوزلي أي أن يتمايل المرء في خطوه. ومشية القهقرى، أي أن يخطو إلى الوراء. ومشية الجمزي، وكأنّ المرء يثب وهو يمشي، وهي أقرب للعدو، أما مشية التبختر، فهي مشية أولي العجب والتكبّر.

قد لا نجد في التراث العربي بابًا في كتاب، أو كتابًا يخصّ فعالية المشي بشكل مباشر، كما وجدنا في الغرب الحديث. فبدءًا من فلاسفة الإغريق اعتبر المشي إطارًا لفعالية فلسفية، لكنّهم تعاملوا معه بشكل بديهي، بحيث لا يحتاج إلى الشروح. حيث نجد الكلبيين وكبيرهم ديوجين يحتفون بالمشي، كذلك أرسطو وتلاميذه الذين أطلق عليهم تسمية المشّائين.  وعند الرومان كانت هناك حكمة صغيرة تعبر عن دور المشي في الفكر وكان يقال عند مواجهة معضلة ما(5): “يتم حلّها عن طريق المشي” لكن لم يذكر المشي في التراث الفكري الغربي بشكل خاص إلّا مع جان جاك روسو. وفي تراثنا العربي لا يختلف الأمر، فقد أهملت فعالية المشي من أن توضع عنها الكتب والرسائل، إلّا أنّ هذه الفاعلية الاعتيادية للكائن البشري تم الإضاءة عليها بشدّة، فالمعاجم العربية مملوءة بألفاظ المشي، وأنواعه، ودلالاته، والفروق الدقيقة بين مشية وأخرى. كذلك احتفى ديوان العرب بالمشي، فنجده مذكورًا في الغزل، والفخر، والهجاء والرثاء ومظانًا أخرى كثيرة.

تغزّل الشاعر العربي بمشية الأنثى وجعلها إطارًا يحتضن محاسنها، وفي الوقت نفسه أبان عن اختلاف بين مشية الذكر والأنثى، فما بين مشية الذكر التي قال عنها حسان بن ثابت: (دعوا التخاجؤ وامشوا مشية سجحا/ إنّ الرجال ألو عصب وتذكير) وما تتضمنه من قوة وشدة لكن بعيدة عن التبختر والتكبر، تأتي مشية الأنثى على العكس من مشية الذكر، فتكون على استحياء وضعف كمن نزف دمه، يقول امرؤ القيس:                                       

وإذا هي تمشي كمشي النزيف

يصرعه بالكثيب البهر.

هذا الأسلوب في المشي أجمع عليه شعراء الغزل فالأعشى يقول:

غَرّاءُ فَرعاءُ مَصقولٌ عَوارِضُها

تَمشي الهُوَينا كَما يَمشي الوَجي الوَحِلُ(6)

كَأَنَّ مِشيَتَها مِن بَيتِ جارَتِها 

مَرُّ السَحابَةِ لا رَيثٌ وَلا عَجَلُ.  

هذه المشية البطيئة وكأن الأنثى تنزع قدمها عن الأرض نزعًا كأنها غائصة في الطين، يرافقها التثني، وما يحمله من إغواء دفع الشاعر إلى تشبيه مشيتها بالأفعى، قال ابن إياس الكناني:

إِكليلُها أَلوانُ/ وَوَجهُها فَتّانُ

وَخالُها فَريدٌ/ لَيسَ لَها جيرانُ

إِذا مَشَت تَثَنَّت/ كَأَنَّها ثُعبانُ.

لكن للأنثى مشية أخرى، تقارب خطواتها فيها، وتتنقل من مكان إلى آخر، كأنّها طائر القطاة، يقول سحيم عبد بني الحسحاس:

وماشية مشي القطاة اتبعتها

من الستر نخشى أهلها أن تكلما.

ولأن المشي يشبه النُّصبة التي تكلّم بها الجاحظ أنّها بديل للكلام ومعناه، فالمشية الحسنة في المعركة تمدح ويفخر بها لأنّها دليل الشجاعة، يقول الربيع بن أبي الحقيق:

رُبّ علم لي لو أبصرته

حَسنُ المشية في الدرع الزعف.

وقد قال أبو زيد القرشي يرثي ويفخر بمشية ابن أخته في الحرب بعد أن تخلى عنه الفرسان، فلم يجزع بل أخذ يتمشى غير هائب من العدو:

غَيرَ ما ناكِلٍ يَسيرُ رُوَيدًا 

سَيرَ لا مُرهَقٍ وَلا مَهدودِ.

تكاثرت صورة المشي في التراث العربي، لكن هذا التراث لم يقدّم لنا مشّاء كرامبو أو نيتشه، إلّا أنّ هناك مشّاء كبيرًا ذُكر بسرعة عدوه، إنّه الشنفرى الذي قيل فيه المثل: “أعدى من الشنفرى” ولا ريب أن الشنفرى كان يعدو حينًا ويمشي أحيانًا وفي أحد أبيات شعره نجد قوله يشابه المعاني التي تقصّدها مشاؤو الزمن الحديث، يقول الشنفرى:                         

وَفي الأَرضِ مَنأى لِلكَريمِ عَنِ الأَذى

وَفيها لِمَن خافَ القِلى مُتَعَزَّلُ

لَعَمرُكَ ما في الأَرضِ ضيقٌ عَلى اِمرئٍ

سَرى راغِبًا أَو راهِبًا وَهوَ يَعقِلُ.

المصادر والهوامش:

1- المشي فلسفة، فريديريك غرو، ترجمة سعيد بوكرامي. دارمعنى 2021.

2- بلدة الشاعر رامبو.

3- مدح البحتري الخليفة المتوكل مهنئًا إياه في عيد الفطر: ومشيت مشية خاشع متواضع/ لله لا يُزهى ولا يتكبر.

4- زاد المعاد في هدى خير العباد، ابن القيم الجوزية. الناشر دار الرسالة 2015.

5- https://en.wikipedia.org/wiki/Solvitur_ambulandohttps://diffah.alaraby.co.uk/diffah/civilisation/2023/4/10/%D8%A7%D9%D9%D8%B4%D9%8A-%D9%D9%D8%B3%D9%D8%A9-%D9%D8%AB%D9%D8%B1%D8%A9-%D9%D8%AA%D8%B5%D9%D9%D8%A7-%D8%B9%D9%D8%AF%D8%A9-%D8%A5%D9%D9-%D8%A7%D9%D8%B7%D8%A8%D9%8A%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%D9%D8%AD%D8%B6%D8%A9

6- وجى: رقت قدمه أَو حَافره أَو خفَّة من كَثْرَة الْمَشْي فَهُوَ وَج ووجي؛ (ج) أوجياء وَهِي وجياء يُقَال وجي الْإِنْسَان وَالْفرس وَالْبَعِير.

https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/civilisation/2023/4/10/%D8%A7%D9%D9%D8%B4%D9%8A-%D9%D9%D8%B3%D9%D8%A9-%D9%D8%AB%D9%D8%B1%D8%A9-%D9%D8%AA%D8%B5%D9%D9%D8%A7-%D8%B9%D9%D8%AF%D8%A9-%D8%A5%D9%D9-%D8%A7%D9%D8%B7%D8%A8%D9%8A%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%D9%D8%AD%D8%B6%D8%A9[image error]
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 10, 2023 13:24

April 2, 2023

فيلم أرجنتينا 1985 كووول لصالح قضايا الشعوب – مقالي في جريدة الصباح – صفحة سينما – باسم سليمان

في التاريخ محاكمات شهيرة جدًا، لربما أشهرها محاكمة سقراط، أمّا في زمننا الحالي، فتعدّ سلسلة محاكمات نورمبرغ التي رفعت أقواسها من أجل إدانة النازيين الألمان ذات صدى مازال يتردّد إلى الآن، لكن هناك محاكمة لها خصوصية حدثت في الأرجنتين، وذلك عندما قاد المدعي العام خوليو ستراسيرا -ريكاردو دارين- التحقيق في الجرائم التي ارتكبها المجلس العسكري الذي حكم ما بين 1967-1983 بعد أن استلمت حكومة مدنية السلطة.

كان الممثل ريكاردو دارين، الذي عرفناه في فيلم (السّرّ في عيونهم) في العشرينات من عمره، عندما حدثت تلك المحاكمة، التي بُثت على التلفاز والراديو بشكل مباشر. وما زال يتذكّر تلك الشكوك، التي حامت حول جدوى محاكمة أعضاء المجلس العسكري، فالديمقراطية لم تكن قد تجذّرت بعد، والمجلس العسكري مازال قويًّا. أمّا المخرج سانتياجو ميتري المولود عام 1980، فقد كان صغيرًا جدًا ليمتلك ذكريات عن تلك الحقبة، لكنه صرّح بأنّه يكنّ إعجابًا كبيرًا لِما جرى عام 1985 فالسياق الذي حدثت فيه المحاكمة، والشجاعة التي تحلّى بها الأرجنتينيون كانت رائعة.

على هذه الأرضية كتب ميتري السيناريو، وأدار شريط كاميرته مستحضرًا تقنيات الثمانينات السينمائية من فلاتر وإضاءة وأمكنة. حتى أنّ التصوير جرى في القاعة ذاتها التي شهدت إدانة أعضاء المجلس العسكري، بأحكام تتدرّج من عدم المسؤولية إلى المؤبّد. وفي هذه القاعة جرت المرافعة الشهيرة التي صدح بها لسان المدعي العام خوليو ستراسيرا، والتي ساهم في حبك كلماتها، ليس النصوص القانونية فقط، بل رأي صديقه المسرحي، وابنه، وزوجته، ومساعده مورينو أوكامبو -خوان لانزاني- وحتى دانتي عندما ذكر الجحيم الذي يعيش فيه هؤلاء القتلة.

قدّر عدد المختفين إبّان حكم العسكريين بما يقارب العشرة آلاف شخص. وقد جمع ستراسيرا الكثير من الشهادات لمن ظلّوا أحياء، بعد أن نجوا من جلسات التعذيب، ولمن فقدوا أفرادًا من أسرتهم ولم يعرفوا عنهم أي خبر. ولم يكن لذلك أن يتم لستراسيرا إلا بمساعدة فريق من الشباب غير الاختصاصيين، أطلقت عليه الصحف وقتها: “أطفال ستراسيرا”، فقد تنكّف القانونيون الأكفاء عن المساعدة، فالانتماءات والمصالح كانت لم تزل متحكّمة. لكن هذا الفريق القانوني الذي لا يمتلك الخبرة، كان الأمل يحدوه نحو مستقبل أفضل. وهذا هو جوهر فكرة العدالة، فالعدالة لا تهدف فقط إلى الاقتصاص من المذنبين، إنّما تسعى لتأمين مستقبل آمن. 

يعتبر فيلم أرجنتينا 1985 فيلما دراميًا تاريخيّا، يستند إلى شهرة محاكمة تُبرز جدوى الديمقراطية في إحقاق العدالة ومنع تغوّل السلطات، فما الذي كان بيد المخرج وكاتب السيناريو سانتياجو ميتري، أمام قضية شهيرة، ليس في التاريخ الأرجنتيني، بل العالمي أيضًا، وأسالت حولها الكثير من الحبر؟

لم يكن همّ المخرج توثيقيّا، وإنّما إظهار مشاعر الناس في تلك الفترة، أسواء أفراد عائلة ستراسيرا، الذين شكّلوا له دعمًا عاطفيّا وفكريّا، ونائبه الذي  كان ينتسب إلى الطبقة العسكرية، لكنه انحاز إلى الشعب، واستطاع إقناع أمّه التي كانت رافضة لكلّ التهم التي وجّهت إلى المجلس، لكنّها غيّرت رأيها بعدما رأت شهادة المرأة الحامل التي أنجبت طفلتها وهي معصوبة العينين على مقعد سيارة، وغير ذلك من شهادات لأناس عذّبوا.                                                                                            أجرى المخرج ميتري روحًا مرحة في ثنايا فيلمه، ليس لكي ينقذه من تجهّم وجه العدالة وإجراءات التحقيق، بل قصفًا إبداعيًّا لآلة الحكم العسكرية، لأن الشعوب عندما تسترد حقّها، لا تعمل وفق أساليب الانتقام التي تشتهر بها الآلة العسكرية عندما تخرج عن دورها في حماية البلد. فقسمات وجه العدالة التي ترفعها يد الشعوب تكون ضاحكة، وكثيرًا ماترمي الديكتاتوريين بالبيض والبندورة، لا بالرصاص. رافقت أجواء الفيلم موسيقى لها حسّ فكاهي، جاءت متوائمة مع اللمسة الساخرة من قبل ستراسيرا وأعضاء فريقه، وكأنّ هذا المسحة الفكاهية كانت جوابًا على كل القمع الذي جرى على يد المجلس العسكري.

جاء أداء ريكاردو دارين لشخصية المحقّق خوليو ستراسيرا رائعًا، عندما أظهر تلك الشكوك التي عاشها في أول إرهاصات التحقيق، ما بين كونه مجرد موظف، وما بين صفته كمدعي عام يمثّل الشعب، لا المنظومة السلطوية. وخاصة عندما تلا لائحة الاتهام الأخيرة في المحكمة، حيث لم يبق للأداء الجسدي من مكان، فكان صوته حاملًا لكلّ الآمال التي تعتمل في داخله، وفي داخل الحاضرين في قاعة المحكمة، والمتسمّرين أمام شاشات التلفزيون والراديوهات في ذلك الزمن، والأهم لمن لم يصلوا بعد إلى حقوقهم، أو سقطت بتقادم الزمن وعدم كفاية الأدلة. تكمن أهمية  فيلم أرجنتينا 1985 بتأكيده على أنّ الحقوق لا تموت، حتى لو مات من يطالب فيها، فدور الفن يكمن في أن يبقي تلك الحقوق حيّة، مادام هناك مظلوم لم يرفع عنه الظلم.  

حاز فيلم Argentin  1985 على جائزة الغولدن غلوب عن فئة الفيلم الأجنبي. وهو من إخراج سانتياغو ميتري، سيناريو سانتياغو ميتري وماريانو ليناس. تمثيل: ريكاردو دارين، بيتر لانزاني. إنتاج عام 2022.

باسم سليمان

خاص الصباح  

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 02, 2023 15:10

باسم سليمان's Blog

باسم سليمان
باسم سليمان isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow باسم سليمان's blog with rss.