لا شيء أو كل شيء في فيلم سكوت الجديد: نابليون | باسم سليمان – مقاليفي موقع مجتمع

لا شيء أو كل شيء؛ في فيلم سكوت الجديد: نابليون

في فيلم (مملكة السماء/Kingdom of Heaven) يسأل الحاكم الصليبي للقدس صلاح الدين عمّ تعنيه القدس له؟ فيجيب صلاح الدين الذي لعب دوره الممثّل السوري غسان مسعود، بأنّ “القدس لا شيء!” ثم يستطرد، بأنّها: “كلّ شيء!” وعلى نفس المنوال يسأل نابليون(خواكين فينيكس) زوجته جوزفين (فانسيا كيربي)، في فيلم ريدلي سكوت الجديد: (نابليون/Napoleon لعام 2023) عمّ يمثّل لها؟ ويصرّ أن تعترف: “بأنّه كلّ شيء لها” وبالمقابل تقول له جوزفين بأنّه: “لا شيء من دونها”. هذه الثيمة نجدها كثيرًا في أفلام ريدلي سكوت، من فيلم الخيال العلمي (الفضائي/Alien) إلى (المجالد/Gladiator). وكأنّ منطوق سكوت يقوم على قاعدة حرف العطف: (أم) التي تفيد اللاتخيير، فإمّا كلّ شيء أو لا شيء، لا كما هو الحال في حرف العطف: (أو) التي تفيد التخيير بين أمرين، كليهما ممكن. وما يقصده، بأنّ الوجود الإنساني قائم دائمًا على حرف العطف (أم) فلا طريق ثالث بين خيارين مرّين، ينفي أحدهما الآخر. ومع ذلك كان سكوت دومًا يختار الطريق الثالث، لأنّ التخييل بأشكاله العديدة ومنها السينمائية يسمح بالخروج من الحدّين المتعارضين: (نعم – لا). ومن هذه الرؤية لم تعد الوثوقية التاريخية في فيلم مملكة السماء تعنيه إلّا بإطارها العام، كذلك في فيلمه نابليون الذي لقي انتقادات عديدة لتجاوزاته التاريخية، كقصف نابليون قمة أحد الأهرامات بالمدافع أو حضوره إعدام ماري أنطوانيت بالمقصلة مع شعرها الذي أبيضّ من هول الصدمة. تاريخيًا لم يقصف نابليون قمة أحد الأهرامات، ولم يحضر إعدام ماري أنطوانيت، حتى أنّ شعرها كان محلوقًا عندما قطعت المقصلة عنقها. هذا المنحى في صناعة التاريخ البشري القائم على حرف العطف (أم) عارضه سكوت في العديد من أفلامه، وأعاد الإشارة إليه من جديد، عندما سأل نابليون فتاتين في منفاه الأخير عن من أحرق موسكو؟ فأجابت الفتاتان، بأنّ القيصر الروسي فعل ذلك، فيعترض نابليون بالقول بأنّه: “هو من فعل ذلك”.

كلّ شيء:

كانت الثورة الفرنسية طوفانًا أعادت خلق فرنسا وأوروبا؛ وفي خضمّها حيث كان روبسبير يقطع رؤوس الملوك والأقطاعيين والثوّار أيضًا، منتجًا ما أسماه المفكّر تيري إيغلتون: (إرهاب الدولة) كان نابليون يفاوض لتكن له اليد العليا في قمع انتفاضة شعبية جديدة، بعدما استعاد أحد الموانئ من يد الإنكليز بهجوم انتحاري، لكنّه عبقري في الوقت ذاته. هكذا أمر جنوده بإطلاق نار المدافع على ما كان يُسمى بالفوضويين، محولًا إياهم إلى حساء من الأشلاء، كما فعلت قذيفة المدفع التي اخترقت صدر حصانه الأبيض قبل أن يستعيد الميناء من الإنكليز. وكعادة الأفلام الهوليوودية بالسّير على خطّين من عاطفة وحرب، وخاصة في الأفلام التاريخية، فكان من الضرورة أن تحضرجوزفين أرملة أحد الذين قطعت المقصلة رؤوسهم والتي قد تحجّجت بحملها لتنجو من السجن، لتصبح ثالثة الأثافي في حياة نابليون: (فرنسا- الجيش- جوزفين) لكن جوزفين ليست تخيّلًا، بل هي من صنعت بمكان ما حياة نابليون، الأصغر منها سنًا. يرينا سكوت جانبًا من شخصية نابليون كان مخفيًا وراء عظمة انتصاراته. وليس غريبًا عليه أن يقول عندما توّج كإمبراطور لفرنسا، بأنّه انتشل تاجها من الوحل ورفعه عاليًا. كان ضعفه أمام جوزفين التي لم تكن تخشى حتى خيانته، هو هذا الجانب الخفي، فهل رأى في العالم جوزفين أخرى، فطفق يثبت رجولته أمامها، فأخذ يفتح البلدان الأوروبية، معرّجًا إلى القارة الإفريقية من خلال مصر، ويغزو روسيا ساخرًا من الجنرال الأبيض/ الشتاء الروسي، الذي أذاق هتلر الهزيمة المرّة فيما بعد. وكأنّه يقول لها، بأنّ ضعفه أمامها ليس إلّا الحبّ وإن لم يكن، لكان عليها أن تواجه هذا القائد المغوار.

ما أراده سكوت هو إظهار الإنسان في نابليون في ضعفه قبل قوته وجبروته، فلم يكن معنيًا بالبحث بالخطوة المهمة التي وطّدها نابليون بالقانون المدني وإخراج فرنسا من هيمنة القانون الكنسي. ولا في الإبادة التي ارتكبها بحقّ السود في هاييتي، وإقرار العبودية فيها مع أنّ الثورة الفرنسية نصّت على رفض العبودية، قائلًا: “لا أستطيع إلا أن أكون في جانب الرجل الأبيض، لأنّني أبيض”. لقد كان نابليون قديسًا في نظر الفرنسيين، فبعد عودته من نفيه الأول إثر هزيمته في روسيا، حيث كان الجنود الذين أمروا بإيقافه يصطفون إلى جانبه، حتى أنّ الأساطير الشعبية تقصّ بأنّ نسبة حمل النساء الفرنسيات وولادتهم للذكور قد تضاعفت بعد عودته، ذلك الذي لم يستطع أن يجعل جوزفين تحمل منه! وكأن المخيّلة الشعبية تعوض فشله هذا. إنّ تفكيك الأسطورة هو ما تغياه سكوت وكأنّه يقتدي ببيتهوفن الذي سحب إهداء سيمفونيته الثالثة (البطولة) إلى نابليون بعدما فاجأ الجميع وتوّج نفسه أمبراطورًا على فرنسا بعدما كان يحكمها كقنصل أول، فلم ير بيتهوفن بعد ذلك في نابليون إلّا ديكتاتور آخر.

إنّ التركيز على الحياة العاطفية لنابليون كنقيض لحياته العسكرية، التي كان يُسقط فيها الجيوش كأنّها أوراق لعب، ليس إلّا لإظهار ضعف نابليون، حتى بعد تطليق جوزفين وزواجه من أخرى لينجب لفرنسا الوريث الشرعي، ظلّ يتمسّح بذكرى جوزفين، فيراسلها، فهي الوحيدة التي يأتمنها على هواجسه، حيث بدأ اليأس يتسلّل إليه، وبدأ الحظّ يعانده، وليجهش بالبكاء ختامًا، عندما علم بأنّ خادم جوزفين قد سرق رسائله لها بعد موتها، وباعها في السوق الفرنسي الذي يتشوّق للفضائح والنميمة الاجتماعية والسياسية، حيث لم يعد ذلك الجانب مخفيًا على أحد.

رويدًا بدا الذي حاز كلّ شيء بيده ينتهي إلى اللاشيء. لم تكن معركة واترلو إلّا القشّة التي قصمت ظهر البعير، حتى إنّ الإنكليز أصبحوا يتندّرون من الشخص الذي يعاني من سوء الحظ، بأنّه صادف واترلو. تنازل نابليون بعد هزيمة جيشه في واترلو عن العرش ونفي إلى جزيرة سانت هيلينا، بعد أن مات في حروبه ما يقارب من ستة ملايين شخص.

اللاشيء:

ليس غريبًا أن يقع اختيار سكوت على الممثّل خواكين فينيكس الذي أدّى دور الجوكر في فيلم تود فيليبس، حيث ينتقل شخص معدم ومريض نفسي ومتوحّد إلى شخصية الجوكر القادرة على إشاعة الفوضى واللانظام في مدينة غوثام، أي من حضيض الضعف إلى قمة القوة، ليصبح البطل السلبي في مواجهة الرجل الوطواط. لم تكن هذه هي المرّة الأولى لخواكين مع سكوت فقد كان له دور مهم في فيلم المجالد أمام راسل كرو. إذن هو الممثّل الأقدر على تمثل: (كل شيء أو لا شيء) حيث نجد وجه الطفل لنابليون عندما يكون مع جوزفين، بينما نجد القائد الرؤيوي الحازم في معاركه. ونلقى الثقة المطلقة بنفسه عندما يواجه الجنود الذين أمروا بالقبض عليه، ليتحول بلحظة في نظرهم من مطلوب للسلطة إلى أن يصبح هو السلطة ذاتها وفي المقابل تخلخل جوزفين تلك الشخصية كأنّها ريح عاصفة ونابليون خيال مآتة. هذا النسق من المعالجة السينمائية هي دأب ريدلي في تصوير شخصيات تخرج من العدم ومن ثم تعود إلى العدم لكن بين عدمين تغيّر هذه الشخصيات تاريخ الكرة الأرضية.

نابليون:

إنّ المخرج ريدلي سكوت المولع بالخروج عن الانساق الحدّية في تاريخ البشرية، ففي فيلمه: (الخروج/Exodus: Gods and Kings) يصوّر الإله يهوا بصورة طفل يتجلّى للنبي موسى ويأمره بقيادة اليهود من مصر إلى فلسطين وكأّنّه، يتهكّم بمكان ما! وفي نابليون نجد سخريته المبطّنة، فعندما أزاح نابيلون غطاء التابوت عن المومياء ليتأمّل صانعي تلك الحضارة التي قصف أحد أهراماتها بمدفعيته، احتاج إلى صندوق ليصعد عليه ليصبح وجهًا لوجه مع المومياء ولربما ذات الصندوق استخدمه في كل مرّة كان يمتطي فيها حصانه، تعبيرًا عن قصره. وهنا ليس الهدف السخرية من قصر قامة نابليون الطبيعي، بل من أسطرة البطل.

قلنا بداية عن الخطين اللذين سيّر عليهما سكوت حبكته السينمائية عن نابليون؛ أي العاطفة والحرب. وكعادة سكوت في أفلامه التاريخية الحربية أبدع في تصوير معارك نابليون، فحشود الجنود الضخمة المندفعة كالأمواج، والمدافع التي تنفث النار والدخان والأحصنة التي ترمح بميدان المعركة كانت من الروعة، حيث تخطف الأنفاس، كانت كلها تحت سيطرة سكوت وكأنّه نابليون آخر يصرخ: (أكشن – كت)، فهي بحدّ ذاتها تجربة سينمائية تستحق المشاهدة بجدارة، فكيف وقد ملّحت بسيرة حياة نابليون العاطفية، حيث لا الحبّ يفسد مهما كثرت خيانات العشاق، ولا الملح يفسد كما يقول السيد المسيح.

Napoleon فيلم للمخرج الإنكليزي ريدلي سكوت. سيناريو ديفيد سكاربا. تمثيل: خواكين فينيكس، فانيسا كيربي، لوديفين سانيي، بن مايلز، طاهر رحيم، إيان ماكنيس.

8A%D9%D9-%D8%B3%D9%D9%D8%AA-%D8%A7%D9%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF-%D9%D8%A7%D8%A8%D9%D9%8A%D9%D9-%D8%A8%D8%A7%D8%B3%D9-%D8%B3%D9%D9%8A%D9%D8%A7%D9?fbclid=IwAR0TrN8aj0bDJnRT5YKzChK6L3nJ7YGK8V_xnnyctvVaA2Rcgi6wwpvc_jE

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 19, 2024 04:47
No comments have been added yet.


باسم سليمان's Blog

باسم سليمان
باسم سليمان isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow باسم سليمان's blog with rss.