باسم سليمان's Blog, page 6
July 27, 2024
عن السرير في الأسطورة والأدب: كأننا أمام مرآة زوزيما
باسم سليمان 27 يوليه 2024 ضفة ثالثة
استيقظ غريغور سامسا في سريره، في رواية (التحوّل) لكافكا، وقد أصبح حشرة! لا يهم إن كان هذا التحوّل ناتجًا عن القمع الذي كان يمارس على سامسا، أو لأنّه حقيقة كان يرغب بأن يصبح حشرة، فما دام القمع الذي كان خاضعًا له يعامله كحشرة، فلماذا لا يصبح حشرة، وبذلك يتوافق لاشعوره مع شعوره؛ أناه مع الأنا الأعلى ويُخمد الصراع الذي يدور في داخله؛ لذلك لم يتحوّل سامسا خلال النهار، أو أثناء جلوسه، أو في عمله، بل في سريره خلال نومه، حين كان لاشعوره، لم يُكبت بعد، وعندما استيقظ من النوم وجد نفسه حشرة. يشرح سيغموند فرويد، بأنّ الأحلام، هي وسيلة لتحرير المكبوتات التي يغصّ بها لاشعور الأنا، والناتجة عن سطوة رقابة الشعور/ الأنا الأعلى، الذي يمثّل السلطات الدينية والأخلاقية والمجتمعية، وبناءً عليه، تُولد الأحلام في النوم، لكن أين؟: في السرير، لذلك نراه يتوسّط عيادة الأطباء النفسيين. لقد حدث تحوّل كافكا في السرير، لكن لماذا السرير؟ كان بروكرست حدادًا وقاطع طريق في اليونان القديمة، يستقبل الناس في بيته، أو يخطفهم، وفي كلتا الحالتين يستضيفهم، ومن ثم يدعوهم إلى النوم في سرير قد أعدّه لذلك. كان سرير بروكرست لا يتوافق مع طول ولا قصر قامة أي من الأشخاص الذين ينامون عليه، لذلك كان بروكرست يجتهد في تطويع جسد النائم مع قياس السرير، فإذا كان جسده أطول من السرير بتر الزائد من جسم النائم، وإذا كان أقصر مطّه حتى يتوافق مع قياس السرير. أصبح بروكرست شرًّا مستطيرًا إلى أن أتى البطل تيسيوس قاتل الوحش المينوتور، وأخضع بروكرست إلى نفس الجزاء، بأن مدّده على السرير، فلم يناسبه، فقام بقطع الزائد عن السرير من جسد بروكرست أو مطّه حتى يتوافق قياسه مع السرير، حتى مات.
عندما أراد أفلاطون أن يشرح فكرته عن المثل العليا وعالم المحاكاة الأرضي الفاسد، لجأ إلى فكرة السرير المثال الذي تُصنع جميع الأسرّة اقتداءً به، فسرير النجّار أقرب إلى فكرة المثال من الرسّام الذي تأتي محاكاته لفكرة السرير المثال من الدرجة الثانية، فهناك من هم كالسرير الذي يصنعه النجّار في قربهم إلى عالم المثل، وهناك من هم كلوحة الرسّام للسرير في بعدهم عن عالم المثل. ليس استخدام أفلاطون للسرير اعتباطيًا، لكن لنعد إلى بروكرست. إنّ سويعات تواجدنا في السرير في حالة النوم أو الأرق نكون أقرب إلى طبائعنا الأصلية، وكأنّنا في عالم المثل، فما نحاول كبته خلال اليقظة في النهار، يتبدّى من خلال الأحلام، أو في تلك الأفكار التي تجتاحنا في حالة الأرق، وكأنّنا في جردة حساب لما نخفيه، أو نخاف منه أو نكبته، أو نشتهيه، إذ نبتدّى عراة لأنفسنا في السرير، وكأنّنا أمام مرآة زوزيما التي اخترعها الإسكندر، فكان كل من يقف أمامها تظهر دفائنه النفسية، هكذا كان الإسكندر يعرف من يواليه ومن يدعي حبّ سيف الدولة كما قال المتنبي . لقد كان بروكرست يجالس من يستضيفهم أو يخطفهم ويستمع لأحاديثهم وتوسلاتهم لإطلاق سراحهم، وفي كلتا الحالتين كان يبحث عن الطبائع الحقيقية لضيوفه، فيضعهم على السرير، فلا ينطبق مقاسه على أحد، وكأنّنا أمام سرير أفلاطون المثال وعالم المثل، حيث الحقيقة لا التزييف الذي نعيشه هنا على الأرض، بسرير من صناعة النجّار أو لوحة له. أراد بروكرست مطابقة لاشعورنا/ طبائعنا المخفية مع شعورنا، أو شخصيتنا التي نظهرها للناس، ولا يحدث ذلك، إلّا عندما نستلقي على السرير ونمنح اللاشعور المكبوت حريّة الحركة بالأحلام أو بتداعيات الأرق. لقد كان ينزع الأقنعة، ليكشف أنّ الجميع كاذبون، فشخصياتهم الظاهرة لا تتوافق مع شخصياتهم الباطنية.
تعتبر البروكرستية أسلوبًا فكريًا، سياسيًا، دينيًا، اقتصاديًا، اجتماعيًا، هدفه قسر الآخرين وإجبارهم على المطابقة مع العقائد والأفكار والمبادئ التي يعتنقها صاحب هذا الأسلوب. وإن أمعنا النظر نجد أنّه لا أحد يخلو من البروكرستية، فكثيرًا ما نطلق الأحكام والتقييميات على الآخرين من وجهة نظرنا الخاصة دون أي اعتبار لهم، لذلك أتى أخيرًا تيسيوس قاتل وحش المينوتور، وأخضع بروكرست إلى نفس مذهبه، وكأنّ لسان حاله كلسان السيد المسيح: “لا تدينوا لكي لا تدانوا”. إنّ أسطورة بروكرست لمّاحة جدًا، لأنّها على ما يبدو قد ظهرت في فترة تحوّلت فيها المدن اليونانية إلى ديكتاتوريات كبروكرست، تفرض مقياس سريرها على مواطنيها، فكانت الأسطورة دعوة لأن يتركوا للناس الحرية على الأقل في أحلامهم، وإلّا تحوّلوا بدورهم إلى بروكرستات/ قطّاع طرق.
السرير كتاب اليقظان:
يقول آلبرتو مانغويل في كتابه (تاريخ القراءة) بأنّ المؤالفة بين السرير والكتاب كانت تمنحه ما يشبه المسكن، مسكن كان يستطيع الرجوع إليه ليلة بعد ليلة، وتحت أي سماء. يعرض مانغويل لعدّة أماكن مفضّلة للقراءة ذكرها القرّاء والكتّاب. يقول الفيلسوف توما الكمبيسي الذي كان يبحث عن السعادة في كل مكان: “إلّا أنّني لم أعثر على هذه السعادة إلّا في زاوية صغيرة وبيدي كُتيّب”، فيما أوصى عمر الخيام أن تكون قراءة الأشعار خارجًا تحت الأشجار. تتعدّد أماكن القراءة على مقعد، أو في مكتبة عامة، أو في قطار، أو حتى في المرحاض، كما ذكر مارسيل بروست. كان المرحاض لبروست مكانًا لجميع الانشغالات التي تتطلب وحدة خالية من التشويش: “القراءة، أحلام اليقظة، الدموع، واللذّة الحسّيّة”. لا أختلف شخصيًا عن بروست، ففي الثمانينات من القرن المنصرم دفع أبي مدرس الفلسفة بكتبه إلى المرحاض، واحدًا تلو الآخر، لتصبح ورق تواليت، بدلًا من علبة المحارم التي تحتاج وساطة وزير أو أكثر للحصول عليها ولأسباب أخرى، وهناك في المرحاض بدأ شغفي بالقراءة، وتعرّفت على ألف ليلة وليلة، ومحاورات أفلاطون، وسارتر، فهمت منها شيئًا وغابت عنّي أشياء كثيرة في ذلك الزمان، لكن كل كلمة قرأتها في المرحاض ظلّت محفورة في ذاكرتي، فعذرًا لهذا التداعي الذي فرضه عليّ آلبرتو مانغويل.
بعد أن يعرض مانغويل للعديد من أماكن القراءة، يبدأ بالحديث عن السرير، لأنّه شرع بالقراءة في السرير منذ طفولته، فكان له بمثابة الرحم الذي يعزله عن العالم: “إنّ القراءة في الفراش تعتبر أكثر من مجرد تمضية للوقت؛ إنّها تمثل نوعًا من الوحدة. فالمرء يتراجع مركّزًا على ذاته، ويترك الجسد يرتاح، ويجعل من نفسه بعيدًا لا يمكن الوصول إليه مخفيًا عن العالم”. يذكر الكاتب جوزف شكفوريكي أيام تشيكوسلوفاكيا الشيوعية، بأنّ الأضواء كان يجب أن تُطفأ في التاسعة، وعلى الأطفال أن يناموا مبكرًا ومن يخالف كانت العقوبات شديدة، هكذا كان يسحب الغطاء فوق رأسه في السرير، ويشعل كشّافه الضوئي ويبدأ القراءة. ذكر العديد من الكتاب شغفهم بالقراءة في السرير، لكن هذه العادة قديمة، فاليونانيون والرومان كانوا يلجؤون لأسرتهم للقراءة. وفي أوروبا في العصور الوسطى كان امتلاك سرير علامة على الثراء وامتلاك الكتب كذلك، لذلك أصبحت الأسرة والكتب تورّث سوّية. كان الرهبان المعروف عنهم تقشّفهم، يجدون في أسرتهم مكانًا هادئًا ودافئًا لمتابعة قراءاتهم ، ففي مخطوطة تعود للقرن الثالث عشر تصور راهبًا في سريره يقرأ. ترافق السرير والكتاب والزمن يتقدم نحو عصرنا، حتى إنّ بعض القديسين حذّروا من عادة القراءة في السرير لِما لها من مضار على الأخلاق كالقديس (جان-باتيست دو لاسال) الذي قال: “لا تحاكوا أشخاصًا معيّنين يشغلون أوقاتهم بالقراءة، ولا تمكثوا في الفراش إن لم يكن لغرض النوم، لأنّ هذا لا يعود بالنفع على فضائلكم”. إنّ علاقة القراءة بالسرير قد أصبحت مع الكاتبة الأرستقراطية الأمريكية (إيدث وارتون) جنونية، فعندما كانت في برلين تم تحريك سريرها من مكانه قليلًا، فأصابها الجنون، ولم تهدأ حتى أعيد كما كان مواجهًا للنافذة. أمّا الكاتبة الفرنسية كوليت والتي كانت تعتبرها الكنيسة : “شائنة، ومتهورة، ومنحرفة” إلى درجة رفضت الكنيسة دفنها وفق الطقوس المسيحية، وعندما توفيت عام 1954، فقد كان السرير لها بمثابة بساط علاء الدين السحري، وفي صورة التقطت لها قبل وفاتها بعام احتفلت بعيد ميلادها في سريرها. في زمننا الحالي لم نعد نحتاج إلى الكشّاف الضوئي للكاتب التشيكوسلوفاكي جوزف شكفوريكي ، فجوالاتنا ولابتوباتنا وتاباتنا نأخذها معنا إلى الفراش. قديمًا كان الكتاب يحتاج إلى ضوء خارجي ليضيء، أمّا الآن، فكتبنا إضاءاتها ذاتية في ليلنا البهيم الحميمي. إنّ القراءة في السرير تمتاز عن بقية الأماكن بأنّها تمنحنا شعورًا بالأمان لا نحوزه في أي مكان آخر، حتى أنّ السجناء وخاصة أصحاب الرأي، الذين لا يملكون مساحة خاصة بهم غير السرير في مهجع السجن، كان السرير بالنسبة إليهم كجزيرة روبنسون كروزو التي يهربون إليها من يد السجّان عندما يمسكون الكتاب بإيديهم.
السرير ليس قطعة أثاث، بل أسطورة للتحوّل:
إنّ السرير في الأسطورة، هو عنصر فعّال، يعكس تمثّلات التجربة الإنسانية وأسرار الكون العميقة. وكما رأينا في رواية كافكا كيف حدث التحوّل من طبيعة إلى طبيعة أخرى من خلال السرير، نجد ذلك في الأساطير المصرية، التي غالبًا ما يتم تصوير السرير فيها ملازمًا لمشاهد الموت والبعث. فبعد مقتل الإله أوزوريس وتقطيع أوصاله على يد أخيه سِت، قامت زوجته إيزيس بإحيائه على السرير. هكذا يصبح السرير رمزًا للانتقال من الموت إلى الحياة، ممّا يؤكّد على القوة التحويلية الكامنة التي وضعتها الأساطير في الأسرّة، فهي تستقبلنا لحظة ميلادنا، ونغادر الدنيا ونحن مسجَّون عليها.
أمّا في الأساطير الهندوسية، فيُصوَّر الإله فيشنو متكئًا على الثعبان شيشا، العائم على المحيط الكوني. هذا السرير ليس مجرد مكان للراحة ولكنّه رمز للدورة الأبدية من الخلق والدمار. يشير سبات الإله فيشنو على هذا السرير إلى الفترات الفاصلة بين انحلال الكون وإعادة خلقه، مما يُظهر السرير كمساحة تحدث فيها تحوّلات كونية عميقة. السرير هو أيضًا موقع للغموض والوحي، حيث تتلاشى الحدود بين الفاني والإلهي. في القصة التوراتية لسلم يعقوب، يحلم يعقوب بسلم يصل إلى السماء بينما كان ينام على حجر هو بمثابة سريره. يكشف هذا الحلم عن العلاقة بين السماء والأرض، ويقدم ليعقوب رؤى ووعود إلهية. إنّ السرير المتواضع، في هذه الحالة، يصبح بوابة إلى الألوهية، مكانًا تنكشف فيه الرؤى والحقائق المقدسة. في العديد من الحكايات الشعبية، تعتبر الأسرة أشياء مسحورة يمكنها نقل الأفراد إلى عوالم أخرى، مثل الحكاية الروسية التي تتكلم عن طائر النار والذئب الرمادي، فقد كان فيها سرير سحري يحمل البطل إلى الأراضي البعيدة، مما يسلط الضوء على دور السرير كوسيلة للاستكشاف والاكتشاف. تؤكّد هذه القصص على ارتباط السرير بالخيال وحتى الماورائيات.
السرير رمز الألفة والصراع:
لقد كانت الأسرّة في الأدب، إلى جانب كونها مكانًا للنوم والاستراحة، بمثابة رموز لها دلالاتها العديدة، حيث تمثل مجموعة من المواضيع، بدءًا من العلاقة الحميمة إلى الصراع وحتى التحوّل والتأمّل في مآلات الحياة. يتبدّى السرير في الأدب وخاصة الروايات كنقطة محورية لتطوير الشخصية واستكشاف الذات، ويجسد الجوانب الدنيوية والعميقة للتجربة الإنسانية، فيرمز غالبًا إلى العلاقة الحميمة وتعقيداتها، إنّه مكان تكشف فيه الشخصيات عن ضعفها وقوتها، فعلى سبيل المثال، في رواية (عشيق الليدي تشاترلي) لديفيد هربرت لورانس، يعتبر السرير تأكيدًا للعلاقة العاطفية والجسدية بين الليدي تشاترلي وميلورز، حيث يكون السرير نقطة تحول في تحدّي الأعراف المجتمعية. وعلى نحو مماثل، في رواية غابرييل غارسيا ماركيز (مئة عام من العزلة) كان السرير رمزًا متكرّرًا في ملحمة عائلة بوينديا. ففي أسرة عائلة بوينديا، تتكشّف العديد من اللحظات المحورية في تاريخ العائلة: الولادات والوفيات ومرور الأجيال، حيث يصبح السرير، في هذا السياق، مستودعًا للذاكرة الجماعية ورمزًا للروابط الحميمة التي تربط الأسرة ببعضها البعض. أمّا في مسرحية (عطيل) لشكسبير، يلعب السرير دورًا مركزيًا في ذروة المسرحية المأساوية. لقد قتل عطيل ديزديمونا في فراش الزوجية، وهو تمثيل صارخ للخيانة المطلقة والقوة التدميرية للغيرة. فالسرير، الذي كان في البداية رمزًا للحب والاتحاد، أصبح مسرحًا مأساويًا للعنف والموت، ممّا يسلط الضوء على الطبيعة الهشّة للثقة والأثر المدمّر لانعدامها. غالبًا ما تكون الأسرّة استعارات لدورات الحياة: الولادة، والنوم، والأحلام، والموت، ففي رواية “إلى المنارة” لفرجينيا وولف، ينقضي الزمن من خلال الأسرّة الفارغة وغير المستخدمة في منزل رامزي الصيفي. حيث تصبح هذه الأسرّة شواهد صامتة على مرور الزمن وما يحمله من تغيّرات حتمية، مجسّدة موضوعات الفقد وانقضاء الحياة. في رواية “وداعاً للسلاح” لإرنست همنغواي، يعتبر السرير مكانًا للحظات العابرة من السلام والحميمية وسط فوضى الحرب. إنّ السرير في الأدب هو رمز غنّي ومتعدّد الأوجه. إنّه مساحة يتقاطع فيها ما هو حميم مع ما هو خارجي، حيث تواجه وتعيش الشخصيات أعمق رغباتها ومخاوفها وتحوّلاتها وآمالها.
وصف هوميروس سرير عوليس وبينولوبي في الأوديسة، بأنّه مصنوع من جذع شجرة زيتون مازالت جذورها في الأرض دلالة على الإخلاص والوفاء والطهارة، لكن لا يوجد سرير في العالم كسرير شهرزاد فعلى فراشه الوثير حوّلت شهريار الطاغية إلى إنسان وأنقذت نفسها وبنات جنسها من الموت. إنّ للأسرّة آفاقًا كثيرة، فمن المهد الذي يحتضن ولادتنا إلى السرير الذي نلفظ أنفاسنا فيه، تكون قد أتمت حياتنا أيامها. لم يكن بروكرست يقيم حاجزه في منطقة (أتيكا) للمصادفة، بل لأنّ الطريق إلى الأماكن المقدّسة في أثينا يمرّ بها، فهل نحن مع مفهوم الصراط الديني، حيث لا يعبره إلّا من خفّت موازينه! والآن لنعد إلى كافكا، ونتخيّل أنّ غريغور سامسا/ الحشرة استلقى على سرير بروكرست، سيصدم بروكرست عندما يجد أنّ السرير مناسب جدًا لكافكا!
باسم سليمان
كاتب من سورية

July 20, 2024
العطّار (قصة قصيرة) – باسم سليمان
ابتسم الطبيب في وجه أحمد الذي لم تسجل عوارض مرضه في المعاجم الطبية، وقال له: إنّ ما تطلبه، ليس مستحيلًا، فقط أريد منك أولًا، الصبر، ومن ثَمّ الإرادة. لقد تطوّر طبّ التجميل كثيرًا، إنّه يشبه آلة زمن تعيد إلى وجهك شبابه، إنّه يصلح ما أفسده الدهر.
نظر إلى الصورة التي مرّ على التقاطها بكاميرا كانون ست عشرة سنة، وهمهم بكلمات فهم منها الطبيب، أنّه يقصد أيضًا، كرشه المتدلّي فوق حزامه. ضحك الطبيب ومن بين قهقهاته لفظ كلمة: “أبراكادبرا”، هذا الكرش لن يهزم إلّا بالرياضة وريجيم قاس، وبعدها ستغيّر، أحزمتك وبنطلوناتك وقمصانك، ولربما زوجتك.
كانت علائم التوتر ظاهرة بقوة على سيماء وجه أحمد، ولم يستطع أن يخفيها على الرغم من تهوين طبيب التجميل لكلّ ما سيخضع له من عمليات، وحقن بوتكس، وفيلر، وزراعة شعر. هذه التفاصيل لم تكن تقلقه حقّا، فما يجعله مترددًا وعلى حافة الانهيار، ليس مبضع الطبيب، ولا إبره، بل زوجته التي غادرت بيت الزوجية إلى بيت أهلها بعد شجار لم يكن فيه قادرًا على إقناعها بصحّة ما يفعله، على الرغم من الأسباب الوجيهة التي قدّمها لها. لم تر زوجته في إقدامه على عمليات التجميل إلّا تصابيًا، سيقوده إلى الزواج بأخرى ومن ثم الفراق، لذلك حفاظًا على كرامتها، قالت له: أنتظر منك ورقة الطلاق.
إنّ ما خفّف عليه محنته، كان موقف ابنه وابنته الداعمين له، واللذين اعتبرا أن عمليات التجميل لا تختلف عن اختراعات هذا الزمن من إنترنت وموبايلات. وعندما ناقشا أمّهما ردّت على ابنتها بأنّها لا تعرف الرجال حقّا، وعلى ابنها بأنّه ذكر، وما الغرابة، بأن يقف في صفّ أبيه.
بعد أخذ وردّ حدثت الهدنة بين الزوجين، وبدأ أحمد رحلة التمرينات الرياضية والريجيم القاسي بناء على نصيحة طبيب التجميل، الذي لن يشحذ مشرطه إلّا بعد أن يضمر كرش مريضه ويفقد أكثر من 15 كيلو غرامًا من وزنه. وعند الوصول إلى هذه العتبة، سيصبح من الممكن البدء في عمليات تجميل الوجه بالشدّ، وحقن البوتكس، والفيلر، حتى يتطابق مع الصورة التي التقطت منذ ست عشرة سنة.
كانت السنوات تتبخّر مع العرق الذي ينضح من جسده مع كلّ تمرين، وكأنّ الزمن يطوى مع تغيّر حركة الإبزيم على سكّة الحزام الذي يحيط بكرشه. مرت ثلاثة أشهر عاد بها جسده ممشوقًا كأنّه ابن الثلاثين، حركته لا تشبه من هم في عمره. رجع إلى شغفه القديم في الركض خلف الكرة، وعلى عكس ما كان سينتهي إليه الخصام مع زوجته، أصبحت زوجته شبه مقتنعة بما أراده، فقد عاد كما كان في أحلامها، ولن يمانع أبدًا في أن تسلك الطريق الذي سلكه في عمليات التجميل.
بدأت أولى العمليات بزراعة الشعر في مقدمة رأسه، وكرّت بعدها عملية تجميل الأنف، ثم استئصال الأكياس الدهنية من تحت عينيه، وشدّ الوجنتين وبعد ثلاثة أشهر وعدّة أيام أخر، خرج من حجرة العودة في الزمن ابن ثلاثين سنة يشبه تلك الصورة التي حملها بين يديه في اللقاء الأول مع طبيب التجميل.
لم يذهب إلى بيت الزوجية بل إلى أحد محال شراء حقائب السفر التي ملأها بالملابس الجديدة. صعد سيارته الجديدة البيضاء بعد أن باع سيارته السوداء وتوجّه إلى بيت العائلة التي تسكنه أخته مع أمّه المصابة بمرض الزهايمر.
قرع الباب، فتحت أخته، وصرخت: لقد عاد مازن من السفر يا أمي. نادرًا ما كانت الأم تستجيب لأي نداء، فقد أخذ منها الزهايمر كلّ ذاكرتها، ولم يبق لها إلّا ذكرى اليوم الذي سافر فيه ابنها مازن خارج البلاد. اندفعت الأم من غرفتها تستند إلى عكازها. كان مازن واقفًا في منتصف الصالون فاتحًا ذراعيه اللذين احتضنا أمّه بعد الغياب. همست الأم: أخيرًا عدت من السفر. أجاب مازن: نعم يا أمي، ولن أسافر أبدًا بعد اليوم.
تحلّقوا حول الأم وابنها العائد من السفر، أو عيادة طبيب التجميل؛ كلّ من أخته وولديه وزوجته. كان أحمد الأخ التوأم لمازن؛ مازن الذي مات في حادث سير، وهو عائد من المطار منذ خمس عشرة سنة.
العطّار (قصة قصيرة)

July 16, 2024
المعري: “الكلب مَن لا يعرف للكلب سبعين اسمًا”
باسم سليمان 16 يوليه 2024 مقالي في ضفة ثالثة
يُحكى أنّ المعرّي دخل مسجدًا في بغداد، والمعروف أنّه قد أصيب بالعمى في صغره، فاصطدمت رجله بأحد النوّام في المسجد، فصاح النائم شاتمًا: “من هذا الكلب؟” فأجابه المعرّي فورًا: “الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسمًا!”. لا نستطيع أن نعتبر تلك الحادثة مجرد صدفة بحته، فقد كانت مدبّرة من أهل المعرفة في بغداد! لكن لنتجاوز قصة المؤامرة، ولنوجّه انتباهنا نحو إجابة المعرّي الحاسمة، فهو الوحيد الذي يعرف للكلب سبعين اسمًا، وبالتالي هو من يستحق أن يكون إنسانًا، أمّا من دونه في المعرفة، فعليهم صعود سلم أسماء الكلب السبعين؛ وهنا يقصد المعرّي درجات المعرفة، وإلّا فهم الكلاب؛ بهذه الإجابة أعلن لأهل بغداد من هو؛ هكذا حدّد المعري صفة الإنسانية بالمعرفة لا بشيء آخر، أليس هو القائل: “لا إمام إلّا العقل”. وعلى الرغم من ذلك لم يسلم حتى في كبره من الشتيمة ذاتها، فقد لقبه من يدّعون العلم في زمنه: بــ “كلب معرّة النعمان”. لم يتحرّج أفلاطون في وصف طبقة الجنود والقادة في مدينته الفاضلة بالكلاب، لأنّه ليس هناك أحسن منها للحراسة والكر على العدو؛ وهذا دور طبقة الجنود والقادة في المدينة الفاضلة، فهم ودودون كالكلاب نحو أهل مدينتهم وقساة شرسون نحو أعدائهم. ولقد شرح أفلاطون فكرته عن طريق أمثولة الكلب المنزلي الذي يعرف الأصدقاء من الأعداء، فالكلب في حياة الإنسان كثيرًا ما يكون المشبّه به، لما فيه من صفات ونعوت يحبذها الإنسان.
لقد كان الذئب من أوائل الحيوانات التي تم تدجينها من قبل الإنسان، هل قلنا الذئب؟ ينحدر الكلب من الذئب ذلك الحيوان المفترس! تبيّن حفريات تعود إلى خمسة عشر ألف سنة، قبل أن يكتشف الإنسان الزراعة، بأنّ الكلب كان جنبًا إلى جنب مع إنسان العصر الحجري القديم يدفنه مع موتاه. لقد تم استدراج الذئب الذي كان يدور حول الكهوف والخيم التي يسكنها الإنسان؛ حتى انسلخ عن قطيعه، وتحوّل إلى كلب يذود عن صاحبه هجمات بني جنسه. في رواية (رمز الذئب لعام 2007) للكاتب يانغ رونغ الصيني التي يسرد فيها حياة الرعي والصيد في سهوب منغوليا يصوّر كيف كان يتم سرقة جراء الذئاب من أوجارها ومن ثم تدجينها حتى تصبح حارسة منيعة في وجه بني جلدتها من الذئاب. لا ريب أنّ الإنسان القديم أقدم على أساليب مشابهة وهو يدجن الذئاب ويحوّلها إلى كلاب.
إنّ تدجين الذئاب يعدّ إحدى الخطوات المهمة في بدء سيطرة الإنسان على الطبيعة بعد اكتشافه النار، فلأول مرّة أصبح له عين لا تغفل خلال النوم، وتحرسه من الحيوانات الضارية، ومساعد لا يخيب مسعاه في الصيد، وصديق لا يخون؛ وليس أدلّ على ذلك من المثل العربي الجاهلي: “أجوع من كلبة حومل” وحومل امرأة عجوز كانت تربط كلبتها في الليل للحراسة وتطردها في النهار ولا تطعمها، فلما رأت الكلبة البدر ظنّته رغيف خبز، فنبحته! وعندما فتك بها الجوع، أكلت ذيلها ولم تخن صاحبتها! والأحرى، بناء على وفاء الكلبة لصاحبتها، أن يكون المثل: أوفى من كلبة حومل! ولقد جاء في القرآن الكريم ذكر كلب أهل الكهف، حيث ربض الكلب على باب الكهف يحرسهم، وهذا دليل على مدى ثقة الإنسان بالكلب كحارس ليلي عندما يأخذه موت النوم. إنّ استخلاص الكلب من جينات الذئب يعدّ من أولى الاستعارات الثقافية التي جردها الإنسان من عالم المحسوس إلى عالم الفكر، وحينما يميل الإنسان إلى التوحش يتحوّل إلى ذئب عندما يكتمل القمر بدرًا؛ البدر الذي حسبته كلبة حومل من جوعها رغيف خبز.
الكلاب حارسة عالم الموتى: تدور حياة الإنسان بين قوسي؛ الموت والحياة/ المفترس والطريدة والصراع بينهما. وقد أتتنا هذه الصورة من زمن الصيد الذي شكّل جسد وعقل الإنسان كما نعرفه حاليًا. ومن هذا المنطلق رسمت الأساطير السلتية إله الغابات محاطًا من جانبيه بذئب وأيل، فالوجود ليس إلّا مطاردة وصراعًا بين الذئب والأيل، بين الموت والحياة. وهذا ما نجده في القصيدة الجاهلية عند العرب في صراع كلاب الصيد والبقر الوحشية، وقد اختصر جوهر هذا الصراع الجاحظ بالقول: “ومن عادة الشعراء إذا كان الشعر مرثية أو موعظة، أن تكون الكلاب هي التي تقتل بقر الوحش، وإذا كان الشعر مديحًا، أن تكون الكلاب هي المقتولة”. وكأنّ الشاعر الجاهلي يرى الحتوف كالكلاب تطارد الإنسان الممثّل له بالبقر الوحشي. لعبت الكلاب في الأسطورة أدوارًا عديدة، فقد كان لزيوس كبير آلهة اليونان كلبًا يُسمى (الكلب الذهبي) ربض عند مهده عندما كان زيوس طفلًا صغيرًا، وقد كافأه زيوس بأن رفعه إلى نجم في السماء يُدعى كوكبة الكلب الأكبر. مُثّل إله الموت أنوبيس في الحضارة الفرعونية برأس ابن آوى؛ وهو نوع من الكلاب الإفريقية، التي كان لها أدوار عدّة؛ من مرشد الأرواح بعد الموت، وحارسة المقابر، إلى أنوبيس الذي كان يزن الأرواح بميزان إلهة العدالة (ماعت)، فيتقرّر مصيرها بين الجنّة والنار. وعادة ما كان يوصف الموت في بلاد الفراعنة بالكلب الذي ابتلع الملايين. أمّا في الأسطورة اليونانية فقد كان العالم السفلي، حيث يذهب الموتى محروسًا من الكلب (سيربيروس) برؤوسه الثلاثة، وقد عهد إليه حاكم العالم السفلي الإله هاديس أن يحرس أبواب العالم السفلي، وعندما هبط البطل هرقل إلى العالم السفلي ترجّاه الإله هاديس أن يعامل كلبه بلطف. إنّ محاولة تفسير هذه الأساطير تحيلنا مباشرة إلى دور الكلب في حراسة البيت الإنساني من الأشرار، فإذا كان هذا دوره في الحياة، فلماذا لا يكون دوره مشابهًا لذلك فيما بعد الموت.
كان للكلاب في الأساطير الرومانية رمزية خاصة، فالإلهة ديانا، المكافئة للإلهة اليونانية أرتميس، كانت غالبًا ما تُصور مع كلاب الصيد، ممّا يعكس ارتباطها بالبرية ودورها كحامية للطبيعة وعندما خرق أحد الصيادين حرمتها، حوّلته ديانا إلى أيل، وانقلبت كلاب صيده عليه وبدأت بملاحقته. بالإضافة إلى ذلك، كان إله الحرب الروماني مارس يرتبط أحيانًا بالكلاب، ممّا يرمز إلى الولاء والحماية في سياق المعركة. تتميّز الأساطير والفلكلور الصيني بظهور بارز للكلاب، فإحدى الأساطير الشهيرة هي قصة (بانهو)؛ الكلب التنين الذي ساعد الإمبراطور (دي كو) في هزيمة أعدائه. وكدليل على الامتنان، منح الإمبراطور بانهو يد ابنته للزواج، وأصبح بانهو سلفًا لعدّة مجموعات عرقية صينية. فهذه الأسطورة تؤكّد على أهمية الولاء والشجاعة والمكافأة على الخدمة المخلصة في المجتمع الصيني. بالإضافة إلى ذلك، يشمل التقويم الصيني برج الكلب كواحد من اثني عشر حيوانًا تمثل بقية الأبراج. يُعتقد أن الأشخاص المولودين في عام الكلب يمتلكون صفات مثل الولاء والأمانة، مما يعكس الصفات الإيجابية المرتبطة بالكلاب في الثقافة الصينية. فيما الديانة الزرادشتية، فقد عدّت الكلاب جنودًا مع إله الخير أهورا مزدا تخوض الحرب ضد إله الشر وأتباعه من قطط وصراصير وجرذان، لذلك كوفئت بأن تصبح حارسة الطريق الذي يقود إلى الجنّة. لقد تنوّعت دلالات الكلاب في الأساطير بين قناع الموت وقناع الحياة.
عندما تفلسف الكلب:
تحتل الكلاب مكانة متميّزة في حياة البشر، وتمتدّ أهميتها إلى فضاءات الفلسفة والتأمّل الفكري، فقد استلهم الفلاسفة عبر العصور الكلاب كرموز وأدوات لفهم طبيعة الإنسان ومفاهيم الأخلاق والولاء. إنّ معنى كلمة الفلسفة هو: حبّ الحكمة، لكن الجذر اللغوي القديم لكلمة الفلسفة: (phur) والتي تعني: (الفراء) ولكي تُفهم الفلسفة جيدًا يجب أن نتذكّر معناها الأساسي: (التفكير بالفراء). وهذا يعني أنّ الإنسان لأنّه ليس لديه فراء، كالكلاب على سبيل المثال، لا يستطيع أن يفعل كما يفكّر، فستقف العادات والأخلاق في وجهه! فادعاء الصدق الكامل بالتفكير والأفعال في الفلسفة سيصبح مدار شكّ وهذا ما كشفه الفيلسوف ديوجين. يتساءل سقراط: “أليس الشاب النبيل يشبه إلى حدّ كبير الكلب المهذب في الحراسة والمراقبة؟” ويضيف سقراط أيضًا، بأنّ الكلب يشبه إلى حدّ كبير الفيلسوف، لأنّه: “يميّز وجه الصديق والعدو بموجب معيار المعرفة وعدم المعرفة”. وبناءً على تفكير سقراط، يمكننا وضع قياس منطقي بمقدمات رئيسية وثانوية يوضح لنا فكرته: الفرضية الكبرى: كلّ شاب نبيل مثل الكلب المهذب. الفرضية الصغرى: كلّ كلب مهذب يشبه الفيلسوف. النتيجة: كلّ شاب نبيل كالفيلسوف. لقد أثبت أفلاطون على لسان سقراط باستخدام أمثولة الكلب، بأنّ الشاب النبيل من الممكن أن يكون فيلسوفًا. كان ديوجين من مواطني مدينة سينوب على البحر الأسود، لكنّه فرّ منها إلى أثينا بعدما حدثت فضيحة بشأن العملات المزوّرة، فقد كان أبوه مسؤولًا عن دار صكّ العملة فيها. قصد ديوجين معبد دلفي في أثينا وسأل عرافات المعبد عن مصيره، فجاءه الردّ، بأن يستمر في تزوير العملة، ففسر ديوجين بأنّ معنى كلمات العرّافات، بأنّه دعوة منها لقلب العادات والأعراف الأخلاقية في أثينا. التحق ديوجين بالمعلم (أنتيسثينيس) الذي كان أحد أتباع سقراط ويدعو إلى التقشّف في العيش. تبنّى ديوجين هذه المبادئ ونبذ حياة البيوت واختار جرّة فخارية لتخزين الحبوب في ساحات أثينا للعيش فيها، ومارس بلا حياء حياة الكلاب بالتبول وممارسة التصرفات الشائنة علنًا، وعندما عيب عليه ذلك قال: “يا ريت تلمس البطن يوقف الجوع”. هذه التصرفات دفعت أهل أثينا لشتمه وتلقيبه بالكلب وكان سعيدًا بذلك، فكان يقول: “أنا أتودّد إلى الأشخاص الذين يمنحوني شيئًا، وأنبح على أولئك الذين لا يفعلون ذلك، وأغرز أسناني في الأوغاد”. لكن تصرفات ديوجين ألا تعيدنا إلى المعنى العميق للفلسفة؛ التفكّر بالفراء، أي العيش بصدق كالحيوانات، بلا تقية؟ سُمي المذهب الفلسفي الذي ابتدعه ديوجين: (kynikos/ شبيه الكلب) أي الكلبي؛ والكلبي هو الذي يتهكّم من عادات وأعراف المجتمع مبينًا العور فيها. في قصة أخرى عن كلبية ديوجين بأنّ لقب الكلب قد ناله من شتم أفلاطون له، فقد كان ديوجين يسخر من تعاليمه، فوصفه أفلاطون بأنّه (شبيه الكلب). وعلى الرغم من أن أمثولة الكلب في كتاب الجمهورية كانت إيجابية، إلّا أنّ شتم أفلاطون لديوجين بالكلب لم تكن مجرد شتيمة عابرة، فهي تذكّرنا بالمثل الذي يقول: “مثل الكلب يعضّ يد صاحبه” وهذا يعني أنّ ديوجين بعد تعلّم الفلسفة من آراء سقراط عضّ اليد التي منحته المعرفة. سأل أحدهم ديوجين ما الذي تعلّمته من الفلسفة، قال بأنّه، إنّ لم يكن فيها أي شيء، فقد منحتني القدرة على أن أقبل أي حظوظ تسوقها الأقدار إليّ، بكل سعادة، فلا فرق أن أكون في البيت، أو أن أنفى، أو أسكن جرّة في السوق، أو حتى أن آكل أخطبوطًا نيئًا. أمّا على سيرة الأخطبوط فقد مات متسممًا بعد أن أكل أذرع أخطبوط حيّ في تحدّ مع أهل أثينا، ويقال أيضًا، بأنّ كلبًا مصابًا بالكلب عضّه، فمات، إلّا أنّ قصصه الساخرة والمتهكّمة من السلطات السياسية والدينية والاجتماعية في أثينا خالدة خلود سيرة الإسكندر المقدوني الذي لم يقف جيش في وجهه وفتح العالم القديم، لكن ديوجين بكل بساطة أمر الإسكندر في القصة المشهورة بأن يبتعد عن طريق شمسه، فما كان من الإسكندر إلّا أن تمنّى أن يكون ديوجين، لكن ديوجين تمنّى أن يبقى ديوجين كما هو!
لم تغب الكلاب عن الفلسفة في الأزمنة الحديثة، فلطالما استُخدمت الكلاب كمرآة تعكس القيم الأخلاقية للبشر. يعتبر الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط أنّ تعامل الإنسان مع الحيوانات، وبالأخص الكلاب، يُظهر مدى تطوره الأخلاقي. إذ يرى كانط أن القسوة تجاه الحيوانات تُعري انحدار الإنسان في التعامل مع بني جنسه. بالتالي، فإنّ الرفق بالكلاب يعزّز من قيمة الرحمة والشفقة في المجتمع البشري. أمّا الفيلسوف آرثر شوبنهاور، فقد رأى في الكلاب تجسيدًا للإرادة والعاطفة النقية. فالعلاقة الصادقة بين الإنسان والكلب تبرز نوعًا من البراءة والصدق الذي تفتقر إليه في كثير من الأحيان العلاقات البشرية. من هنا، يدعو شوبنهاور البشر إلى التعلّم من إخلاص الكلاب وإيثارها، لتعزيز قيم التضحية والمحبة في حياتهم. ساهمت الكلاب في فهم طبيعة العلاقات الإنسانية ومفهوم: (الآخر). يستذكر الفيلسوف إيمانويل ليفيناس تجربته مع كلب ضال خلال فترة وجوده في أحد معسكرات النازية، حيث أكّد له هذا الكلب إحساسه بالإنسانية والكرامة. يعتقد ليفيناس أنّ قدرة الكلاب على تكوين علاقات حقيقية مع البشر تجسد العلاقة الأخلاقية التي يجب أن نطمح إليها مع الآخرين. هذا التفاعل مع الآخر، كما تمثّله الكلاب، يعزّز من مشاعر التعاطف والاحترام والفهم المشترك لوجودنا. إنّ حضورالكلاب في النقاشات الفلسفية يدل على أهميتها ليس فقط كرفقاء للبشر، بل ككائنات تتحدّانا للتأمّل في طبيعتنا ومكانتنا في العالم. من خلال التفكّر في فضائل وسلوكيات الكلاب، يمكننا السعي لتحقيق وجود أخلاقي أكثر تعاطفًا وأصالة.
أنت كالكلب في حفاظك للود:
هذا العنوان الفرعي يعود إلى الشاعر علي بن الجهم عندما دخل على الخليفة المتوكّل مادحًا ولم يكن وقتها قد تبغدد! وهو الآتي من ثقافة البادية، حيث كان الكلب دليلًا على الوفاء. لم يخرج ابن الجهم في مدحه للمتوكّل عن تقليد قديم يضع الكلاب في قمة الوفاء لأصحابها، فهوميروس في الأوديسة، لم يكن بين يديه من وسيلة لتبيان أن رحلة عوليس الطويلة عن دياره جعلت الجميع ينسونه، إلّا كلبه (أراغوس)، فبعد عشرين سنة من الغياب دخل عوليس بيته كشحاذ، فلم يعرفه خادمه، ولا ابنه، ولا زوجته، ولا أحد ممن كانوا يواظبون على الحضور إلى بيته كضيوف وأصدقاء، ماعدا كلبه العجوز أراغوس الذي كان مهملًا كذكرى صاحبه، ينام على الروث. وعندما اشتم الكلب رائحة صاحبه بصبص له، فبادره عوليس بدمعة انحدرت من عينه.
لقد كانت الكلاب رفيقة مخلصة للإنسان منذ آلاف السنين، ليس فقط في الحياة ولكن أيضًا في صفحات الأدب، فغالبًا ما تكون الكلاب أكثر من مجرد حيوانات أليفة، بل أبطالًا أو مرشدين أو حتى رموزًا للصراع الداخلي للشخصية. ففي رواية (نداء البرية) التي صدرت عام 1903 والتي تعدّ من أهم روايات (جاك لندن) وتروي قصة كلب اسمه (باك) يُخطف من منزل صاحبه، فيغادر حياة الرفاهية والغنى إلى منطقة نائية، يصبح فيها كلبًا يسحب الزلاجات على الجليد. وهناك يكتشف الكلب غرائزه الطبيعية التي غيبتها حياته في المدينة كلما داهمه الخطر. يختار باك في نهاية الرواية أن يعود إلى الطبيعة تاركًا حياة البشر نهائيًا. إنّ رحلة الكلب/ الإنسان باك ليست جسدية فحسب، بل عاطفية وروحية أيضًا، حيث يكتشف هويته الحقيقية بعيدًا عن الحضارة الإنسانية. توصف رواية (فنّ السباق تحت المطر) للروائي جارث شتاين بأنّها من الروايات التي أعطت الكلاب بطولة مطلقة، بل وحكمة تذكرنا بالحكماء الصينيين، حيث تُسرد الرواية على لسان الكلب (إنزو) وتدور حوله وحول مالكه سائق سيارات السباق.
تكثر في الآداب استخدام ثيمة الكلاب إيجابًا أو سلبًا، فالكلب بمثابة مرآة لطبائع الإنسان الجيدة والشريرة، ففي رواية تشارلز ديكنز يكون الكلب الشرس ممثلًا لطبائع شخصية صاحبه. هناك الكثير من القصص والحكايات والروايات عن الكلاب في أدبنا الحديث، ليست مجرد رمز كما في رواية (اللص والكلاب) لنجيب محفوظ، وإنّما هي كلاب من لحم ودم. إنّ سيرة الكلاب من أراغوس، إلى كلب عالم السلوكيات بافلوف، إلى الكلبة الروسية (لايكا) التي كانت أول كائن حي يرسل إلى الفضاء، إلى (ميلو) كلب المحقق (تان تان) بطل مجلات الرسوم المصوّرة، إلى كلاب الاحتلال الإسرائيلي المتوحشة القاتلة، إلى الكلاب التي تقود العميان، نستطيع أن نقول أنّ الكلاب تخلّت عن الكثير من جينات الذئاب واكتسبت الكثير من جينات الإنسان، فالذئب هو من لا يعرف للكلب سبعين اسمًا.
باسم سليمان
كاتب من سورية
خاص ضفة ثالثة

July 11, 2024
قصتي: اليد اليسرى في مجلة أفكار الأردنية العدد ٤٢٥ حزيران ٢٠٢٤
اليد اليُسرى
مازال يتذكّر أول بيضة سرقها، وآخر رزمة من فئة الألف كان قد اختلسها، قبل أن يُلقى القبض عليه. لقد مرّ زمن طويل على الحادثتين، ومع ذلك ظلّت ذكريات سرقاته تتدفّق كحديث تلك النسوة في صباحهن، بينما كان يستمع إليهن من سقيفة أحد البيوت التي حاول أن يسطو عليه، حيث دفعه استيقاظ رجل البيت مبكّرًا إلى الاختباء فيها. كان يشعر بأنّ ثرثرتهن كضرب المطارق على رأسه الفارغ من كل شيء، إلّا من فكرة الهروب التي ستسنح له، ما إن تغادر النسوة، مخلّفات وراءهن ربّة المنزل وحيدة مع طفلها الصغير. حسم أمره، لا بدّ من الهروب، فأي تأخير سيرتب عواقب كثيرة، لكنّ المرأة خرجت من البيت بعد ذهاب النسوة! فيما كان يبتعد عن مسرح جريمته، استرجع دعوات أمّه، بأن يرافقه التوفيق في كلّ أعماله! لقد فكّر بالتوبة كثيرًا، التي ستأتي يومًا كنوع من التقاعد الوظيفي، لأنّ مهنته خطرة جدًا، فالتقاعد المبكّر مسموح به؛ وخاصة، إذا ابتسم الحظّ له بسرقة معتبرة، عندها سيقدّم استقالته فورًا، ولا بدّ أن تكون توبته نهائية، وإلّا لن يكون جديرًا بدعوات أمّه، وينتهي جاحدًا لها.
قطع استرسال أفكاره، نداء أحد المساجين في المهجع، الذي يحوي عشرين سجينًا، تكاد تكون السرقة القاسم المشترك بينهم، ليخبره بأنّ إبريق الشاي قد جهز. رفع جسمه المتثاقل عن السرير المعدني، وخطا عدّة خطوات نحوه، ونطق بهدوء: شكرًا يا أبو حميد. جلس قربه وبدأ ارتشاف الشاي. أبو حميد هو من حماه ودافع عنه لحظة دخوله المهجع، قائلًا بصوت عالٍ: الذي يمسّه، يمسّني.
كان أبو حميد السجين الوحيد المحكوم عليه بارتكاب جريمة قتل، لذلك هابه الجميع، وكثيرًا ما افتعل لحظات غضبٍ أطاحتْ بأجساد سجناء صغار الحجم في الهواء، فكانت هذه المسرحيات الرادع النهائي لكلّ من يفكّر أن يتحرّش به، أو أن ينصّب نفسه معلّمًا عليه ، وفي الوقت نفسه لم يطلب الزعامة، هكذا كفى أبو حميد رفاقه بالمهجع شرّه، وهم بادلوه بالمثل.
سأله: لماذا دافعت عني؟
نظر أبو حميد إلى يد مظهر اليسرى المقطوعة من الكوع قائلاً: بسبب هذه اليد المقطوعة! أنتَ؛ أخذتَ جزاءك، وسجنك هنا، ظلم بحقّك.
أحنى مظهر رأسه، حرّك يده اليمنى، ومن ثمّ نقل نظره إلى الفراغ الذي كان من المفترض أن تملأه يده اليسرى، التي مازال يحسّ بعظامها المهشّمة وآلامها المبرّحة، ويرغب أحيانًا بحكّ باطن كفّها، لكن الأقسى هو عندما كان يداهمه شعور بأنّ أصابع يده اليسرى تحترق، فيهرع إلى دلو ماء من أوهام الخيال، يبرّدها فيه. هذه الأحاسيس والمشاعر كان الطبيب قد أخبره بأنّها سترافقه زمنًا، إذ ستمضي فترة لا بأس بها، سيحسّ فيها، بأنّ يده مازالت موجودة.
لم يكن مظهر أعسر، فهو لا يكتب بيده اليسرى، أو يأكل بها. لقد كانت مجرد يد مساعدة لليمنى التي يفعل بها كلّ شيء. اليسرى لاحقة، تابعة، مع ذلك أبعدها عن أعمال اليمنى، فكان لليد اليمنى النشل والخفّة في التقاط النقود من الجيوب والأدراج المفتوحة، والقدرة على التعامل مع الأقفال، وكأنّ لها عينًا ترى بها داخل القفل. في حين جعل اليسرى خاصة باللحظات الجميلة، كـأن يعطي نقودًا إلى أمّه، كان قد كسبها من عمله كحمّال. بشكل أو بآخر كان يجري فصلًا بين ما يكسبه بالحلال، وما يكسبه بالحرام.
القسمة التي شرّعها مظهر بين ما يكسبه من الحلال والحرام، كانت أقرب إلى تبييض الأموال، فهو يعتقد بأنّ إنفاقه على أمّه سيكسبه حسنات دعواتها، كذلك ما يعطيه إلى الشحاذين والأصدقاء، سيفعل نفس تأثير الدعوات. وكثيرًا ما رفض استرجاع ما أعطاه، وخاصة عندما تكون يده اليمنى قد أكسبته مبلغًا محترمًا.
في ظلام المهجع، يحدّق في الفراغ، يرفع البقية الباقية من يسراه، فتبدأ الأصابع بالتشكّل؛ إبهامه الذي بصم به على أوراق للحصول على البطاقة الشخصية، بنصره الذي يضع به خاتمًا فضيًّا بفصّ أزرق، الشعيرات الموجودة على ظهر كفّه، والجرح القديم نتيجة سقوطه من أعلى الحائط وهو يتدرّب على التوازن بالمشي عليه. يحرك أصابع يده اليسرى، فيستشعر ملمس النقود من فئات صغيرة كان يعطيها لأطفال حارته، بالإضافة إلى ملمس يد حبيبته.
يحدّق أكثر في ظلمة المهجع، ليرى نفسه كالفأرالذي أمسكتْ به المصيدة. الخزنة الضخمة، قد أغلقتْ بابها بسرعة خارقة، دافعة جسده إلى الخارج من غير أن تسمح له بسحب يده اليسرى.
لم يتصوّر إمكانية حدوث ذلك يومًا، ولم يره في أيّ من الأفلام التي تبتدع طرق جديدة للسرقة، والتي كان يستلهم منها الكثير؛ فأن تطبق الخزنة على يد السارق تعويضًا عن سهولة فتحها، فذلك لم يكن في حسبانه، لحظتها خرجتْ منه صرخة قاسية ارتجّ لها القصر الكبير. قُطعت يده، ويعرف الآن، بأنّ السبب كان ذلك الدرج الصغير في الخزنة الذي ما إن فتحه، حتى أطبق باب الخزنة عليه، وقطعت يده اليسرى، لا، ليس الدرج، بل الطمع! ينفض خيال يده اليسرى من أمام وجهه، محاولاً أن ينام.
****
يتمشّى مع أبي حميد في ساحة السجن؛ يدخّنان سوية. يقول مظهر لأبي حميد: مازالتْ موجودة، أحسّ بها، هذه اليد لا تريد أن تختفي.
يجيبه أبو حميد طالبًا منه الصبر، وأن يحمد ربّه، فلو كانت اليمنى هي المقطوعة، لصعبت الحياة عليه كثيرًا. يرمي عقب سيجارته، ويسحقه تحت قدمه.
– أتعرف!
– ماذا أعرف؟
يُكمل أبو حميد: لم أكن أقصد أن أقتله لكن ذلك حدث بسرعة ، كأنّ شخصًا آخر فعلها، وإلى الآن، في الليل أجده يحدّق بي، بذات النظرة، فيما كنت أدفعه ليسقط من أعلى البناء الذي كنّا نعمل على تجهيزه. شبحه يلاحقني، حتى إنّني أخاف في الليل.
يصمت مظهر قليلًا، تتردّد كلمة الشّبح في رأسه، فيتذكّر كلام الطبيب له، بأنّ إحساسه بيده المقطوعة يُسمى: مرض الشّبح.
أبو حميد: الشّبح روح هائمة، لن تستقر حتّى تنتقم، وتثأر من الذي قتل جسدها.
نزلتْ كلمات أبي حميد على سمع مظهر كالصاعقة. كان يحدّق في فراغ يده اليسرى المقطوعة من الكوع، وكأنّه وجد الجواب، لماذا لم يكن الجزاء بحقّ يده اليمنى السارقة!

July 8, 2024
فوريوسا واحة في صحراء الذكورة – جريدة الصباح العراقية – الاثنين 8/7/2024
يعد فيلم (Furiosa: A Mad Max Saga/فوريوسا لعام 2024 إخراج جورج ميلر) الذي حقّق إيرادات مهمّة وتصدّر شباك التذاكر، منبثقًا عن فيلمه (طريق الغضب/ Mad Max: Fury Road لعام 2015) الذي نال العديد من جوائز الأوسكار، حيث كانت فيه الثائرة فوريوسا (تشارليز ثيرون) تقود صهريجًا مليئًا بالنفط والمحظيات اللواتي هربن من عصابات الطاغية أمورتان جو (لاتشي هولم) في صحراء حمراء اللون لا يبدو لها نهاية، عبر مشاهد سريالية وسيمفونية من الحركة والسرعة والقتل والانفجارات والمخاطرات البهلوانية والموسيقى. لقد ترك فيلم طريق الغضب أسئلة غير مجابٍ عليها من مثل: كيف أصبحت فوريوسا بتلك الثورية! وكيف أقنعت المحظيات بتلك الخطوة الجريئة؟ وهنّ يعلمن أن لاشيء يوجد خارج قلعة أمورتان إلّا الصحراء القاتلة! لقد جاء الفيلم الجديد لميلر ليملأ الفراغات التي لم يستوعبها فيلمه السابق، وخاصة السؤال المتعلّق بفوريوسا التي انتفضت على أمورتان، فمن أين جاءت، وظهرت كإحدى الأمازونيات في الأسطورة الإغريقية، قادرة على تحطيم أسطول أمورتان من السيارات المسلحة والدراجات المجنونة؟ والمحاربين المصبوغين باللون الأبيض الذين يتوقون إلى الموت كي يبْعثوا في فالهالا (جنة الأبطال في الأساطير الإسكندنافية).
تدور أحداث سلسلة أفلام (Mad Max) بعد كارثة أبادت البشرية وحوّلت الأرض إلى صحراء قاحلة، أمّا ما تبقى من البشر فهم أقرب للموتى، لذلك كان أمورتان يبحث عن نساء صحيحات جينيًا، حتى ينجب منهنّ أطفالًا أصحّاء، يحقّقون له حلمه في السيطرة على الأرض.
انطلقت أفلام ماد ماكس عام 1979 وعبرت منعطفات عدّة، كان للذكر فيها دور المواجهة مع الطاغية أمورتان، لكن مع الجزء الرابع وظهور فوريوسا إلى الفيلم الحالي، الذي يسرد نشأة تلك المحاربة العظيمة التي كانت جوهر فيلم طريق الغضب، فهذا يعني بأنّ السلسلة أخذت منحى يسلّط الضوء على دور الأنثى. إذن يعتبر الفيلم شريحة من ماضي فوريوسا، ويكشف لنا بأنّ الواحة الغنّاء التي كانت تقود المحظيات إليها في طريق الغضب، ليست وهمًا أبدًا.
يبدأ الفيلم بمشهد لغابة مليئة بالأشجار المثمرة، حيث كانت الطفلة فوريوسا تراقب مجموعة من الرجال المسلّحين الذين اهتدوا إلى واحتها الخضراء، لكي تعطيل دراجاتهم، لكي لا يعودوا من حيث جاؤوا، ويحضروا معهم آخرين إلى تلك الواحة التي بدأت تتعافى بعد الكارثة. يُقبض على الطفلة فوريوسا من قبل أتباع ديمنتوس(كريس هيمسورث) الذي يقود عربة تجرها ثلاث دراجات بواسطة اللجام، كأنّه أحد القادة الرومان. تطارد والدة فوريوسا الخاطفين وتقتلهم، لكن يُقبض عليها هي وابنتها في النهاية من قبل أتباع ديمنتوس، لتنتهي مصلوبة على شجرة، بينما كان ديمنتوس يخطب بدراجيه المسلحين ممسكًا بالطفلة الصغيرة، لكن سرّ الطريق إلى الجنة دفن مع أم فوريوسا. تشي المشاهد الأولى أنّ هناك أرضًا قد نجت من الدمار تحكمها النساء، نستدل منها على إدانة لتاريخ الذكور الذي أودى بالبشرية إلى كارثة. يبقي ديمنتوس على حياة الطفلة آملًا أن تخبره يومًا من أين أتت؟ تحافظ فوريوسا على سرّها وتحتفظ ببذرة فاكهة في جديلتها. يطمع ديمنتوس بقلعة أمورتان وعندما يفشل يحتل مصفاة نفطه، لتبدأ المفاوضات حيث يحتفظ أمورتان بفوريوسا لتكون محظية له في المستقبل. تهرب فوريوسا وتتنكر بزي صبي لتصبح مساعدة سائق صهريج (توم بورك) ينقل الطعام من القلعة ليبادلها بالنفط من المصفاة التي احتلها ديمنتوس. تكبر فوريوسا لتبدأ طريق غضبها الخاص لتنتقم من ديمنتوس الذي صلب أمها.
يضعنا ميلر في مقارنة بين فوريوسا (أنيا تايلور جوي) وديمنتوس الذي قُتلت عائلته بوحشية في طفولته، فكلاهما تعرّض لعنف مدمر، فما الذي قادهما إلى طريقين مختلفين؟ على ما يبدو أنّ ميلر يوجّه نقده إلى تاريخ الذكور. ينتهي الفيلم بمعركة هائلة بين فوريوسا وديمنتوس تخسر فيها ساعدها الأيسر، حيث نُقشت خارطة النجوم التي ستستدل بها إلى موطنها حيث الخضرة، لكن الأمل مازال موجودًا لديها. تقبض فورويسا على ديمنتوس وتقوده إلى المكان الذي يسجن فيه أمورتان محظياته، حيث تزرع البذرة التي احتفظت بها في المنطقة التناسلية لديمنتوس وما يحمله ذلك من دلالات. تمرّ السنين وتنمو شجرة جذرها في حوض ديمنتوس، وعندما تثمر تتأكّد المحظيات من كلام فوريوسا عن تلك الجنة الأرضية، فيهربن معها؛ الآن اتضحت النقاط المخفية في فيلم طريق الغضب.
لاريب أنّ فيلم فوريوسا، هو مرافعة مدوّية ضد تاريخ الذكور، فعلى الرغم من عنف ديمنتوس إلّا أنّه كان يمتلك بلاغة في الكلام وحكمة وحسّ تهكّم كبير جعله بالنسبة لتابعيه أقرب إلى النبي الذي سيقودهم إلى النجاة، لكن مع كل ذلك كان لا يختلف عن أمورتان، فكلاهما مهووسان بالسلطة والعنف، فما نفع البلاغة والحكمة وحسّ السخرية التي يتمتع بها الرجال ماداموا غير قادرين على نبذ العنف والقتل من أجل السلطة! على الرغم من أنّ فيلم فوريوسا فيلم حركة وعنف قبل المضمون الجاد إلّا أنّ ميلر استطاع أن يجعله فيلمًا للتأمّل والاعتبار.
باسم سليمان
خاص الصباح

July 7, 2024
المال؛ هل هو سوسة الإبداع أم فراشته؟ مقالي في ضفة ثالثة
فة ثالثةإذا كان المال يلوّث كلّ شيء – كما يقولون- فلماذا نستهجن قذارته الجميلة في الفنون الإبداعية إلى هذه الدرجة؟ ولا نسترشد بمقولة الصعلوك الثائر الجميل عروة بن الورد: “والغنى ربّ غفور”! لعلنا نمسك العصا من منتصفها بين إبداع جميل وحياة كريمة. لقد قيل قديمًا بأنّ مهنة الوراقة مجلبة للفقر، فليس غريبًا أن يموت إدغار آلان بو في أحد الشوارع الباريسية مخمورًا متجمّدًا مدقع الفقر بعد أن قرّر أن يعيش من قلمه. كذلك كان حال فان جوخ الذي تباع لوحاته الآن بالمليارات في حين مات فقيرًا. لكنّ السؤال، لماذا عيب على الإبداع أن يرتبط بالمال! فمن أين تسلّلت تلك الحكمة التي تشبه السّم بالدسم؟ يقال أنّ الإبداع لا بدّ أن ينشأ من المعاناة والفقر والتشرّد حتى يكتسب (مصداقية) -نضعها بين قوسين- لأنّها كلمة صدق أريد بها باطل، أو لأنّ الكلمة لها قدسية ما، لحقتها من الوحي والأسطورة والدين، فلا يجب تلويثها بالمال؛ لكن هناك الكثير من الإبداع السيئ الذي جاء إثر المعاناة، وأيضًا الكثير من الإبداع الجيد تولّد عن توفّر المال! تشترك الكلمة والمال بأرومة واحدة منذ القديم، ومع ذلك هما ضدان، قد يظهر تضادهما الحسن أحيانًا، والبؤس أحيانًا أخرى، لكنّهما متعالقان بطريقة لا فكاك منها! ومن الفضيلة إمساك العصا من المنتصف، فلا إفراط ولا تفريط. إنّ صورة الكاتب الذي يبدع دون اعتبار للمال، هي صورة رومنسية ورثناها منذ زمن بعيد، ومازلنا نعاني من تبعاتها إلى الآن!
يقول المسرحي الفرنسي موليير (1622-1673ب.م): “الكتابة مثل الدعارة؛ في البداية تكتب من أجل حبّ الكتابة، ثم تفعل ذلك من أجل الأصدقاء، وأخيرًا تكتب من أجل المال”. لم يأت تشبيه موليير الكتابة من أجل المال بالدعارة اعتباطيًا، بل استخرجه من رحم العلاقة بين الكاتب وكلماته، فالكاتب هو مجموع كلماته؛ والعاهرة هي جسدها، وعندما يبيع الكاتب كلماته؛ فهو يسلّع جسده كالعاهرة. لا ريب أنّ موليير كان قاسيًا، لكن لنفهم قليلًا عن مقاصده، لا بدّ أن نذكر أن مؤلف مسرحية (طرطوف) التي تناول فيها النفاق الديني وأثارت غضب الكنيسة حتى أنّها طالبت بحرقه، إلّا أنّ ملك فرنسا استطاع حمايته؛ كان موليير يعتبر الكلمة مسؤولية أخلاقية، أو وفق الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي ارتباط القول بالفعل.
قبل أن ندخل في تحليل العلاقة بين الإبداع والمال، لا بدّ من التعريج قليلًا على التاريخ المقدّس للكلمة، أكانت منطوقة أم مكتوبة. لقد اُمتحن مردوخ الإله البابلي من قبل الآلهة حتى يكون جديرًا بأن يكون سيد مجمع الآلهة، بأن طرحوا ثوبًا أمامه وطلبوا منه إعدامه من الوجود بكلمة، ومن ثم إعادته إلى الوجود بكلمة وكان لهم ذلك. إنّ الحاجة لهذه القصة الأسطورية تكمن بأنّها تمنح كلمات الصلاة أو التعزيم السحري، وما شابه ذلك؛ قوة التأثير ذاتها الذي يملكها الفعل المادي، فالمؤمن إن لم يثق بأنّ كلمات صلواته ودعاءه سيكون لها تأثير إيجابي على صنمه لن ينطق بها، كذلك الشامان إن لم يكن لديه اعتقاد بأنّ كلماته لها تأثير على الطبيعة والبشر، لن يتفوّه بها. وإذا ذهبنا إلى الديانات التوحيدية نجد قدسية الكلمة حاضرة، فإنجيل يوحنا نجده يقول: “فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ. وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهُ. هَذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ. بِهِ تَكَوَّنَ كُلُّ شَيْءٍ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَتَكَوَّنْ أَيُّ شَيْءٍ مِمَّا تَكَوَّنَ”. وفي القرآن نجد فعالية الكلمة الإلهية: “إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ”. إذن للكلمة بعد قدسي ديني وسحري، أخذ تجليات عديدة، اجتماعية وسياسية واقتصادية. وفي الآداب نجد الأسطورة اليونانية تحيل إبداعات الشعراء إلى ربّات الإلهام، وهذا ما حدا بأفلاطون، على الرغم من كرهه للشعراء، أن يعترف بأنّ بعض أشعارهم ناتجة عن الوحي الإلهي. وبذات المنحى نجد عند العرب قناعتهم بأنّ الشعراء ينطقون ما توحي به لهم جان عبقر. هذا التعالق بين الكلمة والمقدس الديني يرفض أن يكون للكلمة ارتباط بالمال، فنجد النصوص الدينية التوحيدية تحذّر الذين يتأكّلون من كلمات الدين بأنّ لهم عذاب شديد. ومادامت الكلمة لها جذرها القدسي الديني الأخلاقي، فلا يمكن إغفاله حتى بالآداب والفنون ومن هنا ولدت كراهة أن تباع الكلمة، فالشاعر ما هو إلّا وسيط يتم على لسانه إخراج كلمات الوحي من ربّات الإلهام، فلقد تحسّر الشاعر اليوناني بندار (522-443 ق.م) على تلك الأزمنة التي لم تكن ربات الإلهام تعمل كمرتزقة: “لم تكن ربّات الإلهام مرتزقة في تلك الأيام، ولم يكن يعملن مقابل أجر، ولم تكن الأغاني للبيع”. ما يتحدِّث عنه بندار، هو غياب الصدق، وابتعاد الشاعر عن الغاية الجمالية وراء المال والنقود، فالشاعر أو الفنان أصبح كالتاجر يبيع إبداعه كأي سلعة في السوق.
لقد عيب جدًا السعي وراء المال من خلال الإبداع، ويعتبر الشاعر اليوناني العظيم سيمونيدس الذي كان على زمن بندار؛ أول من اتهم ببيع كلماته، حتى وصفه المسرحي اليوناني أريستوفان بأنّه: “يبحر من أجل المال على منخل” وكثيرًا ما يشار إليه بأنّه من شرّع اغتراب الكاتب عن كلماته، فالكاتب لم يعد ما يكتب، مادامت كلماته أصبحت سلعة لا تفترق عن غيرها من السلع التي تباع بالسوق.
لقد ابتدأ سيمونيدس تلك العلاقة المشبوهة بين الإبداع والمال، لكن لنتروى قليلًا قبل أن ننجرف باتهامنا له بذلك؛ ولنعد إلى أوديسة هوميروس، ففي المشهد الذي يقرّرعوليس الذي انتصر على طروادة بخدعة الحصان، الاستماع إلى السيرينيات (حوريات البحر) اللواتي يجتذبن البحارة بغنائهن الشجي إلى الصخور الحادة على شاطئهن، ممّا يتسبّب بغرق السفن ومقتل البحارة. لقد طلب عوليس من بحارته أن يربطوه بإحكام إلى صارية سفينته ويسكبوا الشمع في أذانهم حتى لا يسمعوا غناء السرينيات السحري، فلا ينجذبوا إليهن. لقد استمع عوليس للغناء السحري للحوريات ولم يستطع أن يفكّ وثاقه ويقفز إليهن، يا للعجب، فالسرينيات كائنات إلهية لا ترد كلماتها، لكن عوليس فعل ذلك مشرعًا الباب إلى التفكير بأنّ الكلمة ليست الـــ (كن) الإلهية الآمرة الناهية، بل لا تختلف عن أي نتاج بشري أرضي آخر.
والآن نعود إلى سيمونيدس الشاعر المارق الذي اختط دربًا إلى الآن نعاني من أحكامه القاسية بالسؤال: كيف للكاتب أو الفنان أن يأخذ مقابلًا نقديًا بدلًا عن إبداعه! لقد كان في اليونان نظام للرعاية الفنية نجد أمثاله حاليًا بما يُسمى التفرّغ الأدبي والمنح والجوائز التي تمنح للكاتب مقابل إبداعه وعادة ما نتهم نظام الرعاية الفنية بالمحسوبية والوساطات والرقابة وأنّ الكاتب يبدع على قياس الجائزة التي لها أهداف كثيرة ليس أولها الإبداع الحرّ. إنّ نتاجات اليونان القديمة المعمارية والفنية والمسرحية والشعرية لم تكن لتوجد بنسبة كبيرة منها، لولا الداعمين، أسواء كانوا من كبار الكهنة أو رجال السلطة أو المال، وقد ناقش المبدعون اليونانيون، كما نفعل حاليًا، مساوئ هذا النظام وتحكّم رعاة الفن بإرادة المبدع. ألم يكتب التوحيدي كتابه (مثالب الوزيرين) الصاحب بن عبّاد وابن العميد تشهيرًا بهما عندما لم يتلق رعايتهما المالية كما توقّع منهما.
عندما أخذ سيمونيدس خطوته المتقدمة، وأعلن أنّه يريد بدلًا نقديًا عن نتاجه الإبداعي، وهو لم يكن ينطلق من فراغ، فالتزلّف الذي كان يمارسه المبدعون أمام الكهان والقادة وأصحاب المال حتى ينالوا حظوة عندهم، أصبح يهدّد المبدع ذاته بتحويله إلى عبد. أمام هذا الواقع جأر بندار بمقولته التاريخية: “اعتاد الرجال أن يكتبوا من أجل الحبّ وحده، والآن يكتبون من أجل المال” لا ريب أنّ مقولة بندار ستخدع من يقرأها ويدين سيمونديس! لكن بندار كان من أوائل المترزّقين على طاولة الرعاية منتظرًا الهدايا العينية والنقدية. لقد كان بندار يستند إلى منظومة اقتصادية قديمة قائمة على تبادل الهدايا بين الأصدقاء (الداعمين والمبدعين) وكان يرفض مبدأ سيمونيدس، لأنّه يحوّل عمل طقسي يربط الكلمة بالمقدس إلى صيرورة طبيعية نجدها في السوق، فما الذي سيصنع الحدّ بين قصيدة وكيلو من اللحمة! ولربما أجابه سيمونيدس بأنّ كلمته سلعة في السوق لكنّها صادرة عن ذات حرّة، فيما كلمتك يا بندار عبارة عن عبدٍ يباع ويشترى!
يذهب الانثروبولوجي مارسيل موس إلى أنّ النظام الاقتصادي القائم على الهدايا والرعاية، ليس بهذه الصفاوة، فهو يحمل في داخله صراعًا مريرًا على القيمة الاقتصادية والسلطة، فعندما يقدّم أحدهم هدية لشخص آخر يصبح الشخص الآخر ملزمًا بردها بشكل أفضل وأكبر؛ وكأنّه مدين يسدّد للدائن/ الراعي الدينَ مع مبلغ الفائدة؛ وهو إن لم يفعل سيسفح ماء وجهه إلى الأبد، بل حتى من الممكن أن يفقد رتبته كرجل حرّ ويعامل كعبد. إنّ الراعي وهو يهدي المبدع بدلًا عينيًا أو نقديًا مقابل إبداعه، يشتري خلوده من خلال عمل المبدع، قبل أن يتحصّل على القيمة الجمالية للعمل الإبداعي إلى جانب أنّه يحكم على المبدع أن ينصاع لرؤاه.
إنّ اقتصاد الهدايا، كما يرى جورج بطاي هو تسمية خاطئة، فالأرباح وإن لم تأخذ شكلًا نقديًا، إلّا أنّها في النهاية تغل ربحًا أكثر، ويتابع بأنّ العطاء المهيب من صاحب سلطة أو مال لشخص آخر؛ ولنأخذ المبدع هنا، يفترض منه بأن يرد بمدح لا مثيل له للمعطي الداعم، بالتأكيد لن يكون حقيقيًا.
كان سيمونيدس واعيًا في ذلك الزمن لسطوة النظام الاقتصاد النقدي، الذي بدأ بالتشكّل بدلًا من نظام الاقتصاد التبادلي، حتى أنّ المفكِّر الفرنسي (جاك بيير فرنان) أورد أحد التفاسير لعلاقة التنزيه بحق الآلهة الذي بدأ مع اليونانيين، فيما يناسب الإله من صفات، وفيما لا يناسبه، وصولًا لتخليصه من (الأين والحيث) يعود إلى النقد، بناءً على سؤال، كيف استطاعت قطعة ذهبية أن تعادل ثورًا في السوق؟ ومن هذه النقطة بدأ الفكر التجريدي والتنزيهي للآلهة! يتنبّه أحد المعلقين على سيمونيدس ويدعى (ديونيسيوس من هاليكارناسوس) بأنّ على القارئ أن يكون واعيًا بكيفة استخدام سميونيدس للكلمات، فكلمة (smikrologia) والتي تعني باليونانية: (الحساب الدقيق) في الأموال وحتى البخل بها، تحمل معان أخرى: (الاهتمام الدقيق بتفاصيل اللغة والتعبير الدقيق)، وكلمة (akribeia) والتي تعني إلى جانب الدقة في إجراء الحسابات النقدية تفيد أيضًا الدقة في استخدام الكلمات والمعاني أي البلاغة؛ والغاية من كلام ديونيسيوس تؤدّي إلى أنّ الجذور اللغوية للمال واللغة متشاكلة، فلماذا نعيب سيمونديس! ولكي نفهم أكثر هذه الرابطة بين الكلمة والمال يجب القول بما أنّ الكلمة الإلهية خالقة بالفعل والكلمة البشرية قادرة على إنجاز أفعال بالتشبّه بها، فكلمات الكاهن وصاحب السلطة والمتعاقدين على البيع أو الشراء، وحتى في الزواج والاعتراف بشيء ما؛ لها قدرة إلزامية على الناطق والمستمع، فإذا كانت الكلمة الإلهية الخالقة هي الأشياء بالفعل، فالكلمة البشرية وما تترتبه من التزامات تصبح هي الأشياء بالفعل أيضًا، ولا شيء يوضّح ذلك أكثر من النقد، فكيس من النقود يشتري/ يعادل حقلًا خلقته الآلهة. ومن هذا المنحى نستشف العلاقة التي ذكرها المفكّر بيير فرنان عن الرابط بين التجريد والتنزيه والنقد.
استطاع سيمونيدس المتهم بالبخل وحبّ المال أن لا يقع في المطب الذي وقع فيه الشاعر البريطاني ويليم بليك (1757-1827) الذي حاول أن يتحرّر من نظام الرعاية، فقد كان محاطًا بطبقة غنية وأصحاب سلطة وأصدقاء يحبونه كان من الممكن أن يدعموه في مشروعه الفنّي الرومنسي، لكنّه رفض ذلك وآثر حريته، ولم يطلب مالًا مقابل إبداعه، لكنه عاش ومات فقيرًا مدقعًا.
نظام الرعاية للمبدعين عبر التاريخ:
لم يكن المسرح أو الكتابة أو الرسم أو الموسيقى أعمالًا تنطلق من ذاتية المبدع بشكل كلّي في التاريخ القديم، فقد كان رجالات الدين والسلطة والمال هم قطب الرحى بولادتها، لأنّهم قادرون على القيام بتكاليفها. لم نكن لنعرف الملك جوديا حاكم مدينة لجش السومرية الذي حكم ما بين (2144- 2124 ق.م) لولا تماثيله المصنوعة من حجارة الديوريت القاسية وصعبة النحت. لم يذكر اسم النحات الذي قام بنحت تماثيل الملك كوديا، لكن لولا رعاية الملك، أسواء كانت عبر أوامره لأنّه ممثّل للإله على الأرض، أو لأنّه دفع التكاليف المادية لعمال المقالع الحجرية والنحاتين، لم تكن هذه التماثيل البديعة لتوجد أبدًا. إنّ الآثار العظيمة التي أتتنا من عمق التاريخ مدينة بالوجود لمن دفع تكاليف صنعها، مهما كانت الأسباب الداعية لذلك دينية أو سلطوية.
وإذا مررنا ونحن نتقدم في الزمن نحو الحاضر، سنجد أنّ أهم إبداعات الحضارة العربية الإسلامية في الزمن الأموي أو العباسي كانت برعاية الخلفاء، فالمسجد الأموي وقبة الصخرة بنيا تحت رعاية عبد الملك بن مروان، فيما النهضة الثقافية والفكرية في الزمن العباسي تجلت في بيت الحكمة على زمن المأمون حيث كان يدفع للمترجم وزن كتابه ذهبًا.
عرفت روما نهضة فنية عرفناها من خلال العديد من الشعراء كفرجيل وأوفيد وغيرهم، ولم تكن لتوجد لولا (جايوس ميسيناس) مستشار الإمبراطور الروماني أغسطس. عندما تقاعد ميسيناس من حياته السياسة جمع حوله مجموعة من الأدباء والشعراء ودفع لهم بسخاء حتى يسمى هذا العصر الذهبي للثقافة الرومانية بعصر ميسيناس. وقد سبقت اليونان روما بنظام الرعاية لما يحقّق لرجالات الدين والسلطة مكاسب كبيرة لدى جماهيرهم وخاصة أن أكثرية الفنون في تلك الأزمنة كانت ذات محتوى ديني وسلطوي.
في عصر النهضة الأوروبية وخاصة في إيطاليا تجلّى نظام الرعاية الفنية بشكل كبير، ساهمت الكنيسة بجانب كبير منه وبعض العائلات الغنية كعائلتي: دي ميديشي وآل بورجيا في فلورنسا. لعب البابا يوليوس الثاني ما بين (1503- 1515) دورًا كبيرًا فيما نعرفه من إنجازات خالدة كلوحة مدينة أثينا للرسام رافاييل المتواجدة في كنيسة القديس بطرس الذي أمر بهدمها وإعادة بنائها وكلّف الفنانين تزيين جدرانها. واستكمل مشروعه في تجديد الفاتيكان البابا ليو العاشر. عمل مايكل أنجلو تحت رعاية البابا كليمنت السابع وكلّفه برسم جداريات أسقف وحيطان كنيسة (السيستين) التي تعتبر من أبدع ما أنتجه الإنسان في فن الرسم. أمّا لوحة العشاء الأخير لدافنشي فقد أوعز إليه رسمها من قبل عائلة لودفيكو سفورزا الإيطالية. إنّ أكثر إبدعات عصر النهضة كانت تحت رعاية الكنيسة ورجال السلطة والمال والمميّز في هذا الأمر، بأنّ الفن كان وقتها طريقة آمنة لتبييض الأموال التي حصّلت من الربا الفاحش عند العوائل الفلورنسية أو بيع صكوك الغفران لتمويل نشاطات البابوات، وكأنّنا نقول لولا الفساد المادي لم نكن لنشهد تلك الإبداعات! لا تختلف اليابان في الرعاية الفنية عمّا ذكرناه، لكن نجد حالة خاصة جدًا في مسرح الكابوكي الذي بدأ عام (1586) الذي وجد تمويله من خلال الجمهور الذي كان يحضر عروضه بعيدًا عن رعاية الطبقة الغنية والإمبراطور. وفي الصين كان لأسرة (مينغ) الفضل في تطوير صناعة وفن الخزف الأبيض الحليبي اللون والأزرق الكوبالت الذي ذاع صيته عبر العالم. كان عصر الباروك الذي جاء بعد النهضة الأوروبية آخر عهد للتمويل من قبل الكنيسة للمبدعين، لذلك نجد المبدعين قد لجؤوا إلى وسائل أخرى لتمويل نشاطاتهم التي استفاد منها كل من موزارت وبتهوفن بدرجات متفاوتة إلى جانب أنّهما ذهبا إلى تمويل نشاطاتهما الفنية عن طريق النشاط التجاري. لقد لجأ موزارت لتمويل نشاطه الموسيقي إلى التمويل الجماعي من خلال تقديم مخطوطات لموسيقاه وتذاكر الحفلات الموسيقية قبل عروضه مقابل المال.
اتجه الشاعر والمترجم الإنكليزي ألكسندر بوب إلى معجبيه، حيث نجد شكرًا لهم في مقدمة ترجمته الإنكليزية لإلياذة هوميروس، حيث باعهم اشتراكات تخولهم الحصول على نسخ من الإلياذة حين صدورها وكأنّه باع كتابه مسبقًا؛ بهذه الطريقة أمّن تكليف ترجمة هوميروس. أمّا الرسّام غوستاف كوربيه فقد كان أول من أقام معرضًا فنيًا للوحاته بعيدًا عن الأكاديمية الفرنسية للفنون التي كانت تتحكّم بالتمويل وبأنماط الفن. رفضت الأكاديمية العديد من أعماله لمعرض عالمي كانت ستقيمه، فما كان منه إلّا أن استأجر أرضًا وعرض لوحاته فيها ومن بين تلك اللوحات كانت لوحة (استديو الرسام) التي ينتقد فيها نظام الرعاية الأكاديمية ويظهر التمويل الحقيقي للفن. وضع كوربيه ثلاث مجموعات من الشخصيات في لوحته؛ على اليسار توجد شخصيات تمثل كل ما اعتبره خطأ في الفن: كاهن، وتاجر، وصياد يشبه الإمبراطور نابليون الثالث بشكل مثير للريبة. ويجد الناظر إلى اللوحة رجلاً وامرأة فقيرين يتجمعان حول غيتار وسكين وقبعة على الأرض، وهي عناصر لا تزال حيّة من التقليد الأكاديمي. على يمين اللوحة، يحظى كوربيه بدعم بصري من الناقد الفنّي شامبفلوري، والشاعر تشارلز بودلير، والفيلسوف الفوضوي بيير جوزيف برودون، وبالطبع أبرز راعي لكوربيه ألفريد بروياس.
قبل أن نثني على مقاومة ألكسندر بوب لنظام الرعاية الفنية وخاصة جانبه السيئ، يجب أن نذكر أنّ القاصين في التراث العربي قد كانوا سباقين في اقتناص حريتهم الإبداعية، والذي جوبه بالكثير من النقد من رجالات الدين، لأنّهم نافسوهم على خطب ود الناس بل وأموالهم. سأل أحدهم الفقيه سفيان الثوري كما يذكر الأبشيهي (المستطرف في كل فنّ مستظرف: “من هم الغوغاء؟ قال: القصاص الذين يستأصلون أموال الناس بالكلام”. يورد ابن تيميه في كتابه (أحاديث القصاص) وكان قد أنشأه للرد على ما دبّج القصاص من أحاديث كاذبة عن الرسول تخدم أقاصيصهم، بأنّ القاص أحمد الغزالي لم يكن يقص إلّا بعد أن يستوفي ما يطلبه. وفي إحدى جلساته طلب ألف دينار، فجمع له الناس ما مقداره سبعمائة دينار، فرفض القص حتى تكتمل الألف، فما كان من امرأة إلّا أن خلعت ذهبها وأعطته إياه حتى يكتمل المبلغ. لم يكن أحمد الغزالي بدعًا، فقد ذكرت الدكتورة ليلى العبيدي في كتابها (القص والمقدس في التراث العربي والإسلامي) العديد من الأمثلة التي طالب القصاص الجمهور المستمع لهم بالأموال، وبذلك يكونوا قد خرجوا على الشرعة التي ابتدأها الأعشى بالطواف على الملوك وكبار القوم يمدحهم لأجل عطاءاتهم النقدية.
إنّ واقع الرعاية الفنية في القرن العشرين إلى زمننا الحالي، أشبه بسلة تجتمع فيها رعاية الدولة والمؤسسات المستقلّة والمنظمات الدولية والأفراد وغير ذلك، لكن بخلطة يتجاور فيها الحابل والنابل؛ وعلى المبدع أن يمشي في حقل ألغام ليضمن لعمله أن يكون حرًا معبرًا عن ذاته بخصوصيتها الفردية وأن يكون مستقلًا، فلا توجد جهة راعية – بنسبة كبيرة- إلّا ولها أجندة سياسية اجتماعية دينية اقتصادية فكرية تكمن وراء دعمها للفنون والمبدعين. وفي عالمنا العربي نذكر اللغط الكبير الذي دار حول مجلة شعر نتيجة لدعم المخابرات الأمريكية لها، مع أنّ دورها الريادي كان كبيرًا، إلّا أنّ مقولة من يدفع للعازف يسمع اللحن الذي يريد كانت تتردّد في خلفية مشهدية مجلة شعر الذي أسّسها يوسف الخال وضمّت مبدعين كثيرين كأدونيس والماغوط وبدر شاكر السياب.
لاريب أنّ ربط الإبداع بالمال يسبّب غصّة في الحلق، لكن لنعد إلى بدايات عصر النهضة الأوروبية ونرى كيف استطاع المال الفاسد مع مبدعين عظام أن يدفع الثقافة البشرية إلى أعلى عليائها. ليس المال في الإبداع هو المشكلة بل المبدع، فالمبدع الحقّ سيكون المال وسيلته نحو الجمال، أمّا المبدع الفاسد سيكون الجمال وسيلته نحو المال. إنّ علاقة المال بالإبداع تشبه علاقة السّم بالترياق، فمادام المال يفسد كلّ شيء، فمن الضرورة أن يوجد الإبداع لإعادة الأشياء لنقاوتها وصفواتها وجمالها.
باسم سليمان
كاتب من سورية
خاص ضفة ثالثة

June 28, 2024
“دائرة التوابل”: لأمرٍ ما جدعت صالحة عبيد أنفَ شمّا
باسم سليمان26 يونيو 2024
تعدّ رواية “البحث عن الزمن المفقود” للروائي الفرنسي مارسيل بروست بمنزلة حجر العقد في أدبيات الرائحة، فعبر رائحة ومذاق ملعقة من الشاي والكعك، انفتح الماضي على مصراعيه عبر تدفّق حرّ أمام بروست. لقد كان السؤال المضني بالنسبة لبروست: أين يذهب الزمن؟ مجابًا عليه من خلال الرائحة المرتبطة بالذاكرة العشوائية والعرضية للعقل البشري، فهناك يختبئ ما مضى من العمر والتاريخ. هذه الفكرة أصبحت تُعرف بأثر بروست، حيث أكّد العلم الترابط التواشجي بين الرائحة والذاكرة.
من أثر بروست تنشئ الروائية الإماراتية صالحة عبيد روايتها “دائرة التوابل” الصادرة عن دار المتوسط لعام 2022 والتي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر عام 2024. وهذه الرواية تعتبر من أدبيات الرائحة بحق، حيث ظلّت أكثرية السرود العربية الحديثة، التي تتناول الرائحة تقف على العتبات، إلّا إنّها مع عبيد دخلت فيرومونات الرائحة، لتفكّك علاقات السلطة والعبودية والعنصرية والتراتبية الهرمية بين الذكر والأنثى المضمرة في المجتمع العربي. ولأنّ الرائحة تحلّل موضوعاتها بالإضافة إلى ذاتها، كما ذهب كل من ماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو في تفريقهما بين الرؤية والشّم، ففي الأولى يبقى المرء نفسه، وفي الثانية فإنّه يتحلّل. هكذا نجد الفتاة الصغيرة شيريهان مهووسة بالحفر عند سور المقبرة القديمة قبل أن تجتاح العمارة الحديثة سواحل الإمارات، تحدوها رائحة تشتمها من ثنايا المكان وخفايا جينات ذاكرتها. لا تدرك شيريهان كنه هذا الدافع الغريب لمجاورة الموتى. والأحرى الرغبة الشديدة لدخول عوالم الغيب، على الرغم من تلمّظها لطعم سؤال مجهول، لا تعرف مفرادته أكانت: (لماذا، كيف، ماذا، متى…) إلا أنّها تستشعر جوابًا غريبًا، يتبدى نفورًا مسعورًا من الرائحة الحامضة لأبيها وأخيها، واستكانتها قرب رائحة أمها!
الرائحة آلة سفر في الزمن
تبدأ صالحة عبيد روايتها بمشهدية شعرية تسلط الضوء على الطفل عبد الله ابن المعتز الهارب من رائحة الدم، التي تعصف بالأسرة العباسية، فقد قتل جده الخليفة المتوكّل بعد أربعين يومًا من ولادته، واقتيد أبوه المعتز إلى السجن، وعندما خرج، أطاح برأس أخيه، إلى أن تسلّم الشاعر ابن المعتز الخلافة ليوم واحد واغتيل على يد مؤنس خادم الخليفة المقتدر. هذا هو التاريخ الذي لا يلحظ سير الأفراد العاديين، لكنّه يعطي عبرة، فلو ظل ابن المعتز ينظم الشعر بدلًا من أن تأخذه نار الثأر إلى الخلافة وإلى حتفه، لكانت شيريهان نجت من أن تكون قاتلة طفلتها التي ولدت بأنف أفطس وبلا رائحة.
عندما ولدت شيريهان سُمّيت باسم صاحبة الفوازير في رمضان الممثلة شيريهان، لربما تشابه الأسماء ينحت مع الوقت أنف شيريهان الأفطس، ليصبح أنفها مستقيمًا مستدقًا كأنوف عائلة الجدّ عبد الجبار، تاجر التوابل الكبير الذي كانت سفنه تجوب سواحل الهند وتجلب القرنفل والهيل والفلفل والقرفة، لكن العرق دساس، كما قالت الجدة بغضب، مستذكرة شمّا، وذلك عندما سألت الطفلة شيريهان عن ضرورة زيارة تربة العم راشد الذي مات إثر حادث سير في بلاد الغربة، فزيارة النساء للمقابر محرّمة. وكأنّ شيريهان تعيد بخرقها المحظورات ما فعلته شمّا في الماضي. لقد كانت شيريهان تمنّي نفسها أن تزور قبر عمّها لتحظى بالولوج إلى المقبرة، لربما تجد جوابًا للسؤال المجهول الذي يراودها. لكن من هي شمّا؟
ولدت شمّا في العشرينات من هذا القرن بعد مخاض صعب. ولولا أن عطست أمّها لظلّت في بطنها. إذًا شمّا الصغيرة تكاد أن تكون ابنة الأنف أي الرائحة، ولأنّ لكلّ شخص من اسمه نصيب كانت لها حاسة شمّ خارقة، فسريعًا أخذت الطفلة شمّا موقعها في عائلة الجد عبد الجبار كاسرة بميزتها تلك التراتبية التي تفصل بين الذكور والنساء، حيث اعتمدها جدها كميزان ذهب لتميز بين جيد التوابل ورديئها. وكيف لا يكون ذلك وهي من تتنسم رائحة التوابل وعرق البحارة قبل وصول السفن بأسابيع، فتطمئن أهل الديرة بعودة أبنائهم وتجارتهم بخير. في الخلفية من حكاية شمّا نمت كالفطر حكاية أخيها عزيز، الذي جُبّ وجوده ما إن ظهرت مميزات شمّا ذات الأنف الأفطس الذي يغاير أنوف العائلة المستقيمة المستدقة التي لا تكاد تستطيع الشم. كذلك كان لعزيز نصيب من اسمه، فهو لا يسمح للروائح أن تتخلّله، بل ينفر منها حتى قيل إن جنية اصطفته لذاتها، فعزّته عن الاختلاط بعمل العائلة على الرغم من محاولاته التي كانت تفشل دومًا، مما أدّى لإبعاده نهائيًا عن عمل العائلة في تجارة التوابل وتسنم شمّا هذا الأمر، مع أنّها ظلّت على اليابسة تتوق إلى أن تبحر إلى مواطن التوابل.
كان لشمّا رأس كبير قليلًا رأى فيه (عبود بو راسين) مواساة له وهو المنبوذ دومًا من قبل مجايليه من الصبيان، لكبر رأسه حتى تكاد رقبته أن تتقصف تحت ثقله، لذلك كان يتعمّد أن تتقاطع طرقه في السوق مع شمّا، تلك الفتاة التي بسبب موهبتها في الشم لم تحبس خلف الجدران تنتظر زوج المستقبل، حتى أنّها أصبحت دمغة على جودة التوابل فقد كان يقال لقد شمّت (البزار). بطريقة أو أخرى نمت صداقة أو استلطاف بين شمّا وعبود بو راسين.
الحاضر المهزلة
يقول ماركس إن التاريخ يعيد ذاته مرتين: الأولى كمأساة والثانية كمهزلة، لكن مع شيريهان تكون الثانية: جريمة! عندما ضغط التاريخ المضمر على الطفلة شيريهان، كذلك فعل بناصر صاحب الرأس الكبير المنبوذ من قبل أقرانه والذي انجذب كبرادة الحديد إلى مغناطيس تلك الطفلة المولعة بالحفر قرب سور المقبرة. لم تبعده عنها، على الرغم من نفورها من حيادية رائحته، والأحرى كان بلا رائحة. في النيغاتيف القديم لصورة الحاضر الذي جمعت كل من شيريهان وناصر كانت تلوح صورة شمّا وعبود بو راسين.
نما حقد عزيز على أخته شمّا، ورأى في أنفها الأفطس ميزان الذهب لرائحة التوابل العقدة الكأداء التي يجب اجتثاثها. وفي ليلة مقمرة على شطّ البحر يجدع أنفها ويهرب. تعيش شمّا بأنف مجدوع وتتضاءل إلى أن تصبح حبة رمل منسية. وعلى الرغم من أنّ أنفها الذهبي قد غدا عبارة عن فتحتين من العظم، ظلّ عبود بو راسين على وعده بالزواج منها. لكن للأقدار كلمة أخرى، فتصاب القرية بجائحة الجدري ويتساقط أهلوها صرعى المرض. ويأتي الدور على عبود بو راسين فينتبذ لنفسه في الرمل قبرًا كما فعل غيره من المصابين بعيدًا عن القرية ينتظرون حتفهم أو نجاتهم. تغادر شمّا بيت أهلها وتلحق بمقبرة المرضى الأحياء تحاول ترميم رؤوسهم بالرمل الرطب وعندما تسمع لغط الأهالي متّجهين إلى المقبرة بعد أن جيء باللقاح من قبل الإنكليز، تتبيّن بين الأصوات نبرة أخيها عزيز، فتتجه إلى البحر ليكون لحدها ورحلتها المشتهاة.
تجتذب رائحة الموت شيريهان لتدرس الطب الشرعي في إدنبره، عاصمة اسكتلندا، وهناك في مقبرة بلا سور تقرأ أبيات شعر على شاهدة قبر لابن المعتز. تأتيها الأخبار بوفاة أبيها، لكن قبلًا كانت قد تزوّجت من ناصر، لا لعلاقة استمرت بينهما بعد لعب الطفولة، وإنّما لرغبة دفينة بأن تستكمل عودة التاريخ. تعود إلى الإمارات، لتخوض معركة السرطان الذي نال من أمّها. ولأنّ مرض الموت آخر الخطوات في الحياة تكشف أمها عن صندوق عتيق يحمل بين طياته صورة عمّها راشد وسؤالًا عن طفل ما! كان أخوها أحمد أكثر شبهًا بعمّها راشد من أبيها، وكانت أمّها تطفو فوق رفض عائلة عبد الجبار لها، إلى أن مات راشد، فبدأت تجفّ كمسمار القرنفل تبث رائحة لم تتكشف لشيريهان، إلّا عندما اشتمت من أمّها رائحة المقبرة حيث دفن عمّها راشد. في تلك الأثناء أصبحت شيريهان حاملًا من ناصر وتمضي الأشهر التسعة وتنجب ابنة لها أنفها الأفطس إلى جانب أنّها معدومة الرائحة.
أثر الحكاية
يقال إنّ فاطمة بنت ثابت رأت الخادم مؤنس يقتل الخليفة الشاعر ابن المعتز، فهربت، لكن رائحة ثقيلة بدأت تطبق على المدينة إلى أن ترى حلمًا يأمرها فيه الخليفة المغدور أن تخرج جثته من القبر وترميها في مياه دجلة وسيهبها ميزة ستغني سلالتها. وهذا ما كان، فانجلت تلك الرائحة الغريبة عن المدينة وعادت حاسة الشم إلى فاطمة التي خسرتها بعدما صفعها أخوها إثر علمه بمراسلتها للعبد نجوان الذي كان يملك ذاكرة كبيرة ورأسًا كبيرًا يجمع فيه علوم عصره. ويحكى أنّ مالك العبد أعتقه إكرامًا لمواهبه في الحفظ، فتغادر فاطمة مع حبيبها نجوان إلى شبه الجزيرة العربية ليؤسسا سلالة من تجار التوابل. تمتد يد شيريهان إلى شفرة حدّها يكاد يجرح الهواء لتفسر الحلم الذي رأت فيه طفلة مجدوعة الأنف تطالبها بأن تمنحها أنفها ومن ثم تجدع أنف طفلتها.
في لوحة لرامبرانت عنوانها “درس التشريح” تقف مجموعة من الأطباء والسادة في ثيابهم الرسمية لمشاهدة تشريح جثة. وفي ذلك الزمن كان تشريح جثة الإنسان يعتبر عملًا خطيرًا ومحرمًا، ولكنّ هذا الأمر المحرّم كان أول خطوات الحداثة التي بنت أوروبا عليها نهضتها، كما يذهب ريجيس دوبريه في كتابه “حياة الصورة وموتها”. تذكرت شيريهان ذلك وهي تقف أمام طاولة التشريح فيما يُعمل دكتور التشريح مبضعه في الجسد الميت. وهذا ما حاكته الروائية صالحة عبيد، فهي في مقاربتها لتاريخ العبودية في الخليج العربي والتراتبية الهرمية في المجتمع التي تقصي الأنوثة لصالح الذكورة إلى جانب صراع الأنوف حيث لكلّ جنس من البشر أنفه المميز ولونه، لذلك كانت كقصير في التراث الذي جدع أنفه!
لا تفصح صالحة عبيد عن مقاصد روايتها بسهولة! ليس لأنّها لا تريد أن تجعل العين في مقابل المخرز، بل لأنّها ترى تكاملًا بين العين والمخرز يجمعهما خيط التاريخ الذي يجب أن تفكّ عراه ويشرّح ويخاط ويكتب من جديد، لعلّ ابن المعتز يرفض الخلافة وينتصر لشعره. ولعل فاطمة ونجوان يؤسسان لسلالتهما في سامراء. ولعل شمّا تبحر على متن سفينة شراعية إلى جزر التوابل كالسندباد. ولعلّ أمّها تكون زوجة للعم راشد بدلًا من أبيها. ولعل أحمد يكتشف، وإن مجازًا، بأنّ أباه هو عمّه! فالأنثى تخصب بويضتها من أحلامها. ولعل…!
“دائرة التوابل” رواية مكتوبة بنفس شعري مقتدية بروح الشاعر ابن المعتز، كما الأطعمة تصبح أشهى عندما ننثر عليها ذرات الهيل والقرنفل والقرفة. وتقوم على ثلاثة خطوط زمنية: يسرد الأول منها تاريخ ابن المعتز، أو العطب الذي أصاب الحضارة العربية بعد ضعف الخلافة العباسية. والثاني في بداية القرن الماضي حيث ولد الحاضر مع جدع أنف شمّا. أمّا الثالث فهو حاسة شمّ شيريهان التي عبرت بها المسافة بين الحاضر والذاكرة والتاريخ؛ فالمسافة مشتقّة من كلمة (ساف) والتي تعني شمّ، فقد كان البدوي إن ضل طريقه في البداية يشتم التربة، فيعرف أين مكانه وإلى أين يتجه. قال أحد الطباخين ردًا على أفلاطون الذي عاب اهتمام الناس بالأكل وأنواعه كما جاء في كتاب “الطبخ في الحضارات القديمة” لكاثي ك. كوفمان: “بسبب المتع التي ظللت أتحدث عنها، كفّ الكلّ عن التهام جثة، وقرّروا أن يعيش بعضهم مع بعض، وتجمّع الناس وسكنوا المدن، وكلّ ذلك بسبب فنّ الطاهي، كما أسميه”. استطاعت صالحة عبيد عبر ثيمة الرائحة إعادة قراءة التاريخ الذي صنع حاضرنا، مع أنّ حاسة الشم كانت مزدراة في تاريخ الفلسفة والفكر عبر التاريخ. وكما ولدت النهضة الأوروبية من تشريح جثة؛ كان على شيريهان أن تصبح طبيبة تشريح، لتكسر دائرة التوابل من فاطمة ونجوان، مرورًا بشمّا، وصولًا إليها، لعلّ سؤالًا يُطرح وجوابًا حقيقيًا يُولد.

June 18, 2024
عن دور القرد في الأسطورة والدين والأدب والعلم
باسم سليمان 18 يونيو 2024
نستطيع أن نعدّ القرود بأنّها الحيوانات الأكثر أمثلة في ثقافة البشر، حيث حمّلوها الكثير من الرموز والتعابير والاستعارات الإيجابية والسلبية، فتارة يكون القرد إلهًا طوطميًا ينحدر البشر منه، وأحيانًا أخرى يكون تمثّلًا للعقوبة التي يستحّقها البشر عبر مسخهم إلى قرود لمخالفتهم الآلهة والقوانين الأخلاقية. وما بين هذين الحدّين يلعب القرد أدوارًا كثيرة في الأسطورة والدين والأدب والعلم؛ وأمام هذه الثيمة الكبيرة للقرود في الثقافة الإنسانية؛ كان العلماء اليابانيون الذين يجرون الاختبارات العلمية والطبية في المختبرات على القرود، عندما يموت أحدها يشيّعونه بجنازة. وذلك ليس غريبًا، فالضمير الذي يدلّ على الإنسان في اللغة اليابانية يستخدم للقرد أيضًا.
لم يكن كتاب داروين (أصل الأنواع) الذي يتحدّث فيه عن نشوء الكائنات الحيّة وارتقائها سلّم التطوّر، والذي صدر في القرن التاسع عشر، ليتعامى عنه بسهولة، فقد فجّر نقاشات كثيرة لاهوتية وعلمية ودينية لم تنته إلى الآن، وخاصة في الجزئية المتعلّقة بأنّ الإنسان والقرد ينحدران من جدّ أعلى مشترك. لم يقل داروين بأنّ هذا الجدّ المشترك قرد أو شبيه له، لكن هناك أسطورة مكسيكية تقول عندما ينتهي هذا الدور الحالي للكون سيتحوّل البشر إلى قردة، فهل هو العود إلى البدء؟ وأمام هذه النقاشات الصاخبة صوّرت الصحافة داروين عبر رسم كاريكاتوري كقرد برأس إنسان، ولو وقع في يد الطبيب الروماني جالينوس الذي يعتبر رائد تشريح الجسد البشري، لكان وضعه على طاولته، وأعمل فيه مبضعه، فالوثائق الرومانية تذكر أنّ جالينوس قام بتشريح قرود المكاك التي تنتشر في المغرب العربي، والتي تعتبرها أسطورة جزائرية بأنّها بشر حرموا النطق عقوبة من السماء.
هذه العلاقة الملتبسة بين القرد والإنسان تعود إلى القدم، وإن كان داروين قام بعكس منظورها على الصعيد العلمي. يقول أرسطو بأنّ الرئيسيات التي تشبه الإنسان هي فئة مورفولوجية – المورفولوجيا علم يدرس المظهر الجسدي للإنسان وتصرفاته وردود فعله- تقع ما بين الحيوانات ذوات الأربع أرجل والبشر. بالتأكيد لم يكن غائبًا عن أرسطو قصة البشر الذين مسخوا إلى قرود لأنّهم حاولوا خداع هرقل. فالانحدار من هيئة الإنسان إلى الحيوان والنبات كانت موجودة في ثقافة البحر المتوسط على الشواطئ الشمالية، وتظهر بشكل جلي في كتاب (المسوخ) لأوفيد. وعلى الرغم من ذلك لم يكن للقرود بعدٌ مسوخي جلي لدى الإغريق والرومان، فالنظرة إلى القرود عند اليونان والرومان، صحيح أنّها كانت تضع القرد كاستعارة للخسّة والنذالة والطمع، لكن في الوقت نفسه كانت موضوعًا للزينة والتسلية. ومع ذلك تسلّلت إلى الديانة الغنوصية الهرمسية الرومانية عبادة الإله تحوت المصري، ولأنّه كان يأخذ أحيانًا شكل قرد البابون العجوز، فقد كان للخواتم ذوات الفصوص المنحوتة بشكل رؤوس قردة البابون أهمية كبيرة ورواجًا بين الرومان.
بينما في مصر، فقد لعبت القرود دورًا مزدوجًا، فكانت تعدُّ من الحيوانات الأليفة، حتى أنّهم أطلقوا عليها تسمية: الحيوانات (التي تمنح الحب)، إلى جانب أنّها وسيط بين الآلهة والبشر وخاصة قرد البابون، الذي كان ممثلًا لإله الحكمة (تحوت/ توت). تتعدّد رمزية القرود لدى الفراعنة، فمرة ترسم وتنحت، وهي تتعبّد للشمس بأذرع مرفوعة نحوها، أو يصوّر الفرعون كقرد دلالة على عودة الشباب، بالإضافة إلى أمثلة أخرى تعبّر عن الخصب والنشاط الجنسي، وخاصة أنّ دورة الخصب لدى بعض إناث القرود تشابه مثيلتها عند أنثى الإنسان، ولأجل ذلك لم يكن القرد في الحضارة المصرية مذمومًا أبدًا، فهو على ما يبدو يعود بجذوره في ثقافتهم إلى إلههم الطوطمي، حتى أنّهم حنّطوه. قدّمت الديانات السماوية والأرضية تصورًا آخر لعلاقة الإنسان بالقرد على عكس نظرية النشوء والارتقاء وهي أقرب لداروينية معكوسة، حيث يتحوّل/ يمسخ الإنسان قردًا نتيجة أعماله السيئة، فتعاقبه السماء بتحويله إلى قرد، وذلك بإفقاده الصورة البشرية التي شُكلت على صورة الإله؛ كما تقول التوراة وتحويله إلى صورة القرد على شبه الشيطان. تذكر التوراة بأنّ الذين وضعوا الأصنام على برج بابل مسخوا إلى قرود. وأيضًا بأنّ القرود في إيلات كانوا يهودًا خالفوا تعاليم السبت، فمسخوا قرودًا، وترد في القرآن قصة مشابهة عن ذلك. تذكر التوراة في سفر اللاويين بأنّ الحيوانات هي من تملك ذيولًا، هكذا ظهر القرد عديم الذيل كعلامة استفهام لا إجابة عليها إلّا بعلامة تعجب، لكنّ أسطورة يهودية أخرى تتحدث بأنّ آدم كان له ذيل، وقام الإله بإزالته ليفرق عن الخلق الوحشي. وفي نسخة أخرى للحكاية، فقد القرد ذيله لمحاولته التشبه بالإنسان؛ بهذه التعاليل تم تفسير الندبات التي توجد على مؤخرة القرد، نتيجة جلوسه على الأرض، بأنّها ظهرت إثر عملية البتر التي أجراها الإله له، وبذلك تم تفسير علامة الاستفهام في سفر اللاويين عن القرود التي من دون ذيل. هذه البرزخية التي ظهر بها القرد بين الإنسان والحيوان، تذكرنا بمقولة أرسطو التي ذكرنها آنفًا. ومن خلال هذه الحكايا الأبوكريفية (المنحولة) درجت ثقافة القرون الوسطى على اعتبار أنَّ الشيطان قردٌ، أو (قرد الإله) لأنّه حاول تقليد الإله في فعل الخلق. تذكرنا هذه الأمثولة بحكاية القرد الذي حاول تقليد نجار الخشب، فاستغل غيابه وبدأ بتقليد حركاته، وفي النهاية يعلق ذيله في شقّ الخشب الذي صنعه النجار، بعدما أزال القرد الأسافين التي كان يستعملها النجار.
كان الشيطان هو المحرض لارتكاب المعصية الجنسية، فكثيرًا ما تصوّر فنون عصر النهضة خطيئة آدم بقرد يلتذ، وهو يقضم التفاحة ويد حواء تشير إليه. لاريب أنّ هذا التصور يندرج ضمن النظرة الدونية لحواء لارتكابها فعل إغواء آدم بعد أن لعب بعقلها الشيطان الذي يمثل بشكل قرد. من هذا المنطلق تصورت ثقافة القرون الوسطى القرود بأنّها كانت أبناء آدم وحواء الذين ولدوا نتيجة نشاطهما الجنسي الكثيف. وعندما زارهم الإله خبأت حواء منه تلك الذرية الكثيرة لكي لا يتهمها الله بشدة شبقها، فحولهم الله إلى قردة.
لم تكن الديانات التوحيدية، هي فقط من ذهبت هذا المنحى، واعتبرت أنّ القرود نتيجة لعقوبة سماوية أوقعت بالبشر. ففي شرق آسيا قام الإله بخداع زوجين شريرين بالجلوس على الطوب الساخن، فاحترق قفاهما وأصبح أحمرًا، ففرا خجلًا إلى الغابة؛ وهي تعتبر أسطورة تعليلية لاحمرار قفا القرود. قد نقول بأنّ القارات الثلاثة القديمة تتناص بأساطيرها، لكنّ حضارة المايا في أمريكا تذهب إلى أنّ القرود كانوا في الأصل بشر وعاقبتهم الآلهة. أمام هذا الواقع التاريخي للقرود في ثقافة الإنسان فليس غريبًا أن يقول الشاعر الروماني من قبل الميلاد إينيوس: “القرد، ذلك الوحش الحقير كم يشبهنا!”. هذه التصورات عن القرود في حوض المتوسط تتشارك مع مثيلاتها في شرق آسيا والهند واليابان، لكنّ القرود في تلك المناطق كان لها شأن كبير في الأسطورة والرؤى الأخلاقية. وقبل أن نعرض لقصة الملك القرد في التراث الصيني والتي دونت في القرن السادس عشر والتي جاءت بعنوان: (رحلة إلى الغرب)، وأسطورة (هانومان) في ملحمة الرامايانا الهندية، لا بد من التعريج على تعبير يحمل الكثير من الدلالات في ثقافتنا الحالية.
“لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم”:
هذه الكلمات الثلاثة يتم تمثيلها بثلاثة قرود: الأول يضع يديه على عينيه، والثاني يضع يديه على أذنيه، والثالث يضع يده على فمه؛ ولها معنى سلبي، فتصف البشر الذين عادة ما يكون موقفهم حياديًا بشكل غير إيجابي، أو أنّهم لا يريدون التورّط مع أنّهم يعرفون ما يحدث ويجب عليهم اتخاذ موقف أو فعل. انتشرت في أوروبا مجسمات القرود الثلاثة من خلال الجنود في الحرب العالمية الأولى. وكانت تعتبر فألًا حسنًا يعبر عن نجاة الجنود الذين بمكان ما كانوا مساقين إلى الحرب بلا إرادتهم، لكن مع الوقت اكتسبت القرود الثلاثة النظرة السلبية. لكن أصل هذه القرود الثلاثة يعود إلى اليابان، وهي قرود حكيمة تمثل ابتعاد الإنسان عن الشّرّ، فالذي يبعد ناظريه عن الشّرّ، والذي لا يسمع كلام الشّرّ، والذي لا يتكلم بالشّرّ لن يقربه الشّرّ؛ ولأجل ذلك كان غاندي يقتني مجسمًا لهذه القرود الثلاثة. وإذا استتبعنا أصل هذه الرموز التعبيرية للقرود نلقى في التراث الصيني الذي يعود إلى كونفوشيوس مقولة له؛ نستطيع أن نعتبرها أصلًا لهذه القرود: “لا تنظر إلى ما يتعارض مع اللياقة. ولا تستمع إلى ما يتعارض مع اللياقة. ولا تتحدِّث عمّا يتعارض مع اللياقة. لا تقم بأي حركة تتعارض مع اللياقة”. وبناءً عل هذه المقولة الكونفوشية نجد مجسّمات للقرود الثلاثة، وقد أضيف لهم قرد رابع يضع يديه على منطقته التناسلية. كان لليابانيين نظرة مشابهة لما لحظناه في الديانات التوحيدية عن أنّ القرود مسوخ لبشر قد عوقبوا، لكن هذه النظرة السلبية، ليست بهذه الشدّة، فالقرد يعتبر رسول إله الجبل، وحارسًا للحدود والطرق، فهو كائن برزخي، والإنسان الذي ينحدر بتصرفاته نحو الأسوأ لديه الإمكانية أن يوقف مسوخيته إنْ عاد إلى الطريق القويم، فهو يصبح في حالة بينية بين الإنسان والقرد، كما يقول أرسطو، فتأتي أيقونة القرود الثلاثة الحكماء لتذكره كيف يتجنب طريق الشّرّ، مادامت القرود قد فهمت كيف يحدث ذلك. هناك تأصيل أكثر غورًا لهذه القرود في الديانة الشعبية اليابانية، التي تتصوّر بأنّه يتواجد ثلاثة ديدان في جسد الإنسان يسجلون أفعاله الخيرة والشريرة، وكل ستين يومًا بعد أن ينام الإنسان تصعد هذه الديدان إلى الإله السماوي، وتخبره عن أفعال الإنسان وعليها تترتب أيامه القادمة بالنعم أو التعاسة، ولا يستطيع أن ينجو إلا إذا تمثل بالقرود الثلاثة.
لم تتوقف ثيمة القرود عند هاذين الاعتبارين اللذين لحظناهما أعلاه، فقد تم تصويرها بشكل آخر يدعو إلى المعرفة والبحث والتطلع، عبر قرد يضع يديه خلف أذنيه ليسمع أكثر وآخر يحملق بقوة وثالث يؤشر بإصبعه على فمه لأجل التكلّم بوضوح.
إنّ الإسقاط التمثيلي للقرود، لا يعود فقط إلى مظهرها الشبيه بالإنسان، والذي دفع عالم الحيوانات ديزموند موريس الذي درس تطور الإنسان منذ العصور القديمة إلى عنونة كتاب له بـــ (القرد العاري)، وإنّما لتشابه الكثير من تصرفاتها بتصرفات الإنسان المنفلت من القوانين والأعراف، فهي تلعب وتسرق وتضحك وتحتال وتهاجم وتقتل وتمارس الجنس بعلانية فاضحة، وفي خضم هذه الأفعال تبدو كأنّها تملك حدًا من العقل يسمح بمساءلتها. هكذا سمحت تلك الممارسات والسلوكيات للقرود بأن تصبح الأمثولة الأنسب التي يستخدمها الإنسان في تهذيب بني جنسه.
الرحلة إلى الغرب:
هي أسطورة من الصين عن قرد ولد من بيضة حجرية كانت نتيجة التقاء السماء/ يانغ بالأرض/ الين أي مبدأ الذكورة والأنوثة في الفلسفة الصينية. استرعت ولادة (سون وو كونغ/ القرد الملك) الإمبراطور الذي يحكم الجنة لأنّه عندما ولد أطلق شعاعًا ذهبيًا من عينيه، فأرسل الإمبراطور السماوي عناصره ليستطلعوا طبيعة هذا المخلوق. وبعد عودتهم أخبروا إمبراطورهم بأنّ الشعاع يخبوا عندما يأكل القرد، وهذا دليل على أنّه فان وليس له من خطر على الخالدين في السماء. لم يكن القرد (سون وو كونغ) في وارد حذر السماء منه، بل كان سعيدًا بصحبة القرود يأكلون الثمار ويلعبون في النهر. هذه الجنة الأرضية تعكّرت عندما مات أحد القرود، فابتأس القرد الملك وهام على وجهه، لأنّ الفناء خاتمة كل الأحياء، وكأنّه جلجامش بلاد الرافدين. طفق القرد يرتحل من مكان إلى آخر، ليكتشف كم هي حياة البشر سيئة لا تختلف كثيرًا عن حياة القرود، لكنّه في تجوالاته سمع أحد الحطّابين يغني أغنية أعجبته معانيها، فسأله أين تعلّمها، فأخبره أنّه سمعها من راهب طاوي خالد يعيش في الغابة، فقصده وجلس على بابه طويلًا، حتى أقنع الراهب بجدية مسعاه، فكشف له الراهب عن قواه كقرد نتج من التقاء السماء بالأرض. عاد القرد من رحلته ليجد أن الشياطين قد هاجمت أصدقاءه القرود، فيتصدّى لهم ويقتلهم بواسطة قواه الجديدة التي عرفها بعدما فتح له الكاهن بصيرته. وأمام هذا الوجود الجديد الذي استيقظ القرد عليه طلب الخلود، فهبط إلى الجحيم واستولى على الكتاب المقيدة به أعمار الكائنات، وحذف نفسه وأصدقاءه القرود من لائحة الموت، وسجلهم في خانة الأحياء الخالدين، ومن ثم بدأ البحث عن أسلحة تعزز قواه، فقصد ملك التنانين وطلب منه أن يمنحه الأسلحة بالقوة، وهنا تنبه الإمبراطور السماوي لهذه القوة التي ظهرت على الأرض، وأراد القضاء عليها، لكن مستشاره نصحه باستدعاء القرد الملك ومنحه منصب سائس الخيول في الجنة! يتم خداع الملك القرد من قبل سكان الجنة، وبسبب ذلك يخوض حربًا ضدهم تكسبه المزيد من القوى، وتصبح الجنة السماوية قاب قوسين أو أدنى من السقوط تحت يد الملك القرد. وهنا تطلب السماء من بوذا التدخل، فيأتي ويستمع إلى شكوى القرد الملك وأسباب هجومه على السماء. يمتحن بوذا القرد الملك، بأنّه لن يكون قادرًا على الإفلات من يده، وإن فعل سيكون له كل الحق بأن يصبح إمبراطور السماء والأرض. يطير القرد الملك بأقصى سرعة، ليتخلص من يد بوذا، وعندما يصل إلى أقصى الكون، ويشعر بأنّه أصبح في مأمن من يد بوذا يجد خمسة أعمدة يضع علامة على عمود منها ويبول على العمود الأوسط! وعندما عاد متبجحًا، أراه بوذا يده التي عليها العلامة التي وضعها وأثر البول. يعاقب بوذا الملك القرد بأن يسجنه أسفل جبل وتمر السنين والملك القرد مسجون تحت الجبل. كان على الراهب تانغ سانزانغ أن يذهب إلى الهند ليحضر سوترا (كتاب البوذية المقدس) من الهند، لكن الشياطين كانت تعرف بأنّ من يأكل من لحم الراهب سينال الخلود، لذلك كان لا بد من حمايته من هجومها. وهنا يقترح الملك القرد أن يقوم بذلك بعدما تعلم وهو مسجون تحت الجبل الصبر والتواضع. يرافق القرد الملك الراهب مع عدد من الأصدقاء ويثبت جدارته في حمايته لتنتهي القصة بأن يصبح القرد بوذا.
تمتلك هذه القصة الغنية بالأحداث والمغامرات الكثير من التأويلات. وخاصة أنّها ترتبط بعقائد أسطورية ودينية لدى الصينيين، حيث يعتقدون أنّهم قد انحدروا من قرود ضاجعت نساء بشريات فولدت العوائل الصينية الأصيلة. وأهم تأويل لها إذا كان القرد قادرًا مع كل موبقاته أن يصبح بوذا، فما هو عذر الإنسان؟
لا يقل القرد هانومان الهندي قوة عن الملك القرد الصيني، فهو الآخر قد ولد من لقاء بين إله الريح وحورية شيطانية. لم تكن طفولة هانومان هادئة، فقد حاول أن يلتهم الشمس بعد أن ظنّ أنها ثمرة مانغا. تعاقبه السماء على الفوضى التي أحدثها لكن في النهاية ينضج، فتباركه ليصبح الصديق المخلص للأمير راما. يختطف الشيطان زوجة راما ويهرع هانومان لإنقاذها وإعادتها وتدمير مدينة الشيطان، لذلك تنتشر عبادته في الهند.
قصص عن قردة ترويها قردة:
بعد كتاب داروين (أصل الأنواع) تكاثرت القصص والأفلام التي يكون أبطالها قرود. ففي إحدى أولى جرائم الأدب البوليسي الذي أسّس له إدغار آلان بو: (جريمة في شارع مورج) كان القاتل قرد إنسان الغاب من فصيلة (أورانجوتان). قام المحقق دوبان والذي يعتبر المنبت الذي انطلقت منه شخصيتا المحقّق هيركل بوارو لدى أغاثا كريستي، وشارلوك هولمز لدى آرثر كونان دويل بالتحقيق في الجريمة عبر التفكير المنطقي والبحث عن النتيجة من خلال أسبابها. لم يرتكب قرد إنسان الغاب جريمة، إلا لأنّه كان يقلّد الرجل في كيفية حلاقة دقنه بالموس! كان بو رؤيويًا في قصصه ومحذّرًا بأنّ الإنسان من الممكن أن ينحدر سريعًا إلى رتبة القرد إذا تخلّى عن عقله. قد نعتبر بو متشائمًا لربما لكونه حاول أن يعيش من الكتابة وكان يرى الإنسان قردًا يرتدي الثياب. تنتهي سيرة حياة بو نهاية سيئة بعدما وجد ميتًا في أحد الشوارع. لكن بو لم يكن مخطئًا، فالإنسان يشبه القرد الملك أو هانومان قبل أن تؤدبهما السماء.
لقد حدث في زمن الاتحاد السوفييتي في عصر ستالين أن قام الطبيب والعالم إيليا إيفانوفيتش إيفانوف والذي أطلق عليه تسمية: (داروين الأحمر) استنادًا لنظرية داروين بمحاولات عديدة تحت إشراف ستالين لتخصيب القردة الإناث بحيوانات منوية بشرية على أمل أن تؤدي النتائج إلى ولادة جنس جديد فيه من قوة الغوريلا الكثير وفيه عقل البشر. انتهت تلك التجارب بفشل ذريع، فنفاه ستالين إلى كازاخستان حيث مات هناك بعدما كلف الخزانة السوفييتية الكثير من الأموال في تجاربه. لم يكن بو مخطئًا، لكن الروائي إدغار رايس بورزو كان أكثر تفاؤلًا، وهو مبدع شخصية طرزان في أوائل القرن العشرين عن طفل تربيه القردة في الغابات، فيصبح حاميًا لها؛ فالأخلاق التي حصّلها طرزان من القردة تفوق بمرات الأخلاق التي يدعيها البشر.
كان السؤال الأخلاقي ينمو حول طبيعة البشر، وهل هم أفضل حالًا من أقربائهم القرود وخاصة بعد الحرب العالمية الأولى والضحايا الكثيرة التي نتجت عنها. ظهر فيلم كينغ كونغ عام 1933 بعد أن تنبّه المنتج إيرنست بي شودساك أن فيلمًا عن غوريلا في أفريقيا قد حقق أرباحًا كبيرة، حيث تدور فكرة الفيلم عن قبائل أفريقية يقدمن نساءهم للغوريلات من أجل متعتها الجنسية. من خلال هذه الفكرة نشأت فكرة كينغ كونغ حيث تذهب فرقة استطلاعية تلفزيونية إلى جزيرة الجمجمة ويجدون قبيلة بدائية يقدمون نساءهم لإلههم القرد. وبعد عدة مغامرات تقبض القبيلة البدائية على الفتاة الشقراء وتقدمها للغوريلا الضخم. تنشأ قصة حب بينهما لتنتهي في نيويورك ويظهر كينغ كونغ متسلقًا قمة بناية إمباير ستيت – تعتبر أعلى بناء أنجزه الإنسان في ذلك الزمن- بينما الطائرات الحربية تمطره بالرصاص. لاريب أن الهدف التجاري كان واضحًا جدًا، لكن الدلالات التي حملها الفيلم تذكرنا كيف روضت غانية المعبد أنكيدو، فكينغ كونغ يصبح مجرد قرد صغير عندما يتنسم رائحة البطلة الشقراء. لا ريب أنّ الإشارة إلى أنّ المرأة قادرة بمكان ما على ترويض قردنة الذكر البشري، بدأت بالظهور. لا نستطيع أن نعتبر بأن المنتج شودساك كان في نيته ذلك، فما كان يهمه هو التلميحات الجنسية، لكن!
أصبحت القردة شخصية مهمّة في السينما الأمريكية وفي الكتابات عبر العالم، فعن طريق أمثلة القرد كحامل للأفكار الإنسانية، كان من الممكن مقاربة خطوط حمراء كثيرة. في فيلم (كوكب القردة) التي بدأت عام 1968 حيث كان يظنّ بطل الفيلم، بأنّه بسبب عاصفة كهرومغناطيسية في الفضاء قُذف إلى كوكب تحكمه القردة، ليكتشف بأنّه على الأرض بعدما رأى رأس تمثال الحرية ملقى على أحد الشواطئ. وفي عصرنا الحالي أعيد إحياء السلسلة بعد أن يصبح أحد قرود المختبرات ذكيًا جدًا نتيجة إخضاعه لتجارب على دواء يكافح مرض ألزهايمر، فيقود ثورة تنتهي بإبادة البشر، حيث كان آخر أفلام هذه السلسلة هذا العام: (Kingdom of the Planet of the Apes / مملكة القردة 2024 من إخراج ويس بال). تطرح عالمة الإنسانيات دونا هارواي سؤالًا ينطلق من تلك السرديات الإنسانية عن القردة، بأنّ هذه السرديات تتأتّى من تشكيك الإنسان في أحقيتة بأن يكون في قمة السلسلة للكائنات المتواجدة على الأرض بعد تاريخه العنيف. يعاد سؤال دونا في فيلم (مملكة القرود لعام 2024) بطريقة معاكسة، فالبطلة (نوفا- الكائن البشري) ترفض أن يكون القرد مساويًا لها على الرغم من الذكاء الذي انتهى إليه. هذه العنصرية للكائن البشري تجاه جنسه والكائنات الأخرى سخر منها (راكا) في الفيلم وهو من فصيلة إنسان الغاب (أورانجوتان – المجرم في قصة بو في القرن التاسع عشر) بالقول: ” بأنّ القردة تمتاز عن البشر، وذلك لأنّها تستخدم أيديها وأقدامها سواء بسواء، والبشر لا يملكون هذه الميزة!”؛ لقد صور مايكل أنجلو في لوحاته في كنيسة سيستينا في إيطاليا الإله يمد يده لآدم وآدم يبادر بالمثل، دلالة على أهمية اليد البشرية؟
كان القرد راكا حكيمًا كفاية، ليرى أنّ الذكاء، مهما كان مهمًّا لا يتجسّد إلّا بالأدوات التي تحقّقه. ومادامت القردة تملك أربع أيد مقابل الإنسان الذي يملك يدين فقط؛ فالأفضلية لها! لم تكن القصص التي ذكرناها عن القردة فلسفية بالمعنى الذي تأسست عليه الفلسفة منذ أيام سقراط، لكنّها كانت حاسمة لفهم العلاقة بين النظرية والممارسة بين القول والفعل. لقد أنجز الإنسان الكثير من الأدبيات الدينية والأخلاقية والفلسفية، جميعها تتوّج الإنسان سيدًا لهذه الأرض، وفي الوقت نفسه ارتكب أضعافها من الجرائم بحق نفسه وبحق الكائنات الأخرى والطبيعة؛ وبناء على ذلك، فمن الأولى بسيادة الأرض؟: الإنسان، أو القرد الأمثولة، أو القرد الحقيقي!
باسم سليمان
خاص ضفة ثالثة

June 6, 2024
أسواقٌ كانت كالأحلام في سورية – مقالي في ضفة ثالثة – باسم سليمان
لقد فتكت الحرب بالمدن السورية، فقتلت البشر ودمّرت الحجر، ونزعت عن جيد تلك المدن أسواقًا كانت كالحلي، وخاصة حلب ودمشق، بحيث لم يبق من بعض هذه الأسواق إلّا الذكريات وبعض الأسطر في الكتب، والصور التي تعبق بأشواقٍ إلى تاريخ مجيد اندثر بين ليلة وضحاها. لذلك كانت هذه البانوراما عن هذه الأسواق في هذا المقال، لربما يجد فيها السوري المقيم والمهجّر بعض السلع التي كان ينوي شراءها، أو يشيد أحد التجار دكانه في الخيال، فيجلس على بابه منذ الصباح الباكر منتظرًا موزّع الأرزاق الذي ينثر كرمه على السعاة في مناكب الدنيا.
اشتهرت بلاد الشّام وخاصة سورية، بأنّها قلب الطرق التجارية بين الغرب والشرق في التاريخ القديم، فمنها يتفرّع طريق الحرير إلى أوروبا وأفريقيا بعد أن يكون قد امتد على طول قارة آسيا من الشرق الأقصى إلى شرق المتوسّط. وتنتهي إليها من الجنوب رحلة الصيف من شبه الجزيرة العربية واليمن، وتبدأ منها بالمقابل رحلة الشتاء باتجاه الجنوب. وعندما دخلت بلاد الشام في الفتح الإسلامي، أقرّ المسلمون الأعراف التجارية التي اعتادوها في الحجاز، فالخليفة عمر بن الخطاب أوضح التصوّر الإسلامي عن الأسواق بالقول: “الأسواق على سنّة المساجد، من سبق إلى مقعده، فهو له حتّى يقوم منه إلى بيته، ويفرغ من بيعه”. ولربما تكون هذه القاعدة في الأسواق المؤقّتة، كسوق الجمعة الذي يقام عادة في المدن الكبيرة والذي ذكر أمثاله في المدن السورية قتيبة الشهابي في كتابه (أسواق دمشق القديمة). كان هذا السوق يقام في صبيحة يوم الجمعة حتّى منتصف النهار يباع فيه كلّ شيء، أمّا مكانه فعلى امتداد جادة المدارس في حيّ الصالحية، ولقد ذكره أحمد العلاف في كتابه (أسواق دمشق في مطلع القرن). لقد كانت القاعدة التي أقرّها الخليفة عمر معمولًا بها حتى بدأ المسلمون يتشرّبون عادات البلدان التي دخلوها، فقد بنى الخليفة معاوية أول دارين للتجارة في المدينة المنورة، هما: دار القطران ودار النقصان، حيث بدأ التجّار يختصّون بأماكن معينة، كما ذكر السمهودي في كتابه (وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى). لقد اندثرت أسواق الجمعة، إبّان الحرب السورية، ولكنّها بدأت بالعودة على استحياء، غير أنها لا تقارن أبدًا بما سبق.
وقبل ذلك بكثير كانت تدمر رائدة في الأعمال التجارية، ففي ساحة الأغورا، التي تقع بين السورين التراثيين؛ الدفاعي والجمركي، كانت تُجبى الضرائب. وقد وجد هناك نقش لكل أنواع الضرائب التي فرضت على السلع التي تدخل المدينة. ومن الأقوال المأثورة التي سجلّها التاريخ عن تجار تدمر: “إذا أردت أن تصل تجارتك بأمان لأي مكان، فأودعها لدى التجّار التدمريين”.
لا يمكن تشبيه أسواق سورية التراثية إلّا بلعبة الماتريوشكا الروسية، فما إن ترفع عنها لحظة الحاضر حتّى تتكشف لك حقب تاريخية عديدة عاشتها تلك الأسواق. فإذا وجّهنا نظرنا نحو أسواق دمشق ومنها سوق مدحت باشا، الذي يعتبر جزءًا من الشارع المستقيم الذي بناه الرومان في دمشق، يطالعنا ابن جبير بالخبر التالي: “ولها سوق، يعرف بالسوق الكبير، يتّصل من باب الجابية إلى باب شرقي. وفيه بيت صغير جدًا، قد اتخذ مصلى، وفي قبلته حجر، يقال: إنّ النبي إبراهيم، كان يكسر عليه الأصنام التي كان يعدّها أبوه للبيع”.
وإذا أردنا أن نجلو تاريخه أكثر، نجد أن شهرته تأصّلت زمن المماليك، فقد سُقف بالخشب، ومن ثمّ بالحديد التوتياء في زمن الوالي العثماني حسين ناظم باشا بعدما أتى عليه حريق هائل، نتيجة الأعمال التوسعية، التي قام بها الوالي مدحت باشا.
حاليًّا ينقسم السوق إلى قسمين: المسقوف وتباع فيه الأقمشة الحريرية، كالصّايات والعباءات والكوفيات. وغير المسقوف وتصنع وتعرض فيه الأواني النحاسية، التي تُحلّى بالذهب والفضة بالإضافة إلى التحف والموزاييك. ومن هذا السوق تتفرّع أسواق جانبية: سوق الحرير، الخياطين، البزورية، الصوف.
سوق الحميدية
يعتبر من أهم أسواق دمشق التراثية، ويذكر قتيبة الشهابي أنّه قد بُني في عام 1780 واستكمل عام 1884، فأصبح يمتدّ من باب النصر إلى باب البريد بمحاذاة سور قلعة دمشق الجنوبي. وهو مسقوف بالحديد والتوتياء وقد أعيد تجديده في عام 1920 بعد حريق كبير، وتتخلّل سقفه فتحات يتسرّب منها ضوء الشمس، وقد نتج بعضها نتيجة قصف قوات الاحتلال الفرنسي لدمشق. ولقد ذكره الحلّاق البديري باسم سوق الأروام نسبة لليونانيين الذين سكنوا دمشق. في حاضرنا، أصبح سوق الأروام جزءًا صغيرًا من سوق الحميدية تباع فيه المفروشات التراثية والسجاد القديم. وقد قال نعمان القساطلي عن سوق الأروام، في كتابه (الروضة الغناء في دمشق الفيحاء) بأنّه سوق للدلالين والنساء.
تتشعّب وتتفرع عدّة أسواق عن سوق الحميدية، الشريان الرئيس لأسواق دمشق التراثية، كسوق الحرير الذي يُسمى من قبل تجاره سوق: “تفضلي يا ست”، كناية عن إلحاح التجار في دعوة كلّ زبونة للدخول ومشاهدة الأقمشة والملبوسات. ويتقاطع مع سوق الحرير سوق الجرابات الذي تُباع فيه الحقائب الجلدية. وبالنسبة للتسمية لم ير الشهابي أثرًا للجرابات التي أخذ السوق اسمه منها. وهناك سوق البزورية/ الحبوب وغيرها الكثير الذي يتفرع عن سوق الحميدية. يحتوي السوق على الأقمشة الحريرية والأجواخ والمطرزات وأدوات الزينة والملبوسات النسائية وتنتشر فيه محال بيع المصنوعات النحاسية التراثية. ويمتد عن سوق الحميدية سوق نصري حيث تباع فيه (بوابير الكاز). هكذا نستطيع أن نشبّه سوق الحميدية بقلب دمشق التجاري.
ويذكر الشهابي بأنّه ما زال هناك حانوت يبيع حلوى تراثية، تسمى (بنْدِيرة) في سوق جادة بَحرة الدّفاقة. هذه السكاكر إن عرّضتها للضوء، تظهر كتابات في داخلها كـــ : الله – دمشق – الدفاقة. وقد قال صاحب الحانوت: إنّه قد استوحى ألوانها من الزجاج المعشّق للمسجد الأموي.
تتفرّع أسواق أخرى من سوق الحميدية وهي أقرب للأزقة نذكر منها سوق البورص الذي يجاور سوق العصرونية وسوق مردم بك. وكان مكانًا لدكاكين الصيرفة وبيع العملات، أمّا الآن، فتباع في حوانيته، الملبوسات النسائية وخاصة الجلابيات.
سوق باب البريد
يعود إلى العصر المملوكي، فقد ذكره ابن طولون، كذلك فعل القساطلي، إذ اعتبره أحسن أسواق مدينة دمشق في وقتها، حيث كانت تباع فيه المنسوجات العربية والأجنبية. ولقد انكمش هذا السوق في زمننا الحالي بعدما استوعبه سوق الحميدية وأصبح عبارة عن سوق ضيق تباع فيه الكتب والقرطاسية.
ساحة سوق الخيل
كان يقع قديمًا شرق ساحة المرجة. ووجد له ذكر في العصر المملوكي، كذلك في العهد العثماني وأشار إليه كارل ولتسينجر في كتابه (الآثار الإسلامية في دمشق) بأنّه سوق للخيل والحمير والجمال، أمّا حاليًّا، فهو سوق لبيع الخضروات والفواكه، ويسميه الباعة بسوق علي باشا.
سوق النحّاسين
يتألّف هذا السوق من سوقين ضيقين مسقوفين بالحديد والتوتياء وله ذكر في العصر المملوكي والعثماني وما زال قائمًا إلى الآن. وتصنع به أدوات المطبخ النحاسية كالأطباق والمعاجن والحلل الكبيرة وقازانات الحمام. وانتشرت فيه حاليًّا النحاسيات التزيينية ومصبات القهوة ومناقل الفحم.
وهناك سوق المناخلية حيث تصنع المناخل. وجاء ذكره في العصر المملوكي والعثماني وحاليًّا تخلّى عن اختصاصه، فأصبحت تباع فيه لوازم الخشب والحدّادين والأنابيب وغير ذلك.
ونستطيع أن نستنتج أنّ أسواق دمشق المذكورة آنفًا وغيرها الكثير في دمشق كــ: سوق القباقبية – السلاح – النحاتين….، تخلّت عن تخصصاتها السابقة بشكل أو آخر وإنْ لم يزل بعضها يكافح كي تبقى الصناعات التراثية على قيد الحياة.
أسواق حلب القديمة، استنادًا لكتاب خير الدين الأسدي (أحياء حلب وأسواقها)
أخذت أسواق حلب تموضعها الحالي مطلع العصر العثماني. وقد كانت تجارة حلب القديمة متمركزة في الأسواق والخانات. وتعتبر أسواق حلب من أجمل أسواق مدن الشرق العربي والإسلامي لِمَا تمتاز به من طابع عمراني جميل إذ تتوفر نوافذ النور والهواء.
سوق الزرب
تعود تسميته إلى تحريف في اللغة نتج عن استعمال العثمانيين حرف الظاء بدلًا من الضاد العربية، فاسم السوق الأصلي: هو سوق الضرب، حيث كانت تضرب فيه العملة المعدنية في العهد المملوكي، ثمّ تطوّر تعبير سوق (الظرب) التركي ليصبح سوق الزرب. وحاليًّا تباع فيه المنسوجات وحاجات البدو.
سوق العطّارين
هو سوق الأبّارين تاريخيًّا، فقد كان سوقًا للعطارين، حيث تباع التوابل ومشتقاتها. حاليًّا تبدّلت مهنة العطارة لصالح تجارة الأقمشة، إلّا أنّ السوق بقي محافظًا على العطارة، فرائحة الفلفل والقرفة والبهار والزعتر الحلبي والبابونج تملأ الهواء.
سوق قره قماش
ينتهي هذا السوق بسوقي الزرب والعباءات، وهو غير مسقوف، فقد روي أنّ ملّاكًا كبيرًا هدمه في الأربعينيات ليبني على جانبيه بيوتًا سكنية فوق الدكاكين، والتي ما زالت ماثلة حتى اليوم. إنّ التجارة الغالبة في السوق هي تجارة الأقمشة. ولربما الاسم التركي (قره قماش)؛ أي القماش الأسود؛ يدلّنا على عدم تبدل وظيفة السوق القديمة حيث كانت تباع فيه الخِمارات والعباءات (الباشاية والملاية).
سوق الدهشة
ويتفرّع من سوق قره قماش. وتعود تسميته إلى الدهشة، التي كانت تنتاب الزبون، وهو يعاين جمال وروعة الأقمشة المعروضة والتي كانت تصدّر إلى الشرق والغرب. وما زال السوق أمينًا لتجارة الأقمشة.
سوق الحِراج
كانت تباع فيه أنواع الفحم والحطب الناتجة عن معاملة الأشجار الحراجية. حاليًّا أغلب تجارته البسط والسجاد.
سوق الطرابيشية
يسمى أيضًا بسوق القاوقجية. ويقع على امتداد سوق الدهشة ومهنته التاريخية صناعة وبيع الطرابيش وقد اندثرت مع زوال عادة لبس الطربوش، وحلّت محلّه تجارة الأقمشة.
سوق الدراع
إنّ المهنة الحالية للسوق بيع وخياطة الأقمشة الرجالية. يتميّز هذا السوق بأسلوب خاص بالإنارة، إذ أنّ الخياطة تحتاج إلى إنارة مريحة للبصر، لذا فإنّ النور الوارد من الفتحات العلوية، كان يتم التحكّم به عن طريق لوحات عاكسة موضوعة تحت الفتحات يمكن تحريكها حيث تعمل على عكس النور الوارد من الأعلى، فتجعله منتشرًا بشكل مناسب، وسُمي السوق بهذا الاسم لأنّ الدراع هو واحدة القياس المحلية (يبلغ الدراع الحلبي 71سم).
سوق الصرماياتية
ويسمى بسوق النعال أو سوق القوافين، وأغلب تجارته ما تزال الأحذية الشعبية وبالأخص الأحذية الحمر، التي تشتهر حلب بصناعتها، ويتّصف هذا السوق بضيقه وصغر دكاكينه.
وهناك أيضًا سوق الحبال: يعرف بتجارة الحبال والخيش. وسوق الفرايين: لبيع الفرو. وثمة الكثير من الأسواق التي تجاور قلعة حلب وفي المدينة القديمة تهدّم أكثرها بسبب الحرب.
تتشابه الأسواق التراثية في سورية، فهي أشبه بالشرايين بين بيوت الحارات، حيث تطلّ عليها الجوامع والقلاع والمدارس التراثية وتتوسّطها الخانات والفنادق، إلّا أنّ الحرب التي دارت رحاها، قد أتت على بعض أسواق دمشق التراثية والكثير من أسواق حلب وغيرها من المدن السورية، فبعض أسواق حلب يرجع أصله إلى 300 ق. م.
تعتبر أسواق سورية التراثية من أطول وأقدم الأسواق المسقوفة في العالم، حيث أدرجتها اليونسكو على قائمة التراث المهدّد بالخطر نتيجة الأضرار الشديدة، التي لحقت بها جرّاء الحرب.
لا يمكن تعويض خسارة تلك الأسواق التراثية العابقة بروح التاريخ وأحلامه إلّا بعودة السلام والأمان والحريّة إلى سورية، كي تصدح أصوات البائعين من جديد، وتمتلئ تلك الأسواق بالأطفال والنساء والرجال، حيث يمتزج الماضي العريق بالحاضر الجريح وبالمستقبل المفعم بالأمل.
*كاتب من سورية.

June 4, 2024
صراع البشر والحيوان في كوكب القردة
مقالي في الصباح العراقية – باسم سليمان
مات سيزار، قرد المختبَر الذي أصبح ذكيًا بسبب حقنه بدواء فيروسي لمعالجة داء ألزهايمر! مات سيزار الذي قاد ثورة القردة لتتحرّر من سيطرة الإنسان. مات سيزار الذي قال: (القرد لا يقتل القرد). أصاب الدواء الفيروسي البشر بالخرس والغباء ومنح القردة الذكاء، رغم ابتكاره ليكون شافيًا للإنسان من داء الخرف في عالم أصبح أكثر سكانه عجائز، ممّا أدّى إلى تدمير الحضارة البشرية. لم ينج من هذا الوباء إلّا قلّة من البشر، هرب بعضهم إلى حصون تحت الأرض لكي لا يصيبهم الفيروس، أمّا البقية الغبية غير القادرة على الكلام، فأصبحت قطعانًا كأية حيوانات أخرى تجوب الأرض التي استردّت عافيتها.
صدر الجزء الرابع من سلسلة (كوكب القردة) التي بدأت عام 2011 بفيلم ( Rise of the Planet of the Apes) وترجع هذه السلسلة إلى مجموعة من الأفلام بدأت عام 1968 حيث كان يظنّ بطل السلسلة القديمة، بأنّه بسبب عاصفة كهرومغناطيسية في الفضاء قُذف إلى كوكب تحكمه القردة، ليكتشف بأنّه على الأرض بعدما رأى رأس تمثال الحرية ملقى على أحد الشواطئ. لقد غيّرت السلسلة الجديدة الحبكة لاستكشاف آفاق أخرى للقصة، لكنّ الجوهر الدارويني مازال واضحًا، فمادام الإنسان والقرد قد انبثقا من جد مشترك، فلماذا العداء! يستكمل فيلم (Kingdom of the Planet of the Apes / مملكة القردة 2024 من إخراج ويس بال) الأجزاء الثلاثة الماضية التي تكلّمت عن ثورة سيزار وحروبه مع البشر ومحاولته أن يجعل القردة وما تبقى من البشر يعيشون في سلام. يبدأ الفيلم الجديد بمشهد لجنازة سيزار، لكنّ القردة بعد زمن طويل تنسى تعاليم سيزار أو تتناسى! حيث تظهر تجمعات قبلية للقرود، منها قبيلة النسور الذي ينتسب إليها القرد الشاب (نوا) الذي يريد أن يحتضن بيضة (النسر الأمريكي) في حزام على صدره، فإن فقست اعتبره الفرخ الصغير أمه، لكن أنسية تدعى نوفا (فريا آلان) تتسبب بكسرها. وفي مقلب آخر أصبح القرد بروكسيموس إمبراطورًا على قبائل القرود، بعدما قرأ عليه أحد البشر التاريخ الروماني، حيث كان يعتقد هذا البشري بأنّ زمن الإنسان قد انتهى وحل زمن القردة، فلماذا لا يرثون حضارة الإنسان. يحاول بروكسيموس أن يقتحم حصنًا تحت الأرض أقامه البشر لكي يحوز على معرفة وصناعة وأسلحة الإنسان، فيستعبد القرود لتكتمل خطته؛ ها هو القرد يعيد سيرة الإنسان العنفية من جديد!
يهاجم جنود القردة قبيلة نوا ويقتلونهم ويسوقون البقية إلى مستعمرة بروكسيموس، فيلحق بهم نوا، لكنّه في الطريق يتعرّف على القرد (راكا) من فصيلة (أورانجوتان/ إنسان الغاب – الذي كان مشتبهًا به في جريمة قتل في أحد قصص رائد الخيال العلمي إدغار ألان بو في القرن التاسع عشر!). لكن راكا ليس مجرمًا بل حكيمًا يتبع تعاليم سيزار ويعلّق قلادة على صدره لها شكل النافذة التي كان سيزار ينظر من خلالها إلى الخارج عندما كان صغيرًا في بيت الطبيب الذي كان يحقنه بالدواء الذي يعالج ألزهايمر. يخبر راكا نوا عن سيزار وحكمته، ليكتشف نوا بأنّ العجائز في قبيلته قد خبّأوا الحقيقة عنه. تنضم إليهما في الطريق الفتاة التي تسببت بكسر البيضة، بعد تعارف قلق وحذر، يتابعون سويًا الطريق إلى مستعمرة بروكسيموس من أجل أن ينقذ نوا أبويه وعشيرته، فيتعرّضون في الطريق لهجوم من جنود بروكسيموس، فيضحّي راكا بحياته لإنقاذ الفتاة البشرية وفق تعليمات سيزار، لكن يقبض على نوا ونوفا ويؤخذان إلى المستعمرة.
لقد كانت العلاقة بين نوا ونوفا متوترة جدًا، وخاصة بعد أن عرف بقدرتها على الكلام وخطّتها لدخول الحصن وسرقة شريحة الكترونية ستعود بها إلى أحد مخابئ البشر ليصبحوا قادرين على الاتصال مع بقية المجموعات الصغيرة المتناثرة في الأرض. لم يكن نوا يثق بنوفا، لكن حتى يستطيع إنقاذ قبيلته كان لا بدّ له من هكذا تحالف (عدو عدوي صديقي).
يبدو الفيلم تأسيسًا لسلسة جديدة، فالخاتمة التي جمعت كل من نوا ونوفا بعد القضاء على بروكسيموس تشي بذلك، وخاصة أنّ نوفا قد أخفت مسدسًا خلف ظهرها يومئ بأنّ الجمر تحت الرماد، فنوفا تعتبر البشر أحقّ من القرود بالتواجد على الأرض، فهي لا تعترف إلّا بالزمن الذي كان فيه القردة مجرد حيوانات غير عاقلة، وهي مناسبة للخيال البشري كأمثولات، أبدعها البشر من أجل الاعتبار والتعلّم منها، كأن تكون صديقة لطرزان، أو ضخمة الحجم تتسلّق بناية (إمباير ستيت) ككينغ كونغ كرمى لعيون أنثى من البشر. الغريب أنّ الأمثولة الآن حقيقية، وأمام ناظري نوفا، فهل تتعلم؟ وهل سيكون نوا الذي يعني (نوح) قادرًا على قيادة قبيلة النسور إلى بر الأمان، وعلى إحياء تراث سيزار؟ لكن راكا أخبرهما متندرًا، بأنّ القردة تمتاز عن البشر، وذلك لأنّها تستخدم أيديها وأقدامها سواء بسواء، والبشر لا يملكون هذه الميزة.
باسم سليمان
خاص الصباح

باسم سليمان's Blog
- باسم سليمان's profile
- 24 followers
