باسم سليمان's Blog, page 5
September 21, 2024
أنا أعبدُ الإله هيفايستوس – باسم سليمان – مقالي في صيف22
السبت 21 سبتمبر 202410:02 ص
يقولون لي: “ولدتَ بصحّة كاملة، مشيتَ مبكراً، وتكلّمت مبكراً، ولولا قليلاً، لتكلّمت في المهد. الحمد لله، خلْقة تامة، ولكن هناك حكمة عربية تقول: “من استعجل الشيء عُوقب بحرمانه”، هأ هأ، يا لِمكر الأقدار! ما هو المقصد من هذه المعلومة التاريخية عنّي؟ فلست الإسكندر، على سبيل المثال، حتى يكون لتاريخ ولادتي شأن.
تلك المقولة هي صيغة لشكر الله بأنّه خلقني خلْقة تامة، لا إصبع ناقص ولا آخر زائد، لا رجل عوجاء أو قدم حنفاء، حواسي مئة بالمئة، وجسدي كامل، إذن، أنا على صورة الإله، كما تقول التوراة، على الرغم ممّا حدث لاحقاً؟ لذلك كانت تكرّر جملة “ولدتَ بصحة كاملة” مادام المجتمع الذي ولدت فيه يتعوّذ من الشيطان إذا جاء الوليد معاقاً.
لقد بدأ جسدي بدءاً من السابعة من عمري يتحوّل إلى لوحة تكعيبية لبيكاسو، وأصبحت ممن يطلقون عليهم صفات ونعوتاً: “أهل الزمانة – المقعدون- العاجزون – العطيلة- المعوّقون – المعاقون – أصحاب الهمم – ذوو الاحتياجات الخاصة…” دليلاً على التوصيف الطبي والمجتمعي وعلى القبول التدرجي لهم من المجتمع، لكن مع إضمار بأنّهم مذنبون وفق مذهب الكارما، أو أنّ الله اختارهم ليكونوا عبرة يخوّف بهم البشر الأصحاء ليعبدوه، أو أنّهم استثناء من القانون الدارويني، البقاء للأصلح!
وعليه، لو اجتهد من يطلقون الصفات والنعوت على أمثالنا -نحن غير الأصحّاء- لأصبح لنا من الصفات والنعوت ما يقارب إلهاً حديث النشأة، يتخيّر له عبّاده الأسماء والصفات. وهذا حقيقي ليس من باب الشطح – كما عند المتصوفة – فصفة “أهل الزمانة” تعني بأنّهم من العاجزين المقعدين الذين امتدّ المرض بهم، حتى لا يُعرف لهم تاريخ كانوا به أصحّاء، وكأنّهم “قديم الأيام” (صفة للإله يهوا؛ والتي تعني أنّه لم يكن يوماً إلّا موجوداً، لذلك هو قديم الأيام، أزلي، أبدي) لذلك ما قصدته من تشابه؛ له معقولية ما.
نيغاتيف:
حقيقة، ليس لي ذكريات كثيرة من ذلك الزمن، هناك ذكريات قليلة من ذلك الماضي الصحي، ولولا أصدقاء وأقرباء أهلي، لم أكن لأصدّق ذلك، فالأهل يرون أولادهم أصحّاء وجميلين وفق المثل “القرد في عين أمّه غزال” ولم أكن لأقتنع بتلك الصورة الوحيدة لي بالأبيض والأسود في صغري، والتي أبدو فيها كحرف الألف، منتصب القامة، كطفل أمرد، سيصير شاباً أمرد، كما قال الرسول عن كيف شاهد الله في حادثة الإسراء والمعراج، أو كما غنّى مارسيل خليفة “منتصب القامة أمشي…”، لكنني لم أكن أحمل نعشاً، بل أحلاماً كثيرة عن الحياة تشفّ عنها تلك العيون البنية ذات النظرة الخجولة والماكرة، لكنّ الأحلام تحوّلت إلى كوابيس. إنّ الصورة وأحاديث أهلي يثبتون، بأنّني كنتُ صحيح الجسد، أحياناً أظنّهم يكذبون، وأنّ الذكاء الصنعي هو من أنتج تلك الصورة لذلك الطفل صحيح الجسد.
إذن، أنا من أهل الزمانة- مهما كان السبب- قديم أيام المرض، كالإله قديم أيام الوجود، ولأنّ الطيور على أشكالها تقع، صاحبت قديم الإيام وقبلت به إلهاً، إلى أن جاء وقت الحقيقة، واكتشفت أنّه لا يحبّذ أمثالي، فها هو يخاطب النبي موسى ليقول لأخيه هارون اللاوي: “قُلْ لهرونَ: مَنْ كانَ فيهِ عَيـبٌ مِنْ نسلِكَ على مَمرِّ الأجيالِ، فلا يقتَرِبْ ليُقدِّمَ طَعامَ إلهِهِ: الأعمى والأعرجُ والأفطسُ والأشرعُ، والمَكسورُ الرِّجْلِ أوِ اليدِ، والأحدبُ والقزَمُ والّذي في عينَيه بـياضٌ، والأجربُ والّذي في بدَنِهِ بُثورٌ، ومَرضوضُ الخِصيتَينِ. كُلُّ مَنْ بهِ عَيـبٌ مِنْ نَسلِ هرونَ لا يتقدَّمْ ليقرِّبَ وقائدَ طَعامِ الرّبِّ إلهِهِ. لكنَّهُ يأكلُ مِنْ طَعامِ إلهِهِ، سَواءٌ أكانَ مُقدَّساً أم مُقدَّساً كُلَّ التَّقديسِ. وأمَّا الحِجابُ المُقَدَّسُ، فلا يَقتَرِبْ مِنهُ، ولا يتَقدَّمْ إلى المذبَحِ إذْ بِهِ عَيـبٌ فلا يُدنِّسُ معبَدي الّذي كرَّسْتُهُ لي”.
لماذا هذا التنكّر للصحبة يا يهوا؟ أليس نبيك موسى يتلعثم بالكلام مصاباً بالتأتأة والفأفأة، كما أخبرك عن نفسه: “هَا أَنَا أَغْلَفُ الشَّفَتَيْنِ. فَكَيْفَ يَسْمَعُ لِي فِرْعَوْنُ”؟ وعندما ألححت عليه بضرورة أن يحمل رسالتك إلى فرعون، مع أنّه كان من الأفضل أن تُرسلها مع الحمام الزاجل، قال لك موسى: “اسْتَمِعْ أَيُّهَا السَّيِّدُ، لَسْتُ أَنَا صَاحِبَ كَلاَمٍ مُنْذُ أَمْسِ وَلاَ أَوَّلِ مِنْ أَمْسِ، وَلاَ مِنْ حِينِ كَلَّمْتَ عَبْدَكَ، بَلْ أَنَا ثَقِيلُ الْفَمِ وَاللِّسَان”.
للصدق حركة “كش ملك” من موسى لك يا يهوا، لكنّك كإله تجيد المكر، ألم تقل عن نفسك في القرآن بأنّك “خير الماكرين”: “مَنْ صَنَعَ لِلإِنْسَانِ فَماً؟ أَوْ مَنْ يَصْنَعُ أَخْرَسَ أَوْ أَصَمَّ أَوْ بَصِيراً أَوْ أَعْمَى؟ أَمَا هُوَ أَنَا الرَّبُّ”. هكذا أنهيت دست الشطرنج بينك وبين موسى بـــ “كش مات”. ها أنت تعترف أنّك من تخلق أهل الزمانة، لكي تقنع موسى بالذهاب إلى فرعون، با للبراغماتية الإلهية! فلماذا تنكّرت لنا فيما بعد؟
صراحة، أنا لا أعاتبك! فأنت لا تُسأل عمّا تفعل، لكن موسى أخي في الزمانة، لماذا نسي ماضيه بالفأفأة والتأتأة، ألم يكن من المفترض أن يكون وفياً مع أهل الزمانة، صادقاً لتاريخه معهم؟ والشيء الآخر، ألم تجعل يعقوب أعرج بعدما كسرت له حُقّ جنبه، حتى لا يغلبك في الصراع، ورشوته بأن أسميته “إسرائيل/ عبد الرب/ صارع الرب” لأنّه جاهد معك وقدر، فكافأته وجعلته أعرج؟
أنت تتصرّف بغرابة يا يهوا. لست أفهمك، فمعنى كلمة (حَنف) أعرج القدم أي قدم عوجاء، وجاء في القرآن، بأنّ إبراهيم كان حنيفاً، أي أعرج القدم، لو أخذنا المعنى اللغوي فقط، بعيداً عن المعنى الاصطلاحي، بأنّه مال عن طريق الشّرّ إلى طريق الخير، فهل أنت أعرج وتخجل من عرجك الذي دفعك لأن تصبح إلهاً؟ ألا يقولون بأنّ كل ذي عاهة جبّار، و(جبّار) أحد أسمائك. هناك تحليل لألفرد إدلر أحد تلامذة فرويد، الذي يقول بأنّ النقص الموجود في الإنسان يدفعه لأن يتجاوز هذا النقص ويبدع.
لقد قلت بأنّك خلقت الإنسان على صورتك في التوراة، فلماذا لا تكون أعرج في أحد الحالات حتى تشابهنا؟ وكما قال إدلر عن النقص، فقد تجاوزت عرجك، وأصبحت بديع السماوات والأرض، ومن هنا أفهم رأفتك غير المبرّرة أو زلّة لسانك، التي فضحت لاشعورك كما حلّل فرويد؛ زلة اللسان، والتي تقول فيها: “لَا تَشْتُمِ الأَصَمَّ، وَلا تَضَعْ عَثْرَةً فِي طَرِيقِ الأَعْمَى”، بعدما وضعت قواعدك القاتلة بحقّنا؛ نحن أهل الزمانة، هل تريد منّا، أن ننسى، أنّك قد تكون من أهل الزمانة – عفواً- يا قديم الأيام، البيوت أسرار.
“تكون أو لا تكون هذا السؤال”أتعرف يا يهوا، بأنّني أجد المسيح كهاملت متردّداً، فهو لم يكن قادراً على حسم أمره، كما في مسرحية شكسبير، فساعة يردّ على من يسألونه عن الأعمى من الولادة إن كان مذنباً أو أبواه مذنبين: “يَا مُعَلِّمُ، مَنْ أَخْطَأَ، هذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟”، فأجاب المسيح: “لاَ هذَا أَخْطَأَ وَلاَ أَبَوَاهُ، لكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ اللهِ فِيهِ”، وساعة أخرى، يقول لأعمى آخر، بعدما شفاه من العمى، بأن لا يعود إلى الخطيئة، وكأنّه كان يقصد بأنّ عماه كان نتيجة الخطيئة.
لم يستطع المسيح أن يحسم أمره بحقّ أهل الزمانة، مع أنّه كان كريماً معهم، وللحق فهو يُشكر، رغم أنّه كان يجب أن يكون أكثر وضوحاً، فمن يتجرّأ على الصعود على الصليب، فعلى الأقل ليقل كلمة واحدة بحقّنا، نحن قديمي المرض: “أحبوهم! فهم تجلّ لقدرة الآب، أو أحبوهم لأنّهم سيموتون قريباً”. إذن يا يهوا، فما معنى أن أكون عبرة لآخر يتمتّع بالصحّة، وعندما يراني يشكرك على ما حبيته من نعمة؟ ألّا تستطيع يا يهوا، أيّها الآب، يا الله، أن تبهر الأصحّاء، مثلاً بالجبال، أو بهيفاء وهبي، بدلاً منّي؟ صراحة، أنا لا أحبّ دوري في مسرحيتك، وها أنا أخرج عن النصّ والجمهور يصفق لي، فما أنت فاعل؟
لا تقلق يا يهوا! أعرفك كالنساء تتأثّر بهرموناتك، على رسلك، فإنّني أمزح يا رجل، ألسنا أصدقاء! والدليل أنّني أجد في ثلاثيتك من الكتب: التوراة – الإنجيل – القرآن، أنّك تُراجع نفسك قليلاً، وتنظر لنا بعين الصداقة، ألّا يكفي أن تعاتب رسولك وحبيبك محمد، بعدما جاءه الأعمى عبد الله بن أم كلثوم، لأنّه أشاح بوجهه عنه، طمعاً بأن يؤمن به كبار قريش الكفار، فيعظم الإسلام بتصديقهم لدعوة الرسول، قائلاً له: “عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَن جَاءَهُ الأَعْمَى. وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى. أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى”، وفي مكان آخر تقول في القرآن: “وإذا مَرِضْتُ فهو يَشْفِيْنِ”، لكن أين كلمتك السحرية “أبراكادابرا” وتشفيني من مرضي، لكنّك لم تفعل! وأعرف أنك ستردّ عليّ، كما أجبت أيوب في سفره، بعدما سألك، لماذا أنزلت عليه الكوارث؟ بإماتة أبنائه وأهله ومن ثم إمراضه، بأنّك خلقت السماوات والأرض. يا صاحبي، ما هذه المزحة الثقيلة، على الأقل أعطه قليلاً من البنادول.
آه يا يهوا، أيّها الآب، يا الله، أعرفك أنّك تحبّ التاريخ، ألست قديم الأيام وتشعر بالملل؟ سأخبرك شيئاً عن آلهة قديمة، بطلت ألوهتها، ألا تعلم أنّ العملة السيئة تطرد العملة الجيدة؟ لماذا التجهّم فأنا أمزح.
زعموا، أيها الإله السعيد وذو الرأي الرشيد، بأنّ الإله إنكي، من الأسطورة السومرية، بعدما طلبت منه أمّه الإلهة (نمو) أن يخلق عبيداً/بشراً تشتغل وتعمل بدلاً عن الآلهة، لكي يستريحوا ويتنعّموا بالألوهة كالأرستقراطيين وحكّام الوطن العربي. هكذا جمع الإله إنكي الآلهة في حفل barbecue وأخبرهم عن خطته، وبدأوا بشرب بيرة الشرق من معمل حلب قبل الدمار في الحرب السورية الأخيرة، حتى سكروا.
لعبت الخمرة برأس الجميع، ولأنّ الإلهة ننماخ مسؤولة عن الخلق شعرت بالغيرة من تكليف إنكي بذلك، وقالت له: سأخلق مجموعة من البشر، ولن تكون قادراً على إيجاد أعمال لهم، وبذلك لن يكونوا قادرين على خدمة الآلهة. وسريعاً عجنت ننماخ بالطين وخلقت أعمى وأعرج وأصم وكسيح وغيرهم… متحدّية إنكي. لكنّه إله ذكي محتال، فأوجد لأهل الزمانة أعمالاً في المعبد وقصر الملك. فبهتت ننماخ وزادت من التحدّي/ المقامرة بحيوات بائسة، بأنّها قادرة أن تجد عملاً لأي مخلوق من صنع إنكي، فقام إنكي بصنع شخص يسمى (أومول – وكأنّه يعني الأمل- ليس لسعد الله ونوس شأن في ذلك) وخلق شخصاً آخر مصاب بالكآبة واليأس، فلم تستطع ننماخ أن تجد لهما أعمالاً.
وتفجّر الخلاف بين إنكي وننماخ، ولولا تدخل الأمم المتحدة السماوية برئاسة أنطونيو غوتيريش الذي يشعر دوماً بالقلق، لكنّا قد عدنا إلى الحساء البدئي الذي كانت تعيش فيه الإلهة تعامة، والتي قتلها مردوخ وخلق منها الكون، أي عندما كان الله كنزاً مخفياً وقبل أن يخلق الخلق ليُعرف.
تصوّر يا يهوا، أنّنا نحن، أهل الزمانة، كنّا نتيجة تحدّ بين آلهة خرقاء قديمة، ولربما أنت أيضاً قد كنت نتيجة لذلك. لقد كنّا نتيجة مجابهة بين راعيي بقر في الغرب الأمريكي. لقد كنّا نتيجة نكتة سمجة بين آلهة خرقاء تحب الكسل، لكن أليس معنى كلمة (حنف) القدم العرجاء؟ لكنّك لست أعرج! ولم يُعرف عنك ذلك، لذلك اعذرني، سأبحث عن إلهي من ذوي الزمانة.
أتعرف يا يهوا؟ لم أجد إلهاً من ذوي الزمانة، كلهم “كاملين مكملين”. ألا يُوجد إله أصم؟ مع أّنّك نادراً ما تجيب، وكما قال جاك مايلز في سيرتك في كتابه “سيرة الله” أنّ الخرس أصابك بعد آخر جدال بينك وبين أيوب.
ألا يوجد إله أخرس، أعمى، أبكم، أعرج، كسيح؟ كلهم آلهة كاملون؟ بالطبع هم آلهة الأصحاء، وما شأننا نحن أهل الزمانة، لكنّ الحظ يبتسم يا يهوا، كما في المسلسلات المكسيكية والتركية والسورية، لقد وجدت إلهاً أعرج، وصرخت: يوريكا… هللويا… سبحوا للرب… شابوش.
إنّ هيفايستوس، يا يهوا، إله يوناني من المكان الذي ولد فيه سقراط وأفلاطون وأرسطو آباء الفلسفة، فلا هو إله بطلت موضته كإنكي، ولا مثل الإله السماوي لا يعرف كثيراً عن شؤون الأرض، خلق الخلق وأدار ظهره لهم. إنّه إله مثلي، عطيلة، طردته أمّه هيرا زوجة زيوس بعدما رأت إعاقته، فسقط على الأرض وربّته جنّيات الكهوف، وهناك تعلّم الحدادة واللحام والصناعة، حتى أنّه اخترع الروبوت ليساعده قبل أيلون ماسك.
ولأنّه ضعيف مثلي، تزلّف إلى آلهة البنسيون اليوناني، وأرسل لهم هدايا، من بينها حذاء لأمّه هيرا، كانت تعتقد بنفسها بأنّها سندريلا، وعندما انتعلته، انكفأت على وجهها، وسقطت على الأرض، ولم تستطع بعدها المشي، واتحد الحذاء بقدمها. حاولت الآلهة كثيراً نزعه، لكنّهم لم يستطيعوا، وفشلوا فشلاً ذريعاً. وهنا لم يكن من حلّ إلّا أن يطلبوا هيفايستوس إلى السماء، فجاء، وحدّد طلباته: العودة إلى السماء والإقرار بألوهيته، وأنّه ضمن الآلهة الاثنى عشر المقدّسين، ومن ثمّ الزواج من أفروديت؛ لقد كان خبيثاً هذا الهيفايستوس! تخيّل أنّ ذلك لقد حدث في بلد الفلسفة، التي كان أفلاطون وأرسطو يريان فيها ضروة قتلنا نحن أهل الزمانة، إلّا أنّ هناك إلهاً كسر كلّ التوقّعات، لكن يا لخيبة الأمل، لقد تصوّرت هيفايستوس سيشفي كل أهل الزمانة بكلمة أبراكادابرا، لكنّه انشغل بحبّ أفروديت التي كانت تخونه مع إله الحرب إريس، لكنّه ربي، ماذا أفعل به، هو أعرج وأنا مصاب بالروماتيزم، وأمشي على عكازين، ليس لي فيهما مآرب أخرى كموسى، إلّا أن أصفع بهما عجيزات النساء.
ماذا أفعل يا يهوا؟ كل الآلهة غير مبالية بنا، نحن أهل الزمانة، أكانت تلك الآلهة كاملة أم ناقصة، لذلك اعذرني، فأنا أعرف أنّك إحدى الكائنات التي خلقتها ننماخ، وأوجد لك إنكي عملاً وهو أن تكون إلهاً. لن أعبد تلك الآلهة الكاملة يا يهوا، وسأرفض إلهي الأعرج المولّه بأفروديت، ولن أصرخ كما فعل المسيح: هيفايستوس، هيفايستوس، لماذا شبقتني! بل سأقول كجدي الأعمى المعرّي: هذا جناه (إلهي) عليّ وما جنيت على أحد.
صورة الكاتب في صغره:

September 17, 2024
جدل الفلسفة والرقابة… أفلاطون كمثال
باسم سليمان 17 سبتمبر 2024 مقالي في ضفة ثالثة
يُعتبر أفلاطون الأب المؤسّس للفلسفة، فهو من قعّد بشكل منهجي مفاهيم: العدل والحقّ والخير، والسؤال الجوهري عن معنى وجود الإنسان على هذه الأرض، لكن في الوقت نفسه أسّس لمفاهيم الرقابة على الفنّ والآداب، والتي عوّقت إلى حدّ ما من قدرات الإنسان على اكْتناه معناه الوجودي عبر التاريخ. إنّ البحث عن جذور الرقابة سنجدها في محاورات أفلاطون وتحديدًا في كتابيه: السياسة، والجمهورية، اللذين يعدّان الحاضنة الفلسفية لنشأة الرقابة بأشكالها كافة، على الرغم من أنّ ربط الرقابة بالفلسفة غير منطقيٍّ، فالفلسفة التي تعني حبّ المعرفة والحريّة، لايمكن أن تتقبّل حتى قيودها الذاتية، لكن بويضة الرقابة في الفلسفة كانت قد أُخصبت من العلاقة الترابطية السلطوية بين أفراد المجتمع البشري، وكيفية إدارة تلك العلاقة بينهم. وإنْ كان لنا، أن نقول الأمر بدقّة إمبريقية، فالرقابة تتأتّى من حتمية أن يخضع الكائن البشري لنظام ما، حتّى ولو كان فردًا مفردًا على جزيرة، كما في رواية دانييل ديفو (روبنسون كروزو) الذي أعاد إنتاج تقاليد العيش الإنكليزية ورقابتها، على الرغم من أّنّه كان الكائن البشري الوحيد على الجزيرة، لأنّ الرقابة قبل أن تكون معنى أخلاقيًّا ووجوديًا، فهي مسنّنٌ مهمٌ في مكنة بقاء الكائن البشري على قيد الحياة.
نتجت الرقابة من الضرورة الفلسفية والحتمية المجتمعية، لذلك علينا أن نبحث عن الأصول النفسية للرقابة لدى أفلاطون، بما أنّه كائن بشري يعيش في مجتمع ويتفاعل مع أزماته. لقد سُئل سقراط معلّم أفلاطون عن طبيعة عمله الفلسفي، حين حاكمته أثينا، لأنّه أفسد عقول الشباب بآراءه، فأجاب، بأنّه كالقابلة، فتلك تساعد في إنجاب الأطفال، لكنّها غير مسؤولة عن تنشئتهم وهو كذلك، حيث يساعد الشباب على توليد الأفكار، ولكنه ليس مسؤولًا عن تنشئتهم أو تبنّيهم لهذه الأفكار! فما الذي حدث مع أفلاطون صاحب النوايا الجيدة في محاولة إعادة بناء أثينا كمدينة قوية بعد أن هُزمت من قبل إسبرطة، حتى تتحوّل فلسفته إلى أرض خصبة لكلّ أشكال القمع للفنون والآداب عبر التاريخ، وكأنّ الطريق إلى جهنم معبّدٌ بالنوايا الحسنة! لقد خالف أفلاطون سقراط، فأصبح القابلة التي لا تكتفي بتوليد الأفكار، بل تقوم بفرضها على الآخرين.
لقد دفعت أحداثٌ حدّية؛ سياسية ومجتمعية وفردية، أفلاطون في شبابه إلى تحوّلات قسرية، وخُتمت تلك الأحداث بإعدام معلّمه سقراط، فهجر الشعر والألعاب الأوليمبية، ومدينته أثينا التي أوصلها الصراع مع إسبرطة وغيرها من المدن اليونانية إلى الحضيض، بحثًا عن أجوبة تنظّم فوضى الوجود، وتقف كطوف نجاة في بحر الحياة المؤقّتة والزائلة والفاسدة، فأبدع محاوراته الثمانية والعشرين، كي يحسم فيما إذا كانت الحياة المنظّمة العادلة تجعل الإنسان سعيدًا أو تعيسًا! عالم المُثل: ظهرت إرهاصات عالم المُثل لدى أفلاطون من رفضه لمفهوم نهر هيراقليتس، واحتجاجه على المبدأ السفسطائي، بأنّ الإنسان هو مقياس الوجود، فكان لا بدّ له من إبداع عالم أعلى ودائم ومطلق ومفارق لهذا العالم الأرضي المؤقّت والفاسد والنسبي الذي يقع تحت مقعّرالقمر. بدأ مستصغر الشّرر الرقابي من مبحث، ماهو العدل؟ فهل يكون تحقّق العدالة عبر تسديد الديون فقط؟ هذا المنطق كان قد فنّده أفلاطون، بأنّه ليس من المعقول إعادة السلاح الحربي إلى صاحبه بعد أن جنّ وفقد صوابه! وهنا انبرى له السفسطائي (بوليمارخوس) بأنّ العدل هو فائدة الأقوى! استطاع أفلاطون أن يبطل رأي السفسطائي، بأن أثبت أنّ العدل هو الخير تجاه الجميع، أصدقاء وأعداء، لكنّه لم يستطع أن يحسم إن كان العادلُ سعيدًا أم تعيسًا! لقد كان سقراط سعيدًا، في انتظار موته، حتى أنّه مازح أصدقاءه، فهل كان إصرار أفلاطون على وضع جلّ محاوراته على لسان معلّمه سقراط، ليثبت سعادة الإنسان العادل والعارف كسقراط، حتى في مواجهة الموت؟ ليس الجواب من السهولة بمكان! لقد كان أفلاطون يزدري النظام الديمقراطي، الذي وصفه بأنّه الطريق الأقصر إلى الفوضى المجتمعية، ولا يعود ذلك فقط، إلى أنّ معلّمه سقراط قد أُعدم بسبب هذا النظام، حيث رجحت كفّة المدّعين على سقراط، بأنّه قد أفسد شبيبة اليونان، وذلك بفارق خمسين صوتًا فقط عن الرافضين لإعدامه، إذ إنّ الأمر أبعد غورًا، فأفلاطون ذو منبت أرستقراطي، إذ يرجع نسبه من ناحية أمّه إلى المشرِّع العظيم صولون، ومن ناحية أبيه إلى إله البحر بوسايدون، وكلّ هذا جعله رافضًا لاجتياح الدهماء والغوغاء والعامة لمدينته، الأمر الذي كان يراه إخلالًا بميزان الكون وتراتبيته، والذي نتج عن الديمقراطية، التي أنتجت الفوضى في المجلس، حيث أدّى السماح لطبقة العوام من ولوجه، بالتسبّب بإعدام سقراط الذهبي الخيّر، ولكي لا تتكرّر تلك الكارثة، كان لابدّ من بناء المدينة الفاضلة بقوانينها الصارمة التربوية والرقابية المجحفة بحقّ الفنون والآداب.
أثافي الرقابة:
لقد كان أول قرار اتّخذه أفلاطون، هو طرد الشعراء من جمهوريته، وذلك لأنّ الشعراء محاكون للحقيقة (عالم المُثل) من الدرجة الثالثة، يتقدّم عليهم الصنّاع قربًا من الحقيقة. وهذا القرار يعدّ أشهر بنود المانيفستو الرقابي الأفلاطوني والأعجب من ذلك، إصراره على أن يكون دفاع الشعراء عن أنفسهم بشكل نثري لا شعري، لأنّ النظم يثير العواطف ويضعِف العقل. والأغرب من ذلك كلّه، أنّ أفلاطون كان شاعرًا في مجتمعه قبل أن يصبح تلميذًا لسقراط وتشهد له محاوراته بخبرته الكبيرة بفنّ الكلمة، فما الذي حدث؟ إنّ الإحالة إلى عالم المُثل، لا يكشف روح المنع الأفلاطوني تمامًا، فقبل أن نضع نظرية المُثل موضع الاتهام، لا بدّ أن نكتشف الضرورة القاهرة التي ألزمته ما لا يلزم.
يحدس أفلاطون بأنّ أيّة دولة تحتاج إلى قادة ذهبيين وحماة فضيّين، ولكي يكون هناك جنودٌ لا يهابون الصّعاب ولا الموت، وقادة همّهم الوحيد خدمة دولتهم والنأي عن منافعهم الخاصة، ستضطر هذه الدولة إلى اشتراع قوانين استثنائية. ومن هنا كان الشاعرهوميروس بإلياذته وأوديسته أول من وقع عليه مقصّ الرقيب الأفلاطوني. يعدّ هوميروس مؤسّس وجدان الشعب الإغريقي، وما قاله من عبر وأفكار وحكم، تُؤخذ كأنّها إلهام من آلهة جبل الأوليمب. لقد عرض هوميروس الكثير من الاستعارات الأدبية للشجاعة والجبن والإقدام والتخاذل في أشعاره، وصوّر الجنود والقادة بحالاتهم الإنسانية كافة بقوتهم وضعفهم، وهذا الأمر لم يكن يخدم رؤية أفلاطون بتنشئة جيل مقدام من القادة والجنود لا يهاب الموت، لذلك شطب أسماء الحياة الآخرة المخيفة والمرعبة من مثل: “الأشباح تحت الأرض – الظلال الواهنة” التي توهِن نفسية الجنود، كذلك حاول محو بعض الأجزاء من قصائد هوميروس التي تصف أفعال القادة المشينة وأقوالهم، كحال البطل (أخيل) عندما أهان الإله (أبولو)، عندما غزا اليونانيون طروادة. وقد طبق مقصّ الرقابة على الأوصاف التي تناولت أخيل بعد موته، حتى يبقى مثالًا لا يناله النقص: “وسنستعطف هوميروس وبقية الشعراء، أن لا يصوّروا أخيل الذي هو ابن الآلهة، مبحرًا في سُعرٍ على طول الشاطئ المجدب، آخذًا بكلتا يديه الرماد السخامي وذاريه فوق رأسه باكيًا ومنتحبًا”.
أراد أفلاطون أن يخفّف من وطأة الموت على الجنود والقادة في الحرب، لذلك تخيّل حياة آخرة ينعم فيها الأبرار بالعيشة الطيّبة، فها هو يقول بغضب: “لنطمس المقاطع الذميمة مبتدئين بالآتية: أفضّل أن أكون عبدًا على أرضٍ لفقير ورجلًا لا ملكية له على أن أحكم كل الموتى الذين ذهبوا للعدم” لقد كان هذا القول لسان حال أخيل بعد موته! قد يعترضنا رأي أفلاطون المحابي للشعر في محاورة (فيدروس) حيث مدحه ولم يذمّه، ولكن هذا المديح كان للشعر الملهم من قبل الآلهة، حيث لا دور للشاعر فيه وهو أقرب للصيغ الدينية. إنّ الرقابة الأفلاطونية على الشعر جاءت من أنّه يقوّض مفهوم عالم المُثل، ولا يعترف بأنّ الوجود الأرضي للبشر ما هو إلّا محاكاة سيئة لعالم المُثل. بالإضافة إلى أنّ الشاعر لا يحترم الطبقات، فكثيرًا ما مدح الشعراء الحكّام المستبدّين أو ذهبوا إلى تدبيج القصائد سعيًا وراء مصالحهم الخاصة. إنّ حتمية تنظيم المجتمع لدى أفلاطون دفعته إلى ضرورة الرقابة الفنّية على الشعر، لأنّه أكثر تأثيرًا على العواطف التي تناهض العقل.
لم تقتصر رقابة أفلاطون على الشعر والخطابة، بل امتدت إلى الرياضة والموسيقى حيث وضع أسلوبًا رياضيًّا وآخر موسيقيًّا لكي يحافظ على اعتدال جسد وروح الجندي. فلقد رفض موسيقى الغرائز والحرية وموسيقى الإثارة والعواطف، حتّى أنّه كان يرفض أي تطوير يطال الآلات الموسيقية، ومؤكّدًا على منع أية إبداعات حديثة للموسيقى. فالمولع بالموسيقى سيتخنّث، والمولع بالرياضة سيتحوّل إلى كتلة من العضلات لا عقل لها. لكنّه بالمقابل قبِل فقط بالموسيقى التي تخدم تطلّعاته لبناء مدينته الفاضلة، وهي أقرب للمارشالات العسكرية. وسّع أفلاطون من المدى الرقابي لمشروعه، ليشمل تنظيم النسل وتحديد العمر المناسب للإنجاب، وشرّع مشاعية جنسية يعيشها القادة، لينزع من نفوسهم جوهر الملكية الخاصة، حتّى أنّه نظّم زواجهم وإنجابهم خارج إرادتهم، واعتبر أنّ الأطفال الذين ينجبهم القادة في زمن واحد أخوة، والقادة آباء لهم. ولم يكتف بذلك بل اعتبر أنّ تعداد المدينة الفاضلة لا بدّ أن يكون 5000 شخصًا وذلك بعد حساب الموت في الحروب والأوبئة وما شابه ذلك كإبعاد أهل الزمانة. هكذا نرى من مجمل الأمثلة السابقة التي عرضنا فيها بنود المانيفستو الرقابي لأفلاطون، بأنّه قد لزم ما لايلزم، ولكي نتبيّن ذلك علينا التوقّف عند بعض فرضياته.
الكذب لأجل الصالح العام:
نتبيّن من أقصوصة أفلاطون عن خلق البشر والتي فحواها، أنّ الإله قد خلق بشرًا ذهبيين، وبشرًا فضيين، وبشرًا نحاسيين، ثم بثّهم في الدنيا، وعليه يجب أن يكون تنظيم المدينة الفاضلة مراعيًا للمقصد الإلهي في إعادة ترتيب الطبقات الاجتماعية. أعدّ أفلاطون هذه القصة لتكون كذبة من أجل الصالح العام، أمّا النتائج المرجوّة منها، فهي إقناع سكان مدينته الفاضلة بالتراتب الطبقي. تكمن فكرة أفلاطون بأنّ لكلّ فرد في مدينته مقدرات يجب أن يتم التعامل معه على أساسها، لذلك كانت عنايته بالتربية منذ الطفولة هاجسه الكبير، لكي يتم تدارك الأخطاء التي أودت بمدينته إلى الحضيض. من هذه القصّة يتوضّح لنا دور النوازع النفسية العميقة التي أثّرت في أفلاطون جرّاء ما حدث معه في شبابه، وهو من منبت أرستقراطي، حتى أنّه اختار الكذب كوسيلة تبررها غايته في إنشاء مجتمع منظّم يخدم أرومته، قبل ميكافيلّي بزمن طويل. وعلى نفس المنوال يجب أن نفهم التصوّرات التالية: لقد ألغى أفلاطون جوهر الأمومة والأبوة في طبقة القادة! فالآباء والأمهات لا يعرفون أبناءهم، فهذه الطبقة لايسمح لها إلّا بالإنشغال في الصالح العام للمدينة الفاضلة، وبالتالي لن يقوم أحد القادة بتوريث ابنه مادام لا يعرف من هو، وسيختار بدلًا من ذلك الفيلسوف القائد أي أفلاطون وأشباهه من الفلاسفة! ومن ذات المنحى، رفع أفلاطون الأنثى من قاع المجتمع الإغريقي، بأن سمح لها بأن تكون ندًّا للرجل، لكنه حرمها من ممارسة أمومتها، مادام هدف الزواج إنجاب الذرية القوية وقد استقدم هذا المنطق من إسبرطة، فعملية تحسين النسل الإسبرطية كانت تمنح الرجال الأقوياء الحق بالاضطجاع مع أية امرأة قوية حتى لو كانت متزوجة، من أجل خلق ذرية قوية، كما ذهب المؤرخ اليوناني بلوتارخ. ولذلك شرعن أفلاطون إخفاء الأطفال المشوّهين في مكان بعيد لا يصله أحدٌ، فأعضاء المدينة الفاضلة أصحاء الجسد مثل أرواحهم وعقولهم.
لاريب أنّ ما ذهب إليه أفلاطون في تصوّره لمدينته الفاضلة، كان تعبيرًا عن خيبته من المجتمع الأثيني، وما آلت إليه الأوضاع السياسية والثقافية بعد احتلال أثينا من قبل إسبرطة، لكنّه أعاد خلق إسبرطة جديدة أفلاطونية على الرغم من كلّ ما قيل عن همجية إسبرطة المنظمة.
لم تتمايز فلسفة أفلاطون كثيرًا، بعد تقدّمه في العمر، عمّا قاله في شبابه، لكن عند النظر إلى كتاب (القوانين) وهو كتاب من نتاجات أفلاطون المتأخّرة، نجد تفصيلات مذهلة عن كيفية الانتخاب واختيار المرشحين، وفيه تخلّى أفلاطون عن مبدأ إعداد القادة الذي أقرّه في مدينته الفاضلة، وقد يكون ذلك نتيجة ما حدث له مع حاكم سرقوسطة الذي وجد فيه أفلاطون إمكانية لتحقيق حلم مدينته الفاضلة، إلّا أنّ الديكتاتور الشاب خيّب أمل أفلاطون وسجنه جرّاء أفكاره وكاد أن يقتله، لو لم يقم أصدقاؤه بتأمين هروبه من السجن، على العكس من معلّمه سقراط الذي رفض فكرة الهروب وشرب الشوكران، فداءً لأفكاره!
لا نستطيع القول، بأنّ أفلاطون قد غيّر بشكلٍ جذري من بنود المانيفستو الرقابي الذي كان شرحه في كتبه بعد أن وضع كتابه (القوانين)، فالعوامل النفسية التي لعبت دورًا كبيرًا فيما ذهب إليه أفلاطون من تصوّرات لبناء مدينته الفاضلة، لم تتبدّل بالمعنى الذي يدفعه للخروج عمّا قاله سابقًا. لكن يجب أن ننظر إلى محاورات أفلاطون وقوانينه التي صبغت العالم الفلسفي بألوانها، بأنّها كانت مغامرة رائعة وخطيرة من أجل حياة عادلة وسعيدة، ويجب التعامل مع المانيفستو الرقابي الأفلاطوني وفق مفهوم الفارماكوس الإغريقي، فهو سمٌّ إن أسيء استعماله، وترياق إن أحسن العمل به.
باسم سليمان
كاتب من سورية
خاص ضفة ثالثة

الرابط
September 16, 2024
فتاة ميلر: رهان على الحصان الخطأ
مقالي في صفحة سينما الصباح ليوم الاثنين 16- 9- 2024
قد يكون المخرجة وكاتبة السيناريو جايد بارتليت صاحبة فيلم ( فتاة ميلر/ Miller’s Girl لعام 2024) قد راهنت على الحصان الخطأ، على الرغم من أصالته، فالممثلة الصاعدة بقوة (جينا أورتيجا) ذات الواحد والعشرين عامًا، تلعب دورالفتاة (كايرو سويت) التي أتمّت سن الثامنة عشرة/ السنّ القانوني للرشد، وتستعد للانطلاق في الجامعة والحياة، والتي تسكن وحيدة في فيلا تعود لأبويها المحامين اللذين يظلان في سفر دائم، عاشقة للقراءة وترغب بأن تصبح كاتبة لها سيرة حياة مميّزة، مع أنّها تعيش في بلدة منسية من ولاية تينيسي. تدخل كايرو صف الكاتب المغمور جوناثان ميلر (مارتن فريمان) الذي تجاوز الخمسين من عمره، حاملة في يدها كتابه الوحيد والذي لم يقتنه أحد إلّا تلك المدرسة التي يدرّس فيها الأدب، وتحمل أيضًا كتاب هنري ميلر المعروف عنه جرأته وسيرة حياتية صاخبة وخاصة في الأمور الجنسية. هذا الدخول الاستعراضي لكايرو سمح لجوناثان بتجاذب أطراف الحديث مع تلك الفتاة الغامضة، حيث تتطوّرت الأحداث إلى إعجاب متبادل، ممّا يؤدي إلى أن يطلب جوناثان منها أن تكتب قصة وفق أسلوب ميلر، مع أنّ تدريس هنري ميلر في الصفوف الثانوية ممنوع لجرأته غير المعهودة.
لقد كان جوناثان كاتبًا فاشلًا، وللحقيقة كان مقتنعًا بذلك. وعندما عُرض عليه تدريس المواد الإبداعية، قبل بسرور، فمن وجهة نظر معينة، سيسمح له هذا العمل بتقمّص شخصية الكاتب عبر تقديم النصائح للطلاب الذين يودّون أن يصبحوا كتابًا. لقد كان من الممكن أن تمضي الأمور مع جوناثان بهدوء لولا لقاؤه بكايرو. تنجز كايرو الوظيفة، وتكتب قصة يختلط فيها الواقع بهواماتها الجريئة عن جوناثان، وعندما يقرأ ما كتبت يتورّط بأحلام جنسية عنها. وهنا يستيقظ ضمير جوناثان الاجتماعي لأسباب عديدة، وخاصة لناحية الفرق العمري بينهما، فيرفض قصة كايرو، ممّا يدفعهما لمواجهة عدائية، تنتهي بتقديم كايرو قصتها إلى إدارة المدرسة، وبالتالي استجواب جوناثان لإغرائه شابة صغيرة.
قلنا بداية، بأنّ بارتليت راهن على الحصان الخطأ، فصغر سن أورتيغا، إلى جانب عمر فريمان الكبير ومطابقة ذلك لأعمار أبطال الفيلم سبّب ردة فعل الجمهور، الذي رأى بتصوير العلاقة بين معلّم وطالبته تجاوزًا للحدود، وليست مثالًا صالحًا للأجيال الشابة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى حدّدت قدرة المخرج على الغوص في نفسية البطلين، فكايرو كفتاة شابة تريد أن تجرّب الحياة بالطول والعرض، حتى لو كان عبر فضيحة، مثل كاتبها المفضّل هنري ميلر، أمّا جوناثان الكاتب الفاشل الذي يتهيّب دفع الأثمان في الحياة والخيال، وعلى الرغم من أن كنيته تطابق كنية الكاتب هنري ميلر وهذا مقصود من المخرج، إلّا أنّه يأخذ دور الرقيب ضد ما كتبت كايرو، بعدما لامست دواخله العميقة، ومن هنا نفهم سبب فشله، بأن يصبح كاتبًا، فهو هاملت عصري.
عودة إلى الحصان -الخطأ- جينا أورتيغا، لا يمكن للمخرجة إلّا أن تكون متنبهة للمقارنة التي ستحدث بين الممثّلين في الواقع وشخصياتهما في الفيلم، فكايرو/ أورتيغا، قد تجاوزت الثامنة عشرة، فلماذا تكدّر الجمهور؟ لقد كان جوناثان معجبًا بجرأة هنري ميلر اللامتناهية، لكنّه رفض جرأة كايرو الأنثى، مع أنّها بدأت بالكتابة واقتحام المسكوت عنه بذات العمر الذي بدأ به هنري ميلر. بدأ ميلر في نهاية العقد الثاني من القرن العشرين بنشر كتاباته، كذلك كايرو، لكن في القرن الواحد والعشرين. قرن مضى ومازال المجتمع يتقبّل جرأة الرجل ويحجبها عن الأنثى، أين في أمريكا! والآن نعود إلى فكرة الحصان – الخطأ- ونقول بأنّه الحصان الذي سيعبر أولًا خط ّالنهاية، إذا قُبل بجرأة طرح بارتليت، لكن…!
ما أرادت بارتليت قوله، بأنّ المجتمع الذي يدّعي الحرية مقيّدٌ بقضايا أكثر خطورة من الأعراف التقليدية التي نصفها بالتخلّف، فوالدا كايرو في لهاثهما وراء مصالحهما المادية أهملا ابنتهما الوحيدة في سن خطرة، بينما زوجة جوناثان مشغولة بأعمالها لدرجة لاتجد وقتا لليلة حميمة معه، بينما جوناثان يعيش في فصام، فهو تارة يشتهي أن تكون له صفة الكاتب، لكن يرفض أن يدفع ثمن الخيال، بينما يعلّم الإبداع لطلبة يحلمون بأن يصبحوا كتابًا، فما هذا التعليم الذي سينتج عن مدرس متناقض بين ما يقوله وما يمارسه، فعندما أتيحت له فرصة الحياة مرة أخرى، انسحب من المغامرة، وهنا نفهم ردة فعل كايرو بالذهاب نحو الفضيحة، ليس لأنّ جوناثان رفض إقامة علاقة معها، أو تهرّب منها، فهذا ظاهر الأمر، مع أنّ الكثير من الإشارات في الفيلم توحي بذلك، لكن لرفضه قصتها، التي تشبه أسلوب ميلر وجرأته، وخاصة بأنّ اسم البطل كان في القصة جوناثان والفتاة كايرو!
لم يملك جوناثان ميلر جرأة متنبينا عندما صاح به أحد عبيده، ألست القائل: (الخيل والليل والبيداء تعرفني..) في المواجهة مع فاتك الأسدي، وبالمثل فعلت كايرو وكأنّها تقول: ألست أنت قارئ هنري ميلر؟ إلّا أنّ جوناثان هرب في النهاية من المواجهة.
باسم سليمان
خاص الصباح

قديسو التشاؤم؛ هل حقًا كانوا متشائمين؟
مقالي في الميادين -باسم سليمان
يقول إميل سيوران: “لا يشغل المرء نفسه بالقديسين، إلّا لأنّ مفارقات الحياة في هذه الدنيا قد أصابته بالإحباط، لكن كلّ ما في العالم يصيب بالإحباط، حتى حياة القديسين”. يأتي اقتباس الفيلسوف والشاعر يوجين ثاكر أستاذ الدراسات الإعلامية بجامعة (ذا نيو سكول) في مدينة نيويورك والذي غالبًا ما ترتبط دراساته بالتشاؤم والعدمية، لمقولة سيوران أهم فيلسوف تشاؤمي في عصرنا الحديث، لتبريره الخوض في موضوع التشاؤم واليأس والعدم، بما يتعارض مع جوهر الفلسفة، بأنّها المعرفة التي تمنحنا القدرة على عيش الحياة بأسلوب حقيقي وجوهر عادل مع أنّ شيشرون قد قال، بأنّ الفلسفة أن تتدرب على الموت، على عكس مما ذهب إليه أبو الفلسفة سقراط الذي قال عن مهنته، بأنّها تشبه القابلة التي تساعد في إنجاب الأطفال، لكنّها ليست مسؤولة عن تنشئتهم، وهو كذلك مولّد أفكار من خلال الفلسفة، لكنّه لا يقوم بتلقينها لأحد في معرض دفاعه عندما حاكمته أثينا بتهمة إفساد الشباب. وفي كتاب ثاكر (قديسو التشاؤم، ترجمة أنور الشامي، والصادر عن دار الكرامة لعام 2024) هناك فلاسفة متشائمون وأفكار عدمية وعبث وجودي، ليس له غاية إلّا الموت كما قال شوبنهاور في فلسفته التي ضمنها كتابه (العالم إرادة وتمثلًا) لكن من قلب هذا التشاؤم يجد القارئ الأمل وذلك من خلال وضع أفكار التشاؤم موضع التحليل أو التعليق، فأي موضوع أو شعور أو فكر أو حتى خوف ما دام قد خضع للنقاش، فهذا يعني أنّه قد تم استيعابه. لكن لنعد إلى حياة القديسين الذين تعرضوا لأشد أنواع المنع والمعاناة والتعذيب، كيف اهتدوا في عبث هذا الوجود إلى بصيص أمل، لربما إميل شعر بالإحباط وهو يرى سير حياة القديسين الذين يفترض بالسماء أن تآزرهم، فما سيكون حال من لا يؤمنون بشيء! وكأنّه يقول: ما الجهد المطلوب حتى نخرج من لجج التشاؤم إلى أرض الأمل؟
لم يكتب فلاسفة التشاؤم عنه صراحة، بل كتبوا عن نقيضه التفاؤل، وكأنّهم بهدمهم لمفهوم التفاؤل يخلون المكان للتشاؤم. يقول نيقولا شامفور (1741-1794): “الفلسفة، كما الطب، يمكنها أن تقدّم عقاقير كثيرة وعلاجات مفيدة قليلة، وغالبًا ليس لديها أي أدوية ناجعة”. صاحب هذه المقولة هو أديب فرنسي، كان داعمًا للثورة الفرنسية ورفض انحرافها عن أهدافها وكان ارستقراطيًا، ولكنه دعم الحكم الجمهوري. لقد سجن لموقفه المتعارض مع الخصوم المتناحرة، وعندما جاءته الشرطة من جديد لاستجوابه، حاول الانتحار، بأن أطلق رصاصة على رأسه، فلم يمت، فقام بحزّ عنقه، وأصابه بجروح عميقة، كذلك لم يمت، وطعن نفسه وقطع رسغيه، وعندما وجده رفاقه وحاولوا إنقاذه، قال لهم: “ماذا تتوقّعون؟ هذا ما يحدث عندما يكون المرء أخرق اليدين، لايفلح البتة في عمل شيء، حتى قتل نفسه”. ومن ثم لفظ أنفاسه. لقد كان شامفور مسرحيًا، فشلت مسرحياته، وكتب تلك المقولات التشاؤمية في كتاب وجد بعد موته، وتم اقتباسها كثيرًا؛ من كامو وسيلين وشوبنهاور وسيوران ونيتشه وكلّهم كتّاب وفلاسفة متشائمون!
لا يختلف الألماني فيليب ماينلاندر (1841-1876) عن شامفور كثيرًا في فلسفته التشاؤمية، وهو الذي زوّد نيتشه بفكرة موت الإله. تقوم فلسفته على أن كل ما يُوجد يُوجد للفناء، فلا وجود للحياة الأخرى النابعة من الخيال الديني ولدورات التقمّص، حياة تتلو حياة. ويرى ماينلاندر أنّ الوجود ليس عملًا لإله كريم، بل نتاج لموته:”مات الإله، وكان موته حياة للعالم” لكن هذا الإله لم يمت، بل انتحر، وما الكون والحياة، إلّا بقايا عطنة لانتحار الإله. لقد قرأ فلسفة شوبنهاور وخاصة كتابه: (العالم إرادة تمثلًا) وسجّل ملاحظة على أثر قراءته لشوبنهاور بأنّه ولِد من جديد. كان عمر ماينلاندر 34 عامًا عندما انتحر، فقد قام بجمع نسخ كتابه (فلسفة الخلاص) بعد أن أرسلت له من دار النشر، وصعد فوقها وشنق نفسه: “المتشائم في واقع الأمر، هو متفائل أحسن تعليمه”. إنّ انتحار فيليب ماينلاندر يذكّرنا ببطل رواية إلياس كانيتي (نار الله) بيتر كين الذي شنق نفسه فوق كتبه بعدما أشعل فيها النار.
آرتور شوبنهاور (1788-1860) إنّه اسم غنّي عن التعريف، حتى من الممكن وضع اسم شوبنهاور بدلًا من التشاؤم من دون حرج. تقوم فلسفة شوبنهاور على فكرة أساسية: “لا نعيش بقدر ما نعاش” فهناك إرادة غاشمة في الكون تدفع الوجود للوجود، ومن ثم إعدامه، ونحن خاضعون لها، لذلك تلك الإرادة تعيشنا ولا تسمح لنا بعيش أنفسنا بشكل حقيقي، بل نحاول تمثّلها وهو تمثّل كاذب، لا قيمة له. والإنسان خاضع لقانون الرغبة والملل، فما إن تتحقّق رغبته، حتى يصبه الملل وهكذا دواليك. لقد عارض شوبنهاور فلسفة هيغل التي تتكلّم عن أنّ الروح العظيم غاية هذا الكون، وقال عن فلسفة هيغل، بأنّها أشبه بحبار يطلق سحابة من الحبر ليوحي بغموضه. وقد سانده في هذا الرأي الفيلسوف الدانماركي المتشائم والسوداوي سورين كيركغارد، بأن قال عن هيغل بأنّه: بالع هواء! لقد تأثر شوبنهاور بالفلسفة الهندية وخاصة في مواجهة تلك الإرادة العمياء التي تدفع الكون للولادة ومن ثم الموت، فقال: “وحدها النيرفانا تجعل التخلي طوعًا عن إرادة الحياة أمرًا ممكنًا” والغريب، بأن متشائمًا آخر، هو نيتشه، قد علّق على هذه الجملة من كتاب (العالم إرداة وتمثلًا) بكلمة: خطأ!
يقول نيتشه (1844-1900): “إنّ التعارض ينبثق بين العالم الذي نبجّله والعالم الذي نعيش فيه – وهو ما نحن عليه. وعلينا إذن أن نلغي، إمّا تبجيلنا، وإمّا أنفسنا. لقد كان نيتشه هادم أصنام كبير، وعندما فرغ، لم يعرف ماذا يفعل. كثيرًا ما نلصق بنيتشه فكرة (موت الإله) للحقيقة، لقد تصادف وجوده في مسرح الجريمة وعثر على الجثة. في واقع الأمر لم تكن هنالك جريمة قتل- بل انتحار، ولكن كيف ينتحر الإله؟ قرأ نيتشه شوبنهاور وأعجب به إلى حدٍ ما، كذلك الكاتب الروسي دوستويفسكي، الذي منحه معرفة كبيرة بالنفس البشرية. وفي إحدى المرّات بعد عودته من جولاته في المشي، فقد كان مشّاء كبيرًا، رأى أحدهم يجلد حصانًا يجر عربة، فاقترب منه باكيًا وعانقه وهمس بأذنه، وبعدها انهار نيتشه أكبر فلاسفة القرن التاسع عشر وصمت حتى الموت.
لم تكن حياة سورين كيركغارد صاخبة، بل للحقيقة كانت هادئة جدًا، لكنّه كتب: “الوجود كلّه يفزعني، من أضأل ذبابة وحتى سرّ التجسد. كل شيء مستغلق عليّ، ولا سيما نفسي. والوجود بأسره فاسد في نظري ولا سيما نفسي”. لقد كان سوداويًا وللحقيقة يدين كيركغارد للسوداوية بالكثير: “لولا سوداويتي، ما كنت لأصبح فيلسوفًا، ناهيك عن أكون مسيحيًا”. هذه السوداوية هي التي صنعت هذا الفيلسوف العجيب، الذي استخدم التشاؤم، ليوضح لنا كيف تكون الحياة عدمًا من دون إله. لقد كان يكره هيغل ويراه: (آكل هواء) ولذلك تصدّى له، لأنّ في الدانمارك آكلي هواء كثر! لقد دوّن كيركغارد يومياته بدقة كبيرة، على الرغم من سوداويته، ولكنه كان يحب بعض الأشياء، كعصي المشي ومظلته، التي كتب لها قطعة ساخرة، بأنه عندما تكون السماء مشمسة يفتحها في غرفته ويتمشّى بها، حتى لا تشعر بالضجر.
صاحب كتاب (المياه كلها بلون الغرق) إميل سيوران (1911-1995) كان متشائمًا كبيرًا مع أنّ ألزهايمر في أواخر عمره أنساه تشاؤمه، يا للمفارقة الساخرة. إنّ كتابات سيوران مجزأة ومتشظية، حتى أنّها تبدو أحيانًا أقل من شظية! إنّها أقرب إلى ذرة من الغبار، أو حطام فكر. نشر سيوران أحد كتبه (مشكلة الولادة) في عام 1973 على أثر فترة من الخسارات، فقبل بضع سنوات، توفيت والدة سيوران وشقيقته، كما انتحر صديق سيوران المقرب، المسرحي آرثر آدموف. وشهد بذات العام وفاة صديق مقرب آخر، الفيلسوف الوجودي غابرييل مارسيل. وبعد عام، انتحر الشاعر بول سيلان، الذي ترجم أعماله إلى الألمانية؛ لقد كانت فترة عصيبة عاشها سيوران. في كتابه (مشكلة الولادة)، يتعامل سيوران: “مع معضلة فلسفية قديمة ــ مشكلة التواجد هنا، في هذه اللحظة، حيث تم إلقاؤه في وجود لم يطلبه أحد ولم يرغب فيه، في عالم يصعب علينا قبوله أو رفضه بكل إخلاص”. لقد رفض سيوران بكل فخر العديد من الجوائز الأدبية، وكثير منها كانت ذات قيمة مالية كبيرة. لقد كان المسرحي صموئيل بيكيت يقرض سيوران المال، فيما كان يؤنبه لرفضه مثل هذه الجوائز. لقد استمر سيوران في العيش بشكل متواضع في شقته المستأجرة، حيث كان يعمل على مكتبه الصغير المزدحم، ويكتب في دفاتر ملاحظاته متعددة الألوان، ويقوم بنزهات متكرّرة في مدينته، حتى أكل ألزهايمر رأسه، فليس غريبًا أن يكون أول كتاب أصدره سيوران بعنوان: الوجيز في التحلّل!
هذه بعض أسماء الفلاسفة المتشائمين الذين تناولهم ثاكر في كتابه الصغير الحجم، فقد قارب ميشيل دو مونتني صاحب كتاب (المقالات) وجاكومو ليوباردي أعظم شاعر إيطالي بعد دانتي وآخرين. لم يكن يقصد ثاكر تقديم سير حياتية عنهم، ولا عرض فلسفتهم بالتفصيل، بل هي قراءة أقرب للشذرات التي اشتهر بكتابتها هؤلاء الفلاسفة. هو كتاب يدعو للتأمل وخاصة عندما يقول سيوران: “المولود الأكثر حرّيّة؛ هو المولود ميتًا”.
باسم سليمان
خاص الميادين

September 10, 2024
«الفراشات البيضاء» لباسم سليمان
ابتكار مفاهيم للمخلوقات
وداد سلوم – كاتبة سورية | سبتمبر 1, 2024 | كتب – مجلة الفيصل
تنطوي المجموعة القصصية الجديدة لباسم سليمان وعنوانها «الفراشات البيضاء»، على ثلاثين قصة بين القصيرة والقصيرة جدًّا، وتتوالى في اتجاهين متكاملين: الأول يعتمد أسلوب الحكاية على لسان الحيوان لإيصال مقولته تارة، وتارة أخرى محاكاة للأسطورة في تفسيرها لمظاهر الطبيعة، لتفسير خصائص عالم الحيوان كتسويغ دموع التماسيح أو عدم قدرة الدجاج على الطيران، مع ذكاء استخدام الرمز واحتمالاته في النسق الحكائي، للدخول إلى عالم البشر. أما الاتجاه الثاني فيتناول عالم الإنسان المريض بالحروب والوحدة وأمراض العصر.
من كافكا إلى شهرزاد
تقول كاميلي باليا: «إن الفلسفة تكون أكثر عمقًا كلما كانت في سياق تناول الطبيعة بمظاهرها وتمثيلاتها المختلفة». من هنا، يذهب سليمان إلى الطبيعة مؤكدًا أنها الجوهر الضامن للبقاء ولتعرية الإنسان الذي جعل الخلل سلوكًا في الطبيعة ومع أبناء جنسه. ينوع سليمان بين الرمز والتهكم والفانتازيا في عرضٍ قصيرٍ مُشوّقٍ، رشيقِ اللغةِ وبسيطها؛ يجمع الرؤية الفكرية المتشبعة بالرؤية الفنية، وهو ما يمنح القارئ متعة الذائقة وإشباع العقل. يقول تيري إيغلتون: «إن العمل الأدبي الأكثر ابتكارًا يتألف من قصاصات وفضلات ما قبله من نصوص»، إشارة إلى الجرأة في إظهار القديم ثم تجاوزه في اتجاهات أعمق. وهذا ما يمكن ملاحظته عند سليمان، فهو يبدأ مجموعته بعنوان «كافكا»؛ ليشحن ذهن القارئ بفكرة مسخ الإنسان التي أطلقها كافكا وصارت سمة حقيقية لعصر يستعبد الإنسان بيد التقنية التي اخترعها، ليعود إليه مرة أخرى ساخرًا ومعاكسًا له في قصة «عندما استيقظ غريغوري سامسا»؛ فبدلًا من مسخ الإنسان إلى صرصور يقوم العالِم باستئناس وتعليم صرصور يقود رفاقه لمحو عالم البشر بالأسلحة النووية؛ إذ ستعرف الصراصير أنها الناجي الوحيد على الكوكب.
ويستمر الكاتب في طرق أبواب من سبقوه في قصة «جبران خليل جبران» البنفسجة الطموح التي كسرتها الريح حين رفعت رأسها عاليًا، ليكمل القصة بطريقته فنرى شخصية جديدة وهي الفراشة المتعالية التي تموت بمراقصة نار الحريق معتقدة أنها تقوده إلى النهر. بهذا يثير أسئلة تستفز آليات التفكير عند القارئ لاستكناه أثر الفراشة الذي لا يزول.
أما عنوان «وسكتت الدجاجة عن الكلام المباح» فيعيدنا إلى عبارة شهرزاد؛ في إشارة للواقع العربي المستغرق في حكايات الماضي والجدل السفسطائي الذي يعطل العقل. ويتابع ذلك في قصة «رصاصة الحسد» لنرى أن الإيمان بالغيبيات والخرافات تجتمع مع القوة المتحكمة في عالمنا لتضع سقفًا للتطور، عبر حوار تديره قذيفة هاون مع القذائف عن أمنياتها؛ فتقول لخردقة الصيد التي تتمنى أن تصبح قنبلة ذرية: «نحن يا صغيرتي أسلحة العالم الثالث لا يسمح لنا أن نصبح قنابل ذرية».
ينسحب هذا القصور على علاقة الإنسان مع الآخر، والنظر إلى الاختلاف كحالة مرضية. ففي قصة «ذبابة» يشفى الطفل المصاب بالتوحد عبر صداقته مع ذبابة، بينما يفشل ذويه؛ لأنهم يحاولون دمجه بتغييره للتشابه معهم. يقول الطفل: «لماذا لا يفهمون أني أجيد الصمت أكثر من الكلام»، ليقول السارد على لسان الطفل: «الصمت تواصل من نوع آخر». فهل تشفى الإنسانية من أمراضها الكثيرة بتجديد أفكارها وقبول الاختلاف وكسر التصنيف؛ فالذبابة حشرة صغيرة بدماغ كبير وتملك جملتها العصبية قدرات مدهشة حسب علماء الحشرات.
تذكرنا هذه القصة بقصة الرئيس الجزائري أحمد بن بيلا الذي رمي في السجن في زنزانة مظلمة وكاد إحساسه بالمظلومية يجعله يفقد عقله لولا ذبابة عاشت معه في الزنزانة، فكان يأنس لها ويكلمها مما ساعده على التماسك وعدم الانهيار.
وحدة وصراع الأضداد
من قبول الآخر إلى تبادل الأدوار يعتمد سليمان على المفارقات الساخرة لتقديم مقولته؛ فلو حظي عصفور البغاث التافه بفرصة إطلاق عفريت من القمقم فما رغباته الثلاث التي قد يطلبها؟ تُحفظ الهويات في عالم الطبيعة بقوة الغريزة، أما الإنسان فهو وحده القادر على صنع هويته، فالبغاث وإن استُبدِلَ بجسده جسد النسر أو القط البري لَظَلَّ يفكر كعصفور البغاث دون أن يستوعب تبادل الأدوار، بينما حين يصبح صيادًا في الأمنية الثالثة فإنه يمتلك عقل الصياد الماكر فيعيد العفريت إلى القمقم، وسيكون آخر بغاث صاده هو الصياد.
تتفوق الفكرة أو المقولة في بعض القصص في رمزية تحتمل كثيرًا من التأويلات، لكنه يلون ذلك بالخيال الممتع كابتكار مفاهيم للمخلوقات الأخرى أو محاولة ترجمة مفاهيمها، كأن تقيس المخلوقات البحرية الزمن بعدد الموجات. مؤكدًا في أكثر من قصةٍ أهميةَ الحفاظِ على الهرم الطبيعي وبقاء ناموس الطبيعة وقانونها فاعلًا وحافظًا للوجود رغم قسوته، فالسلسلة الغذائية وحشية بامتياز؛ إذ تقوم على القتل وبقاء الأقوى، ولكن هذا لا يُسوّغ استهتار الإنسان وعدوانيته وجنونه في استغلالها.
وفي قصة «الأسماء» ينقلب السحر على الساحر، والحيوانات التي أوحت للحمار أنه حصان لترتاح من صوته في مكر وسخرية، خلقت لديه الهدف والطموح حتى صار من أشهر أحصنة السباق. أما دموع التماسيح الكاذبة فالإنسان هو العاقل الوحيد على هذه الأرض الذي صدقها ومارسها.
يعيدنا سليمان إلى قانون الديالكتيك في وحدة وصراع الأضداد؛ فالصراع هو جوهر البقاء، وهو ما يعني أن العدالة ستبقى مشروعًا غير محقق وهذا لا ينفي السعي إليها.
تحمل المجموعة عنوان «الفراشات البيضاء» وهي قصة الغريب البعيد من وطنه؛ إذ يدور في دائرة الألم من دون فكاك، إنه الكنغر الأسير في السيرك الذي يرى الثلج فراشات بيضاء تذوب على وجهه؛ فهو من بلاد تندر فيها الثلوج.
حروب وأمراض
نصل إلى الاتجاه الثاني من القص الذي يتناول عالم الإنسان بحروبه وأمراضه. فنلحظ تأثره بواقع الحرب السورية التي تخطف الأبناء. في قصتي «مقهى الأشباح» و«العطار» يكتب سليمان عن أمراض العصر، الوحدة والزهايمر، مثيرًا عواطف القارئ الجوانية ويشعلها بالتشويق والتأثير؛ فالعطار قد يصلح عبر عمليات التجميل ما أفسده الدهر، ولكنه لن يصلح العقل الذي أفسده الزمن. أما «مقهى الأشباح» فمن أجمل قصص المجموعة إذ تجمع الفكرة والمشهدية السينمائية وتحتدم بالمشاعر المؤثرة. وتنتهي المجموعة بالقصص القصيرة جدًّا وفيها يترك الباب مفتوحًا لخيال القارئ في فك الرموز، وتلوين المشهد باحتمالاته وغرائبيته التي تؤنسن الحجر وتمنحه الحياة بيد الفنان.
حافظ باسم خلال سرده على لغته الرشيقة، رغم تنوع الأفكار وابتكارها والذهاب بها إلى رؤى ومسارب مختلفة، مبتعدًا من التجميل اللفظي ومحافظًا على الأسلوب المكتنز بالمعنى والتعبير الممشوق من دون ترهل أو زيادات.
رابط المقال

September 7, 2024
الإعاقة في التراث العربي: في قبول المختلف
باسم سليمان 7 سبتمبر 2024 – مقالي في ضفة ثالثة
لا يظنّ قارئ هذا العنوان، بأنّه انتقاصٌ من ذوي الإعاقة، بل هو مدحٌ وعبرة، فالجّبّار هنا لا تعني غليظ القلب، فالجّبّار، أحد أسماء الله الحسنى وهو الرحمن الرحيم، وإنّما المقصد منه، بأنّ المعوّق عندما يتغلّب على عاهته، يبرز لمن يرى إعاقته، بأنّه من المستحيل تجاوزها، فيلهج لسانه بذلك القول، لدهشته وتعظيم إرادة المعوّق. إنّ كلّ ذي عاهة جبّار، هو مثل عربي؛ وللتراث العربي مدونة كبيرة في ذكر واحترام ذوي الإعاقة، قد سبق بها الأمم الأخرى، ويجب أن تُقتدى في زمننا الحالي.
قد يكون تاريخ نضال ذوي الإعاقة في مواجهة إلغائهم عبر التاريخ، من أولى الحركات الثورية من أجل قبول المختلف عمّا يعدّ هو السّويّ في نظر المجتمع. كانت أكثر التجمّعات البشرية تقصي المعوّقين إلى حدّ إفنائهم، كقانون (ليكورغوس الإسبارطي 800 -730 ق. م) وتشريعات القانون (صولون الأثيني 640-560 ق.م ). ولا يجب أن ننسى بأنّ أهم فيلسوفين في التاريخ البشري؛ أفلاطون وأرسطو، كانا لا يختلفان عن ليكورغوس وصولون في إقصائهم للمعوّقين، وهذه وصمة عار بحقّ الفلسفة! ومنذ ذلك الوقت ما يزال المعوّقون يناضلون، فالإقصاء وإن خفتت مفاعيله في في زمننا الحالي أو توارى، فإنه لم يزل في اللغة والفكر، وفي الشتائم والنكت وغير ذلك، فليس غريبًا أن نجد في الولايات المتحدة الأمريكية في السبعينات من القرن الماضي، بعض القوانين التي تمنع المعوّق بأن يظهر في الشوارع كي لايؤذي المنظر العام.
ونستطيع أن نرى مقدار الحيف الذي حاق بالمعوّقين من خلال الأمم المتحدة التي تأخّرت جدًا في إصدار قانون يلزم أعضاءها – إلزام معنوي لا فعلي!- إلّا في عام 2006 عندما اعتمدت اتفاقية دولية، والتي نصّت على تعزيز وحماية وكفالة تمتع الأشخاص ذوي الإعاقة تمتعًا كاملًا على قدم المساواة مع الآخرين بجميع حقوق الإنسان، والحرّيّات الأساسية، وتعزيز احترام كرامتهم. وقد شمل مصطلح (الأشخاص ذوي الإعاقة) في الاتفاقية الدولية، كل من يعانون من عاهات طويلة الأجل: بدنية، أو عقلية، أو ذهنية، أو حسّيّة، قد تمنعهم لدى التعامل مع مختلف الحواجز من المشاركة بصورة كاملة وفعالة في المجتمع على قدم المساواة مع الآخرين. بناءً على هذه المقدّمة، سنقارب بعض ما وجد في التراث العربي من آثار ذوي الإعاقة، لكي نبحث في إرهاصات مقاومتهم لتنميط مجتمعهم لهم وإقصائهم.
“أنا للخمسة أنف”:
هذا شطر من بيتين لعمّ الرسول، أبي طالب بن عبد المطلب، وهو أول هاشمي يقول مفتخرًا وقد كان فيه عرج:
أنا يومَ السِّلم مَكْفِ/ـيٌ ويوم الحرب فارسْ أنا للخمْسة أنْفٌ/ حين ما للخَمْسِ عاطس.
ومعنى البيتين بأنّ أبا طالب في السلم لا يحتاج إلى ابتذال نفسه، أمّا في الحرب، فإنّه يبلغ جميع إرادته على الرغم من عرجه. وقد عيّرته بعض نسائه بالعرج، فقال: قالت عرِجتَ فقد عرجْت فما الذي أنكرت من جلَدي وحُسن فعالي.
إذن، لم يردع حسب ونسب وفروسية أبي طالب من تعييره بالعرج، فانبرى مفاخرًا ومعلّلًا بأنّ سؤدده لم ينقصه شيء بسبب العرج.
ومثله فعل الأعرج الطائي وكان مخضرمًا في الجاهلية والإسلام: تشكي إلى جارتها وتعيبُني فقالت معاذ الله أنكِح ذا الرِّجْل فكم صحيح لو يوازن بيننا لكُنّا سواءً أو لمال به حِمْلي. لقد كانت العرب في الجاهلية، تنمّط أهل الزمانة ضمن أطر قارة من النظرة السلبية، وكما ذكر في (تفسير القرطبي): “وكانت العرب ومن بالمدينة قبل المبعث تتجنّب الأكل مع أهل الأعذار؛ فبعضهم كان يفعل ذلك تقذّرًا لجولان اليد من الأعمى، ولانبساط الجلسة من الأعرج، ولرائحة المريض وعلاته؛ وهي أخلاق جاهلية وكبر“. إنّ التوقف عند خبر القرطبي وخاصة جملته: “وهي أخلاق جاهلية وكبر” يجد بأنّ النظرة قد بدأت تتغيّر بالنظر إلى المعوّقين مع مجيء الإسلام، لكن لم تكن هذه النظرة لتتم لولا بعض المعوّقين الذين خرجوا من جلباب تنميطهم ضمن إعاقاتهم، لذلك قال بشار: “والذكاءُ من العَمَى” أو كقول أحد الشعراء العرجان: “وما بي عيبٌ للفتى غير أنّني/ جعلت العصا رِجلًا أقيمُ بها رجلي”. كان الشاعر الحارث بن حلزّة أبرص صاحب القصيدة التي مطلعها: “آَذَنَتنا بِبَينِها أَسماءُ/رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ مِنهُ الثَواءُ” قد وفد على الملك عمرو بن هند الذي كان لا يملأ عينه رجل فيه بلاء وأنشده قصيدته من خلف ستار كي لا يرى برصه، فلما سمعها عمرو واستخفّه الطرب، أمر أن يرفع الستر، ثمّ أجلسه على طاولة طعامه وجعله من سمّاره، كما ذكر الجاحظ. إذن تلك المنقصة التي كان ابن حلزّة قد تجاوزها عبر إبداعه الشعري، وأجبرت ذلك الملك الذي كان يُسمى لشدّته (مُضَرِّط الحجارة) أو (المحرّق الثاني) لأنّه حرّق بني تميم بالنار لصرامته، بأن يجعله من سمّاره، فلو اكتفى ابن حلزّة بما عيّره المجتمع به، لما ذكره التاريخ. وهذا يعني أنّ على المعوّق واجبًا بأن لا يركن لرفض المجتمع له، بل أن يواجهه ويثبت له جدارته حاله حال الأصحاء. لكن المجتمع العربي لم يكن بهذا التسامح. تهاجى الشاعر بشار بن برد مع الشاعر حمّاد عجرد، فلم يتأثّر بشار إلّا ببيتٍ واحدٍ من الهجاء، الذي قاله عجرد: “وَأَعمى يُشبِهُ القردَ/إِذا ما عَمِيَ القِردُ” فبكى منه. وقد سُئل بشار عن سبب بكائه، فقال كما جاء في كتاب (الأغاني): “فلما سمع بشار هذا الشعر بكى، فقال له قائل: أ تبكي من هجاء حمّاد؟ فقال: والله ما أبكي من هجائه، ولكن أبكي لأنّه يراني، ولا أراه فيصفني ولا أصفه”. لا ريب أنّ بشار قد بكى، ليس لأنّه غير قادر على وصف عجرد، فمن وصف أحد الجيوش بهذا البيت: ” كأنّ مثار النقع فوق رؤوسنا/ وأسيافنا ليلٌ تهاوى كواكبه” لن يصعب عليه وصف عجرد، لكنّه أتاه من مأخذ لا حيلة لبشار فيه، فشعر بالعجز.
لم يكن بشار مستجدًّا في عماه، فقد كان أكمه، أي ولِد أعمى، والعادة، كما قيل تفتت الصخر، لذلك قال: “عَميتُ جنيناً والذكاءُ من العَمَى/فجئتُ عجيبَ الظنَ للعلم موئلا” فما خطبه، قد كبا حصنه! لا ريب أنّ الأدب ليس شعور المجتمع والأفراد فقط، بل هو اللاشعور، حيث تظهر المضمرات والمكبوتات. وهذا ما استشعره بشار بتبعات وصفه بالأعمى، وأنّ لهذا الوصف تاريخ موغل بالسوء، لذلك ردّ بهذه الأبيات: قالوا العَمى مَنظَرٌ قَبيحٌ
قُلنا بِفَقدي لَكُم يَهونُ
تَاللَهِ ما في البِلادِ شَيءٌ
تَأَسى عَلى فَقدِهِ العُيونُ.
لقد ظهرت شكاوي ذوي الإعاقة من مجتمعهم لكن في الوقت نفسه تصدّوا له، فها هو حبر الأمة ابن عباس قد عمي بعد تقدّم العمر به، فقال: إنْ يأخذ الله عيني نورهما ففي لساني وسَمعي منها نور قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخل وفي فمي صارم كالسيف المأثور.
ولنفهم أكثر معاناة المعوّقين، ومن ثمّ إصرارهم على تبيان أنّ الإعاقة لاتمنع من ملك الإرادة والصبر من تحقيق آماله وأحلامه، سنذكر قصة الصحابي عمرو بن الجموح الأنصاري الذي كان شديد العرج وأراد الجهاد في غزوة أُحد، فمنعه أولاده خوفًا وإشفاقًا عليه من إعاقته، فجاء الرسول طالبًا الجهاد، فأخبره الرسول بأنّه لا حرج عليه، لكنّ عمرو بن الجموح أصرّ وجاهد حتى استشهد، فقال الرسول: “والذي نفسي بيده، إنّ منكم من لو أقسم على الله لأبرّه، منهم عمرو بن الجموح، ولقد رأيته يطأ الجنة بعرجته” إن تبصرًا في مقولة الرسول وخاصة في جملة: “ولقد رأيته يطأ الجنة بعرجته” والمعلوم بأنّ أهل الجنّة أصحاء، فلماذا يطأ عمرو بن الجموح بإعاقته الجنة؟ وما ذلك إلّا تعظيمًا لجهاده على الرغم من إعاقته، فإعاقته أصبحت رمزًا يضاهي به كمال شباب الجنة. هذه القصة عن عمرو بن الجموح تبيّن لنا مقدار ما وصل إليه المجتمع العربي الإسلامي في بداياته من توقير واحترام لذوي الإعاقة، فليس غريبًا أن تزدهر الكتب التي تتكلّم عن ذوي الإعاقة وتشيد بإرادتهم وصبرهم فيما تلا من أزمنة.
كتاب ذوي الإعاقة:
يُعدّ كتاب الجاحظ(159-255 هـ): (كتاب البرصان والعرجان والعميان والحولان) أول مانيفيستو من أجل المعوّقين في العالم. هذا الكتاب الفارق والمميّز، قد جاء ردّا على كتاب الهيثم بن عدي الذي عنونه بـ(المثالب) رافضًا منهجه بذم أصحاب العاهات والسخرية منهم، قال الجاحظ: “وقد خفتُ أن تكون مسألتك إياي كتابًا في تسمية العرجان والبرصان، والعميان والصمان والحولان، من الباب الذي نهيتك عنه، وزهدتّك فيه،. وذكرت لي كتاب الهيثم بن عدي في ذلك، وقد خبّرتك أنّني لم أرض مذهبه، ولم أحبّه له حظًا، ولا لولده من بعد مماته”. لم يورد الجاحظ أخبار ذوي الإعاقة فضحًا لأصحابها ولا تشهيرًا بهم، وإنّما جلاء لإرادتهم القوية وصبرًا على ما ابتلاهم الله، فذكر أمثلة من جاهلية العرب وإسلامها ممن لم تمنعهم عاهاتهم من التميّز في مجتمعاتهم إلى درجة التمدّح بالعاهات والاعتزاز بها، إلى أن يقول عنهم: “والعرج الأشراف – أبقاك الله- كثير، والعمى الأشراف أكثر، وأن جماعة فيهم كانوا يبلغون مع العَرج ما لا يبْلغه الأصحاء، ومع العَمى يُدركون ما لا يُدرِك أكثر البصراء” إنّ تأمّل هذا القول للجاحظ، الذي لم يكن لسان حاله فقط، وإلّا لم يكن ليلقى قبولًا أبدًا، يُظهر لنا تغيّر نظرة المجتمع العربي الإسلامي إلى ذوي الإعاقة، حتى أّنه ذهب إلى إيراد الميثاق الطبي بين الطبيب والمريض الذي كان سائدًا في زمنه، والذي ينصّ على السرّية وعدم فضح المريض وما أصابه من عاهات. ويتابع الجاحظ الكشف عن استعداد مجتمعه لتقبل المعوّقين فيه على الرغم من إشارات كثيرة لنبذهم: “وإذا كان الإعرابي يعتريه البرص، فيجعله زيادة في الجمال، ودليلًا على المجد، فما ظنُّك بقوله في العرج والعمى وهما لا يستقذران ولا يتقزّز منهما ولا يُعْدِيان ولا يُظن ذلك بهما، ولا ينقصان من تدبير، ولا يمنعان من سؤدد”.
لقد كان كتاب الجاحظ بما ذكر من أشراف ذوي الإعاقة، دافعًا لكتّاب آخرين ليخصّصوا بعض الأبواب في كتبهم لذكر ذوي الإعاقة وما تميّزوا به، أو يؤلفوا كتبًا كاملة عنهم، فقد ألف الخطيب البغدادي كتابًا عن العميان ومثله فعل الزمخشري بأن وضع رسالة بعنوان (تسلية الضرير) هدف منه إلى عزاء من كفّ بصره، وتسليته بما عوّضه الله من نور البصيرة، وذكر فيه المشهورين من الصحابة والتابعين والشعراء والأدباء الذين فقدوا بصرهم. وكتب ابن عسكر رسالة بعنوان (الجزء المختصر في السلوّ عن ذهاب البصر) أهداها إلى صديقه الضرير الواعظ أبي محمد بن الأحوص. أمّا كتاب (نَكْت الهمْيان في نُكت العميان) لابن الصفدي فيعد كتابًا عمدة في ذكر العميان، حيث جمع تراجم لثلاثمئة وعشرة من مشاهير العميان وفق حروف الهجاء، مبديًا إعجابه بهم وبذكائهم وقدرتهم الحفظية، فيقول: “قلّ أن وجِد أعمى بليدًا، ولايُرى أعمى إلّا وهو ذكي والسبب الذي أراه في ذلك، أن ذهن الأعمى وفكره يجتمع عليه، ولا يعود متشعبًا بما يراه، ونحن نرى الإنسان إذا أراد أن يتذكر شيئًا نسيه، أغمض عينيه وفكر، فيقع على ما شرد من حافظته. وفي المثل: أحفظُ من العميان”. لننظر لهذا التعليل العلمي النفسي الذي أورده ابن الصفدي وكم يدل على احترام العميان وذكائهم. وكم نشكر في زمننا العالم لويس بريل (1804-1852) الذي اخترع الأحرف النافرة لكي يقرأ العميان بملامس أصابعهم وإليه نسبت تلك اللغة (لغة بريل للعميان) لكن إرهاصات هذه اللغة لا تعود للعالم بريل، فقد ذكر الصفدي أنّ زيد الدين أبو الحسن الآمدي العابر المتوفي (712 هـ) وكان فقيهًا ورّاقًا وله تصانيف عديدة، بأنّه إذا اشترى كتابًا، يعمد إلى فتائل صغيرة يشكّلها من الورق على هيئة الأحرف، حسب ثمن الكتاب وفق حساب الجُّمّل ويلصقها على جلد الكتاب من الداخل، فإذا نسي السعر تلمس بأصابعه تلك الفتائل التي على شكل الأحرف وجمع قيم جملها، فيعرف الثمن الذي اشترى به الكتاب. لم يكتف ابن الصفدي بذلك فألّف كتابًا تناول فيه الأشراف من العوران وترجم فيه لواحد وثمانين أعور، ذكر فيه ما يمتازون به من ذكاء وهمّة وإرادة. وتتابع تأليف الكتب فوضع ابن الدين الهاشمي (891-954 هـ) كتاب (النكت الظراف في الموعظة بذوي العاهات من الأشراف) ويقول في سبب تأليفه: “فلا يظنّ بذلك الظّانون، وما يعتقده الجاهلون من ذوي العقول السخاف، بأنّه سلب للأشراف، ووقيعة في أكابر الناس، بل والله العظيم، قصدت بتأليفه، الإيقاظ، وتسلية من ابتلى به، والاتعاظ لمن حصل له الابتلاء، من الأكابر في الزمن الغابر… ولا شك في أنّ المصنفين الذين ألفوا في هذا المعنى، لم يقصدوا العيب، وإنّما قصدوا العلم والإحاطة لمن اتفق له ذلك من الأعيان، وإفادته لمن بعده بالاعتبار والاتعاظ، كما نقله العلماء الأيقاظ”.
هذا غيضٌ من فيض من المؤلفات، التي رصدت حياة ذوي الإعاقة، رفعًا لشأنهم واعتبارًا بقدرتهم على الصبر على البلوى وتمثّلًا لإرادتهم القوية في مواجهة صعوبات الحياة. ولا ريب أنّ أشدّها المرض والإعاقة.
ذكرنا بأنّ الجاحظ قد افتتح أدب ذوي الإعاقة في التراث العربي، بذكر أشرافهم وحوادثهم وأخبارهم وما قالوه من أشعار وقصص. وقد يظنّ البعض بأنّ الجاحظ، وهو السليم المعافى، قد كتب عن معاناة غيره من دون أن يذوق مرارة طعم الإعاقة، لكنّ الجاحظ قد فلج في أواخر سنينه، وظلّ على هذه الحالة حتى وافته المنية، وقد ألّف في سني مرضه أهم كتبه: (البيان والتبيين، والحيوان، والبخلاء) وكان له ورّاق يملي عليه الجاحظ ما يتفتّق في ذهنه من أفكار. أمّا المعرّي رهين المحبسين، فقد عمي من صغره، لكنّه لم يستكن، حتى صار إمامًا في الفكر والثقافة العربية، ويكفي أنّ رسالته (الغفران) ألهمت الكثير من الكتاب بعده حتى دانتي في كوميدياه الإلهية. بينما بشار بن برد، فقد سبق الشعراء لتراسل الحواس حين قال: يا قَومِ أَذني لِبَعضِ الحَيِّ عاشِقَةٌ
وَالأُذنُ تَعشَقُ قَبلَ العَينِ أَحيانا
قالوا بِمَن لا تَرى تَهذي فَقُلتُ لَهُم
الأُذنُ كَالعَينِ تُؤتي القَلبَ ما كانا.
يقال بأن المثل يُصطاد من بحر الكلام كالسمك، واحدًا واحدًا، وما ذكرناه من أمثلة ناصعة عن ذوي الإعاقة في التراث، يقابله بالمثل الجانب المظلم للقمر، ليس مثاله فقط، كتاب (المثالب) لابن عدي، لكن ها نحن نسقط كلام ابن عدي وغيره، ونتذكّر بشار بن برد والمعرّي بعد قرون وقرون من وجودهما. ونختم هذا المقال بقول المعرّي: “أنا أحمد الله على العمى، كما يحمده غيري على البصر”.
باسم سليمان
كاتب من سورية
خاص ضفة ثالثة

August 27, 2024
الإعاقة في الأسطورة والدين: رؤى المجتمع
مقالي في ضفة ثالثة – باسم سليمان
إنّ الإعاقة متأصّلة في الجنس البشري، فالحروب، وحوادث الحياة، والأمراض الوراثية، والأمراض الوبائية، وغير ذلك من أسباب، كانت كلّها منتجة للإعاقة، لذلك نستطيع القول عنها، بأنّها قديمة قدم البشرية.
يُذكر أنّ الإنثروبولوجية (مارغريت ميد) أجابت عن سؤالٍ من إحدى طالباتها عن لحظة ظهور الحضارة البشرية بالقول: “إنّ أول علامة على الحضارة في الثقافة القديمة هي الدليل الذي وجدناه، وهو عبارة عن عظام لشخص أصيب بكسر في عظم الفخذ، وشُفي منه، واستمر في الحياة”. ما قصدته ميد، بأنّ تقديم المساعدة للمريض، هو اللحظة التي ارتقى فيها الكائن البشري فوق الطبيعة، لا اكتشاف النار ولا العجلة، فالحيوان الذي يمرض أو يجرح ستكون نهايته الموت، أمّا لدى الإنسان، فسيقف أخوه الإنسان معه كعكاز يسنده في مصابه. إنّ ما ذكرته ميد لم يتحقّق بالمعنى الفعلي – إلى حدّ كبير- إلّا بعد الحرب العالمية الثانية، فقد أدّت الأعداد الهائلة من المصابين في الحرب والتي انتهت إصاباتهم إلى أن تكون إعاقات دائمة لدى الجنود والمدنيين، إلى إعادة النظر بموقع المعاق في المجتمع بعد تاريخ لا ينتهي من الإلغاء لوجوده، مضافًا إلى ذلك ردّات الفعل الإنسانية على قرارات هتلر بتطهير المجتمع الألماني من المعاقين، فقد أصدر في عام 1939 قرارًا سرّيًا بما أطلق عليه: “المساعدة الطبية النهائية” بضروة قتل المعاقين لأنّهم:”أكلة عديمو الفائدة” و” دونية بشرية غير معالجة” يستنزفون الاقتصاد ويثقلون كاهل المجتمع دون المساهمة بأي شيء في المقابل، ووصل الأمر بهتلر إلى أن يشمل المحاربين القدامى المعاقين في الحرب العالمية الأولى. لم يُكتب للأمر الذي أصدره هتلر بأن يكون منفذًا بالكامل وذلك تحت ضغط المجتمع والكنيسة، فقد أُجبر هتلر على إيقاف الأمر بعد عام 1941 بعد أن قتل أكثر من 300000 ألف معاق ألماني. ليس هتلر بدعًا في ذلك، فتاريخ أصحاب الإعاقة مليء بالعنف والقتل والنبذ والتعذيب والسجن والتجويع والتعقيم، واستخدامهم للتسلية.
تفيد بعض الحفريات، بأنّ العنف الممنهج المادي والفكري نحو المعاقين كان فيه بعض الاستثناءات الجيدة، فقد وجِد في بعض المقابر التي تعود إلى بدايات الحضارة البشرية جثث لمرضى قد طال بهم العمر، ولم يكن ليعيشوا لولا مساعدة مباشرة من محيطهم الإنساني. وفي ثقافتنا العربية القديمة حيث يختلط الواقع بالأسطورة نجد الكاهنين (شق وسطيح) :”إن سطيحًا كان لا أعضاء له، وإنّما كان مثل السطيحة، ووجهه في صدره، وكان إذا غضب، انتفخ، وجلس، وكان شقٌ نصف إنسان”. لا يمكن لسطيح أو شق أن يستمرا بالحياة لولا مساعدة المحيطين بهما. وفي إفريقيا الغربية ترى بعض الشعوب، بأنّ المعاقين نتيجة لتجليات القوى الخارقة للطبيعة لذلك يكنّون لهم الاحترام، أمّا في شرق إفريقيا، فهناك معتقدات، بأنّ المعاقين قادرون على إرضاء الأرواح الشريرة، وبذلك يؤمّنون الحماية منها لغيرهم من الأصحاء. هذه الاستثناءات القليلة الإيجابية بحقّ المعاقين يقابلها جبل جليد من العنف نحوهم.
يبدأ ذكر المعاقين في الحضارة البشرية من بلاد الرافدين، فهناك أسطورة سومرية تتكلّم عن أنّ الآلهة قد تعبت من القيام بالأعمال، فالأرض التي خلقوها استعبدتهم بالقيام بشؤونها، وعلى أثر ذلك قرّروا أن يشتكوا للإله (إنكي – إله الماء العذب) لكنّه كان نائمًا، فما كان لهم من حلّ إلّا أن قصدوا أمّه الإلهة (نمو – سيدة المياه) وبكوا أمامها أوضاعهم القاسية. حملت نمو دموع الآلهة وذهبت إلى ابنها وأيقظته وطلبت منه أن يخلق خدمًا يخدمون الآلهة المتعبين، فاستجاب الابن إلى ذلك وأقام مأدبة دعا إليها الآلهة بهذه المناسبة، ولأنّ الإلهة (ننماخ) سيدة الخلق احتجت على تكليف إنكي بذلك، وهنا تحدّاها إنكي بعد أن دارت الجعة في رأسه، أن تخلق ستة من البشر سيكون قادرًا على إيجاد أعمال لهم، فخلقت ننماخ عددًا من المعاقين: الأصم والأعمى والكسيح … فدبّر لهم إنكي أعمالًا في خدمة المعبد وقصر الملك وهنا استشاطت ننماخ غضبًا وطلبت من إنكي أن يخلق بشرًا لتجد لهم أعمالًا مناسبة، فخلق إنكي كائنًا يدعى (أومول) وهو الشيخ الطاعن في السن، عيناه ذابلتان، وحياته فانية وخلق كائنًا آخر، يائسًا، لا يستجيب لنداء، فاحتارت ننماخ كيف تجد لهما أعمالًا تناسبهما، فغضبت منه واحتد النقاش بينهما، إلى أن تدخّلت الآلهة جميعها وأنهي الخلاف بخلق الإنسان الذي على صورة الآلهة، لا تشوّه فيه ولا إعاقة. لا ريب أنّ إنكي وننماخ أسطورة تفسيرية لتواجد المعاقين بين البشر الذين بالأساس يجب أن يكونوا على صورة الآلهة كاملين. لقد كان سكر إنكي وتحدّيه ننماخ هو السبب في خلق البشر المعاقين، لذلك هناك الكثير من النصائح، بأن لا يشرب الحاكم الجعة ويصعد للحكم، فتكون أحكامه معوّقة كالمعاقين الذين خلقهم إنكي وننماخ، هذا من ناحية. أمّا من الناحية الثانية، فتدل على قبول المجتمع السومري تواجد المعاقين ضمن أعضائه الفاعلين. وهذه النقطة توافق قول مارغريت ميد، على الرغم من أنّ هناك حالات كان المعاق يقتل فيها في بلاد ما بين النهرين. إنّ التعليل السومري لسبب خلق الإنسان بأنّه خُلق ليعمل، سيكون المبدأ الذي حكم التعامل مع المعاقين، فإذا نُظر إليهم أنّهم غير قادرين على العمل بسبب تشوّههم الخلقي أو الحوادث اللاحقة لولادتهم التي أدّت إلى إعاقتهم، سيكون مصيرهم الموت أو النبذ. وإن نظر إليهم بأنّهم قادرون على القيام بعمل ما، تم دمجهم بالمجتمع ورعايتهم.
ننتقل بعد حضارة ما بين النهرين إلى الحضارة الفرعونية، وسنستند في رؤيتنا على وضع المعاقين فيها إلى رأي المؤرِّخ بلوتارخ الذي وصف الإله (حربوقراط) بأّنّه: “مولود قبل الأوان وضعيف وأعرج الساقين) وهذا يعني بأنّ وجود إله معاق، أنّه إلى حدٍّ ما لم يكن المعاقون مرفوضين تمامًا، حتى أنّ الإلهين (بيس وبتاح) كانا قزمين. ويقال أيضًا أنّ الفرعون (توت عنخ أمون) كان معاقًا أيضًا؛ وبناءً على ما سبق نستطيع القول بأنّ وضع المعاق في مصر القديمة كان مقبولًا، ويشبه حاله ما كان في بلاد الرافدين. لكن أكثر الحضارات التي أثرت على تنميط المعاق في المجتمع كانت الإغريقية، وخاصة أن الآراء المناهضة للمعاقين خرجت من أهم فيلسوفين في التاريخ: أفلاطون وأرسطو، فقد رأى أفلاطون ضرورة إخفاء المعاقين (قتلهم) من المدينة الفاضلة. وكان هدف أفلاطون تحسين النسل الذي ستتبناه فيما بعد الداروينية الاجتماعية بقيادة عالم الاجتماع هربرت سبنسر (1820-1903)، الذي صكّ مصطلح (البقاء للأقوى)، ودعا فيه إلى قتل الأطفال المعاقين والتعقيم الجنسي للكبار منهم. أمّا أرسطو فقد رأى في المعاقين ضررًا اقتصاديًا، فهم غير قادرين على خدمة أنفسهم، ولا المجتمع، لذلك الأولى بالأهل أن يقتلوا أطفالهم المعاقين في المهد. وجاء في كتابه (السياسة): “أمّا فيما يتعلّق بتربية الأطفال، فليكن هناك قانون يمنع أن يعيش أي طفل مشوّه”. لم يكن أفلاطون وأرسطو شاذّين في آرائهما، فقد كانت مدينة إسبارطة في اليونان تقتل الأولاد المعاقين، أمّا روما، فقد شرّع رمولوس مؤسّسها ضرورة قتل الأطفال المعاقين، لكن فيما بعد نصّت القوانين الرومانية على ضرورة اعتناء الأهالي بأولادهم المعاقين، كذلك كان الحال معقولًا في اليونان، فقد بُنيت ممرّات خاصة للمعاقين كي يأتوا إلى الاحتفالات الدينية والمدنية. كان أبقراط أول من عارض رأي الثقافة اليونانية التي كانت ترى بأنّ الجسد انعكاس مادي للروح، فإذا كانت فاسدة كان فاسدًا، وعليه عدّت الإعاقة عقوبة إلهية تقع على الإنسان لمخالفته العقائد والأخلاق السائدة، لكنّ أبا الطب أبقراط عارض ذلك، وقال بأنّ الأمراض هي نتيجة لاختلال الأخلاط في الجسم ولا دخل للآلهة في ذلك.
“لَا تَشْتُمِ الأَصَمَّ، وَلا تَضَعْ عَثْرَةً فِي طَرِيقِ الأَعْمَى”:
إنّ نظرة الديانات إلى الإعاقة مشوبة بالكثير من اللاحسم، فهي من ناحية ترى الإعاقة عقوبة إلهية تُنزل على المخالفين للعقيدة والأخلاق والكفّار. ومن ناحية أخرى ترى فيها تجلّ لقدرة الإله التي يجب الخضوع لها والتأمّل فيها، فإذا انطلقنا من الديانة اليهودية وكتابها التوراة، الذي أخذنا منه المقبوس الذي عنونا به هذه الفقرة، نجد الأمر الإلهي يحضّ على الرحمة بالمعاقين الذين مثّل لهم بالصم والعمي، لكن في المقلب الآخر نرى في سفر اللاويين: “قُلْ لهرونَ: مَنْ كانَ فيهِ عَيـبٌ مِنْ نسلِكَ على مَمرِّ الأجيالِ، فلا يقتَرِبْ ليُقدِّمَ طَعامَ إلهِهِ: الأعمى والأعرجُ والأفطسُ والأشرعُ، والمَكسورُ الرِّجْلِ أوِ اليدِ، والأحدبُ والقزَمُ والّذي في عينَيه بـياضٌ، والأجربُ والّذي في بدَنِهِ بُثورٌ، ومَرضوضُ الخِصيتَينِ. كُلُّ مَنْ بهِ عَيـبٌ مِنْ نَسلِ هرونَ لا يتقدَّمْ ليقرِّبَ وقائدَ طَعامِ الرّبِّ إلهِهِ. لكنَّهُ يأكلُ مِنْ طَعامِ إلهِهِ، سَواءٌ أكانَ مُقدَّسا أم مُقدَّسا كُلَّ التَّقديسِ. وأمَّا الحِجابُ المُقَدَّسُ، فلا يَقتَرِبْ مِنهُ، ولا يتَقدَّمْ إلى المذبَحِ إذْ بِهِ عَيـبٌ فلا يُدنِّسُ معبَدي الّذي كرَّسْتُهُ لي”. تنصّ التوراة على أنّ الإنسان خُلق على صورة الرب الكاملة وبالتالي فإنّ أي نقص أو عور في صورة الشخص تؤدّي إلى استبعاده، وعلى ما يبدو أنّ الصورة هنا أخذت معنى المظهر الخارجي، فهناك الكثير من الأمراض والإعاقات الداخلية في جسد الإنسان التي لا ترى بالعين لم تذكرها التوراة، مع أنّها أكثر فتكًا كما قال هربرت سبنسر عن مرض السكري الذي اعتبره مكلفًا للدولة ويورثه الآباء لأبنائهم لذلك وجب تعقيمهم. إنّ الإعاقة دناسة كما يقول سفر اللاويين يجب أن تُبعد عن بيت الرب، لكن النبي يعقوب كان أعرج بعد أن صارع الإله إلى الصباح، فكسر الإله حُقّ جنبه، وأصبح اسمه إسرائيل لأنّه جاهد مع الرب وصبر، فيما النبي أيوب فقد تعرض لأمراض كثيرة، أمّا موسى فكان لا يفصح عن كلام واضح، جاء في التوراة: “هَا أَنَا أَغْلَفُ الشَّفَتَيْنِ. فَكَيْفَ يَسْمَعُ لِي فِرْعَوْنُ؟” أي أنّه ليس رجل كلامٍ، ويتابع موسى محاجته، بأنّه ليس صالحًا لهذه المهمة، فيردّ الإله: “فَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى مُوسَى وَقَالَ: َلَيْسَ هَارُونُ اللاَّوِيُّ أَخَاكَ؟ أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ يَتَكَلَّمُ، وَأَيْضًا هَا هُوَ خَارِجٌ لاسْتِقْبَالِكَ. فَحِينَمَا يَرَاكَ يَفْرَحُ بِقَلْبِهِ” فأجابه موسى: “فَقَالَ مُوسَى لِلرَّبِّ: اسْتَمِعْ أَيُّهَا السَّيِّدُ، لَسْتُ أَنَا صَاحِبَ كَلاَمٍ مُنْذُ أَمْسِ وَلاَ أَوَّلِ مِنْ أَمْسِ، وَلاَ مِنْ حِينِ كَلَّمْتَ عَبْدَكَ، بَلْ أَنَا ثَقِيلُ الْفَمِ وَاللِّسَانِ” فأجاب الإله على موسى:” فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: «مَنْ صَنَعَ لِلإِنْسَانِ فَمًا؟ أَوْ مَنْ يَصْنَعُ أَخْرَسَ أَوْ أَصَمَّ أَوْ بَصِيرًا أَوْ أَعْمَى؟ أَمَا هُوَ أَنَا الرَّبُّ”. من خلال هذا الجدال بين النبي موسى والإله نكتشف بأنّ موسى كانت لديه إعاقة تمنعه من الكلام الواضح، وبناء على ذلك لا ينفع أن يكون صاحب رسالة، لكن ردّ الإله، هو ما يخدمنا في بحثنا بأنّه هو من يجعل فلانًا أصمَ أو أخرسَ أو بصيرًا، أي إنّ الإعاقة من شأن الرب، ولا دخل للإنسان فيها، كما سيتبيّن لنا في أحد ردود المسيح لاحقًا. لاريب أنّ رفض النبي موسى لأن يكون ناطقًا باسم الإله قد أتاه من تقاليد دينية، لربما عرفها في مصر، أو عند الكاهن مدين، كانت تشترط بالنبي سلامة الجسد والحواس؛ وهنا يأتي كلام الإله أنّه لا يختار أنبياءه بناءً على ما كان يعتقده موسى ومحيطه الاجتماعي. والأهم من ذلك أنّ هارون سيكون مساعد النبي موسى كونه فصيحًا وبهذه النقطة نتذكّر كلام مارغريت ميد، وهنا نتساءل، لماذا كل تلك المحرّمات بحقّ المعاقين في سفر اللاويين، مادام موسى كانت له إعاقة؟
لا تختلف المسيحية عن اليهودية كثيرًا في النظر إلى المعاقين، ففي إنجيل يوحنا التقى المسيح برجل أعمى منذ طفولته فقام بشفائه، فسأله التلاميذ: “يَا مُعَلِّمُ، مَنْ أَخْطَأَ: هذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟” فأجاب المسيح: “لاَ هذَا أَخْطَأَ وَلاَ أَبَوَاهُ، لكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ اللهِ فِيهِ.” بينما في قصة أخرى بعدما شفى المسيح أحد العميان يخبره المسيح بضرورة أن لايرجع إلى الخطيئة، وكأنّه يشير إلى أنّ الإعاقة والمرض نتيجة لخطيئة ارتكبها الإنسان بحق الإله. كان يُنظر في المسيحية إلى الإعاقة بين هاذين الحدّين؛ أي أنّ الإعاقة من أعمال الإله التي يجب التفكّر فيها، أو أنّها نتيجة خطيئة يجب التكفير عنها بالعبادة، لكن كان هناك تجاوزات خطيرة في الحرب على الساحرات في القرن السادس عشر، حيث كانت إحدى المؤشرات على أنّ امرأة ما تتعاطى السحر أن تكون معاقة، فقد تم حرق أعداد هائلة من الساحرات المعاقات. وهذا الأمر ليس غريبًا، فقد أفتى مارتن لوثر مؤسس المذهب البروتستاني، بأن يتم إغراق الأطفال المعاقين والمشوّهين.
تقدّم الديانة الإسلامية نظرة أكثر رأفة ممّا سبق، فالمرض في القرآن ابتلاء من الله يختبر به إيمان المؤمنين: “وإذا مَرِضْتُ فهو يَشْفِيْنِ” كما رأينا مع إجابة السيد المسيح أعلاه. لكن هناك نعوتًا في القرآن الكريم، من مثل: (بكمٌ وصمٌ وعمي) استخدمت لذم الكفار، بأنّهم لا ينتفعون من كلام الله، بل ويصدّون عنه، لكن هناك سورة (عبس) التي تتكلّم عن الرسول، فقد جاءه أعمى يطلب الهداية ليصبح مسلمًا، فأشاح الرسول بوجهه عنه، رغبة في أن يؤمن وجهاء قريش بدعوته الذين كانوا حاضرين المجلس، فنزلت الآية الكريمة تعاتبه: “عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَن جَاءَهُ الأَعْمَى. وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى. أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى” ويُقال أنّ هذه الأية نزلت بالصحابي عبد الله بن أم مكتوم الذي كان أعمى، وبعد أن أسلم، أصبح الرسول يستخلفه على المدينة عند الخروج في غزواته. رأينا فيما سبق بأنّ الأطفال المعاقين كانوا يقتلون في أكثر الحضارات والديانات، لكن مع الإسلام جاء الأمر بالكفّ عن ذلك: “وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ” والإملاق هو الضعف الجسدي والفقر.
على الرغم من إمساك الأديان السماوية العصا من المنتصف بحقّ المعاقين إلّا أن نظرة الناس كانت أكثر عنفًا بحقّهم، وكثيرًا ما تفسّر الإعاقات والأمراض، بأنّها عقوبات من الإله بحقّ المخالفين لأحكامه. كنّا فيما سبق مع الديانات السماوية، وإذا اعتبرنا البوذية والهندوسية ديانات أرضية، فهذا الاختلاف بين السماوي والأرضي لم يمنع هذه الديانات من توحيد النظرة إلى المعاقين، فالبوذية ترى بأنّ المعاق لن يكون قادرًا على ممارسة طقوسها، ممّا سيعوّق استنارته، لكن في الوقت نفسه تحضّ على معاملته بلطف. ترى البوذية بأنّ مفهوم (الكارما) هو التفسير لوجود المعاقين، فأعمال المرء غير الصالحة في حياته السابقة سيعاقب عليها في حياته الحالية بالإعاقة والمرض والفقر. لا تختلف الهندوسية عن البوذية في نظرتها إلى المعاق، وخاصة أنّها تتبنّى مفهوم الكارما، لكنّها تحضّ على رعاية المعاقين ونادرًا ما يلتزم المجتمع بذلك، فنظرة المجتمع الهندوسي للمعاق سيئة. ومع ذلك استطاع المعلم البوذي (أشتافاكرا) والذي يعني اسمه: (ذو الاحناءات الثمانية) وقد ألّف كتاب (أشتافاكرا غيتا) ضمّنه حكمته. وهذا الأشتافاكرا الذي يعاني من ثمانية تشوهات قد انتصر على العلماء الأصحاء في بلاط الملك (جاناكا) الذين سخروا من إعاقته. أمّا الشاعر والمغنّي الهندوسي في القرن السادس عشر (سورداس) فقد كان معاقًا ومع ذلك قيل بأنّه ألّف أكثر من 125000 أغنية، وقد حظى بالتبجيل أيضًا باعتباره شخصية دينية عظيمة. في المجتمع الهندوسي القديم والعصور الوسطى، تم اعتماد الأفراد من ذوي الإعاقة في وظائف توظيف خاصة حيث تكون إعاقتهم مفيدة لعملهم؛ على سبيل المثال، كان الملوك يستأجرون أشخاصًا يعانون من ضعف السمع أو النطق لنسخ المستندات الحكومية السرّية. قبل أن ننهي هذا الفقرة، لنا أن نسأل بعد التطوّر الكبير في الطب والذي استطاع إنقاذ الكثير من الأطفال من الإعاقة عبر اللقاحات والكشف على الجنين في رحم أمه وأكثر من ذلك قبل التلقيح، ماذا سيبقى من مفهوم الكارما البوذية والهندوسية…؟
الإعاقة رمزٌ للمقاومة والقدرة على التأقلم:
لقد كانت الأساطير والأديان في المجتمعات البشرية، بمثابة مرآة تعكس التجربة الإنسانية، حيث تكثّفت القيم الثقافية والمخاوف والآمال في قصص تناقلتها الأجيال البشرية عبر التاريخ. وفي هذه الأساطير، غالبًا ما تظهر شخصيات ذات إعاقة، حيث تكون اختلافاتهم الجسدية أو العقلية مصدر قوتهم، بدلًا من أن تمثّل ضعفهم أو مأساتهم. تجسّد هذه الشخصيات في كثير من الأحيان النضال والحكمة والقدرة على التأقلم. وفي العديد من الثقافات، تُرى الإعاقة من خلال عدسة التدخل الإلهي، سواء كعلامة على النعمة الإلهية أو كعقاب. يعدّ الإله الإغريقي هيفايستوس أحد أشهر الشخصيات المعاقة في الأساطير. لقد ولد هيفايستوس بعيب جسدي، وتم طرده من جبل الأوليمبوس من قبل والدته هيرا. وعلى الرغم من ذلك، أصبح هيفايستوس إله النار والحدادة، حيث صنع أسلحة ودروعًا للآلهة، بما في ذلك الدرع الشهير لأخيل. لم تكن إعاقة هيفايستوس مصدر ضعف، بل مصدرًا لعبقريته عبر الاختراعات العجيبة التي أبدعها، حيث يعدّ أول من اخترع آليٍ (روبوت) لمساعدته في أعماله.
تُعد شخصية الكاهن تيريسياس في الأساطير الإغريقية القديمة مثالًا بارزًا، فلقد أُصيب بالعمى، إمّا كعقاب أو كهدية إلهية، بحسب روايات مختلفة، لكنّه مُنح القدرة على التنبؤ بالمستقبل. أصبح عماه رمزًا للبصيرة الداخلية والحكمة التي تتجاوز العالم المادي. يتردّد هذا الموضوع في الأساطير النوردية مع الإله أودين، الذي ضحى بعينه مقابل الحكمة، ممّا يوحي بأنّ البصيرة الحقيقية غالبًا ما تأتي بتكلفة شخصية كبيرة.
تُصور الشخصيات المعاقة في بعض الأساطير، على أنّها متوحّشة أو غير طبيعية، وتعبّر عن مخاوف المجتمع وقلقه. يُعد العملاق بوليفيموس؛ ذو العين الواحدة في الأوديسة لهوميروس الذي كان أعمى أيضًا، مثالًا رئيسيًا عن الاختلاف الجسدي والأخلاقي والاجتماعي عن الكائنات البشرية، لكن تواجده في الأوديسة هو تحدّ لأوديسيوس لينظر في إنسانية ما هو متوحّش. وبالمثل، في الأساطير اليابانية، تُعد (تينغو) مخلوقات تشبه الطيور بوجوه أو أطراف مشوّهة ومخيفة، وغالبًا ما تُصور كأرواح شريرة. لكن مع مرور الوقت، تم النظر إليها كحماة للجبال ومعلّمة لفنون الدفاع عن النفس، ممّا يُظهر كيف يمكن أن تتطوّر التصوّرات حول الإعاقة والاختلاف من الخوف إلى الاحترام.
في بعض الأساطير الأمريكية الأصلية، تخضع الشخصيات ذات الاختلافات الجسدية لتحوّلات تؤدي عبرها أدوارًا مهمّة في مجتمعاتها. فعلى سبيل المثال، في قصة (الصبي الحجري) من أساطير قبيلة (لاكوتا سو)، حدث أن وُلد صبي من حجر، وله جسم صلب كالحجر، لكنّه يصبح بطلًا من خلال قدراته الفريدة، مستخدمًا اختلافه لصالح مجتمعه.
إنّ الشخصيات المعاقة في الأساطير والأديان، ليست مجرد رموز للضعف الجسدي أو الفشل الأخلاقي، إنّها شخصيات ذوات جوانب عديدة، تجسّد غالبًا صمود الروح الإنسانية والسعي وراء الحكمة وإمكانية التغيّر، كالنبي أيوب على سبيل المثال. هذه الشخصيات المعاقة، أسواء تم تبجيلها كمبصرين حكماء، أو خوفًا منها ككائنات متوحشة، أو تم الاحتفاء بها كأبطال، فإنّها تتحدّانا لإعادة النظر في تصوراتنا حول الإعاقة، عبر تسليط الضوء على الطرق الخفيّة التي يمكن أن يتشكّل بها الاختلاف بين البشر. لقد رأينا في هذا المقال كيف عكست الأساطير والأديان رؤى المجتمع حول الإعاقة، والتي من خلالها نستطيع أن نقرأ واقع الإعاقة حاليًا في زمننا، ما بين القبول والرفض وما بين المدح والذّم.
باسم سليمان
كاتب سوري

August 17, 2024
كرسي يخصّ المرء وحده – ضفة ثالثة – باسم سليمان
هذا العنوان استعارة من الكاتبة الإنكليزية فرجينيا وولف (1882-1941) في مقالتها المطوّلة بعنوان: (غرفة تخصّ المرء وحده) وفيها أطلقت جملتها النسوية الشهيرة: “إنّ النساء لكي يكتبن بحاجة إلى دخل ماديّ خاص بهن، وإلى غرفة مستقلّة ينعزلن فيها للكتابة”. لم تكتف فرجينيا بالغرفة كرمز للحرية والعزلة، بل ذكرت الكرسي مرارًا في كتاباتها، فهي ترى فيه البيئة المفضّلة للكتابة والقراءة، ولا يجوز أن يٌقاطع من الغير من هو غارق في كرسيه، وكأنّها كانت ستقول: كرسي يخصّ المرء وحده! لقد ظهرت وولف في العديد من الصور واللوحات وهي تنبت من كرسيها كشجرة، حتى أنّها تعدّ الرجوع إليه دليل شفاء من مرضها: ” لكنّني عدت مرّة أخرى، بعد شهرين، في هذا اليوم بالذات، أجلس على كرسيي بعد تناول الشاي، وأكتب”. هذا الامتياز الذي منحته وولف للكرسي، لأنّه كان يفتح لها أبواب تيار الوعي. وكأنّ كرسيها سرير مارسيل بروست في غرفته المعزولة عن الأصوات بالفلين، مسترجعًا الماضي عبر الرائحة والأحلام.
هناك حكمة رومانية تقول، بأنّ المشاكل تحلّ بالمشي، وقد عبّر عنها الفيلسوف الأمريكي إمرسون بقوله، بأنّ المشي عبر الغابات والجبال يمكّنه من الإنسلاخ عن جلده الذي شكّلته الثقافة، كما تنسلخ الأفعى من جلدها القديم، حيث يعود طفلًا أو لا شيء، ليرى كل شيء. لقد كان المشي عاضدًا للفكر البشري عبر التاريخ، حتى أنّ الفلسفة الرواقية لها تعالق لا ينفك مع المشي، فكلمة (الرواق/ (Peripatos و كلمة (التحدّث أثناء المشي/ Peripatein) من أرومة واحدة؛ فما الذي حدث حتى يصوّر النحّات الفرنسي رودان الإنسان المفكر جالسًا على مقعد يسند رأسه بيده غارقًا بأفكاره.
على الرغم من أنّ الكراسي متواجدة منذ التاريخ القديم للإنسان، حيث أبانت عن تواجدها اللقى الأثرية في بابل وبلاد الفراعنة والهند والإغريق وروما، بالإضافة إلى أنّ الاستعارة الدينية ذكرتها، فقد ذكر الكتاب المقدس، بأنّ “السماء كرسي الله”، وأن الرسل سيجلسون مع السيد المسيح على اثني عشر كرسيًا إلى جانبه وهو جالس على كرسي مجده، وفي القرآن الكريم جاء: “وسع كرسيه السماوات والأرض” لكنّ الكراسي ظلّت رمزًا، كما في قصة عرش بلقيس والملك سليمان، واقتصر ذكرها على دلالتها الدينية والسياسية، لا الاستعمالية، فهوميرس لم يذكرها، ولا شكسبير، إلّا في إشارة إلى كيفية إخراج مسرحية الملك لير، وذلك بأن يدخل الملك محمولًا على كرسي، لكن فجأة مع تشارلز ديكنز في روايته (البيت الكئيب) ذكر الكراسي 187 مرّة، وبدأنا نراها في اللوحات الفنية كموضوع مستقلٍّ للفن وللاستعمال سواء بسواء. يُرجع المؤرّخون ظهور الكرسي في حياة الناس بهذه الكثرة إلى تأثير الثورة الفرنسية والإصلاح الكبير الذي حدث في إنكلترا عام 1832، حيث أصبح للكرسي طابعًا ديمقراطيًا مع احتفاظه برمزيته السابقة الدينية والسياسية والعلمية، فأعلى مرتبة في التحصيل العلمي يتحصّل عليها الدارس كرسي دائم في مؤسسة علمية وتعليمية كبرى، لكن تدريجيًا بدأت قيمته الاستعمالية للجلوس بالظهور بقوة بعيدًا عن رمزيته، نتيجة التطوّر التقنّي الذي أدّى إلى ظهور الوظائف المكتبية وما رافقها من كميات كبيرة من الكراسي، ممّا جعل استخدام الكرسي شخصيًا، وأصبحت ميزته الاستعمالية كمكان لممارسة العمل والتحدّث والتأمّل والاستراحة طاغية على رمزياته السابقة. ومن هذا المنطلق غدا الكرسي معطى جديدًا لزمننا، فأصبح من ثوابت أثاث البيوت والساحات وأماكن التعليم والسينما والمسارح والمقاهي والمستشفيات حتى في المقابر وفي كل مكان. وبناء على ذلك نستطيع أن نفهم لماذا نحت رودان الإنسان مفكرًا جالسًا على كرسي، وذكر ديكنز في روايته الكرسي كثيرًا، وكان قبل ذلك قد أورده الفيلسوف دنيس ديدرو(1713-1784) في موسوعته المعرفية، لأنّ الكرسي أصبح ميزة عصرنا الحديث. مهما أصبح الكرسي شأنًا عاديًا في حياتنا، إلّا أنّه يضمر الكثير من المعاني في لامبالاتنا نحوه واعتبارنا له مجرد أداة نستخدمها وننساها.
كراسي النسيان والشهوة والامتحان والشجاعة:
كثيرًا ما يتم التندّر على طالبي السلطة، فما إن يجلسوا على الكراسي حتى ينسوا الشعب الذي أوصلهم لسدّة الحكم/ الكرسي. على الرغم من أن هذا هو واقع الحال من نسيان أصحاب السلطة لواجباتهم تجاه رعاياهم، إلّا أنّ هناك أسطورة أغريقية تحدثنا كيف نسي البطلان (ثيسيوس وبيريثوس) ما هبطا لأجله في مملكة هاديس/ إله الجحيم في الأسطورة الإغريقية. لقد ماتت كل من زوجتي ثيسيوس وبيريثوس، فاختار الأول أن يخطف الجميلة هيلين لتصبح زوجته، لكن بسبب صغرها أودعها عند أمه إلى أن تكبر هذه الهيلين التي ستسبب فيما بعد بحرب طروادة، بعد أن يخطفها الأمير الطروادي باريس. أمّا بيريثوس فقد وضع عينه على زوجة هاديس بيرسفوني، وهكذا شقّ البطلان طريقهما نحو العالم السفلي، وما إن وصلا حتى استقبلهما هاديس بالترحاب مخادعًا حتى يتجنّب بطش البطلين، وأجلسهما على كرسيين. لقد كان الكرسيان يسبّبان النسيان، فلم يعد كل من البطلين يعرف لماذا جاء. تصوّر إحدى اللقى الأثرية ثيسيوس يحدّق بسيفه وسيف صديقه ولا يفهم الجدوى من هكذا سلاحين، فقد أنساهما كرسي النسيان لماذا جاءا؛ لاريب أن كراسي الحكّام في زمننا تعود بجذورها إلى كراسي النسيان في جحيم هاديس. تمرّ الأيام ويأتي هرقل، فينقذ ثيسيوس، لكن عند محاولته تخليص بيريثوس من كرسي النسيان، تهتز الأرض بعنف شديد، فالإله هاديس لن يتسامح أبدًا بتلطيخ شرفه والصمت على من تجرأ واشتهى زوجته. قلنا أنّ الكراسي تسبّب النسيان، لأن شهوة الجلوس عليها تفوق أي شهوة أخرى، فلو عرف البطلان الإغريقيان ذلك لرفضا دعوة هاديس. تحكي لنا الأسطورة الإغريقية، بأنّ إله الحدادة هيفاستيوس كان معوقًا، أحنف القدم، ويقال، بأنّ سبب تشوّه رجله يعود لأنّ أباه زيوس رماه بصاعقة، بعدما دافع عن أمه هيرا في إحدى نوبات غيرتها من مغامرات زوجها زيوس العاطفية. ويقال بأنّ هيفاستيوس ولد من محاولة من الإلهة هيرا أن تلد من دون تلقيح زيوس مقلّدة إياه عندما أنجب إلهة العقل والحكمة أثينا من رأسه، فكان أن أنجبت هيفاستيوس ذا الرجل المشوّهة. وفي كلتا الحالتين طرد هيفاستيوس من البانثيون السماوي الإغريقي لأنّه إله غير كامل. لقد كان هيفاستيوس مخترعًا عظيمًا أبدع لزيوس صاعقته، ولأثينا درعها، ولإله البحر رمحه، حتى أنّه أول من اخترع الروبوتات لمساعدته في ورشة الحدادة. وعلى الرغم من ذلك ظلّ مرفوضًا من أبويه وأخوته الآلهة، فما كان منه إلّا أن قدم لهم هدايا من بينها كرسي كالعرش لأمّه العاقة، فهو يعرف توقها لأن تكون بموازاة زيوس وأن تجلس على عرش، وما إن جلست عليه حتى لم تعد تستطع النهوض عنه، وفشلت الآلهة بمساعدتها، لكن هيفاستيوس عرض مساعدتها على شرط أن يعود إلى البانثيون، وكان له ذلك وخصّ نفسه بذلك الكرسي. وبناءً على ذلك نستطيع أن نعد خدعة هيفاستيوس من أولى المناورات السياسية لتقاسم كعكة السلطة.
قد يكون كرسي البابا في روما أعظم كرسي في العالم الغربي، لكن هنالك قصة تنوس ما بين الخيال والواقعية أرعبت الكنيسة، فأخضعت البابوات لاختبار الجلوس على كرسي مقعده مثقوب، ومن ثم يأتي أحد المساعدين ويدس يده أسفل المقعد ويتحسّس ذكورية البابا. يعود حذر الكنيسة إلى واقعة جرت في ماضيها وذلك بأنّ أحد البابوات ويدعى جوان؛ قد كان أنثى متنكِّرة بالذكورة، استطاعت أن تتحايل على المنظومة الكنسية وحازت علومًا كثيرة وأصبحت علمًا في العصور والوسطى حتى أنّها جلست على كرسي البابا لمدة سنتين، لكن في عيد القديس بطرس ولدت طفلًا من علاقة أقامتها مع أحد الرهبان وإثر ذلك فضحت خدعتها، بالطبع القصة أقرب للخيال. تحمل هذه الحكاية التي ذاع صيتها في القرن السادس عشر سؤالًا مضمرًا عن أحقية الأنثى في أن تتسنّم منصب البابوية مادامت قادرة على حيازة العلوم المناسبة، لاريب أنّ قصة حمل البابا جوان شطح يوازي جنون التأكّد من ذكورية البابا. ظهرت في أمريكا حديثًا خرافة عن كرسي الشيطان، الذي لم يكن إلّا مقعدًا من الحديد أو الأسمنت أنشأه من يودّون أن يجلسوا قرب أمواتهم في المقابر ويحزنون عليهم، لكن الشباب المغامر بدؤوا بتحدي بعضهم البعض بالجلوس عليه ليلًا وشرب الجعة، من دون أن يسمحوا للشيطان أن يستحوذ عليهم، وكل ما يلزم هو أن يكون الشاب شجاعًا كفاية. إنّ هذه القصة صدى للمقولة التي تفيد بأنّ أمريكا أرض الحلم، وما عليك إلّا أن تكون مغامرًا شجاعًا حتى تحقّق أحلامك فيها. ليس غريبًا أن تكون الكراسي مدار حكايا غريبة، فعبر جلوسنا عليها أبدعنا أكثر الخيالات إقدامًا ومغامرة وجنوحًا.
الكرسي إنسان:
لم يكن إدغار آلان بو رائدًا في فنّ القصة والأدب البوليسي فقط، بل كان له رؤية في فلسفة الأثاث، إذ نشر مقالة في عام 1840عبّر فيها عن فلسفته الخاصة في تجهيز البيوت. وقد حدّد في مقالته، كيف يجب أن تكون غرفة القراءة والكتابة، بدءًا من مساحة الغرفة إلى ورق الجدران، والباب الوحيد الضيق الذي يفضي إليها، مع نافذتين كبيرتين وأريكة وطاولة مثمنة الأضلاع وكرسيين للمحادثة متقابلين، فهو يرى تأثيث البيت مثله مثل أي عمل فنّي آخر، يجب أن تتآلف عناصره كما في لوحة فنية. كان بو في مقالته ينظّر لديكور لا يثقل على ساكن البيت ويجب أن يحدث نوعًا من التناغم، بينه وبين شاغله، فالبيت كالجسد والساكن كالروح، لذلك انتقد البيوت الأمريكية وأنّها تؤثّث استنادًا إلى أرستقراطية الدولارات، ومدح البيوت الإنكليزية كونها تؤثّث إلى العراقة والنبالة. من هذه الرؤية الإدغارية – نسبة إلى إدغار- سنقارب بعض الأعمال الفنية لرسامين مشهورين تناولوا الكرسي في لوحاتهم.
تعدّ لوحة الفنّان دييغو فيلاسكيز (1559- 1660) رسّام البلاط الإسباني من أوائل اللوحات التي جعلت من الكرسي/ العرش رمزًا مهمًا في عناصرها، فهو يصوّر الأمير فيليب الطفل الصغير ذا الصحة المعلولة والتي ترمز إليها التمائم المعلّقة على صدره، واقفًا بجانب الكرسي وهو يضع يده على مسند العرش الصغير بينما يستلقي كلب صغير على العرش. لقد ولد أميرًا ووضع يده على العرش لكنّ القدر لم يمهله ليجلس عليه. ما أراد الرسام قوله بأنّك قد تولد وملعقة الذهب في فمك، لكنّك قد لا تأكل بها.
في لوحة أخرى للرسام الانطباعي إدغار ديغا يعرض في لوحة له كرسيًا أزرق من الخلف، فهو لا يستكشف فراغ الكرسي من الجالس عليه، وإنّما يذهب إلى أن كرسيًا فارغًا وقد أدار مسنده للرائي يحمل سرًا لا يمكن استكشافه، وما فراغه إلّا خدعة ينجزها شكل الكرسي، فهل الشكل وحده قادر على إعطاء المعنى؟ هكذا ترك إدغار المشاهد لظنونه وتأويلاته.
لعل أشهر اللوحات التي صوّرت الكراسي تعود إلى فان غوغ، وقد رسمها إبّان سكنه مع الرسام غوغان في البيت الأصفر عام 1888. رسم غوغ كرسيًا أصفر فارغًا إلّا من غليون قد ترك على مقعده. تعتبر هذه اللوحة دالة على بدء تدهور صحة غوغ العقلية، فهو يضع الغليون الذي نصحه غوغان بتدخينه ليخرج من كآبته على مقعد الكرسي مهملًا نصيحة صديقه ومحاولة الخروج من الكآبة. لقد رسم اللوحة مستلهمًا موت الكاتب تشارلز ديكنز فقد نعت الصحافة غيابه بتصوير كرسي الكاتب فارغًا، وها هو كرسي الرسّام فارغ أيضًا.
تتالت اللوحات التي تجد في الكرسي موضوعًا لها، فقد رسم ماتيس كرسيًا وعلى مقعده صحن من الخوخ رافضًا فكرة أنّ الأشياء لا تتجاوز موضوع استخدامها. كذلك ذهب بيكاسو في نحته لكرسي بشكل تكعيبي، للقول بأنّ الأدوات تتجاوز استخدامها والجمال استعمال آخر لها. مازال كرسي بيكاسو صالحًا للجلوس غير المريح، لكنّه يملك بعدًا جماليًا ملهمًا وممتعًا عند النظر. يندفع الفنان آندي وارهول أبعد في قراءة الكرسي، قطعة الأثاث العادية جدًا في أي بيت، لكن لماذا استخدم كوسيلة للإعدام؟ يعرض وارهول في مطبوعته الكرسي الكهربائي حيث ينفذ حكم الإعدام. يقف وارهول ضد عقوبة الإعدام، لكن في الوقت نفسه يستحضر تاريخ العروش، فكم أصدر الملوك من أوامر قتل وهم جالسون! وكم مات من ملوك وأناس في السعي إلى الجلوس على كراسي العروش، وكأنّه يقول لنا: احذروا! ففي الأشياء العادية الكثير من العنف المضمر كل ما يلزمه مستصغر الشرر، حتى يتفجر، كسكين المطبخ على سبيل المثال. لو قدرنا عدد الكراسي لتجاوز عدد البشر بكثير، هناك طوفان من الأثاث المنزلي يكتسح الكوكب الذي كان أخضر، فهل حقًّا نحن بحاجة إلى هذا العدد من الكراسي. يقدم الفنّان الياباني تاداشي كواماتا في أعماله الفنية التجهيزية أفكارًا عن إعادة الاستخدام للأدوات التي نصنعها ومنها الكراسي، ففي أحد معارضه يصنع قبة كبيرة من الكراسي المتراكة فوق بعضها البعض، ومن جميع الأنواع، وفي الداخل يضع كراسيًا وأرائك للجلوس، وكأنّه يقول في إعادة الاستخدام إعادة للحميمية والصلة مع بيئتنا التي نجتثها بالاستخدام المفرط. في كتابه (جماليات المكان) يرى غاستون باشلار أنّ الصدى القوي للمنزل الذي نشأ فيه كل واحد منّا يكمن إلى حدّ كبير في وظيفته باعتباره “مكانًا للراحة ولأحلام اليقظة” وأكثر من ذلك، “في كثير من الأحيان يكون مكان الراحة تحديدًا”. يفترض باشلار أن ملجأنا الأصلي – البيت- وأثاثه لا يوفر الراحة فحسب، بل إنّه مسؤول عن حماية الأفراد أثناء تعلمهم استعراض قدراتهم الخيالية. لقد رأينا فيما استعرضناه أعلاه من كراس بأنّ تلك الحميمية التي تكلم عنها باشلار مفقودة فيها، من العرش الصغير للأمير فيليب إلى تجهيزات كواماتا، فنحن لم نعد نغرق في كراسينا كفرجينيا وولف.
كراسي الحقيقة والوهم:
صمّم غوته كرسيًا مسنده من الأمام، لا الخلف، كرقبة الحصان، كان يركبه ليكتب وذلك ليخفف العبء عن فقرات ظهره المتعبة. وعلى سيرة الحصان يقول الباحث والشاعر الفلسطيني زكريا محمد الذي وافته المنية السنة الماضية بأنّ بيت شعر المتنبي: (عَلى قَلَقٍ كَأَنَّ الريحَ تَحتي/ أُوَجِّهُها جَنوباً أَو شَمالا) والذي يستشهد المثقفون فيه كثيرًا دلالة على قلقلهم الوجودي بأن كلمة (قَلَق) يجب أن تقرأ (قَلِق) وقلِق بكسر اللام هو اسم حصان المتنبي الذي يوجهه كما يريد. وبناء على ذلك لربما استوحى غوته كرسيه من حصان المتنبي، وهو المطلع الجيد على الثقافة التراثية العربية، فكرسي غوته قَلِق.
عندما أراد المسرحي يوجين يونسكو التعبير عن الإحساس بعبثية الحياة بعد حرب عالمية ثانية، كتب مسرحية (الكراسي) والتي تقدّم عجوزين ينتظران ضيوفًا، سيكون الإمبراطور أحد المدعوين، لكن لا نرى أحدًا من الضيوف، بل كراس فارغة تتكاثر على خشبة المسرح ومونولوغات متبادلة بين العجوزين. لقد قال يونسكو عن مسرحيته، بأنّها مهزلة مأساوية، لأنّ الإنسان يبحث عن معنى لوجوده لكنّه لن يجده أبدًا. لقد استخدم يونسكو الكراسي لأنّها أصبحت أكثر الأدوات التي اخترعها الإنسان ترميزًا عنه! ألا تذكرنا مسرحية يونسكو بنعوة ديكنز وكرسي غوغ الأصفر، فكلاهما كان تعبيرًا عن الموت الذي يبتر أي معنى وجودي للإنسان، والكآبة الناتجة من الإحساس بعدم جدوى الوجود ذاته.
وأنا أكتب هذا المقال أجلس على كرسي وأفكر بفيلم (The Matrix لعام 1999) ماذا لو عرض عليّ (مورفيوس) الحبة الحمراء/ الحقيقة ونقيضها الحبة الزرقاء/ الجهل، فأي سأختار منهما؟ لقد تم تقديم هذا المشهد في الفيلم من خلال كرسيين يجلس على أحدهما (نيو/ كيانو ريفز) والثاني (مورفيوس/ لورانس فيشبون) وعلى نيو أن يختار بين الحقيقة والوهم. لقد اختار نيو الحقيقة، أمّا أنا الذي أعيش في هذا الشرق المليء بالكراسي وعبادة الكراسي والذي كتب عنه القاص الكويتي طالب الرفاعي مجموعته القصصية (الكراسي) سأحاول أن أنحت كلمة تمثل الحقيقة والوهم في كرسي واحد.
باسم سليمان
كاتب سوري
خاص ضفة ثالثة

August 12, 2024
تفاهة الشّرّ في منطقة الاهتمام -مقالي في الصباح العراقية عن فيلم: منطقة الاهتمام – باسم سليمان
لقد أعاد فيلم (The Zone of Interest/ منطقة الاهتمام لعام 2023) إخراج وسيناريو جوناثان غليزر للأذهان؛ أطروحة الفيلسوفة اليهودية حنة آرنت عن (تفاهة الشّر) بعدما حضرت عام 1961 محاكمة أدولف أيخمان أحد المسؤولين عن الهولوكوست بقولها، أنّه كان موظفًا عاديًا طامحًا للتقدّم في السلّم الوظيفي، ولم يكن منحرفًا ولا ساديًا، فليس لديه شرّ جذري يسبّب جرائمه، إلّا أنّها أكّدت على إجرامه. يقارب غيلزر مفهوم تفاهة الشّرّ عبر ضابط آخر يدعى أدولف هوس المسؤول عن معسكر أوشفيتز وهذه المرة من خارج إطار حيثيات أوشفيتز الداخلية، حيث يسرد الحياة الطبيعية لأدولف هوس (كريستيان فريدل) وزوجته هديويغ هوس (ساندرا هولر) وأولادهما، حيث يسكنان بيتًا جميلًا عملا بجد حتى حوّلاه إلى جنّتهما الخاصة. لكن هذا البيت الحلم لا يفصله عن المعسكر إلاّ حائط، مسيّج، لا يحجب أبدًا مداخن أفران حرق الجثث في خلفية المشاهد. يصوّر غيلزر حياة العائلة اليومية وطموح هوس تحقيق أكثر كفاءة ممكنة للمعسكر وأفرانه بحيث يكون قادرًا على هضم المعتقلين الجدد من اليهود وغيرهم من الشعوب. تمضي حياة العائلة بسلاسة لولا بعض المنغّصات ذات المعنى، حيث الابنة الصغرى لهوس تعاني من بعض الكوابيس، فيقرأ لها قبل النوم حكاية (هانسل وغريتل/ بيت الحلوى) وكيف استطاعت غريتل حرق الساحرة في الفرن وإنقاذ أخيها! ومنغصات أخرى كضرورة انتقال هوس إلى مكان آخر، بعيدًا عن بيته، من أجل مراقبة حسن سير المعسكرات النازية في أنحاء ألمانيا، بعدما أثبت جدارة كبيرة في أوشفيتز، فيما تصرّ زوجته على البقاء في البيت وعدم مرافقته، وأن تطلب منه أن يستخدم وساطاته من أجل إبقاء العائلة في البيت الجميل، فيتحقّق لها ذلك.
لا يقدّم غيلزر في فيلمه أي صور من داخل معسكر أوشفيتز، فقط بعض الأصوات كصراخ المعتقلين أو أوامر إطلاق النار والتي لن تنغّص حياة العائلة، فما يحدث خلف الجدار لا يعنيهم في شيء، مع أنّ الكوابيس التي تعاني منها الفتاة، ناتجة عن إدراك الفتاة الصغيرة لما يحدث في المعسكر، فكوابيسها تظهر كمشاهد حلمية لفتاة صغيرة تضع التفاح في طريق المعتقلين كطعام لهم. هذه الإشارات البسيطة الآتية من أوشفيتز لم تغيّر مسار الحياة الطبيعية للعائلة، فهوس يقوم بواجباته العائلية بمثالية، وزوجته تفعل نفس الشيء نحو العائلة، والأطفال يدرسون باجتهاد ويلعبون، فلو حذفنا أصوات تعذيب المعتقلين التي تتسلّل من المعسكر وبعض المشاهد عن طبيعة عمل هوس العسكري، لتحصّلنا على صورة عائلة طبيعية جدًا .
لقد عورضت أفكار آرنت حول تفاهة الشّرّ، من العديد من الفلاسفة والمفكرين، فلا يعقل أن يكون هذا القدر الهائل من الإجرام الذي قام به أيخمان ناتجًا عن جهل وعدم الإحساس بالآخر والسعي وراء تسنّم المناصب! فهل كانت آرنت عبر التنظير لتفاهة الشّرّ؛ أي سخافة أسبابه، تحاول أن تنقذ الإنسان من فكرة أنّ الشّرّ متجذّر فيه، مع أنّها في كتابها (أسس التوتاليتارية) اعتبرت أنّ شرّ النازية كان مطلقًا أي متجذرًا فيها! على نفس المنوال يقدّم غيلزر هوس، فهو أب رائع لا يضاهى، لكنّه في المقلب الآخر، مهندس الموت الأعظم في أوشفيتز، ولا يتورّع عن قضاء وطره مع فتاة يهودية! ما يريد غيلزر قوله، أنّنا نحيل دومًا الأعمال الشريرة إلى فساد جوهري في الإنسان، مع أنّ الشر كثيرًا ما يتلبّس عقائد دينية وأخلاقية وسياسية لها قبول مجتمعي واسع، لذلك كثيرًا ما تقابل هذه الجرائم بلا مبالاة وعدم الاكتراث، فمبرّراتها موجودة في عقائدنا الدينية والسياسية والأخلاقية… ينتهي الفيلم، بينما هوس ينظر إلى محيط عمله، فتنتقل الكاميرا إلى المستقبل إلى متحف أوشفيتز، الذي حوى ما تبقى من أشياء تخصّ الذين ماتوا في الأفران التي جهد هوس على أن تعمل بأكبر طاقة لها.
عرض الفيلم قبل أحدث غزّة، وعندما تسلّم غيلزر أحد الجوائز الكثيرة التي نالها الفيلم، تكلّم عن الصمت اللاأخلاقي والسياسي والمجتمعي تجاه ما يحدث في غزّة من إبادة من قبل الصهاينة بالقول: “ليس من أجل القول، أنظروا إلى ما فعلوه في ذلك الوقت، بل أنظروا إلى ما نفعله اليوم” ومقصده أنّ جيش الاحتلال لا يختلف عن النازيين بشيء. إنّ يهودية جوناثان غيلزر لم تمنعه من اتخاذ الموقف الصائب حتى أطلق عليه الصهاينة التهمة الجاهزة التي دائمًا ما يلصقونها بمن يعارضهم من بني جلدتهم بأنّه: “اليهودي الكاره نفسه”.
إنّ مفهوم (تفاهة الشّرّ) لدى آرنت يكمن في أنّه لا يحتاج إلى شرّ متأصل في النفس البشرية، بل كثيرًا ما يجد في العقائد والأخلاق والقناعات أرضه الخصبة، فهو يولد في اللحظة التي نتوقّف فيها عن السؤال الكانطي: هل ما أقوم به هو خير لكل الناس، أم لجزء منهم فقط؟ وهذا ما طرحه جوناثان غيلزر في فيلمه وكأنّه أبو يزيد البسطامي قائلًا: “إنّ في الطاعات من الآفات ما لا تحتاجون معه إلى أن تطلبوا المعاصي”.
باسم سليمان

August 7, 2024
الشرفةُ يدُ الحبّ ورايةُ الثورة – مقالي في ضفة ثالثة – باسم سليمان
لم يكن للشرفة/ البلكونة في التاريخ، ما يمثّلها من الآلهة، كالإله (جانوس) إله الأبواب. ولم تكن كالكوّة /النافذة في سفينة نوح التي أطلّ منها ليعرف إنْ كان الطوفان قد انتهى، مع أنّ لها ذكرًا قديمًا في التاريخ، إلّا أنّ الأساطير تجاوزتها والحكايات أهملتها، إلى أن أتى شكسبير بشرفة روميو وجولييت!
لقد أبان الشاعر محمود درويش عبر جملته: “أطلّ كشرفة بيتٍ على ما أريد” عن جوهر الشرفة في الزمن الحديث، بأنّها تجلٍّ للإرادة والحرّية والثقافة والمقاومة، من خلال تشكّلها في معمار البيوت، كجزء يجمع ما بين الخاص والعام، والحميم والمكشوف، فبقدر ما تَرى تُرى. تعدّ كلمة الشرفة تعريبًا للكلمة الإيطالية: (Balcone/ بلكونة) ذلك الجزء الصغير الممتد من جدران البيوت بشكل أفقي، وتتصل بها عبر نافذة أو باب، وعادة ما تكون في الطابق الثاني من البناء وما فوقه. وهي تُشاد عادة من الإسمنت أو الخشب أو الحجر أو الحديد، وتكون محاطة بدرابزين/ سور قصير من ذات مواد بنائها أو مختلف عنها هدفه حماية الواقف أو الجالس فيها من السقوط إلى الأسفل، ومنحه بعض الخصوصية، ما دامت الشرفة قد أزاحت عنها احترازات النافذة من ستائر وبلور عاكس، وعوائق الباب من مواربة أو إغلاق، لأنّها بقدر ما تكشف ما حولها تكون في الوقت نفسه مكشوفة للغير. وإذا كان لنا أن نشبّه الشرفة، فهي أقرب للسان الذي يتذوّق به ساكنُ البيت الخارج، أحيانًا يتلمظه بصمت، وأحيانًا أخرى بصوت عالٍ.
لا نستطيع القول، بأنّ الشرفات مثلما نعرفها اليوم، وكما نستخدمها حاليًا، كانت قد وجدت على نفس الشاكلة في الأزمنة القديمة، لكن هناك إشارات عن تواجد ما يشابهها في بلاد فارس والرافدين واليونان وروما، حيث استخدمت في روما لإدارة الضوء والهواء الداخل إلى البيوت. على سبيل المثال، تذكر لنا التوراة بأنّ الملك داوود أطل من سطح قصره ورأى زوجة جنديه (أوريا الحثّي)، فأعجب بها، فأمر أن يرسل أوريا لمقدمة الجيش، فمات في القتال، وأصبحت (بتشبع) زوجة أوريا من ضمن زوجات الملك داوود. يُومئ لنا هذا النص، عن أن أسطحة البيوت كانت تعتمد كشرفات، وتنجز ما هو مطلوب من الشرفة في زمننا الحالي، كعشّ الغراب في السفينة، حيث يستطلع البحّارُ من أعلى الصارية الآفاق. لا ريب أنّ الإنسان اكتشف جماليات الإشراف من منطقة عالية، وهو في بيته أو قصره، لكنّ خصوصية الشرفة، بأنّها تسمح للآخر أن يطلع على المتواجدين فيها، إلى جانب أنّها خاصرة رخوة في الدفاع عن البيت حدّ كثيرًا من جعلها جزءًا منه قديمًا. يذكر الرحّالة إنكليزي (توم كوريات) الذي زار العديد من البلدان الأوروبية، ومنها إيطاليا عام 1608، حيث شاهد في البندقية/ فينيسيا الشرفات، ورأى أنّها تكاد تنعدم في البيوت في البلاد الأخرى، مثلما هي في المدن الإيطالية، حيث وصفها، بأنّها أقرب إلى (تراس) صغير لطيف مسوّر بأعمدة حجرية تسمح بالإنحناء والاستناد عليها، وتوفّر القدرة على مشاهدة الشوارع أسفلها، بالإضافة إلى المدينة، وعادة ما توجد فوق منتصف واجهة المبنى كامتداد للنافذة. لقد عدّ القرّاء الإنكليز بعد قراءة ما كتبه كوريات، بأنّ بيوت فينيسيا، مكشوفة للغير، وبأنّ هناك شيئًا فضائحيًا في تلك الشرفات، فهي وإن كانت تسمح بإطلالة جميلة، إلّا أنّها تجعل المتواجدين فيها معروضين لأنظار الآخرين. وقد أعاد هذا الرأي أحد المهندسين الإنكليز في القرن السابع عشر ويُدعى هنري ووتون في أطروحته (عناصر العمارة – عام 1624) بقوله بأنّ مساكن الإيطاليين، لا تؤمّن الخصوصية لسكّانها بسبب الشرفات. لم يكن حكمه غريبًا كإنكليزي، فوفق قاموس أوكسفورد، فإنّ أول استخدام لكلمة (balcone) في إنكلترا لم يحدث إلّا عام 1618 بعد عامين من موت شكسبير، فالشرفات لم تكن معروفة أبدًا في إنكلترا في ذلك الزمن!
لكن لنتوقّف للحظة، ألم تكن الشرفة في مسرحية شكسبير (روميو وجولييت) من أهم ثيماتها، بحيث استعير مشهد مونولوغ جولييت مع نفسها وحديثها مع روميو، هي في الأعلى، في الشرفة، وهو في الأسفل، في الحديقة، آلاف المرات في كل الفنون والآداب، وحتى في الحياة الواقعية، حيث تمثّلها العشاق حتى القطرة الأخيرة من شهد المجاز، فمن أين أخذت موقعها المبهر في المسرحية، مع أنّ شكسبير ذكر نافذة جولييت وليس شرفتها، التي لم تكن معروفة في زمن كتابة المسرحية في إنكلترا!
لقد عُرضت مسرحية روميو وجولييت في السنة الأخيرة من القرن السادس عشر في لندن، ولم يكن فيها من شرفة أبدًا، بل نافذة، حيث وقفت جولييت، بينما كان روميو في الحديقة. تدور أحدث المسرحية في مدينة فيرونا الإيطالية مع أنّ شكسبير لم يزر إيطاليا أبدًا، حيث تنتشر الشرفات التي ذكرها كوريات في كتابه الذي صدر عام 1611 وأثار دهشة الإنكليز من الشرفات. لم تلق مسرحية شكسبير الرواج المطلوب، حتى أنّها نسيت، وقد تزامن ذلك مع الصراع على العرش في إنكلترا، فأغلقت المسارح جرّاء ذلك، لكن بعد استعادة الملك تشارلز الثاني العرش عام 1660 أعيد افتتاح المسارح وعرضت مسرحيات شكسبير، لكن كان هناك مسرحية أخرى بعنوان: (تاريخ سقوط كايوس ماريوس لعام 1679) للكاتب (توماس أوتواي) والتي تدور أحداثها في الزمن الروماني استنادًا إلى تاريخ بلوتارخ، قد احتلت الساحة الفنية وقتها. لقد سطا هذا الكاتب على مسرحية شكسبير، وخاصة العلاقة العاطفية بين روميو وجولييت، وجعلها بين الشابة (لافيتا) وماريوس، حتى أنّه انتحل الجملة الأشهر لجولييت: “روميو، روميو! لماذا أنت روميو؟” وأعطاها للافيتا التي تقول: “ماريوس، ماريوس! لماذا أنت ماريوس؟” لقد قرأ أوتواي كوريات وانتبه بأنّ العمارة الإيطالية تمتاز بالشرفات، ووجد أنّ الشرفة تحقّق المطلوب أكثر من النافذة، وخاصة بأنّها تسهّل اللقاء بين العاشقين. لم تعرض مسرحيات شكسبير في السنوات الأولى من القرن الثامن عشر، وكأنّها لم تكن، واشتهرت مسرحية أوتواي في ذلك الزمن، الذي لا يكاد يعرفه، إلّا الاختصاصيين بالمسرح والتاريخ في زمننا الحالي، إلى أن جاء الممثّل ومدير المسرح في لندن (ديفيد جاريك) في القرن الثامن عشر وأعاد إحياء مسرحيات شكسبير ومنها روميو وجولييت، فاحتفظ من مسرحية أوتواي بمشهد الشرفة، بدلًا من النافذة. ومن ذلك التاريخ وشرفة روميو وجولييت تنتشر في الآداب وفي الواقع، حيث أصبحت الشرفات من مميزات البيوت. وعندما عُهد للمهندس الفرنسي جورج هوسمان بإعادة تشكيل باريس معماريًا، هدم الكثير من الأبنية العتيقة، وبنى باريس كما تُعرف اليوم مع الكثير من الشرفات.
كانت الأنثى في أوروبا القرون الوسطى تخضع لرقابة صارمة منذ عمر الثانية عشرة، فلا يبق لها إلّا أن تجلس خلف النافذة التي تؤمّن لها إضاءة جيدة لحياكتها، وتنتظر عريسًا يحقّق لوالدها طموحاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لم يكن هذا الواقع غائبًا عن شكسبير الذي نسج قصة مسرحيته في القرن الثالث عشر في إيطاليا، قبل زمن طويل من نهضة المدن الإيطالية، مستخدمًا النافذة كحدٍ فاصل بين الداخل والخارج بين القمع والحرية، وفي الوقت نفسه تسمح بكسر أفق توقّع الحائط المصمت الذي تتوسّطه. لقد خرجت جولييت ابنة عائلة (كابوليت) من قوقعتها، فقد غيّرها الحبّ، لتطل من النافذة وتناجي أقدارها التي أوقعتها في عشق روميو ابن عائلة (مونتاغو) التي تناصب عائلتها العداء بخطاب يخرج عن المعارف القديمة، حيث الشيء أو الكلمة له معنى محدّد لا يخرج عنه مقدّر له منذ الأزل، فيما النظرية الاسمية التي انطلقت مع فرانسيس بيكون، والتي ترى بالكلمات مجرد كلمات نستخدمها للدلالة على شيء ما، لكن لا تحدّد طبيعته. لقد دفع العشق جولييت للثورة على المفاهيم القديمة بدءًا بالتساؤل، لماذا روميو هو روميو، ولا يكون له اسم آخر؟ هو روميو، ولكنّه لا يمثّل عائلة مونتاغو وإن كان ابنها! فهذه مجرد أسماء لا تدلّ على جوهره الحقيقي، لتقول في نهاية مونولوغها، إذا بدلنا اسم الوردة باسم آخر، هل ستتوقّف عن نشر العطر؟: “الوردة، بأي اسم آخر، ستكون رائحتها حلوة” وكأنّنا مع مقولة الشاعر جوزيف حرب: “أسامينا، شو تعبوا أهالينا/تَ لاقوها، وشو افْتَكَروا فِينا/الأسامي كلام .. شو خَصّ الكلام/عينينا هِنِّي أسامينا”. بالطبع ستظل الوردة تنشر عبيرها حتى لو أسميناها: (صخرة). إذن تدعو جولييت روميو ونفسها للتمرّد على العداء المتأصّل بين عائلتيهما، وإسقاط الأسماء والمعاني المرتبطة بهما، والانطلاق إلى وجود جديد يختاران فيه أقدارهما/ أسماءهما بموجب الحبّ، وهنا يجيبها روميو بإحالة قديمة إلى الإيمان الذي حوّل (شاول) عدو المسيح إلى (بولس) تلميذ المسيح النجيب، بالقول: “سأتصل بك بالحبّ، وسأكون معمدًا جديدًا، فمن الآن وصاعدًا لن أكون روميو”.
استطاع شكسبير عبر مسرحياته، أن يعضد ثورة العلم في بدايات عصر النهضة، وفتح نافذة في حائط المعتقدات القديمة. وعندما أعاد ديفيد جاريك إحياء المسرحية استبقى من مسرحية توماس أوتواي ثيمة الشرفة، فالزمن تغيّر والثورة الكوبرنيكية جبّت عالم بطليموس القديم، فلم تعد النافذة مناسبة لهذه الثورة التي قادتها جولييت، بل الشرفة التي تسلّق إليها روميو وعانق جولييت فيها.
عندما كتب المسرحي الفرنسي (بيير أوجستن كارون دي بومارشيه -1732-1799) ثلاثية الحلاق (فيغارو) كانت الأولى بعنوان (حلاق إشبيلية) والتي تدور عن الشابة (روزينا) التي يريد العجوز المسؤول عنها الزواج منها، لكن الكونت الشاب (ألمافيفا) يقع في حبها، وينقذها منه بعد أن ينظم حفلة موسيقية تحت شرفتها ويساعده الحلاق فيغارو بذلك. أصبحت شرفة روزينا في إشبيلية مزارًا للسياح، كما شرفة جولييت في فارينا، فالخيال أقوى من الواقع.
الشرفة فنّ الممكن، وليس السياسة فقط:
نستعير من السياسة تعريفها ونلصقه بالشرفة، لأنّ الشرفة في علاقتها مع الأسفل تجسيد لميكانزيمات السلطة السياسية والاجتماعية والدينية، فهي تمنح المتواجد فيها سلطة الإشراف على ما حوله، وفي الوقت نفسه تفصله وتؤكّد علوه عن محيطه، وحتى انسحابه ممّا يحدث في الأسفل. في اللغة الإسبانية هناك فعل (balconear) ويعني: (المراقبة عن كثب من الشرفة، دون المشاركة فيما يحدث) فكثيرًا ما نكون مراقبين لِما يحدث، لكنّنا منسحبين من ردّة الفعل. ومن هذا المنطلق لم تكتف جولييت بالمراقبة، بل دفعت حياتها ثمنًا من أجل أن تكون ذاتها. هذه الميزة للشرفة استخدمها القادة السياسيون، ففي الحرب العالمية الثانية، أعلن هتلر ضم النمسا لألمانيا من على شرفته، وبهذا الإعلان انطلقت أكبر حرب عرفها البشر. وبعد انتهاء الحرب وانتصار الحلفاء ظهر تشرتشل في شرفة تطل على ساحة (Whitehall) وأعلن انتهاء الحرب؛ هي الحرب سجال، شرفة بشرفة. استغل موسوليني العلاقة الوطيدة للإيطاليين بالشرفة، فمن خلالها كان يخرج إليهم بخطاباته الكارزمية، لكن في الوقت نفسه مؤكدًا علو السلطة عن من تخاطبهم، فردّ الثوّار الإيطاليين بأن جعلوا شرفات البيوت أماكن رصد ومقاومة لتحركات جنود موسوليني. في حرب التحرير الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي منعت السلطات الفرنسية التجمعات في الشوارع، فما كان من الجزائريين إلّا الخروج إلى الشرفات والهتاف للثورة والتحرير، وقد فعل الفرنسيون ذات الشيء في الحركة الطلابية التي اندلعت في فرنسا عام 1986 بأن خرجوا إلى الشرفات للتعبير عن احتجاجهم. وكان للشرفات في الربيع العربي دورًا في توثيق الحراك عن طريق الكاميرات والموبايلات وحتى الهتاف والقرع على الطناجر والقدور تعبيرًا عن احتجاجهم.
تستعار دومًا مكانة الشرفة في البيوت أو القصور أو المعابد وحتى المباني السياسية لتمييز الخطاب الصادر منها عن غيره من الخطابات، ففي كنسية القديس بطرس في روما يطل البطريرك الجديد من الشرفة محييًا المؤمنين ومجددًا عهد الكنيسة. كما يفعل المؤذن وهو يطل من شرفة المأذنة، معلنًا عن الصلاة بصوته الصداح. وعندما أراد نيلسون مانديلا أن يعبر عن انتهاء زمن العنصرية، أطل من شرفة في مدينة كيب تاون واعدًا بفصل جديد من تاريخ جنوب أفريقيا.
لا يخلو بلد من شرفات لها دلالتها، لكن هناك شرفات تُنسى كشرفات الحكّام العرب وشرفات تبقى في الذاكرة، كالشرفة في فيلم (إيفيتا – إيفا بيرون زوجة رئيس الإرجنتين) والتي غنّت منها مادونا: “لا تبكي من أجلي يا أرجنتين”.
شرفات، شرفات:
تشبه الشرفة الفضيلة بين إفراط العام وتفريط الخاص، فبيوت شرفاتها مليئة بأناسها، تعني أن الآخر هو جار وصديق. وبيوت شرفاتها مغلقة خلف الستائر والزجاج المانع للرؤية، هي بيوت لا تثق بالآخر. رسم (غويا) لوحة لمومستين تُعرضان من خلال شرفة وخلفهما قوادين متشحين بالسواد. بينما رسم (مونيه) لوحة (الشرفة) تظهر فيها سيدتان تتطلعان بثقة نحو المدينة وخلفهما صديقين. مهما تكن التفاسير، فبين لوحة غويا التي رسمت بين عامي (1808و1814) ومونيه التي رسمت عام (1868) تغيّرت النظرة إلى الشرفات، وكما رأينا أعلاه، كيف كان تقييم الإنكليز للشرفات في إيطاليا، بأنّ فيها شيئًا من الفضائحية، لكن الزمن يتطوّر والحكم الأخلاقي يغادر تزمّته، كان الفرق بين اللوحتين تعبيرًا عن مقياس حضاري. أصبحت الشرفات في زمننا الحالي ثيمة دائمة في الأبنية، فبيت من دون شرفة كثيرًا ما يقال عنه كالسجن، فعندما انتشرت جائحة كورونا، وطُبق حظر التجول الوبائي أصبحت الشرفات رئة البيوت، فمن خلالها نظر الناس إلى حياتهم، التي كانت تملأ الشوارع والساحات.
تناسلت الشرفات في كل بناء أشاده الإنسان وتكاثرت ثيمتها في الآداب والفنون وفي صورة لبعثة أبولو التي هبطت على القمر عم 1969 التقطت صورة للأرض من شرفة القمر.
باسم سليمان
كاتب من سورية
خاص ضفة ثالثة

باسم سليمان's Blog
- باسم سليمان's profile
- 24 followers
