الرصيف الآخر – باسم سليمان- قصتي في مجلة أفكار الأردنية العدد 409 لعام شباط 2023
أنْ تجلس بهدوء، فهذا يعني أن تدع ظلّك يرسم حركة الشمس التي تتسلّق درج السماء، وهذا سيفضي إلى معرفة كم من الوقت يجب أن تقضيه في الصيد، ولا بدّ أنّه طويل أكثر من خيط الصنارة. كان الضوء والظلّ شهّيين على مكسر الموج؛ كي أحلم أن أكون رسّاماً، فألتقط سمك اللون في اللوحة، هذا ما قلته لصديقي الذي يهوى الرسم الانطباعي، ولا يبرح مرسمه. كنت أفكّر بأنّ ريشة الرسم كصنارة صيد السمك، عندما اخترت الصيّاد الذي سأجلس قربه، فقد وجد مكاناً جيداً لكرسيه، والحظّ كالتثاؤب معدٍ، لذلك جلست قربه على صخرة، أظنّها مناسبة، لأبدأ يوم الصيد الأول لي.
ألقيت التحية عليه، فلم يبادرني بشيء، بل كانت عيناه معلّقتين بالفلينة التي غاصت لتوّها في الماء، وبحركة ارتدادية كالأفعال الانعكاسية استقامت القصبة، وبدأت بالتأرجح يمنة ويسرة، فيما سمكة ترقص في هواء الموت رقصتها الأخيرة، قبل أن تستقر في كفن من قصب.
حضّرتُ عجينة الخبز، وثبتّها أعلى الشصّ، ومن ثم أرسلت قصبتي في الهواء، سقطت الفلينة على وجه الماء وبدأت الانتظار، ومراقبة الوقت يجري في ساعة اليد. مضت ربع ساعة، وفلينتي لا تحرّكها أنغام العمق. تسلّل الخدر إلى ساعدي، فأرحتها عبر غرز القصبة بين قدميّ، مسنداً إياها إلى فراغ بين صخرتين، متابعاً الصيادين من حولي، فكلّما انتشل أحدهم سمكة، أراقبه، ليس حسداً، بل لأغيّر مكاني، فالسمك لا يهدأ في مائه، إضافة إلى أنّ هذا المكان قد أنهى أبعاده هذا الصياد الصامت، فأصبح مجرد نقطة تتمثّل في شصّ صنارته.
تغطس فلينتي، فتجذب معها يدي الممسكة بالقصبة برخاوة. أضغط قبضتي بشدة وأرفعها عالياً، لأجد الشصّ عارياً، إلّا من حرابه الصغيرة. ألصق العجينة من جديد، أقذف بالصنارة إلى الماء، وأنظر إلى سلّة الصياد الصامت، فتبدو كمقبرة جماعية. يمضي الوقت، الساعة العاشرة الآن، أصبحت منهكاً وعطشاً، والعرق جعلني أشعر بالضجر، لم أصطد أيةَ سمكة، أنا من ذهب إلى البحر ورجع عطشاناً! ألملم عدّة الصيد، وأهمّ بالذهاب، فأسمع صوتاً يناديني: يا أنت! خذْ، ألتفتُ إلى الصياد الصامت وبيده السلّة المليئة بالسمك. أمسح العرق عن وجهي، وأقول: أنا؟ فيجيب: نعم أنت!
***
استعجلت القدوم في اليوم التالي، فوجدته في مكانه، حيّيته، وشكرته على سلّة السمك، ردّ بابتسامة مقتضبة وتابع هدوءه.
لم يكن يومي الثاني في الصيد أفضل من الذي سبقه، فلم أحظ، ولو بخيال سمكة، لكنّني تابعت رمي صنارتي، فلم أصطد غير سخرية السمك الذي أكل الطعم وهرب في زرقة البحر.
مدّ الصياد الصامت يده، قاصداً أن أناوله القصبة، فامتثلت لطلبه. قلّب الشصّ بين أصابعه ومن ثمّ وضع العجينة في مكان أعلى بقليل ممّا كنت أفعل، ثم رمى بالقصبة بخفّة لتسقط الفلينة بعيداً في الماء، وأعادها إليّ، وهمس: القصبة يدك الثالثة، فتعلّم استخدامها كيديك الأصليتين، ارخْ عضلات ساعديك، واذهل عن وجودها، ومن ثم استشعر كلّ اهتزاز غريب وماكر، فالموج له اهتزازات متواترة تتسلّل إلى أعصابك دون الإحساس بها، لكن ضمناً هناك هزّة نشاز وعلى أذن يدك أن تلتقطها، في تلك اللحظة، اجذبِ القصبة بسرعة إلى الأعلى.
وفي غمرة إنصاتي له، وإذ بحركة فجائية، فقد انتصبتْ قصبته كراية مزيّنة بسمكة، تخفق في الريح. انطلق نفير الحرب، ارتفعت رايات صيادين آخرين، فلم ألحظ أن دوري قد حان حتى صرخ بوجهي: الآن!
شهرت قصبتي، كانت السمكة هناك، قاب حلم وهروب، رقصت السمكة قليلاً مع رايتي، ثم قفزت إلى الماء، فرأيت محكمة الميدان أمام عينيّ، وحكماً كاد يصدر عن الصيادين، لكن لم يبالِ أحد، كأنّ ما حدث لا يعنيهم، نظرتُ إليه، فلم يعرني انتباهاً. سحبت الخيط، وضعت الطعم حيث وضعه، ثم قذفت الشصّ إلى الماء. – إنّها الهزّة النشاز التي سوف تطربك في المرة القادمة، لا تنظر إلى سلّتك الفارغة، بل انظرْ كم هو البحر كبير، وصنارتك صغيرة، اتساع بهذا الامتداد، احتمالاته كبيرة؛ لكن الانتظار يخفّف من عدد الاحتمالات، بل يجعلها على عدد أصابعك. النوتة جاهزة، ما عليك إلّا أن تنقر بإحساس مرهف على الوتر، وستسمع اللحن الذي تحبّ، وستجده كلّما كنت قادراً على الصمت بشكل أكبر.
صمت الصياد من جديد، وأنا كذلك. مرّ الوقت من أمامي كأنّه سمكة. اختفت ساعة يدي، بدأت أسمع حركة عقرب الثواني؛ تك، تك، من زعانف السمك الذي يقترب ويبتعد من عقرب الدقائق، إلى أن دقّت تمام ساعة الشصّ، فتحت السمكة فاها، وانطلق عصفور الساعة يعلن تمام انتصاب القصبة. كانت هناك كقلعة رفعت الراية البيضاء، سحبتها بهدوء، قبضت عليها بأصابعي، تحسّست الأوتار، رفعت النوتة عن الشصّ، شممتها كان لها رائحة المدى.
كانت حصيلة صيدي اليوم سمكتين، وسأقول للأصدقاء: إنّ حظي اليوم كان سيئاً، ليس كالبارحة، وسيصدّقون ذلك، فسلّة البارحة، هي البرهان.
***
أصبح الأمر تحدياً، فقد جئت اليوم باكراً، فسلّتي يجب أن تُملأ بالسمك. مازلت في موقعي نفسه، فلو كان الصياد الصامت يجد في الانتقال جدوى؛ لترك مكانه، فهو أكثر الصيادين حظاً، وسلّته دوماً عامرة.
تقريباً، كادت الشمس تنهي سلم الصعود إلى كبد السماء، وقد أتممت خمس محاولات فاشلة، أرى بهن السمكة تقول لي: ابتسم، سألتقط لك صورة، أريها إلى سكان عالم الماء، ومن ثم تختفي في الأزرق. تمنّيت لو أنّ السمك يملك علامات فارقة غير قصة النوع، لكي يكون لطريدتي هوية، أميّزها بها عن غيرها من السمك، عندما تقبض أصابعي عليها، فأهمس بأذنها: ابتسمي، سألتقط لك صورة، أريها إلى سكان عالم البر.
ثلاث سمكات صغيرات، أيّ صيد هذا! ما زلت قادراً على الصمود. بدأ الصيادون ينسحبون، عندما تربّعت الشمس في وسط السماء، كذلك شرع الصياد الصامت في جمع عدّة صيده ، على الرغم من أن سلّته لم تكن ممتلئة هذه المرّة، ولكن بالنسبة لي، كان صيده وفيراً. وعندما انتهى، أشار بيده إلى مكان آخر على الشاطئ، وقال: غداً، أتذهب إليه؟ قلت له: أين؟ قال لي: إلى الرصيف الآخر على ما يبدو أنّ السمك في هذا المكان، قد أخذ حذره كثيراً. السمك يتعلّم، فكل سمكة قبل أن تخرج من الماء تترك وصية تحذيرية إلى كائنات البحر: “ليس كلّ ما في متناول اليد يُعدّ جيداً، يجب بذل الجهد للحصول على الطعام الآمن”. لحظتها طربت أصابعي للحن المحبّب، وإذ بسمكتي الرابعة، قلت له: إنّها سمكة لم تسمع بعد الوصية، فأجاب: بل، الوصية لك، غداً أراك! وأنا في حيرة من ردّه، اقترب رجلان منه، انتشلاه من كرسيه، كما تنتشل السمكة الكبيرة بالشبكة، وأخذاه إلى سيارة قريبة، كان مشلولاً. واقفاً كصنارتي أنظر إليه، رفع يده من نافذة السيارة: غداً، ألقاك هناك.
تبتعد السيارة، تهتزّ قصبتي كإبرة مسح الزلازل، ثم تتوقّف، فأرى بطرف عيني السمكة ترسم خطاً منحنياً في الهواء، وتغوص في الأزرق، بعيداً إلى الرصيف الآخر.
باسم سليمان
خاص أفكار




باسم سليمان's Blog
- باسم سليمان's profile
- 24 followers
