باسم سليمان's Blog, page 8
March 25, 2024
الكتابة خارج الأفق.. باسم سليمان: أنا كسر بين الأرقام
حوار: سامر أنور الشمالي
عبر أسلوب ابتعد عن التقليدية واقترب من المغامرة والتجريب، هناك نحو حدود رؤية ساخرة لا تثير الضحك الممكن، بل تصنع المؤلم من المفارقة.. كتب الأديب باسم سليمان الذي لا يريد أن يقيد نفسه إلاّ بنظرياته الخاصة وفلسفته المتمردة في الرواية والقصة القصيرة والشعر. إذ صدر له العديد من الكتب الإبداعية، منها “تماماً قبلة، تشكيل أول، مخلب الفراشة، الببغاء مهرج الغابة، خال كصفر تهب فيه ريح الأعداد، نوكيا، الحب عزاؤنا الأخير” وغيرها.
*نجد حسّ السخرية.. ففي كلّ ما تكتب تتوارى السخرية بين السطور، أو بمعنى آخر ترشّ ملح المفارقة بنسب دقيقة على سلطة الواقع.. هل هناك سرّ ما وراء هذا الأمر؟
-عندما نُصّب الإله مردوخ كبيرًا للآلهة في الأسطورة البابلية تم اختباره حتى يكون أهلًا لهذا المنصب في مجمع الآلهة؛ وكان ذلك بأن طُرح رداء أمامه وطلب منه أن يخفيه عن الوجود بموجب كلمة ينطقها، ويعيده بكلمة أخرى. من هذه النقطة يصبح عمل المبدِع صاحب الكلمة الأدبية خالقًا بالتشبيه والاستعارة في عالم الخيال، ومن هذه الزاوية تغدو كلمة المبدع نوعًا من المفارقة الساخرة، سواء كانت منطوقة أو مكتوبة، من خلال السؤال عن جدواها، وفعاليتها في الواقع. لكن الخيال عبر فعل التخييل يؤثّر في الإنسان وهذه مفارقة ثانية، حيث أنَّ كلمة هذا المخلوق الفاني لها قدرتها على الفعل مهما كانت ضعيفة. ومن هنا كان للمهرّج في بلاط الملوك والقادة حتى الديكتاتوريين منهم، القدرة على نقد الأمر السلطوي وأحيانا تقويمه عبر تهريجه. وإذا كان من تمثيل لذلك نجده لدى مارسيل بروست في روايته: “البحث عن الزمن المفقود” الذي ينطلق من حاسة الشم التي كانت مزدراة من قبل الفلسفة والفكر وذلك من أجل استعادة الماضي. لقد كانت تعتبر حاسة الشم أقرب للحيوانية في مقابل النظر والسمع الحاستين الإنسانيتين العظيمتين اللتين يعتمد عليهما العقل في التفكير والتذكر. إنّ مدخل بروست نوع من السخرية من الفكر والعقل الأوربي في القرن العشرين. هذه هي الأسس التي أنطلق منها في ذرّ بهارات السخرية في كل ما أكتب، فأدب لا سخرية فيه أدب ميت.
*يبدو أنّك ترفض الالتزام حتى بشروط الجنس الأدبي الذي تكتبه ففي روايتك “جريمة في مسرح القباني” تتداخل الأجناس، وتختلط هل الأمر مجرد تجريب أو مغامرة؟
-ليس تجريبًا ولا مغامرة، فألف ليلة وليلة فيها هذا الخلط. وحتى هوميروس قصّ حكاية عبر الأشعار. وما دمنا في جريمة تقع على خشبة أبي الفنون، فمن الطبيعي أن يحضر أبناؤه؛ المقال والشعر والمسرحية والقصة بين قوسي الرواية. وأرى بأنّ الرواية جنس جامع، لأنّها ابنة المدينة التي تصب فيها مختلف المشارب.
*أكثر إصداراتك في الشعر. هل تحرص على تقديم نفسك كشاعر، لأنّ الشعر أكثر بهاء برأيك، أو لأنّك تجد نفسك متمكّنًا في الشعر أكثر من الأجناس الأخرى التي تكتبها؟
-القضية بالنسبة لي متعلّقة بجدلية المضمون والشكل المناسب له والزمن الذي قيل فيه، فأكثر إصداراتي الشعرية جاءت إبّان المحنة السورية، حيث الحاجة للتعبير المتزامن مع ما يحدث اشتباكًا معه أو هروبًا منه، لذلك كان الشعر. أمّا الرواية فتكون بعد أن تولد مسافة للحياد، بينك وبين الحدث، بينما القصة؛ هي الحدّ الأوسط بين الشعر والرواية في الترابط مع الحدث الوجودي.
*الشاعر الكبير أدونيس قال عنك “أنت تكتب خارج الأفق الذي تتقلّب فيه معظم الكتابات الشعرية العربية”، بعد هذه الشهادة الكبيرة بحقّ إبداعك الشعري وصدور ديوانك “رأسي البسط، جسدي المقام، أنا كسر بين الأرقام” تحت رعايته، فماذا تقول؟
-هذه الشهادة العظيمة من المعلّم أدونيس بحقّ شعري، أجدها بعد ذهاب السكرة ومجيء الفكرة، أشبه بعقدة الحبل التي لا تفكّ التي قدمت للإسكندر المقدوني لاختباره، فما كان منه إلّا أن شهر سيفه وقطعها نصفين، وأنا الآن في ورطة أمام الشعر وأدونيس، لذلك أنا صامت هذه الأيام عن كتابة الشعر!
*في روايتك “نوكيا” التي صدرت عام 2014 نجد أن أحد أبطالها اسمه باسم! فهل هناك شبهة سيرة ذاتية؟
-بمكان ما نعم! فأبطال الرواية الآخرين: محمود وداني هما أيضًا أجزاء من شخصية باسم في الواقع الممزوج في التخييل، فمحمود غرق في البحر المتوسط وهو يقصد أوروبا. وداني هاجر إلى كندا. وباسم في الرواية والواقع بقي في سورية.
*بين مجموعتك القصصية “تمامًا قبلة” التي صدرت عام 2009 ومجموعتك “الفراشات البيضاء” التي صدرت في عام 2023 عقد وأكثر، ما الذي تغيّر في القاص الذي فيك؟
-أعتقد أنّني خرجت من التعريف النقدي الإجناسي للقصة، بأنّها اقتناص حدث وتكثيفه في برهة زمانية مكانية إلى الاعتقاد بأنّ القصة كيان كامل لا اجتزاء فيه، لا يمكن أن يقال إلّا بعدد محدود من الكلمات وكأنّنا أمام بحر من بحور شعر العمود، فماذا يمكن للقاص الغواتيمالي أوجوستو ونتيرروسو أن يقول زيادة عن تلك الكلمات السبع: “عندما استيقظت وجدت الديناصور ما زال هنا” في وصف ما آلت إليه البشرية في القرن العشرين، فهذه القصة ليست تكثيفًا وأخذ شريحة من حدث ما ومعالجتها، بل سرد لا ينتهي تأويله!
*في مجموعتك “الفراشات البيضاء” أكثر قصصها تدور عن الحيوانات فهل هي على نهج كليلة ودمنة؟
-هي إعادة قراءة وتعلّم من كليلة ودمنة، لكنّ الحيوانات في مجموعتي لها أصواتها الخاصة، فهي تثور على أمثلتها كمعادل تخييلي عن الإنسان وطباعه. ومن هنا، اقتلْ كل الذباب والبرغش، فسوف تموت عصافير الغابة! لذلك أنقذت الذبابة في إحدى قصصي فتى من مرض التوحّد، وأشعل صرصار حربًا عالمية ثالثة، فالعلم يقول بأنَّ الكائنات الوحيدة التي ستبقى بعد المحرقة النووية؛ هي الصراصير!
*ما هي طقوس الكتابة لديك وهل تنبع من المعاناة المرضية التي تعيشها؟
-عندما يهدأ جوع الألم بعد إلقامه المسكنات، وإقامة أسباب الحياة، عندئذ أجد الوقت لأكتب.
*متى تستلم وتعلن الهزيمة أمام صعوبة الواقع؟
-أنا للأسف، لا أملك رفاهية الهزيمة وغنى الاستسلام.
جريدة الصباح العراقية في 25/3/ 2024

إريش فْرِيد الشاعر الذي أحبّ الفلسطينيين وكره الصهاينة – باسم سليمان- الميادين
أطلقوا عليه لقب: “اليهودي كاره اليهود” هكذا نعته الصهاينة ومن يدور في فلكهم، لكنّه أحبّ الحرية والإنسانية وفلسطين؛ إنّه الشاعر اليهودي النمساوي إريش فْرِيد الذي استطاع أن يحرّر دمه اليهودي من سمّ الصهيونية، فتدفقت في شرايينه دماء الإنسانية. ولد إريش في النمسا لعائلة يهودية (1921- 1988) كان ولدها الوحيد وقد تنبأ له أبوه بأنّه لن يعيش طويلًا لإعاقة جسدية كان يعاني منها، لكنّه بدأ كتابة القصائد ما بين الخامسة والسادسة من عمره، ليصبح أيقونة الشعر السياسي في المنطقة المتحدثة بالألمانية في الستينات والسبعينات، وبعدها أصبح رمزًا لشعر الحبّ والعواطف. خسر أباه أثناء تحقيق الغستابو (البوليس السري النازي) معه، أمّا جدته، فقد ماتت في معسكرات الموت. هاجر إلى بريطانيا قبيل الحرب العالمية الثانية بعد أن ضُمت النمسا إلى ألمانيا تحت قيادة هتلر، ولحقت به أمّه إلى بريطانيا فيما بعد، ومن هناك شرع في مساعدة اليهود لكي يهربوا من النازية.
لم يكن فريد يسلّم بسهولة بما يملى عليه من الكبار. وفي أحداث عام 1927 عندما أقدم المتطرّفون اليمينيون في النمسا على قتل العديد من العمال ومن ثمّ برّأ ساحتهم قضاة، وصفهم فرِيد بأنّهم أقرب إلى الجناة. وأمام هذا الحكم الجائر عمّت المظاهرات العمالية فيينا، فتصدت لها الشرطة بعنف، ممّا أدّى إلى مقتل شرطي واحد وسقوط 86 عاملًا. رأى الطفل إريش فريد ذلك بأم عينه، وقرأ المنشورات التي وزّعها الكاتب كارل كراوس على جدران فيينا، فوجد فيها إدانة كارل كراوس لقمع الشرطة. وحدث في عيد الميلاد في تلك السنة أن طُلب من إريش الصغير أن يقرأ قصيدة عيد الميلاد، بعد أن تنبّه معلّمه لفصاحته وقدرته على إلقاء القصائد غيبًا. وعندما صعد إريش إلى المسرح تناهى إلى سمعه بأنّ قائد شرطة فيينا المسؤول عن المجزرة بحق العمال كان بين الحضور. هكذا وقف أمام الجمهور وتكلّم: “سيداتي، سادتي. يؤسفني ألّا أستطيع أن أتلو قصيدة عيد الميلاد. لقد سمعت لتوي أنّ رئيس الشرطة -الدكتور شوبر- بين الحاضرين. لقد كنتُ في شوارع فيينا يوم الجمعة الدامي بين الحاضرين، ورأيت المحفّات وعليها القتلى والجرحى، لذلك لا أستطيع أن ألقي قصيدتي أمام السيد الدكتور شوبر. وبعد أن خرج قائد الشرطة من قاعة المسرح غاضبًا عاد الشاعر الصغير وألقى قصيدة عيد الميلاد.
وضع إريش كتابًا بعنوان: (وكنّا نضحك أحيانًا، ترجمة سمير جريس وصدر عن دار صفصافة لعام 2024) يستعيد به وقفات مميّزة في حياته متأمّلًا فيها، وكيف ساهمت في تشكيل وعيه الناقد للمنظومة الرأسمالية العالمية وللديكتاتوريات أيًا كان مصدرها ولاحتلال بلاد الآخرين حتى لو كان المحتلّون من أبناء جلدته، بحيث أصبح رقمًا صعبًا ومفردًا، لا يمكن ترويضه، فأكثر الكتّاب اليهود الألمان والنمساويين ذهبوا إلى دعم الصهيونية العالمية، فها هو ابن جلدته الشاعر الحساس باول تسيلان لم يستطع أن يسمو كما إرش فريد، فوق مصابه حيث فقد عائلته في محارق أوشفيتس النازية، فذهب إلى أنّ الجنود الإسرائيليين الذين احتلوا سيناء وهضبة الجولان عام 1967 أشبه باليهود الذين قاوموا النازيين؟ في حين كتب إرش فريد ردًا على حرب الأيام الستة قصيدته المسمّاة: (اسمعي يا إسرائيل) المدوية والغاضبة من أبناء جلدته الذين أصبحوا نازيين في تعاملهم مع الفلسطينيين، فيقول: “راقبتم جلاديكم/ وتعلمتم منهم/ الحرب الخاطفة/ والجرائم الوحشية الفعّالة/ وما تعلمتموه تريدون الآن أن تطبقوه/ يا أطفال زمن الظلم/ يا من تربوا في كنفه. أصبحتم مزارعين مهرة/ رويتم الصحراء/ لكنّكم أزحتم/ الفقراء الذين سكنوا هناك قبلكم…أنا لم أرد/ أن تغرقوا في البحر/ ولم أرد أيضًا أن يموت غيركم/ بسببكم في الصحراء عطشًا/ حينما كنتم مضطهَدين/ كنتُ واحدًا منكم/ كيف أظلّ كذلك/ عندما تضطهدون الآخرين”. لقد سبّبت هذه القصيدة الكثير من المشاكل لإريش وصُنف كمعادٍ للسامية، لكنّ هذه الروح الحرّة التي رأيناها في قصيدة؛ اسمعي يا إسرئيل، لايمكن أن تهادن، ففي قصيدة أخرى بعنوان: (تصحيح) كتبها إريش فريد بعد اتفاقية كامب ديفيد، يقول فيها: “كتبوا إليّ/ أنّني -ككاتب- لا يصح أن أطلق على بيجين وزملائه: قتلة/ فأنا نفسي يهودي/ وأعرف ماذا تعني الكلمات/ ويجب أن أعي/ أنّ الوصف ظالم/ تمعّنت في الأمر/ لأنّني ككاتب تعرّفت حقًا على قتلة/ في السجون وبعد قضاء العقوبة/ هؤلاء قتلوا غيرة أو ثأرًا… ككاتب، يعرف معنى الكلمات/ وكيهودي يمسّه الأمر عن قرب/ أشعر أنّه سيكون بالفعل ظلمًا/ إذا لم استخدم كلمة قاتل استخدامًا أدق بعد الآن/ لن أطلق في المستقبل إذًا/ على بيجين ووزيره شامير/ وجنرالاته شارون وإيتان وباوم – والذين يحركونهم من غير اليهود، الذين لا يعيشون في إسرائيل، ولكن غالبًا غربي المحيط- وصف القتلة/ وإنّما فقط/ وصف السفاحين”.
هذا الشعر كمبضع الجرّاح يفكّك المظلومية الصهيونية التي تبنّاها الغرب. ومن هذا التشريح المنطقي ينطلق إريش في نقده لنشأة ما يمكن تسميته بالتابو الإسرائيلي، حيث أنّ أي نقد له سيتهم من قام به بمعاداة السامية! يقول إريش: “منذ أن ارتكبت فاشية هتلر جرائم قتل اليهود، تولّد في أوروبا الغربية شعور جماعي بالذنب له أسبابه المفهومة، وكثيرَا ما أدّى هذا الشعور إلى امتناع المرء عن توجيه أي نقدٍ لليهود، وفي الوقت ذاته فقد ساوى الناس بلا أدنى تفكير بين اليهود والصهاينة. إلّا أنّني أشعر ليس فقط بالتضامن مع كلّ المشردين والمضطهدين الأبرياء، وإنّما أيضًا بشيء من الاشتراك في المسؤولية تجاه ما يرتكبه يهود إسرائيل ضد الفلسطينيين وبقية العرب”.
هذا الموقف الشجاع قد يُنظر إليه اليوم كأمر مقبول، لكن في تلك الأزمنة، حيث كانت إسرائيل تلقى الدعم غير المحدود من الغرب، فإن موقف إريش فريد كان منارة حقيقية في ظلمات القرن العشرين. يقول المؤرِّخ موشيه تسوكرمان بأنّ موقف فريد كان يتطلّب منه: “شجاعة وجسارة فكرية. إنّنا نعرف اليوم بعد مرور عقود عديدة، ما ارتكبته إسرائيل بحق الفلسطينيين. ومع أنّ انتقاد إسرائيل في ألمانيا ما زال محرمًا على نطاق واسع، فإن ممارسات الاحتلال البربرية لم تعد سرًّا؛ ومن يريد المعرفة، بإمكانه أن يعرف… غير أنّ الوضع آنذاك، عندما كتب قصيدته: (اسمعي يا إسرائيل) لم يكن كذلك إلى حدٍّ بعيد”.
ينطلق إريش في كتابه: (وكنّا نضحك أحيانًا) من طفولته حيث لم يكن أهله يصدّقون ذاكرته عن تلك السنين الأولى من حياته، لكنّه يسترجع ببساطة، كيف كانت جدّته والخادمة تعطيانه قطعة السكر المكعّبة ليضعها على حافة الشبّاك، لكي يلتقطها طائر اللقلق، بينما يغني إريش: “يا طائر اللقلق، يا أطيب الطيور، امنحني أخًا/ يا طائر اللقلق، يا أفضل الطيور، امنحني أختًا”.
تتنوّع القصص التي يخبرها إريش عن حياته ابتداءً من كلبه الجميل: (شوفتي) وإصابته بأيام الكلب، كما كانت تقول جدته، فقد كان إريش يرى بالكلب شوفتي صديقًا وفيًا وله وجه كالإنسان، على الرغم من معارضة جدته اليهودية، التي كانت تقول له: الإنسان فقط هو من يملك وجهًا! وكانت الجدة تملي قناعتها استنادًا لما نصّت عليه التوراة، لكن كعادة شاعرنا إريش في كشف التناقضات في المعتقدات، كان يناقض جدته، لذلك كانت جدته تسمي المرحلة العمرية التي يمرّ بها إريش؛ بأيام الكلب. يتذكّر إريش بأنّه لم يتعرّف على أبيه بعد أن قُتل على يد الغستابو، فهو لم يره إلّا حليق الذقن، وعندما أعادوه من الاعتقال جثّة هامدة، كانت لحيته البيضاء قد نمت في أيام الحبس، فاختلط الأمر على شاعرنا!
عندما وصل إلى بريطانيا في السابعة عشرة من عمره شرع إريش، وكما يقول بنفسه بالقيام بالأعمال المشروعة وغير المشروعة لتأمين النقود لأبناء جلدته في النمسا، كي يتمكّنوا من الهرب من معسكرات الاعتقال. ومن أعماله غير المشروعة؛ سرقة مواسير المياه من البيوت القديمة التي ستهدم وبيعها!
يتذكر إريش صديقه لازار الصغير ذلك اللاجئ اليهودي في بريطانيا وكيف كان يحلم بأن يسافر إلى فلسطين. كان لازار مقتنعًا بالأفكار الصهيوينة غير أنّه كان من أنصار مارتين بوبر الذي لم يكن يريد طرد الفلسطينيين أو معاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية، بل كان يدعو إلى المساواة والإخاء. حاول إريش وأصدقاؤه أن يشرحوا للازار بأنّ قناعته مجرد وهم، وأنّ وضع الفلسطينيين سيسوء أكثر. لم يقتنع لازار وسافر إلى فلسطين عبر سفينة أقرب إلى النعش. لقد كان لازار يعاني ضعفًا كبيرًا في نظره وللأسف انكسرت نظارته وفي قبرص طلب منهم أحد الجنود البريطانيين أن يتراجعوا؛ أي لازار والمسافرين اليهود إلى فلسطين، لم يستطع لازار تحديد الوجهة المطلوبة، وتقدم نحو الجندي الذي أرداه قتيلًا!
إنّ تأمّل هذه القصص والأحداث التي مرّت في حياة إريش وضمّنها في كتابه: (وكنّا نضحك أحيانًا)، وقد أوردنا بعضها أعلاه؛ وعلى الرغم من قساوتها إلّا أن إريش عرِف كعادته أن يترك باب الأمل مفتوحًا كابتسامة القط تشيشاير في أليس في بلاد العجائب. لم تتحقق أمنيات الطفل إريش بأن يمنحه طائر اللقلق أخًا أو أختًا، لكنّه منحنا شاعرًا لا يقل فلسطينية عن أي فلسطيني آخر، مع أنّه من مواليد النمسا، بريطاني الجنسية، غير أنّه فلسطيني الهوى.
باسم سليمان
خاص الميادين

March 16, 2024
“من الفناء إلى الخلود”: في اهتمام الثقافات المختلفة بالموتى – صفة ثالثة
باسم سليمان16 مارس 2024
يقول المعرّي: “خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْـ/أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ”. لربما يصحّ هذا الأمر في بلادنا، التي ما تزال تدفن موتاها في الأرض، لكن ماذا عن تلك الشعوب التي تحرق جثث أمواتها، وتذر رمادها في الأنهار، أو تعبئه في جِرار، أو تطعم لحم وعظام موتاها لكواسر السماء؟ لا ريب أنّنا سنستهجن أفعالهم!
يعكس التعامل مع الموت الثقافة المضمرة في كلّ مجتمع، أكانت تقليدية أو عصرية، ففي المائة سنة الأخيرة ومع الاطلاع الكبير على عادات الشعوب في كيفية التعامل مع الموت بالإضافة إلى تغيير عادات الدفن نتيجة تزايد عدد السكان الكبير جدًا وقلّة المساحات المخصّصة للمقابر في المدن وارتفاع تكاليف الدفن؛ انتقلت شعائر الدفن من شأن أسروي خاص إلى عمل تقوم به شركات مختصّة. وقد رافق هذا التغيّر سؤال قديم جديد يعود إلى أيام المؤرّخ هيرودوت الذي كان أول من ذكر استغراب الملك الفارسي من عادات دفن الموتى لدى الشعوب الأخرى، الذي سأل مجموعة من اليونانيين بما أنّهم يحرقون جثث موتاهم: “ما الذي سيُغري أحدهم بأكل جثة أبيه؟” فأجابه اليونانيون بأنّ أموال الدنيا لن تكون كافية لإقناعهم بأن يكونوا من آكلي لحوم البشر. لقد كان الملك الفارسي يستهجن عادات اليونانيين في حرق موتاهم مع قطعتين من النقود توضعان على عيني المتوفى كما ذكر هوميروس في الإلياذة عند حرق جثّة أخيل، متناسيًا أن عادات الدفن في بلاد فارس لن تعجب اليونانيين بالمقابل.
ترتحل الكاتبة كيتلين دوتي والتي تعمل كحانوتية في أحد مراجل دفن الموتى في الولايات المتحدة الأمريكية إلى أرجاء العالم في كتابها: (من الفناء إلى الخلود، والصادر عن دار عصير الكتب للنشر والتوزيع لعام 2023) كاشفة عن عادات الشعوب في دفن أمواتها، مظهرة بأنّ ما نعده شنيعًا في نظرنا، هو قمة الرحمة في نظر الآخر والعكس صحيح! وفي الوقت نفسه تستكشف طرقًا صحيّة للدفن، أسواء كان الأمر للموتى وأسرهم المفجوعة أو بالنسبة للبيئة والطبيعة. ذكر المبشِّر الكاثوليكي (جان دي بريبوف) في عام 1636 استحسانه لعادات قبائل (الوياندات) في أمريكا الشمالية في دفن أمواتها، حيث تقوم بحفر قبر جماعي كلّ عشر سنوات في عيد الموتى تضع فيه عظام أمواتها، الذين ماتوا خلال السنوات السابقة ولحدوا على سقالات خشبية ترتفع عن الأرض عشرة أقدام، مكفنين بجلود القندس، التي تسمح للأمطار والريح والشمس في تحويل الجثث إلى هياكل عظمية. تجتمع القبيلة في الوقت المحدّد لتزيل الجلود واللحم عن الجثث الحديثة، التي لم تتحلّل بكل احترام ولطف وحنية، فكلّ عائلة مسؤولة عن تنظيف عظام موتاها. ومن ثمّ يرتبون العظام في تلك الحفرة، ويغمرونها بالعشب والرمل والتراب. لا ريب أنّ المبشِّر على الرغم من استحسانه، سيتمنّى أن تنقرض عادات تلك القبيلة وأن يعتنقوا أعراف الديانة المسيحية.
لم تكن كيتلين راضية عن تقاليد الدفن التي اعتمدتها الولايات المتحدة، فالدفن أصبح شأنًا مؤسساتيًا تقوم به شركات تتعهّد إزاحة جثة المتوفى عن أنظار أسرته وأقربائه، أسواء كان الدفن في صناديق أسمنتية، أو حديدية، أو حرقًا في أفران تصل حرارتها إلى 1800 درجة مئوية، ولا تعطى الأسر إلّا أزمنة محدودة لوداع الميت وفي قمة حزن العائلة عليها دفع تكاليف باهظة لإتمام الإجراءات، لذلك كان كتابها رحلة في عوالم دفن الموتى من أجل الكشف عن ألطف الطرق وأنجعها عاطفيًا وبيئيًا للإنسان والطبيعة.
يعود أول تقليد للدفن حرقًا إلى أربعين ألف سنة قبل الميلاد في أستراليا، حيث وجدت عظام امرأة دفنت حرقًا. ومن ذلك الوقت وبعض شعوب الأرض تحرق موتاها كالهند والإغريق. أمّا في زمننا الحديث، فقد كان أول اقتراح لحرق الجثث في أفران يعود إلى فلورنسا في إيطاليا، فقد أدانت مجموعة من أطباء الصحة عمليات الدفن التقليدية في التوابيت واكتظاظ المقابر، وأنّ طريقة الدفن غير صحية، ومن الضرورة الانتقال إلى حرق الجثث. انتقل هذا الاقتراح إلى الولايات الأمريكية مع القس الإصلاحي: (فروثينغام) الذي اعتبر بأنّ تحويل الجثة إلى رماد أبيض أفضل من تحولها إلى كتلة من العفن. تم حرق أول جثة في الأفران الصناعية لبارون نمساوي عام 1876. بعد 150 سنة تجاوز عدد الجثث التي تحرق في أفران عدد الجثث التي تدفن في توابيت، لكن هذه الأفران تكلّف آلاف الدولارات شهريًا ثمنًا للغاز مطلقة الكثير من أول وثاني أكسيد الكربون والسخام والزئبق شديد السمّية في الهواء، إلى جانب أن سعر الحرق قد يصل إلى خمسة آلاف دولار. بينما في الهند يكلّف حرق الجثث خمسين مليون شجرة سنويًا ناثرًا في الأجواء غبار الكربون، الذي يعتبر ثاني مسبب للاحتباس الحراري على الأرض بعد أدخنة المصانع.
أمام هذا الواقع ظهرت حركة تدعو إلى حرق الجثث صحيًا، ليس عبر الأفران، كما في أمريكا أو بريطانيا، ولا كما في الهند على مصاطب حجرية على ضفاف نهر الغانج، بل عن طريق منصة عالية تخفّف التكلفة والانبعاثات الضارة. ففي صحراء قرية كريستون في كولورادو بدأت مجموعة بتنفيذ الحرق الطبيعي، فتجتمع العائلة والأصدقاء وبيدهم أعواد العرعر ليلقوها على الجثة، وفي الصباح توقد النيران. لا تتجاوز تكلفة الحرق خمسمائة دولار وأمام هذا الواقع بدأ الكثير بالمطالبة بأن توجد محارق صحية في مناطقهم.
تنطلق كيتلين مع الدكتور بول؛ عالم الجنائز في لوس أنجلوس إلى (تانا توراجا) في أندونيسيا لحضور طقس تنظيف الجثث في شهر آب، حيث يستقبلهما (أهجوس) المرشد السياحي الذي نام هو وأخوه مع جدهما الميت سبع سنين على سرير واحد، حتى حان وقت دفنه، فما بين الموت والدفن، قد تمتد السنوات، حتى تتوفّر لأهله إمكانية دفنه، ففي عالم أهجوس تصبح الحدود الفاصلة بين الحياة والموت شفافة جدًا. في هذا اليوم تخرج القرية موتاها المحنطين الذين مازالوا يرتدون بعض الثياب أو النظارات الشمسية والتيشرتات ويقوم أهل الميت المحنّط بتنظيف الجثة وتقديم الطعام والأضاحي لها، بهذه الطريقة لا تنقطع العلاقة بين الموتى والأحياء والذي بدوره يسهم في توطيد العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة ومجتمعهم أيضًا.
يقول الشاعر المكسيكي أوكتافيو باز معبرًا عن رفض التحدّث عن الموت في المجتمعات الغربية بأنّهم: “يحرقون شفاههم” ولا يتلفظون بكلمة الموت، مع أنّ المكسيكيين على خلافهم، فهم يردّدونها ويسخرون منها؛ إنّ الموت لعبة بالنسبة لهم. من خلال هذه المقولة تكشف لنا كيتلين كيف أصبح الأول من تشرين الثاني عيد الموتى في المكسيك معبّرًا عن هؤلاء المحرومين والفقراء الذين سقطوا من حسبة رأس المال من هنود ومكسيكيين قد ماتوا وهم يحاولون اجتياز الحدود مع الولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى أنّه أصبح رمزًا للثقافة الشعبية التي رفضتها طبقة الأغنياء في المكسيك مفضّلة عليها العادات الأمريكية كعيد الهالوين. في هذا العيد ينثقب الحاجز بين أرض الموتى وأرض الأحياء، فتقام الاحتفالات المضمّخة بالأحزان والفرح، لكن الجميع يجدون العزاء؛ الموتى مادام الأحياء يذكرونهم، والأحياء عبر التعبير عن حزنهم.
تعجّب الشاعر والت ويتمان من قدرة الأرض على استيعاب أجساد البشر؛ طيبهم وخبيثهم، ومن ثم تحوّلها إلى نباتات. من هذه الفكرة تستكشف كيتلين مجموعة من الحانوتيين والعلماء الذين يسعون لتحويل الجثث إلى سماد بدلًا من حرقها أو دفنها في توابيت أسمنتية. لقد ساهم تشريح الجثث في تقدم الطب وترى هذه المجموعة من العلماء، بأنّ تحويل الجثث إلى سماد عضوي سيساهم في زيادة الغطاء النباتي. وفي الوقت نفسه من الجيد نفسيًا أن يحلم الإنسان بأنّه سيصبح يومًا زهرة أو شجرة بعد موته.
أكثرنا يعتقد بأنّ القبر هو المنزل النهائي للإنسان، لكن في أوروبا تنتشر سياسة تأجير القبور، ففي إسبانيا تستأجر عائلة الميت القبر عددًا من السنوات حتى يتحلّل الجسد وبعد ذلك يتم إخلاء القبر وتنقل العظام إلى قبر يشترك به مع غيره من الموتى وكأنّنا مع شعب الوياندات. وفي ألمانيا تستأجر العائلات القبور لمدّة عشرين إلى ثلاثين سنة، لكنّ المقابر لم تعد مكانًا للموتى، بل للأحياء أيضًا، وذلك مع توجّه الكثير من الشعوب الأوروبية لحرق الجثث، هكذا تحوّلت تلك المقابر إلى منتزهات وحدائق وملاعب للصغار، حتى أصبحت مكانًا لاستيعاب اللاجئين وخاصة السوريين، ففي برلين مقبرة نُزعت منها جميع شواهد القبور وأصبحت حديقة صغيرة للاجئين السوريين يزرعون فيها الطماطم والبصل والنعناع.
تمتاز اليابان بأعلى نسبة عجائز في العالم، وأعلى نسبة انتحار في العالم، وأعلى نسبة لاستخدام حرق الجثث إذ تصل إلى 99.9 بالمائة. وقد كان الإمبراطوران السابقان ضد أسلوب الحرق، لكنّ الإمبراطور الحالي: أكيهيتو وزوجته ميتشيكو أعلنا، بأنّهما سيتبعان أسلوب الحرق. وعودة إلى الامتيازات التي تخصّ اليابان، فالمقابر أصبحت لديهم عبارة عن أبنية تحفظ بها الجرار التي تحوي رماد الموتى، وكل ما يلزم لتقيم الصلاة على روح أحدهم أن تمرّر البطاقة الإلكترونية أمام جهاز حتى تسمع حركة آلية ومن ثم تنبثق من الجدار نافذة تحتوي جرّة فيها رماد الميت، فتقام الصلاة على روحه. وتعليقًا على هذه التقنية، قال أحد كهنة البوذية: “ظلت البوذية دائمة حديثة. من الطبيعي جدًا استخدام التقنيات بالتماشي مع البوذية، فلا يوجد تعارض أبدًا”.
تنقلت الكاتبة بين العديد من أساليب الدفن إلى أن وصلت إلى التيبت، فهناك يصبح الدفن سماويًا وذلك بإطعام النسور جثث الموتى عبر تقطيع لحمها وكسر عظامها، ويعود هذا الأسلوب إلى ندرة الأخشاب وصعوبة حفر القبور؛ هذا هو ظاهر الأمر، لكنّ المعتقدات الدينية ترى بأنّ هذه الطريقة تساعد الأرواح في الصعود إلى السماء.
لقد اختلف البشر في أساليب حياتهم، فلماذا لا يختلفون في دفن موتاهم، وهذا الاختلاف غنى ويقدم حلولًا لمسائل قد تبدو للوهلة الأولى مستحيلة الحل. لقد قدمت لنا كيتلين دوتي الكاتبة والحانوتية في هذا الكتاب آخر ما استجد من أساليب الدفن وتكريم الموتى والتواصل معهم إلى دمجهم في النظام البيئي عملًا بالحلم القديم: “من التراب إلى السماء”.
باسم سليمان
خاص ضفة ثالثة

March 14, 2024
اصطياد المعنى وتقطيره في المجموعة القصصية “الفراشات البيضاء” لباسم سليمان – الناقدة: دعد ديب
دعد ديب | مارس 14, 2024
باعتبار أن القصة خيال محض فلا مجال للتمييز أو التدقيق بين ما هو حقيقي وما هو مزيف؛ بين ما هو واقعي وبين المغرق بالخيال، بين الأصيل والدخيل، ففي المجموعة القصصية “الفراشات البيضاء” لباسم سليمان الصادرة عن دار ميسلون لعام 2023 تتسع مساحة الخيال ويحتشد عالمه بكم متشابك وغريب من حواريات الجمادات والحيوانات والكائنات البشرية. المجموعة القصصية مليئة بأسئلة الكاتب الوجودية المستلهمة من ذاكرة تنبض بصور ومواقف مخيلة ثرية الحضور يحفر فيها بقاع اللاشعور لتوظيف خبرة جمالية لصالح المعنى المراد تقديمه.
يستهل الكاتب مجموعته القصصية بمقاربة عالم كافكا ومناداته “هل أنت هنا” بإيحاء مضمر بأنه يسحبنا إلى عوالمه دون إفصاح مباشر، عبر نصوصه التي ينسجها من انعكاسات الواقع أحياناً وتنويعاً على مخزونه الثقافي بأحيان أخرى، فنراه قريباً من عالم الحشرات الكافكاوية. وفي جانب آخر نجده يطل على عالم كليلة ودمنة بتشاركية الحيوانات الناطقة بالحكمة. ومرة ثالثة نراه يتقاطع مع جورج أورويل في روايته مزرعة الحيوان.
هناك صداقات أنيسة بين كائنات مختلفة لا يدرك كنهها عالم الكبار، فهذا الطفل المتوحد الذي تآلف مع حشرة صغيرة شاركها طعامه في قصة “الذبابة” تأتي يد قاصمة تفقده حميمية هذه العلاقة معها، الحشرة التي تكون هنا أقرب وجدانيًا لعالم ذلك الطفل الذي يجيد الصمت، بتصوير حالة الاغتراب وفقدان التواصل التي يعيشها رغم كل العناية الظاهرة من أمه، فبرغم الصمت الذي يكتنف عالمه لكنه هنا يوحي بفكرة تشابه الاندماج مع المحيط مثل التصفيق الذي يجبروننا عليه كل صباح. وهذا تلميح للواقع الشمولي العام المهيمن على صعيد الأسرة من ناحية وعلى صعيد المجتمع من ناحية أخرى ومقاومة تلك الهيمنة للنزوع الشخصي والحر لعالم الأفراد، في لحظ السارد تقاطع ما بين الإحساس التلقائي والشعور المتخيل متحركاً بين القول الظاهري والفكرة المضمرة مما يعني الاشتغال على طبقات في توجيه الخطاب السردي حسب مستويات الفهم للمتلقي.
يشتغل باسم سليمان على مناوأة وضع عام أي مخالفة ما هو متعارف عليه من صفات للكائنات أو إعطاء معنى مخالف لما قرأناه بشكل سابق، ففي “القمقم” يعتمد تنقية وتقطير المعاني المتعارف عليها بقلب بديهياتها مثل عبارة “المارد لا يلدغ من الأمنيات إلا ثلاثا”، في تكثيف مذهل لرفض المارد لفقدان حريته أزماناً شاسعة وعبوديته لكائنات حقيرة الشأن مقابل أمنياتهم التافهة على غرار أمنيات الطائر البغاث بأن يحتل مكانة أعدائه وأن ينقل للنسر الرعب الذي أذاقه إياه، ولكن تبادل الأدوار لا يجدي نفعاً فعملية بلبلة الصفات الخارجية لا تغير من جوهر الكائن الذي يحتفظ بقلب عصفور ضئيل ولا يبدل الخوف الذي نشأ عليه.
القدرة الفائقة لدي صاحب “جريمة في مسرح القباني” في سحب انتباه القارئ وإدهاشه عبر أسلوب تأمله للحدث أو الفكرة المراد عرضها عبر التركيز على المتعة الجمالية بسلاسة العرض والتشويق. ونرى في “البيضة والحجر” تفسير تلك النبوءة التي جعلت الدجاج غير قادر على الطيران كسائر الطيور والتي جاءت من الهيمنة والسيطرة للديك، والحجة الخوف من الزلزال ورغبة بامتلاك الأرض والسماء، فقسم من الطيور قد هرب وهاجر ومنهم من خاف وصمت وهذا الأخير قلم له الديك أجنحته وقد شارك الدجاج الديك في الصراع أملًا في السماح له بالطيران، ولكن هيهات فقد جعلهم حراساً على من قصت أجنحته كي لا تنمو له أجنحة جديدة والعضو الذي لا يستخدم يضمر وليكونوا عبرة لهم قصت أجنحتهم كذلك ومن رفض مصيره الموت، ألا يوحي ذلك بقدر قريب جداً، فهناك سلطة فوق الديك وهو الثعلب، فالطغاة دائماً يجذبون الغزاة وهكذا الطيور تتعارك مع الدجاج والثعلب يتفرج يدعم ذاك ويقوي آخر وهذا باختصار واقع الشعوب.
تمتلئ المجموعة بسخرية والمفارقة ومخالفة توقعات القارئ أو ما تتركه القصة من حيرة والتباس فهم الأمر الذي يجبر القارئ للدخول في عملية التفسير والتفكير لاستدراج المعنى ووضع احتمالاته. وكمثال على هذا في قصة “رصاصة الحسد” تتحدث الجمادات إذ تقود قذيفة الهاون مجموعة من الرصاصات المتدربات في مدرسة المقذوفات النارية برعاية اليونيسيف حيث السخرية المضمرة من المنظمات الدولية، والسؤال المفارق بماذا تحلم الرصاصة؟ الرصاصة التي يعود نسبها إلى جبان اخترع البارود الذي ساوى بين الشجاع والجبان، كل منها لها حلمها الخاص فرصاصة صغيرة أخرى تحلم بأن تكون قذيفة صاروخية؛ ورصاصة بندقية ضغط الهواء تريد أن تكون قنبلة فراغية وقد بصقت الأمنية كحجر حطه السيل من عل في تناص مع القصيدة المعروفة.
أما في قصة “الذئب النباتي” فيكاد الكاتب أن يقنعنا بتحول الذئب إلى حيوان نباتي لا يقرب اللحوم بكل ما فيها من اعتداء على تقاليد القص المتعارف عليه بالدور التاريخي الشرير له، لكن المعنى المبطن المخفي يتسلل تحت الكلام الموارب لندرك بروز شخصية الغول التي يتخفى خلفها الذئب آكل الحشائش وفق ما أشاعه بإيماءة حول تبدل الأساليب والوجوه، وهو الغول ذلك الخطر الوهمي الذي ترتكب الجرائم تحت اسمه.
وفي قصة “قائمة الطعام” يتبع باسم سليمان تقنية القصة داخل قصة عندما تكون قصة قائمة الطعام هي قصة منشورة للولد الصغير في إحدى المجلات وتتحدث عن حوارية الحمل والمرياع قائد الخراف حول علاقتهم بالذئب والإنسان؛ بين من ينقض بهمجية على فريسته وبين من يأكلها وهو ويذرف الدموع عليها، لينتهي الحمل بحقيقة أن ذلك لا يغير من حقيقة الفعل شيئاً فالذبح واحد.
تتشابك المصطلحات الموحية بالقصة القصيرة بين الخرافة والأسطورة والحكاية والطرفة والنادرة والأمثال ونستطيع القول إنها تتغذى عليها ولكن إنريكي أندرسون امبرت كثف تعريفه للقصة القصيرة بقوله: “القصة القصيرة عبارة عن سرد نثري موجز يعتمد على خيال قصاص فرد برغم ما قد يعتمد عليه الخيال من أرض الواقع فالحدث الذي يقوم به الإنسان والحيوان الذي يتم إلباسه صفات إنسانيه أو الجمادات يتألف من سلسلة من الوقائع المتشابكة في حبكة حيث نرى التوتر والاسترخاء في إيقاعهما التدريجي من أجل الإبقاء على يقظة القارئ للوصول لنتيجة مرضية من الناحية الجمالية.”
هذا التعريف يتناغم مع نصوص مجموعة “الفراشات البيضاء” إلى حد ما، فهناك أنفاق وجسور في عالم السرد قد تكبر قصة قصيرة لتشكل رواية، وقد تجمع رواية قصص قصيرة في أسلوب سبكها وتداخله،ا وقد تتحول مجموعة أخرى إلى متوالية قصصية ذات مناخ وأبطال يتشاركون في المكان ولولا بعض القصص التي أنطقها سليمان بألسنة البشر لاعتبرت المجموعة متوالية قصصية بامتياز كونها تشترك بمناخ نفسي وسردي واحد وعلى حكم الحيوانات وألسنة الحشرات بمعانيها المرمزة ذات الدلالة العالية.
نشعر بمتعة كبيرة في ملاحقة نصوص المجموعة وقدرتها الفائقة على الاختزال في الكلمات والتكثيف في المعنى، ففي قصة “الأسماء” لكل من اسمه نصيب وفق المثل المعروف وهكذا تشوه الحقائق بحيازة صفة لمن لا تسمح مواهبه بها في استبدال اسم الحصان للحمار لكن الذي يحصل أنه يصدق ذلك الأمر والآخرون يصدقون الحمار الذي أصبح حصانًا وتوج في ميادين السباق رغم أنف الحكائين.
أيضًا تأتي الفراشات البيضاء التي استعار منها عنوان المجموعة بشكل مقتضب في قصة “ضحك الضباع” في التباس تحديد الحيوانات لجنس الكنغر (الذي يأكل الفراشات البيضاء كحلوى على لسانه) بينه وبين الإنسان كونه يقف على قائمتيه الخلفيتين لتأتي مقولة القصة بأن الإنسان لا يقتل الحيوانات فقط، ولكنه يسجن أخاه الكنغر أيضًا وهذه مشاهدة ورأي حيوانات الغابة التي جعل الحكمة على أفواهها.
تلعب الطبيعة دورها في خدمة التوازن والتناغم والانسجام في قصتي “رمادي” و”ألا ليت شعري“، حيث عبرت الأخيرة عن حوارية الإنسان والطبيعة التي تتكلم وتفصح عن مكنوناتها ما يذكرنا برواية “عالم العناكب” لكولن ويلسون عندما يتساوق أي فعل مع إيقاع الطبيعة تنسجم معه ويمشي في ركابها وعندما يخالفها تسحقه ويكون من أعدائها.
يعمل صاحب “الغراب سيد الغابة” على تطويع الاقتصاد في المفردات ليختزل فكرة شاملة وعميقة فهنالك ما يسمى قصة قصيرة جدًا تتراوح بين السطر والثلاثة أسطر، وكل أقصوصة عدد محدود من الكلمات لكنها تمتد عميقًا في معانيها مثل “نهاية، موسيقى، شوك الصبار، نمل الحب، الإزميل، صائد العصافير” يجمع فيها التركيز والتكثيف على معنى محدد عبر تناوب التوتر والاسترخاء وخاصة في القصة التي لا تتجاوز أسطر ففيها إبداع في فن الاختزال والتكثيف عبر الكلمات المشحونة بطاقة تعبيرية عالية.
ربما تحاكي القصة القصيرة نبض الحياة المتسارع للوصول إلى المعنى بأقل ما يمكن من الزمن وحشد أكبر ما يمكن من المعاني لالتقاط حدث غير عادي بحركة مركزة ينتقل فيها بشكل متسارع إلى المحصلة عبر ثلاثين قصة يقدمها لنا باسم سليمان عبر منطق الحكاية في تمثل مجازي للواقع عبر مشهدية الرمز والإيجاز. تجلت في هذه المجموعة المقدرة على إحداث أثر لدى القارئ خلال فترة زمنية بسيطة لا مجال فيها للاستطراد والحشو كون النص يسير إلى هدفه منذ العبارة الأولى نظرًا لقصر المسافة بين البداية والنهاية.
بعضهم شبه الرواية بالضوء والقصة القصيرة بحزمة ضوئية، ولكن في أحيان كثيرة تكون القصة القصيرة أشد سطوعًا حسب كثافة طاقتها التعبيرية المشحونة، وأعتقد أن “الفراشات البيضاء” تنتمي لهذا السطوع.

March 10, 2024
بَاهَبل رواية تدرأ حدود الواقع بشبهات الخيال – مقالي في مجلة الفيصل العددين: 569- 57- نيسان 2024
تعود الروائية السعودية رجاء عالم في روايتها الجديدة: (بَاهَبَل؛ الصادرة عن دار التنوير لعام 2023 والتي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر لعام 2024) إلى بيئتها السردية المفضلة؛ ألا وهي مدينة مكة المكرمة، والتي كانت قد رصدتها سابقًا في رواية أخرى بعنوان: (طوق الحمام لعام 2010) وتكاد أن تنطلق الروايتان من ذات الثيمة التي تهمز خاصرة حصان السرد لينطلق؛ ففي طوق الحمام نجد جثّة لامرأة وفي بَاهبل نلقى جثّة لرجل قد انتحر! فالموت بالنسبة لرجاء عالم يُولّد الانتباه. يُفتتح السرد بالعويل المغنّى من قبل مغنية الفادو البرتغالية؛ وهذا الغناء ممتلئ بالمعاني، فكلمة (الفادو) بالبرتغالية تعني بالعربية: القدر. تكمن جوهرية هذا الغناء، بأنّه يكشف عن الجدل بين الرغبات الصاخبة والإيمان بالقدر في عمق التجربة البشرية. وتتنوّع أصوله بالقول، بأنّه يعود إلى العبيد الذين استقدموا إلى البرتغال. وهناك من يقول بأنّ جذوره ترجع إلى أغنيات الرثاء الخاصة بالبحارة البرتغاليين الذين كان البحر يبتلعهم أو يبعدهم عن وطنهم وهم يمخرون عبابه بحثًا عن آفاق جديدة.
هذا التعريف لغناء الفادو ينطبق على شخصيات رواية رجاء عالم، حيث الأقدار الخام التي ولدن فيها عمّات عباس سالم مصطفى السردار ومحاولتهن تحويل هذه الأقدار إلى مصائر تتسع لأرواحهن وأجسادهن معًا، فيمنحهن القدر فتى أشبه بمغني الفادو، متعدّد الهوايات والأصوات، بين الذكورة والأنوثة، بين العقل والجنون، يتنقل بين الماضي والحاضر والمستقبل، يُلبس ساعده ساعة مدمجة بكاميرا يجمع بذاكرتها فيديوهات سيرة عمّاته خلف حجب عائلة السردار، وفي كلّ مكان آخر يمنع فيه التصوير، وصولًا للحرم المقدّس.
بعد ذلك تشرع رجاء عالم في تعليل ولوجها حيوات عمّات عباس: سكرية، نورية، حورية؛ بعد أن تهمس لها نورية شيئًا من حكايتها، فتسأل عباس أن يزيدها معرفة بقصتها، فيجيبها عباس: “هي جَاتِك أنت كمان!؟” وتتابع عالم بأن ما دفعها للكتابة هو: “الغضب تجاه صرامة العبودية المبطنة التي خضعن لها؛ عبودية تأتي باسم الحب والتكريم وصون العرض، لكنّها تسحق وتطمس الهوية والوجود بجدارة”. ومن ثم تقدّم اعتذارًا من عباس عن قراءتها الخاصة لسيرة عمّاته، وللقرّاء أيضًا؛ لأنّها وجدت باللهجة المكية الحامل اللغوي المناسب لإيصال سرديتها والمعاني الخاصة لمجتمع مكة.
كان عباس السردار الدكتور في العمارة في جامعة الملك عبد العزيز قد بنى فيلّته الخاصة في جدة، جاعلًا منها متحفًا لرواشن وشبابيك ومقابض أبواب بيوت مكّة التي هدمت في إحدى توسيعات الحرم المقدس، مجسّدًا في بيته ذاكرة مكة المعمارية، والأحرى ملاعب طفولته، فقد ولد في بيت جدّه مصطفى السردار الحادي عشر في سلسلة من الأجداد كان لهم دور مهم في تاريخ مكة. كان البيت يطل على الحرم في حي المُدّعي حيث يتزاحم الحجاج لأجل زيارة بيت الله. لم تكن ولادة عباس سهلة، فقد كان رافضًا الخروج من رحم أمّه، على الرغم من صراخها وأدخنة البخور والعطور وقراءة الآيات الكريمات، لربما احتجاجًا على قرارات جدّه الذي وقف في وجه أيّة محاولة لأخذ أمّه إلى المشفى، فالأفضل أن تموت، على أن يقال، بأنّ إحدى نساء بيت السردار شقّ بطنها، لكن في النهاية تتوصل العائلة لحلّ وسط، بأن يأتوا بالقابلة الملقّبة بــ(أنيسة القردة) والتي ولد على يدها أكثر أطفال حي المُدَّعى في مكة. أخيرًا ولد عباس ابن سالم، الابن الأكبر لمصطفى السردار، لكنّ هذا الوليد الجديد ابتلع توأمه، أو أنّه اختفى من بطن أمّه، بينما كانت القابلة أنيسة القردة والعمّات مشغولات باستقبال الوافد الجديد عباس، فذهلن عن توأمه! عاش عباس بين أحضان أربع أمهات؛ واحدة منهن بيولوجية، والثلاث الباقيات أعطينه أرحامه الأخرى: الواقعية والفكرية والخيالية، فسكرية منحته رحم الجنون والثورة، فيما حورية وهبته الفكر والتأمل، بينما نورية أشعلت به العاطفة المشبوبة. كل واحدة منهن أرضعته من سيرة حياتها. فيما هو قسّم شخصيّته لتناسب عمّاته؛ فمع سكرية كان عباس. ومع حورية كان عباس/ نوري. ومع نورية كان نوري فقط؛ توأمه الذي اختفى في رحم أمه وأصبح قرينه الذي يلجأ إليه كلّما ضاق به الواقع.
يتأمّل عباس فيلّته ويتساءل بينه وبين نفسه عمّن خوّله أن يُبعد تلك المشربيات ومقابض الأبواب عن مجاورة الحرم إلى مدينة أخرى. ومن ثم يقوده تفكّره في ما آلت إليه حياته إلى عائلته، حيث الاختلاف الكبير بين اهتماماته ورغبات زوجته وأبنائه؛ ليجد نفسه غريبًا عن كل ما سعى إليه طوال حياته. وأمام هذا الواقع غير المتجانس يركب سيارته ويقود من جدة إلى مكة ليصل إلى بيت عمّته نورية التي توفيت منذ سنوات، كعادته في الالتجاء لحضن إحدى عمّاته عندما تقبض عليه الحياة بمخالبها، وفي بيتها يضع رسالتان: (إلى من يهمه الأمر، وإلى كبار العلماء!) ومن ثمّ يشنق نفسه بإحدى تلك الثريات التي ألقت أضواءها عليه وعلى عمّته نورية في ماض قريب. وكما يقال بأنّ الإنسان في لحظة الموت يسترجع كامل شريط حياته، تبدأ عمّاته بالظهور من قمرية ابنة الجارية فرح التي حاولت أن تحرقها بالكاز لتنجو من عدم اعتراف مصطفى السردار بها، فتنقذها حورية، ليتبدّل بعدها اسمها إلى سكرية التي زارت مصر وعادت ببدعة الأكل بالشوكة والسكين والتي زوّجها أبوها من رجل يميل إلى أبناء جنسه، لتعود مطلقة بعد عدّة أشهر. فيما كانت نورية متزوجة من رجل تبين أنّه عقيم لا ينجب، لكنّها أحبته بجنون لينتهي منتحرًا، أمّا حورية التي غُمر بيت السردار بالورود عندما عشقها قنديل صاحب حدائق الورد في مكة، فقد دبّر أبوها مقتله في يوم عرسها لتمضي حياتها عانسًا. لقد تحجّرت مصائر سكرية وحورية ونورية تحت سطوة أبيهن السردار الكبير، لكن ما إن ولد عباس ابن سالم أخيهن الأكبر، حتى وجدن فيه نافذتهن الخاصة نحو العالم، فتنازعنه كلّ واحدة منهن تريد الاستحواذ على شخصية من شخصياته العديدة، وتنازعه الحرم المقدس معهن أيضًا؛ وذلك في تداعيات الحادثة الإرهابية عام 1979 حيث سيطر جهيمان على الكعبة والحرم معلنًا ظهور المهدي!
بَاهَبل:
أي الأهبل! هذا كان لقب عباس في صغره من قبل جدّه، لربما بسبب الفتق الذي كان يعاني منه في سرّته، والذي أثّر على تصرفاته وأفكاره. ومن هذا الفتق ولد قرينه الآخر نوري الذي كان يرتق ما تمزّق في شخصية عباس نتيجة الحدود الكثيرة التي لم يكن من الممكن تجاوزها إلّا بشبهات الخيال. هكذا كلّما تقدّم عباس في العمر وزاد تمرّده على واقعه نال لقبًا جديدًا إلى أن أصبح عباس الزيبق على اسم الشاطر علي الزيبق في التراث.
بين شخصيتي عباس ونوري يكبر طفل آل السردار، مخلتفًا عن أقرانه في طموحاته وأفكاره وآرائه التي كانت بنظر ذكور العائلة مخالفة لكل التقاليد التي عهدوها. وأمام رفض تقاليد الذكور لهذا الذكر الناشز أخذ الطفل يوزّع حياته بين عباس ونوري، حيث يهرب عباس من الحدود الكثيرة في بيت السردار إلى نوري الذي يمنحه أجنحة الخيال ومحبة الفن والتوق إلى الحرية والإبداع ويمكّنه من الوقوف في وجه جدّه ومن ثم أبيه. بينما كان نوري يلجأ إلى عباس عندما تتكسّر أجنحة الخيال أمام صلادة الواقع.
لقد كان هذا الأهبل هو الروشن والشباك والنافذة الذي أطلّت منه عمّاته على الحياة بعد أن سلبها منهن الأب بحجة الحب والحماية، لذلك أراد تسجيل حياتهن على شريط سينمائي. ولأنّ لحظة الموت تعيد شريط الحياة من بدايته إلى نهايته كان على عباس أن ينتحر ليحكي قصة عمّاته، فالموت يخلق الانتباه إلى ما هو مخفي وراء حجب العادات والتقاليد، فهل كان أهبل أم شبيهًا آخر للحلاج الذي قال: “أقتلوني يا ثقاتي إنّ في موت حياتي”؟ أليس المعنى المضمر لكلمة القتل: معرفة كنه الشيء وجوهره!
لقد كان انتحار عباس اللحظة التي ضغطت فيها رجاء عالم على زر التشغيل/ play فبدأت الصور تتسارع، حتى استقام التاريخ عام 1946 في مكة على سطح بيت السردار والجارية فرح تحاول حرق ابنتها قمرية بالكاز لتنقذها من عار عدم اعتراف أب عائلة السردار ببنوته لها مشرّعة أبواب الكلام لحكاية العمّات.
الواقعية السحرية:
إنّ العقل والحواس محدودان، ولا يمكن أن يكونا مطلقين في إدراكهما للوجود. هذه المعضلة التي لا تفكّ عُراها، قد تم حلّها – على الأقل نسبيًا- عبر الخيال الذي ينطلق من اللمسة أو الفكرة متجاوزًا القصور الذاتي في كينونة الإنسان في الإحاطة بوجوده، مانحًا إياه آفاقًا جديدة. وإذا كان لنا أن نسبّب مذهب الواقعية السحرية الذي ينطلق من اعتلال إدراك الإنسان للواقع بسبب القصور الذاتي في كينونته، فإن تطعيم هذا الواقع بالخيال يسمح لمعرفة الإنسان نحوه أن تتضاعف، فلا يعود محكومًا بتتابعية الزمن الخطي ولا بالأبعاد الثلاثة للمكان، فتصبح حواسه متراسلة، فالعين تشمّ، واليد تتذوّق، والعقل يتكعّب بأوجهٍ ستة، والشعور يدخل العوالم المتوازية، فالحزن هنا، فرح هناك.
لقد لجأت رجاء عالم إلى الواقعية السحرية من أجل مقاربة تاريخ مكان مقدّسٍ جدًا: مكة المكرمة، حيث واقعية المكان المقدّس المطلقة تعري النقصان الكامن في وجود الإنسان، فلا ينفع ترميزه لقول المسكوت عنه، فسطوة المقدّس تستغرق أي ترميز وتثبطه. من هنا كان تعويل رجاء عالم على الواقعية السحرية، فهي نظرة خيالية/ واقعية تمكّن الكائن البشري من التحرّر من معوقات وجوده ومحدداتها الأسرية والمجتمعية والدينية، فكانت شخوص روايتها تستحلب الواقع بأسلوبها الخاص، تأملًا، حلمًا، خيالًا، هلوسة، جنونًا، أسواء في تفسيره أو تأويله مشكّلة من تلك المعاني العامة والخاصة سيرها الذاتية وتاريخ المدينة المقدسة.
تنتهي الرواية، عودًا على بدء، في السنوات الأولى للألفية الثالثة من حيث انطلقت، بعد أن تصل رسالة للكاتبة من عباس عبر حسابه على الفيس تشي بأنّه لم ينتحر! فهل انتحر توأمه نوري/ خياله؟ أم أنّ نوري/ الخيال تلبس عباس/ الواقع وأوهم الجميع بانتحاره؟ ستتعذر الإجابة! لكن هذا يعني أنّ الشريط السينمائي الذي أعدّه ليعرض في مهرجان البندقية السينمائي وكان قد روى فيه حياة عمّاته، ودمرته عائلته، بحجّة فضحه لأسرار العائلة، لم تزل هناك نسخة أخرى منه! لم تكن رجاء عالم مهتمة بالأسئلة والإجابات بقدر ما كان تركيزها على سرد حيوات عمّات عباس كما عشنها، وشاهدها عباس، وتخيّلتها هي، لتمنح كلّ ذلك لقارئ شغوف بالبحث عن التاريخ في التفاصيل المخفيّة.
باسم سليمان
خاص الفيصل


March 6, 2024
ما مدى تأثير الأقلية اليهودية في الصين؟
مقالي في موقع الميادين
لم تكن الأقلّية اليهودية المسمّاة: (الكايفنج) ذات تأثير يُذكر في تاريخ الصين، لكن ما إن ظهر وعد بلفور، حتى أصبحت ضمن مدار اهتمام الصهيونية العالمية، وخاصة بعد إعلان قيام إسرائيل عام 1948. لقد اعتمدت إسرائيل على تلك الجماعات اليهودية القليلة التي توزّعت على عدّة مدن صينية من مثل كايفنج وشنغهاي وإقليم تايوان وغيرها، لتكون البوابة الخلفية للدخول إلى شرق آسيا الأقصى وخاصة الصين الذي بدأ حجمها السياسي والاقتصادي والسكاني ينمو يومًا بعد يوم منذ الحرب العالمية الثانية. في الكتاب الصادر عن دار تشكيل للنشر والتوزيع لعام 2024 بعنوان: (الكايفنج – جيل صيني يهودي جديد) للمؤلفة المصرية دينا عطا الله محمود، تقدّم لنا دراسة عبرتاريخية ترصد بها تواجد اليهود في شرق آسيا، ومن ثمّ تنطلق من هذا التأسيس لتدرس العلاقة الصينية الإسرائيلية، التي نمت وتبلورت وصولًا لافتتاح السفارة الإسرائيلية في بكين عام 1992 وما ترتب من علاقات سياسية واقتصادية وأكاديمية وعسكرية. تعود جذور تواجد هذه المجموعة اليهودية إلى ما قبل القرنين التاسع والعاشر الميلادي، حيث نسبوا إلى مدينة كايفنج التي جاؤوا إليها عبر طريق الحرير، سواء من إيران أو الهند ومناطق أخرى. ولقد اندمجوا في المجتمع الصيني بشكل كبير، لأنّ العقيدة الكونفشيوسية التي تدين بها الصين لم تكن تعارض التعددية الدينية؛ ما دام أعضاء أية مجموعة دينية أخرى تقرّ بالسلطة الدينية والسياسية للإمبراطور الصيني. لم يعان اليهود من أي اضطهاد مباشر من قبل الصينيين، فتغلغلوا في حركة المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الدينية؛ وهذا مانراه في تصميم أول معبد يهودي أنشئ في الصين عام 1163 فلقد كان يُسمى معبد: (الطهر والحقيقة) وهو اسم ذو صبغة كونفشيوسية. وفي القرن الرابع عشر استطاع يهود كايفنج أن يدخلوا في مفاصل الإمبراطورية الصينية عبر الامتحان الإمبراطوري لاختيار عناصر موظفي الدولة، حيث تأهل قادة اليهود بسبب مهاراتهم الاقتصادية والتنظيمية إلى أن أصبحوا من موظفي البيروقراطية الحاكمة. وهذه الفئة من الموظفين تملك ميزات كثيرة تتجاوز النجاح الاقتصادي الذي كان اليهود يحصدون نتائجه في الصين، فالعمل في الدولة يعطي السلطة والمكانة الاجتماعية والثروة، لذلك أصبحت هذه الوظائف مطلبًا لليهود. لكنّ هذا التطوّر في وضع يهود الكايفنج أدّى من ناحية أخرى إلى ازدياد ذوبانهم في المجتمع الصيني، فالقانون الإمبراطوري ينصّ على أن موظف الدولة الكبير لا يعيّن في منطقته، بل ينقل لمنطقة أخرى كي لا تنتشر الرشوة والمحسوبية، ممّا قاد إلى اندثار عادات اليهود الاجتماعية وحتى تحريماتهم بعد تبعثر قادتهم الاقتصاديين في البلاد. وعندما مات آخر حاخام من يهود الكايفنج في القرن التاسع عشر انخرطوا نهائيًا في المجتمع الصيني، وأصبح الخلط واضحًا بين المبادئ الكونفشيوسية واليهودية، حيث طفق اليهودي يطلق على اسم الخالق: (كونفشيوس) وعلى السماء: (تأين) وعلى الطريق إلى الإله: (طاو) وانخرطوا في عبادة الأسلاف مثل الصينيين، حتى أنّهم أكلوا لحم الخنزير الذي يعتبر محرّمًا في الشريعة اليهودية ومن ثمّ درست لغتهم العبرية لصالح الصينية، فلم يكن من بينهم من يستطيع قراءة المخطوطات التوراتية، حتى أنّها بيعت للرحّالة البروتستانت وعلماء التاريخ الأجانب. وفي عام 1900 حاول مجموعة من اليهود الإنكليز الذين كانوا يسكنون شنغهاي عبر تأسيس: (جماعة إنقاذ يهود الصين) إعادة إحياء يهودية الكايفنج، لكنّ الوقت كان قد فات، فكلّ ما يعرفونه عن تاريخهم بأنّهم كانوا يهودًا يومًا ما.
لم يكن يهود الكايفنج الوحيدين في منطقة شرق آسيا والصين، بل بدأ ظهور جاليات يهودية إنكليزية منذ حرب الأفيون في القرن التاسع عشر ومارتبت على الصين من معاهدات لصالح الإنكليز. وتتالت الهجرات، فجاء عدد من اليهود الروس بعد ثورة 1917 ومن أوروبا وخاصة إبّان الفترة النازية. غادر معظم هؤلاء اليهود الصين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتأسيس جمهورية الصين الشعبية التي سارعت إسرائيل للاعتراف بها.
على الرغم من الاستقبال الجيد الذي حظي به اليهود في الصين، إلّا أنّهم سريًعًا ما وجدوا في احتلال اليابان 1931 لشمال الصين الفرصة السانحة لتقوية تواجدهم في مدينة هاربين في منطقة منشوريا، بل حتى السعي من أجل استقدام يهود آخرين، ليشكلوا بذلك كيانًا مستقلًا تحت حماية اليابان عبر تحقيق مصالح اليابان ومصالحهم التجارية والاقتصادية والاجتماعية؟ وكانت الخطة اليهودية تقضي باستقدام 30 ألف يهودي إلى منطقة منشوريا حيث تتحمّل تكاليف تنفيذها الجماعات الموالية لليهود في الولايات المتحدة الأمريكية. لم تنفذ هذه الخطة، بل ظلّت حبرًا على ورق بسبب دخول اليابان كحليف لألمانيا. وعلى الرغم من تلك التصرفات من قبل اليهود إلّا أنّ الصين كانت من إحدى الدول التي استقبلت الكثير من اللاجئين اليهود الهاربين من بطش النازية. لقد كانت تسمية الخطة بـ(قنفذ البحر) لأنّ اليابانيين كانوا يرون في اليهود شبهًا لقنفذ البحر، فلحمه طيب بعد التخلّص من سمومه.
قلنا سابقًا، بإنّ إعلان جمهورية الصين الشعبية مهّد الطريق إلى مغادرة أكثر اليهود الموجودين في الصين، لكنّ إسرائيل التي كانت تريد علاقات مع أكثر من قوة في العالم، فقد سارعت للاعتراف بجمهورية الصين الشعبية. ولقد رحّبت الصين بذلك، لكن هذه المبادرة توقفت بسبب ضغوط الولايات المتحدة الأمريكية. لم تتوقّف إسرائيل عن محاولات إقامة علاقات دبلوماسية مع الصين، إلّا أنّ مواقف إسرائيل الداعم للولايات المتحدة في حرب فيتنام أدّى إلى إخفاق محاولاتها. كذلك ساندت إسرائيل الهند عبر مدّها بالأسلحة في الحرب التي قامت بينها وبين الصين. أثناء ذلك كانت الصين تعزّز علاقاتها بالدول العربية، وأصبحت داعمة للمقاومة الفلسطينية، لكنّ حاجتها للدخول الأمم المتحدة، ومن ثمّ منظمة التجارة العالمية أعاد ملف العلاقات الدبلوماسية إلى الواجهة، ومن ثمّ كانت حرب الخليج، وما ترتب عليها من ظهور النظام العالمي الجديد الفاتحة لعلاقات ثنائية بين الصين وإسرائيل، حيث طمحت من خلالها كلا الدولتين إلى تحقيق مكاسب عديدة، فالصين كانت تحتاج التقنيات العسكرية الإسرائيلية وأن تكون إسرائيل منطقة جاذبة للعمالة الصينية، فقد عوضت العمالة الصينية النقص الحاصل من العمالة الفلسطينية نتيجة للانتفاضة، فقد أصبح عدد العمال الصينيين يتجاوز الـ 20 ألف عامل. أمّا إسرائيل فقد كانت ترى في الصين حليفًا استراتيجيًا على الرغم من أنّ العلاقة بها كانت تخضع لإملاءات الولايات المتحدة الأمريكية. لم يكن بإمكان إسرائيل أن تشقّ طريقها إلى داخل المجتمع الصيني إلّا بإعادة إحياء التواجد اليهودي في الصين، فعملت على إرسال البعثات الدينية والتعليمية والأكاديمية لتفعيل الدراسات اليهودية وجذب الطلاب الصينيين اليهود للدراسة. كان هؤلاء الصينيون اليهود يعودون بأنسابهم إلى الجاليات اليهودية التي تواجدت في القرن التاسع عشر حتى منتصف العشرين. هكذا بدأنا نرى يهودًا من عرق الهان الصيني تم إعادة إحياء مشاعرهم الدينية اليهودية من جديد.
حاولت إسرائيل أن تدفع الصين للاعتراف بوجود الديانة والعرق اليهودي في الصين أسوة بالمسيحية والإسلام، لكنّ الحكومة الصينية رفضت ذلك، فلم يكن حجم الجالية اليهودية كبيرًا، فهم لم يتجاوزا عدّة آلاف وقد ذابوا في المجتمع الصيني. ومع ذلك تطوّرت العلاقات الصينية اليهودية، فلقد منحت إسرائيل الصين استثمارات مهمّة في فلسطين المحتلة، كاستجلاب العمالة الصينية لتحل بدلًا من الفلسطينية، حتى أنّها ذهبت إلى التخطيط لمنحها استثمار ميناء حيفا على الرغم من المعارضة الأمريكية. وفي الوقت نفسه سمحت الصين في بداية الألفية الثالثة لإسرائيل بإقامة معابد يهودية في الصين وتهويد بعض الصينيين حتى أصبحنا نرى جنودًا صينيين يهود في الجيش الإسرائيلي، بالإضافة إلى أنّ رئيس وزراء إسرائيل إيهود أولمرت الذي يعود بنسبه إلى أحد اليهود الذين سكنوا الصين، قام أثناء زيارته إلى الصين عام 2007 بزيارة جده في إحدى مقابر هاربين.
لم تكن الصين غافلة عن المساعي الإسرائيلية لتكون الشريك الأكبر لها في منطقة الشرق الأوسط، لذلك كانت تمسك العصا من المنتصف، فالصين تستجر الطاقة النفطية من إيران ولها استثماراتها المهمة مع البلاد العربية، فتارة تتطوّر العلاقات الصينية الإسرائيلية بقوة، وتارة أخرى تعود إلى التباطؤ وفق المعطيات الجيوسياسية في العالم. وفي حرب غزة الأخيرة، قال المندوب الصيني في محكمة العدل الدولية تعليقًا على أحداث غزّة، بأنّه من حقّ الشعوب الدفاع عن نفسها ضد الاحتلال.
تأتي أهمية كتاب: (الكايفنج – جيل صيني يهودي جديد) لقلّة الدراسات العربية عن العلاقات الصينية اليهودية، فهو يعرض لسياسة العصا والجزرة التي تتبعها إسرائيل مع الصين القطب الجديد على مستوى العالم، الذي يقف في مواجهة أمريكا؛ وذلك من أجل الحصول على أقصى استفادة من هذا المارد الجديد على الساحة الدولية.
باسم سليمان
كاتب سوري
خاص الميادين

https://www.almayadeen.net/arts-culture/%D9%D8%A7-%D9%D8%AF%D9-%D8%AA%D8%A3%D8%AB%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%D8%A3%D9%D9%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%D9%8A%D9%D9%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D9%D9%8A-%D8%A7%D9%D8%B5%D9%8A%D9 https://www.almayadeen.net/arts-culture/%D9%D8%A7-%D9%D8%AF%D9-%D8%AA%D8%A3%D8%AB%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%D8%A3%D9%D9%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%D9%8A%D9%D9%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D9%D9%8A-%D8%A7%D9%D8%B5%D9%8A%D9
الكلام المباح الذي سكتت عنه شهرزاد: في قدرة المسامحة
باسم سليمان 6 مارس 2024
يرى والترج.أونج في كتابه؛ (الشفاهية والكتابية) بأنّ الحكّاء الشعبي ينطلق في حكايته من قلب الحدث القصصي، ومن ثمّ ينسج حكايته على مهل، وذلك كي يزجّ بالمستمع في قلب الحكاية، فلا يستطيع فكاكًا، وهذا ما فعله هوميروس في الإلياذة. وعلى نفس المنوال اشتغل الحكّاء في قصص ألف ليلة وليلة، فالقصة الافتتاحية تُدخلنا مباشرة في السبب الذي حوّل الملك شهريار إلى قاتل متسلسل يفتضّ كلّ ليلة عذراء ومن ثم يقتلها.
تضعنا ألف ليلة وليلة مباشرة في حكاية خيانة زوجة الملك شهريار مع عبدٍ له. يقتل الملك زوجته ويقرّر أن ينتقم من جنس النساء، وعندما يصل الدور إلى بنت وزيره، تدخل شهرزاد القصة، وتطلب من والدها أن يجهّزها، ويبعث بها إلى الملك، فيتردّد الوزير، ويقصّ لها قصة: الحمار والثور مع صاحب المزرعة؛ كي يحذّرها من مغبّة فعلها، لكنّ شهرزاد تصرّ على ذلك!
لاريب أنّنا استهجنا تصرف الوزير الذي توقّع أن يصل الدور إلى ابنته شهرزاد كعروس للملك، فيتسلّمها في صباح عرسها جثة هامدة، وكان الأحرى به أن يهرب من مملكة هذا الملك المتجبّر الظالم، إلّا أنّه لم يفعل، كذلك لنا أن نستغرب من إقدام شهرزاد على هذه التضحية كي تنقذ بنات جنسها.
هناك حدثان خارقان للطبيعة البشرية في ألف ليلة وليلة، لا يوضعان في خانة واحدة مع المردة وبساط الريح والحوت التي تنمو على ظهره جزيرة. الأول: هو الملك الذي جنّ بعد خيانة زوجته وغدا قاتلًا متسلسلًا. والثاني يظهر في تهوّر شهرزاد بأن ترمي نفسها في حضن الموت. قدّمت لنا ألف ليلة وليلة السبب الذي حدا بالملك شهريار إلى سلوك مسلك غير إنساني، لكنّها لم تُفصح عن تهوّر شهرزاد التي خرجت عن الحدّ الأوسط للفضيلة إلى التفريط في حياتها، أمّا بقيّة الأفعال الخارقة للطبيعة، فالخيال كافٍ كسبب لوجودها.
ولكن قبل أن نفكّ أختام الصمت، ونجري الكلام على اللسان، في المسكوت عنه في قصص ألف ليلة وليلة، وما الذي أغفله الحكّاء باستعجاله الدخول في قلب القصة، لابدّ من أن نسأل، ما الذي كانت تسكت عنه شهرزاد ما إن يدركها الصباح؟ إنّ الجواب من السهولة بمكان، فقد كانت تحبس لسانها عن إكمال القصة حتى الليلة الثانية، فتؤجّل موتها. وبهذا تقتدي بالحكّاء الشعبي الذي يضع المستمع في ذروة الأحداث، فيأخذ بأسماعه، ولا يفكّه من قيد قصة، حتى يكبّله بأخرى، فهل هذا هو السبب أم في الأمر(إنّ)؟
وأدرك شهرزاد الصباح!:
يُحكى أنّه منذ سبع عشرة سنة، أيّها القارئ السعيد، حدث أنّ ابنة طبيب قصر الملك الذي أنقذ شهريار من اختلاط البلغم بالسوداء في جسده، قد عشقت أحد الجنود الشجعان في جيش الملك شهريار. وأن شجاعة هذا الجندي قد أهّلته لأن يصبح قائد الميمنة في جيش الملك. ولقد أخبرتهما العرّافات بأنّ الأقدار كتبت لهما أيامًا سعيدة وأيامًا حزينة، وأن ابنتهما ستصبح ملكة على هذه المملكة. في ذلك الزمن الجميل ضحكت بنت الحكيم والجندي الشجاع من نبوءة العرافات، فقد كان همّهما أن يجمعهما عشّ الزوجية ليذوق عسيلتها وتذوق عسيلته، ولتأتي الأيام بما تشاء، فلا مهرب من قضاء الله إلّا إلى قضاء الله.
كان موعد العرس قد حُدّد بعد شهر من واقعة الخيانة التي هزّت عرش المملكة. وبدأت الفتيات العذراوات يتساقطن صريعات في سرير الملك، ولم يلبث أن أتى دور بنت الطبيب لتكون زوجة شهريار. استمع الطبيب صابرًا إلى قرار شهريار، بأنّه سيتزوج ابنته، فخضع خضوع الخروف إلى الراعي. ولكن ما إن وصل إلى بيته حتى دبّر أمر هروب ابنته مع الجندي الشجاع إلى مكان مجهول، بعد أن زوّجهما. وعندما علِم الملك بذلك قتله وأرسل جنده تجوس البلاد بحثًا عن ابنة الطبيب والجندي الخائن، لكن لم يوفّق عسسه بمعرفة مكانهما. وكرّت الأيام كحبات السبحة والفتيات يتساقطن كورق الخريف في العاصفة، لا شهريار شُفي من جنونه من هول المجزرة التي ارتكبها، ولا العسس توقّفوا عن البحث عن ابنة الطبيب.
وفي مكان قصي من المملكة على ضفة نهر كان هناك كوخ مهجور، سكنه لاجئان من بطش الملك، قد رزقهما الله بعد تسعة أشهر بطفلة، كأنّها النرجس بجمالها. ولأنّ القصص كالنار لا تحيا إلّا بأكل ذاتها، ولأنّ العسس آذان الملك في كل زمان ومكان، قد علموا مكانهما، فوصفوا للملك حال تلك العائلة الصغيرة في ذلك الكوخ البعيد. أخيرًا تنفس شهريار الصعداء، فقد أوغرت صدره بنت الطبيب وجنديه الخائن أكثر من زوجته الخائنة، وقال لوزيره: اذهب على رأس الجنود وآتني برأسيهما.
أغلقت الحدود وبدأ جنود الملك يضيّقون أنشوطة المشنقة على بنت الطبيب والجندي الشجاع حيث كانا غافلين عمّ يحدث، لكن المعروف يرد بالمعروف، وواهب الحياة يجزى بالحياة. انفرد أحد الحرس عن حياكة الأنشوطة وأسرى في الليل البهيم حتى وصل متقطّع الأنفاس إلى الكوخ، وقال كلمة واحدة: اهربا؟ وعاد من حيث جاء. كان هذا الحرس مدينًا للجندي الشجاع بحياته، فقد أنقذه من الموت في إحدى المعارك، فقامر بحياته لربما ينجو الجندي الشجاع من قضاء الملك. لم يكن من وقت وليس من سبيل، فالجندي الشجاع أعلم بأنّ أنشوطة المشنقة لا ينجو منها أحد، فقد كان مبتدعها، فهي أشبه بدائرة من الجنود تضيق رويدًا رويدًا نحو مركزها. ظلّ رابط الجأش وخمّن أنّ الوقت المتبقي لهما، نهار وليلة، فأخضر سلّة وطلاها بالقار، وأحكم إغلاق ثقوبها، وجهّزت زوجته في الوقت نفسه مهدًا للطفلة في السلّة. كانت الخطة أن يضعا السلّة وفي قلبها الطفلة في مجرى النهر، وينتظران قدرهما بشجاعة العشاق، وبذلك يؤمّنان لابنتهما فرصة للنجاة كما يسّر الله للنبي موسى النجاة بعد أن القته أمّه في اليم. لم تكن حسابات الجندي الشجاع صحيحة، فقد وصل، قبل الأوان المفترض، إلى سمعهما قرقعة أسلحة الجنود من كلّ حدب وصوب، فقال لزوجته: ارضعي نور العين حتى تنام، وضعيها في السلّة في مجرى النهر.
حاولت الزوجة أن تمنع زوجها من أن ينفذ خطّته، لكنّه أقنعها بأنّها الوسيلة الوحيدة للنجاة، فالجنود جنوده، وهو أعلم بشراستهم. كان جنود الملك قد وصلوا سريعًا، فخرج لهما الجندي وقاتل قتال الأبطال، كي يعطي الزوجة وقتًا لتضع ابنتهما في السلّة، إلّا أنّ أحد الجنود اقتحم الكوخ، فعاجلته بنت الطبيب بطعنة نجلاء في صدره، ومع ذلك نال منها بجرح مميت. سقطا كلاهما، هو جثة هامدة، وبنت الطبيب مضرّجة بدمائها. تحاملت بنت طبيب الملك على نفسها وزحفت تحمل ابنتها النائمة بعد أن غفت إثر الرضاعة، فوضعتها في السلّة، ودفعتها في مجرى الماء، ولأنّها متيقنة بأنّ الجنود سيبحثون عن الصغيرة، قرّرت اشعال النار في الكوخ، فيقتنع الجنود بأنّ النار أكلت الطفلة، فلن يتحمّل جسدها الغض اللهيب. كان الجندي الشجاع قد تلقى من السهام في جسده الكثير حتى تكسّرت النصال على النصال كما قال المتنبي، فخرّ صريعًا، وقبل أن يبتلعه الموت رأى النار تشتعل في الكوخ، فهمس: يا نار كوني بردًا وسلامًا. قبل لحظات من اشتعال النار، كان الجنود قد اقتحموا الكوخ، وفي ذات اللحظة كسرت بنت الطبيب السراج، فشبّت النار في الكوخ. تراجع الجنود إلى الوراء، ومن جديد شهد الوزير موتًا جديدًا سبّبه شهريار، لكنّه لم يحرّك ساكنًا.
جزّ الجنود رأس الجندي، وبعد أن تحوّل الكوخ إلى رماد، أخرجوا جثة بنت الطبيب، وقطعوا رأسها المتفحّم، ووضعوا الرأسين في كيس، ومن ثم أمرهم الوزير، بأن يعجّلوا بهما إلى الملك بينما سيلحق بهم.
أدرك الصباح الوزير يحمل الرحمة بين ثنياه مبددًا الظلمة التي شهدت مقتل بنت الطبيب والجندي الشجاع. كان الوزير قد أمضى الليل يحازي النهر في ممشاه، وقد تقطّعت نياط قلبه من الحزن، وتمنّى لو كان إنسانّا مجهولًا لا يملك إلّا كفاف يومه وأبناء يزدهر بهم بعد مماته. لقد اعطاه الله السلطة والمال وحرمه نعمة الأبناء، ولما أثقلت الهموم كاهله، نزل عن حصانه، وجلس على ضفة النهر يستمع إلى نقيق الضفادع وزقزقت العصافير، فأخذته غفوة إلى أن اِستفاق على صوت بكاء طفل، فتلفّت حوله، كان الصوت يصل مسامعه من الضفة الثانية للنهر، فخاض في الماء حتى وقف على الموضع الذي سمع منه البكاء، فوجد سلّة من القصب مطلّية بالقار، وإذ بطفلة كأنّها البدر في السماء، فقال في نفسه: هي هبة لي من الحنّان المنّان، فقد استمع إلى شكوى قلبي وحزن زوجتي، فأخذ الطفلة التي مدّت يدها الصغيرة إلى لحتيه وبدأت تلاعبها.
ما هو الكلام المباح؟:
مرّت السنين سريعًا وأصبحت مملكة شهريار مقبرة كبيرة. وفي الوقت نفسه كبرت الصغيرة في حضن الوزير واسماها شهرزاد، أي بنت البلد. لقد كانت سعادة زوجة الوزير بها كبيرة إلى درجة أن رحمها تفتّح، فأنجبت للوزير ابنة أخرى اسماها دنيازاد. لم يخف الوزير سرّ مولد شهرزاد عنها، ومع ذلك ظلّ السرّ مطويّا، لا يعلمه إلّا الوزير وزوجته ومرضعتها التي ماتت، فدفن السرّ معها، لكن الأيام لا أمان لها، فما إن تصفوا حتى تتعكّر، لقد طلب الملك شهريار من الوزير ابنته شهرزاد.
تزيّنت شهرزاد بأجمل الأثواب المنسوجة من خيوط الذهب، فكانت البدر والشمس معًا، حتى أنّ شهريار روّعه جمالها وإقدامها على التلذّذ والفرح بكلّ لحظات العرس الملوكي. لقد بلبلت رباطة جأشه، فلم يعرف أنثى قبلها قد سيقت إلى هذا الامتحان، إلّا كانت مسودّة الوجه، منفطرة القلب، قد بالت في ثياب عرسها من الخوف والرعب. لم يتأمّل شهريار كثيرًا في حال شهرزاد، فالحقد أخذ منه حتى ثواني الحيرة تلك. أرادت شهرزاد أن يكون عرسها رائعًا بكل المقاييس، فأُطلقت الألعاب النارية ووزّعت العطايا والهدايا على الناس كي يذكورها بالخير بعد موتها. انفض الحفل البهيج، وساقها شهريار، الذي يعني اسمه؛ أمير البلاد إلى مخدع الموت، وهناك أسرّت له بطلبها الأخير والدموع تحجب عينيها، فأخبرت الملك عن أختها الصغيرة دنيازاد وأنّها تريد وداعها، فكان لها ما طلبت، فأرسل الملك بطلب أختها، فعانقتها وودّعتها، وغافلت الصغيرة الملك واختبأت تحت سرير الموت. وبعد أن قضى شهريار وطره من شهرزاد، خرجت أختها من تحت السرير، وطلبت من شهرزاد أن تزجي وقتهم بقصّة حتى يحين الصباح ويقطع السياف مسرور رأسها. فاستأذنت الملك بذلك، فأذن لها، وبدأت الليالي.
بعد هذا المنعطف تعود إلى الانتظام قصص ألف ليلة وليلة، كما عهدناها، إلّا أنّ السرّ ظلّ كامنًا في الثيمة الاختتامية لكلّ ليلة، والتي حفظنها عن ظهر قلب: “وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح”.
تعوّدنا أن نحلّل فعل الحكي الشهرزادي كطوق نجاة من الموت على يد شهريار، لكنّنا لم نتنبّه إلى معان القصة الأولى في الليالي التي تقصّ حكاية الأميرة التي خطفها المارد، وانتقامًا منه أصبحت تخونه مع كلّ عابر تلتقيه. إنّ ما رغبناه في دواخلنا العميقة، هو أن تشهر شهرزاد خنجرًا مسمومًا وتنتقم لأبويها ولكل الفتيات اللواتي قتلن في سرير بروكرست الشهرياري، لكنّها لم تفعل، لقد رفضت أن تصبح قاتلة منتقمة؛ وهذا هو الدور الخفي للقصّ الشهرزادي، بأن تنزع من مستمعيها وقرائها ونفسهًا أولًا، الرغبة الدفينة بالانتقام، على الرغم من أنّ كلّ الأسباب تدعم شرعيته. فلو قتل شهريار شهرزاد، أو ثأرت شهرزاد من شهريار، لم يكن لليالي من وجود ولنا أن نقيس ذلك على التاريخ البشري الذي لم يكن قابلًا للاستمرار لولا وجود القدرة على الصفح والمسامحة، ليس فقط تجاه الآخر، بل تجاه أنفسنا أولًا وأخيرًا.
باسم سليمان
خاص ضفة ثالثة

https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/revisions/2024/3/6/%D8%A7%D9%D9%D9%D8%A7%D9-%D8%A7%D9%D9%D8%A8%D8%A7%D8%AD-%D8%A7%D9%D8%B0%D9%8A-%D8%B3%D9%D8%AA%D8%AA-%D8%B9%D9%D9-%D8%B4%D9%D8%B1%D8%B2%D8%A7%D8%AF-%D9%D9%8A-%D9%D8%AF%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%D9%D8%B3%D8%A7%D9%D8%AD%D8%A9 https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/revisions/2024/3/6/%D8%A7%D9%D9%D9%D8%A7%D9-%D8%A7%D9%D9%D8%A8%D8%A7%D8%AD-%D8%A7%D9%D8%B0%D9%8A-%D8%B3%D9%D8%AA%D8%AA-%D8%B9%D9%D9-%D8%B4%D9%D8%B1%D8%B2%D8%A7%D8%AF-%D9%D9%8A-%D9%D8%AF%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%D9%D8%B3%D8%A7%D9%D8%AD%D8%A9
February 26, 2024
الشحّاذ بين يدٍ ممدودة وفلسفة وأدب – مقالي في ضفة ثالثة
باسم سليمان 26 فبراير 2024
كثيرًا ما يُشار إلى أنّ الحضارة الإنسانية بدأت عندما اكتشف الإنسان كيفية إشعال النار، ولكن الإنثروبولوجية مارغريت ميد أجابت عن سؤالٍ من إحدى طالباتها عن لحظة ظهور الحضارة البشرية بالقول: “إنّ أول علامة على الحضارة في الثقافة القديمة هي الدليل الذي وجدناه، وهو عبارة عن عظام لشخص أصيب بكسر في عظم الفخذ، وشفي منه، واستمر في الحياة”. لقد كانت العناية والمساعدة التي قُدمت لهذا الشخص، هي التي صنعت الفارق بين الحياة والموت؛ فحسّ المساعدة للقريب أو الغريب، هو اللبنة الأولى في أي تجمع بشري حضاري. إنّ البحث عن أسطورة تمجِّد هذه المساعدة سنجدها في الحضارة اليونانية، حيث تنكّر الإلهان زيوس وابنه هرمس بصورة شخصين مدقعي الفقر وغريبين عن المدينة، فلم يستقبلهما أحد من سكانها، إلّا عجوزين، قدّما لهما ما توفّر في بيتهما على الرغم من قلّته. كافأ الإلهان العجوزين بأنّ أنقذاهما من الطوفان الذي أغرق المدينة الفاسدة، ومن ثم حوّلاهما إلى شجرتي سنديان وزيزفون بعد موتهما. تكمن أهمية هذه الأسطورة في إعلاء شأن تقديم المساعدة إلى الآخر/ الغريب الخارج عن دائرة الأسرة والعشيرة والقبيلة والمدينة. وبذلك يعتبر استقبال المتسوّل أول انفتاح على الآخر لا يقوم على الزواج أو التجارة أو الحروب، بل على حسّ المساعدة الإنسانية البحتة التي لحظتها الأساطير وحكايا الشعوب التراثية والآداب بسبب أهميتها في التضامن المجتمعي الإنساني. وفي الوقت نفسه كشفت عن الذين يستغلّون هذه الميزة الإنسانية في مآربهم الخاصة حيث يزاحمون الفقراء والشحاذين الحقيقيين على لقمة عيشهم. لقد ابتدأت رواية فيكتور هوغو البؤساء بسرقة رغيف، عندما لم يجد جان فالجان من يتكرّم عليه بقطعة خبز تسكت جوعه. وليس غريبًا أن يكون الاستجداء متوجهًا دومًا نحو الطعام من قبل الشحاذين، كونه اللبنة الأساسية في قوام الحياة وأن يكون الطعام سببًا للثورة الفرنسية التي غيّرت وجه العالم.
إنّ مفهوم الضيافة اليوناني ومساعدة الغريب المتسوّل الذي نجده في الأسطورة السابقة سنلقاه في أوديسة هوميروس. عاد أوديسيوس/ عوليس من تيهه إلى بيته في إيثاكا ليجد الخطّابين يحاصرون زوجته على أمل أن تأتي أخبار موته. يتنكّر أوديسيوس كشحاذ ويدخل بيته، فيستقبله ابنه وخادمه ويقومان بواجب الضيافة من دون أن يتعرّفا عليه، أمّا الخطّابون، فيلومون الخادم على إدخال هذا المتسوّل. إنّ ثيمة التسوّل التي أدخلها هوميروس كانت من أجل تبيان فساد الخطابين الذين سعوا للزواج من بينيلوبي زوجة أوديسيوس؛ ومن ثم ليكون الموت جزاءهم على يد البطل الذي هزم طروادة بخدعة الحصان، فهم لا يستحقون أن يكونوا بدلًا من سيد البيت الذي يكرم الضيوف، سواء أكانوا ضيوفًا، أم مجرد شحاذين غرباء. لقد سقط خطابو بينيلوبي بالامتحان الأخلاقي الذي تعود جذوره إلى مفهوم التطهير اليوناني، فالشحاذ البائس يرمز إلى أيام السوء التي يجب أن تُدفع بالأفعال الجيدة، فاستقباله وإطعامه أي قبول استضافته يشير إلى الرضوخ للأقدار الإلهية مهما كانت، وقبولها بقلب صبور. يقوم المتسوّل بالدعاء لزيوس/ رب الضيافة ليكرم أهل البيت الذين استقبلوه وأطعموه ومن ثم يحمل عنهم أخطاءهم ويذهب. وكأنّ تقديم المساعدة للمتسوّل فعل تطهير يشبه الكاثرسيس/ التطهير الأرسطي. إنّ المغزى من مبدأ الضيافة في المجتمع يعني بأنّ أي شخصٍ في أية لحظة قد تتبدل أحواله إلى الأسوأ، وبالتالي يصبح إكرام الضيف الغريب تأمينًا مستقبليًا للمضيف يمنحه إياه المجتمع في حال وقوعه بضائقة تشبه وضع المتسوّل. وهذا ما نجده في مفهوم الكرم والضيافة عند العرب في الصحراء.
إنّ تدهور حال المجتمع سيؤدي إلى ظهور طبقة من المتسوّلين، كما سنرى لاحقًا في العصر العباسي، ففي المجتمع اليوناني الذي فتكت الحروب بمدنه كأثينا وإسبارطة، وبالتالي فقد ازدادت الفروق الطبقية بين سكانه؛ الأمر الذي أدّى إلى ظهور طبقة من الفقراء المتسولين، وإلى أن يخرج ناطق باسمهم يذمّ المجتمع الذي تركهم يسقطون في الفاقة والعوز والمرض. لذلك كان لا بدّ من ديوجين الفيلسوف الذي كان يحمل مصباحه في النهار بحثًا عن رجل! والرجل هنا؛ رجل العدالة الذي فُقد من اليونان.
نستطيع أن نعدّ الإغريقي ديوجين الكلبي أول فيلسوف شحاذ، فهو لم يكن ينتقد النظم الدينية والسياسية والاجتماعية للإغريق وفلاسفة اليونان فقط، بل كان يمتحن مجتمعه بالتسوّل أيضًا، هذا المجتمع الذي يتشدّق بالأخلاق والثروة وامتلاك العبيد. وعندما هرب منه عبده (مانيس) قال: “إذا كان مانيس يستطيع العيش من دون ديوجين، فلماذا لا يعيش ديوجين من دون مانيس”، وهو بمقولته هذه، كان يسخر من السادة الذين لا يستطيعون عمل شيء من دون عبيدهم. وإذا كان لنا أن نُرجع القصص الشعبية التي تحكي حكاية الملك الذي أصبح شحاذًا أو التقى بمتسوّلٍ والتي بموجبها سيستخلص الملك العبر العميقة من حياة الفاقة، فإنّ لقاء ديوجين بالإسكندر المقدوني منطلقها. يروي المؤرخ اليوناني بلوتارخ ما دار بين ديوجين والإسكندر ذي القرنين: “بينما كان ديوجين يسترخي في ضوء شمس الصباح، سأل الإسكندر، الذي كان سعيدًا بلقاء الفيلسوف الشهير، عمّا إذا كان هناك أي معروف يمكن أن يقدّمه له. فأجاب ديوجين: نعم، قف بعيدًا عن ضوء الشمس”. ثم أعلن الإسكندر: “إذا لم أكن الإسكندر، فإنّني أودّ أن أكون ديوجين. فأجاب ديوجين: لو لم أكن ديوجين، لكنت لا أزال أرغب في أن أكون ديوجين”. ما قصده ديوجين من ردّه على الإسكندر الذي كان في طريقه ليفتح العالم القديم، بأن هناك في بلده من لا يجد غير الشمس وسيلة للتدفئة وأنت أيّها القائد تحلم بأن تجعل العالم كاليونان! وفي رواية أخرى للمحادثة، وجد الإسكندر الفيلسوف ينظر بانتباه إلى كومة من العظام البشرية. قال ديوجين: “أنا أبحث عن عظام أبيك، ولكنّي لا أستطيع تمييزها عن عظام العبد الميت!”.
لقد كان ديوجين صوت الذين لا صوت لهم؛ من فقراء ومعوزين ومرضى وعبيد، فإن كان سقراط يريد أن يداوي رجال أثينا الأحرار، فإنّ ديوجين ذهب إلى من أسقطهم المجتمع اليوناني من حسابه وصدح بما يعتمل في صدورهم، حتى قال عنه أفلاطون بأنّه أشبه بسقراط، لكن بهيئة المجنون!
إنّ مقارنة بين سيرة حياة ديوجين وسير أدباء الكدية/ التسوّل في الأدب العربي وخاصة في كسرهم الأعراف نلحظها أيضًا لدى ديوجين الذي كان يطلق الريح في مجالس السادة الأحرار، ويتغوّط في المسارح، ويبول على من أهانوه… إلخ.
ليست اليونان هي الوحيدة في هذا المفهوم، بل الهند أيضًا، فالإله شيفا تنكّر في هيئة متسوّل؛ والمقصد من ذلك يكمن في أن الأفعال المثابة من الآلهة من الممكن أن تتخذ أشكالًا عديدة كإطعام أحد المتسوّلين. وفي الديانة البوذية نجد أن الكهنة كانوا يحملون أوعية الطعام ويطوفون على البيوت يستجدون طعامهم. ولم يشذّ عن هذا الأسلوب بوذا فقد قرع الأبواب مستجديًا طعامه قبل أن يجلس تحت شجرة التين الهندي وينال الاستنارة. هذا التقليد المجتمعي في مساعدة الفقراء والغرباء أكّدت عليه الديانات السماوية أيضًا. وفي الأعراف العربية كان مفهوم الكرم مرتبطًا باستضافة الغريب اللاجئ بحيث أصبح الفخر بهذا الأمر والمديح به أحد أهم التقاليد المجتمعية والشعرية في جاهلية العرب.
آل ساسان
ليس التسوّل مقصورًا على حضارة معينة، بل عمّ جميع الحضارات قديمًا وحديثًا، لكن ما يعنينا من ذكره هو اللحظة التي يتحوّل فيها المتسوّل إلى فيلسوف أو أديب! وفي حضارتنا العربية إبّان العصر العباسي بدأ ظهور أصحاب الكدية/ الشحاذون/ آل ساسان. والكدية مصطلح يعني الإلحاح في السؤال طلبًا للطعام والمال بواسطة الحيلة والدهاء، أمّا الشحاذ فيجد معناه: شحذ الجوع معدته إذا ضرمها وقواها على الطعام؛ وهذا يعني بأنّ الشحاذ يعني الجائع الذي كانت تطلق عليه العرب: الشحذان. بينما أتى مصطلح: (آل ساسان) من أسطورة ذكرها الطبري في تاريخه، بأنّ ساسان بعد أن أصبحت أخته من أبيهما (بهمن) الملكة، زهد بالملك وتنسّك في الجبال واتخذ لنفسه غنمًا. يأتي ارتباط هذه الأسطورة الذي ذكرها الطبري بالشحاذين وأصحاب الكدية، بأنّهم كانوا يعلّلون سؤالهم الناس عن المال والطعام، بأنّ السُبل قد تقطّعت بهم وهم قد كانوا في أحسن حال؛ لكن الزمان بدّل الأحوال، أو أنّهم نازحون بسبب حرب، أو جائحة، أو جفاف، وكأنّهم ساسان الذي فقد الملك. وقد افتخر الشاعر أبو دلف وكان من المكديين بنسبه إلى آل ساسان ونختار منه بعض الأبيات:
على أنّي من القوم الـ/ بهاليل بني الغرّ!
بني ساسان والحامي الـ/ حمى في سالف العصر
فنحن الناس كل النا/س في البر والبحر
لنا الدنيا بما فيها/ من الإسلام والكفر.
لقد تكاثر أهل الكدية في العصر العباسي، بعد أن ضعفت الخلافة، فساهمت عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية في ظهور هذه الفئة التي تتعيش على سؤال الناس الطعام والمال، عقب انتشار الفقر وقلّة الموارد، فأصبح إيجاد لقمة العيش من الصعوبة بمكان، فابتدع أهل الكدية أساليب عجيبة في إقناع الناس لمنحهم المال والطعام. وما يعنينا منها استخدام الآداب، لاستدرار عطف الناس، حتى أصبح لدينا ما يمكن تسميته بأدب المكديين.
وأمام تنامي هذه الفئة من البشر لحظهم الجاحظ وذكر بعضًا من أصنافهم وحيلهم في التكسب: الكاغاني: من يتصنّع الصرع. والمشعّب: من يحتال ليتسبّب بعاهة للطفل الصغير من عمى وما شابه، فيتسوّل به ونجد شبيهًا له في رواية “زقاق المدق” لنجيب محفوظ بشخصية المعلّم (زيطة) الذي كان يتسيّد الشحاذين ويصنع بهم العاهات التي يتسوّلون بموجبها. والمزيدي: من يدور بعدد قليل من الدراهم ويطلب من الناس أن يمنحوه فوقها ليشتري كفنًا. والمكّي: من يدّعي بأنّه كان ابن نعمة فأصبح ابن حاجة. والكان: هو رفيق القصاص الذي يستدرّ عواطف الناس الدينية بقصصه عن الأنبياء والرجال الصالحين، فيطلب منهم التبرّع له، وبعد انتهاء الجلسة يتقاسمان الغلّة. ولقد اهتم المؤرخ المسعودي والفيلسوف أبو حيان التوحيدي بذكر تراجم لهؤلاء الشعراء وغيرهم من الأدباء المكديين، كذلك كان الصاحب بن عبّاد يهتم بهم ويستقبلهم في قصره. ومن هؤلاء الأدباء والشعراء نذكر: أبو المخفّف، والأحنف العكبري، وأبو دلف وغيرهم.
لم يكن شعراء الكدية غافلين عن أغراض الشعر العربي من فخر ومدح ونسيب وإلى ما ذلك، لكنّهم أرادوا أن يكون شعرهم معبّرًا عن حالهم أولًا، فها هو الأحنف العكبري يعترف ساخرًا بأنّ الناس قد كشفوا حيله وخداعه وكذبه، فارتحل إلى الأرياف ليمارس ألاعيبه، ويتكسّب حيث لا يعرفه أحد، فيقول:
ولستُ مكتسبًا رزقًا بفلسفة/ ولا بشعرٍ ولكن بالمخاريق
والناس قد علموا أنّي أخو حيلٍ/ فلستُ أنفق إلّا في الرساتيق.
ومثله فعل أبو الشّمقمق عندما وصف بيته بطريقة تنضح سخرية لكنّها مبطنة بالألم:
برزتُ من المنازل والقباب/ فلم يعسرْ على أحدٍ حجابي
فمنزلي الفضاء وسقف بيتي/ سماء الله أو قطع السحاب
فأنت إذا أردت دخلت بيتي/ عليّ مسلمًا من غير باب
لأنّي لم أجد مصراع باب/ يكون من السحاب إلى السحاب.
وأمام واقعهم المرّ شرعوا بخرق كلّ محرم قد سنّته الأديان والأعراف، فما دام المجتمع قد أخرجهم من عماده، فلماذا يستبقون قوانينه، فاتجهوا إلى المجون والدعارة والسرقة والكذب وها هو أبو دلف الخزرجي لا يستحي من ذلك: (نترك شرح الأبيات للقارئ!) حيث يقول:
ومنّا كلّ صلّاج/ بكيذ وافر نكَر
قد استكفى بكفيه/ عن الثيب والبكر
فلا يخشى من الإثم/ ولا يُؤخذ بالمهر
ولا يحذر من حيضٍ/ ولا حمل على طهر.
وعندما يمدحون أحد القادة أو الأغنياء طمعًا في ماله، فسريعًا ما يتخطّون المدح إلى غايتهم في طلب المال أو الطعام والثياب. يقول أبو فرعون الساسي مادحًا وزير المأمون الحسن بن سهل:
الناس أشباهٌ كما قد مُثلوا/ وفيهم خير وأنت خيرهم
إليك أشكو صبية وأمهم/ لا يشبعون وأبوهم مثلهم.
لم يكن شعراء الكدية غافلين عن الأسباب التي قادتهم إلى التسوّل وذلّ السؤال وذلك بسبب فساد السلطة، لذلك يقول أحد شعراء الكدية أبو اليَنْبُعي:
ألا يا ملك الناس/ وخير الناس للناس
أتنهاني عن الناس/ فأغنيني عن الناس
وإلّا فدع الناس/ ودعني أسأل الناس.
لقد كان شعراء الكدية نماذج واقعية لكتّاب المقامات، فتم استلهامهم، فالأديب بديع الزمان الهمذاني جعل من شخصية أبي الفتح الإسكندراني تمارس الكدية في الكثير من المقامات أحيانًا عبر البلاغة وأحيانًا بلبس الثياب البالية أو حتى التنكر بإعاقة يستدر بها عطف الناس، حتى أنّه جعله ينطق بأحد أبيات شعراء الكدية أبي دلف الخزرجي:
ويحك هذا الزمان زور/ فلا يغرنّك الغرور
لا تلتزم حالة ولكن/ دُرْ بالليالي كما تدور.
وليس الهمذاني وحده من استلهم حياة المكديين، بل ابن ناقيا البغدادي بمقاماته، وابن الحريري أيضًا، فنلفى بطله السروجي في المقامة الدينارية، تارة يمدح الدينار وتارة يذمّه، وكل همّه أن يُفرج المستمعون عن دراهمهم ودنانيرهم له، فيمدح الدينار بالقول:
أكرم به أصفر راقت صفرته/ جواب آفاقٍ ترامت سفرته.
وبعد لحظة يذمّه:
تبًا له من خادع مماذق/ أصفر ذو وجهين منافق.
وهو إذ يتقلّب في سعيه، فلا تعرف له رأيًا؛ يتخذ من أشعار أبي دلف مبدأ، ما دام هذا الزمان يمضي بالزور. لم يكتف أصحاب الكدية بما قالوه من أشعار، بل حتى أنّهم أبدعوا لغة خاصة بهم، نسجوها من العربية والفارسية والرومية والسريانية والعامية، بحيث أصبحت كشيفرة بينهم لا يفهمها غيرهم. وقد سجل لنا الشاعر صفي الدين الحلّي في قصيدته الساسانية الكثير من مصطلحاتهم:
بتبريخ أدصاي وتربيخ مشتاني/ غدت سائر الأخشان والغرش تخشاني
خعَفتُ دوانيك العراكيس كلّها/ فشحّمني مَنْ كان قبل داصاني
وهابرتهم فيما استكافوا بفيسهم/ وبالقجم من تبكٍ ومرْد ومرقان(1).
ومعنى أبيات الحلي؛ بأنّ صاحب الكدية قد كشف أعداءه عبر حيله الذكية، حتى أصبحت العامة وكبارهم يخشوه. وأنّه قد حفظ الأشعار والأحاديث حتى أطعمه من كان يعاديه لبلاغته. وقاسم الأغنياء ما كسبوه بكذبهم من دراهم ودنانير.
في زمننا الحالي
لقد استطاع الشحاذون في الزمن العباسي وما تلاه إيجاد حالة أدبية تستحق أن تدرس وينظر فيها بعمق لقدرتها على كشف المسكوت عنه في التاريخ الرسمي.
أمّا في زمننا الحالي، فقد استخدم الأدباء وخاصة الروائيين والمسرحيين شخصية الشحاذ لتحميله مضامين ثورية واجتماعية وفلسفية.
كان للروائي النوبلي نجيب محفوظ عدّة وقفات مع الشحاذين ولربما أهمها في روايته “الشحّاذ”. لقد كان بطل الرواية عمر الحمزاوي يعيش قلقًا وجوديا اكتسح حياته بعد أن فشل في مواجهة الوجود. لقد كان يفتقر للمعنى في حياته، فلا يجده في الدين أو العلم أو الثقافة. استعار محفوظ ثيمة الشحاذ الذي يلهث وراء الماديات ليرينا نمطًا آخر من البشر تكمن مشكلتهم في إيجاد غاية لحياتهم، حتى ينتهي بهم الأمر إلى العزلة والوحدة وكأنّ المعنى هو العملة الوحيدة التي تكافئ الأسئلة الفلسفية والأخلاقية والوجودية، وبما أنّ عمر الحمزاوي قد افتقده، فهو يحاول أن يستجديه لكن لا معطٍ له، لأنّ المانح هو نفسه، ولأنّها خسرت معناها ظلّت يده ممدودة، لا أحد يلتفت إليها. كذلك فعل الروائي ألبير قصيري في روايته “شحاذون ونبلاء”. تتناول الرواية عدّة شخصيات من طبقات اجتماعية مختلفة، ليكشف لنا الصراعات الدائرة بينها وخاصة شخصية أستاذ التاريخ الذي يستقيل من وظيفته احتجاجًا على تزوير التاريخ، لينتهي متسولًا للحقيقة التي يتعلمّها من أحد الشحاذين، الذي لا يطلب شيئًا ولا يشكو، لكنّه شحاذ على باب الوجود.
تظهر وتغيب شخصية المتسوّل في الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية والفلسفية والأخلاقية، لكن معانيها كامنة في كلّ واحد منّا، فهناك من يتسوّل الحبّ ليسامح. وهناك من يتسوّل الحقد ليثأر. وهناك من يتسوّل وطنًا بعدما أضناه اللجوء والهجرة. وهناك من يتسوّل حرية بعدما أصبحت السجون بعدد العِباد. لكن أكثرنا شحاذو مال في زمن رأسمالي لا يعترف بأي معنى خارج الربح والخسارة، فهل لنا بنصيحة أبي دلف منجاة؟ لربما!:
ويحك هذا الزمان زور/ فلا يغرنّك الغرور
لا تلتزم حالة ولكن/ دُرْ بالليالي كما تدور.
الهوامش:
1- شرح المفردات: التبريخ: الكشف- أدصاي: أعدائي- التربيخ: تحسين وتحكيم الحيلة- مشتاني: حيلتي- الأخشان: العامة- الغرش: أكابر الغرباء- خعفت دوانيك: حفظ الأشعار والأحاديث- العراكيس: أكابر الغرباء- شحمني: أطعمني- داصاني: عاداني- هابر: قاسَم- استكاف: سلب سرق- الفيس: الكذب – القجم: الكلام المنمق- التبك: الفلس – المرد: الدراهم- المرقان: الدينار.

February 19, 2024
لا شيء أو كل شيء في فيلم سكوت الجديد: نابليون | باسم سليمان – مقاليفي موقع مجتمع
لا شيء أو كل شيء؛ في فيلم سكوت الجديد: نابليون
في فيلم (مملكة السماء/Kingdom of Heaven) يسأل الحاكم الصليبي للقدس صلاح الدين عمّ تعنيه القدس له؟ فيجيب صلاح الدين الذي لعب دوره الممثّل السوري غسان مسعود، بأنّ “القدس لا شيء!” ثم يستطرد، بأنّها: “كلّ شيء!” وعلى نفس المنوال يسأل نابليون(خواكين فينيكس) زوجته جوزفين (فانسيا كيربي)، في فيلم ريدلي سكوت الجديد: (نابليون/Napoleon لعام 2023) عمّ يمثّل لها؟ ويصرّ أن تعترف: “بأنّه كلّ شيء لها” وبالمقابل تقول له جوزفين بأنّه: “لا شيء من دونها”. هذه الثيمة نجدها كثيرًا في أفلام ريدلي سكوت، من فيلم الخيال العلمي (الفضائي/Alien) إلى (المجالد/Gladiator). وكأنّ منطوق سكوت يقوم على قاعدة حرف العطف: (أم) التي تفيد اللاتخيير، فإمّا كلّ شيء أو لا شيء، لا كما هو الحال في حرف العطف: (أو) التي تفيد التخيير بين أمرين، كليهما ممكن. وما يقصده، بأنّ الوجود الإنساني قائم دائمًا على حرف العطف (أم) فلا طريق ثالث بين خيارين مرّين، ينفي أحدهما الآخر. ومع ذلك كان سكوت دومًا يختار الطريق الثالث، لأنّ التخييل بأشكاله العديدة ومنها السينمائية يسمح بالخروج من الحدّين المتعارضين: (نعم – لا). ومن هذه الرؤية لم تعد الوثوقية التاريخية في فيلم مملكة السماء تعنيه إلّا بإطارها العام، كذلك في فيلمه نابليون الذي لقي انتقادات عديدة لتجاوزاته التاريخية، كقصف نابليون قمة أحد الأهرامات بالمدافع أو حضوره إعدام ماري أنطوانيت بالمقصلة مع شعرها الذي أبيضّ من هول الصدمة. تاريخيًا لم يقصف نابليون قمة أحد الأهرامات، ولم يحضر إعدام ماري أنطوانيت، حتى أنّ شعرها كان محلوقًا عندما قطعت المقصلة عنقها. هذا المنحى في صناعة التاريخ البشري القائم على حرف العطف (أم) عارضه سكوت في العديد من أفلامه، وأعاد الإشارة إليه من جديد، عندما سأل نابليون فتاتين في منفاه الأخير عن من أحرق موسكو؟ فأجابت الفتاتان، بأنّ القيصر الروسي فعل ذلك، فيعترض نابليون بالقول بأنّه: “هو من فعل ذلك”.
كلّ شيء:
كانت الثورة الفرنسية طوفانًا أعادت خلق فرنسا وأوروبا؛ وفي خضمّها حيث كان روبسبير يقطع رؤوس الملوك والأقطاعيين والثوّار أيضًا، منتجًا ما أسماه المفكّر تيري إيغلتون: (إرهاب الدولة) كان نابليون يفاوض لتكن له اليد العليا في قمع انتفاضة شعبية جديدة، بعدما استعاد أحد الموانئ من يد الإنكليز بهجوم انتحاري، لكنّه عبقري في الوقت ذاته. هكذا أمر جنوده بإطلاق نار المدافع على ما كان يُسمى بالفوضويين، محولًا إياهم إلى حساء من الأشلاء، كما فعلت قذيفة المدفع التي اخترقت صدر حصانه الأبيض قبل أن يستعيد الميناء من الإنكليز. وكعادة الأفلام الهوليوودية بالسّير على خطّين من عاطفة وحرب، وخاصة في الأفلام التاريخية، فكان من الضرورة أن تحضرجوزفين أرملة أحد الذين قطعت المقصلة رؤوسهم والتي قد تحجّجت بحملها لتنجو من السجن، لتصبح ثالثة الأثافي في حياة نابليون: (فرنسا- الجيش- جوزفين) لكن جوزفين ليست تخيّلًا، بل هي من صنعت بمكان ما حياة نابليون، الأصغر منها سنًا. يرينا سكوت جانبًا من شخصية نابليون كان مخفيًا وراء عظمة انتصاراته. وليس غريبًا عليه أن يقول عندما توّج كإمبراطور لفرنسا، بأنّه انتشل تاجها من الوحل ورفعه عاليًا. كان ضعفه أمام جوزفين التي لم تكن تخشى حتى خيانته، هو هذا الجانب الخفي، فهل رأى في العالم جوزفين أخرى، فطفق يثبت رجولته أمامها، فأخذ يفتح البلدان الأوروبية، معرّجًا إلى القارة الإفريقية من خلال مصر، ويغزو روسيا ساخرًا من الجنرال الأبيض/ الشتاء الروسي، الذي أذاق هتلر الهزيمة المرّة فيما بعد. وكأنّه يقول لها، بأنّ ضعفه أمامها ليس إلّا الحبّ وإن لم يكن، لكان عليها أن تواجه هذا القائد المغوار.
ما أراده سكوت هو إظهار الإنسان في نابليون في ضعفه قبل قوته وجبروته، فلم يكن معنيًا بالبحث بالخطوة المهمة التي وطّدها نابليون بالقانون المدني وإخراج فرنسا من هيمنة القانون الكنسي. ولا في الإبادة التي ارتكبها بحقّ السود في هاييتي، وإقرار العبودية فيها مع أنّ الثورة الفرنسية نصّت على رفض العبودية، قائلًا: “لا أستطيع إلا أن أكون في جانب الرجل الأبيض، لأنّني أبيض”. لقد كان نابليون قديسًا في نظر الفرنسيين، فبعد عودته من نفيه الأول إثر هزيمته في روسيا، حيث كان الجنود الذين أمروا بإيقافه يصطفون إلى جانبه، حتى أنّ الأساطير الشعبية تقصّ بأنّ نسبة حمل النساء الفرنسيات وولادتهم للذكور قد تضاعفت بعد عودته، ذلك الذي لم يستطع أن يجعل جوزفين تحمل منه! وكأن المخيّلة الشعبية تعوض فشله هذا. إنّ تفكيك الأسطورة هو ما تغياه سكوت وكأنّه يقتدي ببيتهوفن الذي سحب إهداء سيمفونيته الثالثة (البطولة) إلى نابليون بعدما فاجأ الجميع وتوّج نفسه أمبراطورًا على فرنسا بعدما كان يحكمها كقنصل أول، فلم ير بيتهوفن بعد ذلك في نابليون إلّا ديكتاتور آخر.
إنّ التركيز على الحياة العاطفية لنابليون كنقيض لحياته العسكرية، التي كان يُسقط فيها الجيوش كأنّها أوراق لعب، ليس إلّا لإظهار ضعف نابليون، حتى بعد تطليق جوزفين وزواجه من أخرى لينجب لفرنسا الوريث الشرعي، ظلّ يتمسّح بذكرى جوزفين، فيراسلها، فهي الوحيدة التي يأتمنها على هواجسه، حيث بدأ اليأس يتسلّل إليه، وبدأ الحظّ يعانده، وليجهش بالبكاء ختامًا، عندما علم بأنّ خادم جوزفين قد سرق رسائله لها بعد موتها، وباعها في السوق الفرنسي الذي يتشوّق للفضائح والنميمة الاجتماعية والسياسية، حيث لم يعد ذلك الجانب مخفيًا على أحد.
رويدًا بدا الذي حاز كلّ شيء بيده ينتهي إلى اللاشيء. لم تكن معركة واترلو إلّا القشّة التي قصمت ظهر البعير، حتى إنّ الإنكليز أصبحوا يتندّرون من الشخص الذي يعاني من سوء الحظ، بأنّه صادف واترلو. تنازل نابليون بعد هزيمة جيشه في واترلو عن العرش ونفي إلى جزيرة سانت هيلينا، بعد أن مات في حروبه ما يقارب من ستة ملايين شخص.
اللاشيء:
ليس غريبًا أن يقع اختيار سكوت على الممثّل خواكين فينيكس الذي أدّى دور الجوكر في فيلم تود فيليبس، حيث ينتقل شخص معدم ومريض نفسي ومتوحّد إلى شخصية الجوكر القادرة على إشاعة الفوضى واللانظام في مدينة غوثام، أي من حضيض الضعف إلى قمة القوة، ليصبح البطل السلبي في مواجهة الرجل الوطواط. لم تكن هذه هي المرّة الأولى لخواكين مع سكوت فقد كان له دور مهم في فيلم المجالد أمام راسل كرو. إذن هو الممثّل الأقدر على تمثل: (كل شيء أو لا شيء) حيث نجد وجه الطفل لنابليون عندما يكون مع جوزفين، بينما نجد القائد الرؤيوي الحازم في معاركه. ونلقى الثقة المطلقة بنفسه عندما يواجه الجنود الذين أمروا بالقبض عليه، ليتحول بلحظة في نظرهم من مطلوب للسلطة إلى أن يصبح هو السلطة ذاتها وفي المقابل تخلخل جوزفين تلك الشخصية كأنّها ريح عاصفة ونابليون خيال مآتة. هذا النسق من المعالجة السينمائية هي دأب ريدلي في تصوير شخصيات تخرج من العدم ومن ثم تعود إلى العدم لكن بين عدمين تغيّر هذه الشخصيات تاريخ الكرة الأرضية.
نابليون:
إنّ المخرج ريدلي سكوت المولع بالخروج عن الانساق الحدّية في تاريخ البشرية، ففي فيلمه: (الخروج/Exodus: Gods and Kings) يصوّر الإله يهوا بصورة طفل يتجلّى للنبي موسى ويأمره بقيادة اليهود من مصر إلى فلسطين وكأّنّه، يتهكّم بمكان ما! وفي نابليون نجد سخريته المبطّنة، فعندما أزاح نابيلون غطاء التابوت عن المومياء ليتأمّل صانعي تلك الحضارة التي قصف أحد أهراماتها بمدفعيته، احتاج إلى صندوق ليصعد عليه ليصبح وجهًا لوجه مع المومياء ولربما ذات الصندوق استخدمه في كل مرّة كان يمتطي فيها حصانه، تعبيرًا عن قصره. وهنا ليس الهدف السخرية من قصر قامة نابليون الطبيعي، بل من أسطرة البطل.
قلنا بداية عن الخطين اللذين سيّر عليهما سكوت حبكته السينمائية عن نابليون؛ أي العاطفة والحرب. وكعادة سكوت في أفلامه التاريخية الحربية أبدع في تصوير معارك نابليون، فحشود الجنود الضخمة المندفعة كالأمواج، والمدافع التي تنفث النار والدخان والأحصنة التي ترمح بميدان المعركة كانت من الروعة، حيث تخطف الأنفاس، كانت كلها تحت سيطرة سكوت وكأنّه نابليون آخر يصرخ: (أكشن – كت)، فهي بحدّ ذاتها تجربة سينمائية تستحق المشاهدة بجدارة، فكيف وقد ملّحت بسيرة حياة نابليون العاطفية، حيث لا الحبّ يفسد مهما كثرت خيانات العشاق، ولا الملح يفسد كما يقول السيد المسيح.
Napoleon فيلم للمخرج الإنكليزي ريدلي سكوت. سيناريو ديفيد سكاربا. تمثيل: خواكين فينيكس، فانيسا كيربي، لوديفين سانيي، بن مايلز، طاهر رحيم، إيان ماكنيس.

February 16, 2024
المأساة الفلسطينية من يترجِمها إلى الثقافة الشعبية الغربية؟ – مقالي في ضفة ثالثة – باسم سليمان
كان المأمون يدفع وزن الكتاب المترجم ذهبًا؛ وكلّ ذلك من أجل نقل علوم وحكم الشعوب الأخرى إلى الثقافة العربية، بهذه الطريقة هضم العرب النتاجات الفكرية والثقافية للآخر وطوّعوها إلى جانب الدين والسيف. إنّ استبصارًا بغايات الرقابة التي مُورست من قبل الجهات المسؤولة عن السوشيال ميديا من فيسبوك وانستغرام وغيرها، على نقل المجازر التي تُرتكب في غزة، بحيث أصبحت الخوارزميات تمنع نشر الأخبار المتعلقة بغزة مع أنّها، في الأعم الأغلب، مكتوبة باللغة العربية، فهي مقدّمة من عرب إلى عرب، فلماذا الخوف منها! يكشف لنا هذا الاستبصار عن حجم الخوف من إطلاع الآخر – الغربي- على التراجيديا الفلسطينية المستمرة منذ وعد بلفور. إنّ تواجد صلاحية ترجمة المكتوب إلى لغات المعمورة على السوشيال ميديا، هو ما أرعب تلك الجهات المسؤولة عنها. الأمر الثاني، تحوّلها إلى ترند وتصدّرها رأس قائمة الأخبار. وهذا سيجعل المتلقي الغربي(الفرد العادي) يطلع على حجم المجزرة ويشكل ضغطًا على حكوماته. الأمر الثالث، هو إجبار المستخدم العربي على التحايل على تلك الخوارزميات وكتابة الخبر بالرموز والصور أي إخراج منشوره عن إمكانية الترجمة. كلّ هذه الإجراءات القمعية، التي تناولت منابر الثقافة الشعبية تكشف الخبث الإعلامي المسيطر على وسائل الميديا الشعبية، بإدارة معركة لا تتم بالسلاح فقط، بل بالقوة الناعمة أيضًا.
جهد الإسرائيليون لجعل قانون معاداة السامية متواجدًا في كل مكان، مستندين إلى الهولوكوست إبّان حكم النازية، وما وقع على اليهود من فظائع في المعتقلات الألمانية مع غيرهم من الشعوب التي فتك بها النازيون، والتي غيّبت عن المشهد المريع وكأنّ التطهير العرقي لم يحدث إلّا لليهود! هذا القانون لا يتعلّق بالاعتداء الجسدي على إنسان آخر والذي بطبيعة الحال تطاله القوانين الجزائية، بل يرتبط بإدارة مصادر الثقافة الشعبية، فهو يتحكّم بالسينما والتلفزيون والكتب، وما شابهها من مصادر الثقافة الشعبية، وكلّ ذلك من أجل تسييد السردية التي يراها الصهاينة مناسبة لهم، خالطين السّمّ بالدسم بالعلن أو في الخفاء. وكلنا نتذكّر أغنية فرقة البوني إم (Rivers of Babyion) التي رقصنا عليها من الغرب إلى الشرق – دون أن نعرف معانيها- والتي تتكلّم عن السبي البابلي لليهود من فلسطين إلى بلاد ما بين النهرين. ليس مهمًا في الثقافة الشعبية التمحيص الأكاديمي عن صحّة هذا السبي من عدمه، مادامت قد قدّمت بشكل فني جيد. فمن يهتم عندما يقول عالم الآثار الإسرائيلي زئيف هرتزوغ: “إنّ الإسرائيليين لم يكونوا عبيداً- يقصد في مصر- ولم يتيهوا في الصحراء، كما أنّهم لم يدخلوا إلى أرض كنعان كأبطال منتصرين”. بل حتى أنّ علماء الآثار الإسرائيليين نخلوا أرض فلسطين ولم يجدوا إلّا أوهامهم. هذه الحقائق الأكاديمية تظلّ حبيسة أذهان المفكرين في دوائرهم الضيقة، ولا تؤثّر على الناخب العادي في الديمقراطيات الغربية.
يقول الكاتب (روالد دال) والذي صُنف كمعادٍ للسامية، لأنّه فضح ما يدور في كواليس الثقافة الشعبية في الغرب: “أنا بالتأكيد معادٍ لإسرائيل، وقد أصبحت معاد للسامية، بقدر ما تجد شخصًا يهوديًا في بلد آخر مثل إنكلترا يدعم الصهيونية بقوة. أعتقد أنّهم يجب أن يروا كلا الجانبين. لا يوجد أي ناشر كتب غير يهودي هنا. إنّهم يسيطرون على وسائل الإعلام-وهو أمر ذكي للغاية- ولهذا يتعيّن على رئيس الولايات المتحدة أن يقدّم كلّ شيء لإسرائيل”.
في مقال الكاتبة ميسون شقير في ضفة ثالثة بعنوان: “نظرة على خصوصية الحراك الأكاديمي الإسباني الداعم لفلسطين” تكشف لنا عن المفارقة المعرفية عن نوعية الاهتمام بما يحدث في غزة، فالاهتمام الأكاديمي سيظل ضمن الدائرة الضيقة حتى ولو تبنّاه الطلاب. سنقول الرمد خير من العمى، لكن كم يحتاج هذا النشاط الأكاديمي حتى ينتقل إلى الأوساط الشعبية؟ لننتقل إلى إحدى المؤثرات في الثقافة الشعبية، وهي الفلسطينية جيجي حديد التي أعلنت على انستغرام بأنّها ستتبرّع بعائداتها لعام 2022 لمساعدة غزة وأوكرانيا، فماذا فعلت مجلة فوغ المهتمة بالأزياء والمشاهير، لقد قامت بحذف فلسطين من الخبر المتعلّق بجيجي حديد. والسؤال الآن من يهتم بحذف تضامن الأكاديميين الإسبان مع غزة، لا أحد! لكن خبر جيجي حديد له أهميته في الثقافة الشعبية لذلك كثرت الاحتجاجات لما فعلته مجلة فوغ.
ما أقصده من هذه المقارنة أنّ تشي غيفارا بذاته يحتاج إلى الثقافة الشعبية. قام المصور الكوبي (البيرتو كوردا) بعمل روتيني، وذلك بالتقاط صورة لوزير الصناعة في الحكومة الجديدة التي تشكّلت بعد انهيار حكم (باتيستا) تحت ضربات ثوار (الغوار). هذا الوزير لم يكن إلا أرنستو تشي غيفارا. عنونت الصورة بـ (الثائر البطل) ولم تجد طريقها للنشر في جريدة الثورة الناطقة باسم حكومة الثوار بعد سقوط باتيستا واستلام فديل كاسترو الحكم في كوبا، بل علّقها المصوِّر على حائط الاستوديو لديه. ظلّت الصورة التي يظهر بها تشي بعينين تنظران إلى الأفق مع البيريه الحمراء والشعر المرسل واللحية غير المشذّبة حبيسة حائط الأستديو. وقد قيل فيما بعد كانت نظرته تحمل معاني الغضب والألم واستشراف حلمه الثوري بتحويل أمريكا اللاتينية إلى وحدة يتحقّق بها حلمه، عندما تجول في تلك البلاد على ظهر دراجة نارية.
غادر تشي وراء حلمه إلى الكونغو ومن ثم إلى بوليفيا وهناك قال لقاتليه:”أيّها الجبناء لن تقتلوا إلّا رجلًا” وبعدها انفجرت الصورة لتتحوّل إلى أيقونة لكلّ الحركات الثورية، حيث كرستها ثورة 68 الطلابية في فرنسا ولعب اليساري الإيطالي (جيانجياكو فليترنيللي) دورًا محوريًا في انتشار الصورة.
تكاد تكون هذه الصورة هي الصورة الأشهر على الإطلاق من حيث إعادة الطباعة والقولبة. ولقد أضيفت إليها محاميل أخرى وإن كانت ثيمتها، الثورة ضد المؤسسة، فقد استخدمها الجيل الذي جاء بعد الحرب العالمية الثانية من دون تمحيص لمن تعود هذه الصورة ولا لأسباب التقاطها بل كانت لديه معلومات قليلة عن ثائر يُدعى تشي، ثار ضد الديكتاتور باتيستا وهذا كاف لتتبنّاها الحركات الثورية، فلقد غدت رمزًا للتمرّد بشكل مطلق. مجرد صورة أصبحت أهم من كل الأدبيات الأكاديمية الثورية وأكثر تأثيرًا منها بألف مرة.
لدينا في مواجهة الغرب، المفكّر الأكاديمي إدوارد سعيد، والذي فكّك الفكر الغربي الاستعماري بعمق وقوة، عبر أدواته ذاتها، فنال الاحترام والتبجيل، لكن لنذهب لمن وصفهم أمبرتو إيكو بفيالق الحمقى، فهل يعرفون إدوارد سعيد وفكره، إذا كان فكره بالنسبة إلينا قد غاب وانتهى. يقول إيكو، بأنّ مواقع مثل تويتر وفيسبوك: “تمنح حقّ الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلّمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فورًا. أمّا الآن، فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنّه غزو البلهاء” هؤلاء البلهاء، هم قوة ضاربة، لأنّهم المستهلكون- حجر العقد – في النظام الرأسمالي الغربي، لذلك يطوّعهم، وفي الوقت نفسه، يظهر بأنّه المستجيب لطلباتهم. إنّ مظاهرة صغيرة في بلد غربي تقلق الصهيونية العالمية ورأس المال الغربي أكثر بألف مرة من مظاهرة تمتد من الماء إلى الماء في بلادنا العربية. ولنتذكّر أنّ الديمقراطية اليونانية، هي من أعدمت سقراط، فقط لأنّ أعداءه سيطروا على الرأي العام في المحكمة.
ولدينا أيضًا، الشاعر الكبير محمود درويش صاحب: “سجل أنا عربي” والسؤال إلى كم لغة ترجمت تلك القصيدة؟ وكم عدد الذين يعرفونها من الأكاديميين الغربيين؟ لا أقول الناس العاديين في الغرب، كما نعرف نحن شعر بودلير أو رامبو!
هذا ليس استهانة بتلك الأسماء، التي قامت بدورها كما يجب وأكثر، لكن أدوات الحروب تختلف من زمن إلى آخر. ومن هنا، نتساءل عمّا قمنا به من أجل سرد المأساة الفلسطينية للشعوب الغربية، هل هناك من فيلم عربي، أو فلسطيني، أو رواية، أو أغنية لها تأثير في الغرب، بالتأكيد لا يوجد! ولنتخيل قليلًا، ألّا يحقّ أن يكون حنظلة بطلًا عالميًا، أو ثيمة عالمية، كما حدث بمسلسل: “لاكاسا دي بابل” لوجه الرسام السوريالي سلفادور دالي الذي أصبح رمزًا للحرية والتمرّد على النظام الرأسمالي. نحن لا نقول، بأنّه لا يوجد ترجمات موجّهة للثقافة الشعبية الغربية، لكنّ المدقّق يكتشف بأنّ أكثر ما ترجم يخدم وجهة النظر الاستشراقية، فما نفعه لقضايانا المصيرية.
في نهاية هذا المقال، أقول: ماذا لو كانت أغنية: “الغضب الساطع” لفيروز لها نسخة بإحدى اللغات الأجنبية الرئيسية! ماذا لو كانت روايات غسان كنفاني مترجمة إلى كل لغات العالم الغربي! ماذا لو كانت أغاني مرسيل خليفة مترجمة أيضًا! وماذا لو كان لدينا مثل الرسام الغرافيتي: “بانسكي” ليرسم في شوارع حي هارلم في نيويورك حنظلة مديرًا ظهره لكل هذا الوجود العفن! وماذا لو كان لدينا مأمونًا يدفع بالذهب لتترجم فجيعتنا الصامتة إلى الغرب!
باسم سليمان
خاصة ضفة

https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/herenow/2024/2/16/%D8%A7%D9%D9%D8%A3%D8%B3%D8%A7%D8%A9-%D8%A7%D9%D9%D9%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%D9%8A%D8%A9-%D9%D9-%D9%8A%D8%AA%D8%B1%D8%AC%D9%D9%D8%A7-%D8%A5%D9%D9-%D8%A7%D9%D8%AB%D9%D8%A7%D9%D8%A9-%D8%A7%D9%D8%B4%D8%B9%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%D8%BA%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9 https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/herenow/2024/2/16/%D8%A7%D9%D9%D8%A3%D8%B3%D8%A7%D8%A9-%D8%A7%D9%D9%D9%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%D9%8A%D8%A9-%D9%D9-%D9%8A%D8%AA%D8%B1%D8%AC%D9%D9%D8%A7-%D8%A5%D9%D9-%D8%A7%D9%D8%AB%D9%D8%A7%D9%D8%A9-%D8%A7%D9%D8%B4%D8%B9%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%D8%BA%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9
باسم سليمان's Blog
- باسم سليمان's profile
- 24 followers
