باسم سليمان's Blog, page 4
November 8, 2024
عن روّاد أدب الأطفال العرب – باسم سليمان – مقالي في ضفة ثالثة
إنّ البحث عن إرهاصات ولادة أدب ما، يعني بداية، بأنّ هذا الأدب أصبح واعيًا لذاته من خلال مؤلِّفه وقارئه، ومن ثمّ ناقده الذي يستخلص النظرية التي تحيط بهذا الأدب استنادًا إلى المواد الإبداعية التي يقدمها؛ وبالتالي، فالبحث لا يجب أن يسقط شخصية الأدب الناضجة على ماضيه لينجز مطابقة بين ما يكون وما كان، بل سيقبل بالظنون والشكوك وبالظلال المصاحبة لنشأة هذا الأدب، أكثر من الأنوار التي تضيء اكتمال بنيانه فيما بعد. إنّ مقولة سيث ليرر: “وُجِد أدب الأطفال مذ وجِد الطفل” في كتابه: (أدب الأطفال من إيسوب إلى هاري بوتر) تتغيّا أنّ أيّ أدب أو فنّ هو ابن روافده قبل أن ينتظم نهرًا. وعندما يقول بأنّ أدب الأطفال كان يستعير مواضيعه من أدب الكبار، ويكيفها لتصبح قابلة للاستيعاب لدى الطفل، فالمعنى يفضي إلى أنّ أدب الأطفال كان ملحوظًا دومًا، آخذًا بالنمو مع تطوّر نظرة المجتمع للطفل من زمن إلى آخر، باعتبار الطفل لبنة أساسية في هيكلية المجتمع، ولا يجب أن تترك لتربية خبط عشواء. وبناءً على هذه المقدمة، فالريادة؛ هي بحث في الظنون والشكوك بقدر ما هي إبحار مع يقينية النهر. كان لأدب الأطفال ولادات عديدة سابقة، قبل أن ينتظم بشكله الحالي مع الفرنسي شارل بيرو عندما أصدر في أواخر القرن السابع عشر ثماني قصص بعنوان: (حكايات أمّي الأوزة). ومع حكايات بيرو سجلت ولادة أدب الأطفال رسميًا، من حيث هو أدب يؤلّف للأطفال ابتداءً ويستهدفهم ختامًا. لقد استعار بيرو اسم ابنه لينشر تلك القصص خوفًا من النظرة السائدة في تلك الأزمنة، والتي كانت تصم كتّاب أدب الأطفال باللاموهبة، والتي استمرت حتى ما بعد منتصف القرن العشرين، ويذكر الأديب أحمد فضل شبلول في كتابه: (أدب الأطفال في الوطن العربي قضايا وآراء) بأنّ رائد أدب الأطفال كامل كيلاني في القرن العشرين، كان يخفي على الأديب النوبلي نجيب محفوظ كتاباته التي تخصّ الأطفال! لقد تنبّه بيرو سريعًا إلى أنّ جمهور القرّاء يصنعون الأدب، بالإضافة إلى المبدعين والنقّاد، لذلك عندما نشر قصصه ورأى الاستقبال الجيد لها من قبل المجتمع وخاصة الأطفال، تشجّع وأصدر مجموعة قصصية أخرى بعنوان: (أقاصيص وحكايات الزمن الماضي) وكأنّ أدب الأطفال الذي يكتبه الكبار للصغار تُكتب له الاستمرارية والخلود من خلال استقبال الصغار له، فهم وإن لم يبدعوه، لكن تلقيهم له يساهم بالمقدار نفسه جنبًا إلى جنب مع صناعته. دُعمت هذه الولادة بتنظيرات الفيلسوف الإنكليزي جون لوك الذي وجّه اهتمامه نحو بناء فكر الطفل العقلي والأخلاقي، فأصدر كتاب (الإيسوبيات) مكيّفًا قصص الحكيم اليوناني إيسوب لتصبح مناسبة للأطفال، تطبيقًا لنهجه في التفكير. ومن ثم جاء الفيلسوف جان جاك روسو وخاصة في كتابه (إميل) الذي أولى عنايته بمشاعر وعواطف الطفل، حيث اعتبره شخصية مستقلّة، وقال بضرورة أن تتغيا التربية تفتح كينونة الطفل ليعرف كيف يعيش حرًّا مستقلًا. استكمل أدب الأطفال شخصيته من الشاعر الفرنسي لافونتين الذي أبدع قصصًا وأشعارًا على ألسنة الحيوانات مستلهمًا التراث العالمي وضمنًا ألف ليلة وليلة. وكان للدانماركي هانز كريستيان أندرسن المشهور بقصة (البطة القبيحة) دورًا مهمًا في توطين أدب الأطفال الناشيء الجديد. ويضاف إلى هؤلاء الرواد الأخوين الألمانيين غريم، اللذين جمعا التراث الشفوي الشعبي الألماني، فعرفنا منهما: قصة بياض الثلج والأميرة النائمة وغيرها الكثير. بعد هذه النهضة في أدب الأطفال في القرن السابع عشر والثامن عشر انتشر أدب الأطفال في الغرب، أمّا في بلادنا العربية، فكانت الإرهاصة الأولى عام 1875 مع المفكر الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي بعد بعثته إلى فرنسا، فاقتبس وترجم إلى العربية: ( حكايات الأطفال وعقلة الأصبع) وعمل على إدخال قراءة القصص في المناهج الدراسية للأطفال وأصدر كتابه: (المرشد الأمين للبنات والبنين). لقد آمن الطهطاوي باحتياجات الطفولة الفكرية والعاطفية والخيالية وكأنّه يجمع ما بين مذهبي لوك وروسو. ولحق الطهطاوي بهذا التصوّر لفعالية أدب الأطفال في تهيئة الظروف الثقافية والتربوية لنشأة الأطفال، السياسي المصري مصطفى كامل الذي قال في مجلة: (المدرسة): “ولمّا كان أسمى غرض لنا، هو تهذيب الأحداث، فقد عزمنا على أن ندرج في كلّ عدد من أعداد جريدتنا، نشيدًا أو نشيدين على نمط السلامة والتهذيب التام، حتى أنّه بعد مضي خمسة أو ستة أشهر يمكننا أن نجمعها في كتاب نضم إليه بعض الشذرات والمحاورات المفيدة، يكون قاعدة عريضة أساسية لتهذيب الأبناء، وإنّا لا نعدم في ذلك العمل مساعدة الفضلاء والأدباء والشعراء” وللأسف لم يصدر من مجلة المدرسة سوى أعداد قليلة ومن ثم توقّفت.
لقد افتتح الطهطاوي مسيرة أدب الأطفال، ولحقه مصطفى كامل، فجاء بعدهما محمد عثمان جلال الذي لاءم أشعار وحكايات لافونتين للأطفال مع اللغة العربية في كتاب جاء بعنوان: (العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ). وتتالت بعدها الإصدارات، فها هو أمير الشعراء أحمد شوقي يخصّص في ديوانه: (الشوقيات) فصلًا للحكايات والقصص الشعرية للأطفال، حيث كتب في مقدمة ديوانه: “جرّبت خاطري في نظم الحكايا على أسلوب لافونتين الشهير… فكنت إذا فرغت من وضع أسطورتين أو ثلاث أجتمع بأحداث المصريين وأقرأ عليهم شيئًا منه، فيفهمونه لأوّل وهلة، ويأنسون إليه ويضحكون من الكثرة، وأنا استبشر لذلك، وأتمنّى لو وفقني الله لأجعل للأطفال المصريين، مثلما جعل الشعراء للأطفال في البلاد المتمدنة من منظومات قريبة المتناول يأخذون الحكمة والأدب من خلالها على قدر عقولهم”. على الرغم من هذه الولادة المشجّعة، إلّا أنّ المجتمع لم يكن مستعدًا بعد لاستقبال أدب الأطفال، فقد تخلّى شوقي عن محاولته الرائدة بأن يكون هناك أدب للأطفال، كما في أشعار وقصص لافونتين الذي قدح لديه شرارة الكتابة للأطفال. للأسف ظل أدب الأطفال العربي يمتح من أدب الأطفال في الغرب حتى يومنا هذا، مع أنّ في تراثنا الكثير من المصادر المناسبة لأدب الأطفال والتي استلهم منها الغرب بعضًا من أشهر قصص الأطفال. وفي نفس الأجواء اللامبالية بأدب الأطفال والرافضة له تعرضت قصيدة معروف الرصافي التي وجهها للأطفال (تنويمة الأم لطفلها 1923) والتي نشرت في مجلة (المرأة الجديدة) لانتقادات من بعض الشعراء وعلى رأسهم جميل صدقي الزهاوي، لكنّ أدب الأطفال الذي كان يحبو مع شوقي أصبح ناضجًا مع كل من محمد الهراوي وكامل كيلاني. لم يكن أدب الأطفال مع الهراوي شأنًا استثنائيًا يراوده بين الفينة والأخرى، بل أعطاه الكثير من وقته وإبداعه، فأصدر العديد من كتب الأطفال: (سمير للأطفال البنين، ثلاثة أجزاء. كذلك أصدر بالمثل للبنات، وديوان الطفل الجديد، ورواية الذئب والغنم، وديوان الشعر الديني: أبناء الرُّسل) وكانت هذه الأعمال مزيّنة بالصور؛ صفحة للقصة أو الشعر، تقابلها صفحة للرسم تعبّر عن مضمون القصة أو الشعر، لذلك نالت قبولًا كبيرًا بين الأطفال. وبالمثل كان كامل كيلاني رائدًا له بصمته الخاصة في أدب الأطفال، فقد اقتبس وترجم من الآداب العالمية من مثل (روبنسون كروزو ومغامرات جاليفر) ومن الآداب المحلية كألف ليلة وليلة، وكان أول من ألف مكتبة للطفل جمع فيها ما يربو على مائتي قصة تمثل مراحل الطفولة كلها.
بدأ أدب الأطفال ينتشر في كل البلاد العربية، ففي لبنان أصدر الأب نيقولا المخلّص كتابه: (أمثال لافونتين) والذي تضمّن على مئة وثماني عشرة خرافة من قصص لافونتين في نظم شعري. أمّا في العراق، فلم تثن الانتقادات التي وجهت للشاعر معروف الرصافي من إبداع بعض أشعار الأطفال التي نشرها كقصيدة: (الشمس والرفق بالحيوان).
تأخر أدب الأطفال في سورية عن أمثاله في بعض البلاد العربية حتى ستينيات القرن المنصرم فكتب القاص زكريا تامر مئة قصة للأطفال، فيما سليمان العيسى أصبح شاعر الطفولة في سورية والوطن العربي وكان لهزيمة حزيران عام 1967 الأثر الأكبر في ذلك. يقول الشاعر سليمان العيسى مبينًا الغاية من كتابته للأطفال: “وذات يوم أفاقت أمتنا العربية على كارثة من كوارثها المتلاحقة، على نكسة حزيران. في هذه الزوبعة السوداء الخانقة التفت إلى أدب الأطفال، رأيت في عيونهم غد الأمة العربية ومستقبلها، فتساءلت: لم لا أتوجّه إليهم؟ لم لا أكتب إليهم؟ لم لا أنقل إليهم همومي كلها”. أمّا في منطقة الخليج فقد كانت النشأة الأولى لأدب الأطفال مع الشاعر السعودي طاهر زمخشري، فقد أصدر عام 1959 (مجلة الروضة) وكانت مميزة في حلتها بالرسوم والألوان. بينما في الكويت كانت مجلة (سعد) للأطفال عام 1969 ثم لحقت الدول العربية بأشقائها تباعًا.
ظلّ أدب الأطفال إلى حدٍ ما كغيمة صيف منذ ولادته على يد رفاعة الطهطاوي، لكن بعد سبعينيات القرن العشرين، أصبحت الكتب والمجلات المختصة بالأطفال منتشرة في جميع البلاد العربية، لكنّ الحراك النقدي الذي يضع ما كتب للأطفال تحت مبضع النقد، فقد جاء هو الآخر متأخرًا. وقد كانت أول بشائر النقد المختص بأدب الأطفال على يد الباحث المصري محمد لطفي في خمسينيات القرن الماضي، وقد بيّنت دراسته الأسباب التي تؤدي إلى صعوبة أو سهولة المادة الأدبية المقدمة للطفل، كبُعدها عن مجال خبرته، أو أن تقدم له بكلمات غير مألوفة له بعد، ويضاف إلى ذلك تعقيد تركيب الجمل. وقد أوصت الدراسة بضرورة توخّي السهولة في المادة الأدبية المقدمة للطفل مع تبسيط المعجم اللغوي، وتتالت بعده الكتب النقدية عن أدب الأطفال.
الآن، وقد خطونا في العقود الأولى للقرن الحادي والعشرين، حيث تطور أدب الأطفال العربي كثيرًا، ورصدت له الأموال، واعتنت به الدول العربية، ومنحت له الجوائز، يظلّ السؤال مطروحًا؛ لماذا لم نجد بعد قصصًا عربية أو أشعارًا ذات تأثير كبير واستمرار في تلبية ما يحتاجه أدب الأطفال من جيل لجيل، كما في بلاد الغرب؟ فأكثر ما نذكره نحن كمشتغلين في الحقل الأدبي، بحكم اهتمامنا، من قراءات طفولتنا؛ هي قصص غربية الطابع، وإن كان منبتها عربيًا على سبيل المثال (سندباد). للأسف لا يوجد أدب عربي للأطفال، من حيث التأثير والاستمرارية، أمّا ما يصدر وما يتم الاحتفاء به، فهو أقرب لزوبعة في فنجان سريعًا ما ينسى! لربما من أهم البرامج التي حصدت شهرة واسعة في طفولتنا كان برنامج (افتح يا سمسم)، وهو برنامج تم تهيئته عن مسلسل غربي ليكون مناسبا للطفل العربي؛ مع أنّ النهضة الغربية لأدب الأطفال استندت في بعض نواحيها على ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، اللذين كان لهما صداهما الحاسم على لافونتين وهانز كريستيان أندرسن وغيرهم. لا يبدو الجواب مستحيلًا، فما ينقص أدب الأطفال في منطقتنا العربية ليس الإبداع ولا متلقيه من أطفال، بل طبيعة الوسائط، فالتلفزيون والسينما مازالا يعتمدان على منتجات الغرب من أدب الأطفال، بينما اختصّت الوسائط الورقية بمنتوج الأدب العربي والفرق واضح في التأثير والأهمية بينهما، وخاصة إذا أخذنا معيار نسبة القراءة القليلة في مجتمعاتنا العربية.
لقد نشأ أدب الأطفال في الغرب مبكرًا واستخدم الوسائل المتاحة وخاصة الورقية في ذلك الزمن، لكنّه سريعًا ما ركب موجة السينما ومن ثم التلفزيون وبعدها وسائط الميديا المختلفة، في حين ما نزال في عالمنا العربي نعتمد على الورق، والمعلوم أنّ هذا الوسيط خفَتَ شأنه مقابل الشاشات من تلفزيون وسينما وموبايل، والتي يجب اعتمادها لتثقيف الأطفال وتقديم أدب يمنحهم المعلومة والمتعة والتربية الصحيحة، لكن هناك نقطة مهمة يمكن أن نستلهمها من تجربة شارل بيرو ألا هي، بأنّ جمهور الأطفال له الباع الأكبر في صناعة أدبه، فهل كان الأطفال العرب في امتناعهم عن صناعة الخلود لقصص وأشعار عربية كتبت لهم، يمارسون حكمًا نقديًا؟
باسم سليمان
كاتب من سورية

November 4, 2024
فنّ القصّة أنْ تجعلَ الحبّة قبّة والقبّة حبّة – مقالي في مجلة (أقلام العراقية الفصلية لعام 2024- عدد خاص بالقصة القصيرة في العراق)- باسم سليمان
عندما قرأتُ جملة محمود درويش: “هَزَمَتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعُها” وكان ذلك قبل الحرب السورية أملت شفتي ومططتُ السفلى علامة التبرّم، وهمستُ لنفسي المتهكّمة: (يا رجل -قاصدًا محمود درويش- أ ينقصنا جملٌ خلّبية في عالمنا العربي الذي يمتد من الملح إلى الملح!) لكن بعد لحظة تداركت سذاجتي، بعدما لاح لي طيف شهرزاد وهي تجعل من فنّ القصّ أسلوبًا للنجاة، يضارع الفانوس السحري الذي يستجيب للأمنيات، والسيف الذي يقطع رؤوس الحيّات، والشجاعة التي هي وقود المغامرات. ففي الكثير من الحكايا يتوقّف نجاة إحدى شخصياتها على قدرتها على قصّ حكاية مقنعة وجميلة، تقنع المستمِع، أ كان: (السلطة- القاتل – المارد- الوحش…) بأحقية بقائه على قيد الحياة.
إنّ حقّ الدفاع الذي ثبّتته الدساتير لكلّ شخص في العصور الحديثة، قد أثبتته شهرزاد قبل ذلك بكثير في لياليها. إنّ الفنّ والأدب يكمن جوهرهما في حقّ الدفاع عن الحياة. وقد يقال بأنّ الفنون والآداب تهدف إلى الجمال والمتعة واللذة والمعرفة… لكن ذلك لن يكون من دون الحياة في مقابل الموت وأشكاله العديدة من الحرب إلى الديكتاتور، فبالحياة نعيش وندرك الجمال والمعرفة والمتع واللذات. من هذا المنظور كان سمت النقد الذي تم اعتماده في مقاربة أربع مجموعات قصصية عراقية كُتبت ما بعد الألفية الثالثة، وذلك بإظهار توقها إلى الحياة وقدرتها على تفكيك آليات الموت المديدة في العراق. يعلق الفيلسوف لودفيغ فيتجنشتاين على موضوعة (التعاريف) التي هي ركيزة في العلوم والفلسفة والآداب والنقد؛ كونها تساعد على ضبط المفاهيم؛ بأنّ التعاريف مفاهيم مفتوحة مرتبطة بزمن معرفي معيّن، فإن تغيّر الزمن تغيّر التعريف؛ وعليه أتى العنوان الرئيس لهذه المقاربة، لأنّه عادة ما تعرّف القصة القصيرة، بأنّها نموذج للتكثيف وأخذ شريحة معينة من مجرى الحياة ومعالجتها. ويضاف إلى ذلك بأنّ القصة القصيرة تكره الإطناب وتميل إلى الإيجاز وذلك استنادًا لتقعيد إدغار آلان بو، بأنّ القصة يجب أن تُقرأ في جلسة واحدة. الغريب في هذه الصفات للقصة القصيرة، بأّنّها وضعت بعدما ظهرت الرواية وقياسًا عليها؛ مع أنّ القصة أسبق زمنيًا. ولربما أتتها هذه الصفات من المساحة المعطاة لها في الجرائد. مهما يكن، ليس هذا هو مقصدنا في تعريف القصة القصيرة، بل تبيانًا للعنوان الرئيس لهذه المقالة، فالقصة تكون أحيانًا، أن تنتشل الإبرة من كومة القش، وأحيانًا أخرى إعادة إلقائها في كومة القش، ففنّ القصّ يحتمل كل الصفات التي نسبت إليه والتي لم تنسب! والأهم أن يكون دفاعًا حقيقيًا عن الحياة كما قعّدته شهرزاد.
صانع الحلوى عندما تجلب العالمية إلى عتبة بيتك:
يقول الشاعر رسول حمزاتوف: “العالمية تبدأ من عتبة بيتي”. يا لِجمال هذه الجملة، إلّا أنّه في زمننا الحالي من الأفضل أن تُقال على هذا المنحى: (العالمية تبدأ عندما تحطّ رحالها على عتبة بيتي) فهل أخطأ حمزاتوف؟ إنّ السبب الذي دعانا إلى هذه المعارضة، يكمن في رومنسية جملة حمزاتوف التي ينقضها الحدث! والحدث في زمننا الحالي تصنعه ماكينات إعلامية سياسية ودينية واقتصادية وليست ماكينات جمالية أبدًا، فما ترفضه تلك الماكينات يقصى من الوجود وما تثبته يصبح هو الوجود. ولكي تصبح العالمية هي عتبة البيت، يجب أن تكون حدثًا يسلّط عليه الضوء، أكان مهمًا أو تافهًا، وهنا يكمن دور الفنّ بأن يجعل العالمية تبدأ من عتبة بيت رسول حمزاتوف، بأن يجعلها حدثًا جماليًا؛ وهذا ما قصده حمزاتوف. من هذا المنطلق ذهب ميلان كونديرا للتكلّم عن معرفية الرواية وأخلاقيتها التي تكمن بالذهاب إلى المسكوت عنه وغير المكتشف، أي أن تجعل الحدث المغفل عمدًا في بؤرة الاهتمام. ومقولة كونديرا تنطبق على جميع الفنون، ولربما يكون فنّ القصّة أكثر ملاءمة لأنّ جوهره يقوم على الحدث الذي يُقتنص من نهر هيراقليتس ليقال مرّة أخرى، ويتم تثبيته كشجرة على مجرى النهر. هذه المعادلة نلحظها في المجموعة القصصية (صانع الحلوى لعام 2017) لأزهر جرجيس، لأنّ نهر الأحداث في العراق سريع الجريان بحيث تمحو آثار حرب حربًا أخرى سريعًا، فمن الحرب العراقية الإيرانية إلى الاحتلال الأمريكي، إلى داعش، يتكرّر القتل والسجن والاختفاء والهجرة. وكما قال عزرائيل في قصة (بريد عزرائيل) من المجموعة: “أنتم أكثر شعوب الأرض تعاملتُ معهم بالجملة لا بالمفرد” يقصد العراقيين. هذا التكرار يقتل الحدث في القصص عندما يتكرر آلاف المرات، محوّلًا النهر إلى مستنقع، وهذا ما حاول جرجيس جاهدًا رفضه وإنقاذ الحدث من التعفّن، وجعله غير عادي، لأنّ العراقي والسوري واليمني والليبي على سبيل المثال إن كلّمته عن الموت تثاءب، يا للفاجعة! وإن حدّثته عن الحياة أصابته الدهشة والعجب. هذا الواقع العراقي المصمت الذي يقاربه جرجيس يصبح من الصعب جدًا اقتناص الحدث القصصي فيه، ففي قصص المجموعة على سبيل المثال: (الكوخ الهنغاري- وجه النحس – يوم أسود، وأشباهها من المجموعة) نكتشف هذا المصمت الذي لا يعني القارئ العراقي وأشباهه، بل يعني قارئًا يحتاج أن يرطّب سلامه ببعض أجواء الحرب، وأين شبيه هذا القارئ في تلك البلاد! ففي قصة (الكوخ الهنغاري) تحوّل عجوز المهاجرين إلى أقزام بعد نقعهم ببول الحمير، ليصبحوا أقزامًا للتسلية في سيرك العالم الغربي. وفي قصة (وجه النحس) يتم سرد ولادة طفل عراقي في أول يوم من الحرب العراقية الإيرانية وكيف كان نحسًا على كل من عرفهم. وفي (يوم أسود) يسرد جرجيس كيف تحوّل الحلّاق اللوطي الذي حاول اغتصاب الصبي الذي يشتغل معه في محل الحلاقة إلى داعشي يقطع رقاب الناس بتهمة الردّة، وقد كان من بين المحكوم عليهم بالموت الداعشي ذلك الطفل الذي هرب من الحلاق اللوطي؛ والقارئ يحقّ له التساؤل! وما نفع تكرار حبكة شهرزاد، بأنّه تم إيجاد الخاتم الذي ضاع في بطن السمكة!
قد يبدو ما تقدّم تجنّيًا على القاص أزهر جرجيس صاحب اللغة القصصية المميزة جدًا والسرد المتتابع كأحجار الدومينو والحبكات الذكية! إلّا أنّه كان السبب في منحى هذه المقاربة؟ بعدما قدّم في مجموعته (صانع الحلوى) قصتين رائعتين يجب احتذاءهما في فنّ القصّ في تلك البلاد التي أكلت الحرب ماضيها وحاضرها ومستقبلها. والأولى هي (صانع الحلوى) يقص جرجيس عن ذلك العراقي المدعو حنا العراقي، والذي كان يحلم أن يصبح سينمائيًا بعدما دارت في رأسه بكرة الشريط السينمائي وهو يرى أمّه تدفن رأس أبيه الذي وجداه مقطوعًا ومعصوبًا بخرقة مكتوب عليها: “كافر”. وتتساقط الأيام ويهاجر حنا إلى هولندا حاملًا معه جمجمة أبيه وكلّه أمل أن يصبح سينمائيًا، لكنّ الهولنديين السعداء يكرهون سيرة الحرب، فما العمل؟ فكر حنا بطريقة يجعل فيها الهولنديين حزانى، فما كان منه إلّا أن أتصل بأمّه هاتفيًا، وسأل عن الحلوى التي تقدّم في أيام العزاء: (سمن وسكر وهال ونشا) أجابته أمّه. بدأ بصناعة الحلوى في قدر كبيرة وضع فيها المكونات ومن ثم أسقط جمجمة أبيه في القدر، ليصيب الهولنديين بالحزن. ذاع صيته وانتشر وأصبح ماركة مسجلة في الحلويات. وفي إحدى المرات يأتيه اتصال ليحضر طلبية من تلك الحلوى إلى أحد البيوت. وبعد أحداث تكشف له إحدى النساء عن سرّ الإعجاب بحلواه، فالنساء الهولنديات اكتشفن بأنّ هذه الحلوى تسبب الحزن، لذلك كن يحتلن لإطعامها لأزواجهن وعشّاقهن الذين يهجرونهن، فيصابون بالحزن؛ ولا يداوي الرجل الحزين إلّا امرأة، فيعودون إلى نسائهم بعد هجرهم. هكذا أخبرته إحدى السيدات الهولنديات بعد أن أطعمته الحلوى وقادته إلى السرير بعد إصابته بالحزن. لكن صانع الحلوى لا يقع السحر عليه، هكذا أخبر حنا تلك السيدة التي فتنته، والتي رأى فيها بطلة السيناريو الجديد الذي سيقدّمه إلى لجنة السينما بعنوان: (صانع الحلوى) ليخرجه سينمائيًا. بهذه الطريقة أظهر جرجيس في هذه القصة المميزة جمالية مقولة: “السّم في الدسم” التي يعيشها المهاجر العراقي وهو يتذوّق الديمقراطيات الغربية. أمّا القصة الثانية، فهي (بشارة الغراب) والتي يسرد فيها جرجيس معاناة المهاجر في بلاد الغربة. يقصّ جرجيس عن عراقي كان أنفه كبيرًا، وذلك يشي بأنّه كان يدسّ أنفه فيما لا يعنيه في بلده، لذلك انتهى مهاجرًا. لقد رغب ذلك العراقي بأن يجري عملية تجميل لأنفه الكبير، لكن كان لديه فوبيا من العمليات الجراحية بسبب أنّه قد تعرض في صغره لعملية في القلب. وحدث وهو عائد إلى بيته في تلك البلاد الشمالية البعيدة التي تتفاءل بالغراب عكس بلاد شرق المتوسط، بأن صفق الغراب بجناحيه مخبرًا إياه عن بشارة قادمة، فتطيّر حنا منه. يتعرّض صديقنا العراقي إلى عملية اختطاف من حسناء ماجنة لينتهي في غرفة عمليات، فيظن أنه قد أصبح بنكًا للأعضاء البديلة وهذه العصابة ستأخذ أعضاءه، فيبدأ بتعداد مساوئ أعضائه من قلبه إلى عينيه وكليتيه، لكن فتيات العصابة أنكرن أن يكون ذلك مقصدهن بكل أدب حتى ظنّ أنّهن سيستأصلن عضوه الذكري، وشعر بالأسف أن يفقده في بلد يشح فيه الذكور! لكن عصابة الممرضات أخبرنه أنّهن لا يردن منه شيئًا غير إجراء عملية تجميل لأنفه، لأنّ جارته العجوز أخبرت السلطات بأنّ جارها المهاجر لديه أنف كبير يستهلك ما نسبته 65% من الهواء المتاح للتنفس، ويجب تصغيره من أجل أن يخف استهلاكه وذلك لصالح البيئة. لا تحتاج هذه القصة إلى شرح لأنّ ذلك سيفسد جمالياتها، بل إلى التأمّل والتأمّل فقط، فنزار قباني قد قال: “الصمت في حرم الجمال جمال” أي إدراك للجمال. هاتان القصتان تعبران عن أدب الحرب أكثر بألف مرّة من كل قصص المجموعة المملوءة بالسحل والقتل والدماء والتي تخاطب قارئًا، ليس عراقيًا ولا سوريًا ولا… وهاتان القصتان من تجعلان العالمية تبدأ من عتبة بيت العراقي.
الخزرجي في نزوحه إلى الممكن: لا للمتن، نعم للهامش:
لنا أن نفترض، بأنّ فنّ القصة يختصّ بمحورين؛ الأول: تركيزه على الحدث قصدًا، أي جعله في مركز منظور القصة، وهذا هو المعتمد غالبًا. والثاني: إغفاله للحدث عمدًا وتشتيته عن المنظور، وهو يعتبر استثناء لا تسلم عواقبه، لكنّه أكثر إبداعًا. وإذ ابتدأنا بهذا الفرض النقدي، فذلك لكي نلقي الضوء على أسلوبية القاص ميثم الخزرجي في مجموعته (النزوح نحو الممكن لعام 2020) والذي نحا باتجاه تشتيت مركزية الحدث القصصي. هذه المخاطرة في قصص الخزرجي كانت ضرورية، فالحروب المديدة التي عاشها العراق جعلت من الحرب، هي المتن الديكتاتوري الذي لا يسمح بأيّة هوامش أخرى أن تقال. ومن هنا جاء لجوء الخزرجي إلى الهامش المتبقي عن مركزية الحرب لربما ينسج صوتًا آخر للحياة.
في القصة الأولى (جمال مضمر) من المجموعة، والتي تتكلّم عن التحاق مدرس للغة العربية من بغداد بإحدى المدارس الريفية، نتذكر الواقعية الاشتراكية التي اكتسحت السرد العربي قبل الهزيمة الساحقة الماحقة للعرب من قبل الصهاينة عام 1967، فالمدرس مفعم بالأمل كذلك المدرسون الآخرون والطلاب أيضًا الذين يحلمون بأن يصبحوا أطباء ومهندسين ورسامين على الرغم من الواقع الصعب، فالمدرسة مبنية من حجر وطين والطرقات غير معبدة ووسائل النقل في تلك البلدة الريفية ما زالت عبارة عن عربات تجرها الأحصنة أو الحمير كانت تعرف بـ(الربلة) وهي من بقايا الاستعمار البريطاني. إذن نحن في زمن يعود إلى ما قبل سبعينيات القرن العشرين. تبدو قصة (جمال مضمر) شاذة وغير منطقية، لا أسلوبيًا ولا فنيًا، ونحن نغذ الخطا في القرن الواحد والعشرين وبعيدة عن ذاكرتنا التي لم تعد تستوعب إلّا الحرب في العراق؛ حالنا كحال (عناد الدفّان) في قصة (سادن المقبرة) في ذات المجموعة، فلكثرة الموت في العراق لم تعد ذاكرة عناد الدفّان الذي يعمل حفار قبور وحارسًا للمقبرة قادرة على تذكر الأحياء، فالموتى شغلوا مساحة ذاكرته كلّها.
هذا الشذوذ الأسلوبي الذي يمتح من الزمن الجميل! الذي قدمه الخزرجي في قصته (جمال مضمر) يضمر بأنّه كان يومًا هو الأصل أو هو الحلم المشتهى، كما الطفل الذي قدم لوحته لمعلم اللغة العربية ورأى فيها المعلم: “… أمعنت النظر إلى الرسم، تدرجت بأنظاري إليه وعن ماذا يتحدث، لتنجاب إلى مخيلتي بأنّه بادر إلى اللحاق بالأمل برسم مدينته الوادعة واستحضار معالمها من البنايات الفقيرة والشوارع المهملة ولكن بصورة ترتقي بالبشر”. فما الذي تغيّر حتى تصبح قصص الخزرجي فيما بعد عبارة عن كوابيس واقعية؟
تتابع القصص بعد قصة (جمال مضمر) لتسمح للقارئ باستيعاب تلك (السقطة) الفنية، وأنّها مجرد تشتيت مقصود لانتباه القارئ من قبل القاص، لتتضح له المقارنة بين ما كان يُؤمل من الحاضر وما انتهى إليه المستقبل. ففي قصة (غصّة كونية) تتبدّى مجزرة سبايكر، كأنّها غصّة في حلق العراق على الرغم من تاريخه وحاضره المليء بالموت والدماء. وكأنّه بعد كل هذا الموت مازال هناك موت أعظم. يسرد لنا الخزرجي في قصته، كيف نجا أحد الجنود بمساعدة أحد سكان تكريت؛ ملمحًا إلى أن (داعش) ليست تجليًا لصراع مذهبي، فقد عرضت داعش شريطًا مصورًا لإعدام مجموعة من أهالي تكريت كانوا قد ساعدوا الجنود العراقيين في قاعدة سبايكر بالهرب، كان من بينهم ذلك السائق الذي ساعد الجندي على الهرب ليعود إلى أهله في ميسان ذات الأكثرية الشيعية.
يبتعد الخرزجي عن المتون، ويتجه نحو الهوامش، حتى يكاد خيط السرد يغيب ويتقطّع ويؤذن بأنّ القاص قد أضاع بوصلته، لكن مع تشتت الواقع والمنطق في الحروب المديدة، لا ريب أنّ هذه هي الصورة الوحيدة الممكنة للتعبير والتي يمكن للسرد أن يتخذها، ففي قصة (حكاية قرية) وهي جوهرة المجموعة لما تحمله من مضمرات لا تتكشّف إلّا في اللحظة الأخيرة. كان محمد السلطان يدير مصنع أبيه جابر السلطان للبلاستيك بعد أن أقعده المرض، ولم يكن جابر إلّا ذلك الإقطاعي الذي أذاق أهل القرية المرار وصولًا لاغتصاب بناتهم وقتلهم وتهجيرهم. لم يكن جابر السلطان واثقًا بابنه محمد، ويجد في العامل سلمان المشغلجي عينه اليقظة على ما يحدث في المصنع. تعرض لنا القصة التوترات بين شخصياتها، فــ(فدعم) رجل محمد السلطان في المعمل يكره سلمان المشغلجي وعندما يعرف أنّه يلتقي بالعاملة رقية، يدبر مكيدة بأن يجعل محمد السلطان يستدعي رقية لكي ينال منها مأربه. وفي الوقت نفسه يخبر سلمان بأنّ المدير يريده. يحاول محمد السلطان الاعتداء على رقية تحت غطاء ضجيج الآلات في اللحظة التي يدخل فيها سلمان مكتبه، فيهجم عليه ويقتله، ولكن قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة يطلق النار عليه، فيموت كل من محمد وسلمان ليصرخ فدعم: “لقد أخذت بثأرك يا عم”. تتكشف خيوط حبكة القصة؛ لنكتشف أنّ سلمان هو ابن إحدى عاملات المصنع التي اعتدى عليها جابر السلطان من ثلاثين سنة، لكنّه لم يعترف به، مع أنّ عواطف الأبوة كانت واضحة في جعله عينه اليقظة في المصنع! لقد كان حاتم الصكر عمّ فدعم عارفًا بتلك الجريمة، ولأجل ذلك حرق جابر السلطان بيته وعائلته. لقد ثأر فدعم أخيرًا، لكن المتن الحقيقي للقصة والذي واراه الخزرجي، يكمن في قصة تلك العاملة التي اغتصبها جابر السلطان وأنجبت منه سلمان مضافًا إليها رقية التي خسرت حبيبها ومستقبلها، فلن يرضى عنها جابر السلطان بعدما تسبّبت بمقتل ابنه الشرعي وابنه غير الشرعي. قد يشعر القارئ بالرضا لتحقّق الثأر، لكن ماذا عن الضحايا من النساء في هذه القصة؟ فليس لهن اعتبار، فلم يصرخ فدعم بأنّه ثأر لتلك الصبية التي اغتصبها جابر السلطان، بل لأجل عمّه حاتم الصكر/ الذكر، وذلك لأنّ حكاية تلك الأنثى، ما هي إلّا قصة شعب العراق، فلا أحد يبدو أنّه يفكر بالثأر له!
ما أراده الخزرجي من أسلوب إغفال الحدث الجوهري في قصصه، أو التشويش عليه، أن يقول بأنّ، القصة الحقيقية خارج الإطار، ولكي تقرأها بطريقة صحيحة عليك التفكير خارج صندوق السرد. لكن لابد من القول أنّ بعض القصص في المجموعة فقدت بوصلتها، في مقابل قصص أخرى كانت مميّزة كقصة: (إعلان سر!) التي تبحث في السبب الذي يدفع أمًا لتلقي بفلذة أكبادها في النهر ليموتوا.
حدود الإبداع وشبهة التقليد:
يقول المتنبي في تعليقه على تشابه بعض أبيات الشعر بين الشعراء: “بأنّ الحافر يقع على الحافر” ويبقى الفيصل قدرة الشاعر على تجاوز التناص بينه وبين شاعر آخر، عبر أخذ الصورة المشتركة إلى أمداء أخرى أكثر إبداعًا. والتناص كما تشرح جوليا كريستيفا، بأنّه لا مناص من وقوع التناص، فالوقائع المتشابهة ستؤدّي إلى سرود متشابهة. وإذا وجّهنا الرؤية نحو فنّ القصّ الأكثر محايثة للظروف المتشابهة بين البشر، فوقوع التناص فيه أكثر من الرواية التي تبتلع التناص، فهي كالبحر تبتلع كل مياه الأنهار العذبة المختلفة المنابع، وتحوّلها إلى مياه مالحة. ليست هذه المقدمة اتهامًا للمجموعة القصصية: (بين السبابة والإبهام لعام 2023) للقاصة ميرفت الخزاعي، بوقوعها في تناصات عديدة مع قصص أخرى، ففي قصة بعنوان: (ترويض) حيث يسرد الطائر الجارح الصقر كيف تم أسره وترويضه على الرغم من مقاومته، ليصبح في النهاية الطائر الجارح تابعًا لسيده، يأتيه بالطرائد شاعرًا بالزهو والفخر. هذه القصة تحيلنا إلى (النمور في اليوم العاشر) للقاص زكريا تامر وتدفعنا بالقوة إلى المقارنة! وفي قصة: (تحوّل) عن أنثى بوجه مشعر تُستخدم للعرض في السيرك لغرابتها. تحيلنا هذه القصة إلى أحداث واقعية حدثت في القرن التاسع عشر عن سيدة مكسيكية مشعرة الوجه تدعى (جوليا باسترنا) استخدمها سيدها في عروض السيرك! وفي قصة: (العرافة) تومض في رأسنا قصة القرد والغيلم في كليلة ودمنة! لم أكن في وارد عرض التناصات في المجموعة القصصية مع بقية السرود القصصية المشهورة، لولا أنّ القاصة الخزاعي ذكرت في إحدى قصص المجموعة وهي بعنوان: (لصّ الأفكار) بأنّ بطلة القصة هيفاء تعاني من سرقة أفكارها، فما إن تومض فكرة حتى تجدها على صفحات التواصل الاجتماعي!
نعم! يحدث التناص كثيرًا في الفنّ القصصي، وعلى القاص أن يكون أكثر إبداعًا لينجو من هذا المأزق. وهذا ما سنجده في نماذج من قصص الخزاعي مهما تناص معها القاصون الآخرون سيبقى لها قصب السبق. ففي قصة: (اِنكسار) تكتشف الفتاة بأنّ مقولة أمها: (أخذ الشّرّ وراح) هي الحل للقضاء على الشّرّ في العالم. فهذه الجملة التي ترددها أمها كلما كسرت آنية زجاجية هي المفتاح لقمع الشّرّ. هكذا بدأت الفتاة بكسر أواني البيت الزجاجية، لتكسر الشّرّ. ولكي تتجنب غضب أمها أخذت تعوضها بأواني بلاستيكية (فايبركلاس). كانت الفتاة تشعر بفرح غامر وهي تكسر الأواني الزجاجية، فبذلك سيتضاءل الشّرّ في العالم، ولذلك بدأت بشراء الزجاج وكسره حتى نهضت تلة من قطع الزجاج، لكن الشّرّ لم ينقص في العالم، بل ازداد وانتشر. وهنا تتنبّه الفتاة إلى أنّ الإناء الذي يجب أن يكسر هو القلب، فلو لم تكن القلوب فاسدة لما ازدهر الشّر. ولأنّها لا تستطيع أن تقتل أحدًا لطيبتها، أخذت سكينًا وطعنت قلبها الذي تشظى إلى قطع بلورية تناثرت كأزهار حمر فوق جبل الزجاج. تحيلنا مقولة (أخذ الشّرّ وراح) التي نتلفظها في مجتمعاتنا العربية بكثرة إلى فنّ (كينتسوكوروي) الياباني الذي يعني إصلاح الأواني المكسورة بالذهب. لا ريب بأنّ المعالجة اليابانية أكثر حضارية وإنسانية من مقولتنا العربية (أخذ الشّرّ وراح) لكن فتاة قصة اِنكسار ذهبت إلى مكمن الشّرّ أي القلب، فإن صلحت القلوب سيتوقّف الشّرّ- لكن هيهات- عن كسر زجاج حياتنا ولا حاجة لإصلاحه بالذهب.
يقول محمود درويش: “عَلَى هَذِهِ الأرْضِ مَا يَسْتَحِقُّ الحَيَاةْ” تظهر مقولة درويش قدرة المقاومة الفلسطينية على ابتداع الحياة رغمًا عن أنف الاحتلال، فما الذي حدث حتى ينظر أهل قرية عراقية جاءها أبناؤها شهداء إلى أحد الناجين باحتقار؟ هذا ما تعالجه قصة (سرّ) ليس غريبًا أن يستقبل الشهداء بالزغاريد، لكن أن يُحتقر أحد أبناء القرية، لأنّه نجا من الموت ويتم تعييره بذلك فهذا الغريب؟ كان أهالي الشهداء من هول الصدمة يفسّرون الابتسامة على وجه أبنائهم الشهداء بأنّهم رأوا الجنة، فيقولون للناجي، لماذا لم تلحق بسربك الذي طار إلى السماوات العليا. وبرغم التعنيف من قبل أهل القرية للناجي الوحيد من أبنائهم، إلّا أنّه حافظ على السّرّ، فمن العار أن يفسد بهجتهم باستشهاد أبنائهم. أمّا سّر البسمة التي علت وجه الشهداء، فكانت بسبب غاز الضحك الذي قصفهم به العدو أثناء إبادتهم. تطرح الخزرجي في قصتها تساؤلًا مهمَا، هل نحن حقًا جديرون بأرض لا نراها إلّا ممرًا إلى جنة أو نار. لربما يكمن في هذا التساؤل سرّ فشل النهضة العربية!
وقبل أن نختم هذه الإضاءة على مجموعة ميرفت الخزاعي القصصية من الضرورة القول بأنّ سردها يمتلك الكثير من الرشاقة والخفّة وهذه الميزة من أهم مميزات القصة.
فلسفة التفكيك في : في ضياع في خمسة ميل:
هو عنوان ضخم، وقد يبدو ساخرًا للوهلة الأولى، لكنّه ولِد من إحدى قصص حسن السلمان في مجموعته: (ضياع في خمسة ميل) لقدرتها الكبيرة على الغوص في الغريزة الدينية لدى الإنسان وتفكيك بناها. والقصة المقصودة هي : (الرائية واللصّ) تدور بكرة القصة على لسان طفل صغير مشبع بالتصورات الغريبة عن اللصوص، بأنّهم كائنات مرعبة بهيئة الوحوش، لهم خلقة الماعز وآذان الخفافيش وعيون كالجمر وأنياب كبيرة، هكذا وصفتهم عمّته، ثم يتفاجئ الولد الصغير، بعدما قبض أبوه على أحد اللصوص، وهو يحاول سرقة بقرتهم في ليلة ماطرة عاصفة حوّلت القرية إلى قدر من الطين يغوص فيه كل من يفكّر ببنت خطوة، بأنّ اللصّ هو بشري مثلهم، لا يختلف عنهم بشيء. لقد حدث هذا المطر بعد جفاف كبير أهلك الضرع والحرث، فكان فرحة كبيرة لأهل القرية الذين رفعوا صلوات الشكر لله، حتى جاءهم هذا اللصّ لينّغص عليهم فرحتهم، لكن نعم الله كثيرة، مكّنت صاحب البيت من القبض عليه. يكلّف الولد الصغير مع ابن عمّه بحراسة اللصّ المقيّد في زريبة للغنم، إلى أن يتوقّف المطر حتى يذهبوا به إلى الشرطة، لكنهم منعوا من ذلك مع استمرار سقوط المطر، فعجلات العربة ستغوص في الطين ومن الضروري أن يكون الطريق جافًا. أخيرًا توقف المطر وأصبحت الطرقات الترابية صالحة للعبور، وما إن همّوا بذلك حتى عاود المطر السقوط. أمام هذا الواقع الغريب المتكرّر، استشعرت عمّة الولد وكانت كبيرة العائلة بأنّ المطر يرتبط باللص، فلماذا يعاود السقوط ما إن يهموا بالذهاب به إلى الشرطة، وتكتشف بأنّها لو أبقته سجينًا لديهم لظلت منطقتهم خصبة، بسبب تساقط الأمطار، إلى أن تنتهي القصة، بأن تتحوّل الزربية التي سجن فيها اللصّ إلى الأبد إلى مزار مقدّس، أمّا الطفل فقد كبر وأصبح عجوزًا يخدم زوار المزار.
يبدو ظاهر القصة نقدًا للمنظومة الدينية وهذا صحيح، فتلك المزارات التي ترجى وساطتها مع السماء، وورثتْ تقاليد تقديسها من الأجداد، قد يكون في ضريحها جثة لصّ! لكن في العمق تكشف عن نقد مرّ للمجتمع الذي يخوض في طين الجهل، فهل كانت العمّة على خطأ، حين أصرّت على إبقاء اللص مسجونًا، وهي في منطقة يعتورها الجفاف أكثر الأوقات، استجلابًا للمطر كلّما داهم قريتها الجفاف، لكن لو كان هناك سدود وشبكات للري تسمح بمواجهة الجفاف، فهل كانت ستتصرف العمّة كما سلف؟ وإذا أخذنا جانب الولد الذي قام بحراسة اللصّ واكتشف بأنّه بشري مثلهم، فليس له أذنان كالخفاش ولا أنياب، فلماذا، وهو من الجيل الجديد لم يكسر المقدّس الذي اصطنعته عمّته حتى أصبح سادنًا للصّ، والإجابة بأنّ العلم الذي كشف حركة الأنواء والدورات المناخية لم يدخل المنطقة ليميط اللثام عن تلك الخرافات. أمّا لماذا لم يهرب اللصّ أو يستنكف عن كراماته اللاشعورية، لأنّه هو الآخر وجد في سجنه حاجاته اليومية من طعام وشراب ومأوى، فلماذا الهروب والعودة إلى عالم لا تقوم قائمة للعدل فيه، فلو كان هناك عدل لعوقب الشيخ على فعلته حين طرد عائلة اللص خارج قريتهم. إذن غياب المعرفة والعوز الاقتصادي والعدالة، هو ما يجعل الدين ينحدر إلى الخرافات والأوهام، بعدما كان رحمة سماوية تبسطها السماء على الجميع.
تأتي قصة (محاولة فاشلة لمصافحة العالم) كصدى لرواية كافكا (التحوّل) التي يستيقظ فيها بطل الرواية غريغوري سامسا وقد أصبح صرصارًا، بينما تقوم قصة حسن السلمان على رغبة صرصار بأن يصبح بشريًا، لكنّه بعد إنجازه التحوّل يرتد هاربًا إلى (صرصاريته). عندما كتب كافكا روايته لم تكن القنبلة الذرية قد اخترعت! لكن رؤيوية كافكا للصرصار كحشرة قادرة أن تسكن المجارير، وتبقى على قيد الحياة منحته تحديد صفة التحوّل الذي سينتهي إلى غريغوري الذي يعاني من انحدار مجتمعه، فلا حلّ للتأقلم معه أو النجاة منه إلّا بالتحوّل إلى صرصار. وفي قصة حسن السلمان يرتد الصرصار الذي أصبح بشريًا إلى نفسه لأنّه ألفى بوجوده كصرصار قوة افتقدها بعدما صدمه الزيف الكبير الذي يعيش فيه الإنسان، فيما الطريقة الوحيدة للتأقلم أو النجاة من الزيف البشري تكمن بالعودة إلى هيئته الأولى. وخاصة إذا علمنا بأنّ الصراصير، هي الكائنات القادرة على النجاة من الجحيم النووي، مجازًا وواقعًا!
تدور قصص السلمان في مجموعته في نفس الأجواء، على الرغم من أجوائها الكابوسية، إلّا أنّه هناك رغبة بالحياة لا تهادن على الرغم من الصعاب، أكان في طوفان يعيد تشكيل الحياة كما في قصة (ضياع في خمسة ميل) أو بالتحوّل إلى شبح كما في (الأسطورة) وفي جميع القصص يفكّك المنظومة التي حوّلت البشر إلى موتى أحياء.
تنوّعت اشتغالات القاصين العراقيين، في مقاربة واقع العراق الحديث، فمن الحرب وتداعياتها، وسطوة المخابرات والمعتقلات والهجرة مع أزهر جرجيس، إلى معالجة الواقع الاجتماعي وتخلّفه مع ميثم الخزرجي، وشؤون اليومي وجزئياته مع ميرفت الخزاعي، وزمن الكوابيس مع حسن السلمان، فقد كانوا قادرين على إزاحة الركام عن نبتة الحياة ورعايتها كأمنية متحقّقة، وحلم مفسّر، وتطلّع نحو مستقبل آخر، ليس ابنًا للحاضر ولا حفيدًا للماضي، بل هو نشء جديد يريد أن يجبّ موروثات الحروب والقتل والدماء في العراق، فالعراقي هو جلجامش الذي رأى.
باسم سليمان
خاص مجلة أقلام


October 30, 2024
لقاء معي ع موقع أرب ليت – باسم سليمان
Syrian writer Basem Suleiman was a finalist for the 2024 prize with his story “Zorba’s Dance” (رقصة زوربا). This project is funded by the British Council’s Beyond Literature Borders programme corun by Speaking Volumes Live Literature Productions.
Tell us about a short-story author whose work you particularly admire.
Basem Suleiman: It might be strange to say, but the fables of Aesop, that Greek slave who was described as “an ugly slave, potbellied, warped-headed, flat-nosed, dark-skinned, dwarfish, bow-legged, short-armed, cross-eyed, and cleft-lipped.” And yet he was able to father the short story, along with the wise man Paedia. I want to know how he tamed Greek society and became their wise man through the medium of the story, even though the ancient Greeks despised slaves, so much so that the Roman orator Quantilian, in the first century AD, said that the worst thing that a novice orator encounters is practicing the role of a slave, since the slave has neither literary nor artistic ability, and therefore has no gift for oratory. Yet this is contradicted by Aesop’s stories, which formed one of the foundations of the Greek and Roman culture that came after him, so much so that Socrates recalled these stories hours before his death. This slave, who was represented in Greek statuary, was described by Phaedrus, another slave freed from bondage in Rome and who translated Aesop’s fables into Latin: “The Athenians erected a statue in honor of the genius Aesop. In so doing, they placed a slave in a position of immortal fame. This symbolizes that all men should know that the path of honor remains open to them, and that glory is granted, not on the basis of lineage, but according to merit.” What I mean is that Aesop laid the first brick in the role of literature at the level of the individual and society, which is freedom!
If you were to start a literary prize, what would it be for, how would it be judged, and what would people win?
Basem Suleiman: I would choose an award for the story, as the novel has been chiseled into this historical and artistic role for many reasons, some of which are bad, and yet the story still has a lot to say, and hence I’d choose an award for it that would restore some of its glory. The most important point in my opinion, or as I like the story to be, and which the judges would rely on, is the opposite of what most agree on in defining the short story; that is, that it’s a model of condensation, and that it’s about taking a certain slice of life and processing it. In addition to that, it’s said that the short story hates prolixity and tends toward brevity, based on the rule of Edgar Allan Poe, that the story should be read in one sitting. I see the story as retrieving an invisible and completely neglected moment in time, then extending it in time and space and giving it life, which is the opposite of condensation and brevity. What I mean is that I follow the method Aesop used in the story of the crow who found a jar of water, so he threw pebbles into it until the water level in the jar rose and the crow drank. This story has many interpretations, the most important of which is that it breaks with the arrogant belief that the human is the only creature who has intelligence. As for what prizes I will give the contestants, there is no alternative to money, as money is the first abstract symbolic story invented by man.
Tell us about an opening sentence you find particularly compelling, in any work of fiction.
Basem Suleiman: The opening sentence of Gabriel García Márquez’s novel Chronicle of a Death Foretold: “On the day they were going to kill him, Santiago Nasar got up at five-thirty in the morning to wait for the boat the bishop was coming on.” It is an extraordinary sentence, which undermines all the horizons of expectation on which plot in literary narratives is built, as if this were Alexander, when the Macedonians tested whether or not he was worthy of leadership. They brought before him a rope with a knot that could never be untied and asked Alexander to untie it. Alexander cut it with his sword! And after that, he changed the face of the ancient world. The question that comes to mind after Márquez’s opening is: What can be narrated after that brilliant sentence? But there was much to be narrated after it, and this is true literature that invents its own land from nothing.
Editor’s note: Although Basem shared the quote in Arabic, here, we have used the English translation by Gregory Rabassa.
What author, living or dead, would you like to have on WhatsApp?
Basem Suleiman: Scheherazade!
What advice on writing—that you were told, or perhaps read somewhere—do you find most useless, stupid, or ridiculous?
Basem Suleiman: I’ve never thought about it!
What advice on writing—that you were told or perhaps read somewhere—have you found most useful and nourishing?
Basem Suleiman: I’ve never thought about it!
When did you start writing? Do you remember anything about the first piece you ever wrote, or the place that you wrote it?
Basem Suleiman: My first writings were on the pages of law books at university. They were just poetic lines that had gotten separated from their poems or sentences that were the basis for stories I wrote later. As for the first story I wrote, it was about a fly that befriends a boy with autism.
Tell us about one of the main places where you write. Is it at a desk, on a couch, in bed? At a coffeeshop? Secretly, while at work?
Basem Suleiman: I write anywhere, although on the condition that I feel that I am not visible to anyone, because when I write I feel naked, and it is not appropriate to be naked in front of others!
What is one poem you have memorized that you sometimes recite to yourself?
Basem Suleiman: “المتجردة” by Al-Nabigha Al-Dhubyani.
If this short story of yours was adapted into a film, who would you like to act in it? Do you have any advice for the director, videographer, or costume designer?
Basem Suleiman: The director should be Quentin Tarantino; unfortunately, I don’t like giving advice.
If you were asked to design a bookshop near your home, what would you make sure it had? Comfortable chairs? A hidden nook for reading? Coffee and tea? Something else?
Basem Suleiman: All of the above.
If you were going to write using a pen name or pseudonym, what would it be?
Basem Suleiman: Basem Suleiman.
Where do you find new stories that you enjoy reading? Do you find them in magazines, online, from particular publishers? How do you discover new writing?
Basem Suleiman: In books of history and heritage, that’s where I find the stories I love!
What is your favorite under-appreciated short-story collection?
Basem Suleiman: Just a Kiss, published in 2009 and again in 2019.
Did you have a favorite book, story, or poem as a child or teen? What has its impact on you been?
Basem Suleiman: The illustrated series Treasure Island: Fifteen Men on a Dead Man’s Chest.
If you could change one thing about how publishing works, what would it be?
Basem Suleiman: Nothing can be changed in Arabic publishing as long as the number of readers remains few to none. We need more readers, and then the changes will be constructive.
Basem Suleiman is a writer, poet, and critic from Syria with a BA in Law from Damascus University. He writes for several Arab magazines, newspapers, and websites, and has many published works including two novels: Nokia, published by Dar Lilit in 2014, Egypt, and by Dar Seen in 2018, Damascus; and A Crime in Al-Qabbani Theater / Limit and Suspicion, published by Dar Meem in 2020, Algeria. He has also published stories, including Tamaman Qibla, published by Dar Kiwan in 2009 and by Dar Seen in 2019; and White Butterflies published by Dar Maysaloon in 2003. His most recent poetry includes My Head is Expansive, My Body is Standing, and I Am a Fraction Between Numbers, in the Transformations Series by the Arab Center for Journalism in 2023, Egypt.

October 27, 2024
فيلم باردو، اليقظة التي تسبق الموت! مقالي في مجلة العربية السعودية لشهر تشرين الثاني 2024 -باسم سليمان
مضى عشرون عامًا، كان فيها المخرج أليخاندرو غونزاليز إيناريتو غائبًا عن المكسيك. وكما كان فيلم (Amores perros) عام 2000 السبب في انطلاقته نحو العالمية، وحتى هجرته إلى أمريكا. يعيده فيلم Bardo, False Chronicle of a Handful of Truths)/ باردو، وقائع زائفة لحفنة من الحقائق) لعام 2022 إلى المكسيك. لقد تأسس فيلم أموريس بيروس على مفهوم الصدفة، حيث تتعالق سيرة حياة ثلاثة أشخاص، لكل منهم صيرورة مختلفة، بسبب حادث سيارة يتعرّضون له. كان هذا الفيلم أول حلقات سلسلة ثلاثية، أنهاها بفيلم Babel مرورًا بـــ 21 Grams الذي يعتبر نسخة مطورة عن فيلم أموريس بيروس. يناقش إيناريتو في هذه الأفلام فكرة الخبط عشواء، التي تحكم حيوات البشر من الولادة إلى الموت. وكيف أنّ هذه العشوائية العصية على الفهم، تقوم على تواصل خفي يُرجع الأمور إلى نصاب السبب والنتيجة، فالكون لا يلعب بالنرد.
لقد مرّت غيوم كثيرة في سماء إيناريتو وإشرقت شموس أيضًا، منحته جائزتي أوسكار عن فيلميه: Birdmanالعام 2014 و The Revenant العام 2015 وأصبح من كبار مخرجي هوليوود، فهل حان الوقت لتقديم سيرة ذاتية يناقش فيها تلك الغيوم السوداء والبيضاء التي ملأت حياته، فأبعدتها تارة عن الصفاء، وتارة أخرى ملأتها بالرعود والرياح العاصفة؛ وذلك من خلال علاقته الوطن والهجرة، والعلاقة المحتدمة تاريخيّا بين المكسيك والولايات المتحدة الأمريكية، والأسرة والهوية، والحب والموت من خلاله شخصيًا؟ يعرض الفيلم سيرة حياة سيلفيريو جاما، الذي يلعب شخصيته الممثل دانييل خيمينس كاتشو. سيلفيريو صحفي ومخرج أفلام وثائقية، ولد في المكسيك، وذاع صيته بعد هجرته إلى أمريكا يرجع إلى المكسيك كي يكرّم عن فيلم، له ذات عنوان فيلم إيناريتو! لم يخاتل إيناريتو كثيرًا، كي يوهم المشاهد بأنّ سيلفيريو هو شخصية أخرى، لا تمثله، بل أراد أن يكون هذا التماثل بينه وبين شخصية سيلفيريو شبه محسومٍ، حتى نتعرّف على زيف الحقائق في بعض الوقائع عبر مزج الواقع بالخيال. كان إيناريتو عبر أفلامه، أسواء في بابل، أو الرجل الطائر، وحتى فيلمه العائد، الكلاسيكي الحبكة، يستند دومًا على ثنائيات تضادية يجلو بها زيف انعدام ائتلافها عبر الخيال. فالخيال لدى إيناريتو يعتبر كحاسة، لا تختلف عن النظر واللمس، فعبره يتم اكتشاف علاقات الواقع الذي لا يمكن الإحاطة به من دون التخييل، فالعقل السببي قاصر عن فهم لعبة النرد الكونية من دون الخيال.
Bardo:
تعني كلمة باردو بالبوذية التيبتية، الحالة البرزخية التي يعيشها الإنسان في الغيبوبة التي تسبق موته، أو هي الفاصل بين حياته التي عاشها، والحياة التي سينتقل إليها إثر موته. هذه الإزدواجية التي تعنيها كلمة باردو تقدّم انعكاسًا لحياة سيلفيريو. فهو من جهة مواطن أمريكي يجادل بعنف موظف المطار عن أحقيته بأن يقول عن أمريكا، أنّها وطنه، رغم المفارقة بأنّ الموظف، هوالآخر، ليس من أصول أمريكية. ومن جهة أخرى يدخل مع ابنه في نقاش حادٍ، لأن الابن قد سئم من ازدواجية أبيه، فمن ناحية يدافع سيلفيريو عن المكسيك، ويطلب من ابنه أن يتكلّم المكسيكية مادام في بلده الأم. ومن ناحية ثانية لا يرى المكسيك بلدًا صالحًا للحياة! هذا التناقض يرفضه الابن الذي حسم أمره، بأنّ يصبح أمريكيًا. على العكس من ذلك كانت الابنة تريد الانتقال للعيش في المكسيك، فقد وصلت إلى سنّ يحقّ لها أن تختار بها حياتها كما تريد.
إنّ معضلة التضاد التي يحياها سيلفيريو يدفعها قدمًا إيناريتو، إذ تتجلّى من أول مشهد في الفيلم، حيث نرى ظل رجل يجري في صحراء، ليكتسب العزم كي يطير. وما إن يحلق الظل عن الأرض حتى يعاود الهبوط. ليدخلنا بعد ذلك إلى ولادة ابنه ماتيو الذي همس للطبيب بعد خروجه من بطن أمه بأن يعيده إليه، فالعالم الذي جاء إليه قاس جدًا. يخبر الطبيب الأم برغبة الوليد ويدفعه إلى بطنها من جديد. يمشي سيلفيريو وقربه زوجته، التي تجر الحبل السريّ لطفلها وراءها صابغة أرضية الممشى بالدم.
عبر الواقع والخيال يمضي إيناريتو، أو سيلفيريو في تقديم الباردو، فالتكريم الذي أقيم على شرف سيلفيريو يهرب منه إلى أحد الحمامات، وهناك يلتقي بأبيه الميت ويعود صغيرًا وكأن تكريمه الحقيقي يكمن برضى أبيه عنه بعد هجرته من وطنه. لكن سيلفيريو متّهم من قبل المجتمع بخيانة مكسيكيته لصالح أمريكا، حيث يستجوبه المذيع المشهور لويس أمام جمهور يضحك من صمت سيلفيرو. يبدو الاستجواب من قبل لويس مقحمًا، لولا مشهد نرى فيه سيلفيريو يمتثل لطلب السفير الأمريكي، بأن يخفّف من حدّة انتقاداته لسياسة أمريكا الرافضة للهجرة المكسيكية، لكن في المقابل كان ما يهم لويس هو إذكاء النار في متابعيه مستخدمًا الهجوم على سيلفيريو كحصان طروادة. وهنا يأتي السؤال: من يحدّد الانتماء؟ الذي تكمن إجابته في نقاش بين سيلفيريو وهيرنان كورتيس القائد الإسباني الذي قوض مملكة الأزتيك عام 1521 ولولاه لم تكن هناك من مكسيك. كان كورتيس يجلس على هرم من الأجساد البشرية، وهناك أخبره سيلفيريو، أنّه قائد وحشي، وأنّه مكروه في إسبانيا والمكسيك، فيرد عليه كورتيس، بأنّه لو لم يكن موجودًا لم يكن هناك من مكسيك. وبالتالي ليس من سيلفيرو، ولا قضية الانتماء الشائكة التي يقع تحت تبعاتها. لا يكتفي إيناريتو بتهكّمه على الحدود، وقصة الانتماء، والأوطان، والهجرة من خلال استحضار القائد الهمجي كورتيس، بل يبرز الواقعية السحرية التي اشتهرت بها أمريكا اللاتينية وذلك بأن يقذف سيلفيريو عقب سيجارته، فتقع على إحدى الجثث؛ وهنا يثور أحد الكومبارس لأنّ السيجارة أحرقته، فتتبعه الجثث الأخرى التي صنع منها كورتيس هرمه، رافضة إكمال التمثيل على الرغم من صياح المخرج الذي يرمز إلى إيناريتو، بأنّ هناك مشهدًا آخر. لقد كان المشهد الآخر واقعيّا جدًا، فنرى فيه سيلفيريو يحمل كاميراه مصوّرًا اللاجئين المكسيكيين الذين يحاولون عبور الحدود بين المكسيك وأمريكا.
ما بين الواقع والخيال على جسر من الرموز تمضي سردية إيناريتو السينمائية، لنكتشف بأنّ سيلفيريو كان قد أصيب بجلطة دماغية، تركته فاقدًا للوعي، وهو عائد في الميترو يحمل كيسًا فيه أسماك السلمندر لابنه تعويضًا له عن تلك الأسماك التي ماتت في حقيبته، عندما هاجروا إلى أمريكا. حيث تأتي دلالة سمك السلمندر من قدرته على تجديد أعضائه إن قطعت. تتجمع العائلة حول سيلفيريو الفاقد للوعي، أو في حالة الباردو، لينتهي الفيلم كما بدأ في صحراء يغذّ سيلفيريو الخطى فيها، تتبعه عائلته، لكنّه يخبرهم بأنه ذاهب إلى مكان لا يستطيعون القدوم إليه.
الأقنعة؛ سيرة ذاتية:
لعب القناع دورًا مهمًا في المسرح اليوناني، فعبر تغيير قناع بقناع، كان المؤدّي يتلبّس شخصية جديدة. وهنا هل ارتدى إيناريتو قناع سيلفيريو حتى لايقدّم حياته بشكل واقعي مبتذل؟ لكنّه مضاعف بالخيال، فلا يتم اختزالها، ويسمح له بأن يواجه توثيقية السيرة الذاتية، وما ستقوده إليه من الوقوف على تناقضات حياته، ومن ثم الاعتراف بأن محاولته جلب سمك السلمندر باءت بالفشل، فلا إمكانية لإعادة إنماء ووصل ما قطع من حياته، وما ترتب عليه من تناقضات لا حلّ لها، لكن من الممكن فهمها. إنّ الوقائع الزائفة لحفنة من حقائق السيرة الذاتية لإيناريتو من الممكن توضيحها بأحد مشاهد الفيلم كمثال، فالفيلم مليء بها. كان سيلفيريو يصوّر معاناة المهاجرين عبر الحدود الصحراوية إلى أمريكا ومن جانب ثان، اكتفى بالاعتراض على المسؤول عن الشاطئ الذي منع خادمة عائلته المكسيكية ذات الأصول الهندية من الدخول. تقف زوجته في صف الخادمة ويغادرا الشاطئ في حين يدخل سيلفيريو للاستمتاع بالرمال الذهبية والمياه المنعشة.
هذه المفارقات التي تقوم عليها أكثر مشهديات الفيلم، نستطيع أن نستوعب أحد جوانبها كهجوم مضاد من قبل إيناريتو تجاه النقّاد والمشاهدين، سواء في بلد المهجر/ أمريكا، أو في بلده الأم/ المكسيك، فهناك من سيصنفه مبدعًا أو مدعيّا. وهناك من سيصنفه مرائيا، أو مرآة للواقع، وهو يريد أن يقول، بأنّه لا هذا، ولا ذاك، فالفنّ ليس كالسياسة والدين حتى يكون تأثيره شموليّا بإيجابياته وسلبياته، فما بين أنا الفنان وإنتاجه، وضمنًا حياته الشخصية، هناك الكثير من الحدود يجب أن تُقطع بشكل قانوني، أوغير قانوني، كأن يأتي اتصالٌ يخبر جماعة المهاجرين، بأنّ مريم العذراء، قد ظهرت لمن سبقهم، وهي تبارك مسيرهم نحو الحدود!
بين الباردو والسيرة الذاتية لإيناريتو علاقة زائفة، فهو لا يقدّم بالمعنى الحقيقي سيرة ذاتية والتي عادة ما تكتب على حواف نهايات العمر، بل يريد القول، بأنّ السير الذاتية تتعدّد، حتى من قبل صاحبها، كما التاريخ حسب من يكتبه، والحدود وفق من يضعها، والانتماء على هوى القناعة، والهوية ليست إلا قضية إدارية، والوطن مجرد جذر مخاتل، والمهجر هروب مفضوح، فلا شيء نهائي في تلك القيم، فالحقائق زائفة بقدر ما تدعي واقعيتها.
فيلم: باردو، وقائع زائفة لحفنة من الحقائق ، من إخراج أليخاندرو غونزاليز إيناريتو، وتصوير داريوس خوندجي، وسيناريو إيناريتو و نيكولاس جياكوبون.
باسم سليمان

ثيمة الإعاقة في أدب الأطفال: ثورة طال انتظارها
باسم سليمان 27 أكتوبر 2024 – مقالي في ضفة ثالثة
لقد تأخّر أدب الأطفال كثيرًا، حتى استكمل شخصيته المميّزة له عن بقية الأجناس الأدبية، فقد ظلّ شبه أدبٍ على الرغم من عمره الطويل جدًا. لقد كان أدب الأطفال يقترض مواضيعه من الفنون والآداب الأخرى المعدّة للكبار، من الأسطورة والخرافة والملحمة والمسرحية والأشعار، ومن ثمّ يقوم بتكييف تلك الفنون والآداب لتصبح صالحة ليزجي الأطفال بها أوقاتهم، ويتعلّموا منها ثقافات مجتمعهم وأعرافه وتقاليده، كما تفعل الأمهات بإعادة خياطة الثياب التي تخصّ الكبار حتى تصبح مناسبة للصغار، فقد ذكر القديس (أوغسطين354-430) في اعترافاته، كيف كان يستمع أو يقرأ مقاطع معينة من هوميروس وفيرجيل في طفولته. بدأت شخصية أدب الأطفال الخاصة بالنضوج مع تنظيرات المفكّر الإنكليزي جون لوك في القرن السابع عشر، وخاصة عندما قَرن التعلّم بالمتعة، من أجل إكساب الطفل القيم الأخلاقية والسلوك العقلاني، مستلهمًا مقولة الراهب جون اِيرل: (الطفل يأتي إلى الحياة كالورقة البيضاء)، فبحث عن نصوص أدبية مناسبة تحمل الحكمة والمعرفة والموعظة الأخلاقية والمتعة، فوجدها في خرافات إيسوب التي تدور بمعظمها على ألسنة الحيوانات ككليلة ودمنة. ومن ذلك الوقت أخذ أدب الأطفال يرسم طريقه الخاص وذلك بالاختلاف عن بقية الأجناس الأدبية، من حيث أنّه أصبح يُكتب لأجل القارئ الطفل أولًا، لكي تُملأ هذه الصفحة البيضاء وتُجهّز الطفل ليكون مواطنًا صالحًا وفاعلًا في مجتمعه. ومن ثمّ توطّدت هوية أدب الأطفال مع كتاب (التربية العاطفية – إميل؛ لجان جاك روسو) ليضيف العواطف والمشاعر على تنظيرات لوك التي كانت تستهدف عقل الطفل، وبذلك تم استكمال طرفي شخصية الطفل عبر السلوك الأخلاقي والأفكار والعواطف والمشاعر، ممّا يؤمّن للطفل خبرة عقلية وعملية بموجب ذلك. لقد كان روسو أقل اهتمامًا بالفضائل والشرور على العكس من جون لوك، باعتبارها السبيل إلى السعادة البشرية، فلقد أراد روسو أن ينخرط الطفل في الحياة العملية ليستخلص النتائج بنفسه، لذلك كانت رواية (روبنسون كروزو؛ لدانيال ديفو 1719) التي تم فيها تناول حياة رجلٍ على جزيرة غير مأهولة، وكيف أعاد هذا الرجل إنتاج الحضارة الإنسانية، تمثل الكتاب الأهم الذي يجب أن يقرأه إميل من أجل أن يكتسب شخصيته الحقيقية، وبالتالي أي طفل آخر. لم يكن كتاب ديفو معدًّا للأطفال، لكن تم تكييفه لهم، ليصبح فيما بعد من أسس كتب المغامرات التي استهدفت الأطفال. تطوّر أدب الطفل كثيرًا منذ جون لوك، وأصبح جنسًا أدبيًا في القرن العشرين، له تنظيراته النقدية وجوائزه وكتّابه الكبار، ولم تعد وصمة العار تلحق بالكتّاب الذين يكتبون للأطفال.
لقد تنبّه أدب الكبار إلى الكثير من المواضيع المهمّة في حياة الإنسان، من الحرية السياسية والدينية إلى الجنسية، وسلّط الضوء على الحقوق المهضومة التي تقمعها العنصرية الجندرية والعرقية إلى جانب حقوق الأقليات، لكنّ الأدب عمومًا، سواء أدب الكبار أو الصغار، قد تأخر كثيرًا حتى تبنّى حقوق ذوي الإعاقة، فقد امتلأ أدب الكبار بازدراء واضح لذوي الإعاقة، لدرجة قال بها عالم الإعاقة بول لونجمور، بأنّ استعارة ثيمة الإعاقة في الأدب سلبية دومًا! لم يخرج أدب الأطفال عن توصيف لونجمور، فحتى سبعينيات القرن الماضي كانت صورة المعوّق في أدب الأطفال غير صحيحة، لكنّها أخذت بالاعتدال رويدًا رويدًا فيما بعد. وقد خصّص (مجلس الكتب بين الأعراق البشرية) في أمريكا عام 1977 عددًا من دورياته، تناول فيها الإعاقة في أدب الأطفال، فوجد الباحثان (دوجلاس بيكلين وروبرت بُجدان) بأنّ صور الإعاقة في أدب الأطفال تتحدّد في العديد من الصور النمطية السلبية، أوجزناها في ما يلي:
عادة ما يتم تصوير الشخص المعوّق على أنّه مثير للشفقة لا أكثر؛ وهذه الصورة منتشرة جدًا في الأدب الكلاسيكي والحديث. ومن الروايات التي استخدمت هذه الثيمة رواية تشارلز ديكنز ( ترنيمة عيد الميلاد 1843) في شخصية الولد ذي الإعاقة (تيني تيم).عادة ما يتم تصوير الشخص المعوّق، بأنّه دومًا هدفًا للاعتداء والعنف، لأنّه غير قادر على الدفاع عن نفسه.عادة ما يتم تصوير الشخص المعوّق، بأنّه شرير! لذلك يستحق إعاقته جزاء وفاقًا؛ وهذا التصوّر عن الإعاقة كان يكتسح أكثر القصص التي أتتنا من التراث الإنساني. ففي رواية تعتبر من أوائل الروايات التي تناولت شخصية معوّقة وهي بعنوان (مغامرات وسادة الدبابيس 1787 لماري جين كيلنر)؛ تصاب فتاة بالشلل بسبب ركلة حصان. وتبرّر الكاتبة شللها، بأنّه بسبب كذبها المتواصل! هذا المنطق في التصوير كان يعود إلى جوهر التربية التي سادت أزمنة طويلة في الماضي، فلقد كان يهدّد الطفل بسبب سلوكه الناشز بالعقوبة، أسواء من الأهل أو الإله.عادة ما يتم تصوير الشخص المعوّق كداعم لإبراز أخلاق الشخصية الرئيسية في الرواية أو القصة، وليس من أجل ذاته. فوجود الشخصية المعوّقة كان لأجل إبراز لطف البطل وأخلاقة الجيدة.عادة ما يتم تصوير الشخص المعوّق كضعيف العقل، لذلك حتى يتواجد في أدب الأطفال يجب أن يكون استثنائيًا ومتفوقًا، وإلّا ليس من داعٍ لوجوده. وفي دراسة حديثة لعام 2016 أجرتها الباحثة سوزان أبو غيدا على سبع وأربعين قصة عربية تتناول ذوي الإعاقة وجدت بأنّ الغالبية العظمى منها تتناول أصحاب الإعاقات من الأطفال، بأنّهم أصحاب مواهب استثنائية أو قدرات خاصة. إنّ ما يترتب على هذه النظرة في هذه القصص على الصعيد الاجتماعي المحيط بالطفل، أنّه لن يتم قبوله كعنصر فيه ما لم يكن متميزًا بمواهبه. وتكمل غيدا القول، بأنّ الخطأ في هذه القصص يكمن، بأنّ التميّز سيكون الثمن الذي يجب أن يدفعه الطفل المعوّق، حتى يكون مقبولًا في مجتمع الأصحاء! عادة ما يتم تصوير الشخص المعوّق كموقع للفكاهة والسخرية؛ وهذا ما نراه كثيرًا في الكوميديا، حيث تصبح التأتأة أو العرج أو العمى سببًا للضحك بسبب المفارقات التي تسبّبها.عادة ما يتم تصوير الشخص المعوّق ككاره لنفسه. والسبب في هذه النظرة يعود إلى أنّ قبول المعوّق في المجتمع يعتمد على تميّزه بموهبة ما، وعندما لا يستطيع أن يكون كالأديبة والناشطة (هيلين كيلر) التي فقدت السمع والنظر في طفولتها، فهو كاره لنفسه بسبب إعاقته، لذلك قال عالم الإعاقة لونجمور، بأنّه لا يريد أن يكون ملهمًا لأحد، على الرغم من تجاوزه إعاقته، لأنّ إصراره على دور الملهم، سيتسبّب بأذية لمن لا يستطيعون أن يكونوا مثله.عادة ما يتم تصوير الشخص المعوّق كعبء على الآخرين. ولربما نجد تمثيلًا لهذه الحالة في كتاب للأطفال صدر في الأردن بعنوان: ( نحن جميعًا متشابهون… نحن جميعًا مختلفون) كما تذكر الباحثة د.إيمان محمود السعدي في ورقة قدّمتها للمؤتمر السنوي الثالث لعام 2018 عن أدب الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، حيث عرض الكتاب لمشاعر الآباء والأطفال بقالب شعري مسجوع. وفي إحدى القصص نسمع صوت الأهل يرددون، بعدما ولد لهم طفل مصاب بمتلازمة داون، فيقولون: “قال الطبيب: ابننا سيعيش في سبات/ وأنّه سيبقى مدى الحياة/ وأنّنا سنرجوا لو أنّه مات”. أمام هذه القصة المخيّبة للآمال، والتي أُعدت ليقرأها الأطفال وأهاليهم، فما الذي سنتوقّعه عن طبيعة اندماج المعوّقين في المجتمع بعد ذلك!عادة ما يتم تصوير الشخص المعوّق، بأنّه لا جنسي، فحياته العاطفية أو الجنسية لا اعتبار لها!هذه التصوّرات كانت تحكم أدب الأطفال في أكثر الأحيان، ولكن مع الأخذ بالاعتبار أنّها نسبية، ففي بعض الحالات تمَّ ذكر ذوي الإعاقة بشكل جيد إلى حدٍّ ما في الأدب، على الرغم من أنّ ذكر ثيمة الإعاقة في أدب الأطفال كان نادرًا، ولم تأخذ حيّزها الحقيقي، إلّا بعد السبعينيات من القرن المنصرم، ممّا يستدعي الانتباه إلى أن تغييب ذوي الإعاقة عن أدب الأطفال؛ يعني بأنّهم كانوا مهمّشين، وليس غريبًا بعد ذلك أن يتوصل بيكلين وبُجدان إلى تلك الصور النمطية السلبية التي تتعلّق بثيمة الإعاقة في أدب الأطفال، فما دام أصحاب الإعاقة مهمّشين، فلماذا يجب الاعتناء بحقوقهم في النص الأدبي؟ وإذا أردنا أن نشبّه العلاقة بين أدب الأطفال والإعاقة من الناحية التاريخية والحالية، فهي تحوي مفارقة عجيبة، ولربما أقرب تمثيل لهذه العلاقة، هو الوصف الذي وضع للحكيم إيسوب صاحب حكايات الحيوان التي ذاعت وانتشرت في العالم حتى عصرنا الحديث، وتعدّ من أسس أدب الأطفال والكبار معًا، فقد كان: “عبدًا قبيح المنظر، عظيم البطن، مشوّه الرأس، أفطس الأنف داكن البشرة، قزمًا، مقوّس الساقين، قصير الذراعين، أحول، مشقوق الشفة” لكنّ أبا القصص هذا، هو الذي استدعاه سقراط في محنته، فنظم خرافاته أشعارًا ليزجي بها وقته في انتظار إعدامه! كان إيسوب عبدًا معوّقًا، وقد كان العبيد بنظر كلّ من المفكّرين اليونانيين والرومانيين كـــ(كوانتليان وبليني) غير قادرين على التعبير الفنّي والأدبي، ولذلك قال كوانتليان: “إنّ أسوأ ما يفعله خطيب ناشيء هو أن يمثّل دور العبد”!
إنّ أدب الأطفال مدين بشكل كبير لإيسوب، حتى أنّ جون لوك اعتبر خرافاته الألف باء لتعليم الصغار، ومع ذلك صوّر أدب الأطفال وأدب الكبار أصحاب الإعاقة بصورة سلبية عندما كان يذكرهم، لأنّه كان في أكثر الأحيان يتجاهلهم، مع أنّ معوّقًا؛ كانت قصصه وخرافاته الأساس الذي انطلق منه أدب الأطفال والكبار أيضًا. وعندما ذهب أدب الكبار لتصوير الشخصيات الشريرة ونتائج الأفعال الشريرة وجد في المعوّقين ضالته، فهم من ناحية؛ يثيرون مشاعر الخوف لدى الأصحاء أن تنتهي حياتهم كمعوّقين، إذا ارتكبوا الشرور. ومن ناحية أخرى؛ يجعل المعوّقون الآخرين يشعرون بالشفقة، فتتحرك دوافعهم الأخلاقية والعاطفية؛ هكذا كان دور المعوّق في الآداب مطية لتحقيق مصالح من يعدّون أصحاء.
لم تكن قصص الحكيم إيسوب هي المبتدأ الوحيد لأدب الأطفال، فقد شاركت القصص الشعبية التي جمعها الأخوين (غريم) من الفلكلور الألماني وتراث المنطقة الأوروبية بدعم قصص الأطفال عبر العالم، فقصة الأميرة النائمة، وبياض الثلج، وليلى والذئب وغيرها الكثير، والتي استلهمتها السينما العالمية وخاصة ديزني، لتكون الوجبة الممتعة والمثقِّفة للأطفال؛ تعتبر من أسس أدب الأطفال. لقد خضعت هذه القصص إلى عملية تطهير وتنظيف، فيما يتعلّق بالأمور الجنسية والعنفية التي كانت ترد فيها، لتصبح مناسبة للأطفال، لكن تركت الإعاقة! فالساحرة التي كانت تكره بياض الثلج، لأنّها أزاحتها عن عرش الجمال، تحوّلت إلى ساحرة شمطاء معوّقة عندما أرادت أذية بياض الثلج. كذلك في قصة (بيت الحلوى/هانسل وغريتل) الطفلين اللذين تركهما أهلهما في الغابة، فاهتديا إلى بيت من الحلوى تسكنه ساحرة تأكل لحم الأطفال. استطاعت غريتل أن تدفع الساحرة إلى جوف فرن النار وذلك بسبب إعاقتها وضعفها وأنقذت أخاها. وفي قصة أخرى عن طحّان أراد أن يتزوج الملك ابنته، فأخبره بأنّها تستطيع أن تغزل القشّ وتحوّله إلى ذهب. وهكذا وضعت الفتاة في قبو مع كمية كبيرة من القش وحارت ماذا تفعل، إلى أن ظهر لها قزمٌ وحوّل القش إلى ذهب، بعد أن وعدته بأن تمنحه طفلها الأول. لم تف الفتاة بعد أن أصبحت زوجة الملك بوعدها، فهدّدها القزم بالموت، لكن أخبرها إنْ عرفت اسمه، سيحرّرها من وعدها له. تنتهي القصة بأن تخبر الفتاة القزم باسمه وهو: (رامبيل ستيلتسكين) وهنا يُصدم القزم ويضرب قدمه في الأرض بغضب. تبدو القصة وكأنّها لا تحمل أي ضغينة واضحة تجاه ذوي الإعاقة، لكن بعد أن نعرف أنّ معنى اسم القزم: صاحب القدم المشوّهة، يختلف الأمر! هكذا كان أصحاب الإعاقة تُؤخذ منهم العبر، لكن من دون وضعهم بالحسبان!
امتلأت قصص الأخوين غريم بالشخصيات المعوّقة، وخاصة من تمت معاقبتهم أو سحرهم ليصبحوا معوّقين، لكن في النهاية ينتصر الخير ويصبح المعوّقون أصحاء. تبدو هذه القصص المثل المشتهى لما يفضّل أن تكون عليه قصص الأطفال، وخاصة أنّها تنتهي نهاية سعيدة. لكنّ السؤال، ماذا عن القارئ المعوّق الذي يبحث عن صورة له في القصص الموجّهة إليه، والتي لن يجدها، كما في رواية (هايدي؛ ليوهانا شبيري1880) والتي حوّلت لمسلسل كرتوني للأطفال تكون (كلير) فتاة مقعدة تستخدم الكرسي المتحرك، وفجأة تشفى بعد أن تذهب مع هايدي إلى جبال الألب! والسؤال الذي يُطرح؛ هل في واقع المعوّقين ما يشبه ذلك؟ إنّ الكثير من قصص الأطفال التي تناولت الإعاقات تكون النهاية بحدوث معجزة يشفى الطفل فيها من إعاقته، لكن في الواقع هذا لا يحدث إلّا عن طريق العلاج الطبي. هذه النهايات المفتعلة لقصص الأطفال تترك حسرة في قلب الطفل المعوّق، وأيضًا حكمًا أخلاقيًا في عقل الطفل الصحيح الذي سيُحدث نفسه، لو كان الطفل المعوّق يستحق الشفاء بمعجزة لحدثت!
تدفعنا تلك الأمثلة المذكورة إلى ملاحظة، كم من الضرر يكمن في النوايا الجيدة، عندما لا يتم التبصّر بنتائجها! ومن هنا يجب على أدب الأطفال أن يكون مستنيرًا بشكل كبير، فما دام الطفل كالورقة البيضاء، فيجب الحذر فيما يدوّن عليه. إنّ التطبيق العملي للمسؤولية الأخلاقية التي يتحمّلها أدب الأطفال تجاه مستهلكيه من الصغار، نجدها بوضوح في رواية (كيف تروّض تنينك؛ لكريسيدا كويل2004) والذي حوّل لفيلم سينمائي. تدور قصة الفيلم عن ولد يجد تنينًا معوّقا، وذلك بسبب فقدانه قسمًا من ذيله. يقوم الولد بتعويض القسم المفقود من جناح الذيل لدى التنين ويصبحان صديقان ويخوضان مغامرات عديدة معًا. لقد كان التنين في أول الفيلم منطويًا على ذاته غاضبًا حانقًا من إعاقته، لكن بعدما استطاع الولد أن يعوّض له الجزء المفقود من جناح ذيله عاد تنينًا يحب الحياة. إنّ الإعاقة لدى الطفل لا تصبح عقبة لا يمكن تجاوزها، إلّا عندما توضع العقبات في طريق تعويضها، فالكرسي المتحرّك أو العكاز أو لغة الإشارة وغير ذلك من وسائل تساعد الطفل المعوّق في الواقع وفي الخيال على استكمال متطلبات حياته، هي التي تجعله فردًا فاعلًا لذاته ولغيره. ومن هنا كان على أدب الأطفال الذي يتناول الإعاقة أن يقدّم الحلول العملية، لا المعجزات ولا الأحكام القيمية، حتى يستطيع الطفل المعوّق أن يفتح نافذة وبابًا على الحياة. وفي الوقت نفسه يصبح طبيعيًا بالنسبة لغيره من الأطفال وللمجتمع أيضًا، لا كائنًا غريبًا لا يعرفون كيفية التعامل معه. في إحدى القصص روت أمٌّ تجربة ابنها المعوّق في إحدى حدائق لعب الأطفال، فقد تجمهر عدد من الأطفال حوله، وبدأوا بالتنمّر عليه، وهو لا يقابلهم بالمثل، وعندما همّت أمّه بالاقتراب، لتدفع عنه أذية الصغار، أشار لها بالابتعاد. وعندما رجع إليها، سألته، لماذا تركتهم ينالون منك بكلامهم وتصرفاتهم القبيحة؟ أجاب الولد، هم يحتاجون إلى الوقت للتعوّد عليّ! إنّ ما يفعله أدب الأطفال بتناوله لثيمة الإعاقة بطريقة صحيحة وإيجابية هو أن يحوّل المعوّق إلى شخص طبيعي يشبه أقرانه وإن كانت له ميزة خاصة عنهم.
ملاحظة لغوية: هذا الملاحظة تتعلّق بعنف اللغة نحو المعوّقين! إنّ الأسماء والصفات والنعوت التي تُطلق على الأشخاص من ذوي الإعاقة تحمل بذاتها عنفًا مضمرًا من مثل: (أهل الزمانة – المقعدون- العاجزون – العطيلة- المعوّقون – المعاقون – أصحاب الهمم – ذوو الاحتياجات الخاصة…) وعندما بدأت أكتب هذا المقال بحثت في معنى الجذر اللغوي للإعاقة والذي هو: (عَوق) فوجدته بمعنى: (سجن)؛ هذا في اللغة العربية، دلالة على أنّ المعوّق مسجون في إعاقته لا يستطيع فرارًا منها. أمّا في اللغة الإنكليزية فكلمة (handicap) التي تعني المعوّق، فتعود إلى اللاتينية وإلى مصطلح (القبعة في اليد) دلالة على الفقر وممارسة التسوّل، حيث كان الشحاذ يضع قبعة أمامه يلقي فيها المحسنون بعضًا من نقودهم. ليس القصد من إيراد هذه الملاحظة البحث عن أسماء وصفات ونعوت أخرى جديدة تكون أقل عنفًا، بل للقول، بأنّ الكلمات تغيّر دلالاتها القديمة، أو تتنكّر لها وفق أسلوب التعامل بها في المجتمع، فعندما تتبدّل المعاملة مع المعوّق من السلب إلى الإيجاب، ستصبح للكلمة ذاتها دلالاتها الجديدة، فتصبح كلمة الإعاقة دالة على كسر قضبان السجن، وكلمة (handicap) دلالة على الاحترام، كما عندما تخلع القبعة في مكان مقدس.
باسم سليمان
كاتب من سورية

October 26, 2024
“ذات الهمّة” التي لا يضاجعها غير سيفها… سيرة امرأة قلبت المعايير- باسم سليمان – مقالي في رصيف22
هناك حديثٌ نبويّ يقول: “لن يفلح قومٌ ولّوا أمرهم امرأة”. لقد قال الرسول هذا الحديث بناءً على أخبار بأنّ الفرس قد ولّوا أمرهم لابنة كسرى. وفيما بعد استخدم هذا الحديث في التداعيات التي تلت معركة الجمل التي دارت رحاها بين ابن عم الرسول الإمام علي بن أبي طالب وزوجة الرسول عائشة بنت أبي بكر. لقد روى هذا الحديث البخاري، ووضعه النسائي في سننه، وأنشأ عليه باباً في كتابه تحدّث فيه عن النهي باستعمال النساء في الحكم، فالإسلام يمانع بأن تكون للمرأة ولاية الأمر: “عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَقَدْ نَفَعَنِي اللَّهُ بِكَلِمَةٍ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامَ الْجَمَلِ بَعْدَ مَا كِدْتُ أَنْ أَلْحَقَ بِأَصْحَابِ الْجَمَلِ فَأُقَاتِلَ مَعَهُمْ. قَالَ: لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ قَدْ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بِنْتَ كِسْرَى قَالَ: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً”. مهما يكن من مقاصد للرسول الكريم في تعليقه على أحداث تولية ابنة كسرى الحكم، إلّا أنّ من جاء بعده من المسلمين، عمّموا قول الرسول بأنّ أي قوم لن يفلحوا عندما يولّون امرأة عليهم، لكن هناك امرأة ترأست قيادة الجيوش الإسلامية في زمن المعتصم، وفتحت القسطنطينية التي تمنّعت ثلاث مرّات على الفتح في الزمن الأموي، حتى عندما هاجمها القائد مسلمة بن عبد الملك الذي شُبّه بخالد بن الوليد في العبقرية العسكرية، فمن هي هذه المرأة، التي فتحت القسطنطينية حتى لو في الخيال؟
بين التاريخ والخيال:
قبل الدخول في عرض سيرة ذات الهمّة، لابدّ من إيراد رأي الدكتورة نبيلة إبراهيم في كتابها (سيرة ذات الهمّة دراسة مقارنة) بأنّه لا يمكن تحديد الزمن الحقيقي الذي نشأت فيه هذه السيرة القصصية، لكنّ من الممكن التخمين، فقد ذكر اليهودي السموأل بن يحيى المغربي (558 هـ / 1163 م) الذي اعتنق الإسلام في مذكراته، أنّه كان يستمع إلى سيرة الأميرة ذات الهمّة. ونضيف إلى رأي السموأل، بأنّ الراوي في السيرة ذكر المسعودي (345 هـ -959 م) وذكر باب زويلة في القاهرة الذي أسّس ما بين أعوام(1087-1092). إذن الرواية كانت تروى وتقصّ على المستمعين في زمن الصليبيين وما قبله، وكأنّها كانت وسيلة دفاع نفسية تحث على المقاومة، مادامت الأميرة ذات الهمّة، وهي امرأة قد استطاعت أن تفتح القسطنطينية عاصمة البيزنطيين في الزمن الماضي! فما حال رجال هذا الزمن، لا يقدرون على مواجهة البيزنطيين ومن بعدهم الصليبيين؟
لقد كانت الشعوب العربية والمسلمة التي تعيش بمحاذاة الثغور في بلاد الشام عرضة للهجوم البيزنطي دوماً، حيث تُسبى النساء ويسترق الأطفال ويقتل الرجال، فكان لا بدّ من اختراع بطلٍ يستقرّ في وجدان الساكنين هناك، ولأنّ الرجال كانوا في أكثر أوقاتهم في قلاع الثغور أو في الحقول، فقد كانت البيوت تبقى تحت حراسة النساء. ولأجل ذلك اخترعت شخصية ذات الهمّة لتستبطنها النساء في مناطق الثغور وتصبح من عماد شخصياتهن، فإن هاجمهم البيزنطييون انبرت النساء بالدفاع عن بيوتهن، فلقد ملأت السيرة صفحتها بنساء مقاتلات شجاعات لا يرضين بالضيم، وحتى من جهة الأعداء البيزنطيين ذكرت السيرة نساء شجاعات مقدامات في الحرب لذات الأسباب. وكلّ ذلك من أجل تقوية إرادة المرأة، فتقف بوجه من يعتدون على حرمة بيتها.
والدليل فيما ذهبنا إليه في تحليل أحد أسباب نشوء السيرة، بأنّها تذكر أنّ جدّ الأميرة ذات الهمّة الصحصاح، قد شارك القائد مسلمة بن عبد الملك في محاولة فتح القسطنطينية، فنشأت الأميرة على أمجاد جدّها وأرادت إعادتها. لم تكتف السيرة بذلك، بل استعانت بشخصيات تاريخية حقيقية منحتها أدواراً مهمّة في سردها، فمن ذلك القبيل كان ابن ذات الهمّة عبد الوهاب، قد ورد ذكره في التاريخ باسم (عبد الوهاب بن بخت) كما جاء عند الطبري، وقد توفى عبد الوهاب في الواقع في حروب الثغور ضد البيزنطيين عام (113 هـ) أمّا السيد البطّال، وهو أحد الشخصيات الرئيسية في السيرة فقد توفي عام (122 هـ) كذلك في حروب الثغور، ولهذا استدعتهما السيرة من التاريخ الحقيقي وزجّت بهما في الخيال المشتهى الذي فتح به المسلمون بيزنطة واستولوا على عاصمتهم القسطنطينية، لتجعل للسيرة أصولاً تاريخية، وتعضد مقاومة المرأة التي تسكن الثغور. لقد ذكرت السيرة الخلفاء الأمويين على زمن والد وجد ذات الهمّة، والخلفاء العباسيين على زمن ذات الهمّة وولدها عبد الوهاب. وتزيد السيرة خلط الخيال بالواقع، بأنّها كانت تروى للخليفة الواثق (200 – 232 هـ / 816 – 847 م) ابن الخليفة المعتصم صاحب عمورية الذي استجاب للمرأة التي صرخت: (وا معتصماه)، فقاد جيشاً عظيماً وفتح عمورية وحرّر المرأة من احتلال الأروام. وقد خلّد أبو تمام هذه الواقعة بقصيدة من عيون الشعر العربي، استفتحها بالبيت: السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ.
و لقد أوردت السيرة قصة المعتصم في فتح عمورية: “ثمّ أنّ المعتصم أدار وجهه إلى بلاد الروم وقال: لبيك لبيك، أيّتها الداعية، لبيك لبيك أيّتها المنادية، ناديني على أذن صاغية، وعين على خلاصك باكية، ولا بدّ لي ما أرمي الروم من أجلك بداهية” وعندما فتح المعتصم عمورية أحضرت المرأة أمامه، فقال لها: “يا زينب، فقالت: لبيك لبيك، فقال لها: ارفعي صوتك ونادي وامعتصماه. فعند ذلك رفعت صوتها ثم نادت: وامعتصماه، فأجابها المعتصم وقال لها: لبيك لبيك، ها أنذا قد سمعت نداءك، وبادرت إلى خلاصك من أعدائك”
إذن أحداث السيرة تدور ما بين العصر الأموي والعباسي، أمّا فضاؤها المكاني، ففي منطقة الثغور التي تفصل بلاد الشام عن آسيا الصغرى التي تعرف اليوم باسم تركيا، وكانت تحت حكم البيزنطيين إلى أن استولى محمد الفاتح على عاصمتها القسطنطينية عام 1453 ميلادية. ولقد جعلت السيرة ذات الهمّة من قبيلة بني كلاب التي هاجرت إلى بلاد الشام واستوطنت الجزيرة الفراتية، وكانت تشنّ هجمات على البيزنطيين، وتتصدّى لهجماتهم، كما يذكر القلقشندي. وكل ذلك من أجل توطين السيرة ذاتها في التاريخ الحقيقي، لذلك كان عنوان السيرة: “سيرة ذات الهمّة وولدها عبد الوهاب، والأمير أبو محمد البطّال، وعقبة شيخ الضلال، وشومدريس المحتال، أكبر تاريخ للعرب وخلفاء بني أمية والخلفاء العباسيين. جمعت هذه السيرة أخبار العرب وحروبهم وأخبار ملك مصر والشام وبغداد وغيرها من الإسلام وبلاد الفرنج وفيها من الفتوحات ما يبهر العقول”.
نصف المسلمين:
إنّها ذات الهمّة، صاحبة السيرة الأكبر بين السير الشعبية؛ من عنترة بن شداد إلى حمزة البهلوان، إلى السيرة الهلالية وأخيراً علي الزيبق ودليله. إنّها ذات الهمّة؛ فاطمة بنت مظلوم بن الصحصاح بن جُندبة بن الحارث الكلابي. كان الحارث الكلابي زعيم قبيلة بني كلاب، وهو زعيم كبير، ذو بطشٍ ومنعة دانت له القبائل في الجزيرة العربية. من هذا المنطلق تبدأ السيرة بالتأسيس لولادة البطلة عبر سلسلة من الحوادث الصعبة والنساء القويات اللواتي يرفضن الضيم، فجدتها (الرباب) تهرب إثر موت زوجها كي لا تسترق أو تقتل، حيث نهضت القبائل التي غزاها الحارث تطلب الثأر من قبيلة بني كلاب بعد موت الحارث. وأمام هذا الواقع الجهنمي تشدّ الرباب رحالها نحو ديرة أهلها مع عبدها، الذي يطمع فيها ويحاول اغتصابها، فتقاومه بشدّة، حتى يفاجئها المخاض، وتلد ابنها في تلك اللحظات العصيبة. وعلى أثر ذلك يقتلها عبدها ويهرب، وقبل أن تموت تعلّق تميمة على عنق ابنها ليعرف من هو عندما يشبّ. وتدور الدوائر ويترعرع ابنها (جندبة) في قبيلة أخرى، وعندما يعرف نسبه يعود إلى قبيلة بني كلاب ويعجب بأنثى تسمى (قتّالة الشجعان) فهي فارسة في الميدان، ولا ترضى زوجاً لها إلّا من يستطيع أن يهزمها في الضِراب والطعان. ومن ثم ينتصر عليها جندبة ويتزوجان ويسودان القبيلة. ويحدث أن ينقذ جندبة وزوجته أميرة أموية من هجوم قطّاع الطرق، ويغفرانها حتى تصل إلى دار أبيها الخليفة عبد الملك بن مروان، فيطمع ابن الخليفة بقتّالة الشجعان، ويدبر مقتل الأمير جندبة ويحاول بشتى الوسائل أن يصل إلى زوجته. وأمام رفضها له وتعييره بأخلاقه السيئة يقتلها. وقد كان ولد لجندبة طفل يسمى ا(لصحصاح) يصبح فيما بعد قائدًا كبيراً يشارك في الدفاع عن الثغور الإسلامية ضد الدولة البيزنطية، ويتزوج الصحصاح ابنة عمّه بعد مغامرات وصعاب كثيرة، فتنجب له ولدين (ظالماً ومظلوماً)، يتقاسمان سلطة القبيلة. ولكي لا يحدث خلاف بين الأخوين أقرّت القبيلة أن تكون السلطة مقسّمة بينهما إن كان أول أطفالهما ذكراً. وكان أن أنجب ظالم ذكراً اسماه (الحارث)، وأنجبت امرأة مظلوم فتاة سميت (فاطمة). وأمام هذا الواقع كسرت شوكة مظلوم، وتمنّى لو أنّ فاطمة تموت، لذلك عهد بها إلى مربّية وأخفى مولدها عن الناس. وحدث أن هاجمت قبيلة بنو طيء قبيلة بني كلاب وسُبيت فاطمة وخادمتها. استرد بنو كلاب الغنائم من قبيلة بني طيء بهجوم مضاد، وعندما لم يجد مظلوم ابنته ومربيتها دخل السرور قلبه وانشرح صدره! تنشأ فاطمة في قبيلة بني طئ وتصبح راعية أغنام عند أحد سادات بني طيء، وعندما تكبر وتظهر ملامح الجمال عليها، يحاول أحد كبار بني طيء أن يغتصبها، فهي مجرد عبدة، ولا أحد يكترث لأمرها، لكن فاطمة كانت روحها وثّابة، فقد تعلّمت بنفسها الفروسية وضرب السيف والطعان بالرماح. وفي الوقت نفسه كانت عابدة مخلصة لله تقوم الليل والنهار. قتلت فاطمة المعتدي عليها وذهبت حججها بالدفاع عن نفسها أدراج الرياح. فتكلّف سيدها دفع ديّة كبيرة لأهل القتيل، وهمّ أن يقتلها. وهنا قالت له، أعطني سلاحاً وفرساً وسأغنيك لولد ولدك. وطفقت فاطمة تغزو القبائل من حولها وتجلب الغنائم والأسلاب إلى سيدها حتى ذاع صيتها وسميت (داهية بني طيء). ويحدث أن تغير فاطمة على قبيلة أبيها وتأسره، وهنا يفرح الطائيون كثيراً، ويتجهزون لقتل سيد بني الحارث. وأمام ذلك تخبرها مربيتها بأنّ مظلوماً هو والدها، فتنقذه وتعود به إلى قبيلتها وتترأس غزواتها حتى يصبح أبوها غنياً جداً. هذا الواقع الجديد الذي استجدّ على ظالم دفعه للتفكير بتزويج ابنه الحارث من فاطمة، وذلك ليكسر شكوتها بعدما استراح من منافسة أخيه بحكم القبيلة بعدما أنجب بنتاً، وها هي تعود تلك البنت، ولا أقوى الرجال مثلها، فقد جاء ذكرها على لسان ظالم: “وقد عزمت أن أزوّجه بها لوجهين: الأول لجمالها، والثاني إنّها إذا صارت له، انكسرت حرمتها، وقلّ نشاطها وذهبت قوتها، وبانكسارها نبلغ من أبيها سائر الأغراض”. ترفض فاطمة ابن عمّها الحارث، ومن ثم تشترط أمام الضغط أن يهزمها في الميدان، فتهزمه شرّ هزيمة، لكنّ تحرّك البيزنطيين على الحدود الشمالية يستدعي أن تحضر ذات الهمّة لدى الخليفة العباسي في بغداد ومعها أسياد بني كلاب، وهناك بضغط من الخليفة توافق ذات الهمّة على الزواج من ابن عمّها مع أنّها أخبرت الخليفة بأنّها: “ما خُلقتُ إلّا للنّزال، لا للفراش ولا للزواج، ولا يضاجعني سوى سيفي وعُدّة حربي، وكُحل غبار النّجع مُرادي”. ترفض ذات الهمّة أن تضطجع في فراش الزوجية، لكن الحارث يدبر مكراً يجعلها تحمل منه. وبعد أن تمرّ شهور الحمل تنجب بطل السيرة الثاني (عبد الوهاب) الذي كان أسود البشرة مع أنّ والديه أبيضان. يرفض الحارث أبوّة عبد الوهاب ويتهم ذات الهمّة بأنّها اضطجعت مع عبدها. كان بإمكان فاطمة أن تقتل ابنها لتتخلّص من هذه التهمة، إلّا أنّها تحتضن عبد الوهاب وتربيه بأخلاق الفرسان وتشدّ الرحال لتخوض غمار الحرب ضد البيزنطيين، حيث ترتب الأقدار أن تكون أول معركة ينتصر فيها العرب على البيزنطيين في موقعة ملطية، حيث كانت قائدة جيش الأروام تُدعى (ملطية) والتي سميّت القلعة باسمها. وكانت بقوة ذات الهمّة، إلّا أنّ الجانب الروحي الكبير عند ذات الهمّة يحسم المعركة لصالحها. تتابع المعارك في السيرة حتى تفتح ذات الهمّة عاصمة البيزنطيين وتجلس على العرش.
تمتاز هذه السيرة، بأنّها أنصفت المرأة في مواجهة الحيف الذكوري، وقد برز ذلك بعدّة نقاط: لقد كانت قضية وأد البنات قد انتهت بمجيء الإسلام على صعيد دفن الأنثى حيّة هرباً من عارها، لكن ظلّت الأنثى موؤدة معنوياً، بأن يكون البيت مكان محياها ومماتها. وقد رأينا في السيرة كيف تم الوأد المعنوي عبر إخفاء مولد فاطمة، وسعادة أبيها بسبيها من قبل قبيلة بني طيء. ومن دلائل هذا الوأد عدم مساواة الأنثى مع الذكر، فلقد خسر مظلوم سيادة القبيلة ليسودها أخوه ظالم وأولاده من بعده، فقط لأنّه أنجب أنثى، ومع ذلك تخرج فاطمة من وأدها المعنوي وتصبح ذات الهمّة. القضية الثانية، فكانت عن الزواج، فقد رأينا قتّالة الشجعان ترفض أن تتزوج إلّا من كفءٍ لها أو أكثر؛ لذلك كانت ترفض من تهزمهم في الميدان حتى جاء الأمير جندبة. وهذا ما فعلته فاطمة فقد هزمت ابن عمّها الحارث ولم تتزوجه إلّا بضغط كبير من الخليفة ومشورة من الفقيه عقبة السلمي الذي كان دومًا خنجراً مسموماً في خاصرة المسلمين وقبيلة بني كلاب، ولأجل ذلك انتقمت السيرة من الفقيه عقبة السلمي، بأن انتهى مصلوباً على باب القسطنطينية بعدما فتحت بقيادة ذات الهمّة. إنّ هذه القضايا التي تناولتها السيرة، تكشف لنا، بأنّ عدم قيام المرأة بتفعيل طاقاتها وقدراتها، لا يعود إلى طبيعتها الجسدية والعقلية، بل لأنّ المجتمع الذكوري قد حرمها القدرة على ذلك، فقد كان يئدها في الجاهلية، ويخفيها خلف أبواب البيوت وشبابيكها. ومن ثم سحب منها حقّها الطبيعي في أن تكون صنواً للذكر، بدءاً بالمواريث وانتهاء بمنعها من تسلّم القيادة. لقد أثبتت السيرة، بأنّ المرأة قادرة على أن تكون ما تريد؛ ولأجل ذلك ندّدت السيرة بالسلطة السياسية والدينية، فلقد ازدرت الخلفاء العباسيين ولم تكرّم إلّا المعتصم بالله، ذلك الخليفة الذي استجاب لصرخة امرأة سباها البيزنطييون، هذا من جانب السلطة السياسية. أمّا الدينية، فقد صوّرت السيرة رجل الدين فاسداً على عكس المبادئ التي يقوم عليها الدين، فلقد فصلت السيرة بين الدين ورجاله. وأخيراً تثبت السيرة فضل ذات الهمّة، والأحرى المرأة، بالقول بأنّ البيزنطيين كانوا يعتبرون ذات الهمّة نصف المسلمين، وإذا اجتمعت مع ابنها عبد الوهاب والبطّال، أصبحوا كلّ المسلمين.
باسم سليمان

October 17, 2024
هل وجِد أدب الأطفال منذ وُجِد الطفل؟
باسم سليمان 17 أكتوبر 2024 – مقالي في ضفة ثالثة
يقول سيث ليرر في كتابه “أدب الأطفال من إيسوب إلى هاري بوتر”: “وجِد أدب الأطفال منذ وُجِد الطفل”. وعلى الرغم من بداهة ليرر، يشير الأديب بيان الصفدي في كتابه: “شعر الأطفال في الوطن العربي” إلى أنّه: “لا يمكن لأحد أن يزعم أنّ في تراثنا شعرًا مكتوبًا للطفل، لكن هذا التراث يحتوي على ما سُمِّي بشعر ترقيص الأطفال، وهو ليس مكتوبًا من أجل أن ينشده أو يحفظه الأطفال، بل هو شعر مكتوب بإيقاع راقص يناسب من يرقـِّص الطفل، فيعبّر عن عاطفته من ناحية، ويؤثر في الطفل بالصوت والحركة المرافقة للغناء”.
وأمام هذه النتيجة التي توصّل إليها الصفدي، لا يمكن لنا إلّا الاستسلام، لأنّها انبنت على الغياب التام للأدلّة، التي تشير إلى وجود نتاج أدبي جاهلي يخصّ الأطفال. ولربما يأتينا التبرير المنطقي لهذه النتيجة الصادمة، من مقولة الباحث فيليب آرييس في كتابه “قرون من الطفولة”: “إنّ الفترات التاريخية التي سبقت الأزمنة الحديثة، لم تكن تنظر للأطفال كما ننظر الآن. فالطفولة ظاهرة حديثة، لأنّ العصور القديمة، كانت تتصف بإهمال الأطفال، أو اللامبالاة إزاءهم، أو حتى باستغلالهم”. ولمّا كانت الطفولة ظاهرة حديثة، فلا يُعاب على تراثنا إن افتقد النتاج الأدبي الطفولي، سواء أكان بشكل مباشر أم غير مباشر!
لم يبق رأي آرييس مطلقًا على عواهنه: “فلقد لقي معارضة شديدة من علماء بارزين، بيّنوا وجود شروط مختلفة للطفل عبر التاريخ. والطفولة ليست من إبداع المحدثين، بل هي فئة متغيّرة تأخذ معناها من علاقتها بالمراحل الأخرى للنمو”، كما يذكر ليث ليرر. ومن ثمّ يقول: “فالأطفال هم ما يعدّه الآخرون، وما يعدّون أنفسهم كذلك؛ خلال اتصالهم الاجتماعي وتفاعلهم مع الآخرين”.
صامت إن تكلّم
يميّز ليث ليرر بين أدب للطفل ذي نشأة حديثة، وأدب لم يكن قد خُصّص للأطفال، لكن تم استخدامه كأدب لهم، إن جاز القول، كحكم إيسوب وقصصه؛ هذا النوع، قد وجِد لدى الإغريق والرومان والفراعنة، فلماذا غاب ذلك عن تراثنا الجاهلي؟ بناءً على ما سبق سنحاول أن نجد الإشارات المخاتلة التي يمكن من خلالها أن نبقى على قيد البحث عن ذلك الأدب الطفولي في أدبنا الجاهلي، ولربما نجد بعض الأمثلة! يعرض ليرر لدلالة كلمة طفل في الإغريقية: neption وهي مكونة من (ne+epos) وتعني: (no word): أي أنّ الطفل لا يملك القدرة على الكلام. وهي لا تتعلّق بالطفل حصرًا، بل بالكائن الذي لا يتكلّم. ويجد ذات المنحى في اللاتينية: (infans) وتفيد (not speaking) أي الذي ليس لديه القدرة على التكلّم.
ويرى ليرر في هذه الدلالات أنّ حياة الطفل حياة أداء، بحيث تبرز شخصيته من خلال الفعل ومن ثمّ التكلم. وأنّ تدريس الطفل، قصص إيسوب وأشعار هوميروس أو فيرجيل، ستعدّه للحياة العامة، أي خروجه من فصل الصمت إلى فصل الكلام. ويتابع: “إنّ تاريخ أدب الأطفال، لا يمكن فصله عن تاريخ الطفولة، لأنّ الطفل/ة يتكوّن من خلال النصوص والحكايات التي يدرسها، أو يسمعها، ومن ثم يعيدها”. وكأنّ ليرر يشير إلى علم اللغة الاجتماعي، لأنّ النشاط الإنساني أكثر ما يتجلّى باللغة، فمن خلال اللغة يُظهر الإنسان دواخله، ويؤكّد انتماءه إلى محيطه الاجتماعي، كما ذكرت د. خلود العموش في بحثها: “أشعار ترقيص الأطفال في التراث العربي القديم في ضوء علم اللغة الاجتماعي”. وقبل أن نلج عوالم التراث الجاهلي لا بدّ أن نقف عند الدلالات، التي تحويها كلمتا “طفل/ة – صبي/ة” لنستخرج المعاني الحاسمة التي تدعمنا في مسعانا.
بناءً على ما سبق، لنستقرئ دلالات كلمة “طفل” بالاستناد إلى لسان العرب: الطِّفْلُ: الْبَنَانُ الرَّخْصُ، والصبي يدعى طفلًا حين يسقط من بطن أمّه حتى يحتلم، والطفل: الحاجة. ويقول الشاعر: أَزُهَيْرُ إِنْ يُصْبِحْ أَبُوكَ مُقَصِّرًا/ طِفْلًا يَنُوءُ إِذَا مَشَى لِلْكَلْكَلِ. ويقال: رأيته في صباه أي في صغره – والصبي: من لحظة ولادته إلى أن يفطم.
نستخلص من معاني كلمة “طفل”، بأنّ دلالة الطفولة تنطوي على المعاني التالية: الصغر – الحاجة للعناية – الضعف، والأهم من ذلك، أنّه كائن ليس له كلام، على الأقل في جزء من مرحلة الطفولة. هذه النقطة الأخيرة تتقاطع مع التأثيل اللغوي لمعنى كلمة طفل في الإغريقية واللاتينية كما أورد ليث ليرر. إذًا الطفل البشري لا يمكن أن يحيا من دون رعاية غذائية وعاطفية ولغوية وفكرية، وهذا ينطبق على الطفل في الجاهلية، لكن في تتبع الأثر التراثي، كي نستنبط منه، ما يُومئ إلى وجود أدبٍ يخصّ الأطفال في جاهلية العرب، لهو أقرب إلى خرافة عبد الله بن قلّابة الذي قصّ للخليفة معاوية عن دخوله إرم ذات العماد الأسطورية، بحثًا عن إبل ضاع منه.ّ إذ أنّ انعدام المعطى الأدبي، سواء كان شعرًا، أم قصًّا أم غناءً، لا يشي بعدم وجود هذا الأثر الأدبي، بل يطرح سؤالًا استنكاريًّا: هل أسقطَ الجاهليون الطفولة من بنية حياتهم القبلية؟
ما وراء الترقيص
لدى التدقيق بالحياة الجاهلية، والتي يحكم فيها الانتساب إلى القبيلة حياة الأفراد أو موتهم، لا بدّ من أن نلحظ شبهًا مع التنشئة التي كان يتلقاها الطفل الإغريقي والروماني، وإن غاب الأثر الأدبي المباشر عن ذلك. فمن غير المعقول في بيئة تتجذّر فيها قيم عديدة وفصاحة لغوية وخاصة شعرية ونثرية أن تهمل الطفل، وإلّا كيف نجا كلّ من الكاهنين سطيح وشقّ! وقد يقول قائل بأنّ “سطيحًا” كان في بلاد الشام، التي كانت خاضعة للحكم البيزنطي! والذي وصف بأنّه شاذ الخلقة، رخو العظام! فماذا عن “شقّ” الذي كان في الحجاز؟ فكما تخبر عنه المرويّات، فقد كان كشقّ إنسان/ نصف إنسان؛ بعين واحدة ويد واحدة! إنّ ذكرنا لأوصاف الكاهنين جاء كإشارة إلى الاعتناء الذي لقياه من قبل أهليهما حتّى قيض لهما النجاة، وعلى الأكيد كان الاعتناء بالأطفال الأصحاء موجودًا بقوة. وإذا أردنا أن نتلمّس كيف كان الجاهلي يعتني بأطفاله، فلنذكر، بعض الأمثلة، فقد كان من عادة الجاهلي أن يتخيّر لابنه اسمًا له رؤية مستقبلية، فاختيارهم الأسماء القوية والمخيفة للأعداء، ما هو إلّا كإعداد للمهام المستقبلية عندما يصبح رجلًا؛ وهنا نسأل: كيف سيتماهى مع معنى اسمه من دون تحضير مسبق؟ ونضيف إلى ذلك أنّ الجاهلي كان يتكهّن، فما أن يُولد طفلٌ له، حتّى يسمّيه، بما يصادفه من أسماء أصوات أو أسماء ما يراه من حيوانات، وكأنّه يمارس التنبوء بالطيرة (قراءة حركة الطير في السماء لمحاولة معرفة الحظوظ)؛ وهي بذاتها تهدف إلى كشف المستقبل.
ونتابع القول بأنّ البيئة التي كانت تقيم فيها القبائل الولائم والأفراح إذا نبغ في إحداها شاعر، كيف لنا أن نتصوّر بأنّ أطفالها سقط متاع، لا يهدهدونهم، ولا يغنّون لهم ولا يقصّون لهم، فالنبوغ الذي يحدث لشاعر منهم كان يعني تفرّده من بين الذين يقولون الشعر، وما أكثرهم! ونجد في: “سلسلة الأعلام من الأدباء والشعر: زهير بن أبي سلمى، حياته وشعره” – دار الكتب العلمية، أنّ زهيرًا انصرف إلى ابنيه كعب وبجير يدربهما على قول الشعر. وجاء في كتاب “الأغاني” عن ابن الأعرابي قول حمّاد الراوية: “تحرك كعب وهو يتكلّم الشعر، فكان زهير ينهاه مخافة أن يكون لم يستحكم في شعره” وعندما لم يتوقّف كعب عن ذلك، أردفه زهير خلفه على الناقة وبدأ في امتحانه في أوصاف الناقة والنعامة على عادة شعراء الجاهلية، يقول زهير البيت وعلى كعب أن يجاريه.
قال زهير: “وإنّي لتعديني على الهم جسرة/ تخب بواصل صروم وتعتق”. وبعد قوله ذلك صرخ بابنه: أجزْ يا لكع، فقال كعب: “كبنيانة القرني موضع رحلها/ وآثار نشعيها من الدّف أبلق”. وظلّ يمتحنه حتى أجاز له قول الشعر مطلقًا. إنّ المدارس الأدبية في الجاهلية، تثبت تعليم الصغار، حيث كانت هناك عوائل شعرية يتتلمذ الأصغر على يد الأكبر. وهناك مدارس أدبية تتأتى بأن يروي شاعر شِعر شاعر آخر، يقلدّه حتى يتمكن من الشعر، إذًا كانت هناك أساليب تتولّى تعليم الأطفال.
وإن كان لنا أن نضرب مثلًا آخر، للاعتناء بالطفل، فسنجد ذلك في ألعاب الأطفال كــ (خذروف الوليد: حصاة مثقوبة يلعب بها الصبيان يجعلون بها خيطًا يمرونها بين أيديهم بالخيط، فيسمع لها صوت) فالمجتمع الذي يؤمّن لأطفاله الألعاب، بالتأكيد يولي عنايته لتعليمهم. وإذ كان لنا أن نفهم رغبة أهل قريش في تنشئة أولادهم على قيم ولغة سليمة، من خلال دفع أولادهم إلى مرضعات قبيلة بني سعد، حيث اللغة العربية السليمة التي لم تتلوث بالكلمات الأجنبية، وذلك لأجل أن يترعرع الطفل في بيئة سليمة لغويًّا، ولا يكون له ذلك من دون محايثتها بشكل مباشر عبر الشعر والقصّ والمحادثة. لقد نُقل إلينا الشعر الجاهلي بشكل شفهي، وهذا الأمر يدلّ على أنّ الشعر كان يملأ أوقاتهم ويزجي سهراتهم والأطفال يلعبون ويستمعون لمَا يلقى من الشعر والقصص.
لم يبق من ذلك الزمن غير شعر ترقيص الأطفال كدليل غير مباشر فيما يتعلّق بأدب الأطفال. لكن لماذا اعتبرناه دليلًا غير مباشر؟ لأنّه يتوجّه في خطابه إلى الكبار، لا إلى الصغار. وهنا لنا أن نسأل: ما هي أهم خصيصة في هذا الترقيص؟ أنّه يهدف إلى مستقبل الطفل، وليس مجرد حالة عاطفية تنتاب الأب أو الأم. ومن خلال ذلك نستنتج مقدار العناية التي كان الطفل يتلقاها من أهله وقبيلته. فقد عُوتبت صفية بنت عبد المطلب على ضرب الزبير وهو غلام، فقالت مرقّصة ابنها:
“مَنْ قَالَ إِنِّي أُبْغضه فقد كـذب
وَإِنَّمَا أَضْرِبُهُ لِكَـي يَلَبْ
وَيَهْزِمَ الجَيْشَ وَيَأْتِـي بَالسَّلَبْ
وَلا يَكُن لِمَالِهِ خَبْأٌ مُخَبْ
يَأْكُلُ فِي البَيْتِ مِنْ تَمْرِ وَحَبْ”.
من خلال هذا الشعر، نرى استراتيجية واضحة في التعليم والتربية، وليست حالة خبط عشواء. ورقَصت أعرابية ابنها:
يا حَبَّذا ريح الولدْ ريحُ الخُزامَى في البلدْ
أهكذا كلُّ ولد أمْ لم يلِدْ قبلي أحدْ.
لقد وصف الأعراب بالجلافة لقسوة الصحراء عليهم، ومن ثمّ نجد إعرابية ترقّص ابنها وكأنّها جمعت كلّ ما في الكون من حبّ واهتمام من أجل وليدها، فكيف يخطر على بالنا أن ذلك الزمن كان خاليّا من أغاني وأشعار وقصص للأطفال!
“نُقل إلينا الشعر الجاهلي بشكل شفهي، وهذا الأمر يدلّ على أنّ الشعر كان يملأ أوقاتهم ويزجي سهراتهم والأطفال يلعبون ويستمعون لمَا يلقى من الشعر والقصص”
لم تكن ولادة الأنثى في المجتمع الجاهلي بشارة جميلة، يستقبلها الأب بالأحضان، لكن هذا الوضع كان مشابهًا لحال كل البلدان في ذلك الزمان. لكننا نجد بعض الأخبار على العكس من ذلك، فها هو الزبير بن عبد المطلب يرقَص ابنته ضُباعة قائلًا:
“إنّ ابنَتي لحرّة ذات نسب
لا تمنعُ النار ولا فضْل الحطب”.
إنّ انتشار الترقيص في المجتمع الجاهلي دلالة أكيدة على الاهتمام بالأطفال وتربيتهم، وإن لم تصلنا أشعار وقصص قيلت لتكون لمتعة الأطفال وتربيتهم وتعليمهم، فهذا لا يعني غيابها، وسنقف مع وجهة نظر ليث ليرر الذي وجد أنّ الكثير من أدب الكبار قد طوّع ليكون على لسان الصغار. ولا ريب أنّ ذلك الأمر ذاته، قد حدث في المجتمع الجاهلي، وإلّا كيف سيكتسب الطفل عادات وقيم مجتمعه. ولعلّ الزمن الآتي يكشف لنا عن أغان وأشعار وقصص نسجت لتكون على فم الأطفال في الجاهلية، يغنونها أو تُحكى لهم، ومن خلالها يظهرون أداءهم من فعل وقول. ولقد ذكر كارل بروكلمان في كتابه “تاريخ الأدب العربي”، بأنّ أبا عبد الله بن المعلّي الأزدي عمد إلى أغاني المهد ووضعها في كتاب سماه “الترقيص” لكن هذا الكتاب قد فقد، ولربما تأتينا مخطوطات غير مكتشفة بعد، بما نأمله من دليل حاسم ومباشر.

October 8, 2024
عن الرقابة: تاريخ من القتل وحرق الكتب والمفارقات الساخرة –
باسم سليمان 8 أكتوبر 2024
خاطب الفيلسوف وعالم الفلك الإيطالي (جيوردانو برونو 1548-1600 ب.م) القُضاة الذين أمروا بحرقه، بناءً على رغبة الكنيسة، بسبب آرائه في الفلك والسياسة والدين: “لعلّ خوفكم من إصدار الحكم عليّ، أعظم من خوفي من سماعه”. بهذه الكلمات الرؤيوية اختصر برونو جوهر الرقابة وعلاقتها بحرّية التفكير. إنّ تاريخ الرقابة، هو تاريخ الحرّية، يا للمفارقة! فإذا كانت كلمة يراقب/ Censor مشتقة من اللغة اللاتينية (censeo) والتي تعني يحكم أو يقرّر أو يقيّم، ففعل الحرية ذاته يفيد القدرة على إطلاق الأحكام والتقرير والتقييم. تتضمّن فكرة الرقابة، بشكل عام، استعمال القوة قسرًا، لمنع حرية التعبير أو حظرها أو معاقبتها؛ وعادة ما تكون بيد السلطة، أكانت دينية أو سياسية أو اقتصادية. في حين تكون حرية التعبير مطلبًا للفئات المحكومة أو المعارضة في مواجهة الفئات الحاكمة. لجأ البشر منذ الخطوات الأولى لحضارتهم إلى آليات الرقابة، فعندما اُتهم الزعيم (ماو تسي تونغ) في العصر الحديث إبّان الثورة الثقافية في الصين، بأنّه أشبه بالإمبراطور الصيني (تشِن شيهوانغ 259-210 ق.م) الذي قمع الحكماء الكونفوشيوسيين والرهبان البوذيين وصولًا إلى قتلهم ومصادرة كتبهم وحرقها، بعد أن انتهى من معارضيه السياسيين والعسكريين؛ عندها أجاب ماو تسي تونغ الذي قاد الثورة الثقافية في الصين على الماضي (1966-1976 ب.م) ودمّر الأربعة القديمة ( الأفكار القديمة، الثقاقة القديمة، العادات القديمة، التقاليد القديمة)؛ بأنّ: ” تشِن دفن أربعمئة وستين عالمًا وهم على قيد الحياة، أمّا نحن فقمنا بدفن ستة وأربعين ألف عالم أحياء! أنتم أيّها المفكّرون تبغضوننا لأنّنا تشِن- شيهوانغيون، لكنّكم على خطأ، لقد تفوّقنا على تشِن شيهوانغ بمئة ضعف”. يقول جورج أورويل صاحب رواية (1984) بأنّ السلطات التي تمارس الرقابة تحاول خلق التاريخ لا استقراؤه، فهي تمحوه كرقّ لتعيد كتابة التاريخ والحاضر الذي يوافق مشروعها. في الحرب الغواتيمالية (1960-1996 ب.م) لجأت السلطات لقتل عجائز شعوب المايا وذلك لتقطع علاقة الشباب الثائر بماضيه حيث كان يقال: “أي عجوز يموت، بمثابة مكتبة تحرق”. يعتبر الفيسبوك أكبر منصة للتعبير في زمننا الحالي، لكنّه يحذف في اليوم الواحد، أكثر من مليون منشور لا توافق هواه السياسي والتجاري. قال جورج أورويل في مقالة له، بعنوان (منع الأدب) بعد موجات الرقابة العنيفة التي رافقت الحربين العالميتين من قبل السلطات المتحاربة وإيديولوجياتها المختلفة، بأنّ جمهورًا قد نما من جرّاء ذلك، لم يعد يبالي، أسواء قيلت له الحقيقة أم الأكاذيب. جمهور لا تهمّه الحقيقة لا من قريب ولا من بعيد، طالما كان ما يسمعه يتوافق مع ميوله، بدءًا بالسياسية وليس انتهاءً بالعاطفية، وهذا ما نراه على وسائط السوشيال ميديا حاليًا! لقد تضخّمت آليات الرقابة عبر الزمن، وبالمقابل اكتسبت حرّية التعبير مساحات كبيرة أيضًا، لدرجة أصبحت هي بذاتها تهدّد معنى الحرّية! هذا ما يناقشه الكاتب والمحامي إريك بِركويتز في كتابه (أفكار خطرة، تاريخ موجز للرقابة في الغرب، منذ العصور القديمة إلى فيك نيوز) الصادر من دار المدى بترجمة د. رشا صادق لعام 2023.
الرقابة في العالم القديم:
إنّ أكبر مرآة تعكس الرقابة هي الكلمة والصورة، فقد كانتا مدار تجلياتها بسبب أصولهما السحرية والدينية، ففي الكثير من الأساطير والأديان كان للكلمة قوة خالقة، فهي ليست صوتًا أو خطّ حبرٍ، بل هي مليئة بالقدسية والتابوهات، ففي التوراة خلق الإله الكون بالكلمة، وفي البيرو كانت شعوب أمريكا الأصلية تقول، بأنّ الكلمة أعطت الوجود للأب الأول، وكما يقول عالم اللغة إرنست كاسيرر، بأنّ الأساطير مهما كانت قديمة تحظى الكلمة فيها بالمرتبة السامية. لقد أَجبرت الإلهة إيزيس في الحضارة المصرية الإله (رع) أن يمنحها اسمه السّرّي، وعندما علمت به، أصبح لها سلطة على الآلهة الأخرى. ويرى الأركيولوجي (في. غوردون تشايلد) بأنّ الصورة المنقوشة على الأحجار الكريمة والحجارة والطين كان لها قوة سحرية. لقد كان للكلمات والصور رهبة وقداسة، فمن يمتلك نطقها وتخصيص معانيها واستخدامها لإصدار الأفعال كان يمتلك السلطة، فأيّ خرقٍ بحقّها كان يستتبع عقوبات شديدة. تنصّ التوراة على أنّ أيّ تجديف بحقّ اسم الرب من أي شخص كان، يجب أن يُقتل، أسواء كان يهوديًا أم غريبًا؛ حيث ذكر سفر اللاويين: “الغريب كالوطني عندما يجدّف على الاسم يقتل” امتلأت التوراة بالمحظورات وخاصة المتعلّقة بتصوير الإله بأيّ شكل كان، ممّا دفع اليهود إلى تحطيم أصنام وصور الشعوب الأخرى. إنّ البصمة التي تركتها التوارة على آليات الرقابة كبيرة جدًا، لكن لن تظهر تأثيراتها بشكل واضح وجلي إلّا مع الديانة المسيحية، التي ستصبغ رقابتها الحضارة الغربية حتى لحظتنا الحالية.
لم تكن التوراة هي المنشأ الوحيد للرقابة ذات الصبغة الدينية في الغرب، فقد كان لليونان حصّتها النظرية والتطبيقية فيها. لقد كانت الرقابة في اليونان تنوس بين حدّي الحرب والسلام، ففي أيام السلام كان من الممكن التسامح مع آراء سقراط والسفسطائي بروتاغوراس صاحب مقولة: “الإنسان هو مقياس الأشياء كلّها” حتى لو جدّفا على الآلهة، لكن ما إن تتبدّل حالة السلام إلى حالة الحرب، حتى تكشّر أثينا عن أنيابها الرقابية. تعدّ محاكمة الفيلسوف الطبيعي أناكساغوراس (430 ق.م) الذي قال بأنّ الشمس حجر مشتعل وليست آلهة من أوائل المحاكمات التي بدأت تجتاح أثينا والعالم اليوناني. لقد كانت أثينا من أكثر المدن حرّية، فللرجال الأحرار الحقّ بقول ما يشاؤون في الاجتماعات العامة، وبالطريقة التي يرونها مناسبة، ولم تكن أثينا تعترض على ذلك، لكنّ القسم الأكبر من الشعب من نساء وعبيد وأطفال كانوا محرومين من حقّهم في الكلام؛ تقول جوكاستا في إحدى مسرحيات يوربيدس: “إنّه قَدَر العبد ألّا يقول ما يفكر به”؟. إنّ قول جوكاستا ينطبق على الأحرار في حالات الحرب والكوارث، ففي الحرب الأثينية الإسبرطية أصبح مجرد التشكيك بآلهة أثينا يقود إلى الإعدام، فأول محرقة للكتب في التاريخ كانت بحقّ الفيلسوف بروتاغوراس. بعد هزيمة أثينا أمام إسبرطة أصبح أيّ رأي مقموع، وهكذا عندما شكّك سقراط بآلهة أثينا أعدم بكأس من الشوكران، وللمفارقة الساخرة سقى أفلاطون العالم الفكري بكأس شوكران فكري من الرقابة على لسان سقراط. لقد كانت آراء أفلاطون الرقابية الرحم الصناعي لكل أنواع الرقابة التي اجتاحت عالمنا فيما بعد. أمّا الطرف الثالث في عالم الرقابة، فكانت روما التي طالت رقابتها كل شيء، بدءًا من كتب التنجيم التي تتوقّع موت إمبراطور ما، إلى مجرّد تخيّل موته. وقد علّق المؤرخ الروماني تاسيسوس على هذه الرقابة المجنونة بالقول: “لا يتمالك المرء نفسه من الضحك على غباء الرجال الذين يعتقدون بأنّ استبداد الحاضر، قادر فعلًا على محو ذاكرة الجيل القادم”. لقد ذكر إريك بِركويتز الكثير من أساليب القمع والرقابة في روما وسنختار منها ما يسمى (لعن الذكرى) لعبثيتها! لقد كانت كتب المفكرين تحرق ويعدم أصحابها، ومن ثمّ يحرّم ذكرهم، حيث نرى مثلًا لذلك في رواية (فهرنهايت451) للروائي راي برادلي التي كانت تُحرق فيها الكتب، لكنّ الحكّام الذين مارسوا رقابة (لعن الذكرى) على معارضيهم للمفارقة الساخرة طبقت عليهم. كان الإمبراطور (دومسيان) من أشدّ الديكتاتوريين الذين طبقوا مفهوم لعن الذكرى، وبعد أن اغتيل بمؤامرة نسجتها زوجته ومعارضيه، شُطب اسمه من السجّلات وحطّمت تماثيله وحوّلت إلى مباول وأدوات للطعام، كما فعل ستالين برفيق النضال ليون تروتسكي عندما محا وجوده من سجلات الحزب وصوره. لكن الغريب في مفهوم لعن الذكرى لا يمكن أن يُتصوّر إلّا بالتذكّر ليحصل النسيان! كثيرًا ما يُذكر المثل بأنّ (للحيطان آذان) تخويفًا من سطوة الرقابة في الأزمنة الديكتاتورية. وهذا المثل وجد له تطبيق حرفي في روما، ففي عهد الإمبراطور تيبريوس كان أحد الفرسان الكبار واسمه (تيتوس سابينوس)على عداء كبير مع الإمبراطور، قد أقام حفلة، وبعد أن لعبت الخمرة برأسه أفشى مكنونات أسراره لأصدقائه، الذين كانوا قد أحضروا معهم شهودًا من مجلس الشيوخ التابع لتيبريوس، الذين استرقوا السمع من خلف ثقوب في الجدران. أعدم سابينوس ورميت جثته في نهر التيبر. لقد تبنت روما المسيحية بعد عداء كبير معها، وقد كانت عقيدة المسيحيين تنصّ على أنّ مملكة الرب قريبة، فعمدوا إلى تدمير كتب الوثنيين، كما فعل الوثنيون بكتب المسيحيين سابقًا. هكذا اجتمعت في روما الرقابة بشكليها الديني والسياسي.
زلزال الطباعة:
لقد أدّت الطباعة إلى انفجار هائل في المعرفة، فلقد سمحت حتى للطبقات الفقيرة والمستبعدة من المعرفة أن تعلم وتمتلك الكتب. أمام هذا الواقع علّق البابا ألكساندر السادس (1501 ب.م) بأنّ الطباعة ستسمح للكتب الخبيثة بالتواجد والظهور علنًا، واستنتج أنّه لا مناص من السيطرة التامة على المطابع حتى يمنع شرّها. يُقال بأنّه لولا المطبعة لم يكن للإصلاح البروتستانتي بقيادة مارتن لوثر أن يحدث بتلك الوتيرة المتسارعة. وضعت الكنيسة قائمة بالكتب الممنوعة بدءًا من الكتب الفلسفية إلى الجنسية عام 1564 وكانت تحدّثها دوريًا، ولم تلغ قائمة الكنيسة للكتب الممنوعة حتى عام 1966! تحايل الكتاب والناشرون والمطبعيون على قوائم الكنيسة والحكّام في ذلك الزمن، ممّا أوجد تجارة سرّية كبيرة للكتب، وأوجد مفهوم الرقابة السابقة على الكتب كما نعرفها الآن. لقد منعت الكنيسة ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغات المحلّية الأوروبية وعندما ترجم مارتن لوثر الكتاب المقدس إلى الألمانية لعنته كنسيًا. لم تكن الحركة البروتستانتية هي الأخرى مع حرية التعبير بالمطلق، فقد قامت بتكسير الأيقونات المقدسة وتماثيل مريم العذراء وتبادلت مع كنيسة روما قوائم المنع. ظلّت الرقابة بيد الكنيسة والحكّام التابعين لها في دول أوروبا، لكن بعد الفوضى السياسية في إنكلترا وقطع رأس الملك بسبب الخيانة، بدأت إرهاصات التفكير بالحقّ الطبيعي للإنسان بأن يكون حرّا في تفكيره وآرائه، وأنّ دور الحكومة يتلخّص بحماية هذا الحقّ، لا باختزاله وفق مصالحها.
جادل الشاعر جون ميلتون (1644) حول مبدأ حقّ الطباعة من دون الحاجة إلى تراخيص من الحكومة، مستندًا إلى مقولة مفكّر يوناني قديم يدعى إيسقراط الذي يقول: “ذاك الذي يدمر كتابًا جيدًا، يقتل صورة الرب كما تراه العين” لكنّ مطالبات ميلتون كانت تخصّ أصحاب المذهب البروتستانتي لا غيره من المذاهب لذلك يقول: “النار والجلّاد هما أفضل الأدوات المتاحة بيد الإنسان للوقاية” وكان يقصد بآراء كتب الآخرين. لا نستطيع أن نعتبر مقولة ميلتون الأخيرة كبوة حصان شاعر، فما قاله يعتبر خطوة كبيرة في سبيل حرّية التعبير آنذاك. أمّا الخطوة المهمّة، فقد جاءت من الفيلسوف اليهودي باروخ سبينوزا في كتابه (تراكتوس – رسالة في اللاهوت والسياسة لعام 1670) والذي جادل فيه بشكل مطلق بحقّ الإنسان بالتفكير الحرّ والتعبير عن آرائه، فمن المستحيل أن يخضع عقل لسيطرة عقل آخر. وصفت الكنيسة كتاب سبينوزا بأنّه: “كتاب أُعِدّ في الجحيم على يد يهودي مارق وبمساعدة الشيطان”. هذه ليست المرة الأولى التي يلعن فيها سبينوزا فقد طُبقت عليه عقوبة الحرمان الديني من قبل الجالية اليهودية في البرتغال.
كان إعلان حقوق الإنسان والمواطن في فرنسا بعد الثورة عام 1789 والدستور الأمريكي إبّان إعلان استقلال أمريكا عن إنكلترا، خطوة جبارة في طريق تأكيد حرية التعبير مع أنّ مبادئهما لم تطبق إلّا بعد زمن طويل. لقد أحرقت الثورة الفرنسية روائع فنّية تعود إلى زمن الملوك الذين ثارت عليهم، لكنّها لم تتنبه إلّا بعد فترة لما دُمر من روائع، فأنشأ قادة الثورة متحف اللوفر، لكن الكثير من الإبداعات البشرية كانت قد أحرقت من أجل حرية الفكر والتعبير يا للغرابة! كانت أمريكا تشبه أوروبا حذو النعل بالنعل، فلقد حرقت الكتب وسجن وأعدم المطالبون بحرية الأفكار، لكنّ صدامها مع الإنكليز سرّع عملية قبول حرية التعبير والنصّ عليها في الدستور، والتي دعمتها أحكام المحاكم بصورة مبشّرة إلى حدّ ما. كانت الصحافة هي الحصان الأسود في الحرب ضد الرقابة ولذلك قال نابليون: “أربعة صحف معادية، تخيفني أكثر من ألف حربة، وإن سمحت بصحافة حرّة لن أبقى في كرسيّي لثلاثة أشهر أخرى”.
امتدّت الرقابة بعد اختراع المطبعة إلى جوهر الصراع بين الطبقات، فالهدف منها قد أصبح منع الطبقات المستغلَّة من إدراك حقوقها، لذلك كانت الرقابة تسمح بإصدار الكتب الخطيرة المتعلّقة بحرية التعبير والتفكير، شرط أن تكون باهظة الثمن، بحيث لا تستطيع أن تقتنيها الطبقات الفقيرة. لم تتوقف الرقابة عند ذلك بل شملت ضرورة الإبقاء على التراتبية بين الذكور والإناث، هكذا نال المنع رواية فلوبير (مدام بوفاري) لأنّها تخاطب شهوات الأنثى بمكان ما، كما فسّرتها الرقابة. وبالمثل طال المنع (أزهار الشّرّ) لبودلير، فما يجب أن يعرفه الرجل لا يجوز أن تعرفه المرأة. والأغرب من ذلك، كان في الرقابة على الكتب التي تتناول المثلية الجنسية لدى الرجال، فقد منعت حتى لو كانت بحثًا علميًا، لكن عندما سُمح بها في أوائل القرن التاسع عشر في بعض البلدان، انصب المنع فقط على أيّة كتابة تتناول المثلية لدى المرأة! وأمام هذا الواقع الرهيب للرقابة قال الكاتب الروسي بوشكين ممتعضًا: “وحده الشيطان من فكّر بجعلي أولد في روسيا مع عقل وموهبة”.
المقص في الرأس:
شهد القرن العشرون أعظم حربين عرفتهما البشرية، وبقدر ما دمرا أوروبا والعالم، فقد أعادا بناء حرّية التعبير في مواجهة الرقابة. قال السيناتور الأمريكي هيرام جونسون عام 1917: “الضحية الأولى التي تسقط ما أن تندلع الحرب، هي الحقيقة” لقد مُنعت الصحافة من نقل ما يحدث على الجبهات، وقد قال تشرتشل عن تغطية الحرب، يجب أن تحدث في الضباب، وأفضل مكان لنقل وقائع الحرب من داخل لندن، وما كان يقصده بأنّ الحرب سرّ عسكري لا شأن للمدنيين فيه، ولا حتى للجنود الذين كانوا يمنحون بطاقات فيها عدّة جمل معينة يشطبون بخطّ تحت ما يريدون منها ويرسلونها إلى أهاليهم، كي لا يسرّبوا أخبار الجبهات. وعندما قصفت الولايات المتحدة الأمريكية اليابان بالقنابل الذرية منعت الصحافة والمصورين من نقل ما حدث، وقد علّق الروائي جون ستاينبك (1902-1968) على أسلوب تغطية الحرب الصحفية بأنّ تكتب مقالات دعائية أو تخرس أو تقاتل؛ هكذا رأى الخيارات المتاحة للفكر الحرّ في زمن الحرب.
بعد الحرب العالميتين شهد الغرب تجاذبًا بين الرقابة والحرية؛ انتهى لصالح حرّية التعبير والتفكير. وينقسم الآن هذا التجاذب إلى خطيّن، فالولايات المتحدة الأمريكية تعلي حرّية التعبير والتفكير على الكرامة، فإذا كان الرأي المقال بغيضًا ويسبب امتعاض الآخرين، فلا مانع منه، مادام لا ينتقل إلى حيّز الفعل وإن أهدر بمكان ما كرامة الآخرين! بينما في أوروبا تُنصب الكرامة الإنسانية سيدة على الحرّية، لكنّ التطبيقات الجهوية لهذين الأسلوبين، على الرغم من نسبويتها، فإنها تصب في النهاية في خانة الرأسمالية والإمبريالية. وقد سأل أحد السيناتورات مؤسّس فيسبوك، كيف جعلته مجانيًا مدى الحياة؟ فأجابه مارك زوكربيرغ، بأنّه يبيع الإعلانات! لم يشرح زوكربيرغ للسيناتور العجوز طبيعة تلك الإعلانات، بأنّها عواطف واهتمامات وآراء وخصوصية متصفحي مستخدمي السوشيال ميديا، التي تباع إلى الشركات التجارية والحكومات لتستكشف توجّه آراء الناخبين.
لقد اُستبشر خيرًا بالإنترنت، وبأنّها ستكون زمنًا جميلًا لتبادل الآراء والحرّيات، حتى أنّ الرئيس أوباما في تعليقه على القمع الصيني لحرّية التعبير، الذي تمارسه على مستخدمي الإنترنت لديها، بأنّ ما تفعله أشبه بتثبيت قطعة من حلوى الجيلي على الحائط، وهذا لا يمكن أن يحدث! لكنّ الصين فعلتها بعدما اشترطت على منصات السوشيال ميديا ومحركات البحث مثل (google) وغيره، بأن يلتزموا بأوامرها حتى يدخلوا سوقها التجاري. كان جورج أورويل متفائلًا بأنّ الرقابة لن تطال الحقائق العلمية، فحتى هتلر لن يستطيع أن ينكر بأن: اثنان + اثنان يساوي أربعة، لكن لو قيض له أن يرى كيف حُذفت من المناهج الأمريكية مصطلحات من مثل (الاحتباس الحراري) ونتائجه الخطرة على تغيّر المناخ، الناتج عن انبعاث غازات الكربون من قبل أكبر المصنعين في العالم، لأعاد التفكير بتفاؤله.
الآن، ونحن على أعتاب ألفية ثالثة، لم تعد المشكلة في الرقابة، بل في الحرّية التي أُطلقت على عواهنها في العالم الغربي بما يخصّه بشكل ذاتي، لا بالنسبة لبقية العالم الذي ما زال يتخبط بأحابيل الرقابات القديمة، ويمارس عليه الغرب أساليب الرقابة القديمة في الوقت نفسه. إنّ الحرية المشتهاة في الغرب انقلبت إلى خطاب عنصري تنمّري تسعى الحكومات الغربية في مواجهته، إلى إمساك العصا من المنتصف، فمن ناحية لا تقبل المخاطرة بقمع حرّية التعبير، ومن ناحية أخرى تبحث عن حرّية مسؤولة، حيث تُصبح مقولة أورويل كسيف ذي حدّين: “إنّ كان للحرية من معنى، فهو الحقّ بإخبار الناس بما لا يودون سماعه”؛ والمثال عن ذلك الرئيس دونالد ترامب الذي استشاط غضبًا عندما وضع موقع إكس وفيسبوك علامة التأكّد من المعلومات التي ينشرها على حسابه فيهما، وحتى أنّهما ذهبا إلى حذف حسابه مع أنّ ترامب كان يجبر الموظفين لديه في البيت الأبيض على الكتمان، وإلّا غرموا بالأموال، كما فعل بالعمال لديه في شركاته، فالرئيس ترامب مثلٌ عن حرية بلا قيد، لكنّها تصبح رقابة على الغير!
إنّ ميزة كتاب إريك بركويتر، تكمن، بأنّه لم يثقل كتابه بالتحليلات النظرية، بل عمد إلى تقديم أمثلة كثيرة ومتنوعة عن الرقابة في التاريخ وخاصة الغربي، بدءًا من تخيّل موت الإمبراطور بالأحلام في روما، إلى منع الأواني المنزلية المكتوب عليها كلمة حرية في النمسا، وليس أخيرًا منع كتاب (أليس في بلاد العجائب) لأنّ الحيوانات تتكلم فيه! ليترك للقارئ حرّية التحليل واستنباط العبر من تاريخ الرقابة/ الحرّية.
باسم سليمان
كاتب من سورية
خاص ضفة ثالثة

October 7, 2024
ثُنائية الخوف والتجريب!قراءة في رواية جريمة على مسرح القباني للروائي باسم سليمان – وداد سلوم
“في البدء كان الخوف، لا الكلمة… الخوف هو القاتل”.
في البدء كان الخوف الذي رافق الإنسان منذ انفصاله عن مجتمع الغاب؛ خوف من الطبيعة وتبدل مظاهرها، خوف من الكائنات التي تقاسمه الجغرافيا وخوف من أبناء جلدته. هذا ما استدرجه إلى العنف والقتل لامتلاك أسباب البقاء، وحكَم وعيه فيما بعد، فبقي يتمظهر في أشكاله عبر العبادات والأساطير والفنون التي تعكس طريقته في التعبير ولعل أبرزها المسرح؛ الذي كان بدايةً للاحتفال والإنشاد بالأعياد الدينية في محاكاة لقصة الأسطورة، وذلك لتعزيز المقولة وحرصاً على الالتزام بها، بل خوفاً من مفارقتها. إنه تجلي الخوف العميق الذي يسكن العقل الجمعي من المجهول وأشباحه البعيدة أو القريبة وما قد يجره كسر التقديس من مخاطر لن يكون بإمكان الإنسان إيقافها، وما الاحتفالات الجارية عبر آلاف السنين في المنطقة بقيامة تموز وعودة بعل إلا نموذجاً. إذ لم تكن فقط إحياء لذكرى الفعل بل أيضاً محاولة الحفاظ على استمرار تأثير هذا الفعل على حياتهم، في آلية محاكاة لتجنب الخطر.
وها هو باسم سليمان في روايته جريمة في مسرح القباني الصادرة عن دار ميم عام 2020 يستعير المسرح لينشئ محاكاته الخاصة للواقع/ الحرب التي تلتهم الأرض السورية منذ سنوات طويلة، عبر جريمة تحدث على المسرح، وهي في الواقع حادثة موت مجهول الأسباب، ولحلها يستدعي إلى جانب المحقق شخصية إذاعية شهيرة ذاع صيتها عبر برنامج حكم العدالة الذي كان يبث من إذاعة دمشق على مدار أعوام، إنها شخصية المحقق هشام ومساعده جميل، ثم ينهي الرواية بتوقيع المساعد جميل وما يحمل ذلك من إشارات دالة ومدلولات.
الافتداء وتحويل القتيل إلى قربان
متجهاً إلى العمق أكثر، يستهل سليمان روايته بإهداء إلى السوريين في كل مكان مستعيراً قول رينييه جيرار (السلام هبة العنف). المقولة التي تستشرف النهاية الضرورة فهو لا يكتفي بقتل عبد الله البطل -الرمز، بل يحاول جعل هذا الموت افتداء، وذلك عبر الدعوة لتفكيك عجلة العنف وأسبابه، وإعادة قراءة عناصر الوعي المؤسس له، وتجديد مفهوم الافتداء بتمزيق الأثواب التاريخية الزائفة، ثم إعادة نسج خيوطها في قراءة مختلفة تعيد المقولة إلى حقيقتها في ديناميكية الفعل التاريخي. عبر تلمس واضح لذلك التشابك القديم في الثارات والمعارك الممتدة في التاريخ، والتي شكلت دوماً الجمر تحت الرماد، وحكمت عجلته كلما شاهد وثبة ما إلى المستقبل.
كان عبد الله لقيطاً مجهول النسب عثر عليه طفلاً ناجياً من تفجيرات الأزبكية في ثمانينيات القرن الماضي، فهو مولود من رحم الصراع ومثله مشوّه الوجه إذ احترق نصف وجهه من جراء التفجير وكبرت حروقه معه كتوءم، عاش في دار اللقطاء وتعرض للاعتداء ثم مارسه، وحين خرج لم يكن أمامه فرصة للعمل إلا زبالاً لتنشأ بينه، وبين بائع الكتب تحت جسر الرئيس صداقة توازيها صداقة بائع الكتب مع المحقق، الذي يكشف في أوراق عبد الله بعد توليه التحقيق في الجريمة قصة موازية لحياته ورؤية حكائية للحدث، وهو كوريث لمحنة الصراع / العنف الذي تغلغل في المجتمع وراح يتسع ويتفاقم ليهدد وجوده، يرى أن الخلاص يتم عبر التمثل الرمزي للأسطورة، فالضرورة تستدعي غسل الدم بفداء لا يستوجب ثأراً لإنهاء دورة العنف المتناسل، التي باتت تتغذى على سلسلة الانتقامات في متوالية الموت الكبيرة، مؤسساً أسطورته الخاصة ومكملًا تناسل الأسطورة منذ الجريمة الأولى في التاريخ الإنساني؛ أي منذ قتل الأخ لأخيه إلى الطوفان الكبير ثم افتداء إسماعيل بكبش. فالخيط المتواصل عبرها جميعاً؛ هو عملية الافتداء، معيداً القارئ إلى بذور الوعي التي أفرزت في كل مرحلة تاريخية مقولتها المتناسبة مع ظرفها الإنساني والتاريخي، وانطلاقاً من هذه الرؤية التي يسلط فيها سليمان الضوء على ضرورة إنتاج الوعي الجديد عبر فهم آلية الأصول العنفية للوجود البشري في علاقته مع المحيط ومحاكاتها بين أبناء النوع الواحد، ومحاولة وضع الظاهرة في سياقها التاريخي لإنتاج المقولة والانتقال من اللاتمايز العنفي، حيث تصاب فيه الأطراف بالالتياث وتبادل العنف المدمر لبنى الوجود الإنساني، وتتلاشى القيم الروحية والمادية ويجرف السيل كل شيء. تنشأ بالتالي ضرورة كبح هذه العجلة أولاً.
وهكذا تدور الرواية على ألسنة الثلاثة، القتيل والمتهم (حارس مسرح القباني وهو بائع الكتب تحت جسر الرئيس)، والمحقق الذي ورث ساعة الأرمني مسيو كارنيك (والذي يعني اسمه الخروف/ الأضحية أيضاً)، ثلاثة تجمعهم بمصادفة عجيبة صداقة الكتاب والبحث، وتاريخ الميلاد وجريمة تحدث في مسرح القباني، إلا أن الجزء الأكبر منها يكون في سرد أوراق عبد الله التي يجدها المحقق في غرفة أسفل المسرح. لتتوازى الحكاية في الأوراق مع الحدث الواقع وتنامي الإدراك لأبعادها لديه. كما تشغلهم الأفكار الفلسفية وتتصارع في وعيهم بطرح أسئلة تبحث عن إجابات ملحة.
هكذا ربط سليمان عبر مقتل عبد الله بين طبقات الوعي الثقافية والسياسية والدينية باللاوعي، الذي يمتد إلى بداية التاريخ الإنساني محملًا شخصية عبد الله أبعاداً رمزية، فألبس موتها دلالات وإشارات لكيفية الخروج من دوامة العنف الحادث والصريح في المذبحة السورية، ومحاولة تحويل هذا القتل إلى تطهير أو فداء عبر تحويل القتيل عبد الله إلى فدية/ قربان للخلاص.
تنتهي الرواية في أوراق عبد الله ليعلن عبرها استشرافه للفداء الذي أوكل إليه أو أوكله لنفسه منهياً بذلك شبهة الجريمة، ومعيداً الفعل لجذره الحقيقي لتبدأ الخيوط بالتكشف لدى المحقق في عملية تنامٍ تتوازى مع هضم المقولة، ودفعه للمشاركة في تحقيقها، وإظهار تجليات محاور التجريب في رسمها، فالجريمة/الفداء تحول العنف المدنس إلى عنف مقدس ينهي فعل القتل. فالجثة في المسرحية المتضمنة داخل الرواية تقف إلى جانب القاتل وتراه منقذاً لها حتى لا تستمر بأفعالها الدنيئة التي لم تخترها بل دفعت إليها بحكم السبب والنتيجة، إنها ابنة الحرب والقاتل المجهول في قولها: (الطيور على أشكالها تقع) إن هو دليل على تعدد القَتَلى الذين كان يدفعهم الخوف لارتكاب القتل، حيث أصيب الجميع بالالتياث الذي يحول الجميع إلى أدوات، ويسلب القدرة على التمييز، وهذا ما سماه رينيه جيرار باللاتمايز العنفي. ومن هنا كان لا بُد من التمييز بين موت مهدور الدم يراكم الأشلاء والضحايا، وموت الافتداء (موت عبد الله) الاختيار الذي يقود إلى موت العنف بما تحمله شخصية عبد الله من رمزية للصراع المشوه، والذي يحدث دون خوف بفعل الوعي.
رواية عميقة تعنى بالتجريب
يذهب باسم سليمان بقوة وشجاعة في روايته إلى تجريب مختلف، وحتى أقصى ما تحتمله الرواية، فضمّنها نصاً مسرحياً / مسرحية (الجثة) التي كتبها عبد الله القتيل/ والحكاية / أقصوصة الموت/ والقصة القصيرة / قصة المقص/ وإلى طرق أبواب قليل من تجرأ وطرقها، في الإشارة لضرورة إعادة قراءة النص القرآني الكريم والتراث وتفسيره على ضوء القراءة الجديدة.
إن حرفية باسم سليمان بإتيان المخزون المعرفي والثقافي؛ هي محاولة لأخذنا ليس إلى تفنيد مرجعياته، بل البحث معه في الدلالات لإعادة إنتاج هذا المخزون وتوجيهه في الحصول على بنية معرفية ثقافية واجتماعية هي الإنسان، الذي يجب أن يولد من مقتل القديم المحطم، ليس إتيان السلم بعد الحرب؛ وإنما إتيان السلم الذي يفكك أسباب الحرب، ويوقف دورة التكرار التي تواكب التاريخ وتولد منه، فكما يقول سليمان: ليس مهما فقط إيقاف الدم في هذه الحرب، بل أن نفكك آلية الثبات في أسباب الثأر التي تفتح الجروح في كل دورة منه.
ومن هنا بدأ روايته باستعراض أفكار المحقق عن معنى عيد الأضحى في محاولة لإعادة قراءة النص القرآني بطريقة جديدة، للتغلغل في معناه الأمثل الذي يمنحه قراءة لتكوين الفكر البشري ونظرته لسيرة الإنسان، كما في قراءته لقصة قابيل وهابيل؛ إذ ينظر إلى عملية القتل على أنها انتحال الأخ لإثم أخيه، وعليه يجب أن يدرأ الحد بالشبهات، ويتوقف الثأر عند الفعل ذاته.
هكذا في بحث عبد الله عن عائلته يتوصل إلى أنه يبحث في الحقيقة عن قاتله، ويتوقف عن ذلك حين يدرك أن البحث يحيله إلى المرآة. “وحينها أدرك معنى الأضحية، التي من خلال تتبع دلالاتها سيصبح من الممكن ردع الشبهات التي ستثور من جديد ما إن تسنح لها الفرصة” [ص: 159].
النهاية:
تأتي النهاية رمزية الحدث؛ إذ يغادر المحقق المسرح خارجاً من قلب الخشبة بعد أن قرأ أوراق عبد الله وكأنه يعيد القيامة للمسرح/ الواقع الذي يتراكم عليه تل الخردة والدمى البشرية، كما وصفه البطل في أوراقه وهو ما يوازي حركة المحقق الذي رأى في أوراق عبد الله حياة عاشها، أو يخيل له أنه سيعيشها، فتمنى لو تعرف على عبد الله قبل أن يموت حتى لا يحدث ما حدث، ويجد أن الخروج من هذه المتاهة لا يكون إلا بإعادة الحياة إلى المسرح الذي حولوه إلى خشبة مصمتة بإغلاق حجرة الملقن، وهي صلة الممثلين بالنص الحقيقي، مقاربة لصلة التجلي بالجوهر، وصلة الأصل بالانعكاس، وصلة الشكل بالفكرة. فيعلن المحقق أن خروجه من الكواليس أو من العمق الذي رغم كل عتمته أنار عقله عبر أوراق عبد الله لن يكون من الباب الخلفي، ولا من أي مكان بل من الخشبة التي يدقها برأسه حتى يدمى ليفتح حجرة التلقين خارجاً منها بما يشبه الولادة الجديدة – الخروج من الشرنقة؛ إنساناً جديداً فيتجمد الممثلون ويقف الجمهور مذهولًا.. إنها القيامة التي ينتظرها الإنسان السوري ليكتفي من الموت وينهض من جديد. ورغم إدراك الضرورة إلا أن الخوف من الجدوى ومن نجاح المحاولة يبقى حاكماً يقول باسم سليمان:
“الخوف أهم دافع في الإنسان حتى قبل الجنس، وخوفي ليس حرصاً بل ضجراً من سقم الوجود”.
نميز في الرواية ليس فقط مهارة التجريب العالية بل أيضاً لغة الكاتب الخاصة، وأسلوبه الخاص المتصاعد باستمرار، والحقيقة أن مشروع باسم سليمان الفكري لا يقتصر على الإنجاز الروائي، والذي يعدنا فيه برواية ثالثة ليكمل ثلاثية كانت رواية نوكيا الصادرة عام 2013 الأولى فيها، تلاها جريمة في مسرح القباني عام 2020. بل يمتد إلى إنتاجه الثري من المقالات العديدة في التراث والفكر، مؤسساً لوعي جديد خارج عوالق التفسير والاجتهاد التي أخذته إلى أماكن أخرى فسلبته جوهره الحقيقي. ومن هنا نستطيع أن نشير إلى كاتب ومفكر له لغته الخاصة ومشروعه الذي ننتظر منه الكثير.
https://arrafid.ae/Article-Preview?I=A%2f6BnsuXTpE%3d&m=5U3QQE93T%2f0%3d
September 27, 2024
الإعاقة كاستعارة أدبية: ليست شيطانًا ولا ملاكًا!
باسم سليمان 27 سبتمبر 2024
إنّ أقدم تعريف للاستعارة يرجع إلى كتاب أرسطو (فنّ الشِّعر) والذي من الممكن عدّه أول كتاب يعالج الأدب نقديًا من خلال التراجيديا. وقد عرّف أرسطو الاستعارة: “بإنّها إعطاء الشيء اسمًا يخصّ شيئًا آخر”. وبهذا التعريف اختصر أرسطو أولى العمليات المفاهيمية العقلية التي قام بها الإنسان من أجل فهم الوجود، فالاستعارة تعدّ لبنة أولية في معارف الإنسان، ابتداءً بالسحر ومن بعده الدين وصولًا إلى العلم مرورًا بالفنون والآداب والفلسفة. وتكمن أهمية الاستعارة في قدرتها على إعطاء المفاهيم العقلية بعدًا فيزيقيًا وبالمقابل تجريد الأشياء المادية ومنحها بعدًا ميتافيزيقيًا. لقد قال أرسطو: “الحسّيّات معابر للعقليات” وبالعكس تجد العقليات تحقّقها بالحسّيّات عبر الاستعارة؛ وفي الحالتين تلعب دور الوسيط، فالصنم استعارة حسّيّة للإله، ومفهوم الخير استعارة عقلية للعطاء المادي. وإذا أردنا أن نقارب الإعاقة كاستعارة تواجدت في الآداب علينا أن نبيّن طبيعتها الثنائية، ولا يوجد أفضل من المصطلح اليوناني (الفارماكوس) الذي يجد جذره في الكلمة اليونانية (فارماكون) التي تعني: (ترياق- سمّ)، فالشخص المعوّق يعتبر تمثيلًا للشّرّ، فهو سمّ/ شرّ، هذا من جهة، أمّا من جهة ثانية، فيعدّ المعوّق ترياقًا/ خيرًا، فعبر طرده وإقصائه بعيدًا عن المدينة أو تعذيبه أو قتله، سيؤدي إلى اضمحلال الشّرّ وزواله. لقد كانت المدن اليونانية تمتلك (فارماكوسات) جاهزة لأن يتم تمثيل الشّرّ بها في حالات الكوارث والأمراض والحروب، فيتم تقديمهم كفداء/ أضحية من أجل عودة السلام إلى المدينة، وهذه الفارماكوسات عادة ما تكون من المعوّقين وأحيانًا أخرى من الحيوانات.
ولكي نفهم أكثر موضوعة الفارماكوس، لا بدّ من استذكار مسرحية (أوديب ملكًا) لسوفوكليس. استطاع أوديب أن ينقذ مدينة طيبة من السيفنكس (وحش، بوجه أنثى، وجسم حيوان وصدر وأرجل أسد وأجنحة نسر) بعد إجابته على سؤال السيفنكس: “ماهو المخلوق الذي يمشي على أربع أرجل صباحًا، وعلى اثنتين ظهرًا، وعلى ثلاث ليلا؟” فكان جواب أوديب: الإنسان! قامت طيبة بتنصيب أوديب ملكًا عليها بعد قضائه على الوحش، وزوّجته من جوكاستا زوجة الملك السابق الذي قُتل. بعد مدّة ضرب الطاعون طيبة بسبب زنا المحارم، كما علّل العرّاف تيريسياس! استغرب أوديب من نبوءة العرّاف، لكنّه اكتشف فيما بعد، بأنّ الرجل الذي قتله كان ملك طيبة وأباه أيضًا، أمّا جوكاستا فهي أمّه، وبناته، فهنّ أخوته من أمّه! وأمام هذا الواقع المرير، ولكي ينقذ أوديب طيبة ممّا سبّبه لها، فقأ عينيه، وبذلك تحوّل إلى أعمى/ معوّق، وأصبح فارماكوس، وما إن تم إبعاده عن طيبة حتى تلاشى مرض الطاعون. وهنا قد يرد سؤال عن أنّ إعاقة أوديب كانت لاحقة لولادته سليمًا، والفارماكوس من شروطه أن يكون المولود معوّقا، لكن معنى اسم أوديب: صاحب القدم المنتفخة، غير السوية! لقد تنبأ العرّافون لوالد أوديب، بأنّه سيولد له طفل سيكون سبب هلاكه، لذلك عندما ولِد أوديب نبذ بعيدًا في الجبال، فوجده راعٍ وتبنّاه، وتتالت الأحداث حتى أصبح ملك مدينة طيبة. إنّ السبب الذي نحا بالعرّافين إلى نبوءتهم تلك، كانت بسبب إعاقة أوديب والتي لُحظت في قدمه عند ولادته! لكنّ الآخرين لم يكن من الممكن لهم الانتباه إلى إعاقة أوديب في قدمه، لذلك كان لا بدّ من يفقأ عينيه، ليصبح ملحوظًا من الآخرين، وبذلك يتم تعليل الطاعون الذي ضرب طبية، وفي الوقت نفسه، يتم التخلّص منه عبر إبعاد أوديب.
من هذا المنطلق، كانت إسبرطة، ومدينة أفلاطون الطوباوية، ومؤسّس روما رومولوس؛ قد سنّوا قوانين تنصّ على قتل الأطفال المعوّقين، والسبب في ذلك، لأنّهم كانوا يعدّونهم رسائل من الآلهة تنذر بالشرور، لذلك كانت تُعاد إلى الآلهة عبر تركهم للموت في البرية أو قتلهم، وبذلك يتم إبعادهم عن التجمع البشري وإنقاذه من الشرور والكوارث.
إنّ جوهر استعارة الإعاقة كتمثيل للشّرّ، يتبدّى في أنّه لا يمكن تمثيل الخراب الدنيوي من دون اللجوء إلى الأجساد المعوّقة، وتعليقًا على هذا التمثيل قال عالم الإعاقة الشهير بول لونجمور(1) مستنكرًا: “هل تمثل الإعاقة أي شيء آخر غير صورة سلبية؟” لكن من ناحية أخرى كانت الحاجة لتمثيل الشّرّ بالإعاقة تفرض ضرورة وجود المعوّقين ليتم طرد الشّرّ عبر إبعادهم أو قتلهم. ومن هنا كانت الإعاقة استعارة بوجهين، فمن ناحية هي سمّ، ومن ناحية أخرى هي ترياق.
العقل السليم في الجسد السليم:
لماذا لم يدفع سوفوكليس أوديب إلى الانتحار أمام الفظائع التي ارتكبها، حتى يتخلّص من تأنيب الضمير؟ لا تكمن الإجابة فقط بضرورة تحوّل أوديب إلى فارماكوس، بل لابدّ أن يثبت تشوّه نفس/ روح أوديب. ولن يتم إدراك هذا التشوّه إلّا عبر فقأ العينين، فالمظهر الخارجي دليل على العطب الداخلي. ولما كان أوديب من الذكاء لدرجة أن حلّ سؤال السيفنكس الذي استعصى على الجميع، فلماذا لم تسعفه بصيرته بأن يَرى ما خلف الأكمة في طيبة! ومن هنا نفهم كيف كان الكاهن تيريسياس أعمى، لكنّه ليس فارماكوسًا أو معوقًا. إنّ جوهر الفرق بين أوديب وتيريسياس، يتجلّى بأنّ تريسياس قد ولِد صحيح الجسد، لكن حبّه للمعرفة دفعه للإطلاع على سفاد حيّتين، ولأنّ معرفة الذكر من الأنثى لا يمكن أن يتم لتشابه ذكر الحيّة وأنثاه، أصبح لتيريسياس القدرة أن يكون ذكرًا وأنثى، أي أنّه اخترق الحدود، فعاقبته الآلهة بأن جعلته أعمى، لكن أبقت على بصيرته؛ ولهذا نجد التحريمات في سفر اللاويين تتعلّق بالأكمه أي المولود أعمى، وليس من طرأ عليه العمى لاحقًا، فأوديب بالأساس مشوّه بالولادة، حيث حمل اسمه جوهر إعاقة: (القدم المنتفخة) التي لا تخطو باستقامة، ولذلك على الرغم من ذكائه انحرف عن الاستقامة وارتكب زنا المحارم، حتى لو لم يكن يعلم ابتداءً! وهنا سؤال مضمر لماذا ذُمّ الذكاء في مسرحية سوفوكليس؟
إنّ مقولة: العقل السليم في الجسد السليم، على الرغم من ظاهرها الجميل، إلّا أنّها تُضمر عنصرية مبطّنة! لقد ذكر أفلاطون بأنّ الفيلسوفة (ديوتيما) هي من شرحت لسقراط فكرة التسامي؛ من الجميل الفيزيقي إلى الجمال الميتافيزيقي، والتي تبناها أفلاطون وأبدع منها فكرة عالم المُثل. وبالمقابل يأتي أرسطو تلميذ أفلاطون، ليقول بأنّ: “الأنثى ذكر مشوّه”! والغريب برأي أرسطو عدم تقديره للذكاء، مالم يكن في جسد ذكر كامل المواصفات (أولومبي). إنّ فكرة أن يكون الجسد تجلٍ للنفس/ الروح، قد تبنتها الفلسفة اليونانية، وبالتالي فساد النفس سيؤدي إلى فساد الجسد. ومن هذا التصوّر كان فساد أوديب على صعيد النفس – صاحب القدم المنتفخة- وبناء على ذلك لن ينجيه ذكاؤه، عندما أجاب على سؤال السيفنكس! كذلك المرأة الذكية لن تكون صنوًا للرجل، وفق أرسطو، لأنّ نفسها فاسدة بالجوهر. هذه الزاوية في النظر تفسّر لنا أسباب ولادة الإله هيفايستوس معوّقًا، فالأسطورة تقول في إحدى تجلياتها، بأنّه حمل ذاتي/ عذري لهيرا زوجة زيوس، لذلك جاء معوقًا/ أحنف القدم. وفي تمظهر آخر بأنّ هيفايستوس ارتكب خطأً شنيعًا عندما وقف مع أمه هيرا ضد أبيه زيوس التي كانت تعاتبه على مغامراته العاطفية. في الحالتين تظهر إعاقة هيفايستوس بسبب المرأة الفاسدة، أكانت بشرية أم إلهة، وكأنّ ذلك يذكر بالخطيئة الأساسية التي بنت عليها الديانات التوحيدية أسباب الهبوط من السماء، ألم تتذاكى/ تتخابث حواء في إقناع آدم بالأكل من الثمرة. وكما أهبط آدم من الجنّة، طَرد زيوس هيفايستوس من الأوليمب، فمن ناحية لأنّ هيرا لم تقبله، مع أنّها هي سبب وجوده الأوحد – حمل عذري- ومن ناحية أخرى لأنّه عارض زيوس بسبب أمّه. تقول الأسطورة بأنّ هيفايستوس بعد سقوطه من السماء، تبنّته الجنّيّات – الجنيّات إناث- وعلّمنه فنون الصناعة. وفي مروية أخرى أنّ هيفايستوس سقط في جزيرة القرود، وهناك نما وشبّ وتعلّم. ولا ريب أنّ إسقاط هيفايستوس في جزيرة القرود التي تمثل تقليدًا سيئًا للإنسان، كان مقصودًا، فهيفايستوس قرد في النهاية بنظر آلهة الأوليمب حتى لو كان ذكيًا، لكنّه خبيثٌ في المحصّلة.
يقودنا ماسبق إلى التفريق بين الذكاء المقترن بالجسد السليم والخبث المعبر عنه بالجسد المشوّه. ولربما أقرب صيغة لفهم هذه القسمة الضيزى باستحضار إبليس، فبعد الخطيئة أصبح بشعًا أو جسدًا مشوهًا؛ ومن هنا وضع الشاعر الإنكليزي جون ملتون في كتابه (الفردوس المفقود) هيفايستوس في الجحيم، وأوجد شبهًا بين سقوطه وسقوط لوسيفير/ الشيطان من السماء، وللمفارقة أصيب ملتون بالعمى.
يعتبر هيفايستوس أب الاستعارة الأدبية للإعاقة، وسنرى ذلك من خلال رؤية فرويد للإعاقة وذلك في مقالته : (بعض أنماط الشخصية التي نصادفها في العمل التحليلي النفسي)، فقد استخدم فرويد شخصية (ريتشارد الثالث) في مسرحية شكسبير كنموذج لتحليله لمشاكل الشخصية لدى الأشخاص ذوي الإعاقة. ولقد افترض فرويد علاقة جدلية بين الإعاقات الجسدية وتشوهّات الشخصية. وقد أكّد فرويد على المرارة التي يشعر بها ذوي الإعاقة من خلال مونولوج ريتشارد عن إعاقته، ويشبه هيفايستوس ريتشارد؛ الأول في سعيه لاعتراف الآلهة به، والثاني في سعيه للسلطة. وقد قارب فرويد ريتشارد الثالث، ليدعم حجّته القائلة، بأنّ جميع الأشخاص من ذوي الإعاقة تقريبًا يعانون من مشاكل في الشخصية. وتبعًا لفرويد، يشعر الأفراد الذين يعانون من عيوب خلقية، بأنّهم تعرّضوا للظلم من قبل الطبيعة أو الآلهة، وبالتالي يستحقّون التعويض؛ وهم يعدّون أنفسهم استثناءات، لذلك ليسوا ملزمين بالقواعد الطبيعية للمجتمع، فيأتي تمردهم العصابي كنتيجة لإحساسهم بالظلم الكبير الذي وقع عليهم. لقد برّر شكسبير على لسان الملك ريتشارد الثالث سلوكه القاسي وغير الأخلاقي وخبثه بشكواه بأنّه، ودون أي خطأ من جانبه، كان قبيحًا وغير محبوب وغير جدير بالحب، وبالتالي كان من الطبيعي أن يعامل الكون بالمثل. أمّا ألفرد أدلر، تلميذ فرويد، فقد عدّ أن الشعور بالنقص لدى أي كائن سيدفعه إلى تجاوزه. وما قصده أدلر نستطيع أن نوجزه بالعربية: كلّ ذي عاهة جبار. والآن لنعد إلى هيفايستوس. إنّ إحدى دلالات كلمة (تقنية) في اليونانية تعني الخداع! ولقد كان هيفايستوس مخادعًا كبيرًا، فهو أب التقنية والاختراعات عند اليونان، فقد اخترع آلات ومكنات لا تحتاج للكلمة الخالقة، بل تتفوّق عليها. لقد كان ذكيًا جدًا، ولكن وفق معايير الأوليمب كان يعدّ خبيثًا لأنّ جسده مشوّه. أراد هيفايستوس أن يتم الاعتراف به في مجمع الآلهة، فدبّر حيلة، بأن أهدى أمّه صندلًا، ما إن انتعلته حتى سقطت على وجهها، ولم تستطع الوقوف ثانية. وفي سردية أخرى أهداها عرشًا، فما إنْ جلست عليه حتى ارتفع في السماء وأحاطت بها شبكة لاترى تمنعها من الحركة، ولم تستطع الآلهة فعل شيء نحو حيل هيفايستوس! ولذلك ترجّت الآلهة هيفايستوس ليعود إلى الأوليمب. هكذا انتقل هيفايستوس من سكن الكهوف إلى أعالي الأوليمب نتيجة لاختراعاته التقنية. وعندما صعد إلى السماء التي طرد منها سابقًا، لم يقبل إطلاق سراح أمه هيرا، إلّا بعد أن يوافقوا على طلبه بالزواج من جميلة الجميلات أفروديت. تزوج هيفايستوس المعوّق من أفروديت، لكنّها خانته مع إله الحرب الجميل آرس. وعندما قبض عليهما بشبكته التي لاترى، سخرت منه الآلهة، حتى أنّ الإله هرمس (بريد الآلهة) لم يمانع أن يبادل آرس مكانه في شبكة هيفايستوس بعدما رأى جمال أفروديت العاري. لقد عُلّلت خيانة أفروديت لهيفايستوس بسبب إعاقته وبشاعته، مع أنّه هزم غريمه آرس إله الحرب عندما تواجها. ومن جبن آرس اختبأ خلف أمه عندما دلف هيفايستوس مجمع الآلهة، لكنّ آرس جميل ولا يهم إن كان غبيًا وجبانًا، فمن أجله جعلت أفروديت باريس أمير طروادة يقع في حبّ هيلين الإغريقية لتقوم بسببها الحرب.
إنّ قصة خيانة أفروديت لهيفايستوس سنجد محاكاةً لها في رواية (عشيق الليدي تشاترلي) للروائي الإنكليزي د. هـ، لورانس، التي كانت تخون زوجها الضابط الذي أصبح معوّقًا بسبب الحرب. وسنراها أيضًا في (حجر الصبر) للروائي الأفغاني عتيق رحيمي. وبالمثل ستكون كل الروايات والقصص التي تدفع الزوجة لخيانة زوجها بسبب إعاقته، هي إعادة استحضار لأسطورة هيفايستوس. لاريب أنّ لورانس ورحيمي كان يمثّلان بالرجل المعوّق المجتمع المدمّر بسبب الحرب أو المتخلّف وغير ذلك من أسباب، لكن كما قال لونجمور، بأنّ الإعاقة صورة سلبية، ولذلك لجأ رحيمي ولورانس كشكسبير في مسرحية ريتشارد الثالث، لتمثيل الشّرّ في الإعاقة كونها الاستثمار الأسهل للحبكة الروائية، على الرغم من النوايا الجيدة للكتّاب، لكنّنا تحصّلنا في النهاية على صورة سلبية للمعوّق. ولو رجعنا للقصة الأصلية لهيفايستوس، وعلى الرغم من خدمته الرائعة لمجمع آلهة الأوليمب، لكن مع ذلك ظلّ هيفايستوس معوّقًا بنظر أخوته الآلهة. لقد لجأ كل من شكسبير و لورانس ورحيمي وغيرهم من الروائيين إلى الاستثمار في ثيمة الإعاقة، لتحقيق ردود عاطفية كبيرة، فريتشارد الثالث مكروه، والضابط في عشيق الليدي تشاترلي كذلك، والزوج المقعد في رواية عتيق رحيمي لا يختلف عنهما. ولا يفترق الأمر في رواية (موبي ديك) لهرمان ملفل، فالكابتن (أخاب) معوّق أيضًا وبسبب إعاقته كان شريرًا.
لقد ارتبط الشرّ في الآداب بالإعاقة والبشاعة، ففي قصص الأخوين غريم نجد أمثلة عديدة لذلك. وقد كان من المأمول أن يخالف الأدبُ الدينَ والسياسية والاقتصاد والمجتمع بنظرته إلى المعوّق، لكنّه ارتكس إلى الصورة السلبية للمعوّق في أكثر الأحيان، مثلما فعل الروائي النوبلي ساراماغو في روايته (العمى) ليرينا كيف انحدر المجتمع إلى الوحشية بسبب إصابة أفراده بالعمى. ليس المطلوب من الأدب أن يكون خطابًا تبشيريًا عن الإعاقة، لكن كما قال الشاعر الإنكليزي ألكسندر بوب الذي كان يعاني من تشوّه في عموده الفقري ممّا سبب له حدبة صغيرة: “ليست حياتي سوى هذا المرض المديد” وللمفارقة تعتبر جملة ألكسندر الأكثر اقتباسًا من قبل غير المعوّقين!
لا ريب أنّ الإعاقة كصورة أدبية تحمل الكثير من الشحنات العاطفية؛ من اللعن إلى الشفقة، وفي الحالتين لن نتحصّل على صورة صحيحة للمعوّق، فإمّا يصوّر كشرير، أو كبطل خارق فنتازي تجاوز إعاقته بالسحر أو بشيء آخر، أو يصبح موضعًا للشفقة من قبل الآخرين، أو أن يمثّل غاضبًا تجاه الكون والمجتمع. ليس المعوّق كلّ هؤلاء، فقد قال عالم الإعاقة ليونارد كريجل (2) في إحدى مقالاته وكان معوّقًا من طفولته لإصابته بالشلل، بأنّه لا يريد أن يكون ملهمًا لأحد! والسبب في مقولته تلك، بأنّه كان يرى المعوّق كشخص طبيعي، بنجاحاته أو فشله، بضعفه أو قوته، بشرّه أو خيره، فالإعاقة وإن كانت سببًا قاهرًا، لكنّها ليست شيطانًا ولا ملاكًا.
الهوامش:
بول ك. لونجمور(1946- 2010) أستاذ في التاريخ وناشط في مجال الإعاقة. فقد لونجمور استخدام يديه بسبب شلل الأطفال عندما كان في السابعة من عمره. كان بحاجة إلى مساعدة في التنفس من جهاز تنفس صناعي ليلًا وجزءًا من النهار.ليونارد كريجل (1933 – 2022) كاتب أمريكي مشلول، كما يصف نفسه. تضمنت كتاباته مقالات وقصصًا وروايات. أصيب بشلل الأطفال في سن الحادية عشرة.باسم سليمان
كاتب من سورية

باسم سليمان's Blog
- باسم سليمان's profile
- 24 followers
