قديسو التشاؤم؛ هل حقًا كانوا متشائمين؟

مقالي في الميادين -باسم سليمان

يقول إميل سيوران: “لا يشغل المرء نفسه بالقديسين، إلّا لأنّ مفارقات الحياة في هذه الدنيا قد أصابته بالإحباط، لكن كلّ ما في العالم يصيب بالإحباط، حتى حياة القديسين”. يأتي اقتباس الفيلسوف والشاعر يوجين ثاكر أستاذ الدراسات الإعلامية بجامعة (ذا نيو سكول) في مدينة نيويورك والذي غالبًا ما ترتبط دراساته بالتشاؤم والعدمية، لمقولة سيوران أهم فيلسوف تشاؤمي في عصرنا الحديث، لتبريره الخوض في موضوع التشاؤم واليأس والعدم، بما يتعارض مع جوهر الفلسفة، بأنّها المعرفة التي تمنحنا القدرة على عيش الحياة بأسلوب حقيقي وجوهر عادل مع أنّ شيشرون قد قال، بأنّ الفلسفة أن تتدرب على الموت، على عكس مما ذهب إليه أبو الفلسفة سقراط الذي قال عن مهنته، بأنّها تشبه القابلة التي تساعد في إنجاب الأطفال، لكنّها ليست مسؤولة عن تنشئتهم، وهو كذلك مولّد أفكار من خلال الفلسفة، لكنّه لا يقوم بتلقينها لأحد في معرض دفاعه عندما حاكمته أثينا بتهمة إفساد الشباب. وفي كتاب ثاكر (قديسو التشاؤم، ترجمة أنور الشامي، والصادر عن دار الكرامة لعام 2024) هناك فلاسفة متشائمون وأفكار عدمية وعبث وجودي، ليس له غاية إلّا الموت كما قال شوبنهاور في فلسفته التي ضمنها كتابه (العالم إرادة وتمثلًا) لكن من قلب هذا التشاؤم يجد القارئ الأمل وذلك من خلال وضع أفكار التشاؤم موضع التحليل أو التعليق، فأي موضوع أو شعور أو فكر أو حتى خوف ما دام قد خضع للنقاش، فهذا يعني أنّه قد تم استيعابه. لكن لنعد إلى حياة القديسين الذين تعرضوا لأشد أنواع المنع والمعاناة والتعذيب، كيف اهتدوا في عبث هذا الوجود إلى بصيص أمل، لربما إميل شعر بالإحباط وهو يرى سير حياة القديسين الذين يفترض بالسماء أن تآزرهم، فما سيكون حال من لا يؤمنون بشيء! وكأنّه يقول: ما الجهد المطلوب حتى نخرج من لجج التشاؤم إلى أرض الأمل؟

لم يكتب فلاسفة التشاؤم عنه صراحة، بل كتبوا عن نقيضه التفاؤل، وكأنّهم بهدمهم لمفهوم التفاؤل يخلون المكان للتشاؤم. يقول نيقولا شامفور (1741-1794): “الفلسفة، كما الطب، يمكنها أن تقدّم عقاقير كثيرة وعلاجات مفيدة قليلة، وغالبًا ليس لديها أي أدوية ناجعة”. صاحب هذه المقولة هو أديب فرنسي، كان داعمًا للثورة الفرنسية ورفض انحرافها عن أهدافها وكان ارستقراطيًا، ولكنه دعم الحكم الجمهوري. لقد سجن لموقفه المتعارض مع الخصوم المتناحرة، وعندما جاءته الشرطة من جديد لاستجوابه، حاول الانتحار، بأن أطلق رصاصة على رأسه، فلم يمت، فقام بحزّ عنقه، وأصابه بجروح عميقة، كذلك لم يمت، وطعن نفسه وقطع رسغيه، وعندما وجده رفاقه وحاولوا إنقاذه، قال لهم: “ماذا تتوقّعون؟ هذا ما يحدث عندما يكون المرء أخرق اليدين، لايفلح البتة في عمل شيء، حتى قتل نفسه”. ومن ثم لفظ أنفاسه. لقد كان شامفور مسرحيًا، فشلت مسرحياته، وكتب تلك المقولات التشاؤمية في كتاب وجد بعد موته، وتم اقتباسها كثيرًا؛ من كامو وسيلين وشوبنهاور وسيوران ونيتشه وكلّهم كتّاب وفلاسفة متشائمون!

لا يختلف الألماني فيليب ماينلاندر (1841-1876) عن شامفور كثيرًا في فلسفته التشاؤمية، وهو الذي زوّد نيتشه بفكرة موت الإله. تقوم فلسفته على أن كل ما يُوجد يُوجد للفناء، فلا وجود للحياة الأخرى النابعة من الخيال الديني ولدورات التقمّص، حياة تتلو حياة. ويرى ماينلاندر أنّ الوجود ليس عملًا لإله كريم، بل نتاج لموته:”مات الإله، وكان موته حياة للعالم” لكن هذا الإله لم يمت، بل انتحر، وما الكون والحياة، إلّا بقايا عطنة لانتحار الإله. لقد قرأ فلسفة شوبنهاور وخاصة كتابه: (العالم إرادة تمثلًا) وسجّل ملاحظة على أثر قراءته لشوبنهاور بأنّه ولِد من جديد. كان عمر ماينلاندر 34 عامًا عندما انتحر، فقد قام بجمع نسخ كتابه (فلسفة الخلاص) بعد أن أرسلت له من دار النشر، وصعد فوقها وشنق نفسه: “المتشائم في واقع الأمر، هو متفائل أحسن تعليمه”. إنّ انتحار فيليب ماينلاندر يذكّرنا ببطل رواية إلياس كانيتي (نار الله) بيتر كين الذي شنق نفسه فوق كتبه بعدما أشعل فيها النار.

آرتور شوبنهاور (1788-1860) إنّه اسم غنّي عن التعريف، حتى من الممكن وضع اسم شوبنهاور بدلًا من التشاؤم من دون حرج. تقوم فلسفة شوبنهاور على فكرة أساسية: “لا نعيش بقدر ما نعاش” فهناك إرادة غاشمة في الكون تدفع الوجود للوجود، ومن ثم إعدامه، ونحن خاضعون لها، لذلك تلك الإرادة تعيشنا ولا تسمح لنا بعيش أنفسنا بشكل حقيقي، بل نحاول تمثّلها وهو تمثّل كاذب، لا قيمة له. والإنسان خاضع لقانون الرغبة والملل، فما إن تتحقّق رغبته، حتى يصبه الملل وهكذا دواليك. لقد عارض شوبنهاور فلسفة هيغل التي تتكلّم عن أنّ الروح العظيم غاية هذا الكون، وقال عن فلسفة هيغل، بأنّها أشبه بحبار يطلق سحابة من الحبر ليوحي بغموضه. وقد سانده في هذا الرأي الفيلسوف الدانماركي المتشائم والسوداوي سورين كيركغارد، بأن قال عن هيغل بأنّه: بالع هواء! لقد تأثر شوبنهاور بالفلسفة الهندية وخاصة في مواجهة تلك الإرادة العمياء التي تدفع الكون للولادة ومن ثم الموت، فقال: “وحدها النيرفانا تجعل التخلي طوعًا عن إرادة الحياة أمرًا ممكنًا” والغريب، بأن متشائمًا آخر، هو نيتشه، قد علّق على هذه الجملة من كتاب (العالم إرداة وتمثلًا) بكلمة: خطأ!

يقول نيتشه (1844-1900): “إنّ التعارض ينبثق بين العالم الذي نبجّله والعالم الذي نعيش فيه – وهو ما نحن عليه. وعلينا إذن أن نلغي، إمّا تبجيلنا، وإمّا أنفسنا. لقد كان نيتشه هادم أصنام كبير، وعندما فرغ، لم يعرف ماذا يفعل. كثيرًا ما نلصق بنيتشه فكرة (موت الإله) للحقيقة، لقد تصادف وجوده في مسرح الجريمة وعثر على الجثة. في واقع الأمر لم تكن هنالك جريمة قتل- بل انتحار، ولكن كيف ينتحر الإله؟ قرأ نيتشه شوبنهاور وأعجب به إلى حدٍ ما، كذلك الكاتب الروسي دوستويفسكي، الذي منحه معرفة كبيرة بالنفس البشرية. وفي إحدى المرّات بعد عودته من جولاته في المشي، فقد كان مشّاء كبيرًا، رأى أحدهم يجلد حصانًا يجر عربة، فاقترب منه باكيًا وعانقه وهمس بأذنه، وبعدها انهار نيتشه أكبر فلاسفة القرن التاسع عشر وصمت حتى الموت.

لم تكن حياة سورين كيركغارد صاخبة، بل للحقيقة كانت هادئة جدًا، لكنّه كتب: “الوجود كلّه يفزعني، من أضأل ذبابة وحتى سرّ التجسد. كل شيء مستغلق عليّ، ولا سيما نفسي. والوجود بأسره فاسد في نظري ولا سيما نفسي”. لقد كان سوداويًا وللحقيقة يدين كيركغارد للسوداوية بالكثير: “لولا سوداويتي، ما كنت لأصبح فيلسوفًا، ناهيك عن أكون مسيحيًا”. هذه السوداوية هي التي صنعت هذا الفيلسوف العجيب، الذي استخدم التشاؤم، ليوضح لنا كيف تكون الحياة عدمًا من دون إله. لقد كان يكره هيغل ويراه: (آكل هواء) ولذلك تصدّى له، لأنّ في الدانمارك آكلي هواء كثر! لقد دوّن كيركغارد يومياته بدقة كبيرة، على الرغم من سوداويته، ولكنه كان يحب بعض الأشياء، كعصي المشي ومظلته، التي كتب لها قطعة ساخرة، بأنه عندما تكون السماء مشمسة يفتحها في غرفته ويتمشّى بها، حتى لا تشعر بالضجر.

صاحب كتاب (المياه كلها بلون الغرق) إميل سيوران (1911-1995) كان متشائمًا كبيرًا مع أنّ ألزهايمر في أواخر عمره أنساه تشاؤمه، يا للمفارقة الساخرة. إنّ كتابات سيوران مجزأة ومتشظية، حتى أنّها تبدو أحيانًا أقل من شظية! إنّها أقرب إلى ذرة من الغبار، أو حطام فكر. نشر سيوران أحد كتبه (مشكلة الولادة) في عام 1973 على أثر فترة من الخسارات، فقبل بضع سنوات، توفيت والدة سيوران وشقيقته، كما انتحر صديق سيوران المقرب، المسرحي آرثر آدموف. وشهد بذات العام وفاة صديق مقرب آخر، الفيلسوف الوجودي غابرييل مارسيل. وبعد عام، انتحر الشاعر بول سيلان، الذي ترجم أعماله إلى الألمانية؛ لقد كانت فترة عصيبة عاشها سيوران. في كتابه (مشكلة الولادة)، يتعامل سيوران: “مع معضلة فلسفية قديمة ــ مشكلة التواجد هنا، في هذه اللحظة، حيث تم إلقاؤه في وجود لم يطلبه أحد ولم يرغب فيه، في عالم يصعب علينا قبوله أو رفضه بكل إخلاص”. لقد رفض سيوران بكل فخر العديد من الجوائز الأدبية، وكثير منها كانت ذات قيمة مالية كبيرة. لقد كان المسرحي صموئيل بيكيت يقرض سيوران المال، فيما كان يؤنبه لرفضه مثل هذه الجوائز. لقد استمر سيوران في العيش بشكل متواضع في شقته المستأجرة، حيث كان يعمل على مكتبه الصغير المزدحم، ويكتب في دفاتر ملاحظاته متعددة الألوان، ويقوم بنزهات متكرّرة في مدينته، حتى أكل ألزهايمر رأسه، فليس غريبًا أن يكون أول كتاب أصدره سيوران بعنوان: الوجيز في التحلّل!

هذه بعض أسماء الفلاسفة المتشائمين الذين تناولهم ثاكر في كتابه الصغير الحجم، فقد قارب ميشيل دو مونتني صاحب كتاب (المقالات) وجاكومو ليوباردي أعظم شاعر إيطالي بعد دانتي وآخرين. لم يكن يقصد ثاكر تقديم سير حياتية عنهم، ولا عرض فلسفتهم بالتفصيل، بل هي قراءة أقرب للشذرات التي اشتهر بكتابتها هؤلاء الفلاسفة. هو كتاب يدعو للتأمل وخاصة عندما يقول سيوران: “المولود الأكثر حرّيّة؛ هو المولود ميتًا”.

باسم سليمان

خاص الميادين

https://www.almayadeen.net/arts-culture/%d9%d8%af%d9%8a%d8%b3%d9-%d8%a7%d9%d8%aa%d8%b4%d8%a7%d8%a4%d9—%d9%d9-%d8%ad%d9%d8%a7-%d9%d8%a7%d9%d9%d8%a7-%d9%d8%aa%d8%b4%d8%a7%d8%a6%d9%d9%8a%d9

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 16, 2024 03:46
No comments have been added yet.


باسم سليمان's Blog

باسم سليمان
باسم سليمان isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow باسم سليمان's blog with rss.