باسم سليمان's Blog, page 13
June 21, 2023
شريف الشافعي في مقاله بالاندبتدنت: عن ثلاثة شعراء عرب يرسمون خرائط الهزائم اليومية كان له وقفة مع ديواني:(رأسي البسط جسدي المقام أنا كسر بين الأرقام)
الخسارة داخل الجسد:
وبدوره، في ديوانه “رأسي البسط… جسدي المقام… أنا كسر بين الأرقام”، يرسم الشاعر السوري باسم سليمان خرائط القسوة والوحشية والانكسارات، بداية من عنوان الكتاب، حتى آخر عباراته: “تستطيع أن تكون صانع آلات موسيقية/ لكن قبلاً، كن جزاراً في سوق اللحم”.
ويمعن الشاعر في استبعاد أية إمكانية للخلاص أو النجاة عبر الاحتماء بقصيدة زائلة، أو التعويل على مفردات عاجزة، لا تعدو أن تكون حشرجات ساعة الموت، ورثائيات بعد التلاشي والتحلل والذوبان: “اللهاة في الحلق، كيس ملاكمة، مملوء بالرمل. تتمرن الكلمات به، على اللطم، قبل أن تخرج من أفواهنا”.
لا شيء في الكلمات، وفق الشاعر، ولا أحد في الصوت أيضاً، ولذلك “يجلس الصدى وحيداً”، ويبقى المغناطيس الآدمي بلا معنى “في زمن النحاس”. وليست الخسارة المألوفة موضوعاً خارجياً بالنسبة إلى الشاعر، كما أنها ليست كذلك بالنسبة إلى الإنسان العادي في معاناته اليومية النمطية، ومآسيه المتكررة، لكن هذه الخسارة هي ببساطة عضو من أعضاء الجسد، من فرط

June 18, 2023
الملل: ما أهميته في فكر الإنسان؟
باسم سليمان 18 يونيو 2023
لا جديد تحت الشمس … الملل شيطان الظهيرة
لا ريب أنّ مقالًا عن الملل سيكون مملًّا! لكنّ الملل قد كان أحد الأسباب التي دعت الإله إلى خلق الإنسان! هذا ما يقوله الفيلسوف الدانماركي سورين كيركغارد(1): لقد شعر الإله بالملل ولذلك خلق آدم. لكن آدم أصيب بالملل أيضًا، فخلق الإله له حواء، ومن وقتها والملل ينتشر مع ازدياد البشر. وهذا ما يؤكّده الشاعر النوبلي جوزيف برودسكي(2) بأنّ الملل سيطالب بجزء كبير من حياتنا. إنّ فكرة كيركغارد قد أعيدت صياغتها من قبل نيتشه، فاعتبر بأنّ الملل قد وجد في اليوم السابع حينما استراح الإله. أمّا باسكال فقد أشار إلى أنّ الملل قد ولد في اللحظة التي طرد الإنسان بها من الجنة، وهو تعبير عن التململ المضمر لدى الإنسان من بعده عن الخالق.
عادة ما تقدّم لنا الأساطير القديمة كيفية خلق الأشياء! لكن لربما لطبيعة الملل، أهملته تلك الأساطير! لذلك لجأ هؤلاء الفلاسفة إلى إعادة تخليقه أسطوريّا وإن كان الأمر على سبيل التندّر وذلك من أجل مناقشته، ومع ذلك تأخر جدًا تأطيره علميّا، فلقد ظلّت الملاحظات عنه والدراسات مشتتة لم تأخذ شكلًا دراسيًا حقيقيًا من قبل المؤسسات العلمية حتى علم 2021 حيث تم تأسيس الجمعية الدولية لدراسات الملل(3). لا يمتلك الملل شخصية محدّدة، لكنّنا نعرفه ونعاني منه، وعندما نعود إلى الفلسفة اليونانية لا نجد مصطلحًا معيّنًا يضم بين طياته سمات الملل كما نعرفه الآن، فعادة ما عبرت عنه بألفاظ: (البلاء، الانزعاج) فسقراط لحظ بأنّ نسبة النائمين أثناء إلقاء الخطب التي كانت أثينا مشهورة بها يفوق عدد المستيقظين، لذلك قدّر اللوردات البريطانيون الدوق ديفوشاير جدًا، لأنه تثاءب وهو يلقي خطبته، كما يذكر الفيلسوف برتراند راسل(4)
لم يفت سينيكا الفيلسوف الرواقي الروماني الإشارة إلى الملل في مقالته عن: (الهدوء) ووصفه بأنّه غثيان ومرض، ويؤدي إلى الكآبة والحسد والغيرة، وفكّر بكيفية دحضه عبر انشغال الإنسان بالعمل والشؤون العامة. هذا التلطيف الذي نجده عند سينكا للملل تجاوزه الفيلسوف الإيطالي التشاؤمي جياكومو ليوباردي(1798-1837) في مناقشته للملل في الإمبراطورية الرومانية ورأى أنّ حياة الإنسان تمضي بين المتعة والمعاناة والألم، أمّا الفراغات بين هذه المشاعر والأحاسيس فيملؤها الملل، لذلك كان الحكام الرومان يخافون أن يصاب الشعب بالملل، فيثور عليهم، لذلك لا بد من إلهاء الشعب بالطعام والتسلية، فبُنيت المدرجات الضخمة لتقام العروض حيث يتقاتل المجالدون بعضهم مع بعض ومع الحيوانات أيضًا.
تعدّ التوراة من أهم المدونات التاريخية الماقبل عصرنا الحديث التي خصصت للملل سفرًا كاملًا بعنوان الجامعة: “مَا كَانَ فَهُوَ مَا يَكُونُ، وَالَّذِي صُنِعَ فَهُوَ الَّذِي يُصْنَعُ، فَلَيْسَ تَحْتَ الشَّمْسِ جَدِيدٌ.”. لا نستطيع القول بأنّ التوراة تتكلم عن مفهوم الملل بشكلي فلسفي، لربما لأنّ ذات السفر يقول: “بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، الْكُلُّ بَاطِلٌ” فما الفائدة من فلسفة الملل! ومع ذلك تقدّم نصيحة لعيش الحياة الممللة بطريقة معقولة مستعارة من نصيحة أتونبشتم لجلجامش الذي كان يسعى إلى الخلود، بعد أن أفقده موت صديقه أنكيدو أي معنى للحياة؛ وذلك بأنّ يحيا حياته، يعمل، يأكل، يعتني بطفله ويداعب زوجته التي يحب، لأنّ الفناء مصيره النهائي، هذا ما قدّرته الآلهة للإنسان.
لم تكن الحياة بعد الموت من عقائد اليهودية في بداياتها، ولا حتى في عقيدة جلجامش، فلربما فكرة الحياة بعد الموت، قد نتجت عن الملل الذي تسرّب إلى وعي الإنسان الذي وجد أن كل سعيه ينتهي إلى الفناء. إنّ العقائد التوحيدية التي تلت اليهودية، طرحت فكرة القيامة من الموت حتى يكون سعي الإنسان في هذه الدنيا التي لا جديد تحت شمسها مجديًّا.
عادة ما تقام التشريفات للأبطال في الحروب على سبيل المثال، لكن أن تنقش مدينة على الحجارة المتأبدة تكريمًا لشخص أنقذها من جائحة الملل، فهذا أمر عجيب! يقول الفيلسوف برتراند راسل(5)، بأنّنا أقل مللًا من أسلافنا، لكن أكثر خشية وخوفًا منهّ! ويضيف بأن السأم عنصر أساسي في السلوك البشري لم يعط الاهتمام الكافي، وأنّه من القوى المحركة للمجتمع في كل العصور. ولا يبتعد الفيلسوف الفرنسي التنويري كلود أدريان هلڤتيوسان عن الإشارة إلى أهمية الملل في فكر الإنسان، بأنّه إحدى قوى الوجود(6). الملل كما يذكر بيتر توهي في كتابه: (تاريخ حي للملل) قديم قدم الإنسان، فإحدى المدن الرومانية قد كرمت أحد أبنائها الذي يدعى: تانونيوس مارسيلونس، لأنه أنقذهم من الملل. لا يذكر النقش كيف فعل ذلك! مهما يكن فالأقدمون كان يخشون الملل. وعندما ناقش سينيكا الملل، فأسماه: الغثيان. وعلى ما يبدو أن سارتر الوجودي، استمد عنوان روايته: الغثيان من الفيلسوف الروماني سينيكا.
يقول الصحفي جوزيف إبشتاين(7): الملل جزء من عملية الإدراك لدى الكائن البشري، وفيما يتعلق بالإدراك، فمازال لعلماء الأعصاب والدماغ الكثير لقوله عنه أكثر من الفلاسفة والشعراء. ويذهب علماء النفس(8) على أنّ الملل قد يكون استجابة تطورية في تطور العقل تكمن في الإنذار المبكِّر من مواقف أو حالات قد تؤدي إلى الأذى. يشبه هذا التفسير تقزّزنا من الروائح السيئة التي تجنبنا أكل الأطعمة الفاسدة. ويرى هؤلاء العلماء أنّ الملل يسمح للعقل البشري بترتيب بيته الداخلي بعد الإنشغال الطويل بالتفكير.
الملل ثامن الخطايا السبع:
تقول الممثلة الألمانية والمساهمة في تطوير تقنيات الاتصال اللاسلكي هايدي لامار(1913- 2000) بأنّها تستطيع أن تستحمل جميع الخطايا إلّا الملل(9). لم تكن لامار تبالغ في قولها، فالنظر إلى الملل كخطيئة له إرثه التاريخي. رأينا من تحليل سينيكا للملل وكيفية الوقاية منه بأنّه كان ينظر إليه نظرة سلبية وكان الحكام الرومانيون يخشونه. تعود هذه النظرة الاحترازية من الملل إلى أرسطو، وهناك من ينسبها إلى تلميذه ثيوفراستوس، بأنّ الكآبة التي هي أحدى تجلّيات الملل تعتبر وصمة عارٍ بحقّ الأشخاص البارزين والأذكياء. وكأنّ الفيلسوف أو المفكِّر أو رجل الدولة يخشى إنْ إصابه الملل، إن تسقط قيمته! لذلك كان الجنرال بيروس الإبيري في العصر الهليني يشن الحروب، لكي لا يصاب بالملل، كما ذكر المؤرخ بلوتارخ.
استخدم اللاهوت المسيحي كلمة(10): (Acedia) والتي تترجم إلى الفتور واللامبالاة الروحية وهذه الكلمة لها جذورها الإغريقية واللاتينية بذات المعاني لكن مع العقيدة المسيحية ارتبطت بسؤال جوهري كيف للراهب أن يملّ في صلاته، وهو في حضرة الله! فاعتبرت الأسيديا أو الملل الروحي، هو شيطان الظهيرة الذي يغوي المؤمِن كي يزهد من صلاته وتنسّكه.
وعودة إلى مقول باسكال أعلاه عن أنّ الملل قد ظهر إثر هبوط الإنسان من الجنة، والذي سيضيء أكثر على مفهوم الأسيديا، فقد كان يقول، بأنّ الملل، هو الحالة الطبيعية للإنسان، لذلك يسعى إلى المثيرات كي يتفاداه. وعندما نزيل تلك المثيرات من حياة البشر، فإنّهم يذبلون. لم يمدح باسكال تلك المثيرات، بل كان يوضِّح بأنّ الملل، هو الحالة الطبيعية للإنسان بعيدًا عن الله، ولكي يتفادى ذلك الفراغ الذي يخلّفه الابتعاد عن الله، يلجأ إلى تلك المثيرات التي يعرضها الشيطان أمام الراهب عندما يتسلّل الملل إلى دخيلته، فينغمس في تلك المثيرات الحياتية التي استنكرها باسكال. فمواجهة خطيئة الملل بالنسبة لباسكال تكمن بالانشغال بالله بالمطلق.
كان الفيلسوف الألماني شوبنهاور، هو أول من اهتم بالملل بشكل ممنهج، حتى أنّنا نستطيع أن نقول عنه بأنّه فيلسوف الملل. لقد أجرى شوبنهاور حياة الإنسان بين حدي الألم والملل أو بين الحاجة وعوزها الناتج عن عدم دواميتها، ممّا يفضي إلى الملل أو اللاجدوى، فقد عرف شوبنهاور الملل: بأنّه شوق مروض أو رغبة فقدت معناها. ومادامت حياة الإنسان تقوم على إشباع حاجاته المتجدّدة، فهو في سعي دائم كالحمار الذي علقت أمامه جزرة، فكل ما تقدّم نحوها ابتعدت، بحيث لا يتحصّل على معنى دائم من وراء إشباع هذه الحاجات، فيتسبب ذلك في جعل الحياة بلا معنى. ويمعن شوبنهاور بتركيز محاججته، بأنّه لو كانت الحياة لوحدها ذات معنى، لما دخل الملل إلى قلب الإنسان، أكان ذلك بوجود الحاجات أم بغيابها. وهذا يعني بأنّ الحياة في الأصل بلا معنى، لذلك كان الملل الوجودي الذي يعانيه الإنسان. هذه الحلقة المفرغة للوجود بين الحاجة وإشباعها المؤقت، كانت وفق توجّه شوبنهاور تصيب الأذكياء، أمّا البلداء، فبالكاد يحسّون بها.
لقد كان شوبنهاور متشائمًا جدًا، ورأى بأنّ لعنة الملل لا يمكن الفكاك منها، حتى أنّ كيركغارد ذهب إلى اعتبار الملل، هو الشّرّ الرئيسي في الأرض، بل هو شيطان الفراغ الذي ينمو في ضجر الظهيرة، والذي يعصف بالكائن البشري. وتمنّى أمام حالة انعدام المعنى في الحياة والتي تُسمى الملل أن يرى خلاصًا صامدًا أمام كل المحن، وحماسة لا تتوقف وإيمانًا يحرك الجبال حتى يواجه انعدام المعنى الذي يخلقه الملل. كان كيركغارد يصرخ من الفراغ والملل الذي يعيش به، حتى أنّ الألم لم يعد قادرًا على منحه لحظات من السهو بعيدًا عن الملل.
هذه النظرات المزدرية للملل، الأخلاقية والدينية والفلسفية، جاراها الأدب، فمن الرومنسيين الذين جأروا بمللهم إلى بودلير في كتابه؛ سأم باريس إلى تشريع كلمة الملل مع تشارلز ديكنز في روايته؛ البيت الكئيب، حيث تتقلّب سيدة البيت على جمر الضجر والملل، لأنّها لا تجد شيئًا لتفعله ومن ثم سارتر وغثيانه في تعبيره عن الضجر الذي أصاب الحياة المعاصرة، ومن ثم السأم لألبرتو مورافيا والكثير غير ذلك حتى قال جوزيف برودسكي بأنّنا في النهاية سنمل من كل شيء. ولربما عبر شكسبير عن الملل في أصله الميتافيزيقي وانعكاسه في الحياة البشرية عندما قال: نحن للآلهة كالذباب بالنسبة للأولاد الفاسدين: إنهم يقتلوننا من أجل رياضتهم. من الخطير أن تصاب الآلهة بالملل، فالعواقب لن تكون محمودة أبدًا.
لكن على الرغم من هذه النظرة السلبية بحقّ الملل، هناك نظرة أخرى تجعله دافعًا مهمًا في الحياة، فلقد اعتبر الفيلسوف والتر بنيامين بأنّ الملل هو العتبة التي تبدأ منها الأعمال العظيمة.
الملل؛ سمّ وترياق:
على الرغم من أن نيتشه ربط الملل بسلبية العقائد الدينية، ولكنه أشار إلى أنّه من يمنع تسلل الملل إلى حياته، فكأنه يعمل على تصحير ذاته بتجفيف المياه الباطنية فيها، فالملل دافع خفيّ يمنحنا القدرة على الغوص في أنفسنا. اعتبر كلام نيتشه تمهيدًا للفيلسوف الألماني مارتن هيدغر الذي رأى بالملل بوصلته لاكتشاف مفهوم: (الديزاين/ Dasein/ الوجود هناك) فالملل لدى هيدغير، هو مزاج أساسي في الإنسان. ويميز بين نوعين من الملل: الملل من شيء ما والملل ذاته وهذا الأخير أكثر عمقًا في كينونة الإنسان وأكثر فائدة ولذلك يجب إيقاظه لكي تتعرى الكينونة الإنسانية أمام الوجود، فتصبح الوجود ذاته.
عندما قال باسكال بأنّ الملل واللا معنى للحياة ينتج عن الابتعاد عن الله، لكن من الممكن دحض اللامعنى بالتماهي مع الوجود الواجب للإله. هذه النظرة الميتافيزيقية يقابلها هيدغر باعتبار أنّ الكينونة الإنسانية واجبة الوجود وبذاتها قادرة أن تعطي المعاني للحياة. ولا طريقة مناسبة وفق هيدغر إلّا بمواجهه مللنا الجذري فينا، بوجودنا ذاته، الذي يعطي المعنى للحياة حتى لو كانت فانية.
قد تكون رغبة هيدغر بإيقاظ الملل الأساسي فينا غير محبذة أبدًا، لكن راسل في نقاشه للملل رآه حالة طبيعية ولا يجب الهلع منها، فالكثير من الأعمال الخالدة تتضمن الكثير من الفقرات المملة كالحياة وكثيرًا ما دفع الملل عجلة التاريخ بدءًا من الحروب وصولًا إلى السلام.
رأينا سابقًا أن شوبنهاور ربط الملل بالأذكياء لكن الفيلسوف الأمريكي هنري ديفيد ثورو(1817-1856) ربطه بالأغبياء، فهم من يحسون بالملل، فبموجب رؤيته أن طنين بعوضة، هو أمر رائع مثل الإلياذة والأوديسة، فالحياة غنية جدًا، ولا يمكن أن تفقر بسبب الملل.
يعتبر عصرنا الحالي عصر التسلية والإثارة الأعظم، ومن غير المعقول أن يتسرّب الملل إليه، لكن الواقع يخالف ذلك، فالملل ليس ضده التسلية والإثارة بل الاهتمام، فهل ما ينقصنا في هذا العصر أن نكون أكثر اهتمامًا، حتى ننجو من الملل. وإذا تدبرنا السيرة المبتسرة للملل أعلاه نجد أنّ الاهتمام بالوجود بذاته قادر على محوه في لحظات من حياتنا، بل يصبح بعد ذلك مطلبًا نستجم في ثناياه، فلقد لاحظ المفكِّر سيغريد كراكور بأنّ الحل الوحيد لمواجهة صخب وضجيج المدن في زمننا الحالي، أن نغرق بالملل، فهو سيحمينا من تلك الإثارة الدائمة التي تنهك عقولنا(11).
قبل أن ننهي هذا المقال المضجر لا يمنع أن نذكر بعضًا من الشذرات التي قيلت عن الملل في التراث العربي تحت أسماء: الضجر، السأم، الملل. ونبدأها مع زهير بن أبي سلمى: سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ وَمَن يَعِش
ثَمانينَ حَولاً لا أَبا لَكَ يَسأَمِ.
ويقول المعري:
فقدْ عشتُ حتى ملّني، ومَللْتُه
زَماني، وناجتْني عيونُ التّجارب.
عرف العرب قديمًا الملل بشكله الظرفي المؤقّت الذي نعرفه كلنا خلال يوميات حياتنا. وبعضًا من الملل الوجودي الفلسفي الذي تكلم عنه هيدغر. لكن الملل ظل كالغربان يُتطيّر منها، لكن بها يُقرأ الفال. وأختم بما قاله ابن حزم في طوق الحمامة، باب الهجر الذي يكون سببه الملل: والملل من الأخلاق المطبوعة في الإنسان، وأحرى لمن دُهي به ألا يصفوه صديق، ولا يصحَّ له إِخاءٌ، ولا يثبُتَ على عهدٍ، ولا يصبر على إِلفٍ، ولا تطولَ مساعدتُه لمُحبٍ، ولا يُعتَقد منهُ ودٌ ولا بُغض. فلا تثقْ بمَلولٍ ولا تَشغلْ نفسكَ به، ولا تُعنهَا بالرَّجاءِ في وفائِه، فإذا دفعت إلى محبته ضرورة فعُدَّه ابن ساعتِه، واستأنفه كلَّ حينٍ من أحيانِه بحسب ما تراهُ من تلوّنه، وقابله بما يُشاكله.
المصادر والهوامش:
The gods were bored, and so they created man – The Art and Popular Culture Encyclopediaجوزيف ألكسندروفيتش برودسكي، شاعر روسي حصل على جائزة نوبل في الأدب لسنة 1987، وقد تم تعيينه ملك شعراء الولايات المتحدة في سنة 1991Between Pain and Pleasure: A Short History of Boredom and Boredology – MARIUSZ FINKIELSZTEIN, Ph.D.الفوز بالسعادة، برتراند راسل. ترجمة سمير عبده. منشورات دار مكتبة الحياة- بيروت 1980.Between Pain and Pleasure: A Short History of Boredom and Boredology – MARIUSZ FINKIELSZTEIN, Ph.D.Boredom | Internet Encyclopedia of Philosophy (utm.edu)On the Uses of Boredom: Philosophical, Scientific, Literary ‹ Literary Hub (lithub.com)In Defense of Boredom: 200 Years of Ideas on the Virtues of Not-Doing from Some of Humanity’s Greatest Minds – The Marginalianhttps://en.wikipedia.org/wiki/AcediaOn the Uses of Boredom: Philosophical, Scientific, Literary ‹ Literary Hub (lithub.com)باسم سليمان
خاص ضفة

June 17, 2023
حوار معي في موقع صالون سورية عن روايتي: جريمة في مسرح القباني. وداد سلوم | يونيو 16, 2023
جريمة على مسرح القباني هو عنوان رواية للكاتب السوري باسم سليمان. وقد صدرت عن دار ميم ويتناول فيها الحرب السورية
التي استمرت لسنوات طويلة من خلال جريمة حدثت على مسرح القباني الشهير في دمشق.
حول هذه الرواية، وعلاقتها بالموروث الثقافي، والحدث الراهن، كان لنا الحوار التالي مع الروائي:
وداد سلوم: تذهب بقوة وشجاعة في روايتك إلى تجريبٍ مختلف وحتى أقصى ما تحتمله الرواية فضمّنتها نصاً مسرحياً، مسرحية (الجثة) التي كتبها عبد الله القتيل -والحكاية أقصوصة الموت- والقصة القصيرة؛ قصة المقص على سبيل المثال، وإلى طرق أبواب قليل من تجرأ وطرقها، في الإشارة لضرورة إعادة قراءة النص القرآني والتراث وتفسيره على ضوء القراءة الجديدة، فهل غامرتَ بجمهور القراءة الذي كثيراً ما يرغب بالسهل ومتعة الحكي؟
باسم سليمان: هناك علاقة جدلية بين المضمون والشكل. ومن هذا المنحى كان لا بدّ من ورود المسرح والقصة والشعر ضمن سردية الرواية الكلية؛ وهذا ليس تجريباً محضاً. إنّ تقديم مقولة “السلام هبة العنف” التي ذكرها رينيه جيرار في بداية كتابه العنف والمقدس، والتي أوردتها في أول الرواية كبوصلة توجّه سمت القراءة، لن يكون لها من معنى، من دون وضعها موضع التطبيق العملي في الرواية. لقد اعتمد القدماء المسرح كما يشرح رينيه جيرار، كي يستحضروا العنف على خشبته محاولة منهم لإجهاض العنف، عبر تمثيله من خلال مسرحية ما، كي يحدث التطهير الأرسطي، ومن هنا كانت مسرحية الجثة في اعترافها المونولوجي أمام منكر ونكير، والذي تم التمثيل لهما بقناعي المسرح الضاحك والباكي كتطبيق لذلك. ولم يكن ورود القصص في الرواية إلا لأنّ القصص كانت الحامل الأول لنقل المعرفة والخبرة من جيل إلى جيل. وعبد الله في أوراقه كان يحكي لدميته قصص ما قبل حصول طوفان الدمار في سورية. وهو بذلك يقوم بإعطائها اللقاح كي لا تقع هي وجنسها من الدمى في العنف الذي وقع فيه البشر. وقد أتى الشعر من ذات الزاوية، فالشعر لم يكن في بدايته إلا تعازيم سحرية من أجل فرض إرادة الإنسان على واقعه العنيف والمجهول. وهكذا يصبح وجود المسرح والقصة والشعر في الرواية آلية رمزية لسحب دوافع العنف من التولد من جديد. إنّ وقوع جريمة قتل عبد الله في أول يوم من أيام عيد الأضحى على مسرح القباني، ما هي إلا باب سيتم الدخول منه إلى الأضحية الإبراهيمية وكشف الدوافع الخفية التي دفعت بالنبي إبراهيم لتقديم ابنه أضحية ومن ثم الفداء. فالأضحية الإبراهيمية تكشف لنا العنف المؤسس للوجود البشري، سواء كان ذلك بالخطيئة الأصلية المرمز لها بأكل التفاحة أو بإقدام قابيل على قتل هابيل. وأمام هذا الأصول العنفية للوجود البشري، لم يكن من مهرب إلا بإعادة سبرها مهما كانت المهمة صعبة على الكاتب والقارئ. لا أعتقد أن هناك كاتباً إلا ويقع تحت سطوة القلق من كيف تلقي نتاجه الأدبي، لكن هناك دوماً عزاء بوجود قرّاء يعوّل عليهم الروائي، سيقبلون مغامرته الخطرة، ويتقحمون معه المجهول. هذه هي أخلاقية الرواية، كما يقول ميلان كونديرا، وذلك بأن تذهب إلى حيث لم يتجرأ أحد على الذهاب. وهذه أخلاقية القراء الذين أعول عليهم أيضًا.
و.س: على خلفية هذا (حديثك عن أخلاقية الرواية وأخلاقية القارئ) وخلفية إهدائك الرواية إلى جميع السوريين. هل تعتقد أنّ الرواية يمكن أن تكون رافعة للوعي؟
ب. س: لا ريب أنّني لم أهادن القارئ في روايتي! وعندما تكلمت فيها عن الرسام الذي استغل الموت كتاجر حرب، كي ينجز لوحاته وشهرته الملوثة بالدماء، كأي قاتل آخر، أردت أن أوقظ القارئ من مثالية مخادعة. وهنا إذا أجبت متبجحاً، بأنّ فنّ الرواية يمكن عدّه من المحفّزات الجيدة للوعي؛ علينا أن نتذكر بأنّ أي أدب أو نتاج فنّي محكوم بأدلجة ما، كما يقول تيري إيغلتون في كتابه؛ نظرية الأدب. وبناء على ذلك كيف سيعرف القارئ أنّني لا أخدعه وأدس السم له في الدسم؟ إذن تكون الرواية رافعة للوعي، عندما يقف القارئ موقفاً نقدياً من الرواية، وإلا سيصبح الوعي المتأتي عن الرواية كضربة الحظ، قد يحدث أو لا يحدث! وإن كان من مثال على الوعي المزيّف الذي يحصله القارئ من رواية ما لا بدّ من ذكر تحليل رينيه جيرار في كتابه؛ الكذبة الرومانسية والحقيقة الروائية عن رواية مدام بوفاري؛ حيث أنّ الوعي الذي تحصّلت عليه من الروايات التي قرأتها أدّى بها إلى الاصطدام مع الواقع الحقيقي ومن ثم انتحارها.
و .س: لغة البطل كثيفة وعالية، ولولا الرمزي واتساعه، لاستغربنا السوية الثقافية والمعرفية واللغوية العالية المتجلية في أوراقه! فهل أراد الكاتب أن يعوضه بذلك عن التشوه الجسدي؟ إذ يعدّه ليكون أضحية، فتبدو أكثر كمالاً وبالتالي موصّلاً جيداً لمفهوم الفداء، فيحمل موته بالنتيجة مفهوم العنف المقدس الذي يمنع الثأر المتوالد والموروث وينهيه؟
ب .س: لقد كان الحكيم إيسوب عبداً وبشعاً. وأحدب نوتردام مشوهاً. والأول ما زالت مقولاته على ألسنة الناس إلى الآن، والثاني على الرغم من تشوهه استطاع أن يتخذ موقفا صحيحاً ومستبصراً بأنّ الثورة قادمة. وعليه ما الذي يختلف به عبد الله عن إيسوب وأحدب نوتردام، مع أنّ إشارات عديدة وردت في الرواية تشير إلى اهتمام عبد الله الجدّي بالمعرفة. بالتأكيد ستضلّل نشأته في ميتم وتشوّهه، وعمله في جمع القمامة، من حكمنا العقلي. وهذا كان مقصوداً، لأنّنا أميل لأن نأخذ بظاهر الأشياء. كان من الممكن أن يكون عبد الله غير مشوه، لكن تعارضه مع الأضحية النمطية، بأن تكون سليمة من العيوب، هو الذي فرض عليَّ تشويهه لأبرز التناقض بين أضحية عيد الأضحى التي شوّه معناها الأصلي لصالح قراءة سلطوية دينية، وتضحية عبد الله، فجاء التعارض الأول على صعيد المظهر الخارجي. أمّا التعارض على صعيد المضمون، فيكمن بأنّ التضحية المسكّنة للعنف يجب أن لا يكون من طالب ثأر خلفها. وبالمجتمع السوري الذي أدمي جراء الحرب، كيف يمكن إحلال السلام فيه من دون أن نوقف دورة العنف /الثأر. ولا يمكن حدوث ذلك إلا بأن يكون القاتل هو القتيل، والقتيل هو القاتل، فعبد الله هو القاتل والقتيل. هو الأضحية التي لا شائبة فيها، أي لا وجود لمن يطلب الثأر من أجلها.
و .س: تقول (أضحية عيد الأضحى التي شُوّه معناها الأصلي لصالح قراءة سلطوية دينية( ، ويقول المتهم في الرواية )حارس المسرح ):عيد الأضحى مسرحية تطهيرية عن خطيئتنا الأولى التي نمثلها ونكررها كل عام لكننا أضعنا جوهرها لذلك يكثر القتل فينا وعلينا” وهذا مؤشر آخر لدعوتك بإعادة قراءة النص القرآني والتراث للخروج من دوامة القتل منذ قتل قابيل لهابيل إلى دائرة الفداء. هذه الدعوة مهمة وجريئة وتصبح أكثر ضرورة كل يوم وهي تحدث بالرواية فتتقدم على الواقع الذي يطلبها ولا يتوصل إليها!
ب .س: آلية الفداء هي آلية مجتمعية لإدارة العنف كما القانون حالياً… وبالتالي الدعوة لإعادة قراءة النص الديني تندرج ضمن فهم الميكانيزميات الحاكمة بالمجتمع.
و. س: عبد الله ينسى كل يوم ما سبقه تقول : (ذاكرته تستيقظ كل يوم نظيفة من حيض التذكر) ويعود كما لو ولد تواً من التفجير، لكنه وجد طريقة للخلاص بالتدوين وكأن طريق الخروج من الأزمة يحتم التعلم والثقافة لبداية تأريخ جديد خارجاً من دوامة الحرب والعنف اليومية التي تأكل البلاد.
ب.س: إنّ النسيان أسلوب دفاعي تلجأ إليه النفس عندما لا تستطيع أن تتحمّل هول الفاجعة. لقد وعى عبد الله ذلك بشكل لا شعوري. وما القول بأنّه يستيقظ نظيفاً من حيض التذكر، إلا دلالة على رفضه للعقم، فهو يريد التذكر. ومن دون الذاكرة لا يمكن للأضحية أن تنجز مهمتها في التطهير، لذلك لجأ إلى التدوين، كما يفعل السجناء في حك حيطان السجن من أجل تدوين مرور الأيام، كي لا يفقدوا الإحساس بالتاريخ. إنّ التدوين وكتابة ما يحصل له في محيط الدمار كانا وسيلته الأولى لمقاومة الدمار، فالدمار أول ما يفعله هو أن يمحو الرموز والعلامات التي يستطيع بها العقل حيازة الواقع معرفياً. ومن هنا، كان التدوين والبحث بين الحطام على علامات متبقية، أسلوبه في إعادة رتق ذاكرته وجعلها خصبة من جديد. وعندما تم له ذلك خلق دميته/حواءه وشرع في تهيئة المسرح ورفع خشبته كي يعيد تمثيل مسرحية الجثة، كي تتم المصالحة بين القاتل والقتيل.
و.س: خشبة المسرح، هي سفينة نوح كما في حدث الطوفان!
ب.س: نعم التناص كان واضحاً.
و.س: تقول المصالحة بين القاتل والقتيل، وذلك يعيدنا إلى السؤال التالي:
ثلاثة تجمعهم صداقة الكتب، وتاريخ الميلاد، وجريمة يتقاسمونها بشكل ما؛ القاتل /المتهم ــ والقتيل/ الأضحية، ومن ثم المحقّق الذي يرث ساعة الأرمني مسيو كارنيك (والذي يعني اسمه الخروف ــ الأضحية أيضاً ) ، هل أردت مقاربة ثالوث جديد يكون فيه الموت على خشبة المسرح بانتظار قيامة الحياة /الخلق من قلب تل الخردة حيث تتشابك الأشلاء مع بقايا الدمار؟
ب.س: إنّ الجذر الثلاثي لفعل (قتل) هو الذي يمدّنا عبر الاشتقاق بكل من كلمتي: القاتل والقتيل. ما الذي يعنيه ذلك؟ يعني تعالقاً لا يمكن الفكاك منه، ما دمنا نأخذ معنى واحداً من معاني الجذر(قتل). ميزة مفهوم الفارماكوس اليوناني أنّه يشتمل بشكل واضح على معنيين متضادين، لكن متكاملين، فالسم يصنع منه الترياق، والترياق هو دواء السم. لهذا كانت الأضحية الفارماكوسية كعبد الله قادرة على إيقاف العنف لأنّها تكشف معاني الجذر (قتل)، فلا تصيبنا أحادية الرؤية بالعماء. ومن دون مسرحة العنف والأضحية، لايمكن أن نأخذ مسافة للحياد، ومن ثم المصالحة. والمسرح يقدم هذه المسافة عبر عبد الله نفسه، الذي قدّم نفسه أضحية على مسرح القباني جاذباً إلى دائرة الجريمة، ممثّل الثقافة؛ أي بائع الكتب. وممثّل السلطة؛ أي الرائد هشام، حتى يحدث الجدل الغائب بسبب العنف، ويتكشّف المعنى الجوهري للجذر (قتل) ألا وهو معرفة كنه الشيء! وعندها تتضح لنا أصول العنف، فمن الممكن تحقيق السلام والحياة بناء على ذلك.
البطل عبد الله كان يبحث عن هويته؛ يقول تدفعني الخيبة لا الأمل، لأبحث في الماضي عن تأصيل لهوية مضطربة. فخيبة الإنسان بالانتماء (عدم تحقّقه) تجعله يبحث في الهوامش عن بديل. وغالباً ما يعيد إحياء الانتماءات الضيقة كتعويض. وهي في الحقيقة محرك آلية العنف! أمّا عبد الله؛ فبحثه أخذه إلى المسرح والدمية ذات الصوت المكبوت أو العميق. أو كما أسميتها حواءه ومعها أكمل البحث وصولاً إلى إعادة الأب والأم إلى المسرح في إشارة لإعادة الحياة، تأصيل وتأسيس البحث عن هوية جديدة، هو القضية التي تؤسس الحياة الجديدة إذن!
لا أحد يستطيع الهرب من هويته، فهي معطى وجودي في حال ضياعه، فهذا يعني العدم. لكنّ البحث عن الهوية المحدّدة سلفاً يصبح حالة عنفية، عندما تبدأ بإلغاء الآخر، وأي هوية فيها من الإلغاء الكثير؛ لذلك قال سارتر: “الآخرون هم الجحيم”. أمام هذا الواقع المخيّب للآمال، كان لا بدّ لعبد الله ان يبتكر حلاً كي تنفتح الهوية على إنسانيتها، بحيث يصبح الآخر امتداداً حيوياً لها. إنّ تأصيل الوجود في مخيال عبد الله عبر الدمى التي صنعها لم يكن ليتم إلا عبر قصّ الخيوط التي تربط الدمى بيد محرك العرائس لتصبح حرّة. إنّها دعوة لخلق هوية تولد من محايثة الحياة تنمو كل يوم وتتجدّد، رافضة لأي شكل مسبق يحدّد وجودها، هكذا يصبح وجودها خياراً، لا قدراً محتوماً محدداً بشكل مسبق.
و. س: مقولة قتل الأب: ارتفعت الأصوات الداعية لها. وهناك الصوت التحذيري لديك قد جاء على شكل نبوءة؛ ستقتلون الأب ولن تجيدوا دفنه، ستقتلكم رائحة جثته، تقول: “سنوات، ونحن نحمل جثة الأب. ونحن نعلك لحمه كالصوف. والبلد تغرق بالقتل، نقتل الآباء ويتكاثر الأبناء كالجراد. وهكذا نعلن القطيعة، لنؤسس لأبوتنا وكراسينا المصنوعة من عظام الأباء”. فإذن قتل الأب كان تأسيساً لآباء لا يختلفون عنه، بل يتجاوزونه في القسوة! في عملية إعادة تدوير للعنف. لكنّك تعيد الأب وتجلبه للمسرح لنلمس تمييزك للأب الذي تريد إعادته المعبّر عنه بالعقل؟ ( هذا من فضل العقل) المقولة التي تحطمت في الهياج؟
ب.س: إنّ قضية قتل الأب قد تكرّرت كثيراً في الميثولوجيا الإنسانية. إذن هي رمزية أكثر منها فعلاً واقعياً، فقتل الأب، هو قطيعة مع منظومة سابقة ثبت فشلها، بأن تكون محايثة للحاضر. وبما أنّ مصير الأبناء أن يصبحوا آباء؛ إذن، هم ضحايا جدد. لهذا يقال، بأنّ الثورة تأكل أبناءها؛ وذلك عبر تحويلهم إلى آباء، من الضرورة أن نثور على الآباء الجدد. إنّ إعادة الأب عبر دمية في أوراق عبد الله مع ربطه بمقولة (هذا من فضل العقل) فقد جاء ذلك من أجل إيقاف دورة العنف، وإنشاء الحوار بين الأصول والفروع الذين سيغدون بدورهم أصولاً تنبت فروعاً وهكذا دواليك. https://www.salonsyria.com/%d8%ac%d8%b1%d9%8a%d9%d8%a9-%d8%b9%d9%d9-%d9%d8%b3%d8%b1%d8%ad-%d8%a7%d9%d9%d8%a8%d8%a7%d9%d9%8a-%d8%ad%d9%d8%a7%d8%b1-%d9%d8%b9-%d8%a8%d8%a7%d8%b3%d9-%d8%b3%d9%d9%8a/

June 11, 2023
الحمار بألف وجه، فيلم جيرزي سكوليموفيسكي – باسم سليمان
مقالي في صفحة سينما/ الصباح العراقية الاثنين 12/6/ 2023 العدد 5706
هذا العنوان يحيلنا إلى كتاب جوزيف كامبل، البطل بألف وجه، الذي يدرس فيه ثيمة البطل في الثقافة الإنسانية، لكنّنا، هنا، لا نتهكّم، بل ننبّه إلى أنّ ثيمة الحمار في القصّ الإنساني، قد تبدّت بألف صورة، استطاع الحمار فيها أن يخرج من إطار مقولة: “كالحمار يحمل أسفارًا”. إنّ مسحًا سريعًا للتاريخ، يظهر لنا، كم هي كثيرة السرود التي تناولت موضوعة الحمار؛ من الحمار الذهبي، لِلوشيوس أبوليوس، مرورًا بحمار جحا، إلى معضلة الفيلسوف جان بورديان عندما اتخذ من الحمار مثالًا يناقش فيه حرية الإرادة، و(دابل) حمار سانشو الذي وصفه بأنّه: “ابن أحشائه، وفرحة أولاده، وغبطة زوجته، وأنّه يكسب من المال مايزيد عن علفه” وصولًا إلى (بنيامين) الحمار في مزرعة الحيوان، والحمار (بالتازار) بطل فيلم المخرج الفرنسي روبير بريسون وغير ذلك الكثير.
كان EOيعيش في فردوسه مع مدرّبته التي تحبه في السيرك، حيث يقدّمان فقرة يتعرّض فيها EO للإغماء، فتنقذه عبر التنفّس الإصطناعي، لكنّ السيرك يفلس، ويصادر الحمار. ومن ثم تهتم به جمعية تُعنى بحقوق الحيوانات وتقيم مظاهرات ضد العنف المسكوت عنه تجاه الحيوانات. يُرسل الحمار إلى مزرعة تُعنى بأحصنة السباق، وفي الطريق يرى الأحصنة تجري بحرية يفتقدها. وعندما يتم افتتاح المزرعة باحتفال، يزيّن الحمار بإكليل من الجزر، لكن بعد قصّ الشريط، ُيترك خارجًا، فيما يدخل الحشد المحتفل إلى الداخل، واحتجاجًا على ذلك يقضم جزرة من إكليله، رافضًا مكر الإنسان الذي يدفع الحمار للتحرّك إذا حرن، وذلك بأن يقدّم له جزرة تظل أمام فمه، لا يطالها، مهما سعى. يعمل EO في المزرعة ويحسد الأحصنة، لكنّه مع الوقت يكتشف بأنّها لا تقل عبودية عنه، فيهرب وفي طريقه يدمّر الخزانة التي تحوي الكؤوس والنياشين التي حازتها الأحصنة في السباقات، فما نفعها إذا كانت أحصنة السباق عندما تهرم تكافئ برصاصة.
يُقبض عليه ويرسل إلى مزرعة أخرى، حيث يلاعبه الأطفال، لكنّه حزين يحلم بمدربته. وفي عيد ميلاده تأتيه لتحتفل معه، لكنّها لا تستطيع البقاء معه، فيقرّر أن يهرب ويبحث عنها.
كانت محبة الحمار لمدرّبته، هي الدافع لثورته وهروبه بحثًا عنها، لا لأفكار طوباوية يتلبّسها. وفي الطريق إليها يكتشف كذبة احترام حقوق الحيوان، وكم هو قاسٍ عالم الإنسان، وغير مبالٍ في جوهره، وأنّ الرأفة الظاهرة مجرد قناع يختفي تحته عنف كبير، فمن مجزرة الثعالب التي رآها في الغابة، إلى تحطيم أطرافه من قبل مشجعي فريق كرة القدم المهزوم، بعدما عدّه الفريق المنتصر فأل حظه، فأخذوه للاحتفال. وهناك يتعرّض للضرب من قبل مناصري الفريق المهزوم، فيرى كابوسًا عن حيوان آلي يجوب الشوارع. وما إسعافه إلى مشفى الحيوانات، ومن ثم العناية التي نالها من قبل البياطرة، إلّا سببًا ليجرّ عربة الخدمة في المستشفى، لكنّه يرى العنف الممارس على حيوانات المخابر، وفي لحظة غضب يرفس سائسه الذي يعذّب الحيوانات، ويهرب.
يعتبر سكوليموفيسكي من رواد الموجة الحديثة في السينما في الستينات من القرن العشرين، ولقد ترك بصمة كبيرة عبر مجموعة من الأفلام نال عنها الجوائز من مثل: المغادرة/ الدب الذهبي، ونهاية عميقة/ جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان، وغير ذلك. وبعد هذا التاريخ قرّر سكوليموفيسكي، وهو في الثمانينات من عمره، أن يجعل من عيني الحمار عدسات كاميرته، لربما لأنّ البطل الإنساني لم يعد بطلًا، ولم يعد قادرًا على تمثّل أوجهه، كما عند جوزيف كامبل. تنتهي قصة EO مقادًا ضمن قطيع من البقر إلى حظيرة أخرى، نأسف ونحزن لذلك، ولربما لو كان هناك إنسان في مكانه، لما حزرنا ردّة فعلنا! ولربما كانت أحد أوجهها: اللامبالاة، لكن كما عوّدنا EO، سيهرب من جديد بحثًا عن مدربته وحرّيته! لقد صوّر سكوليموفيسكي فيلمه من خلال عينيّ EO وبالكاد مرّت بعض الجمل في الفيلم، فما حاجة الحمار لها، وكثيرًا ما كان ينهق بمقابل الكلام البشري.
بقدر ما كان فيلم EO رثاء لحال الإنسانية، فقد كان دعوة للعودة إلى الطبيعة، فمازال الحمار قادرًا على اكتشاف أسهل الطرق في المتاهة البشرية كي يقودها إلى نور ما. ألم يكن تاريخيًا هو المهندس الأول للطرق!

June 3, 2023
باسم سليمان.. أعاد خلق الحروف من جديد فى ديوانه “رأسي البسط وجسدي المقام.. أنا كسر بين الأرقام”
الأربعاء 31/مايو/2023 – 09:36 م
فى إحدى كتاباته عن قصيدة النثر، قال الشاعر الكبير أدونيس: “هناك محاولات نثرية تنم عن موهبة حقيقية ولكن هذه المحاولات النثرية لم تخلق نظامها بعد، كنتُ أول من شجع قصيدة النثر وأول من كتب عنها لكن حتى الآن ما نسميه بقصيدة النثر لا تزال مضطربة وعائمة ولا هوية لها”. كان هذا الحوار قبل أن ينتقى من بين المعروض عليه أربعة دواوين شعرية لينشرها من خلال مشروع “تحولات” الذى دشنه بالتعاون مع الكاتب الصحفى عبدالرحيم علي، رئيس مركز دراسات الشرق الأوسط بباريس، وكأنه أراد أن يقول: “هناك جيل من الشباب يفجر ينابيع أخرى للشعر غير تلك التى تدفقت، قفزوا بالحرف إلى جنان أخرى، تعريف ما يسطرون تخطى مسمى ما يقال عنه قصيدة النثر، جيل خلق مفردات خاصة به أعاد معها تذوق الشعر وساهم فى عودتها للمنافسة بعدما قيل أن هذا عصر الرواية.
لدى قراءتى الأولى لديوان “رأسى البسط، جسدى المقام، أنا كسر بين الأرقام”.. للشاعر السورى باسم سليمان، أدركت أننى أمام حالة متفردة، أخذنى عنوان الديوان لبحر من الخيالات لا تنتهي، فالعنوان يفتح الشهية للعقل أن يأكل لحكم الطريق الشهى من الصفر “اللاشئ” وصولًا إلى الواحد الصحيح!
“رأسى البسط، جسدى المقام، أنا كسر بين الأرقام”.. عنوان مختلف لوصف جديد لى كإنسان كان يرى نفسه رقما صحيحا فى حسبة الأيام!
أى كسر إذن أنا وأى كسر هو؟.. أى انتقاص يتعين على أن أجده حتى أعادل رقما صحيحا؟ وأى خطوات كانت فى جعبتى حتى صرت على ما أنا عليه الآن؟.
شمرت عن ساعدى وأنا أتحسس حروف “باسم” ذلك الصديق الذى حدثته عن بعد برغم أنه شرح حالاتى وحالتنا كجراح ماهر كشف عن مواطن الداء بلغة لم يسبقه لها أحد وكأنه أعاد خلق الحروف من جديد.
افتتح “باسم” ديوانه بتعريف مغاير للقمر لم نعهده عكس رؤيته للأشياء حوله إذ كتب:
ما القمر إلا قطعة نقد
سقطت من مال الله
أرميه مقامرًا
أهو حضور أم غياب
فيأتى نقشه وجهك!

عهد صديقنا إلى ذكر تواريخ قصائده أسفل كل مقطوعة شعرية يعزفها متفردًا وكأنه يدون لأمر ما بعث فى نفسه هذا الخيال، ما دفعنى لتفنيد صفحته الخاصة أفتش فى صوره ومنشوراته علنى أعيش معه ولادة كل كلمة، اتكأت معه على ظله وهو يرقب الماء يجرى إلى غيمة، فى غبش الأفق لا أنكر أننى تهت منه حتى أخبرنى أنه لا يجتمع طيفان، حينما سألته عن منهجه فى التفكير، قال لي:
إننى لا أفكر، بل أنظر
وبين الفكر والنظر
مسافة من قمر
لا أنكر أننى وقعت فى عشق “باسم” رغم أننى لم أره إلا على الصفحات ومن بين أبياته حاولت إيجاد تعريف له، وكلما اقتربت ابتعدت، فلا تعريف ثابت يمكن حصره:
فى غيابك
أنا رغيف يابس يتكسر ما إن يمسه النظر
لا يصلح لسندوتشات الذاكرة
أنا سلمك
فلا تحمليني
بالعرض أو الطول
بل
احضنيني
كإطفائى ينقذ النار
من الماء
أنا الموت الهارب إلى حبل غسيلك، سأطعم
الغسالة بنطال الجينز، حيث استقرت يدك
بخفة رغم صعوبة الحرف والتقاط الصورة، وضع الجسد على طاولة التشريح الشعرية، بداية من قصيدته الأولى حتى سال من الجسد العارى أمام مرآة الحقيقة المداد كنزيف.. تحسست الكلمات وندبات الجسد التى خلفها فى حتى وصلت إلى قصيدته الأخيرة التى اختار عنوانها عنوانًا لديوانه:
لديّ فتقٌ
فى منتصف وأسفل يمين بطني
كأنّه نصيحةٌ
كى تصيبَ الهدف برصاصة
يقول الطبيب: تحتاج إلى شبكة
كى نرتق الفتق.
لكن ليس فى بطنى سمكٌ
يصلح لمعجزة.
عندما خدّرت
نمتُ بلا أحلامٍ أو كوابيسْ
واستفقتُ على رتقٍ محجوب بقطب
خيوطها جُدلت من أمعاء خروف
حديث الولادة
وتساءلت أهو هدم لمعتقد سائد بتقديس الجسد؟ أم لحظة مواجهة بين روح أعاقها هذا الجسد عن التحليق، فأرادت الخلاص بتعظيم تكوينه وتسفيهه فى آن واحد، باستباق تشييعه لتصبح الروح حرة غير مقيدة الأوابد.
أكانت تلك الروح لجسد آخر تستطيع التماهى فيه فتشكله حيث شاءت؟ ثمة اغتصاب حدث فأجبر النقيضين على التعايش رغمًا عن التنافر، قلت ذلك قبل أن أصل إلى وصفه الذى أكد حدسى هذا:
أفكّر أن أهدى روحى جسدًا آخر
ولربما أعطى جسدى روحًا آخر
أحيانًا أشعر أنّ روحى يحتلّ جسمي
أو أنّ جسمى اغتصب روحى العابر.
أى حيرة هذه التى تصبح رغمًا عنا حياة نتحسسها بأطيط نعالنا حتى نمر وتمر دون قصد ولا سبيل؟، فقط مرغمين أن نمضى ننتظر حلًا من السماء للخلاص مما وضعتنا فيه الأقدار.
لجسدى ظلّ فى النهار
ولروحى شبح فى الليل
يا الله اكسف الشمس
واخسف القمر
حتى أجد يقينى.
بين كسر الأرقام ومن على صفحات الديوان لملمت دمعى المسكوب بين شجن وحب، وكتبت تلك الكلمات إلى صديقى البعيد القريب “ربما تلاقينا من قبل أو كنت أنا الذى لم أستطع أن أكتبه”.
إِذا جارَيتَ فى خُلُقٍ دَنيئًا
فَأَنتَ وَمَن تُجاريهِ سَواءُ
رَأَيتُ الحُرَّ يَجتَنِبُ المَخازي
وَيَحميهِ عَنِ الغَدرِ الوَفاءُ
وَما مِن شِدَّةٍ إِلّا سَيَأتى
لَها مِن بَعدِ شِدَّتِها رَخاءُ
لَقَد جَرَّبتُ هَذا الدَهرَ حَتّى
أَفادَتنى التَجارِبُ وَالعَناءُ
أبو تمام
باسم سليمان يكتب: هاتف أدونيس
عندما جاءنى الهاتف من أدونيس، قلت فى نفسي، ها هو كبير واد عبقر! تخيّلت لحظتها ما قاله التراث عن زهير بن أبى سلمى وابنه كعب: (تحرك كعب وهو يتكلّم الشعر)، فكان زهير ينهاه مخافة أن يكون لم يستحكم فى شعره. وعندما لم يتوقّف كعب عن ذلك، أردفه زهير خلفه على الناقة وبدأ فى امتحانه فى أوصاف الناقة والنعامة على عادة شعراء الجاهلية، يقول زهير البيت وعلى كعب أن يجاريه. قال زهير: وإنّى لتعدينى على الهم جسرة/ تخب بواصل صروم وتعتق. وبعد قوله ذلك صرخ بابنه: أجز يا لكع، فقال كعب: كبنيانة القرنى موضع رحلها/ وآثار نشعيها من الدّف أبلق. وظلّ يمتحنه حتى أجاز له قول الشعر مطلقًا) وزعمت بأن أدونيس، سيقول لي: أجز يا لكع!
فى بداية الثمانينيات، شعر أبى مدرس الفلسفة بأنّ (الكلمة) خائنة، فصبّ جام غضبه الكسيح على مكتبته، فتركها نهبًا ليد طفل ممسوس بالإبحار والطيران، وأذكر تمامًا اسم أدونيس على غلاف أحد الكتب لم أعد أتذكّر عنوانه، لكن ما زلت أشعر بيدى تمزّق الصفحات لأصنع منها طيارات ورقية وقوارب وطواحين هواء وقد ذكرت شيئًا من ذلك فى روايتي: (جريمة فى مسرح القباني). ودارت الأيام لأعيد شراء الكتب التى مزّقتها وخاصة كتب أدونيس.
قال عنترة يومًا: “هل غادر الشعراء من متردم!” ضجرًا من الشعراء الأقدمين الذين سبقوه فى قول كل شيء وهذا المقول ينطبق على شعر أدونيس أيضًا، فهل تركَ أدونيس شيئًا لنا لنقوله؟ لكن أدونيس قال: “عش ألقًا، ابتكر قصيدة وامض، زد سعة الأرض”. إنّها دعوة لكل شاعر أن يبتكر أرضه والأحرى جسده/ قصيدته، فبالجسد تعاش التجربة الوجودية، ولا يوجد جسد يشبه آخر ومن هنا تزداد سعة الأرض، ويصبح قول عنترة نافلًا. هذه الزاوية المستقيمة، هى مدار الحديث الذى جرى بينى وبين أدونيس، فعندما طلب منّى أن أختار القصائد من مجموع دواوينى بسبب أن آخر ديوان لي: (خالٍ كصفر تهبّ فيه ريح الأعداد) كان قد صدر عن سلسلة الإبداع فى مصر، وليس من إنتاج جديد لى حاليًّا، تصوّرت أن أدونيس من سيختار ويحكم، لكنّه أومأ لى على لسان زهير: أجز يا ناقد!
إذن، أدونيس لم يملِ عليّ، بل كان حريصًا على أن أستخرج أرضي/ قصيدتى الذاتية من العمق، وكأنّ أدونيس يؤكّد على رفض الأبوة الثقافية، التى ألبست له عنوة، وسلّمنا بها اِتباعًا. ولذلك سألته مستدركًا: يقول مارتن هيدغر: “المفكّر الكبير يجب أن يرتكب أخطاء كبيرة” ويذكر نيكوس كازانتزاكى في: (تقرير إلى غريكو) عن شاب رفض طلب انتسابه لأحد الأديرة فى سيناء لأنّه كان بلا أخطاء، فطريق القداسة وفق كازانتزاكى يجب أن يكون مليئًا بالمعاصي، فما هى أخطاء أدونيس؟ يجيب أدونيس: “صحيح! وهى لا للمحو بل للتأمل! وما أكثر أخطاء أدونيس وما أكبرها!”
كشفت لى تجربة انتقاء قصائد الديوان: (رأسى البسط، جسدى المقام، أنا كسر بين الأرقام) سوء فهم نحو أبي، لم أستطع أن أجد له جوابًا، بأنّه كيف سمح لى أن أدمّر المكتبة! والآن وأنا أختار من مجموع دواوينى القصائد التى سيتضمّنها الديوان الذى سيصدر عن سلسلة تحوّلات برعاية أدونيس، حلّت عقدة سوء الفهم تلك!
أظن بأنّ سلسلة تحولات أشبه بالمنارة، وكثيرًا ما يصنع نورها الوامض البحر والبحارة والميناء والسفن والنوارس والأمواج والشطآن.
الشاعر السورى باسم سليمان فى سطور
حاصل على إجازة جامعية فى الحقوق من جامعة دمشق، ويكتب مقالات نقدية وإبداعية فى العديد من المجلات والصحف والجرائد السورية والعربية. يقوم بتغطية النشاطات الفنية والأدبية فى عدد من الصحف العربية.
صدر له العديد من المطبوعات الإبداعية، من بينها دواوين “تشكيل أول” عام 2007، “لم أمسس” عام 2011، “مخلب الفراشة” 2015، “الببغاء مهرج الغابة” 2016، “خال كصفر تهب فيه ريح الأعداد” 2022.
وفى مجال الرواية، صدرت له روايتان، هما “نوكيا” عام 2014، و”جريمة فى مسرح القباني/ الحد والشبهة” عام 2020.
وفى القصة، صدر له “تمامًا قبلة” عام 2009.كما صدر له كتاب بعنوان “الحب عزاؤنا الأخير”،عام 2022، ويتضمن سلسلة مقالات.

June 2, 2023
ما ينقص الخيال العلمي العربي، ليصبح مرآة مستقبلية؟ – باسم سليمان – ضفة ثالثة
أنتجت الثورة الصناعية التي عاشها الغرب في القرن التاسع عشر تبدّلات جذرية في المجتمع الغربي، على عدّة مستويات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ودينية. ترافق هذا التغيير بظهور أدبيات تعنى بهذا الواقع الجديد، وخاصة بسبب تفاؤل البشرية بمستقبل أفضل نتيجة التقدّم العلمي والتقني، لكن في الوقت نفسه ظهر التخوّف تدريجيّا من منجزات العلم، وخاصة في تطبيقاته العسكرية والسياسية والبيولوجية. هذه الأدبيات أطلق عليها تسمية: الخيال العلمي.
لم تكن كلمة: (علم) عبر صيرورتها التاريخية، كما نعرفها الآن، بارتباطها بحقائق العلوم التجريدية والتطبيقية، أسواء الفيزيائية أو الكيميائية أو الرياضياتية أو البيولوجية وغير ذلك، والتي تشكّلت من الاستقراء والاستنتاج من خلال المناهج النظرية والتجريبية، بل كانت ترتبط، أيضًا، بالأسطورة والسحر والدين؛ وهي معارف بقدر ماهي مؤثّرة في المجتمع، إلّا أنّ موضوعيتها ذاتية تتعلّق بالمؤمن بها، فموضوعيتها ليست مستقلّة، كما الجاذبية الأرضية التي اكتشفها نيوتن، على سبيل المثال، آمنت بها أم لم تؤمن، فهي ستظل حقيقة قائمة! ولربما كانت صرخة غاليليو: (بأنّها تدور) على الرغم من تراجعه عن الحقيقة العلمية بدوران الكرة الأرضية حول الشمس -حفاظًا على حياته- والذي نقض بها الكون البطليمسي ورأي أرسطو والكنيسة بأنّ الأرض مركز الكون، دليلًا على استقلالية الحقيقة العلمية. إنّ المعرفة العلمية ذاتية الوجود عن مكتشفها والمعتقد بها، فقوانين الكون لا تخضع للأدلجة، فالجدول الدوري للعناصر الكيميائية، لن ينقص فيه أو يزيد عليه صاحب الإيديولوجية الشيوعية أو الرأسمالية أو الدينية شيئًا، أمّا استخدام تلك الحقائق العلمية من قبل البشرية، فهو أمر نسبي، ومع ذلك، لا يغير من ذاتية وجود الحقيقة العلمية الموضوعية شيئًا. ابتدأنا بهذا الكلام، ما دمنا سنقارب أدب الخيال (العلمي) الذي تمتد جذوره عميقًا في تاريخ الإنسان، فارتباط الخيال بالعلم؛ والعلم هنا، أصناف محايثة لما يضاف إليه، فهناك العلم الناتج عن الأسطورة، والعلم الناتج عن السحر، والعلم الناتج عن الدين، ولم ينفك يومًا هذا الارتباط، حتى نبدي دهشة من ارتباط المتناقضين: العلم والخيال في زمننا الحالي، في هذا المذهب الأدبي الذي ظهرت إرهاصاته في أوروبا مع فرانسيس بيكون صاحب المنهج التجريبي العلمي في متخيله اليوتوبي: “أطلنتس الجديدة” وأصحاب الرحلات اليوتوبية إلى مدن طوباوية تجد جذورها في مدينة أفلاطون الفاضلة، والكثير من قصص الرحلات إلى عوالم جديدة غريبة، بدءًا من لوقيانوس السميساطي(1) الذي حطّ رحاله على القمر، وصولًا إلى السندباد الذي ارتاد مناطق مجهولة في العالم القديم. ومع ذلك لم تكن تلك اليوتوبيات الحديثة في صف العلم البيكوني نسبة إلى (بيكون) بالمعنى الذي يريده هذا المذهب الأدبي، بل كانت من الأدبيات المناهضة للعلم، تخوفًا من نقضه للعقائد الدينية. وعندما نمعن النظر في (رحلات غالفر) لجوناثان سويفت، نجد أنّه ينتقد الرأسمالية الصاعدة وثورتها الصناعية، وكذلك ماري شيلّي في: (فرانكشتاين، والإنسان الأخير)، كانت تحذّر من مغبة التطورات غير المسؤولة للعلم، فالأصول السردية للخيال العلمي لم تكن من المهلّلين للنهضة الحاصلة فيه. وعلى الرغم من ذلك تعتبر روايتيّ ماري شيلّي مبتدأ أدب الكوارث، ومن ثم ألحقا فيما بعد بالأصول العديدة للخيال العلمي.
إنّ الانتقال إلى المديح المباشر للتطورات والاكتشافات العلمية في القرن التاسع كانت مع إدغار آلان بو(2) في قصيدتيه: سوناتا إلى العلم، في عشرينيات القرن التاسع عشر، و(يوريكا) عام 1848 والتي تمثل صرخة أرخميدس المشهورة، وبعدها تتالت قصص وروايات كل من جول فيرن الفرنسي، وهـ. ج، ويلز البريطاني في الصعود إلى القمر وحرب العوالم أوروبيّا. في المقلب الآخر للعالم نمت على يد هوجو جيرنسباك(3) في الولايات المتحدة الأمريكية مجلات الخيال العلمي إلى أن وضِع مصطلح الخيال العلمي عام 1929 وفيه طرح التصنيف الإجناسي لهذه النوعية من السرود. ففي مجلته: (قصص مدهشة) بدأ الاقتصار على القصص ذات الاستقراء والاستنتاج العلمي ومغامرات الفضاء بعيدًا عن الفانتازيات وقصص الرعب والماورائيات وقصص التأمل الصوفي. وفي هذه المجلة تم صك المصطلح التجنيسي: science fiction الذي يرمز له اختصارًا (SF) حيث تمت دعوة الكتّاب إلى إبداع قصص على منوال سرود جول فيرن وهـ. ج، ويلز، وإدغار آلان بو، حيث أصبحت الفكرة العلمية وما ينتج عنها بناء على السؤال التالي: (ماذا لو) وما استتبعه من أسئلة علمية (ماذا قد كان) و(ماذا سيكون) المحركات الرئيسية لأدب الخيال العلمي والدافعة له إلى حدّ الآن.
استقطبت هذه المجلات رؤساء تحرير عظام، من مثل جون كامبل وابنه، اللذين مدّا السرود الخيالية العلمية بجمهرة من الكتاب، من مثل: إسحاق عظيموف، وهو واضع القوانين الثلاثة التي تحكم عمل الروبوتات، وروبرت هاينلاين مبتكر شخصية المهندس البطل القليل الكلام، والذي يحلّ المشكلات العلمية بهدوء ورباطة جأش، مستخدمًا التفكير المنطقي العلمي وغيرهم الكثير.
استطاعت تلك المجلات أن تؤمّن ساحة للنقاش، وتطوير هذا النوع الأدبي من قبل المتابعين لها، حيث أن الكثير من كتّاب الخيال العلمي كانوا من القرّاء لها. ورويدًا رويدًا تسنّمت الولايات المتحدة الأمريكية راية هذا الجنس الأدبي وتبعتها أوروبا في ذلك.
حرص كل من جيرنسباك وكامبل على تواجد عدّة ثيمات في سرود الخيال العلمي: المتعة، التنبؤ، التعليم، والتحذير من نتائج العلم غير المنضبط. وتبعهم الكتّاب في ذلك، مستوعبين الأدبيات الرافضة للتغوّل العلمي عبر ديستوبيات سوداوية عن مستقبل الإنسان، لكن في الوقت نفسه أشرعوا الفضاء للسفر والاكتشافات في مجاهل الكون.
ما نريد قوله أنّ الخيال -وفق ما يضاف إليه- كان متجذرًا في ثقافة الإنسان، ففي رحلة جلجامش إلى جدّه أتونفشتيم بحثًا عن الخلود، تجاوز المألوف من الأرض إلى حدّ الغرابة، حيث مسكن الخالدين، أليست الغرابة، أي نزع المألوف عن الكون، بارتياد مناطق جديدة في أدب الخيال العلمي هي أحد خصائصه، وهناك أخبره أتونفشتيم عن عشبة الخلود. وهذه العشبة تحيل بدورها إلى المعرفة الطبية التي بنى عليها الخيال العلمي الكثير من أدب الكوارث والديستوبيات من خلال تغيير بيولوجية الإنسان عبر الهندسة الوراثية. وفي (أنساب الآلهة) لهزيود يرى أنّ الإنسان انحدر من عصر ذهبي (يوتوبيا) أسطوري إلى عصر حديدي (ديستوبيا) نتيجة فساده الأخلاقي المعبّر عنه حاليّا بالفساد الأخلاقي للعلم الذي سيقود إلى رقابة الأخ الأكبر كما في رواية 1984 ، مادامت أنساب الآلهة قد كتبت من قبل هزيود نتيجة معاملة أخيه السيئة له، كما يذكر جان بيير فرنان (4). وعندما يناقش جيمس فريزر (5) السحر بنوعيه التشاكلي/ المحاكاة والاتصالي، نكتشف بأنّ الخيال السحري الذي ملأ ألف ليلة وليلة؛ من البساط الطائر إلى البلورة السحرية ورحلات السندباد إلى عوالم غريبة، كان منطق ذلك الزمان. ولربما الذكاء الصنعي، الذي نعيش إرهاصاته الآن قد انطلق من مرآة خالة بياض الثلج التي كانت تجيبها عن سؤالها: من أجمل امرأة في الكون، بأنّ أجمل فتاة في العالم: هي بياض الثلج. أمّا على صعيد الخيال الديني، أسواء كان في رسالة الغفران للمعرّي، والجحيم لدانتي، حيث تمنحنا الرحلة القدرة على خرق الحواجز الطبيعية إلى ما وراء الطبيعة، حيث تمثل كل من الجنة والنار مخيالًا يوتوبيًا وديستوبيًا. وحتى الكلمة التي بها خلق الكون نجد لها في الأسطورة جذرًا، فلم تمنح الآلهة الثائرة على الإلهة تعامة السلطة المطلقة لمردوخ إلّا بعد أن امتحنوه، بأن يفني رداءً طرحوه أمامه، ثم يعيده إلى الوجود بمجرد أن يقول كلمته.
نستطيع أن نعد رواية هـ. ج. ويلز (آلة الزمن) الفرع المؤسّس لروايات وقصص الخيال العلمي لارتياد الأزمنة ماضيها ومستقبلها، مع أنّ ويلز لم يتطرق إلى افتراضات أينشتاين الفيزيائية عن السفر عبر الزمن، فقد سبقها قصة النائمين السبعة في التراث الإنساني كطريقة لتجاوز الزمن الحاضر. والنوم كوسيلة للسفر عبر الزمن استخدمت كثيمة أصيلة في الخيال الأسطوري والسحري والديني. وإذا اعتبرنا رواية ماري شيلّي (اليوم الأخير) كأدب كوارث وبائية أو ديستوبية عن نهاية البشرية، نجد في المتصور الديني يومًا أخيرًا يحل نتيجة فساد الإنسان الأخلاقي، أمّا روايات عظيموف عن الروبوتات، فنجد في الإلياذة وصفًا شبيها لبشر كأنهم آلات.
هذا يعني بأنّ الخيال بخصائصه النبوئية والحدسية والكشفية والتعلمية والمتعية لعب دورًا حاسمًا في معرفة الإنسان، أكانت أسطورية أو سحرية أو دينية وأخيرًا علمية. والإنسان في كل مرحلة كان ينتج خيالًا مضادًا للخيال السابق ويتهمه بعدم المعقولية، فالفلاسفة اليونانيون عندما ثاروا على الأسطورة الإغريقية أوجدوا منطقًا معقولًا، وفق نظريتهم عن الوجود على سبيل المثال: عالم المُثل لأفلاطون. كذلك رفض الدين الخوارق السحرية وأقرّ المعجزة الدينية. ولكي نوضّح أكثر، فعندما نقض كوبرنيكوس نظرية مركزية الأرض عارضت الكنيسة ذلك، لكن عالم الفلك يوهان كيبلر كتب قصة فانتازية تأملية استنادًا إلى مركزية الشمس في المجموعة الشمسية، وبالتالي هناك ليل ونهار على القمر، لكنّه خمّن بأنّه إنْ كان من أناس هناك، فقد تأقلموا مع ليل ونهار القمر الطويلين جدًا، لنا أن نفسر قصة كيبلر، بأنّه رويدًا رويدًا سيتأقلم المجتمع مع نظرية كوبرنيكوس وهذا ما حدث. إنّ ما قصده كيبلر يكمن في أنّ الحقيقة العلمية مستقلة وجوديّا، كُشفت أم لم تكتشف، كذلك المعقولية العلمية في الخيال العلمي، هي ما تميّزه عن غيره من متخيلات أسطورية وسحرية ودينية. هذه المعقولية المنطقية المدعمة بحقائق العلوم، فتحت الباب على مصراعيه للسؤال: (ماذا لو يحدث ذلك) وفي الوقت نفسه شرعنت البحث في النتائج، أكانت سلبية أم إيجابية، فالخيال العلمي إن صحّ لنا القول، هو تجربة مفترضة مأمونة العواقب يتم بها استشراف مستقبلنا العلمي، أكانت نتائجه كارثية أو طوباوية، وهذه الصفات للخيال العلمي، بقدر ما تقطع مع غيرها من تخيّلات، تصل ذاتها من جهة أخرى، بالمتخيّل الأسطوري والسحري والديني عبر تأويلها.
هذا التناص بين ثيمات الخيال العلمي ومناقضاته من ثيمات أسطورية وسحرية ودينية، تم استيعابها من قبل الخيال العلمي، بناءًا على قاعدة الممكن والمستحيل والمعقول وغير المعقول، فالمنطق العلمي أساسي في هذه السرود الخيالية، وذلك يعود إلى الصدمة الحضارية والعلمية والاكتشافية التي قادت إليها الثورة الصناعية والتقنية في أوروبا في القرن التاسع عشر والعشرين، حيث أصبح الخيال العلمي رديفًا للمنجزات العلمية وفي الوقت نفسه محذرًا من تبعاتها. إنّ قراءة خريطة إنتاجات السرود الخيالية العلمية نجدها تتركز في أمريكا وتليها في ذلك أوروبا والاتحاد السوفييتي سابقا، وشذرات هناك وهناك في بعض الدول. إنّ هذا التمركز الغربي للخيال العلمي ناتج من البيئة العلمية الواضحة للعيان هناك، على عكس غيرها من مناطق العالم كالوطن العربي.
وإذا أردنا أن ننتقل إلى دراسة كشفية استنتاجية لواقع السرود الخيالية العربية، يجب أن نأخذ في الاعتبار البيئة المجتمعية الخاصة لهذه المنطقة، لكي نفهم الأسباب التي تفسر قلّة الإنتاج الأدبي في هذا المخيال العلمي وعدم انتشاره بين القرّاء وحتى عزوف النقّاد عنه.
تُعتبر سرود الخيال العلمي في الوطن العربي نادرة، وقد امتدّت على مدى قرن كامل. ونستطيع أن نذكر بعض السرود المميزة كرواية (القارة المفقودة) للتونسي الصادق الرزقي، وتوفيق الحكيم في مصر في قصته (سنة المليون) ونهاد شريف في (قاهر الزمن) و (الأزمنة المظلمة) لنبيل فاروق، والمغربي عبد السلام البقالي في (الطوفان الأزرق) والسوري طالب عمران في (العابرون خلف الشمس) و لينا الكيلاني من سورية، وطيبة أحمد الإبراهيم من الكويت وهؤلاء منهم من كتب قصة أو رواية واحدة وتوقف بعدها، ومنهم من استمر كنهاد شريف وطالب عمران ولينا الكيلاني على سبيل المثال. لا تختلف كثيرًا مواضيع السرود لدى هؤلاء الروائيين العرب والقاصين عن مثيلاتها في الغرب، لكنها أشبه بشهب ما إن يظهر في سماء الأدب حتى يختفي، فلقد ظل نتاجهم متفرقًا مغفلًا إلّا على الدوائر الضيقة من المختصين والمتابعين، فلم يشكّلوا حالة قرائية لدى القرّاء العرب. وهذا لا يعود لضعف مستوى تلك السرود أبدًا، بل لموقف تشكّل من عدّة عوامل سياسية ومجتمعية وعلمية واقتصادية، فعلى الصعيد السياسي كان الوطن العربي يخوض غمار الثورات التحررية، وبعد ذلك وقع في براثن ديكتاتوريات جعلت الهمّ السياسي طاغيًا، بحيث أصبح التفكّر بالمستقبل العلمي رفاهية لا يطولها من يصارع للحصول على حق التعبير. أمّا اجتماعيّا، فقد جعلت الأمية وسيطرة العادات البالية والتخلف الاجتماعي من مقول الخيال العلمي كحديث الخرافة. إلى جانب أنّ البيئة العلمية ومختبراتها ومصانعها التي صدمت المجتمع الغربي في القرن التاسع عشر لم توجد أبدًا في مجتمعاتنا، فلم يشاهد العربي صاروخًا يخترق السماء إلى الفضاء الخارجي، ولا مكوكًا فضائيًا يهبط في إحدى القواعد كما في (ناسا) مضافًا إلى ذلك الهمّ المعاشي، فمن يكن قلقه الأكبر تأمين رغيف الخبز، لن تعنيه الكائنات الخضراء التي تسكن المريخ، أو سيطرة الحواسيب على أدمغة البشر!
لا نستطيع القول بأنّ الواقع العربي تغيّر كثيرًا في السنوات العشرين الأولى من الألفية الثالثة وخاصة من الناحية العلمية، حتى ينتشر لدينا الخيال العلمي، هذا من جهة. ومن جهة أخرى أدّى اضمحلال الاستشراف المستقبلي في الخيال العلمي لما سيستجد من تقنية، لو تم مقارنته بما تحقّق على أرض الواقع في الغرب إلى خسارة إحدى مميّزات التخييل العلمي، ألا وهي غرابة الطرح، أسواء في اكتشاف الفضاء أو علم الجينات والحواسيب، فالتطور المتسارع للاكتشافات العلمي والتقنية، يأكل المتخيّل العلمي، فكيف لدى من لم يتجاوز نتاجه القليل من سرود الخيال العلمي! ومن ناحية أخرى أمّنت السوشيال ميديا بانوراما مشهدية لكل التقنيات الجديدة، بحيث يأتي القارئ العربي إلى سرود التخييل العلمي، وهو متفوّق عليها في الاستشراف المستقبلي، فما الحلّ أمام هذا الجنس الأدبي القيّم، لكي يكون له موطئ قدم ثابتة في نتاجنا الأدبي.
هناك فروع عديدة للخيال العلمي نستطيع أن نوجزها (6)بــ: قصص المخلوقات الفضائية – التاريخ البديل/ الإيكرونيا- العوالم البديلة- الحياة فوق الكواكب الأخرى- مدن الغد- تطور تقنيات الاختراق/ Syperpank – اليوتوبيا والديستوبيا – السفر عبر الزمن – نهاية العالم. ونستطيع أن نختصرها إلى قسمين: التاريخ البديل كأن نتصور بأنّ قناة السويس لم تشق، فماذا سيكون تأثير ذلك على المنطقة العربية، أو أن فلسطين لم تحتل من قبل إسرائيل. والقسم الثاني الخيال العلمي البحت؛ والذي نستطيع أن نجمله بكل ما تم ذكره أعلاه من فروع الخيال العلمي ماعدا التاريخ البديل.
قد يكون مجحفًا، أن نقول أن الخيال العلمي العربي، لا يحتاج إلّا للتاريخ البديل، لأنّه المعقول المنطقي الوحيد في الخيال العلمي الذي من الممكن أن يتجذّر لدينا، فهو الأقرب لواقعنا ومن خلاله من الممكن أن نناقش الكثير من القضايا، والتي تدخل في عالم الخيال العلمي البحت. ولكي نشرح أكثر سنورد إحدى قصص نهاد شريف من مجموعته القصصية (الماسات الزيتونية) والتي اعتبرها – شخصيًا- من أهم قصص الخيال العلمي التي تناسب واقعنا العربي. تسرد قصة (ابن البرق) حكاية عزمي طبيب الأمراض الباطنية الطويل القامة والضخم الجثة أيضًا، الذي تصيبه صاعقة، لكنّه ينجو منها، على الرغم من احتراق كل ما حوله. يصبح جسد عزمي مشحونًا بالطاقة الكهربائية التي لا تنضب ويشرح له صديقه عالم الكهرباء حالته، وفق مقتضيات الخيال العلمي. وهنا لا بد أن يصبح عزمي كفلاش/ FLASH البطل الخارق بسرعته التي تقارب سرعة الضوء، أو يُقاد إلى إحدى المخابر كي تجرى عليه البحوث ويستفاد من حالته الاستثنائية. لكن عزمي يختفي ولا يعرف مكانه، وفيما بعد يظهر في إحدى القرى رجل طويل ضخم يشفي الناس بمجرد أن يلمسهم، كأنّه أحد رجال الكرامات الدينية. لا بدّ أنّ هذا الرجل هو طبيب الأمراض الداخلية عزمي. تصنف هذه القصة تحت فرع أدب الخيال الناعم/ التاريخ البديل؛ الذي يهتم بالموضوعات الفلسفية والنفسية والسياسية والاقتصادية، لكنه لا يغفل الناحية العلمية، بل يستخدمها إطارًا ومهمازًا لتبئير الحدث السردي والإحاطة به. وهذا النوع على عكس الخيال العلمي البحت الذي يجعل من الجانب التقني والعلمي جوهر القصة. تكمن أهمية القصة بأنّها تشير إلى عدم تخلّصنا من المخيالات الأسطورية والسحرية والدينية، فمازالت من المعقولات المنطقية في مجتمعاتنا، وهنا لعب نهاد شريف على التناقض، بين مبتدأ القصة ونهايتها، كي يبيّن كيف بإمكان المخيالات الأخرى غير العلمية أن تلعب دورًا في تحريض المنطقية العلمية، فحتى القارئ الذي لا يتبع المنطقية العلمية ستدهشه تلك النهاية، ويجدها لا تتناسب مع مقدماتها، ممّا يؤدي إلى استغرابها ورفض نهاية عزمي حتى مع قدراته الشفائية الغيبية، فعزمي لو لم يكن طبيبًا بالأساس، لما كان قادرًا على شفاء المرضى.
ولو أجرينا مفاضلة بين هذين النوعين من أدب الخيال العلمي: البحت أو التاريخ البديل، أيهما أصلح لواقعنا العربي، فماذا سيكون الجواب؟ يشترك الأدب البوليسي في الوطن العربي مع الخيال العلمي بذات النظرة التبخيسية من النقّاد والقرّاء، والسبب في ذلك يعود، لأنّ أكثر كتّاب هذين النوعين يصرّون على استنساخهما كما هما في الغرب، من دون حساب أن البيئة الواقعية لدينا لا تسمح بتجذر ذلك التخييل بعناصره كاملة كما في الغرب. ومن هنا يكمن نجاح السرد البوليسي وسرد الخيال العلمي لدينا في إيجاد النسخة الخاصة بما يتلاءم مع مجتمعاتنا.
وعودة إلى قصة نهاد شريف (ابن البرق) نجدها أكثر متعة كمخيال علمي من روايته (قاهر الزمن) مع أنّ الأخيرة على درجة عالية من الفنّية. هناك رأي سلبي للروائي نجيب محفوظ بحقّ الخيال العلمي، فقد جاء في مجلة (المجلة) وصفه الخيال العلمي، بأنّه أدب يفتقر للعمق، وهو خاوٍ، ولا جدوى منه! فهل أخطأ؟ لقد ردّ عليه الروائي عبد السلام البقالي صاحب رواية (الطوفان الأزرق) طالبًا من الأخ الأكبر للروائيين أن ينظر بعين أخرى لهذا الجنس، ولو أنّه قرأ لعظيموف، وبرادبوري، وأورويل، لكان غيّر رأيه. رفضت مارغريت أتوود أن تعتبر روايتها (حكاية خادمة علم 1986) التي تصوّر عالمًا ديستوبيًا نتج عن حرب إشعاعية أدت إلى قيام مجتمع ديني، تدهور فيه وضع المرأة جدًا؛ خيالًا علميًا. لأنها ترى أنّ الخيال العلمي متعلّق بالسفر في الفضاء والمخلوقات الخضراء! فهل أخطأت أتوود المرشحة ثلاث مرات لجائزة نوبل والحاصلة على جائزة البوكر عن روايتها المذكورة آنفًا، بالتأكيد لم تخطئ، ولم يخطئ الروائي النوبلي نجيب محفوظ، ولم يخطئ البقالي أيضًا في رده المستأنف على محفوظ!
فما الحلّ؟ لربما يأتينا من السميساطي، فعندما كتب (القصة الحقيقية) عن الصعود إلى القمر وحرب الكواكب والمخلوقات الفضائية، لم يكن يكتبها إلّا تبيانًا لواقع التزييف التاريخي الذي مارسه المؤرّخون في عصره. وأن ما يكتبه، هو كذب صريح، ومع ذلك يمتع ويثير، ولكنّه ليس واقعًا تاريخيًا ولا حتى تنبؤيًا، هذا ما أراد قوله في قصته التي تعتبر إحدى البدايات الأولية للخيال العلمي. وإذا عدنا إلى نجيب محفوظ، وعلى فرض أنّه قد قدمت له رواية خيال علمي عن جفاف النيل وما نتج عن ذلك، هل سيظل بموقفه السلبي من الخيال العلمي؟ بالتأكيد لا. إنّ مشكلة الخيال العلمي العربي بأكثر نتاجاته هي انفصاله عن الواقع العربي ومشاكله، وبالتالي يشبه قصة لوقيانوس السميساطي لكن من دون التنويه الذي ذُكر في مقدمتها، بأنّها مجرّد كذب من أجل فضح تزييف المؤرّخين.
إنّ الخيال العلمي العربي، لن يكون له شأن في سردنا الأدبي، إلّا بمقدار ما يكون مرآة عاكسة للواقع العربي، وفي الوقت نفسه صانعًا لصورته الخاصة التي تتلاءم مع محيطه وإن اختلفت عن المقاييس الغربية لهذا الخيال العلمي.
المصادر:
القصة الحقيقية، لوقيانوس السميساطي، وزارة الثقافة السورية 2019. دليل كمبريدج للخيال العلمي، أدوار جيمس وفرح مندلسون، المركز القومي للترجمة – مصر2013.المرجع في رويات الخيال العلمي تأليف: م.كيث بوكر وآن ماري توماس. المركز القومي للترجمة مصر 2010.أصول الفكر اليوناني، جان بيير فرنان. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر 2008.https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/herenow/2023/6/2/%D9%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D9%8A%D9%D9%D8%B5-%D8%A7%D9%D8%AE%D9%8A%D8%A7%D9-%D8%A7%D9%D8%B9%D9%D9%D9%8A-%D8%A7%D9%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D9%D9%8A%D8%B5%D8%A8%D8%AD-%D9%D8%B1%D8%A2%D8%A9-%D9%D8%B3%D8%AA%D9%D8%A8%D9%D9%8A%D8%A9?fbclid=IwAR0YeZVKyi9SsvP4shEerS5iVq7SSmrL9nbYmYAwOAtfdG7rGUAZpimc-J8الغصن الذهبي، جيمس فريزر. هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث 2011.باسم سليمان
خاص ضفة ثالثة

June 1, 2023
كتب باسم سليمان: هاتف أدونيس
عندما جاءني (الهاتف) من أدونيس، قلت في نفسي، ها هو كبير واد عبقر! تخيّلت لحظتها ما قاله التراث عن زهير بن أبي سلمى وابنه كعب: (تحرك كعب وهو يتكلّم الشعر، فكان زهير ينهاه مخافة أن يكون لم يستحكم في شعره. وعندما لم يتوقّف كعب عن ذلك، أردفه زهير خلفه على الناقة وبدأ في امتحانه في أوصاف الناقة والنعامة على عادة شعراء الجاهلية، يقول زهير البيت وعلى كعب أن يجاريه. قال زهير: وإنّي لتعديني على الهم جسرة/ تخب بواصل صروم وتعتق. وبعد قوله ذلك صرخ بابنه: أجز يا لكع، فقال كعب: كبنيانة القرني موضع رحلها/ وآثار نشعيها من الدّف أبلق. وظلّ يمتحنه حتى أجاز له قول الشعر مطلقًا) وزعمت بأن أدونيس، سيقول لي: أجز يا لكع!
في بداية الثمانينات شعر أبي مدرس الفلسفة بأنّ (الكلمة) خائنة، فصبّ جام غضبه الكسيح على مكتبته، فتركها نهبًا ليد طفل ممسوس بالإبحار والطيران، وأذكر تمامًا اسم أدونيس على غلاف أحد الكتب لم أعد أتذكّر عنوانه، لكن مازلت أشعر بيدي تمزّق الصفحات لأصنع منها طيارات ورقية وقوارب و طواحين هواء وقد ذكرت شيئًا من ذلك في روايتي: (جريمة في مسرح القباني). ودارت الأيام لأعيد شراء الكتب التي مزّقتها وخاصة كتب أدونيس.
قال عنترة يومًا: “هل غادر الشعراء من متردم!” ضجرًا من الشعراء الأقدمين الذين سبقوه في قول كل شيء وهذا المقول ينطبق على شعر أدونيس أيضًا، فهل تركَ أدونيس شيئًا لنا لنقوله؟ لكن أدونيس قال: “عش ألقًا، ابتكر قصيدة وامض، زد سعة الأرض”. إنّها دعوة لكل شاعر أن يبتكر أرضه والأحرى جسده/ قصيدته، فبالجسد تعاش التجربة الوجودية، ولا يوجد جسد يشبه آخر ومن هنا تزداد سعة الأرض، ويصبح قول عنترة نافلًا. هذه الزاوية المستقيمة، هي مدار الحديث الذي جرى بيني وبين أدونيس، فعندما طلب منّي أن أختار القصائد من مجموع دواويني بسبب أن آخر ديوان لي: (خالٍ كصفر تهبّ فيه ريح الأعداد) كان قد صدر عن سلسلة الإبداع في مصر، وليس من إنتاج جديد لي حاليًّا، تصوّرت أن أدونيس من سيختار ويحكم، لكنّه أومأ لي على لسان زهير: أجز يا ناقد!
إذن، أدونيس لم يملِ عليّ، بل كان حريصًا على أن أستخرج أرضي/ قصيدتي الذاتية من العمق، وكأنّ أدونيس يؤكّد على رفض الأبوة الثقافية، التي ألبست له عنوة، وسلّمنا بها اِتباعًا. ولذلك سألته مستدركًا: يقول مارتن هيدغر: “المفكّر الكبير يجب أن يرتكب أخطاء كبيرة” ويذكر نيكوس كازانتزاكي في: (تقرير إلى غريكو) عن شاب رفض طلب انتسابه لأحد الأديرة في سيناء لأنّه كان بلا أخطاء، فطريق القداسة وفق كازانتزاكي يجب أن يكون مليئًا بالمعاصي، فما هي أخطاء أدونيس؟ يجيب أدونيس: “صحيح! وهي لا للمحو بل للتأمل! وما أكثر أخطاء أدونيس وما أكبرها!”
كشفت لي تجربة انتقاء قصائد الديوان: (رأسي البسط، جسدي المقام، أنا كسر بين الأرقام) سوء فهم نحو أبي، لم أستطع أن أجد له جوابًا، بأنّه كيف سمح لي أن أدمّر المكتبة! والآن وأنا أختار من مجموع دواويني القصائد التي سيتضمّنها الديوان الذي سيصدر عن سلسلة تحوّلات برعاية أدونيس، حلّت عقدة سوء الفهم تلك!
أظن بأنّ سلسلة تحولات أشبه بالمنارة، وكثيرًا ما يصنع نورها الوامض البحر والبحارة والميناء والسفن والنوارس والأمواج والشطآن.
البوابة نيوز

زوايا؛ قائمة وحادّة ومنفرجة في رواية سوزان خلقي
في مجلة صوت الجيل الأردنية العدد 13 – 2023
يقال بأنّ الأقدار مكتوب خام، أمّا المصير، فهو تفسير هذا المكتوب وتأويل المسكوت فيه. وإذا أردنا أن نعيد ذات الكلام السابق بشكل فنّيّ، فسوف نستعين بالباحث الروسي فلاديمير بروب، الذي صنّف وقسّم الحكايا الشعبية إلى عدّة أنماط مؤسسة، تتكرّر في كل السرديات، وكأنّها أقدار. ومع ذلك، استطاعت هذه الأنماط أن تستوعب حكايات البشرية التي لا تنتهي! لا أحد يستطيع أن يهرب من قدره، أسواء كان تراجيديًا أو كوميديًا كما علّمنا المسرح اليوناني. لكن أدب الرواية الذي ظهرت إرهاصاته في القرن السابع عشر إبّان النهضة الأوروبية، اعتبر أنّ ظروف الكائن البشري أشبه بالمواد الخام التي من الممكن للفرد إدارة حيثيات وجوده / قدره فيها، ومن ثم عيش نسخته الخاصة منها بأسلوبه، وإن كانت لا تتجاوز الأنماط التي تكلم عنها بروب. هذا الأدب الجديد طرح فكرة أنّ المصير، هو من صناعة الفرد ذاته. ومن هنا كانت الفلسفة الوجودية التي نظّر لها سارتر في القرن العشرين، الذي ينصّ مضمونها على أنّ حياة الكائن البشري تُبنى لحظة بلحظة، لا شيء فيها سابق على وجوده.
تأتي رواية: (رَوَت لي حكايتها) للكاتبة الأردنية سوزان خلقي الصادرة عن دار الآن ناشرون لعام 2021. لتناقش ما تفعل الأقدار بحياة عائلة كانت كلّ المقدمات ترشّحها لأن تعيش حياة هانئة، لكن هناك مَن تلعثم بقراءة المكتوب لها، فآلت حيوات شخصياتها إلى كوارث متتالية.
ورث حسين قطعة الأرض عن أبيه وبنى عليها بيته الذي سيجمعه مع حبيبته خديجة، وأنجبا فيه أولادهم الثلاثة: أسعد وهو حسن الهيئة ويشبه أباه والذي من المفترض أن يرث منه الصبر والمثابرة. و سالم الأوسط الذي سمًي بهذا الاسم لربما يحميه من لدغة أفعى جسمه الضعيف. ومنال شبيهة أمها في الجمال والتضحية.
توطئة تشي بالأمل والسعادة، لكن للأقدار كلمتها المسموعة. كانت حورية في زواجها الأول كالغريق الذي يتعلّق بحبل المشنقة، فقد أضناها التنقّل بين بيوت أقربائها بعد موت والديها، لذلك قبلت الزواج من جارها الأرمل. لم يمنحها مصيرها الجديد إلّا مصيبة جديدة، فقد مات زوجها بحادث سيارة، لكنّ لعبة الاشتقاقات اللغوية في أقدار الكلمات لم تغلق نوافذ الأمل، فقد أُعجب بها أسعد الابن البكر لحسين وخديجة وتزوّجها. هكذا تشي المصيبة بالصواب، لكن لحورية فأل سيئ، فقد مات والداها عند ولادتها، ومات زوجها الأرمل. ولم تمض فترة على زواجها من أسعد حتى مات والداه، لكنّ حورية أنجبت له طفلين اسماهما: حسين وخديجة على اسم أبيه وأمه ولم يشفعا لها عنده. تطيّر أسعد من حورية ورأى فيها لعنة الموت، فهجرها بسبب ما اعتقده، بأنّها فأل سيئ، حيث تكون يحلّ الموت. أمام هذا الجفاء والبرود الذي قابل به أسعد حورية، أيقنت بأنّها فأل سيئ، فاختفت من حياته، تاركة له طفلين، أصبحا من مسؤولية منال وسالم، فأسعد وإن ورث عن أبيه حسن الهيئة، لكن فاته أن يكون أبًا مسؤولًا. الزاوية القائمة:
ورثت منال هموم العائلة والبيت الذي كان قد بُني في زواية تقاطع شارعين مستقيمين، فأطلق عليه تسمية بيت الزاوية، مع أنّ حياة العائلة أشبه بالخطوط المتعرّجة. تحوّلت منال إلى غولة تخيف أطفال الحارة عندما يقومون بغزوات لسرقة فواكه الحديقة التي تحيط بالبيت، لكنّها كانت في منتهى الحنان مع الطفلين. رضيت منال بقدرها الخام، على الرغم من أنّ محمود صديق أخيها، أعجب بها وبادلته الإعجاب. ولم يكن يعارض أن يتحمّل معها مسؤولية تربية أطفال أسعد، إلّا أنّها حسمت أمرها، وسلّمت وجودها لقدرها الخام، ولم تحاول تصنيعه، فرفضت الارتباط بمحمود.
تدور عجلة الأقدار ويحاول أسعد أن يسترد أبوته تجاه الطفلين عبر تأديبهما، فتقف منال وسالم بوجه عنفه غير المبرّر. وفي لحظة مصارحة تأجلّت كثيرًا، يجابهه سالم الذي كان أقرب للصمت من الكلام طوال حياته، بحقيقته، وأنه لم يمارس دور الأب مع ولديه، فلماذا الآن، ولماذا عن طريق العنف لا الحنيّة! يصفعه أسعد، فيرد سالم مغمض العينين وبيده زجاجة، فتصيب رأس أسعد في رأسه ويموت. أمام ذلك لم يكن أمام منال، إلّا تنسج سيناريو سقوط أسعد عن السلم أمام السلطات، فلم يكن سالم يقصد أذيّة أخيه، ولم تعد العائلة تحتمل المزيد من المصائب.
الزاوية الحادّة:
يكبر الطفلان: حسين وخديجة ملّوثين بذكريات غامضة عن يوم مقتل أبيهما، لكن حنان منال وسالم يمحو آثار الجريمة غير المقصودة، ولأن الحياة لا تعترف إلّا بالذين يستمرون بالمجاهدة، يضاف طابق ثان إلى بيت الزاوية القائمة ويستأجره طالبٌ كان يومًا أحد الأطفال الذين أغاروا على أشجار حديقة منال، وتسبب بموت شجرة السفرجل الوحيدة من نوعها في الحديقة. ظلّت ذكريات موت شجرة السفرجل تعاود خالد، ولربما بشكل لا شعوري قادته خطواته إلى بيت الزاوية القائمة. يصادق خالد حسينًا ويقع في غرام خديجة. وعندما رأتهما منال في لحظة تودّد، رأت القدر يكرّر ذاته، فخديجة أكبر من خالد، كما كانت حورية أكبر من أسعد. ولأنّ خديجة ابنة حورية، رأت القدر يعيد سيرته السابقة، فحاولت منع تلك العلاقة كي لا تتحوّل خديجة إلى حورية وخالد إلى أسعد آخر، لكن إصابتها بالسرطان ومساعدة خالد لها، جعلها تستكين لعلاقته بخديجة، لربما هناك مصائر أخرى لا تشبه شجرة السفرجل التي تسبب خالد بموتها.
كان الطبيب المسؤول عن حالة منال الصحية صديقًا لمحمود، الحبيب القديم لها، فيخبره بحالتها. وهكذا بعد تباعد خطوهما يعودان للالتقاء، كي تغفو/ تموت خديجة بين أحضانه، لكن قبل ذلك عليها أن تروي حكايتها، فقراءة المكتوب تسمح بتأويله وتفسيره بمناح عديدة وجديدة.
الزاوية المنفرجة:
هذه الرواية كتبها خالد، نقلًا عن لسان منال، فقد أصبح حامل السرّ. ولذلك وعدها ألّا تتكرّر قصة حورية وأسعد، فهو سيحفظ خديجة كروحه. وكانت منال تأمل ذلك بعدما صالحتها الأقدار بعودة محمود إليها، وإن كانت كتلويحة الوداع، فيوم قرّرت إنهاء العلاقة في الماضي، لم يكن من وداع بينهما، وأخيرًا حان وقته.
إنّ مصائر كل من حسين وخديجة وخالد، وإن كانت محكومة بإرث أقدار بيت الزاوية، لكنّهم يملكون ناصية أقدارهم، فالتاريخ إن قرئ بعناية لن يتكرّر، لا بشكل مأساة ولا بصيغة هازلة، سيكون تاريخًا جديدًا ومختلفًا.
لقد تغيّرت الزاوية القائمة التي شنقت عليها حورية بسبب عادات المجتمع، وكان لا بدّ أن تمرّ تلك الزاوية بمرحلة الزاوية الحادّة لتصبح كالمقص، فخيط القدر كان لا بدّ أن يُقص كما يُقطع الحبل السري للطفل المولود حديثًا كي يعيش وينطلق في حياته، ويقرأ أقداره مهما كانت.
أخيرًا أصبحت الزاوية منفرجة، بما تحمله كلمة الانفراج من رغبات وآمال، لكن من قال بأنّ الزاوية القائمة تصلح فقط لحبل مشنقة، فكل زوايا البيوت قائمة. ومن قال بأنّ الزاوية الحادّة يضيرها أن تكون مقصًا، فالكثير من الأغصان اليابسة في شجرة الحياة يقلّمها المقص. الخطّ المستقيم زاوية أيضًا:
جاء سرد الروائية سوزان رشيقًا وسريعًا، يناسب طبيعة مقولات القدر، فكثيرًا ما يختصر بالأمثال، لكن في الوقت نفسه كان يقظًا ومتقصدًا الإبطاء حتى يسمح للقارئ بتأمّل المكتوب على جبين الرواية. وكما قلنا في البداية عن أنماط الحكاية عند فلاديمير بروب، سنجد أن قصة عائلة حسين وخديجة كأنّها قد حدثت قريبًا منّا، لكنّنا أمام رواية لا حكاية! وأمام جيلين: عائلة حسين وخديجة وأولادهما؛ الأقرب بحياتهما لطبيعة الحكاية والخضوع للأقدار. أمّا الجيل الآخر: الأحفاد؛ حسين وخديجة وصديقهما خالد، فهم من زمن الرواية وأقدارهم صناعة أيديهم. إنّ التكرار الذي تقصّدته الروائية كان لازمًا من أجل إحداث الفرق وإقامة المقارنة، فلم يكن هدف الرواية أن تختم بنهاية فيها من الأمل الكثير، بل لإظهار كيف من الممكن تصنيع الأقدار واختيار المصائر بالإرادة.
باسم سليمان
خاص صوت الجيل




May 31, 2023
باسم سليمان يكتب: هاتف أدونيس في البوابة نيوز 2023
باسم سليمان يكتب: هاتف أدونيس:
عندما جاءني (الهاتف) من أدونيس، قلت في نفسي، ها هو كبير واد عبقر! تخيّلت لحظتها ما قاله التراث عن زهير بن أبي سلمى وابنه كعب: (تحرك كعب وهو يتكلّم الشعر، فكان زهير ينهاه مخافة أن يكون لم يستحكم في شعره. وعندما لم يتوقّف كعب عن ذلك، أردفه زهير خلفه على الناقة وبدأ في امتحانه في أوصاف الناقة والنعامة على عادة شعراء الجاهلية، يقول زهير البيت وعلى كعب أن يجاريه. قال زهير: وإنّي لتعديني على الهم جسرة/ تخب بواصل صروم وتعتق. وبعد قوله ذلك صرخ بابنه: أجز يا لكع، فقال كعب: كبنيانة القرني موضع رحلها/ وآثار نشعيها من الدّف أبلق. وظلّ يمتحنه حتى أجاز له قول الشعر مطلقًا) وزعمت بأن أدونيس، سيقول لي: أجز يا لكع!
في بداية الثمانينات شعر أبي مدرس الفلسفة بأنّ (الكلمة) خائنة، فصبّ جام غضبه الكسيح على مكتبته، فتركها نهبًا ليد طفل ممسوس بالإبحار والطيران، وأذكر تمامًا اسم أدونيس على غلاف أحد الكتب لم أعد أتذكّر عنوانه، لكن مازلت أشعر بيدي تمزّق الصفحات لأصنع منها طيارات ورقية وقوارب و طواحين هواء وقد ذكرت شيئًا من ذلك في روايتي: (جريمة في مسرح القباني). ودارت الأيام لأعيد شراء الكتب التي مزّقتها وخاصة كتب أدونيس.
قال عنترة يومًا: “هل غادر الشعراء من متردم!” ضجرًا من الشعراء الأقدمين الذين سبقوه في قول كل شيء وهذا المقول ينطبق على شعر أدونيس أيضًا، فهل تركَ أدونيس شيئًا لنا لنقوله؟ لكن أدونيس قال: “عش ألقًا، ابتكر قصيدة وامض، زد سعة الأرض”. إنّها دعوة لكل شاعر أن يبتكر أرضه والأحرى جسده/ قصيدته، فبالجسد تعاش التجربة الوجودية، ولا يوجد جسد يشبه آخر ومن هنا تزداد سعة الأرض، ويصبح قول عنترة نافلًا. هذه الزاوية المستقيمة، هي مدار الحديث الذي جرى بيني وبين أدونيس، فعندما طلب منّي أن أختار القصائد من مجموع دواويني بسبب أن آخر ديوان لي: (خالٍ كصفر تهبّ فيه ريح الأعداد) كان قد صدر عن سلسلة الإبداع في مصر، وليس من إنتاج جديد لي حاليًّا، تصوّرت أن أدونيس من سيختار ويحكم، لكنّه أومأ لي على لسان زهير: أجز يا ناقد!
إذن، أدونيس لم يملِ عليّ، بل كان حريصًا على أن أستخرج أرضي/ قصيدتي الذاتية من العمق، وكأنّ أدونيس يؤكّد على رفض الأبوة الثقافية، التي ألبست له عنوة، وسلّمنا بها اِتباعًا. ولذلك سألته مستدركًا: يقول مارتن هيدغر: “المفكّر الكبير يجب أن يرتكب أخطاء كبيرة” ويذكر نيكوس كازانتزاكي في: (تقرير إلى غريكو) عن شاب رفض طلب انتسابه لأحد الأديرة في سيناء لأنّه كان بلا أخطاء، فطريق القداسة وفق كازانتزاكي يجب أن يكون مليئًا بالمعاصي، فما هي أخطاء أدونيس؟ يجيب أدونيس: “صحيح! وهي لا للمحو بل للتأمل! وما أكثر أخطاء أدونيس وما أكبرها!”
كشفت لي تجربة انتقاء قصائد الديوان: (رأسي البسط، جسدي المقام، أنا كسر بين الأرقام) سوء فهم نحو أبي، لم أستطع أن أجد له جوابًا، بأنّه كيف سمح لي أن أدمّر المكتبة! والآن وأنا أختار من مجموع دواويني القصائد التي سيتضمّنها الديوان الذي سيصدر عن سلسلة تحوّلات برعاية أدونيس، حلّت عقدة سوء الفهم تلك!
أظن بأنّ سلسلة تحولات أشبه بالمنارة، وكثيرًا ما يصنع نورها الوامض البحر والبحارة والميناء والسفن والنوارس والأمواج والشطآن.
باسم سليمان

باسم سليمان.. أعاد خلق الحروف من جديد في ديوانه “رأسي البسط وجسدي المقام، أنا كسر بين الأرقام” في البوابة نيوز الصادر عن مشروع تحولات برعاية أدونيس 2023

بقلم: تامر أفندي
في إحدى كتاباته عن قصيدة النثر قال الشاعر الكبير أدونيس: “هناك محاولات نثرية تنم عن موهبة حقيقية ولكن هذه المحاولات النثرية لم تخلق نظامها بعد، كنت أول من شجع قصيدة النثر وأول من كتب عنها لكن حتى الآن ما نسميه بقصيدة النثر لا تزال مضطربة وعائمة ولا هوية لها”. كان هذا الحوار قبل أن ينتقي من بين المعروض عليه أربع دواوين شعرية لينشرهم من خلال مشروع” تحولات” الذي دشنه بالتعاون مع الكاتب الصحفي عبد الرحيم علي، رئيس مركز دراسات الشرق الأوسط بباريس، وكأنه أراد أن يقول:” هناك جيل من الشباب يفجر ينابيع أخرى للشعر غير تلك التي تدفقت، قفزوا بالحرف إلى جنان أخرى، تعريف ما يسطرون تخطى مسمى ما يقال عنه قصيدة النثر، جيل خلق مفردات خاصة به أعاد معها تذوق الشعر وساهم في عودتها للمنافسة بعدما قيل أن هذا عصر الرواية،.
لدى قراءتي الأولى لديوان “رأسي البسط، جسدي المقام، أنا كسر بين الأرقام.. للشاعر السوري باسم سليمان، أدركت أنني أمام حالة متفردة، اخذني عنوان الديوان لبحر من الخيالات لا تنتهي، عنوان يفتح الشهية للعقل أن يأكل لحكم الطريق الشهي من الصفر “اللاشئ” وصولا إلى الواحد الصحيح!
رأسي البسط، جسدي المقام، أنا كسر بين الأرقام.. عنوان مختلف لوصف جديد لي كإنسان كان يرى نفسه رقما صحيحا في حسبة الأيام!
أي كسر إذن أنا وأي كسر هو.. أي انتقاص يتعين علي أن أجده حتى أعادل رقما صحيحا؟ وأي خطوات كانت في جعبتي حتى صرت على ما أنا عليه الآن.
شمرت عن ساعدي وأنا أتحسس حروف “باسم” ذلك الصديق الذي حدثته عن بعد برغم أنه شرح حالاتي وحالتنا كجراح ماهر كشف عن مواطن الداء بلغة لم يسبقه لها أحد وكأنه أعاد خلق الحروف من جديد.
افتتح “باسم” ديوانه بتعريف مغاير للقمر لم نعهده عكس رؤيته للأشياء حوله إذ كتب:
ما القمر إلا قطعة نقد
سقطت من مال الله
ارميه مقامرا
أهو حضور أم غياب
فيأتي نقشه وجهك!
عهد صديقنا إلى ذكر تواريخ قصائده أسفل كل مقطوعة شعرية يعزفها متفردا وكأنه يدون لأمر ما بعث في نفسه هذا الخيال، ما دفعني لتفنيد صفحته الخاصة أفتش في صوره ومنشوراته علني أعيش معه ولادة كل كلمة، اتكئت معه على ظله وهو يرقب الماء يجري إلى غيمه، في غبش الأفق لا أنكر أنني توهت منه حتى أخبرني أنه لا يجتمع طيفان، حينما سألته عن منهجه في التفكير، قال لي:
إنني لا أفكر، بل أنظر
وبين الفكر والنظر
مسافة من قمر
لا أنكر أنني وقعت في عشق “باسم” رغم أنني لم أراه إلا على الصفحات ومن بين أبياته حاولت أيجاد تعريفا له، وكلما اقتربت ابتعدت، فلا تعريف ثابت يمكن حصره:
في غيابك
أنا رغيف يابس يتكسر ما إن يمسه النظر
لا يصلح لسندوتشات الذاكرة
…
أنا سلمك
فلا تحمليني
بالعرض أو الطول
بل
احضنيني
كإطفائي ينقذ النار
من الماء
…..
أنا الموت الهارب إلى حبل غسيلك، سأطعم
الغسالة بنطال الجينز، حيث استقرت يدك
بخفة رغم صعوبة الحرف والتقاط الصورة وضع الجسد على طاولة التشريح الشعرية، بداية من قصيدته الأولى حتى سال من الجسد العاري أمام مرآة الحقيقة المداد كنزيف تحسست الكلمات وندبات الجسد التي خلفها في حتى وصلت إلى قصيدته الأخيرة التي اختار عنوانها عنوانا لديوانه.
لديّ فتقٌ
في منتصف وأسفل يمين بطني
كأنّه نصيحةٌ
كي تصيبَ الهدف برصاصة
يقول الطبيب: تحتاج إلى شبكة
كي نرتق الفتق.
لكن ليس في بطني سمكٌ
يصلح لمعجزة.
عندما خدّرت
نمتُ بلا أحلامٍ أو كوابيسْ
واستفقتُ على رتقٍ محجوب بقطب
خيوطها جُدلت من أمعاء خروف
حديث الولادة
وتساءلت أهو هدم لمعتقد سائد بتقديس الجسد؟ أم لحظة مواجهة بين روح أعاقها هذا الجسد عن التحليق، فأرادت الخلاص بتعظيم تكوينه وتسفيهه في آن واحد، باستباق تشييعه لتصبح الروح حرة غير مقيدة الأوابد.
أكانت تلك الروح لجسد آخر تستطيع التماهي فيه فتشكله حيث شاءت؟ ثمة اغتصاب حدث فأجبر النقيضين على التعايش رغما عن التنافر، قلت ذلك قبل أن أصل إلى وصفه الذي أكد حدسي هذا:
أفكّر أن أهدي روحي جسدًا آخر
ولربما أعطي جسدي روحًا آخر
أحيانًا أشعر أنّ روحي يحتلّ جسمي
أو أنّ جسمي اغتصب روحي العابر.
اي حيرة هذه التي تصبح رغما عنا حياة نتحسسها بأطيط نعالنا حتى نمر وتمر دون قصد ولا سبيل، فقط مرغمين أن نمضي ننتظر حلا من السماء للخلاص مما وضعتنا فيه الأقدار.
لجسدي ظلّ في النهار
ولروحي شبح في الليل
يا الله اكسف الشمس
واخسف القمر
حتى أجد يقيني.
بين كسر الأرقام ومن على صفحات الديوان لملمت دمعي المسكوب بين شجن وحب وكتبت تلك الكلمات إلى صديقي البعيد القريب “ربما تلاقينا من قبل أو كنت أنا الذي لم أستطع أن أكتبه”
باسم سليمان's Blog
- باسم سليمان's profile
- 24 followers
