باسم سليمان's Blog, page 10
November 30, 2023
صدرت مجموعتي القصصية: الفراشات البيضاء عن دار ميسلون لعام 2023
November 24, 2023
الأسماء
قصتي في مجلة: الأقلام العراقية العدد الثاني – السنة الثالثة والخمسون 2023
حدثَ أن اجتمعت حيوانات الغابة؛ مفترساتها وفرائسها، لأول مرّة في تاريخ الغابات على الإيقاع بالحمار وتدبير مقلب يجعله يصمت، ولا ينهق بعدها، فقد أقلق نهارهم قبل ليلهم بنهيقه الذي لا ينتهي، فلقد كان ينهق ما إن يستيقظ ويظلّ على هذا الحال طوال النهار، وعندما يأتي المساء كان ينهق في أحلامه. تفتّقت أدمغة الحيوانات عن خطّة جهنّميّة، لم يفكّر بها أحد من قبل، لأنّها تكسر التقاليد التي توافقت عليها الحيوانات منذ وجدت الغابة وخلقت فيها الحيوانات، بأنّه لا يجوز تحت أي طائل أن يخرج حيوان من اسمه إلى اسم حيوان آخر، فالأسد يظل أسدًا، أكان قويّا أم ضعيفًا، والضبع ضبع، أكان نذلًا أم شهمًا، فالأسماء أبدية ولا تغيّرها الصفات، أكانت مؤقتة أم دائمة. كانت الخطّة تنصّ على أن تنادي الحيوانات الحمار باسم الحصان، ولا يجب أن يخطئ أي حيوان بذلك وإلّا سيعاني النبذ والهجران من أبناء جنسه وحيوانات الغابة الأخرى. أمّا الحركة الأخيرة من الخطّة، فقد وضعت على عاتق الحصان.
لم تؤجّل الحيوانات عمل اليوم إلى الغد، وبدأوا بتطبيق المقلب العظيم من لحظة اتفاقهم. وفي صبيحة المؤامرة، مرّ الحمار قرب أحد الثيران، فصبّح عليه الثور: صباح الخير أيّها الحصان، لم يستعجب الحمار ونهق ضاحكًا، وظنّ أن الثور كعادته قد قال إحدى نكاته السمجة التي لم تكن تضحكه حقًا، بل ما كان يضحكه اقتناع الثور، بأنّه يلقي على مسمع الحيوانات نكات مضحكة. تكرّر إلقاء فكاهة الثور من كلّ حيوان كان الحمار يمرّ به، ففكّر الحمار بأن جميع الحيوانات قد أصابتها لوثة الثور بإلقاء النكت، فاستمر يقابل تحيات الحيوانات المتضمّنة اسمه الجديد بالنهيق الضاحك، حتى صادف الحصان، فناداه: صباح الخير يا أخي الحصان، وهنا لم ينهق الحمار ضاحكًا، بل اندهش، لكنّه لم يسمح لنفسه بالتمادي في الحيرة، فالأمر خطير، فما تفعله الحيوانات يعدّ خرقًا لمحظور الأسماء، فلم تعد القصة تشبه نكات الثور، فقال للحصان: أيّها الحصان، لا بدّ أنّ في الأمر سوء فهم كبير، فلا يعقل أن تصبحوا جميعكم كالثور تلقون فكاهات تافهة. أجابه الحصان قاطعًا على الحمار شكوكه: أبدًا يا عزيزي الحصان، فالأمر شديد الخطورة بأن ينادى حيوان باسم حيوان آخر، لكنّ خطأ كبيرًا حدث يوم ولادتك، لقد اعتبرتك السلحفاة العمياء؛ الداية التي ولدت جميع الحيوانات على يدها ومن ضمنهم أنت، بأنّك حمار، لكنّ الواقع غير ذلك، فأنت من فصيلة الأحصنة، لذلك قررت جميع الحيوانات تصحيح هذا الخطأ، لأنه نذير شؤم، وفأل سيئ على الغابة التي لا تنجو من حريق حتى يضطرم حريق آخر. لقد استشرنا الغراب العراف كيف نجد السبيل إلى حلّ مشكلة اسمك، فأرشدنا وقال: يجب أن نغيّر اسم الحمار إلى الحصان، وإلّا سيندلع حريق كبير يأكل أخضر ويابس الغابة.
صعق الحمار من كلام الحصان: أهذا يعني، أنّني كنت حصانًا طوال حياتي، فلماذا أنهق وأنت تصهل؟
ابتسم الحصان وقال: لقد أصبت كبد الحقيقة بقولك، لكن كما تعلم بأن الأسماء تمنح الحيوان مميزات خاصة، فاسم الأرنب يمنح الأرنب صفة الجبن. واسم الأفعى يمنح الأفعى صوت الفحيح. واسم الحمار يمنح الحمار صوت النهيق وهذا ما حدث معك، فلو كان اسمك حصانًا، لكنت تصهل ولا تنهق. هذه هي ببساطة معادلة الأسماء، فلكل حيوان من اسمه نصيب كما يقول المثل.
أمال الحمار رأسه وهزّه بقوة كعادته عندما يطرد الذباب الذي يزعجه وقال: إذن، لقد أصبحت منذ الآن حصانًا، كم سأحتاج من الوقت حتى أصهل بدلًا من أن أنهق؟
الحصان: لا تستعجل، ما هي إلا أيام قليلة وينتصر بها اسم الحصان على الصفات التي منحك إياه اسم الحمار، فيمحوها لتظهر بدلًا منها صفات الحصان وساعتها ستصهل كأفضل الأحصنة صوتًا.
تذكر الحصان نكات الثور السمجة، ورآها مضحكة جدًا بمقابل ما يحدث له الآن والتفت نحو الحصان قبل أن يغادر نحو مرعاه: سأشتاق للنهيق، لكنّني سأكون سعيدًا جدًا، بأن تكون تضحيتي بحياتي كحمار، السبب الذي سينقذ الغابة من الحريق الكبير.
ودّع الحصان الحصان الآخر وافترقا، أحدهما كان ماكرًا، فيما الآخر كان بريئًا جدًا. فكّر الحمار طويلًا وكلّم نفسه: أيعقل أن أكون حصانًا طوال عمري، ولم أدرك ذلك! تذكّر الحمار أنّه لم ينظر إلى صورته يومًا في الماء، فما إن يقترب ليشرب، حتّى ينخر على سطح الماء، فيتعكّر، فلا يرى انعكاس صورته؛ لذلك قرّر الذهاب إلى الساقية، والنظر إلى انعكاس صورته في الماء، وعندما اقترب حبس أنفاسه وحدَق. لم يكن قد رأى يومًا صورته في الماء مسبقًا، فوقع في عشق صورته وهمس لنفسه، سأجري منذ اليوم كأسرع حصان في العالم.
مضت أيام لم يسمع فيها نهيق الحمار، فاطمأنت الحيوانات إلى نجاح خطتها وشكرت الثور الذي أوحى لها بهذه الخطة العبقرية من خلال نكاته العبقرية.
تتالت عدّة أشهر، لم ير أحد فيها الحمار -عفوًا الحصان- فطُلب في مرعاه، فلم يجدوه. لقد حزنت الحيوانات على غياب الحمار وتمنّت لو كانت أكثر حكمة، فلا ريب أنّ الحمار قد فطن لخدعتهم، وشعر بأنّه غير مرغوب فيه في الغابة، فغادرها إلى مجهول الغابات الأخرى. والأسوأ أن يكون قد توجّه إلى إحدى الغابات الإسمنتية التي يسكنها الإنسان، فيتم استعباده هناك.
كانت قد مضت سنة كاملة بفصولها الأربعة إلى أن جاءت حمامة زاجلة تحمل أخبارًا عن الحمار، فقد كانت تمرّ بالغابة بين فينة وأخرى، حاملة رسالة بين عاشقين، يسكن أحدهما في الشمال والثاني في الجنوب. قالت الحمامة الزاجلة لأهل الغابة: أيّتها الحيوانات، لقد حقّق حمار غابتنا ما لم ينجزه أيّ حصان عاش فيها؛ لقد ربح في سباق الخيول في المدينة، وتوّج كأسرع حصان في البلاد، وهذا ما أهّله لينافس في سباقات الخيل عبر العالم. صمتتِ الحيوانات جميعها، وكأنّ على رؤوسها القبعات كخيالات المآتة، وبدأت بالنهيق، في حين كان الحمار يصهل في ميادين السباقات، محقّقًا الفوز تلو الفوز، مقلقًا نهار وليل الحكواتية.
من المجموعة القصصية: الفراشات البيضاء، التي ستصدر عن دار ميسلون قريبًا جدًا



انتقد تبييض الأموال واستخدم الآيات القرآنية بطرافة… صاحب الفكاهة في التراث العربي، أشعب – رصيف22 – باسم سليمان
2+ 2= أربعة أرغفة؛ هذه العملية الحسابية تعود إلى أشعب، الذي ضُرب به المثل في الطمع، فقيل: “أطمع من أشعب”. وقد أرجع الجاحظ في كتابه (البخلاء) هذه الفئة من الناس إلى رجل من بني عبد الله غطفان كان في الكوفة ويُسمى: طفيل، كان يرتحل في طلب المآدب والولائم والأعراس مهما بعد المكان، فما إنْ يسمع بأنّ أحدهم أقام عرساً حتى يشدّ الرحال إليه، فلُقب بطفيل العرائس. وطفيل العرائس، كما جاء عند ابن قتيبة في (كتاب الطعام)، لم يترك أصحابه من دون هداية فقد نصحهم: “إذا دخلت عرساً، فلا تتلفّت تلفّت المريب، وتخيّر المجالس..وإن كان العرس شديد الزحام، فمر ولا تنظر في عيون أهل المرأة، ولا عيون أهل الرجل، فيظن هؤلاء أنّك من هؤلاء… وإنْ كان البواب غليظًا وقحاً، فابدأ به، ومره وانهه من غير تعنف عليه، وعليك بكلام النصيحة والإدلال”.
ويقول آخر ناصحاً أصحابه الطفيليين:
لا تحتشم دار القريب/ ومنزل الفظ البعيد
واهجم على هذا وذاك/ هجوم شيطان مريد
وادخل كأنّك خابز/ بيدك جردقة الثريد
واهتك ثرائدهم لا/ تكفف عن اللحم النضيد
ودع الحياء فإنّما/ وجه المطفل من حديد.
ظهرت هذه الفئة وكثرت بعد الفتوحات الإسلامية وشاع الحديث عنها، وقد لا نجد ما يُذكر في جاهلية العرب عن أناس طفيليين. وهاهو حاتم الطائي الجاهلي يطلب من زوجته أن تجد له من يُؤكله، فقد كانت العرب تذمّ من يأكل وحده:
إذا ما عملت الزاد فالتمسي له/ أكيلاً فإنّني لست أكله وحدي
بعيداً قصياً أو قريباً فإنّني/ أخاف مذمّات الأحاديث بعدي.
وقد روي بأنّ حاتماً لم يجد ما يُطعم به زواره، فابتدره ابنه طالبًا أن يذبحه ليكرم ضيوفه. أمّا الصعلوك الشنفرى، فيقول من آداب الطعام أن يتأخّر عن مدّ اليد إليه، على عكس ما نصح الطفيلي أصحابه:
إذا مدّت الأيادي إلى الزاد لم أكن/ بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل.
وقيل للحارث بن كلدة طبيب العرب في الجاهلية: ما أفضل الدواء؟ قال: الأزم، بمعنى الزم، أي القليل من الطعام. والأعشى قال، بأنّ البطنة تسفه الأحلام؛ والبطنة كبر الكرش.
وقد أصبحت هذه الفئة مداراً للتّندر والتفكّه والظرف، فإبراهيم بن المهدي شقيق الخليفة الرشيد يتطفّل على مأدبة أقامها أحد التجار لأصحابه، وكلّ ذلك، لأنّه شمّ من الطريق رائحة الطعام الذي يُطبخ ورأى معصم فتاة من الشباك، فوقع في حبّها من لحظته، وقرّر أن يعرف من هي. ولا يختلف عنه المغنّي المشهور الذي أطرب الخلفاء العباسيين، كما جاء في كتاب (الأغاني)، فها هو إسحاق بن ابراهيم الموصلي يلج بيتاً متطفلاً إثر جارية حسنة الطرف والشمائل، فدخل مع الداخلين إلى الوليمة، فأكل وشرب وأطرب الحاضرين، وبعد انكشاف هويته، دعاه صاحب الدار إلى أن يقيم عنده، وأن تكون له الجارية والحمار التي كانت عليه وحليها هدية له، وبينما هو مقيم عند ذلك الرجل، كان الخليفة المأمون يطلبه فلا يجده.
مهما يكن، فقد نشأت هذه الطائفة من الناس نتيجة تبدّل الأحوال الاقتصادية وتغيّر الأطعمة التي كان العرب معتادين عليها. فلقد مدّتهم الفتوحات بشتى أنواع الأطعمة، حتى أنّهم ظنّوا بأنّ خبز الرقاق/ المرقوق، المصنوع من لباب القمح نوعًا من الأقمشة، ولفتنتهم به، روي حديثٌ عن النبي بتحريمه. وبعد هذه المقدمة نعود إلى صاحبنا أشعب، الذي قال عنه المستشرق فرانز روزنثال كما ورد في كتاب (فكاهيات الجوع والجوعيات، خالد القشطيني): بأنّ نوادر أشعب تظلّ أصيلة وكلاسيكية، على الرغم من كلّ ما ورد في الأدب اليوناني من فكاهيات مماثلة.
ذكرت كتب التراث، بأنّ أشعب بن جبير، كان أباه مولى لآل الزبير. وقد تولّت عائشة بنت عثمان بن عفان كفالته وتربيته. وقد أخبر صاحب كتاب الأغاني على لسان أشعب: “نشأت أنا وأبو الزناد – صاحب له- في حجر عائشة بنت عثمان، فلم يزل يعلو وأسفل حتى بلغت هذه المرتبة” هذه المقارنة من قبل أشعب تضمر أمراً، وكأنّه ينقض ما عرف عنه في ذلك الزمان من أصالة المنبت والمحتد، حيث كانت الناس تأخذ مراتبها من عوائلها لا من جهدها واجتهادها، ومن هذا المنطلق، كان أشعب يتهكّم على هذه العادات. وفي الفتنة التي نالت المسلمين أيام عثمان بن عفّان، حكى أشعب بأنّه كان في بيت الخليفة عثمان بن عفان عندما حاصروه طالبين منه التخلّي عن الخلافة، بعدما كثر الفساد في عهده، بسبب تولية قراباته واستبعاد بقية الصحابة والمسلمين من المناصب. قام مماليك عثمان بالدفاع عنه وتجريد سيوفهم ذوداً عن سيدهم، فقال عثمان درءاً للفتنة: “من أغمد سيفه، فهو حرّ” فقال أشعب: “فلما وقعت، والله، في أذني، كنت أول من أغمد سيفه، فأعتقت” بهذه الطريقة أخبر أشعب عن سبب نيله الحرية، بعدما كان عبداً مملوكاً، لكن لنتدبّر حكاية أشعب، فهو يخبر عن نفسه، بأنّه كان في شيبته يلحق الحمر الوحشية عدواً، فهو لم يكن ضعيفًا أبداً، حتى يتخاذل بالدفاع لكنّ حريّته أثمن. والشيء الآخر أبان عن الطريقة التي كان من الممكن أن تجهض فيها الفتنة، بأن تغمد السيوف ولا تشهر حقناً لدماء المسلمين. فهل كان أشعب حقاً رجلاً طماعاً طفيلياً؟ هذا ما سنرى عكسه فيما يلي من حديث.
أشعب الرجل إذا مات:
هذا ما جاء في لسان العرب عن معنى كلمة أشعب، وفيه إضافات، بأنّ أشعب يعني فراقاً لا رجعة فيه، وكأن أشعب أراد مفارقة عادات مجتمعه من الكرم والضيافة، لكي يكشف العور فيها. وصِف أشعب بأنّه كان أزرق العينين وأحول مع بشرة قاتمة، أقرع الرأس، وزرقة عينيه تربطه بأوصاف نساء زرقاوات العيون كانت لهن غرابة في جاهلية العرب؛ من زرقاء اليمامة التي قتلت وسملت عيناها. إلى الزّبّاء التي شربت السّمّ، كي لا يقتلها عمرو ابن أخت جذيمة الأبرش، قائلة كلمتها التي ضُربت مثلًا: “بيدي لا بيد عمرو”. والبسوس وناقتها التي قتلها كليب وتسبّبت بحرب البسوس، فقيل فيها: “أشأم من البسوس”. فالأوصاف التي وصف بها أشعب كانت امتدادًا لشخصيات مميّزة، فأشعب تحوّل إلى المهرّج، الذي من الضرورة تواجده في كلّ بلاط وحكم شمولي، حتى يخفّف من وطأته وغلوائه.
قال أشعب عن نفسه: “يطلبون مني نوادراً تضحك الملوك، ثم يعطونني عطاءً يبكي العبيد” من يقول هذا ليس أحمقًا أو صاحب غفلة، بل متحامق في زمن اختلط فيه الحابل بالنابل، فأشعب على دراية كاملة بالمقاصد البعيدة لكلامه وأفعاله ونقده ولم يسلم من لسانه السليط، لا والده ولا والدته بسبب تخلّيهما عنه، فمرّة سُئل عن قلّة الشعر في ذقنه، مع أنّ أباه كثيف اللحية، فقال: “ورثت ذلك عن أمي!”. وما يتغيّاه من ذلك أن أباه لم يقم بواجب رعايته كما يجب، فكأنّه بلا أب، فمن أين يرث صفات الذكورة. وحدث مرّة أن رأى رؤية في حلمه، فأخبر أمّه عنها، قال: “حلمت بأنّكِ كنتِ مغطاة بالعسل، وكنت مغطى بالغائط. فقالت له أمه: ويلك! هذه كلّها ذنوبك غطاك الله بها، فقال لها: مهلك! لقد رأيت أيضاً في الحلم، أنّني كنتُ ألحسك، وأنت كنتِ تلحسينني!” هذا النقد المؤلم الذي وجّهه إلى والديه ولنفسه أو لمؤسسة الأسرة، استكمله عندما قيل له لماذا لا تتزوج، فقال: “ابغوني امرأة أتجشأ في وجهها فتشبع، وتأكل فخذ جرادة فتَتْخم”
وحدث أن جلس أشعب وابنه إلى مائدة طعام، فرآه يُكثر من شرب الماء، فقال له: “تملأ بطنك بالماء وأمامك كلّ هذا الأكل اللذيذ، ياغبي! فأجابه ابنه: كلا يا أبتي، إنّما أشرب الماء، لأزيح ما أكلت من طعام وأفسح المكان لطعام آخر. فقال له أشعب: يا لعين، تعرف هذا ولا تقوله لي!” ومرّة رأى ابنه ينظر إلى امرأة فقال له: “يا بنيّ نظرك هذا يحبل”
وفي حادثة أخرى، سُئل إن كان هناك من هو أطمع منه في الطعام، فقال: “نعم شَاة لي صعدت في السَّطْح فَنَظَرت إِلَى قَوس قزَح فظنته حَبل قت – الحبل المصنوع من الأعشاب- فَسَقَطت فاندقت عُنُقهَا”.
ولنتابع بتأمل أوصافه، فقد قال عنه الأصفهاني صاحب الأغاني: “رأيت أشعب يغني، وكأنّ صوته صوت بلبل” وهو قارئ للقرآن وحافظ له. قيل: “كان أشعب يختلف إلى قينة بالمدينة يكلف بها وينقطع إذا نظرها، فطلبت منه أن يسلفها دراهم، فانقطع عنها وتجنب دارها، فعملت له دواء ولقيته به؛ فقال لها: ما هذا؟ قالت: دواء عملته لك تشربه لهذا الفزع الذي بك! قال: اشربيه أنت للطمع، فان انقطع طمعك انقطع فزعي. وأنشأ يقول: أنا والله أهواك/ولكن ليس لي نفقه فإمّا كنت تهويني/فقد حلّت لي الصّدقه. وبعد تأمل هذه الحوادث والإجابات المسكتة والصفات التي يتمتع بها أشعب، ألا نستطيع أن نقول، بأن أشعب: حكيم المجانين!
ناقد التاريخ أشعب:
يُذكر عن الكاتب الفرنسي أناتول فرانس تهكمه واستهتاره بالتاريخ. وعندما سُئل عن ذلك، قال بأنّه شاهد حادثة رؤية العين، وعندما قرأ عنها في الجرائد صباح اليوم التالي، جاء سرد الحادثة مناقضًا لما رأته عيناه وسمعته أذناه. يُحكى عن أشعب بأنّه تعرّض له بعض الصبية بالأذى، فأخبرهم بأنّه في المكان الفلاني عرس، مغريًا إيّاهم بالذهاب إليه. وبعد أن تركه الصبية لشأنه، حدث نفسه، بأنّه لربما هناك عرس، حيث دلّ الصبية، فلحق بهم. إنّ جوهر الفكاهة التي وردت عن أشعب تتعلق بقضية العنعنة أو المخبر الصادق التي كانت أساس صحة الخبر أو الحادثة في تاريخنا العربي القديم، حيث يروي فلان عن فلان، فإذا كان المرء يصدِّق غيره لأسباب معينة، فالأولى أن يصدِّق نفسه. والمقصد من الحادثة التي رويت عن أشعب، أنّه بعدما كثر رواة الحديث عن الرسول الكريم إثر فتنة مقتل عثمان؛ كل يقدّم حديثاً يدعم موقفه السياسي، بأنّ التأكد من صحّة تلك الأحاديث، لن يكون إلّا وفق ما حدث له مع الصبية؛ أي كذب الكذبة وصدقها! وهذه حادثة أخرى تذهب في المنحى الذي رأيناه: “قيل لأشعب طلبت العلم وجالست الناس ثم تركت وأفضيت إلى المسألة، فلو جلست لنا وجلسنا إليك، فسمعنا منك، فقال لهم: نعم، فوعدهم، فجلس لهم، فقالوا له: حدثتنا، فقال: سمعت عكرمة يقول، سمعت ابن عباس يقول، سمعت رسول الله يقول خلتان لا يجتمعان في مؤمن، ثم سكت، فقالوا له: ما الخلتان؟ فقال: نسي عكرمة الواحدة ونسيت أنا الأخرى!”.
أشعب من أصحاب البذل البيضاء!:
يطلق لقب (أصحاب البذل البيضاء) على من يقومون بتبييض أموالهم التي حصّلوها بطرق غير شرعية في زمننا هذا. لقد تدفقت أموال الفتوحات على المسلمين وظهرت الفروقات الطبقية، فالغني زاد غنى والفقير ازداد فقراً ولم تعد قاعدة: حلّل الله التجارة وحرّم الربا معمولاً بها. أخبر أشعب عن حادثة جرت معه، فقال: “جاءتني جارية بدينار وقالت: هذه وديعة، فجعلته بين ثني الفراش، فجاءت بعد أيام وقالت: ناولني الدينار، فقلت: ارفعي الفراش وخذي ولده، وتركت إلى جنبه درهماً، فتركت الدينار وأخذت الدرهم، وعادت بعد أيام فوجدت معه درهماً آخر فأخذته وعادت الثالثة كذلك، فلما رأيتها في الرابعة بكيت فقالت: ما يبكيك؟ فقلت: مات دينارك في نفاسه، قالت: سبحان الله، أيموت الدينار في النفاس؟ قلت: يا فاسقة، تصدقين بالولادة ولا تصدقين بالنفاس؟” إنّه الربا الذي شاع بين الأغنياء، والذي يقوم على قاعدة أنّ الأموال تلد أموالاً، لا بالتجارة بل بإقراضها للمحتاجين بالفائدة. وفي حادثة أخرى تشير إلى تبيض الأموال، يروى عن أشعب: “قال الواقدي: لقيت أشعب، فقال لي: يا ابن واقد وجدت ديناراً، فكيف أصنع به؟ قلت: عَرِّفه قال: سبحان الله، ما أنت في علمك، إلّا في غرور، قلت: فما الرأي يا أبا العلاء؟ – كان أشعب يعرف بأبي العلاء- قال: أشتري به قميصاً وأعرفه بقباء، قلت: إذاً لا يعرفه أحد قال: فذاك أريد!” وسأل رجل أشعب أن يسلفه ويؤخّره، فقال: “هاتان حاجتان، فإذا قضيت لك إحداهما فقد أنصفت. قال الرجل: رضيت. قال: فأنا أؤخرك ما شئت ولا أسلفك!”
إنّ تأملًا في تلك الحوادث يكشف لنا نقد أشعب لطبقة أصحاب المال الناشئة بعد الفتوحات والتي تكاثرت فيما بعد في كلّ بلاد المسلمين.
أشعب والمقدس:
دومًا كانت الكتب المقدسة تحذّر ممّن يستغلون كلمات الله لمصالحهم الخاصة، يفسّرونها وفق ما يريدون. وها هو أشعب يستخدم الآيات القرآنية ليثبت لنا كيف أصبح الدين وسيلة للمتأكّلين: “ذات مرة دخل مجلس الخليفة. وكان الخليفة يأكل حلوى، فأعطاه واحدة منها، فأكلها أشعب، وأراد أن يلمح للخليفة أنّه يريد الثانية فقال: (ثانى اثنين إذ هما فى الغار) ففهم الخليفة، فأعطاه الثانية، فقال أشعب: (فعززنا بثالث) فأعطاه الثالثة فأكلها. ثم قال: (فخذ أربعة من الطير) فأعطاه الرابعة فأكلها. ثم قال : (يقولون خمسة)فأعطاه الخامسة فأكلها.ثم قال : (سادسهم كلبهم) فأعطاه السادسة . فقال: (سخرها عليهم سبع ليال) فأعطاه السابعة. فقال: (وثمانية أيام) فأعطاه الثامنة. فقال : (وكان فى المدينة تسعة رهط) فأعطاه التاسعة. فقال : (فصيام ثلاثة أيام فى الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة) فأعطاه العاشرة. فقال: (إنّى رأيت أحد عشر كوكباً) فأعطاه الحادية عشرة. فقال: (إنّ عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً) فأعطاه الثانية عشرة، ثم أعطاه الطبق كلّه.فقال أشعب: والله يا أمير المؤمنين لو لم تعطني الطبق لوصلت معك إلى قوله تعالى : (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون).” وفي حادثة أخرى نترك تفسيرها للقرّاء: “ضرب الحجّاج أعرابياً سبعمائة سوط، وهو يقول عند كلّ سوط: شكراً لك يا رب! فلقيه أشعب فقال: أتدري لم ضربك الحجاج سبعمائة سوط؟ قال: ما أدري! قال: لكثرة شكرك؛ اللَّه تعالى يقول: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) فقال الأعرابي: يا ربّ لاشكر فلا تزدني/ أسأت في شكرك فاعف عني/ باعد ثواب الشاكرين مني”. خفّف أشعب الصلاة مرّة، فقال له بعض أهل المسجد: “خفّفت صلاتك جداً قال: لأنّه لم يخالطها رياء”
مات أشعب في سنة 154 هجرية، كما يروي الأصفهاني. وتناقلت كتب التراث فكاهاته، فلم يسفل، كما قال بالمقارنة بينه وبين أبي الزناد، بل ارتفع ذكره وشعّ كنجم في سماء التراث العربي. وقد جمع توفيق الحكيم أخباره من كتب التراث في كتاب واسماه: أشعب ملك الطفيليين.
باسم سليمان
خاص رصيف22

November 19, 2023
سخرية أريستوفانية؛ قديمة حديثة، في مثلث الحزن لروبين أوستلوند – باسم سليمان- صفحة سينما – الصباح العراقية

في إحدى مسرحيات اليوناني أريستوفان تمتنع النساء عن ممارسة الجنس، كي يجبروا الرجال على قبول السلام. وفي مسرحية أخرى يُقنع أحد الإغريق الطيور أن تشكل سربًا يحجب السماء، فلا يصل دخان الأضاحي إلى آلهة الأوليمب فتجوع، وتخضع لرغبة البشر. عبر هذه الكوميديات فضح أريستوفان هشاشة المبادئ والقيم والأنظمة والأيديولوجيات التي تُبنى المجتمعات البشرية عليها. هذا النمط من التهكّم يعتبره المخرج السويدي روبين أوستلوند أساسًا في رؤى أفلامه من ( القوة القاهرة) إلى (المربع) وفيلمه الجديد (مثلث الحزن/ Triangle of Sadness لعام2022) الذي نال عنه السعفة الذهبية لعام 2022. يحكي الفيلم في الجزء الأول منه قصة عارض الأزياء (كارل) والمؤثرة/إنفلونسر (يايا)؛ من خلال الصراع الجندري بينهما، فما دامت الأنثى قد نزلت إلى حلبة الانتاج الاقتصادي بعيدًا عن دورها القديم في البيت، فهل ستظل العلاقة القديمة كما كانت بين الذكر والأنثى؟ يطالب كارل بالمساواة مع يايا في الواجبات والحقوق، وهي تطالبه بدوره القديم كذكر. والميزان الجديد المعتبر في هذا الجدل؛ هو المدخول المادي لكل منهما، فلم تعد قدرة المرأة على الإنجاب، ولا ميزة الرجل كحام للأنثى معيارًا تقاس به الأدوار الجندرية.
بعد أن نكتشف أنّ الأدوار الاجتماعية للذكر والأنثى، قد فرضها النمط الاقتصادي، لا الخصائص البيولوجية، ينقلنا روبين إلى سفينة فاخرة ركابها من الفاحشي الغنى، حيث يتواجد كل من يايا وكارل. تصرّ إحدى النساء الغنيّات على أن يسبح جميع العاملين في السفينة ويتركوا أعمالهم، مع أنّ كبير الطهاة حذّر من أنّ ذلك سيؤدي إلى فساد المأكولات البحرية. في الوقت ذاته كان القبطان ذو الميول اليسارية يسكر في قمرته تاركًا أمر إدارة السفينة لمساعديه. يرينا المخرج كيف أنّ الأغنياء يشترون كل شيء، فمن تاجر السماد؛ وكما يسمي نفسه ملك الغائط، إلى تاجر الأسلحة النووية، بالإضافة إلى غني آخر من محدثي نعمة الثورة التكنولوجية، الذين يمثّلون القواعد القديمة/ الحديثة، التي تحكم المجتمع البشري عبر الطعام والقوة والذكاء، المال هو الإله. وكما تجري العادة عند بدء الرحلة البحرية يقام احتفال يرأسه القبطان احتفاء بضيوفه الأغنياء، فيقدّم لهم الطعام البحري الفاسد، فتتحوّل الحفلة إلى بركان من القيء والغائط نتيجة التسمّم، فيما كان ملك السماد الشيوعي الألغارشي يتناوب مع القبطان المخمور على ميكرفون السفينة ويلقيان على مسامع الأغنياء المصابين بالتسمم مقتبسات من ماركس وغيره من المفكرين، فيما تتأرجح السفينة تحت وقع عاصفة في الخارج. في هذا الواقع المجنون تفيض مجارير السفينة ويتدفق الماء المالح والآسن بين ممراتها حيث يتزحلق الجميع متمرّغين بالقذارة، وكأنّنا مع مشهد من جحيم دانتي. يقترب أحد قوارب القراصنة من السفينة لينتهي المشهد بغرق السفينة.
اختلط حابل ونابل العوالم من الأول إلى الثالث في الجزء الثاني، بينما نرى بعض الناجين من السفينة على جزيرة مهجورة في الجزء الثالث. لقد عادوا من جديد إلى العصر الحجري حيث القدرة على إشعال النار والصيد يعتبران عاملين حاسمين في البقاء على قيد الحياة. وهنا تصبح إحدى عاملات تنظيم المراحيض في السفينة هي القائدة، فلا قيمة للمال أو الجواهر، حيث تبدأ باستغلال عصبة الأغنياء الناجية وضمنًا يايا وكارل الذي يبيع جسده لعاملة المراحيض من أجل الطعام.
تغيرت آليات الاقتصاد، وعاد نمط التبادل سلعة مقابل سلعة، فتبدلت الأدوار الاجتماعية وانحدر الأغنياء إلى طبقة الفقراء والمأمورين في حين صعدت عاملة المراحيض إلى القيادة فيما يايا وكارل يترنحان في هذا العالم الجديد، كما حدث مع خبير المعلوماتية الذي قتل حمارًا عبر ضربه بحجر على رأسه كإنسان الكهف. تقرر يايا اكتشاف الجزيرة لربما هربًا من (أبيغيل) عاملة المراحيض التي استولت على حبيبها كارل الذي عاد إلى أقدم مهنة في التاريخ كي يشبع بطنه ويؤمن ليايا الطعام. ترافق أبيغيل يايا في استكشافهما الجزيرة وعندما يكتشفان أنّ في الجزيرة منتجعًا فخمًا، ُيظهر لنا روبن أنّ أبيغيل على وشك قتل يايا عبر ضربها بصخرة من أجل ألّا تفقد المميزات التي حصلت عليها وإبقاء الجميع على قناعة بأنّهم في جزيرة مهجورة. يختتم الفيلم بكارل يركض عبر أحراش الجزيرة، لربما لأنّه تيّقظ إلى ما تضمره إبيغيل نحو يايا، فيحاول اللحاق بهما وإنقاذ يايا، أو أنّه كان يهرب من عبوديته.
لا يحتاج أوستلوند إلى أفكار عظيمة، ولا أنبياء، أو قادة كارزميين، ليظهر مدى عبثية وسخافة المجتمع البشري، فقط ضعه تحت ظرف استثنائي. يتزيّن المجتمع البشري بالكثير من القوانين، إلّا أنّها تخفي تحت نصاعة أرديتها ميكافيلية غاشمة، وكأنّنا اخترعنا المبادئ لنستر عوراتنا، لكن هذه المبادئ تحوّلت بذاتها لعورات، كمن قطع أشجار الغابة ليمحو قانون الغابة حيث القوي يأكل الضعيف، لكنّه حوّل خشب الأشجار إلى مطارق في قاعات المحاكم.
مثلث الحزن، هي السمة التي تظهر في جبين الكائن البشري نتيجة لحزنه، وعادة ما يطلب من عارضي الأزياء إخفاءها.
باسم سليمان
November 11, 2023
سدهارتا، هو بوذا القرن العشرين؛ رواية لهرمان هسه – باسم سليمان – مقالي في ضفة ثالثة
لم تكن الثقافة الروحية الهندية غريبة عن المجتمع الأوروبي، عندما كتب هرمان هسه روايته: (سدهارتا – قصيدة هندية عام 1922 والتي صدرت بترجمة جديدة من قبل سمير جريس عن دار الكرمة لعام 2023). أعلن السير وليام جونز أحد الحكّام الإنكليز في الهند أمام العلماء في القرن الثامن عشر في كالكوتا؛ كما يذكر موريس أولَنْدر في كتابه: (لغات الفردوس) عن وجود تشابه لافت على المستويين المعجمي والنحوي بين اللغة الهندية السنسكريتية واللغات الأوروبية، بدءًا من اليونانية إلى اللاتينية؛ وأدّى ذلك إلى التنظير للفرضية التي تقول بوجود العرق الهند أوروبي، فكان لهذه النظرية أصداء عديدة. وأكثر من رحّب بهذه الفرضية؛ هم الألمان، الذين كانوا يعانون في ذلك الزمن من تشتت على المستوى القومي واللغوي. أصبحت الهند بعد ذلك بتراثها الثقافي والروحي قوّة في يد المفكّرين في صراعهم ضدّ الكنيسة، ومستندًا في يد من يبحثون عن أصول غير سامية – نسبة إلى سام بن نوح- وقد نتج عن هذه الأفكار الكثير من التداعيات الدينية والثقافية والسياسية، والتي لم يكن هسه غريبًا عنها، فهو ابن لوالدين ممن كانا يعملان في التبشير بالديانة المسيحية في الهند، والتي سافر إليها عام 1911وهناك عمّق إطلاعه على الثقافة الروحية الهندية.
عانى هسه في مقتبل عمره من تقلّبات حادّة، فقد ترك تعليمه الكنسي الذي أراده والده له، وحاول الانتحار، وعانى من أزمة نفسية حادّة بعد موت والده عام 1916 وإصابة زوجته بمرض الفصام، مّما دفعه إلى الخضوع لجلسات تحليل نفسي لدى كارل يونغ تلميذ سيغموند فرويد والد التحليل النفسي.
في رواياته العديدة هناك شبه سيرة ذاتية لحياته؛ كروايتي: (دميان – وذئب البراري) وفيهما طرح هواجسه عن الاغتراب الوجودي، والذات الفردية الحرّة، وكيف يجد الإنسان معنى السعادة. ولا تختلف روايته سدهارتا والتي تعني: (الذي بلغ هدفه) عن البحث في ذات المعطيات التي تناولتها الروايات الآنفة الذكر. فهسه أعلن في مقدمة الطبعة الفارسية لسدهارتا بأنّها: “اعترافات رجل نشأ وتربى في أجواء مسيحية، لكنّه هجر الكنسية مبكرًا، وحاول جاهدًا أن يفهم الديانات الأخرى، ولاسيما العقائد الهندية والصينية”. إذن هسه كان في سعي حثيث لإدراك ذاته وفرادتها من خلال التجربة الحرّة، والبحث عن حقائق أخرى غير ما يقدّمه له المجتمع الأوروبي.
تستوحي الرواية حياة الداعية الروحي الهندي بوذا – المستنير- والذي كان يدعى سدهارتا غوتاما والمولود قبل الميلاد بخمسة قرون. كان بوذا ابنًا لأحد الملوك حيث عاش حياة لا تشوبها شائبة من القلق الوجودي، فقد أمر أبوه بأن تزال الأوراق اليابسة كل ليلة عن نباتات الحديقة كي لا يرى سدهارتا ما ينغص عيشه ويكشف له تعاسة الوجود البشري. وعندما أصبح بوذا، قال كلمته المشهورة بأنّ: “جميع البشر يعانون” ومن هذه الرؤية كانت دعوته تتمحور حول تخليص البشر من تلك المعاناة. كان الديانة الهندوسية تقوم على أنّ الإنسان يجب أن يكتشف (الأتمان) في داخله – ما يعادل الروح في الديانات التوحيدية- حتى يتخلّص من (السمسارا)- عجلة الحياة والموت- المتكرّرة، والخاضعة لمفهوم الكارما، والتي تعني أنّ ما تصنعه في حياتك السابقة سيؤثر إيجابًا أو سلبًا على حياتك القادمة. آمن الهندوس بالتقمّص، وأن هذا المبدأ يشمل الجميع، من الآلهة حتى الحيوانات. وأن التخلّص من هذه الدورة اللامتناهية من الولادة والموت والعذابات التي ترافقها لا تكون، إلّا باكتشاف الأتمان الداخلي، حتى يتحرّر الكائن الحي من هذه الناعورة القدرية. وآمنوا بأنّ الوجود مجرد وهم وخداع. وتحت حجبه العديدة التي يجب أن تزال؛ تكمن الحقيقة.
لم يكن بوذا بعيدًا عن هذه النظرة كما تذكر سوزان هيكت في كتابها: (تاريخ الشك) لكنّه رأى أنّ الأتمان أو الإحساس بالذات؛ هو ما يسبب المعاناة، نتيجة الرغبات والشهوات والحاجات والأفكار، لذلك طرح فكرة (اللاأتمان)؛ أي ليس هناك من ذات. وبهذه الطريقة يستطيع الإنسان أن يقطع روابطه مع هذا الوجود، ويعلو على عجلة السمسارا ونهر الحياة.
هذا الاستيحاء لرواية هسه من حياة بوذا، لم يكن تقليدًا بل معارضة وجذب هذه الشخصية إلى الأفكار الأوروبية، فسدهارتا الرواية على العكس من سدهارتا/ بوذا، فعلى الرغم من أنّهما كلاهما سليل عائلة من البراهمة – أعلى رتبة دينية في الديانة الهندوسية- إلّا أنّ سدهارتا الرواية لم يكن يجد البهجة في الطقوس والعبادات والتطهرات، مع أنّه كان متفوقًا فيها. وهذا كان دأبه في كل تحوّلاته التي ستلي. أمّا بوذا فقد صادف رجلًا من طائفة السامانا –نسّاك اعتزلوا الحياة الدنيا وأوغلوا في ممارسات جد مؤلمة وصعبة لتخليص أتمانهم من غوايات الدنيا- فاتضح له الخداع الذي يعيش فيه؛ ومن ثم ذهب إلى الغابة وعاش حياة التنسّك، ليكتشف بالنهاية أنّ العيش على حبة أرز واحدة لا يختلف عن تناول صحن من الأرز، فكلاهما تطرّف، وبعد ذلك جلس تحت شجرة التين ونال الاستنارة الروحية، ليعلن بعدها مذهبه الذي سيخلّص البشر من المعاناة وذلك برفض مفهوم الأنا والسير بالحياة بمذهب اللاأنا واللاتعالق. كان سدهارتا الرواية مفتقدًا للمعنى في حياته وتعذبه أناه منذ البداية، من دون صدمة رؤية رجل السامانا، لذلك قرّر أن يلتحق بالنسّاك واتبعه في تلك الرحلة صديقه جوفيندا بحثًا عن الأنا.
المتاهة:
تعلّم سدهارتا وصديقه جوفيندا من النسّاك الكثير، فامتلكا قدرة الصوم والانتظار والتفكير والتأمّل وإماتة الذات. عاشا على ما لا يقيم حياة ظلِّ، فكيف بإنسان من لحم ودم، وتماهيا فيما حولهما من حياة؛ في الشوك والزهر، والحيوانات؛ حية وميتة، كي يروضا أناهما. ومع كل تلك التجربة المؤلمة وما رافقها من سمو روحي، أسرّ سدهارتا لصديقه بأنّ تلك الحياة لم تقدّم له شيئًا، حالها حال التعاليم الدينية والحكمة التي عرفها من كتب الهندوس المقدسة. أخافت كلمات سدهارتا صديقه جوفيندا والذي يعتبر كمرآة له، فمن خلاله كان سدهارتا يحاور ذاته، لكن الصديق يخضع لقرار سدهارتا بالمغادرة والالتحاق ببوذا الذي ذاع صيته.
كانت كلمات بوذا حكيمة وعميقة وقادرة على نخل الزؤان من قمح الروح. وجد جوفيندا ببوذا غايته، فقرّر الالتحاق به وغدا من مريديه، لكن سدهارتا لم يكن مثله، فما أعجبه ببوذا ليس تعاليمه ولا حكمته، بل أفعاله وهدوءه، لذلك جادله، فحذره بوذا من متاهة الأفكار والآراء، لكن روح سدهارتا القلقة لم تجد على غصن شجرة بوذا مستقرًا لها، فودّع صديقه الذي كان كظله، والآن أصبح ظلًا لبوذا، وغادر رافضًا منهجًا آخر من التعليم والحكمة، فبرأيه الحكمة لا تقال! لأنّها تقع على آذان المستمعين كالحماقة.
تمنّى سدهارتا أن يكون كبوذا، أن ينال الاستنارة، إلّا أنّ أمنيته ذهبت أدراج الريح، لكنّه أصبح أكثر قبولًا لعيش الحياة. وهكذا مضى إلى المدينة وتعرّف على الغانية كمالا، التي علّمته فنون الجسد وأغرقته بملذاته، لكن قبلًا كان عليه أن يصبح غنيًا، فوجد لدى تاجر نصحته به كمالا غايته، فكسب الكثير من المال وانغمس في المباهج، لكنه ظل غريبًا، على الرغم من محاولاته، فلم يشبه هؤلاء البشر المهمومين بحاجاتهم الدنيوية، والتي يعيشونها بكل استغراق. بدأ اليأس يتسلّل إلى ذاته، فجرّب مداواته بالولوج أكثر في الحياة الدنيا. وفي لقائه الأخير مع كمالا تخبره بنيتها الالتحاق ببوذا، فيقضيان ليلة أخيرة يتذوّقان عسيلتهما. وفي الصبح يغادر سدهارتا المملكة الدنيوية ليعود إلى التجوال بحثًا عن ذاته أو لإفنائها، فلم يكن متأكدًا من شيء. حاول سدهارتا الانتحار، بأن يلقي نفسه في النهر، بعدما شعر أنّه قد خذل كل تعاليمه الدينية، لكن صوتًا من داخله يناديه بالكلمة المقدسة: (أوم) التي تعني (الكامل)، ليعود إلى ذاته؛ وهنا تبتهج روحه ويغفو تحت شجرة.
كان جوفيندا مارًا في تجواله مع رفاقه من أتباع بوذا، فيسترعي انتباهه هذا النائم في الغابة، فيتخلّف عن قافلته ليحرسه. وعندما يستيقظ سدهارتا يشكره، لأنّه قد حماه من حيوانات الغابة. لم يتعرّف جوفيندا على سدهارتا، الذي كان يرتدي لباس الأغنياء. وحينما أخبره سدهارتا، بأنّه يعرفه، تفاجأ جوفيندا، بأنّه لم يعرف صديق صباه ورحلته نحو الاستنارة. يفترق الصديقان على أمل اللقاء، وينطلق سدهارتا مع النهر إلى أن يلتقي بالمراكبي الذي يعبر بالناس من ضفة إلى ضفة. لقد التقاه أول مرّة عندما قدم إلى المدينة كناسك ساماني عار، مرتديًا الغبار والفاقه، وهو الآن يقلّه إلى الضفة الأخرى متزيّنًا بلباس الأغنياء. يطلب سدهارتا من المراكبي أن يقبله كمساعد لديه، فيرحّب المراكبي بذلك.
تدور رحى السمسارا، فتميت وتحيي وتسعد وتتعس أناس. وفي طريق حجّ كمالا مع ابنها الذي أنجبته من سدهارتا إلى بوذا الذي كان يلفظ أنفاسه الأخيرة تنهشها أفعى، بالقرب من كوخ المراكبي وسدهارتا، الذي يتعرّف عليها، فتلفظ أنفاسها بين يديه ويعرف منها أنّ ذلك الولد هو ابنه. يحاول سدهارتا استمالة ابنه الذي تربى في قصر أمّه إلى حياته المتقشّفة عبر الحب واللطف والصبر والانتظار، لكنّ الولد لا يقبل ذلك. يخبره المراكبي، بأنّ ذلك الحب واللطف؛ ما هو إلّا مجرد عنفٍ يمارسه سدهارتا نحو الطفل، فله أقدار أخرى ولا يحقّ له أن يجبره على حياة التقشف والزهد. يرفض سدهارتا ذلك، فعاطفة الأبوة أقوى، لكنّ الولد في النهاية يهرب ويسرق ما ادخراه ويعطب قاربهما.
كان المراكبي حكيمًا من دون حكمة ومعلمًا من دون علم، فهو أشبه بالنهر الذي علّمه معنى الحياة. فقد كان يستمع إلى ثرثرة المياه التي تشبه الضحك ويخبر سدهارتا أن يستمع إلى النهر الذي سيخبره بالكثير. هكذا أصبح النهر خير معلم لسدهارتا من دون كلام ولا قواعد ولا بلاغة الحكمة، علّمه أن يصبح نهرًا، وأن يطفو فوق عجلة السمسارا، فالنهر لا يعترف بالزمن فهو الغيمة والجدول والماء الذي يجري إلى البحر ومن ثم يتبخّر ليعود مع الأمطار من جديد إلى سيرته السابقة.
لقد فعل سدهارتا سابقًا، كما فعل ابنه، فلقد هجر والديه إلى الغابة، ولم يعد. وأشاح بنظره عن هداية بوذا، فلماذا يجبر ابنه على أقداره، فله مصائره الخاصة. أخيرًا أدرك انعدام التناقض في تعاليم بوذا، بعد أن أمضى وقتًا طويلًا يستمع إلى ثرثرة النهر. فبوذا في تعاليمه لم يكن قادرًا إلّا على الفصل بين السمسارا والنيرفانا، بين الجيد والسيء، بين الخبيث والطيب، مع أنّ كل شيء يحتوي نقيضه وبه يحيا، فالطفل فيه الشيخ، والحياة فيها الموت، كذلك الموت ينبض بالحياة. كان بوذا يرى بتلك الثنائيات جوهرًا واحدًا؛ هذا ما أخبر سدهارتا صديقه جوفيندا به، الذي التقاه ثانية ولم يعرفه أيضًا! لم يقتنع جوفيندا بذلك، وعندها طلب سدهارتا العجوز من جوفيندا أن يقبل جبينه. وفي تلك اللحظة يرى جوفيندا حيوات كثيرة لسدهارتا، من النقي كالمطر إلى الملوث كالقاتل، كلّها تمرّ على صفحة وجه سدهارتا كأنّه النهر. تذكّر جوفيندا مقولة سدهارتا بأنّ كلمات الحكمة تقع على آذان الناس كالحماقة وابتسم. أخيرًا أدرك ذاته الحقّة، كما أدركها سدهارتا قبله، وهذه المرة تعرّف عليه نهائيًا. لقد كان جوفيندا مرآة سدهارتا، وفي كلّ مرّة لم يكن يتعرّف فيها عليه؛ كان سدهارتا لا يعرف ذاته. وعندما رآه جوفيندا كالنهر عرف سدهارتا ذاته، التي هي جوفيندا.
ابتسامة شتشاير:
شتشاير؛ هو قط أليس في بلاد العجائب، حيث كان يختفي جسده، ولا يبقى منه سوى ابتسامته التي تتبخّر تدريجيًا. هذا التشبيه استخدمه علماء الكوانتا/ الفيزياء التحت ذرية، ليوصّفوا كيف أنّ المادة المرئية تصبح شفافة، أو بالأحرى غير مرئية، ولا يبقى منها غير تلك الابتسامة عند الغوص في بنيتها الكوانتية. إنّ ابتسامة بوذا وسدهارتا لا تختلف عن ابتسامة شتشاير، أمام من يعتقدون بوجود الزمن بأقانيمه الثلاثة؛ من ماض وحاضر ومستقبل، أو أنّهم لا يرون إلّا النقصان في الدنيا، بحثًا عن كمالٍ مفترض في آخرة ما. إنّ استحضار النهر في دورته من المنبع إلى المصب ومن المصب إلى المنبع، كان المقصد منها، كما أخبر سدهارتا، فضح خديعة الزمن، وأنّه ليس هناك إلّا الحاضر الكامل، فالحجر سيصبح يومًا سدهارتا، ومن ثم بوذا. وعلينا أن نرى فيه سدهارتا وبوذا، وهو في مظهر الحجر، أي أن نزيل الأقنعة وننفتح على وحدة الكون، لكن النيرفانا التي يقترحها هسه عبر سدهارتا، ليست نيرفانا بوذا، التي تعني بأحد معانيها: (الانطفاء) بل كما رأى سدهارتا، بأنّها الاشتعال، وهي أقرب لمفاهيم نيتشه عن الإنسان السوبرمان، فنيرفانا هسه مناسبة لبوذا القرن العشرين.
مهما يكن تأويلنا لرواية هرمان هسه، إلّا أنّ بوصلتها الحقيقية تكمن في خوض التجربة الوجودية بكامل أبعادها من دون التنازل عن شيء فيها. وما جهة الشمال التي تتوجّه إليها إبرة البوصلة، إلّا ذاتك الوحيدة والمتفرّدة والحرّة المتدفقة كالنهر إلى الأمام؛ والنهر في الوقت نفسه متواجد أيضًا، في النبع والمصب، مبتسم كالقط شتشاير.
سدهارتا:
هي إحدى روايات الحائز على جائزة نوبل هرمان هسه، المشهورة جدًا، والتي لاقت رواجًا كبيرًا، وخاصة بعد الحرب العالمية الأولى لدى الشباب العائد من الحرب، الذي يريد أن يعرف الهدف من وجوده. وقد قال توماس مان عن هسه ورواياته: “لقد أصاب هسه بدقة بالغة عصب تلك الفترة”. تعتبر هذه الترجمة التي قام بها سمير جريس الرابعة لرواية سدهارتا، فقد نقلها إلى العربية، كلّ من فؤاد كامل وممدوح عدوان عن لغة وسيطة، فيما ترجمتها جيزلا فالور حجار عن اللغة الألمانية. ويشرح جريس الأسباب التي دعته إلى ترجمتها، فالترجمة عن اللغات الوسيطة شابها عيوب وأخطاء وحذف، أمّا ترجمة حجار، فقد كانت جافة وحرفية. قد نأخذ كلام جريس على محمل الجد، أو التحامل، لكن بحكم الإطلاع على ترجمة كل من كامل وعدوان نجد فرقًا لصالح جريس، لناحية سلاسة الجملة وتدفّقها في مقاطع الرواية مع وصول المعنى كاملًا؛ وخاصة أنّ جريس يترجم عن الألمانية مباشرة، مع خبرة تمتدّ لأكثر من عشرين سنة في الترجمة عن اللغة الألمانية. وهذا برأينا يبرّر إعادة الترجمة، ولأكن صريحًا هذه المرّة، لقد قرأت سدهارتا بروح جديدة.
باسم سليمان خاص ضفة ثالثة

https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/books/2023/11/11/%D8%B3%D8%AF%D9%D8%A7%D8%B1%D8%AA%D8%A7-%D8%B9%D9-%D8%A8%D9%D8%B0%D8%A7-%D8%A7%D9%D9%D8%B1%D9-%D8%A7%D9%D8%B9%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D9 https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/books/2023/11/11/%D8%B3%D8%AF%D9%D8%A7%D8%B1%D8%AA%D8%A7-%D8%B9%D9-%D8%A8%D9%D8%B0%D8%A7-%D8%A7%D9%D9%D8%B1%D9-%D8%A7%D9%D8%B9%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D9
November 6, 2023
العنف المضمر في القوانين الأمريكية في فيلم:
ألف وواحد
مقالي في سينما الصباح
تقول إحدى السيدات في فيلم: (A Thousand and one لعام 2023 إخراج إي. في. روكويل): ” كونوا من هارلم، لا كهارلم”. ما قصدته السيدة في خطابها لإينز (تيانا تايلور) السجينة، المطلق سراحها حديثًا، والتي خطفت ابنها من نظام الحضانة الاجتماعي، لتمنحه دفء العائلة التي فقدتها في طفولتها، ولتحقّق معه معنى الأمومة، ليس بالإنجاب فقط، بل بالرعاية والتربية؛ بأن تشبه إينز رجالات حي هارلم في نضالهم ضد القوانين الجائرة والعنصرية، كما فعل الروائي جيمس بالدوين الذي نشأ فيه، ووجد فيه مالكوم إكس حاضنة شعبية في نضاله من أجل إقرار الحقوق المدنية للسود، لا أن تتمثّله كمكان للفقر والجريمة.
يبدأ الفيلم بلقطات واسعة لمدينة نيويورك، ثمّ تتخصّص بهارلم، لتظهر إينز تمشي بثبات محتفية بجمالها وشبابها متّجهة إلى ابنها، الذي تخلّت عنه مرّات، ومن ثمّ أخذه النظام الاجتماعي منها بعد دخولها السجن. يحتمي الطفل تيري(أرون كينجزلي) منها بإصدقائه. فيما بعد تعلم من رفاقه، بأنّه في المشفى إثر هروبه من العائلة التي تتبنّاه، فتذهب إليه، لتكسب ثقته من جديد، وتهرب به لتنشئ عائلة. لم تكن إينز تملك نقودًا، ولا عملًا، أو مسكننًا، لكنّها تكافح من أجل ذلك، مضحيّة بأحلامها الخاصة، فتشتغل كعاملة نظافة، لكسب النقود، لتستأجر بيتًا، ولتشتري لتيري أوراقًا رسمية مزوّرة، باسم جديد له.
يتقدّم الفيلم بهدوء من التسعينات إلى العقد الأول من الألفية الثالثة، كاشفًا عن نمو العلاقة بين إينز وتيري وولادة الأمومة من جديد والبنوة أيضًا. يدخل حبيب إينز، لاكي (ويليام كاتليت) السجين السابق حياة العائلة الصغيرة، ليصبح أبًا لتيري على الرغم من اعتراضه على حيثية اختطافه من نظام الرعاية، لكنّه يلعب دوره كأب بشكل جيد.
تمحو إينز بعاطفتها المتدفّقة الذكريات السيئة لتيري عنها وكيف نبذته في طفولته. ففي ذلك الوقت، لم تكن إلّا مراهقة وجدت نفسها حاملًا. وفي مشهد لها، في السجن، تصفّف شعر إحدى السجينات الكبيرات في العمر، يشي بأنّ ما كان ينقص إينز حتى لا تنحرف، هو وجود عائلة حقيقية حولها تسدي لها النصائح وتستوعب جموحها، فوجدت ذلك في السجن من خلال تلك السجينات، اللواتي وهبنها حكمة التجارب التي مررن بها، لذلك يكون تصميمها بعد خروجها من السجن، أن تعمد إلى استرجاع ابنها لينشأ ضمن عائلة.
ليس الفيلم عرضًا للبطولات، بل تصويرًا ليوميات هامشية لا تُذكر؛ لكنّها تصنع معنى الإنسانية، ففي إحدى المشاهد يمشي لاكي مع تيري ويطلب منه أن يتخذ الجانب الداخلي للشارع قرب الحائط، لأنّه أكثر أمانًا من الجانب الخارجي منه. وهذا ما يكرّره تيري مع فتاة أعجب بها. وعندما تسأله عن السبب، يجيبها، بأنّه أكثر أمانًا.
لم تكن إينز متهاونة أبدًا في تأمين حياة جيدة لتيري، وهذا ما كان يسبب ضغطًا على لاكي، الذي كان يغيب عن البيت لفترات طويلة، يلومها تيري بسببها، فهو بحاجة إلى الأب. وفي جنازة لاكي بعد موته بسبب السرطان تظهر امرأة أخرى له، فيتساءل تيري عن تلك الأنثى التي تحمل طفلة صغيرة، فتخبره بأنّها امرأة أبيه الأخرى وعليه أن يعد لها طبقًا من الطعام إكرامًا لقيامها بواجب العزاء. لم تتخل إينز عن لاكي في مرضه وعندما يسألها، لماذا؟ تجيب، بأنّها تحبه، لكن ماقصدته، بأنّ معنى الإنسانية يكمن في أن نقف معًا في المحن.
تحتدم الأحداث وخاصة بعد خداع مالك البيت الأبيض اللون لإينز، بأنّه ينوي إصلاحه بعد القوانين الجديدة التي أصدرها عمدة المدينة، لكن ما فعله كان، بأن جعله غير صالح للعيش. يدفع هذا الأمر تيري للبحث عن عمل، ممّا يؤدّي لكشف التزوير الذي قامت به إينز بداية، والذي مكّنها من إدخاله إلى المدرسة. أصبحت إينز مطلوبة بجريمة جديدة بالإضافة لفقدانهم البيت، لكن تيري لم يبق له إلّا أسابيع ويصبح راشدًا بموجب القانون.
ليس عنوان الفيلم إلّا رقم الشقة الصغيرة، التي أنشأت بها إينز عائلتها. والآن إينز مطلوبة لارتكابها جريمة الاختطاف، التي من خلاها أنشأت شابًا قويًا وخلوقًا سيقف قريبًا بجانب أمّه في دفاعها المحقّ عن ضرورة ارتكاب تلك الجريمة، التي كان من نتائجها أن أصبح لتيري عائلة.
استطاعت المخرجة روكويل ذات الأصول الملوّنة أن ترينا العنف المضمر في القوانين الأمريكية تجاه السود، فلقد أوقف تيري عدّة مرات من قبل الشرطة في الحي، ليس لشيء إلّا لأنّه أسود. وأظهرت كيفية سلب الحي من سكانه السود عبرالتحديثات العمرانية الجديدة كي تتناسب مع صورة نيويورك في الألفية الجديدة، والأهم من ذلك نضال المرأة/ الأم السوداء من أجل عائلتها، وكل ذلك كان مؤطّرا بالمكان النيويوركي.
نال الفيلم تقدير النقاد والجمهور، وحصل على تقييم عالٍ على موقع الطماطم الفاسدة، وفاز بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان صاندس السينمائي لعام 2023 ويعتبر مرشحًا قويًا في جوائز الأوسكار لعام 2024.
باسم سليمان
خاص الصباح

October 31, 2023
العشبُ اليابس – باسم سليمان
العدد 639 تشرين أول / أكتوبر 3023
لا شيء فيه يخيف! لا حيوانات متوحّشة، ولا أشباح، ولا قاتل مقنّع يطاردني، لكنّني ألفته، رغم أنّني لم أستطع يومًا استرجاعه بشكل كامل. أستيقظُ من النّوم على ذاكرة قد احتفظت بجزئية صغيرة جدًا من ذلك الكابوس، تتعلّق بغراب يحاول أن يخطف قبعتي البيضاء عن رأسي، مع شعور بالعطش الشديد، الذي يتجلّى بإحساس ملمسٍ خشنٍ لعشبٍ يابسٍ في حلقي، حتى أكاد أن أبصقَ بعض الأنصال الحادّة. لم يكن شعور العشب اليابس في حلقي فقط، بل على امتداد جسدي، الذي أصبحتُ أدركه محشوًا بالعشب اليابس. ما إن أفتح عيني، مغادرًا جحيم هذا الكابوس، حتى أهرع إلى شرب كمية كبيرة من الماء، مليّنًا سقف حلقي غير مكترث لشعور العشب اليابس في جسدي، ولو أوليته الاهتمام وفقًا لِما أحسّ، لَخمنتُ أنّ جسدي سيتكسّر، ما إنْ أضغط عليه. لقد حاولت كثيرًا في لحظات خلوتي أن أربط بين الكابوس وحدث ما، قد جرى لي في الماضي، لكن لم أجد ما يثير الاهتمام. وأمام عجزي، أصبحت أستعدّ له بزجاجات من الماء قرب سريري، حتى أستطيع أن أحظى بنوم هادئ، إلى أن يقطع غفوتي حضوره، فأغادر السرير، ولا أعود للسبات بعدها.
أعمل مراقبًا في مديرية المياه، وعادة ما أقوم بزيارات دورية للكشف عن سلامة الأنابيب التي تورّد المياه إلى الخزانات التي تسقي المدينة. قادتني إحدى زياراتي إلى الخطّ الشّمالي الذي يغذّي الضاحية الغربية من المدينة، فقد أُعلمتُ عن تسرّب الماء من أحد الأنابيب. ركنتُ سيارة البيك أب وتابعتُ الخطّ عبر حقل القمح. وفي منتصف المسافة بين غرفتي تفتيش للماء، وجدتُ التسرّب وقد شكّل بركة صغيرة، وما إن اقتربت منها، حتى طارت عدّة غربان كانت تشرب الماء. لم أعطِ الأمر أهميّة تُذكر، فهذا المشهد مألوف في الحقول. عملتُ على إصلاح التسرّب مع الإبقاء على نزر يسير يسمح بمدّ البركة الصغيرة بالماء؛ كي تشرب الغربان.
وقفتُ على حافة البركة التي تشكّلت بعرض متر وطول مترين! كانت الشمس أمامي، فلم أجد انعكاس صورتي في الماء، وإنّما انعكاسًا لفزاعة طيور، رفعتُ رأسي لأتأمّلها. كانت الفزاعة تهزّها الريح، وعلى كتفها الأيسر غراب يحاول نزع قبعتها، في حين كسا جسدها المصنوع من القشّ بنطال جينز أزرق وقميص أبيض. ما شهدته؛ كان يشابه الجزئية الوحيدة، التي أتذكّرها من الكابوس! ماذا يعني ذلك؟ لا أعرف! لكن خيّل إليّ، أنّ ما ترتديه الفزاعة هي ثيابي التي سُرقت منذ حوالي السنة عن حبل الغسيل. هزئت من أفكاري التي عصفت بي وغادرت المكان.
مررت في طريق عودتي من العمل إلى السوبرماركت، اشتريت صندوقًا من المياه المعدنية وبعض الطعام وجريدة أتابعها باستمرار، وعدت إلى المنزل. عادة ما أغرق في النوم لمدّة ساعة بعد الطعام. هذه القيلولة أعتبرها تعويضًا عن قلّة نومي في الليل، وكالعادة تكرّر الكابوس، فهو لا يميّز بين رقاد الليل وقيلولة الظهيرة، يا لغبائه! وكالعادة عندما أستيقظ منه، أروي جفاف حلقي بزجاجة كاملة من المياه المعدنية. ومن ثم أبدأ بتصفّح الجريدة، فأهمل الأخبار السياسية وأركّز على الرياضية، وإن وجدتُ في الصفحة الثقافية ما يثير الاهتمام، أقوم بقراءته.
لمحت في أسفل الصفحة الثقافية، تحت قصيدة بعنوان: (الغراب) لوحة لفزّاعة طيور ينعكسُ ظلّها في ماء بركة صغيرة مع أنصال عشب بدا يابسًا يحيط بها. كان اسم الكاتبة يعود لفتاة أظنّ أنّني كنت أعرفها من أيام الدراسة الجامعية، تتكلّم في قصيدتها عن حبّ قديم، ظلّ حبيس صدرها، وفزّاعة نصبتها في حقل القمح كذكرى عن ذاك الحبّ الغائب! أيّة مصادفات هذه؟ عاودني العطش، فأفرغتُ السّائل الذي بلا لون، ولا رائحة، ولا طعم في جوفي. ومع ذلك لم يفارقني جفاف حلقي، لكنّني ولأول مرّة خلال صحوي ينتابني شعور بوجود غرابٍ يقف على كتفي الأيسر يحاول نزع قبعة غير موجودة عن رأسي. تلمست رأسي، وبعدها نظرت إلى الأسفل، فوجدت ثلاث زجاجات من المياه المعدنية الباردة مرمية قرب الكرسيّ الهزّاز الذي أجلس عليه في استراحة الظهيرة، وقد سُكبت محتوياتها في أرض الغرفة، لتشكّل حولي بركة من المياه، بعرض متر وطول مترين.

October 27, 2023
مقياس ريختر الأخلاقي في فيلم اليوتوبيا الخرسانيةمقالي في مجلة العربية العدد566 لشهر تشرين ثاني لعام 2023
يعتبر امتلاك شقة في العاصمة الكورية سول نقلة نوعية في حياة كل مواطني كوريا؛ هكذا يبدأ فيلم: (Concrete Utopia – اليوتوبيا الخرسانية لعام 2023 ) بمشاهد لبنيايات تظهر تحقيق هذا الحلم، وكيف قسّم هذا الأمر الناس إلى ملّاك وآخرين حالمين أن يصبحوا من الملّاك. وماهي إلّا لحظات حتى يتحوّل هذا الواقع المفترض أنّه جميل إلى كابوس مديد، بعد أن ضرب العاصمة سول زلزال مدمّر لم يبق منها إلّا مبنى سكنيًا واحدًا، في حين تم تدمير كامل المدينة. رويدًا، يكتشف سكان هذا المبنى أفضليتهم على الآخرين، فتولد الأسئلة المصيرية؛ عن من يحقّ له البقاء في المبنى ومن يجب أن يطرد؟
يرصد الفيلم حياة كل من الزوجين مين سونغ (بارك سيو جون) الذي خدم في الجيش سابقًا، ويكون همّه أن يحافظ على حياتهما، فيما زوجته الممرضة ميونغ هوا (بارك بو يونغ) أميّل إلى مساعدة الناس، حيث يناقشان في صبيحة اليوم الثاني للزلزال، كيف سيتدبّران أمرهما. يساعد كيم يونغ تاك (لي بيونغ هون) في إطفاء حريق نشب في البناء، على أثر صراع نشب بين مالك أحد البيوت ولاجئين غرباء دخلوا بيته. تنتهي المشاجرة بأن يُطعن صاحب البيت ويندلع حريق، فيعجب الملّاك بشجاعة كيم ويختارونه قائدًا. ومن ثم يتذكرون كيف كان جيرانهم الأغنياء في البناء الآخر يزدرونهم ويكادون يقيمون الحواجز بينهم فيما مضى، على الرغم من كونهم ملّاك مثلهم، إلّا أنّ بنايتهم شعبية وليست للنخبة، وعليه كان تفكيرهم بموجب وضعهم الكارثي أن يكون لهم الحق في طرد الغرباء من مبناهم. يتجمّع الملّاك من أصحاب الصكوك الخضراء لاتخاذ القرارات المهمّة بشأن بنايتهم، وكان أولها طرد اللاجئين الغرباء. يتم التصويت عبر أزرار لعبة (بو) اللانهائية الاحتمالات، بأن تكون القطع البيضاء تعني: نعم، والسوداء تعني: لا. ينتهي الاستفتاء بأن يُطرد اللاجئون الغرباء. كانت ميونغ هوا قد سمحت لأم وابنها غريبين عن البناء أن يسكنا في شقتها مع زوجها، لكنّ القرارات الجديدة تنصّ على طرد الغرباء الذين أصبحوا وفق تشبيه الملّاك بالصراصير. ترتفع حدّة الاحتقان الأخلاقي بين السكّان بين مؤيد للطرد وبين رافضٍ، لكن في النهاية تظهر الممرضة كأنّها الوحيدة التي تدعم بقاءهم. يعلّل زوجها ذلك، بحبّها لمساعدة الناس، لأنّها تعمل كممرضة، لكنّ الواقع كارثي والأولية -الآن- للبقاء أحياء.
لم يكن كيم شخصية ذات حضور عندما تم انتخابه، لكن بعد ذلك تتبدّى شخصيته القيادية، فينظم سكان البناء، وينتخب منهم مسؤولين عن الأمن والصحة والبحث عن مصادر الغذاء والماء، عبر النبش في أنقاض المدينة. يشعر سكان البناء بالطمأنينة التي تتجلّى بإقامة حواجز تمنع الآخرين من دخول البناء.
القائد الكارزمي كيم يونغ تاك:
حقيقة، لولا وجوده، لكان سكّان البناء قد ماتوا من الجوع والعطش، واستباح الغرباء بنايتهم. يقود كيم حملات بحث بين الانقاض بحثًا عن الطعام والماء والوقود وينجح في تأمين احتياجات السكان، حتى أنّهم احتفلوا برأس السنة رافعين أنخاب البقاء على قيد الحياة، فيما من حولهم قد ماتوا أو تجمدوا من البرد. يكتشف كيم أنّ هناك بعض السكان مازالوا يحتضنون بعض اللاجئين، فيقوم بعملية تطهير للبناء مع الفرقة الأمنية التي يقودها مين سونغ، والحجة شحّ المواد الضرورية للحياة. وأمام هذا الواقع اللاإنساني لم يجد أحد الملّاك من طريقة للتعبير عن رفضه لطرد اللاجئين، إلّا بالانتحار بعد أن يسأل سكان البناية عن معنى الإنسانية والأخلاق!
لم يكن كيم ينفذ إلّا الرغبات الخفيّة لدى السكان، فقرارته اللاأخلاقية كان سكان البناء يؤيدونها بالموافقة الصامتة أو الهتاف باسمه كأنّه أحد الديكتاتوريين. تدخل فتاة غريبة إلى تجمّع الناجين ليكتشفوا بأنّها مثلهم، تملك صكّ ملكية إحدى الشقق، فيسمحوا لها بالبقاء، لكن هذه الفتاة تحمل سرًا لا تبوح به إلّا إلى ميونغ هوا عن جارها كيم يونغ تاك، فيدخلان شقته، ليكتشفوا فيها عجوزًا مصابة بالخرف وجثة لجارها القديم، الذي سكن كيم مكانه واعتنى بأمه المصابة بالخرف. في مشهد للخطف خلفًا نتعرّف عن سبب تواجد كيم في البناية، فقد وقع ضحية احتيال كان سببها ذلك الشاب الذي يسكن مع أمه، وبعد جدال وقتال معه، يسقط ذلك الشاب ميتًا، بعد أن يصدم رأسه بحافة حادّة، فيقوم كيم بحشو فمه بأزرار لعبة جو البيضاء والسوداء اللانهائية الاحتمالات، ويضعه في صندوق للتبريد كي يخفي جثته، ويستولي على شخصيته.
الأناس العاديون:
بعد عودة فريق البحث بقيادة كيم، وتعرضهم لكمين من قبل ناجين آخرين كانوا قد دخلوا منطفتهم بحثًا عن الطعام، ولولا شجاعة كيم وإطلاقه النار على الغرباء لكانوا في عداد الأموات. ومع ذلك مات وجرح من فريقه البعض، فشرع أهل الموتى والمصابين بمحاسبة كيم الذي دافع عن نفسه بأنّ الأمر كان ضروريًا لحياة البقية. وهنا تشرع ميونغ بكشف سرّ القائد، وبأنّه ليس من سكان البناء، وهو من قادهم إلى العنف تجاه الآخرين. يدافع كيم عن ذاته، وأنّه لم يفعل شيئًا إلّا بناءً على رغبتهم. لكن مع اشتداد الجدال ورفعه البندقية بوجه أهل بنياته وهجومه على الفتاة الغريبة ورميها من أعلى الجرف، ينتزع مين سونغ البندقية من كيم ويوجه له الأسئلة عن فعلته تلك. وفي تلك اللحظة كان الغرباء ممن لا يسكنون البناء قد بدؤوا هجومهم مسقطين الحواجز والمتاريس. في تلك اللحظة يسترد كيم شعبيته، ويباشر بالدفاع مع الآخرين، لينسحب كل من مين وميونغ إلى شقتهما، لكن أحد الغرباء يلحقهما، ويحاول أن يقتل مين، لولا أن تصدّت له ميونغ. عمّت الفوضى، واحتل الغرباء البناء، فينسحب مين ويونغ المصابين بالجروح، ليصبحا متشردين بين الانقاض. يموت مين بين يدي ميونغ إثر إصابته في صراعه مع الرجل الذي اقتحم شقتهما. ومن ثم تلتحق ميونغ بغرباء آخرين يعيشون بين الانقاض. وعندما تسألهم، هل يحقّ لها السكن معهم؟ يستغربون سؤالها! ومن ثم يدور النقاش عن سكّان ذلك البناء التي أتت منه ميونغ، أحقيقة، كانوا يأكلون لحم البشر ويقتلون من يلجأ إليهم؟ تجيبهم ميونغ، بأنّ الأمر غير صحيح، لقد كانوا بشرًا عاديين.
الخطأة:
لم تكن غاية الفيلم تقديم مشهدية للزلزال، بل التداعيات التي تلي الكارثة، والسؤال: ما الذي يبقى من إنسانيتنا عندما يصبح التعلّق بالقيم الأخلاقية يعني الموت وانعدامها يعني النجاة؟ وكيف نقيم تلك الموازنة المستحيلة! تعرّف الدولة، بأنّها القدرة على إدارة العنف بين أفراد المجتمع المتنافسين على الموارد. وهذا ما استشعره سكّان البناء الوحيد المتبقي في سول عبر انتخاب كيم. كان كيم قد وقع ضحية احتيال قبل الزلزال، وقادته المطالبة بحقّه إلى القتل. ومن ثم منحته الكارثة وضعًا جديدًا، فالبيت الذي كان يحلم أن يسكن فيه أصبح ملكه، فهل يتخلّى عن ذلك كلّه، حتى أنّه اعتنى بالعجوز، بعد أن قتل ابنها، فهل هو شرير؟ ولولاه لم يكن سكّان البناء ليبقوا أحياء! وماذا عن الجندي مين، بعدما أصبح ذراع كيم اليمنى، أليس الواجب الأول في الكوارث البقاء حيًا والمحافظة على من حولك أحياء، فهل تمادى من أجل أن يحافظ على حياته؟ وماذا عن الممرضة الطيبة ميونع هوا التي دمّرت بطيبتها، ما عمل سكّان البناء على إشادته في بحر الدمار الذي يحاصرهم، فهل كانت مصيبة في مساعدتها للغرباء وكشفها حقيقة كيم؟
هذه عينة من الأسئلة الأخلاقية الكثيرة، التي يبثّها الفيلم بين ثناياه، مجادلًا سذاجتنا الأخلاقية، وهل ستصمد في الظروف الاستثنائية التي يمر بها العالم. هل سنكون أكثر عطفًا، وعطاءً، وتعاونًا، وتضحية، وتسامحًا وغفرانًا، أم سنتحول إلى ذئاب تنهش بعضها البعض، إنّ لم يتوفّر الغنم!
عادة ما تقاس شدّة الزلازل بمقياس رختر. وما فعله المخرج الكوري (أم تاي هو) بأنّه استخدم هذا الجهاز لقياس الزلازل التي تصيب الضمير الإنساني أيضًا. لقد كان الدمار كبيرًا في المدينة وكبيرًا في نفوس الناجين من الزلزال، فالقلّة هي التي نجت أخلاقها، أصبحوا لاجئين غرباء، بينما البناء الوحيد المنتصب في الدمار سيعيد إنتاج كيم يونغ تاك آخر، أشد عنفًا وضراوة. ينسحب كيم في نهاية الفيلم إلى شقته الحلم مثخنًا بالجروح والطعنات وعلى السجادة ذاتها التي أزهق عليها روح ذلك الشاب، بدأ يلفظ أنفاسه الأخيرة متمتمًا أن يخلع الغرباء أحذيتهم قبل الدخول إلى الشقة كي لا يلوثوها. صور تاي هو فيلمه باللون الرمادي مع موسيقى أغنية: (Home sweet home- ما أحلى الرجوع إلى البيت) سيمثّل الفيلم كوريا في أوسكار عام 2024، فهل سيكون متوجًا كــ: Parasite.
باسم سليمان
خاص العربية


October 19, 2023
“القط المنتظر”: مقاربة المجتمع البشري باستخدام ثيمة الحيوان
مقالي في ضفة ثالثة عن رواية: القط المنتظر، لمنى برنس
ليست ثيمة السرد على ألسنة الحيوانات جديدة، بل قديمة قِدم المخيال البشري، وهذا القِدم حمّال أوجه، فقد لعب الحيوان أدوارًا مهمّة في التاريخ البشري، فمن الأصل الطوطمي الحيواني للإنسان، إلى تجليات الألوهة بأشكال حيوانية، كما رأينا مع زيوس الذي تحوّل إلى ثور، كي يغوي أوروبا ويخطفها إلى القارة التي سمّيت باسمها. مرورًا باستخدام الحيوان كأضحية تعضد المجموعة البشرية وتحقّق تماهيها مع إلهها، وصولًا إلى أن أصبح الحيوان رمزًا في التخييل البشري، وذلك عبر تحميله رسائل من الحكمة، كما مع إيسوب الإغريقي، إلى نصائح الحكيم بيدبا للحاكم دبشليم في صيغتها التي عرفناها مع ابن المقفع. وأخيرًا تعبيرًا عن المجتمع البشري في مزرعة الحيوان لجورج أورويل.
وما يعنينا هنا، ونحن نقارب الرواية “القط المنتظر” (الفائزة بالجائزة الوطنية في الصين زينغ ينغ لعام 2023 والصادرة عن دار The Grand Library للنشر والتوزيع في بريطانيا) هو جانب الرمز في الحيوان كأسلوب لتمرير ما يراد قوله بدبلوماسية من دون أن تمانع الرقابة أكانت دينية أو سياسية، لكن هذا الرمز أصبح مفضوحًا، فتشبيه الحاكم بالأسد والشعب بالثور شتربة يكاد أن يكون ضحلًا. ومن هذه الرؤية يأتي السؤال، لماذا ذهبت الروائية المصرية منى برنس إلى تسريد حياة قط، يحلم بأن يصبح رئيسًا لجزيرة دائرية، تحكمها قطة بيد من حديد ورثت السلطة عن أمها؟
أتى اختيار برنس لرمز القط ، لربط مكان جزيرتها غير المسمّاة بمصر حيث كان القط إلهًا ومعبودًا للجماهير . ولتنطلق منه لمقاربتها للحظة الحاضرة، مستدعية الدلالة الجديدة له التي ترتبت عن تغيّر الأحوال وانقلابها رأسًا على عقب، فالقط ليس كائنًا اجتماعيًا، أكان بين أبناء جنسه أو مع البشر، إذا قسناه بالكلب، فكما يقول المثل عن القط: “أكّال نكّار” وهو بذلك يشبه الحكّام الذين ما إن يستلموا السلطة حتى يتنكّروا لكلّ وعودهم!
ومن جانب آخر، اختارت برنس قطًا ذكرًا يسعى لإزاحة إحدى الحاكمات الإناث، حتى لو في التخييل، ضاربة بعرض الحائط ما تسعى إليه الإناث من كل الأنواع والأجناس لانتزاع السلطة من الذكور، بعد أن تسيّدوا عليها لأكثر من خمسة آلاف عام، فما الذي تفعله برنس، وهل هناك أصعب من خيانة المرء لبني جنسه!
بهذا الدلالات المضمرة المذكورة أعلاه، والتي يشي بها عنوان رواية برنس”القط المنتظر”، وما تحيل إليه من أفكار وعقائد دينية؛ تبدأ روايتها بتوطئة لتعرّف القارئ بهذا القط العجيب والذي يدعى (راجي – الذي يأتي اسمه من الرجاء) الذي لم يبق من أرواحه إلّا السابعة، التي يحيا الآن بموجب طاقتها؛ خائضًا جدالًا مع أرواحه السابقة، فالأولى التي ذهبت بحادث سقوط عن شجرة على الرغم من خبرتها الحياتية وحكمتها، قالت له: “لن يتركوك” فيما روحه الثانية التي قتلت في عراك مع كائن غامض أخبرته بحدسها: “سيحاربونك بضراوة” أمّا الروح الثالثة العاشقة للمغامرة، فشدّت على يده موافقة على فكرته، لكن روحه الرابعة المصابة بوسواس قهري وتعتقد بأنّ هناك من يتجسّس عليها، فقد أحجمت عن منحه أفكارها خوفًا. لم تخالف الخامسة رأي الروح الأولى والثانية، لكن السادسة الكسولة ماءت وتثاءبت ضجرًا من هذا الجدل البيزنطي.
لم يكن راجي القط الأول، الذي فكّر بالترشح للانتخابات الرئاسية، بل كان هناك قطط إناث قد سبقهنه، وكان مصيرهن السجن أو القتل أو الاختفاء، إلّا أنّ ميزة راجي، بأنّه قط ذكر، جنس من رتبة أدنى يعاني ما تعانيه الإناث في عالم البشر، فكثيرًا ما تعرض للتحرّش وحتى الاغتصاب وتشويه وجهه، فقد قامت إحدى القطط بنزع شاربيه وقضم شفته، لكن هذا يحدث كثيرًا لغيره من الذكور، فلماذا التأفّف!
حسم راجي أمره، وانطلق في رحلته يجوب البلاد، معلنًا عن نيته الترشح للرئاسة مستهديًا بقول الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود: (إمّا حياةٌ تسر الصديق.. وإمّا ممات يغيظ العدا). لقد عارضته عائلته، لكن أخته تلك القطيطة الصغيرة دعمته، فهناك الكثير من القطط الإناث يرغبن بتداول السلطة بينهن وبين الذكور، لكن سطوة القطة الحاكمة، لم تكن تسمح حتى بترشّح قطة من ذات جنسها، فكيف بذكر من القطط.
وصل راجي إلى منطقة جبلية، وهناك يتعرّف على القطة الجميلة روكا، ويكتشف مقدار تردي الخدمات المدنية، وما تواجد السلطات القططية، إلّا لقمع أي تحرّك مضاد نحو القطة الحاكمة. يعيش راجي في الجبل لحظات عميقة من التأمّل، ويكتشف أنّ بلده متعدّد الأعراق والأجناس ويعرف قصة الصخرة النائحة، التي كانت قطة قتلها أخوها، لأنّه اشتبه بحملها من دون زواج، فتحوّلت إلى صخرة تبكي. كان ذلك منذ زمن بعيد على ما يبدو، حيث كان القطط الذكور هم الحكّام ويمارسون عنفهم الخاص. يقع راجي في غرام روكا ويترك في بطنها بذرة صغيرة ويغادر، ليكمل رحلته في أنحاء البلاد لتتضح صورة أخرى له، لا تقدّمها وسائل إعلام القطة الحاكمة، وكيف أنّها تعاهدت مع دول أخرى للتعاون في قمع أيّة حركة احتجاجية على حكمها وحكم القطط الإناث في تلك الدول.
من جبل إلى سهل، ومن وادي إلى صحراء، ومن غرفة في فندق ينام فيها راجي بعد تجوال طويل، إلى النوم في سيارته على الطرقات وحيدًا، مرورًا بالتعرّف على الكثير من القطط من إناث وذكور الذين ثمنوا خطوته في الترشح إلى الرئاسة ووعدوه بأن يمنحوه توكيلاتهم وأصواتهم. تتابعت جولات راجي إلى أن يلتقي بصديقته أستا، فيتبادلان الأخبار وما آلت إليه حياتهما. لقد كانت القطة أستا دكتورة في الجامعة تبذل جهدها لتنقل المعرفة إلى طلابها، لكنّ النظام لم يكن مرتاحًا لها، فدبّر له شركًا، بأن أخذت لها صورة وهي تلوك العلكة؛ وهذا يعتبر خروجًا عن السلوك العام، فتم فصلها من وظيفتها الجامعية. هذه القصة المتهكّمة من قبل برنس تذكّرنا بقضيتها التي فصلت بموجبها من التعليم إثر نشر صورٍ لها وهي ترقص!
يطوف راجي في بلاده معيدًا اكتشافها، فيجد غناها باختلاف الأعراق والأجناس التي تسكنها، فهناك على سبيل المثال، جنس أبيض من القطط استعبد قديمًا من القطط الملونة وإن تحصّل على حريته أخيرًا، لكن ما زال التعامل معه فيه الكثير من العنصرية. وراجي بذاته كقط ذكر، لم يكن أحسن حالًا، حيث تؤنّبه إحدى القطط على أحلامه، فمكانه البيت، والعمل على إنجاب قطط أخرى تسبّح بحمد الحاكمة القطة.
في إحدى رحلاته داخل البلاد كاد أن يموت، لولا مساعدة من عائلة قطط استضافته. وهنا يتحقّق ما كان يأمله بأنّ له روحًا تاسعة، ونادرون هم القطط الذين يملكون تسع أرواح، فيملأ الأمل قلب راجي وخاصة أنّه دار على مزارات البلاد المقدّسة يطلب من خلالها أن تستجيب السماء لسعيه، ليس ليكون أول حاكم ذكر، بل ليفتح الطريق لتداول السلطة، فقد كان منهجه في الدعاية بأنّ الرئاسة؛ هي تعاون بين الحاكم والمحكوم، فالحاكم ليس إلهًا ليعرف كل شيء. لربما دوره الأكبر يكون في التنسيق بين الوزارات والإدارات المختصّة، فهي أعلم وأكثر خبرة بما تتطلبه البلاد لتنهض.
يستغل نظام القطة الحاكمة جولة راجي، لإظهار نفسه للرأي العام العالمي، بأنّ البلاد تُدار عبر الديمقراطية، لكن كثرة السجينات من القطط يفضح هذا الإدعاء. ينهي راجي رحلته، فيلقى استقبالًا حافلًا من أسرته، لكنّهم ينفضّوا عنه ما إن يتأكّدوا من أنّه سيترشّح فعلًا، في وجه القطة الحاكمة، فلا يجد أي داعم من أسرته، إلّا أخته الصغيرة. ومع ذلك لا تلين عريكته، فيتابع إجراءات الترشّح وتقديم التوكيلات، إلّا أنّ الواقع يزدري حلمه بأنّ لا أحد سيكون معه، فهل تغلّب طبع القطط الأناني؟ لكن هناك استثناء أنّه القط راجي! في النهاية يدخل راجي في غيبوبة تحيّر الأطباء ولا يستفيق منها، إلّا عندما يخمشه قطيطه الصغير الذي أنجبه من القطة روكا وهي تقول له: “هذه بذرتك. بذرتك التي ستكمّل الدرب من بعدك”.
عبر سرد سلس ومتهكّم جدًا سطّرت منى برنس قصة القط راجي، منشئة من تضاد المفاهيم معمار روايتها، فالقطط المشهور عنها أنانيتها من الممكن تخليصها من ذلك الطبع عبر فكرة المواطنه، فالمواطنة تحرّر الفرد / القط من طبائعه ومصالحه، وتجعله يرتقي فوق صراع الذكورة والأنوثة والمصالح والعقائد والانتماءات، ليصبح الجميع سواسية أمام القانون في الحقوق والواجبات. الشيء الآخر أبرزت حكاية راجي بأنّ السلطة، هي من تخدع الطبيعة وتغيّرها، والتي زودت الأنواع وأجناسها بمميزات لا تفاضل بينها وإن اختلفت، فعندما حكمت البلاد قطة تراجع الذكور إلى المرتبة الثانية، بحيث تفرض عليهم العادات والأعراف كيفية الجلوس والمشي والكلام ونوعية الوظائف والأعمال ومقدار الطموح. هكذا استطاعت برنس عبر استخدام ثيمة الحيوان مقاربة المجتمع البشري وطرح العديد من القضايا الشائكة، أسواء كانت دينية أو سياسية أو اجتماعية، من دون استعداء الرقابة، وهذا هو نفس المنحى الذي استخدمه الحكيم بيدبا وغيره ممن استخدموا الرمز الحيواني للتعبير عن حياة البشر، فالرواية تتعلّق بسيرة قط أحمق يحلم بأن يصبح رئيسًا لجزيرة القطط، فما خصّنا نحن البشر!
شاب الرواية بعض التكرار في الأحداث، لكن ذلك لم يخفّف من تدفّق السرد والمتعة في تذوقه، فسيرة حياة القط راجي تستحق أن تحتذى من قبل البشر.
باسم سليمان

October 9, 2023
تكون أو لا تكون؛ هذا هو السؤال، في فيلم حديث النساء- باسم سليمان
مقالي في صفحة سينما الصباح العدد 5788 يوم الاثنين 9 تشرين أول 2023
إنّ جوهر مسرحية هاملت يكمن في عدم قدرته على اتخاذ القرار بالانتقام لمقتل أبيه على يد عمّه، لكنّ نساء المخرجة سارة بولي في فيلمها Women Talking) لعام 2022 ) اختلفن عن هاملت وأخذن القرار بمغادرة المستعمرة القروية التي أقامها أتباع طائفة المينونايت المشهور عنهم الابتعاد عن كل منتجات الحداثة، فما زالوا يعيشون كأنّهم في القرن الثامن عشر. أعطت سارة بولي ملاحظة في مقدمة فيلمها، بأنّ هذا الفيلم تخييل نسائي، منطلقة من أنّ الأمر في الواقع لم يحدث! فالفيلم الذي يستند على رواية الكندية ميريام تويز والتي تعود بأصولها إلى هكذا مجموعات دينية، والتي جاءت بالعنوان نفسه، وتتحدث فيه عن واقعة حقيقية حدثت بين عامي 2005 و2009 في بوليفيا، حيث عمد مجموعة من الرجال في تلك المستعمرات المنطوية على ذاتها إلى استخدام مخدّر لتهدئة البقر من أجل تنويم النساء والاعتداء عليهن جنسيًا. وقد وقع أكثر من مئة وخمسين أنثى من كل الأعمار ضحية لهذا الفعل الشنيع. وعندما كانت النساء تخبر عن الاعتداءات، ورغم الأدلة الواضحة من كدمات ودماء، كانت الإجابة من المؤسسة الدينية والذكورية، بأنّ ما يحدث لكنَّ من أعمال الشيطان بسبب خطاياكن، أو أنتن تصطنعن ذلك عبر خيالاتكن المجنونة. هذه التهمة الأخيرة، هي منشأ ملاحظة سارة بولي، وكأنّها تقول بأنّ تلك الإناث المعنّفات، كان الأولى بهنّ أن يتخيّلن هروبهن، لا أن يلجأن إلى مسببي عذاباتهن، كي ينسبوا هذه الاعتداءات إلى الشيطان.
وفي هذا الصمت المطبق على الجرائم يحدث أن يقبض على رجل من المغتصبين، فيعترف على مجموعته، ولكي لا يتم قتلهم، يتم إبعادهم إلى سجن المدينة، فيهرع رجال المستعمرة إلى دفع كفالة خروجهم من السجن، فتغدو المستعمرة من دون رجال. أخيرًا سنحت الفرصة لأن تجلس النساء وتتداولن ما يجب أن يفعلنه، إلى جانب ذكر وحيد؛ هو معلّم المدرسة، الذي له قصته الخاصة، التي لا يشبه بها رجال المستعمرة، فأمّه قد طُردت من المستعمرة مع أبيه، لتشكيكهما بالمقولات الدينية. وبعد موتهما يعود، لتعيّنه الحكومة معلّمًا في المدرسة، ورويدًا رويدًا يلاحظ الشبه بينه وبين رئيس المستعمرة الديني، الذي كان فيما ما مضى قد اعتدى على أمه. يحضر أوغست (بن ويشو) كمدوّن لمحاضر الجلسات التي سيتخذ بها أحد القرارات التالية: البقاء في المستعمرة ومسامحة الرجال، أو الوقوف في وجه الرجال والانتقام منهم، أو أن تغادر النساء المستعمرة مع الأطفال.
لم تكن تلك النسوة يعرفن القراءة أو الكتابة، لكنّهن يتوصّلن بموجب قوة النقاش والجدال إلى قرار جماعي. ورغم وجود الاختلافات البيّنة بينهن بالآراء، فإنّهن يقررن مصيرهن بناءً على ديمقراطية حقيقية، فيعتمدن الإقناع بالحجج المنطقية وإشراك العقل والعاطفة، لقد كانت لكل واحدة منهن قصتها الخاصة عن العنف الذي تعرّضت له، ممّا أبرز تنوّع شخصياتهن، بين أكثرهن تطرفًا و رغبة في الانتقام، مثل سالومي (كلير فوي) وميريكا (جيسي باكلي)، وأكثرهن اعتدالًا، مثل أونا (روني مارا)، فلكل امرأة منهن منظورها الخاص. انصهرت تلك النسوة بعضهن ببعض، حتى أصبحن كامرأة واحدة غاضبة، لكن حكيمة وعاطفية، في الوقت نفسه يملؤها الرجاء بالمستقبل، وبالأطفال الذين سينشأون بعيدًا عن المستعمرة.
لم تحدد سارة بولي مكانًا لفيلمها، لكنّها أعطت زمنًا معيّنًا من خلال مرور سيارة تذيع عبر مكبّرات الصوت ضرورة حضور أهل المستعمرة لإحصاء عام 2010. ما أرادته سارة بولي من ذلك، أن تشير إلى أنّ هكذا وقائع تحدث في كل مكان وزمان، فالعنف ضد النساء لا يظهر منه إلّا رأس الجليد وما خفي كان أعظم، أكان ذلك العنف قائمًا على حجج دينية أو اقتصادية أو تنطلق من افتراض تفوّق الذكر على الأنثى. الأمر الثاني، لم ترنا سارة بولي وجوه الرجال المعتدين، وكأنّها تمسح وجودهم، فهم لا يستحقون ذكرًا في تاريخ فيلمها، ولا التاريخ بشكل عام. بينما أعطت إلى أوغست الرجل الوحيد في المستعمرة إدارة الجلسات، وحتى الاحتفاظ بها؛ دلالة على أنّ الرجل الذي يستحق أن يوجد، يجب أن يكون شبيه أوغست بفكره وعطفه ومحبته. وخاصة عندما عرض على أونا الفتاة المغتصبة حبه، ورغبتها بالعناية بطفلها القادم.
لم تثر النساء على الدين، بل ثرن على التفسيرات السيئة له من قبل الرجال. لذلك عندما ناقشن خروجهن، بأنّه سيمنع عنهن الجنة، فالمرأة لا تدخل الجنة إلّا برضى زوجها، اعترضن على ذلك، فالله لن يقبل بهذا الظلم. تصوّر لنا سارة بولي خروجهن من المستمرة بشكل أشبه بخروج بني إسرائيل من مصر. وفي هذا المشهد كان النساء هنّ شعب الله المختار، والرجال هم الفراعنة.
إنّ نسوة سارة بولي في فيلمها، ونسوة ميريام تويز في روايتها، قد أجبن على كوجيتو هاملت: (تكون أو لا تكون؛ هذا هو السؤال). حصل الفيلم على جائزة أوسكار أحسن سيناريو مقتبس.
باسم سليمان
خاص الصياح

باسم سليمان's Blog
- باسم سليمان's profile
- 24 followers
