باسم سليمان's Blog, page 3
February 20, 2025
الضجيج عتبة المعنى الأولى
باسم سليمان 20 فبراير 2025
عادة ما يُعرف الضجيج، بأنّه صوت غير مرغوب فيه، أكان عاليًا كهدير الرعد أو مجرد همسٍ بين شخصين، أثناء حضور حفلة موسيقية كلاسيكية، أمّا في موسيقى الروك، فالتعبير بالصراخ يعتبر أمرًا طبيعيًا ومحبذًا؛ بهذا المنحى لا يعدّ الضجيج شيئًا موضوعيًا بشكل كامل حتى ينطبق عليه التعريف، بأنّه صوت غير مرغوب فيه دومًا، ففي الكثير من الأحيان يكون الحكم على الضجيج من منطق ذاتي ونسبي. إنّ الضجيج صوت، والصوت عبارة عن اهتزازات، تقاس تردداته بـ(الهرتز/ *Hz) والإنسان يسمع ما بين (20 هرتز) و (20000 هرتز) وتعتبر الترددات التي تقع تحت 20 هرتز، بأنّها تحت صوتية لا تسمع، فيما التي تقع فوق 20000 هرتز بأنّها فوق صوتية، كذلك لا تسمع. تحسب شدّة الصوت بوحدة تسمى (الديسيبل/*dB) والإنسان يسمع من الواحد إلى 140 ديسيبل، لكن الأنسب له ما بين 60 و90 ديسيبل. أمّا ما فوق التسعين، فتتعرض الآذان للضرر، وكلّما زادت الشدّة أنتجت أضرارًا على مستوى الجسد كاملًا وصولًا للموت، لكن الضجيج كصوت مسموع، ليس حالة فيزيائية فقط، بل ذاتية وموضوعية، فردية ومجتمعية، مرتبطة بالأسطورة والثقافة وحتى الإيديولوجيا.
الضجيج مبتدأ الخلق وقد يكون منتهاه:
قبل (13.8) مليار سنة ضوئية حدث (الانفجار الكبير/Big Bang) الذي تولّد عنه الكون، الذي نعرفه الآن؛ هذا ما اتفق عليه العلماء إلى الآن كتفسير معقول لوجود الكون، لكن الأساطير قالت ذلك بطريقة أخرى! تسرد لنا الأساطير والأديان، بالأعم الأغلب من محكياتها، بأنّ الإنسان خُلق من تراب، لكن خلف الأكمة حكاية أخرى. تعدّ أساطير بلاد ما بين النهرين من أقدم السرديات البشرية التي ترى بالضجيج أحد أسباب الخلق! في ملحمة الخلق البابلية (إنوما إليش/ عندما في الأعالي) كانت الإلهة الأم (تيامات/تعامة) تمثل الماء المالح البدئي، بينما زوجها (إبسو)إله الماء الحلو، وقد كانا ممتزجين في تطامن وسكون، إلّا أنه تولّد عن هذا الاتحاد العديد من الآلهة، كان من بينها إله الماء العذب (إنكي). لقد ضج الوجود بصخب الآلهة الجديدة، فقرر إبسو القضاء عليها، ليعود إلى حالة السكون السابقة، فقام إنكي بقتله وبنى عرشه عليه. وهنا تثور تعامة وتقرر القضاء على أبنائها/ الآلهة الجدد، فتتزوج قائد جيشها الإله (كنغو) وتستعد للمعركة ضد الإله مردوخ الذي اختارته الآلهة الأبناء لقتالها. ينتصر مردوخ عليها، ومن جسدها يصنع الأرض والبحار والسماء، أمّا قائد جيشها، فيأخذ دماءه بعد ذبحه ويخلطها بالطين، ليخلق الإنسان.
ليست الأسطورة البابلية هي الوحيدة التي ذكرت الضجيج كأحد الأسباب غير المباشرة لخلق الإنسان أو تنظيم حياته، فهناك تشابه بينها وبين الأسطورة اليابانية. كانت الشمس هي سيدة الكون في المخيال الأسطوري الياباني وعندما اشتكت لها الآلهة تأذّيها من الضجيج الذي يحدثه الإنسان على الأرض، أرسلت حفيدها (نينيجي) إلى الأرض حاملًا هدايا لهم ونعمًا كثيرة ومن تلك اللحظة أصبح الإنسان الياباني تحت رعاية الشمس وقوانينها. وكما كان الضجيج في الأسطورة مستصغر الشرر لبداية خلق الإنسان، كان في المقابل أحد الأسباب التي ستسبب دماره. تذكر لنا أساطير بلاد ما بين النهرين في ملحمة (أتراحاسس) المعادل الأسطوري للنبي (نوح) بأنّ الإله (إنليل) قد غضب من ضجيج البشر: “ضجيج البشر لم يعد يطاق- صخبهم يفقدني نومي- اعطوا الأمر كي يتفشى فيهم مرض الطاعون” لقد كان مقصد الإله إنليل أن يقل عدد البشر، وذلك بأن يصيبهم بالطاعون، لكنّ إله الماء العذب (أيا/ إنكي) يتدخل لإعادة الناس إلى الصواب والإيمان، فنجاهم من الطاعون. ولا تختلف سردية النبي نوح عن ذلك، فقد ضج البشر بكفرهم ممّا توجب إغراقهم. وعلى نفس المنوال نجد أن عقاب الثموديين الذين عقروا ناقة النبي صالح كان بــ”الصيحة” وقد فسّرت بأنّها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء في الأرض؛ هكذا حدّدت الأساطير والديانات السماوية منشأ البشر وموتهم بصوت عال جدًا/ الضجيج!
تاريخ الضجيج:
قال هوميروس في إلياذته، بأنّ الكلمات كالطيور تحلق بعيدًا ما إن تنطق من الشفاه، كذلك الضجيج، فإذا الكلمات قيدت بالكتابة، فقليلًا ما ذكر الضجيج في الكتابة وظلّ تجربة شفوية قليلًا ما كتبت. كانت استعارة هوميروس مجازية إلى حدٍّ ما، إلى أن تم اختراع إشارات مورس ومن بعدها الهاتف والراديو وغير ذلك من وسائل الاتصال، لكن الطبول الأفريقية التي كانت تُسمّى (الطبول الناطقة) كانت تستخدم منذ القدم لنقل الكلمات عبر إيقاعها الضاج عبر الغابات والسهول وإلى مسافات بعيدة. عندما استمع المبشّرون الأوائل في أفريقيا وتجار العبيد لضجيج الطبول خمّنوا بأنّها أصوات أعمال سحرية شيطانية أو دعوة للحرب، لكن تلك الطبول كانت تنقل دعوات للحذر والهرب من هؤلاء التجّار. يصنع الطبل الناطق من جذع شجرة وهو مجوّف؛ في قسم منه يكون ثخينًا وفي الآخر يكون رقيقًا، وعبر ضربه بعصاتين يصدر الإيقاع الضاج، الذي نستطيع أن نرمّزه وفق التدوين الموسيقي (دم – تك) وكأنّه إشارة مورس (-، ./ الشرطة والنقطة) وعبر التناوب والدمج بين (الدم والتك) كانت الكلمات المشفرة تطير في الهواء، فمن يعرف رمزيتها، يسمعها كلغة واضحة المعنى، ومن يجهلها يرى فيها ضجيجًا شيطانيًا.
تنسب صناعة الضجيج إلى الإنسان، ألم يكن هو نتاجًا للضجيج الذي استعر في بدء الكون. إنّ الإنسان بقدر ما هو ميّال إلى الهدوء، إلّا أنّه أكثر الكائنات ضجيجًا، فتجمعاته في الصيد والزراعة والحروب كانت مكانًا للضجيج، لكنّها كانت مؤقتة، ولم يصبح الضجيج صفة للإنسان إلّا في لحظة تشكّل المدينة. ذكر الضجيج كنتاج لتجمع الإنسان في التاريخ، إلّا أنّه مع بدء الحقبة الصناعية بمعاملها ومراجلها وأعداد العمال الهائلة أصبحت المدينة البشرية رمزًا للضجيج، وقد كان الطبيب الأسكتلندي (دان ماكنزي) أول من ذكر هذه الصفة للمدينة البشرية في قصته الرمزية (مدينة الضجيج): “إنّ الطبيعة كانت هادئة ومريحة؛ وفي المقابل اتسمت الحضارة الحديثة بالضجيج، وكلما تطوّرت الحضارة كانت أكثر ضجيجًا” وعلى نفس المنوال قال العالم الموسيقي الفرنسي (بيير هنري مَري شيفر) في سبعينيات القرن المنصرم: “لقد تلاشت أصوات الطبيعة بتأثير تشويش الآلات الصناعية والمنزلية”. قد نحسب أنّ الضجيج الصناعي، هو ما دفع هؤلاء العلماء إلى إعلان أن الإنسان لا يلوث الطبيعة فقط بالمواد المادية بل بالأصوات، لكن الضجيج، ليس صفة لهذا الزمان، وإنّما متجذّر في تاريخ المدينة البشرية. كان الشاعر الروماني (جوفينال) الذي عاش ما بين القرن الأول والثاني ميلادي من أول من وصف ضجيج مدينة روما الذي يبعث على القلق والاضطراب، لكنّه رآه دليلًا على الحضارة العظيمة لروما. وجاراه في هذا الوصف الفيلسوف الروماني (سينيكا) الذي سأم ضجيج روما وعدّه نوعًا من التعذيب، فقرر مغادرتها، على الرغم من معتقده الرواقي الذي يدعوه إلى تحمّل مصاعب الحياة. هذه الاحتجاجات على الضجيج أخذت في الاعتبار في بناء المدن الحديثة، حيث ترتفع قيمة المدينة بقدر ما تستطيع أن تخفّف من ضجيجها، لذلك أصبح بناء البيوت يأخذ بالاعتبار إمكانية حجب الضجيج، وأنشئت الحدائق العامة كرئات للمدينة، ليس لتنظيف الهواء فقط، وإنّما للسماح لسكانها باستعادة هدوء الطبيعة.
على الرغم من هذا الجانب السلبي للضجيج، إلّا أنّه في الثورة الفرنسية أبان عن جانب مهم، فالثوار كان لهم ضجيجهم، وأتباع الملك كان لهم ضجيجهم المقابل، لينتهي الضجيج إلى مبادئ الثورة الفرنسية: الحرية والمساواة والإخاء. ظهر التعامل مع الآثار المرضية للضجيج في الحرب العالمية الأولى، فالكثير من الجنود والضباط ظهرت عليهم أعراض صدمات نفسية نتيجة أصوات القذائف والانفجارات المتواصلة على الجبهات، ممّا استدعى افتتاح مراكز للتأهيل الصحي والنفسي لهم بسبب الضجيج.
الأصل في الأشياء الضجيج:
لا يوجد سكون إلّا بالمعنى المجازي، فكلّ الأشياء في هذا الكون تصدر اهتزازات مسموعة وغير مسموعة، فالضوضاء تتخلّل وتحيط بكل شيء، لكن ما يحدّد الضجيج، هو علاقة الكائن البشري معه. لقد حاول ديكارت جاهدًا أن يستبعد الأحاسيس والمشاعر الصادرة عن الجسد، لتصفو له الأفكار الخالصة للعقل، ولأجل ذلك اعتبر الجسد البشري مجرد امتداد مادي للإنسان لا قيمة له، وما يصدر عنه مجرد ضجيج لا معنى له، مع أنّ العلم أثبت حاليًا العلاقة المتبادلة بين العقل والجسد، فبقدر ما يتحكّم العقل بالجسد يفعل الجسد بالعقل. لم يكن ديكارت لوحده في هذا المعنى، فحتى أفلاطون ميّز بين الفكر المتسق والمنظم والفكر العشوائي، هكذا يمكن اعتبار الفلسفة السفسطائية ضجيجًا يعكر صفو الفلسفة المثالية التي نظّر لها أفلاطون، حيث تصبح مقولة السفسطائي بروتاغوراس: “الإنسان مقياس كل شيء” ضجيجًا على منطق الأفكار المثالية المطلقة النابعة من عالم المُثل. لم تختلف الأديان عن ذلك، فقد اعتبرت وسوسة الشيطان، ضجيجًا يلوث صفو وطمأنينة المؤمن، حيث كانت الوسوسة السبب في هبوط أبي البشرية آدم من جنّة عدن إلى دار البلية. لقد اشتكت الملائكة وفق مروية التراث الديني للإله من تأذيها من بكاء وصراخ آدم، فلقد ضجّ الكون بشكواه، فأنزل الإله عليه كلمات تاب بها آدم عن خطيئته وسكت عن النواح والضجيج، ألهذا كان الطفل البشري، هو الكائن الوحيد الذي ما إن يولد حتى يملأ الكون بكاءً وصراخًا، وكأنّه بهذا الضجيج يعبرعن شكواه من إخراجه من عالم الهدوء والطمأنينة، أو يذكّر من يسمعونه بأصلهم البعيد: الضجيج! يتغلغل الضجيج كاستعارة في تاريخ الإنسان، فأصبحنا نطلق على كلّ ما يشوّش على نظمنا وقوانينا ومعتقداتنا وأعرافنا بالضجيج، لكن ألا نحتاج للضجيج لنرفع صوتنا ونرفض تلك النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي أصبحت مع الوقت قيودًا تجعلنا مجرد مسننات صامتة في مكنة (الحضارة الإنسانية) التي تزداد توحشًا يومًا بعد يوم.
هوامش:
* الهرتز: وحدة قياس التردد، نسبة للعالم الألماني هاينرش هيرتز الذي أثبت وجود الموجات الكهرومغناطيسية.
* الديسيبل:وحدة قياس للتعبير عن قوة الصوت وشدته.
باسم سليمان
كاتب سوري

February 13, 2025
الحداثة الغائبة والسرد البوليسي-دراستي في كتاب : (الرواية ولغاتها – دراسات وشهادات في الرواية العراقية) المرفق مع مجلة أقلام العراقية عن القصة لعام 2024 والتي تصدر عن دار الشؤون الثقافية العامة – وزارة الثقافة والسياحة والآثار العرافية.
ليس الشكل الفنّي لنتاج إبداعي ما، إلّا نتيجة لمجموعة من الأسس، لا تقتصر على عناصره الداخلية فقط، بل يتداخل في إخراج هذا الشكل الإبداعي عوامل خارجية مجتمعية من سياسية وثقافية واقتصادية. وإذا أخذنا السرد القصصي كمثال نجد أنّ أحد العوامل التي دفعت به إلى الواجهة، هو ظهور الصحافة الورقية، فالشكل الفنّي في تحقّقه يتجاوز بناه الخاصة، ليتعاضد مع بُنى خارجة عنه حتى تكتمل مرآويته. وعندما نقترب من السرد البوليسي الذي ابتدأ في منتصف القرن التاسع عشر مع الأمريكي إدغار آلان بو نجد معطيات لا تتعلّق بالفن، بالمعنى المباشر، كان لها الدور الحاسم في نشوئه. إنّ البُنى المدنية المعقّدة التي ظهرت في أوروبا نتيجة ولادة الدولة القومية، ومبدأ فصل السلطات، وظهور مؤسسات الشرطة، والتطور العلمي العملي البحثي، كان لها دور فاعل في وجود المحقّق الرسمي أو التحرّي السري، والذي يعتبر عماد السرد البوليسي.
عرفنا الرواية البوليسية وتأصيلها التاريخي من الغرب، فقد كانت رواية إدغار آلان بو؛ (جريمة في شارع مورغ) الفاتحة لهذا الجنس الروائي. حيث تم استنباط الأسس الثلاثة منها والتي أقيمت عليها هيكلية هذا الجنس من السرد الأدبي، وتتجلّى هذه الأسس، أولًا بوجود جريمة قتل بالأعم الأغلب، وثانيّا، مرتكب الجريمة المجهول، وأمّا الركن الثالث فيظهر بالمحقّق الذي يفكّ شفرات غموض الجريمة، ويكشف عن مرتكبها بأسلوب مشوّق يتنامى تدريجيّا حتى لحظة انكشاف الحقيقة. وقد اعتبر التحرّي أوغست دوبان الي أبدع شخصيته إدغار آلان بو، الأب الشرعي لمن جاء بعده من شخصيات المحقّقين، كشرلوك هولمز مع المؤلف آرثر كونان دويل، وهيركل بوارو مع أغاثا كريستي، وروبرت لانغدون مع دان براون. وفيما بعد تم التنويع على هذه الأركان وعلائقها ببعضها البعض، فظهرت الرواية السوداء ورواية التشويق. عرفت الرواية البوليسية ازدهارًا كبيرًا في القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، ومن ثمّ تراجع الاهتمام بها بعد ذلك، لكن مع رواية وشم الوردة لأمبرتو إيكو، وشيفرة دافنشي لدان بروان، وآخرين غيرهم عادت الرواية البوليسية للتربّع على عرش اهتمامات القراء. لحظ النقّاد وعلماء النفس أهميّة الرواية البوليسية، حيث نجد جاك لاكان يحلّل قصة الرسالة المسروقة لإدغار آلان بو، ويكشف من خلال الغوص في تفاصيلها ما يحمله هذا اللون من الأدب من خصائص قادرة على الغوص في النفس البشرية. تعمّق الاهتمام بالسرد البوليسي وتتبّعها كبار النقّاد كتزفيتان تودوروف، لكنّ المفكّر الفرنسي بيير بيّار خطا خطوة جبارة في الكشف عن مضمرات هذا السرد، فلقد ذهب عكس المتوقّع، فبدلًا من تحليل الأدب وفق مذهب التحليل النفسي طفق يحلّل علم النفس بموجب الأدب مستندًا إلى قصص وروايات أغاثا كريستي، فقد بيّن أنّ النص الأدبي يسمح بفهم أكبر لبعض المفاهيم في منهج علم النفس التحليلي، بل وإغنائها. هذا التأصيل التاريخي كثيرًا ما استند إليه في تبرير غياب القصة والرواية البوليسية عن مجتمعات معينة قد عانت من أنظمة شمولية، جعلت من مؤسسة الشرطة أداة قمعية، فلا يمكن تصوّر محقّق كما شرلوك هولمز أو هيركول بوارو يلعب ذلك الدور في تلك المجتمعات. وهذا الوضع لحظ في بلاد كإسبانيا التي تأخر ظهور الرواية البوليسية فيها إلى ما بعد القضاء على ديكتاتورية فرانكو فيها. كذلك إيطاليا التي منعت السلطات الروايات البوليسية فيها إبّان حكم موسوليني. وعندما نطل على البلاد العربية نرى أنّ الفن الروائي والقصصي قد اشتبك مع الواقع على جميع الأصعدة، إلّا في النمط البوليسي الذي ظلّ صوته خافتًا، بل ويكاد أن يكون معدومًا، حيث جاءت التعليلات من الروائيين والنقّاد بأنّ شمولية أنظمة الحكم العربي وقمعيتها واستخدامها للأجهزة البوليسية لصالحها، واحتكارها حقّ التحقيق والسؤال منعت الجنس الروائي البوليسي من إيجاد أرضية له في مخيال الكاتب إلى جانب القارئ، بالإضافة إلى استمرار النظرة التبخيسية لهذا الجنس التي سادت في فترة معينة في أرض منشأها الإنكليزي والفرنسي والأمريكي، فظل الروائي العربي رهين تلك النظرة التي أكّدها له الناقد الذي ترفّع عن الخوض في التنظير لهذا النمط الروائي. هذا المنظور للرواية البوليسية دُعم بطبيعة المجتمعات العربية، حيث الجريمة فيها ابنة الثأر والانفعال، فلا تخطيط ولا سرّية، بل إنّ المجرم يفاخر بفعلته، مثلما يحدث في جرائم الثأر والعار. ويحيط بكل هذه الظروف أنّ المدينة العربية مازال لها من طبائع الريف الكثير، فالتعقيد الذي نراه في المدينة الغربية مازلنا بعيدين عنه، وبالتالي لن تحدث تلك الجرائم التي تحتمل سردية روائية لمقاربتها تخييليًا.
يحثنا واقع قلة الإنتاج الأدبي العربي في السرد البوليسي إلى سؤال الحداثة في مجتمعاتنا العربية، وذلك استنادًا لتعريف معجم النقد الأدبي (1) حول مادة الرواية البوليسية: بأنّها شكل روائي ظهر في القرن التاسع عشر مع التطور الحضري للمدينة الأوروبية وما رافقه من ظهور مؤسسة الشرطة، وتطور العلم الوضعي وآليات البحث. وعادة ما تطرح لغز جريمة قتل في الأعم الأغلب يجب كشف مرتكبها عبر محقّق ما. وبناء على هذا التعريف وغياب أو قلة الانتاج السردي البوليسي، نستخلص بأنّ المجتمعات العربية لم تدخل بعد في مرحلة التطور الحضري، كما حدث مع المجتمعات في الغرب! لا ريب أنّ هذا الاستنتاج مجحف بحقّ السرد العربي، فالعناصر المكوّنة للجنس البوليسي وإن لم تتوفر بأثافيها الثلاث من جريمة ومجرم وخاصة المحقّق، لا يعني أنّنا تخلفنا عن هذه المظهر السردي للرواية والقصة، وبأنّنا لا يمكن أن نكتب سردًا بوليسيًّا وفق المعيار القياسي النقدي. إنّ التطور الحضري أو ما سمّي لاحقًا بالحداثة، له أشكال عديدة تنبثق من واقع كل مجتمع، وليس من الضرورة أن تكون استنساخًا للحداثة الغربية. يتساءل تودوروف(2) في مقاله؛ أنماط الرواية البوليسية، عن أنّ التجنيس التصنيفي، يحمل بصمة تبخيسية، لأنّه يحدّد مسبقًا العناصر المكوّنة لنوع روائي ما، وبالتالي يمنع أي محاولة تطوير لهذا الجنس السردي ما دامت محدداته لها صفة القدرية. وهو إذا ينبّه إلى خطورة محددات التصنيف مناقشًا ذلك من خلال أنماط الرواية البوليسية من رواية اللغز والسوداء والتشويقية على ضوء تصنيف الناقد والروائي فان دين الذي وضع عشرين قاعدة حاكمة لتدخل الرواية في النوع الروائي البوليسي، فإنّ تودوروف يشرح بأنّ ولادة نمط جديد من الرواية البوليسية يتجاوز محددات فان دين، وهذا لا يعني بالضرورة نفي الملمح القديم للجنس البوليسي، لأنّ الاتجاه الجديد، هو بوتقة مختلفة الخصائص، ليس مطلوبًا منه، أن يكون منسجمًا مع القواعد القارة، ولا يعني في الوقت نفسه بأنّ كسر تلك المحدّدات يُخرج الطرح الجديد من الجنس الروائي القار.
إنّ تأملًا في ما قاله تودوروف يوسّع دائرة الجنس السردي البوليسي، وينتشله من عقم التجنيس. وهذا ما نستطيع أن نراه في رواية: اللص والكلاب لمحفوظ، ورواية: (الشيء الآخر، من قتل ليلى الحايك) لكنفاني، لجهة استخدامها الحبكة البوليسية مع تراخيهما في استنساخ البنية النمطية التي وضحّ مارك ليتس عناصرها (3) قائلًا: إنّ الرواية البوليسية قد بدأت مع إدغار آلان بو، وهي تتألف من جريمة عصيّة على التفسير ومجرم متخفّ، ومحقّق يكشف حيثيات الجريمة عبر استقراء وقائعها واستنباط كيفية حدوثها. إنّ مناقشة تودوروف تهدف إلى كسر تلك البنية التقليدية للرواية البوليسية، فهي وإن ولدت في الغرب ومعطياته، فالمجتمعات البشرية الأخرى لديها معطيات مختلفة لا تتوفّر فيها العناصر المطلوبة في التجنيس، لكن من حقّها أن تكتب روايتها البوليسية الخاصة بمجتمعها.
ولكي نكون على وضوح أكثر فيما ذهب إليه تودروف يأتي الكشف عن الأصول القديمة للسرد البوليسي داعمًا لتوجهه، وخاصة الأصول التراثية في الثقافة العربية. ولأنّنا محكومون بالمستند النقدي الغربي، سنورد رأي بيار براهام الذي جاء في مجلة أورب النقدية(3) الذي اعتبر شهرزاد ضحية مطلوبة من قاتل يسمى شهريار تؤجّل موتها يوميًا عبر قصة ترويها. وإن كان لنا أن نوصّف هذا التأجيل لحكم الموت، فلا يمكن أن نجد له مرادفًا حديثًا وخصيصة جوهرية في الرواية البوليسية إلّا التشويق. إنّ التشويق هو المحرّك الخفي الذي قيدت به شهرزاد يد شهريار، وربطت به القارئ الذي لا ينفكّ يخرج من قصة إلى قصة أخرى معها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تقدِّم ألف ليلة وليلة عدّة حكايات لها صفات بوليسية قياسًا على ما عدّه الناقد بيير بيّار إرهاصات أولى للرواية البوليسية(4) فقد اعتبر مسرحية أوديب لسوفكليس، هي البداية الأولى للرواية البوليسية مع أنّها ليست قياسية وفق ما استقر النقد الغربي على شكل الرواية البوليسية. قلنا بأنّ الأدب البوليسي قد كانت بدايته مع بو، لكنّ الناقد فرانسيس لوكسان قال بأنّ بو استلهم روايته من مؤلف لفولتير بعنوان: (زاديك) حيث نجد أنّ الفراسة والفطنة التي اتسم بهما المحقّق دوبان عند بو مستنسخة من شخصية البطل في زاديك. ويتابع لوكسان بأنّ فولتير استند في قصته إلى مؤلف بعنوان الأمراء الثلاثة لسرنديب الذين يكتشفون صفات جمل من آثاره، مع أنّهم لم يروه، فهو أعور لأنّه يرعى في جهة واحدة من الحقل، أي من جهة العين السليمة، وأنّه أبتر الذيل لأنّ بعره كان مجتمعًا، والجمل يوزّع بعره يمنة ويسرة بتحريك ذيله. وبأنّ إحدى رجليه زوراء لأن آثار رجليه في الأرض مختلفة. وهو شرود لأنّه يتجاوز عشبًا طريّا إلى آخر، فهذا دليل على أنّه قد نفر عن قطيعه. هذه الطريقة بالفراسة سميت السرنديبية، وأول من وضع المصطلح لها كان هوراس والبول مستندًا إلى قصة الأمراء الثلاثة الذين اكتشفوا أمورًا لم يبحثوا عنها في الأصل، لكن عبر المنطق والحدس ربطوا السبب بالنتيجة. وأصبح هذا المصطلح يستخدم للاكتشافات العلمية غير المقصودة كما جاء في كتاب: (فنّ التحقيق العلمي) للبريطاني ويليام أيان. هذه الميزة في الكشف عن الأشياء الغامضة اعتبرت من أهم خصائص المحقّقين، لكنّ تلك القصة موجودة في تراثنا العربي، فنجدها مع الأبناء المؤسسين للقبائل العربية العدنانية: إياد وأنمار وربيعة ومضر. يرتحل أبناء نزار بن معد إلى الحكيم الأفعى الجرهمي ليفسر لهم وصية أبيهم. وبينما هم في الطريق على بُعد يوم وليلة من نجران، إذ رأوا أثر بعير، فقال إياد :إنّ هذا البعير الذي ترون أثره أعور. ثم قال أنمار: إنّه لأبتر. وقال ربيعة :إنّه لأزور. وقال مضر: إنّه لشرود.
ثم جاء رجل يبحث عن بعيره، فحدثوه بأوصافه. فطلب منهم أن يخبروه بمكان البعير، فقالوا إنّهم لم يروا بعيره، ولكنّه لم يصدّقهم، لأنّهم وصفوا بعيره بشكل دقيق، فكيف يزعمون أنّهم لم يروه! فظل يتبعهم حتى وصلوا عند الأفعى الجرهمي، وهناك اتهمهم بأنّهم قد أخذوا بعيره. فسألهم الأفعى عن ذلك، فقالوا له: إنّهم رأوا أثر البعير وليس البعير نفسه. وتتكرّر التفاسير ذاتها التي اشتهر بها أمراء سرنديب مع أبناء نزار، وهذه الطريقة في التفسير المستندة على الحدس والتفكير المنطقي، اعتبرت أسًا من أسس الرواية البوليسية وخاصة في شخصية المحقّق. لم تكن القصص التي جاءت في ألف ليلة وليلة مكتملة البنية(5)، لكن فيها الكثير من السرد البوليسي، ففي حكاية : (لتفاحات الثلاث) نلقى أنفسنا أمام الشكل الغالب للقص البوليسي، حيث تُكتشف جثة، فيبدأ التحقيق لكشف الأسباب التي أدّت إلى تلك الجريمة، فعندما وجد الخليفة الرشيد جثة في الصندوق الذي اشتراه من الصياد يأمر وزيره بالبحث عن القاتل. خرج الرشيد ووزيره جعفر البرمكي، لتفقّد أحوال الرعية، فمرّا بصياد سمك يندب حظّه، فسأله الخليفة عن السبب، فأخبره، بأنّه لم يصطد شيئًا، فطلب الخليفة منه أن يرمي شبكته وسيأخذ ما تحتويه من صيد البحر بمائة دينار وكان ذلك. وعندما سحب الصياد شبكته وجد فيها صندوقًا وبعد أن فُتح وُجدت فيه صبية مقتولة. يطلب الخليفة من وزيره أن يكتشف القاتل خلال ثلاثة أيام وإلّا سيعاقبه بالصلب. تتكشّف القصة رويدًا رويدًا عن أنّ زوجة أحد التجار قد اشتهت التفاح وكان قد عزّ وجوده في الأسواق، لكنّ الرجل استطاع أن يحضر ثلاث تفاحات لزوجته. وبعد ذلك مرّ به عبد يحمل تفاحة، فسأله الرجل عنها، فأخبره بأنّ امرأة تخون زوجها معه قد أعطته إياها، فغضب الرجل وقتل زوجته ووضعها في سلّة ورماها في دجلة. لكن بعد عودته إلى البيت يكتشف أن عبدًا كان قد سرق التفاحة من ابنه ولم تعطها زوجته له، وأنّها لم تخنه بالمطلق، فيندم أشدّ الندم. يسمع التاجر بأنّ الخليفة سيصلب جعفر البرمكي، لأنّه لم يجد القاتل، فيهرع إلى جعفر البرمكي قبل أن يصلبه الخليفة ليعترف له بالحقيقة. وتتتابع الأحداث حتى يكتشف جعفر البرمكي بأنّ عبده هو من سرق التفاحة، وتسبّب بكل تلك الأحداث السيئة.
للحقيقة، لا نستطيع أن نعتبر جعفر البرمكي محققًا كما شرلوك هولمز، فقد لعبت الأقدار دورًا مهمًا في الكشف عن الجريمة؛ وهذا ما حذّر منه فان دين كتّاب السرد البوليسي، لكنّ تودوروف يخبرنا بأنّ نمط السرد القدري كان شائعًا في الزمن القديم، فتحقّق النبوءات بحقّ الفرسان الباحثين عن الكأس المقدس لا يعتبر ضعفًا في البنية الفنية، بل هو تماه مع البنى الثقافية في ذلك الزمن. في نهاية حكاية التفاحات الثلاث تتكشّف الحقيقة، بأنّ العبد لدى جعفر البرمكي، هو المسبّب في تلك الجريمة. وهذه النقطة التي تُظهر بأنّ المجرم من الدائرة الضيقة للمجني عليه كثيرًا ما استخدمت في الرويات البوليسية الحديثة. وتتجلّى السمة التحقيقية للرواية البوليسية بأبهى صورها في حكاية: (علي كوجيا) التي وردت في نسخة ريتشارد بريتون الجزء الخامس من ألف ليلة وليلة، حيث نلقى بأن التاجر علي كوجيا قد اعتزم السفر، ونوى أن يخبئ دنانبره الألف عند صديق له بصفة أمانة قد كانت عبارة عن جرّة من الزيتون، فقبل معه صديقه التاجر حسن، وتم وضع الجرّة التي فيها الدنانير المغطاة بحبات الزيتون في أحد مخازن التاجر حسن. وهكذا يغيب علي كوجيا سنوات عديدة، وعندما يعود يطالب صديقه بالأمانة، فلا يتخلف التاجر حسن عن أداء الآمانة، لكن علي كوجيا يكتشف أن صديقه التاجر قد خان الأمانة وسرق الذهب، ووضع بدلًا من الذهب زيتونًا. اتهم علي التاجر حسن بخيانة الأمانة، لكنه أنكر ذلك، فترفع القضية إلى هارون الرشيد. وفي إحدى الليالي وكعادة هارون الرشيد في التنكر لمعرفة أحوال الرعية يشاهد مجموعة من الأولاد يلعبون، وذلك بأن أقاموا تمثيلية استحضروا فيها ما حدث مع علي كوجيا والتاجر حسن، بعدما شاعت قصتهما في بغداد. قام أحد الأولاد بلعب دور القاضي وطلب فحص الزيتون الذي في الجرّة، فإن كان كله قديمًا، فإن التاجر حسن لم يخن الأمانة، لكن إن كان بعضه قديمًا، والآخر حديث العهد، فقد خان الآمانة. وهنا يتفطن الخليفة هارون الرشيد ويطلب التحقّق من الزيتون الموجود في الجرّة، فيكشف له الخبراء، بأنه زيتون حديث العهد من ثمار هذه السنة، وليس قديمًا أبدًا. بهذه الطريقة في التحليل تظهر الحقيقة وتكشف إساءة الائتمان من التاجر حسن. إن إسلوب التحقيق الذي اتبعها هارون الرشيد يذكرنا بأساليب المحقيقن الذين اشتهروا في الروايات البوليسية.
وقد جاء في كتاب (أخبار الأذكياء لابن الجوزي) بأنّ أحد خدّام الخليفة المعتضد بالله، قد رأى صيادًا طرح شبكته في النهر، فوجد جرابًا فيها، وعندما فتحه عثر فيه على يد مقطوعة، فأعلم المعتضد بذلك، فقال قولته المشهورة: “معي في البلد من يقتل إنسانًا ويقطع أعضاءه ويفرِّقه ولا أعرف به، ما هذا مُلك”. يكلّف الخليفة أحد ثقاته بأن يذهب إلى السوق حيث تباع أمثال ذلك الجراب، ويسأل عن من اشتراه. وهكذا حتى يصل المعتضد إلى القاتل. في هذه القصة تظهر شخصية المحقّق كما عهدناه عبر تتبع الأسباب وصولًا إلى النتائج.
قدم لنا التراث العربي القص البوليسي من دون وجود التطور الحضري الذي أشار إليه معجم النقد الأدبي! نعم هي قصص لا تخضع للمعيار القياسي الذي وضع للسرد البوليسي الغربي، لكن تلك القصص ابنة بيئتها، وقد منحت قارئها التشويق وممارسة التحقيق لكشف المجرم كما فعلت مسرحية أوديب التي ذكرها بيير بيّار.
في رواية إمبرتو إيكو اسم الوردة يُندب المحقّق ويليام باسكرفيل، الذي كان يعمل في محاكم التفتيش في القرون الوسطى للتحقيق في وفيات غامضة في أحد الأديرة، يقف وراءها أمين المكتبة الذي لم يكن راغبًا بأن يطلع الرهبان على كتاب فن الشعر لأرسطو وخاصة الجزء المتعلق بالضحك. يعتبر كتاب فن الشعر لأرسطو أول تنظير أدبيًّ لفكرة التخييل، نعم كان أمين المكتبة خائفًا من فكرة الضحك وأنّها ستقود إلى قلّة الإيمان، لكن القلق العميق كان من التخييل الذي سيسمح للرهبان بالخروج عن المدونة الرسمية للكنيسة، وتخيّل سير أخرى تنقض الرواية الرسمية. هذه النقطة لا ريب أنّها كانت تدور في ذهن المحقّق باسكرفيل الذي عمل في محاكم التفتيش التي طاردت كلّ محاولة للتخييل، أكانت واقعية أو فكرية وحكمت على من تجرأوا بالموت، لذلك كان لديه معرفة بالدافع العميق الذي يحث أمين المكتبة على تسميم صفحات الكتب التي يخشى منها أن تلوث إيمان الرهبان.
إنّ التخلّف عن كتابة السرد البوليسي بحجّة عدم قيام عناصره، يضعنا في موقع أمين المكتبة في رواية أمبرتو إيكو. إنّ رفض الروائيون والنقّاد خوض هذه المغامرة، يعني أنّهم قد قبلوا بأن يقتل التخييل مع أنّهم أقرب لباسكرفيل، من حيث معرفتهم الحقّة بالعناصر الأساسية للسرد البوليسي، ولذلك يجب الثورة عليها، كما فعل باسكرفيل بجبّ ماضيه، وكشف قاتل الرهبان. إذن علينا ابتداع سردنا البوليسي المولود ضمن بيئتنا، ولا ننتظر حتى يتحقّق التطور الحضري الذي حدث في المدن الغربية لدينا، فالحداثة بقدر ماهي ابنة المدينة الغربية، هي في الوقت نفسه عودة أصيلة إلى بيئة الكاتب الذي يعلم تمام المعرفة بأنّ التخييل لا يقف أبدًا عند معوقات الواقع، بل إنّ تلك المعوقات هي أحد الحوافز التي تجعله يتجاوز واقعه ونفسه، ليصنع حداثته الخاصة به وبمجتمعه.
المصادر:
مجلة فصول العدد 76- 2009 الهيئة المصرية العامة للكتاب.شعرية النثر، تزفيتان تودوروف، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة – دمشق 2011.الرواية البوليسية، عبد القادر شرشار. منشورات اتحاد الكتاب العرب – دمشق 2003. مجلة الجديد العدد 51 لعام 2019.الرواية الأم، ألف ليلة وليلة في الآداب العالمية، ماهر البطوطي. مؤسسة هنداوي 2017.باسم سليمان



الأنثى الإعاقة المزدوجة- مقالي في ضفة ثالثة – باسم سليمان
يتعرّض الذكور والإناث من ذوي الإعاقة للإجحاف بسبب إعاقتهم، لكنّ الإناث يخضعن لتمييز سلبي مضاعف عن الذكور بسبب جنسهن. إنّ الإناث من ذوات الإعاقة، لا تخضعن للتمييز السلبي بسبب إعاقتهن فقط، بل يضاف إلى ذلك النظرة الدونية من المجتمع لكونهن إناث. وكما تقول المفكّرة الفرنسية سيمون دي بوفوار (1908-1986)، بأنّ الأنثى تولد إنسانًا، لكن المجتمع الذكوري يحولّها إلى أنثى مهيضة الجناح. وما تقصده بوفوار بأنّ الاختلاف البيولوجي بين الذكر والأنثى لا يحتّم أي اختلافات تذكر على الصعيد الفكري والمجتمعي بينهما، لكن المجتمع الذكوري هو ما يصنع هذا الفارق الذي نستطيع أن نعدّه اضطهادًا جنسيًا بحقّ الإنثى، فأرسطو يقول بأنّ: “الأنثى ذكر مشوّه” فالذكر بالنسبة لأرسطو، هو الصورة المثال للكائن البشري الفكري والمجتمعي، وما يحيد عنها هو أقرب للحيوان. لم يكن أرسطو في توجّهه شاذًا بأفكاره عن محيطه الفكري، فالأسطورة ترى الأنثى كائنًا ناقصًا حتى لو كانت إلهة، فأساطير ما بين النهرين، كما جاء في ملحمة جلجامش في صراعه مع الرّبة عشتار، أظهرت بأنّ الأنثى تلوّث كلّ من يحملها كـ “القِرْبَة المثقوبة” وما تومئ إليه ملحمة جلجامش؛ هو الدورة الشهرية للأنثى والتي تعدّ فيها الأنثى نجسة غير طاهرة. إنّ الطهارة الجسدية المنقوصة لدى المرأة كلّ شهر كانت سببًا لاستبعادها من الطقوس الدينية ودخول المعابد المقدّسة والمناصب الدينية، وهذا الأمر، ليس في الديانات الوثنية بل التوحيدية أيضًا. وهذه النظرة عن الطهارة بحّق الأنثى، لا تشذّ عنها، أيّة عقيدة أرضية أو سماوية اعتنقها الإنسان، لذلك نرى بأنّ الإناث المقدّسات، لا تأتيهن الدورة الشهرية، بل أكثر من ذلك، فهنّ دائمات العذرية، حتى يكن مقدسّات في نظر تلك الديانات الوثنية والتوحيدية.
لا يتوقّف الأمر عند ذلك بالنسبة للأنثى، فهي تعدّ نجسة في حالة الولادة أيضًا، فكما تقول التوراة في سفر اللاويين؛ بأنّ الأنثى التي تنجب ذكرًا تعد نجسة مدّة أربعين يومًا، فيما لو أنجبت أنثى، فالنجاسة تتضاعف لمدّة ثمانين يومًا! ولا يتوقّف الأمر هنا، فكثيرًا ما ربطت ولادة طفل مريض، أو غير تام الأعضاء بشهوات المرأة السيئة خلال حملها أو ما يُعرف بـ(الوحام)؛ وهذا الأمر ليس اعتباطيًا فهناك سردية تدعمه نجدها في أساطير ما بين النهرين، فعندما تعبت الآلهة من العمل، طلبت من الإله (إنكي) أن يخلق لها خدمًا يقومون بالعمل نيابة عنها، بدلًا من إلهة الخلق(ننمو). فغضبت إلهة الخلق ننمو من توجّه الآلهة للإله إنكي وإهمالها، فخلقت ستة أشخاص من ذوي الإعاقة تحدّت الإله إنكي أن يجد لهم أعمالًا. ولا تختلف الأسطورة الإغريقية عن ذلك، فالإله (هيفايستوس) كان معوّقًا والسبب في إحدى سرديات ولادته المختلفة، بأنّ الإلهة (هيرا) زوجة الإله (زيوس) حملت به ذاتيًا من دون تلقيح من الإله زيوس، لذلك جاء معوّقًا. هذه النظرة التي ترى بالأنثى سببًا لوجود ذوي الإعاقة، كان لها تأثير كبير فيما بعد على حقوق الأنثى المعوّقة في الزواج والإنجاب. إنّ البحث في التاريخ عن وجود الإناث من ذوات الإعاقة، يكشف مقدار الحيف الذي تعرّضن له، فبالكاد هناك ذكر لهن. وإن كان لنا أن نورد مثلًا من تلك القلّة، سنختار منها، ما يؤكّد وجهة النظر التي تمنع المرأة المعوّقة من الزواج والإنجاب، ففي تاريخ هيرودوت نجد ذكرًا لأحد أعداء الإغريق المسمى (سيبسيلوس) وأبنائه الذين ارتكبوا من الشرور ما يتعارض مع نظام المثل الطبيعية المتبعة عند اليونان. ويذكر هيرودوت بأنّ أمّ سيبسيلوس كانت تُدعى (لابدا العرجاء) لم يقبل الزواج منها أي رجل من الأغريق، لأنّها عرجاء؛ لذلك تزوجت رجلًا من خارجهم ومن طبقة متدنية اجتماعيًا، وبالضرورة أن ينتج هذا الزواج من أنثى عرجاء الطاغية سيبسيلوس عدو الإغريق، وفق تصوراتهم.
لا ريب أنّ ازدراء الأنثى، لم يتوقّف على طبيعتها البيولوجية فقط، فقد امتد إلى عقلها وصنفت كناقصة عقل حتى لو كانت من الآلهة، مع وجود استثناء يكسر هذا التعميم، إلّا أنّه يكشف مقدار الحيف الذي تقع الأنثى تحت سطوته. هذا الاستثناء هو (أثينا) إلهة الحكمة والعقل عند الإغريق لكن لنتأمّل لحظة، فأثينا قد ولدت من رأس الإله زيوس! وبناءً عليه فإنّ أقدم ديمقراطية في العالم لدى الأغريق، لم تكن تسمح للأنثى بالانتخاب، مع أنّ إلهة العقل والحكمة أنثى. لقد تأخّرت حيازة الأنثى حق الانتخاب حتى القرن العشرين. وعلى نفس المنوال كان التعليم حكرًا على الذكور، ولم تنله الأنثى إلّا في القرن العشرين بشكل عام. أمّا على صعيد العمل والأجور، فالتمييز كان واضحًا لصالح الرجل. وأمام هذا الواقع الصعب الذي تعاني منه الأنثى (الطبيعية) فما هو حال الإناث من ذوات الإعاقة؟
بناء على ما سبق نجد أن الأنثى (الطبيعية) تخضع للتمييز السلبي بسبب جنسها، فيما الأنثى المعوّقة تقع تحت سطوة تميزين: النوع الجندري والإعاقة. وقبل أن نضيء على جوانب من التمييز الذي تتعرّض له الأنثى المعوّقة يجب الإشارة إلى مجالين يفترض، بأنّهما داعمين لها وهما: الدراسات التي تتناول موضوع الإعاقة والحركة النسوية، إلّا أنّه بعد الكشف كما يقول الباحثين (ميشيل فاين/Michell Fine وأدريان آش/Adrienne Asch في كتابهما: Women with Disabilities/ النساء من ذوات الإعاقة 1988) تبيّن بأنّ الدراسات قد أهملت الخصوصية المتعلّقة بالأنثى المعوّقة بسبب جنسها وذهبت إلى تعميم النتائج وفق احتياجات الذكر المعوّق متجاهلة قضايا الأنثى الخاصة الجسدية والنفسية هذا من ناحية. أمّا فيما يخصّ الحركة النسوية التي تطالب بحقوق الأنثى، فقد استبعدت الحركة الإناث المعوّقات، والسبب بذلك يعود إلى أنّ الإناث من ذوات الإعاقة يتم تنميطهن في صفات معينة وذلك باعتبارهن: “طفوليات، وعاجزات، وتابعات، ومحتاجات، وضحايا، وسلبيات”. وهذه الصفات لا تتوافق مع تصوّر الحركة النسوية عن الأنثى المستقلّة المكافحة والحرّة في حياتها وقراراتها وأفعالها؛ وبالتالي تعزّز الصفات السلبية التي ألصقت بالأنثى المعوّقة الصورة النمطية التي تناضل الأنثى (الطبيعية) لرفعها عنها، هكذا جاء الظلم للأنثى المعوّقة من بنات جنسها، لكن هذه السقطة الأخلاقية للحركة النسوية لم تستمر طويلًا. وبناءً عليه، نستطيع أن نشمل المجالات التي تعرّضت فيها الأنثى المعوّقة، استنادًا إلى ما سبق بــ: الإحجاف في الزواج والإنجاب والتعليم والعمل.
لا يُنظر إلى الأدوار التقليدية للإناث في المجتمع، كزوجة وأمّ، أو مربية أطفال وربة منزل، وحتى عشيقة، على أنّها مناسبة للنساء ذوات الإعاقة، مع أنّ هذه الأدوار تعتبر مقياسًا للنجاح الأنثوي في المجتمع. إنّ الإناث من ذوات الإعاقة أكثر عرضة لعدم الزواج بالمطلق، من الإناث الطبيعيات، وحتى من الذكور ذوي الإعاقة. وكثيرًا ما تتعرض الأنثى للهجر بعد إصابتها بالإعاقة، فيما تقل جدًا الحالات التي يُهجر فيها الذكر بعد إصابته بالإعاقة، بل إنّ مقارنة بسيطة تبين أنّ نسبة الذكور المتزوجين من ذوي الإعاقة، تتجاوز بكثير نسبة الإناث المتزوجات من ذوات الإعاقة. وفيما يخصّ الأمومة، فالإناث من ذوات الإعاقة تستبعدهن النظرة الاجتماعية من هذا الدور، فما دامت الأنثى المعوّقة تحتاج إلى رعاية، فكيف لها أن ترعى طفلًا حديث الولادة. أمّا بالنسبة للفعل الحميم، فلا ينظر للأنثى المعوّقة، بأنّها قادرة عليه، وينطبق الأمر على الذكر المعوّق، لأنّ التصورات عن هذا الفعل في مخيلة المجتمع، هي أقرب للحركات البهلوانية، لكنّ الذكر المعوّق يتجاوز هذه النظرة! ومع ذلك، فالإناث من ذوات الإعاقة أكثر تعرّضًا للاعتداءات الجنسية. ويبدو الأمر كنوع من المفارقة، فمن ناحية لا يوجد مخيال جنسي عن الإناث المعوّقات، ومن ناحية أخرى عادة ما يكن ضحايا للاعتداءات الجنسية أكثر من الإناث (الطبيعيات)! فوفق التحليلات النفسية والاجتماعية لهذه المفارقة، فالاعتداء ينتج عن رغبات سلطوية قمعية، أكثر منها من رغبات جنسية من المعتدي على المعتدى عليها.
كنّا قد ذكرنا سابقًا، بأنّ التصوّر السلبي القائم على أنّ الإناث (الطبيعيات)، والإناث من ذوات الإعاقة، بأنّهن مسؤولات عن ولادة ذرية ذات إعاقة، مع أنّ الفحوصات السريرية أكدت بأنّ الكثير من الإعاقات غير وراثية، ولا تختلف نسبة تسبّب الذكر (الطبيعي)، أو المعوّق في توريث طفله إعاقته، عن الأنثى (الطبيعية)، أو المعوّقة. ومع ذلك يستمر هذا النهج من التصوّر، الأمر الذي أدّى إلى تعقيم ذوات الإعاقة في الكثير من الأحيان. أمّا وإن حدث وأنجبن، فتقوم الجهات المجتمعية بإبعاد أطفالهن عنهن، بل ويمنع عليهن تبني الأطفال. ومن الحماقات المعرفية، بأنّ التصنيف الطبي للإعاقات الإدراكية والعقلية عند الأنثى يحتاج لتشخيصه إلى نسبة أعلى من العوارض عنه عند الذكور، وذلك بسبب الاعتقاد، بأنّ قلّة العقل أمر متجذّر في الأنثى.
اعتبر حقّ التعليم من الحقوق الأساسية للإنسان، كما أقرّته الشرائع العالمية، لكن بالنسبة للإناث من ذوات الإعاقة أو حتى الإناث (الطبيعيات) فقد تم تفضيل تعليم الذكر على الأنثى، ويعود ذلك لقناعة المجتمع بأنّ الذكر هو المسؤول عن الأسرة، وقد ثبت العكس، فكثيرًا ما قامت الإناث ببناء المجتمع بعد الحروب، وعملت يدًا بيد مع الذكر في الكوارث. أمام هذه القناعات فقد عانت الإناث من ذوات الإعاقة من صعوبة دمجهن في المجتمع نتيجة نقص في تأهيلهن التعليمي والمهني، ممّا أدى إلى قلّة توظيفهن أو الحصول على فرص عمل تمنحهن الاستقلالية والاعتماد على النفس.
إنّ تسليط الضوء على معاناة الإناث من ذوات الإعاقة يفضح هشاشة المنظومات الاجتماعية التي تدّعي حماية ذوي الإعاقة، حيث تمارس في العمق تمييزًا بين الأنثى المعوّقة والذكر المعوّق، وهذا التمييز يعتبر انعكاسًا للعلاقة غير المتوازنة بين الذكر والأنثى في المجتمع بشكل عام وخاص؛ لذلك يجب إصلاحه لتستقيم العلاقة بين حدّي المجتمع البشري.
ملاحظة: وضعت كلمة الطبيعي بين قوسين للإشارة إلى التقسيم الذي وضعته الفلسفة اليونانية ما بين ما هو مثالي/ طبيعي وما هو غير طبيعي/ معوّق.
باسم سليمان
كاتب من سورية

January 31, 2025
البِنْتَاميرون: عن حكاية الحكايات والأساطير
باسم سليمان31 يناير 2025
تسرد لنا الحكايات والخرافات والأساطير لدى الشعوب حكمة جوهرية، بأنّ الواقع عندما يُغلق على مكنوناته وتسجن تلك القوى الكامنة فيه، وتُمنع من التحرّر، لأسباب قاهرة؛ والتي يتم تظهيرها- على سبيل المثال- بوجود ملك مهووس بقتل العذراوات بعد أن يفتض بكارتهن، لأنّ زوجته قد خانته، كما في الليالي العربية، أو لأنّ جائحة مرضية كالطاعون بدأت تحصد البشر بمنجل الموت، لا يمكن الهرب منها، إلّا باعتزال المدن واللجوء إلى الريف، مثلما رأينا في (الديكاميرون) للإيطالي جيوفاني بوكاتشيو في القرن الرابع عشر الميلادي؛ بأنّ هذه السرود التراثية تُظهر لنا قوة كامنة في الوجود الإنساني؛ اسمها الخيال قادرة على إعادة فتح مغاليق الواقع وتوسيعه والانطلاق في أمدائه من جديد. وهذه الميزة لتلك الحكايات والخرافات والأساطير نجدها في أيّ قصّ شعبي عبر العالم؛ ولذلك لا غرابة أن يعمد الكاتب الإيطالي جامباتِّيستا بازيلِه (1575-1632) للنسج على منوال الديكاميرون، بأن يسرد خمسين حكاية على مدار خمسة أيام، لإعادة الحقّ لأصحابه. هذا القماش الذي أبدعه أو أعاد نسجه بازيلِه هو: البِنْتاميرون – حكاية الحكايات؛ والتي حقّقها وقدّم لها الفيلسوف الإيطالي بِندتّو كروتشِهْ (1866-1952) وأصدرها عام 1925 عن دار نشر (لاتيرتسا) حيث قام بترجمتها للعربية عن الإيطالية المترجمين: أمارجي، ويوسف وقّاص، لتصدر عن دار المتوسط لعام 2024.
يعتبر جامباتيستا بازيلِه من أهم الأدباء الإيطاليين، فقد كان شاعرًا وقاصًا شغوفًا بالتراث الشعبي. ومن هذا المنطلق جمع وأعاد صياغة الحكايات والخرافات الشعبية في مدينته نابولي التي دوّنها باللهجة النابوليتانية -نسبة لمدينة نابولي- حيث اعتبرت أوّل وأهم مجموعة من الحكايات الشعبية في الموروثَين الإيطالي والأوروبي. وللأسف لم ير هذا العمل النور إلّا بعد وفاة بازيلِه، وكان بعنوان (حكاية الحكايات أو مؤانسات الصغار). لقد متح بازيلِه عمله من واقع مدينته نابولي ومن حكاياتها وخرافاتها المتداولة على ألسنة أبناء المدينة، فأعاد لها الروح، بعد أن فقدت الكثير من رونقها، عبر لغة حيوية تستوعب الاستعارات الغريبة المبثوثة في تلك القصص والدعابات اللفظية الطريفة والثنائيات التي تجمع بين الخرافي واليومي من ناحية، ومن ناحية أخرى بين الهزلي والرصين في تضاعيفها السردية.
تبدأ حكاية الحكايات بمقدّمة وافية من الفيلسوف بِنِدِتّو كروتشه، يشرح فيها أهمية (البنتاميرون) كواحدة من أهم المجموعات الحكائية الشعبية، مستشهدًا برأي الأخوين غريم الألمانيين عنها، اللذين أعدّا القصص الشعبية المسمّاة (حكايات للبيت والأطفال) والتي قطفا ثمارها من أشجار الموروث الألماني كدليل على أهمية هذا النوع من الأدب الشعبي. ثم يتكلّم عن حياة بازيلِه، وبأنّ (البنتاميرون) والتي تعني (المخموس؛ كلّ ما هو مكون من خمس عناصر أو أركان) ليست النتاج الوحيد له، فقد أنشأ تسع حواريات شعرية عنونها بـ (إغلوكه: قصيدة شعرية في صورة حوار) مسميًّا كلّ واحدة منها، بأحد أسماء آلهة الإلهام كما عرفن عند الإغريق. ويتابع كروتشه، بأنّ البنتاميرون لم تكن محظوظة في الانتشار، ولربما يعود ذلك بشكل رئيسي للهجة النابولتانية المحلّية التي كُتبت بها، لذلك عمد كروتشه إلى نقلها إلى اللغة الإيطالية وأطلقها في بداية القرن العشرين.
لعبت المناصب التي تسنّمها بازيلِه في حياته دورًا مهمًا في إعادة تشكيل تلك الحكايات الشعبية، فقد أراد منها أن تكون مرافعة في وجه الحسد والجحود والبغضاء والتنكّر للجميل؛ وخاصة أنّه عايش تلك الصفات المذمومة في بلاط الملوك والأمراء الذين خدمهم، فقد كان يشعر بتأنيب الضمير، وهو يشهد صامتًا على الصراع المخملي الذي يدور في الطبقات العليا للسلطة، حيث لم يكن يستلم أحد منصبًا، إلّا من كان الأجرأ على الكذب، وحياكة المؤامرات، وفعل الشّرّ. ولأنّه كان لا يقبل التنازل عن أخلاقه، فلم يتحصّل من تلك المناصب على غنائم أو ثروات. لقد تحوّل بازيله إلى متزمّت أخلاقي نتيجة لهذا الواقع، ومع ذلك ظلّ الجمال ينبض في داخله، شغوفًا بالخير، والاستقامة ومحبًا لمسقط رأسه نابولي ولعاداته وقصص النسوة العاميات والأمثال والحكم التي يتفوّهن بها. لقد لعبت هذه العوامل دورًا مهمًا في كيفية إعادة نسج تلك القصص، فكلّ قصة وضعها في البنتاميرون، تبدأ بحكمة تضيء مسرد الحكاية وتنتهي بخلاصة مكثّفة وكاشفة لأبعاد ومعاني الأحداث التي وردت فيها. ولأنّ القصص لم تكن كافية، بمكان ما، لبثّ مشاعره وأخلاقه ورؤاه فيها، فقد ضمّن المخمّسة، أربع قصائد غنائية حوارية، لكلّ واحدة منها موضوع خاص، تفصل بين تلك الأيام الخمسة للحكايات، فأولى تلك القصائد، فقد جاءت بعنوان: (البوتقة) وفيها يسخر من الفرق بين المظاهر الخارجية والحقيقة. أمّا الثانية، فكانت: (الصِّباغة) وأبان فيها كيف يتخفّى الشّرّ بالخير والخير بالشّرّ وفق المصالح البشرية. فيما الثالثة، فقد جاءت بعنوان: (الموقد) وأظهر فيها بأنّ الصعوبات ستقابل كلّ طموح إنساني، لذلك على الإنسان أن يقوي إرادته حتى يصل إلى غاياته. بينما الأخيرة فقد كانت (الخُطّاف) وتدور عن الجشع والطمع الذي يدفع الناس إلى السرقة والقتل.
الحكاية الإطار:
هناك ثيمة متواترة في الحكايات والخرافات والأساطير الشعبية، بأن تكون هناك قصة رئيسية تبرّر سرد القصص، كما في ألف ليلة وليلة والديكاميرون، وهذا ما نجده لدى بازيلِه في البنتاميرون. كان يا مكان في قديم العصر والأوان، أميرة تُدعى (تسوتسا) لا تضحك حتى للرغيف الساخن، وقد احتار أبوها كيف يجعلها تضحك، فاستجلب المهرّجين ولاعبي الخفّة وغيرهم، فلم ينفع ذلك إلى أن خطرت في باله فكرة، بأن يصنع نافورة أمام القصر ترشق الزيت من حولها، ممّا يدفع المارة للقفز والجري والتصادم لكي لا يلوث الزيت ثيابهم، وبالضرورة سيسبّب هذا الواقع مفارقات غير معقولة وكان الأمر كما توقّع. وحدث أن رأت عجوز متسوّلة في نقاط الزيت المتناثرة هناك وهناك غنيمة، فبدأت تجمعها، فاعترضها أحد خدم القصر بالاستهزاء، فتبادلا الشتائم وأمام هذا المشهد السخيف تضحك الأميرة. وهنا تتنبّه لها العجوز، فترشقها بسيل من الشتائم، بأن لا تجد حتى ظلّ زوج! وألّا تتزوج سوى أمير (كامبوروتوندا)؟ فاجأت شتائم ولعنات العجوز الأميرة واستغربت منها، وطلبت المعنى وراء تلك الشتائم العجيبة، فأخبرتها العجوز، بأنّ أمير كامبوروتوندا يدعى (تاديو) وهو أمير وسيم وخلوق، لكنّ لعنة حلّت عليه، وهو مدفون في قبر رخامي ولن يتحرّر، إلّا بأن تذرف أنثى من دموعها خلال ثلاثة أيام ما يملأ إناء كان قد وضع على قبره. لقد غيّرت لعنات العجوز الأميرة تسوتسا وزرعت في قلبها هاجس البحث عن قبر ذلك الأمير، فامتطت الأميرة قدميها وشدّت الرِحال بحثًا عن القبر الرخامي، وفي طريقها التقت بحوريات أعجبهن إصرارها، فمنحنها ثلاث حبات: جوز وكستناء وبندق، وطلبن منها ألّا تستخدم تلك الحبات إلّا للضرورة القصوى. وصلت الأميرة أخيرًا إلى قبر الأمير تاديو وبدأت بالبكاء، لكنّها في اليوم الثالث نال منها التعب وقد كان لا ينقص حتّى يمتلئ الإناء سوى ثلاث دمعات، لكنّ النوم سلطان. بالقرب من القبر كانت هناك خادمة سوداء تعرف قصة قبر الأمير تراقب تسوتسا، فما إن غرقت الأخيرة في النوم حتى اختطفت الإناء وذرفت ثلاث دمعات فقط، فامتلأ الإناء، وإذ بالأميرينتفض من سباته الرخامي ويتزوّجها بعرس مهيب يستحقه أمير عائد من الموت. تستيقظ تسوتسا لتجد ما سعت إليه قبض الريح، فتندب حظها، لكنّ الحبّ سيدٌ مطاع، فتشتري قرب قصر الأمير بيتًا لتؤنس نفسها بالقرب منه.
يلاحظ الأمير تاديو تسوتسا ويميل قلبه إليها، لكن الخادمة تستشعر التغيّر في مشاعر زوجها فتغضب وتهدّده، بأنّها ستجهض جنينهما بضربة من يدها على بطنها. انكفأ تاديو عن غاياته الدفينة نحو تسوتسا خوفًا على ابنه المنتظر. وهنا بدأت تسوتسا تستخدم الحبّات المسحورات، واحدة تلو الأخرى وقد كانت الأخيرة حبّة البندق التي خرجت منها دمية تغزل الذهب، فطلبت الخادمة من زوجها تاديو أن يشتري تلك الدمية، فذهب بنفسه إلى تسوتسا التي همست بأذن الدمية أن تُولع قلب زوجة تاديو بالحكايا وكان ذلك!
اشتعلت الرغبة بسماع الحكايات في قلب الخادمة، ولأنّ تلك الرغبة هي أقرب للوحام التي يصيب الحامل، خشيت إن لم تتحقّق رغبتها أن يأتي ولدها ثرثارًا مهزارًا لا يليق بأن يكون ابن أمير وأميرة، فطلبت من زوجها أن يحضر لها من يقصّ عليها الحكايات حتى يحين وقت ولادتها. تجمهر الكثير ممن يسردون القصص والخرافات، لكنّ الأمير انتقى عشر حكّاءات فقط، وهكذا بدأت البنتاميرون.
كما استطاعت شهرزاد أن تدفع عن نفسها وبنات جنسها الموت بإشغال شهريار بالحكايات. كذلك فعل بوكاشيو في الديكاميرون للنجاة من الموت بالطاعون. ومثلها فعلت تسوتسا التي قامت بإشغال قلب زوجة الأمير بالحكايات إلى أن تحين اللحظة المناسبة وتفضح فعلتها الخسيسة وكيف سرقت منها حبيبها.
البنتاميرون:
كانت الحكّاءات يتبادلن القصّ واحدة تلو الأخرى، بحيث تُقصّ عشر حكايات في اليوم؛ متنوعات المواضيع والحكم والمعاني. حيث يجد القارئ في تلك القصص صيغًا أخرى للحكايات المشهورة؛ من سندريلا إلى القط ذي الجزمة أو الأميرة النائمة أو الإوزات الوحشيات قبل أن تخضع تلك القصص للتطوير والتعديل من كتّاب ورواة آخرين، فسندريلا على سبيل المثال ساعدت الخادمة في إبعاد زوجة أبيها الجاحدة لها، من ثم أقنعته بالزواج من الخادمة التي أبدت لها حبّها، لكنّها تتغير عليها بعد الزواج من أبيها، وتذيقها من العذاب ألوان! أمّا إوزّات الكاتب الدانماركي هانز كريستيان أندرسن فقد كنّ حمامات في قصص بازيلِه. مهما يكن فاكتشاف التشابهات بين البنتاميرون وغيرها من نسخ القصص المتعدّدة في المرويات الشعبية الأخرى يعود للقرّاء، كما قال كروتشه في ختام تقديمة لهذه التحفة الأدبية، لأنّ ما يهمه هو أن يتذوّقها القرّاء كعمل فنّي متكامل بذاته، لا أن يتوهوا بين مقارنة هذه النسخة من الحكاية عند بازيلِه وعند غيره من الكتّاب. مهما يكن، ممّا سبق، فالنقطة الأهم في البنتاميرون، بأنّنا أمام إرهاصات الرواية البوليسية، قبل أن تولد مع القاص إدغار ألان بو في القرن التاسع عشر. لقد تملّك حبّ الحكايات الخادمة والأمير، وفي اليوم الخامس، تتغيّب إحدى العجائز وتحضر بدلًا منها تسوتسا لتروي قصتها منذ اللعنات التي صبّتها عليها تلك العجوز السليطة اللسان إلى لحظة غرقها في النوم قرب قبر تاديو. وأمام الدلائل التي ساقتها تسوتسا يكتشف الأمير خدعة الخادمة، فينتقم منها ويقتلها ويتزوّج الأميرة تسوتسا.
لا ريبَ أنّ البنتاميرون مرآة تعكس القصّ الشعبي بأبهى صوره، على الرغم من أنّه قد أُهمل طويلًا من قبل النقّاد وقرّاء الأدب الجّاد، كما حصل مع ألف ليلة وليلة، وعندما اكتشف كروتشه هذا الإجحاف بحقّها، جهد بأنّ يضعها بين يد القرّاء. ومن الضروري التنبيه، بأنّه عند قراءة البنتاميرون على القرّاء أن يأخذوا بحسبانهم بأنّها أشبه بلعبة الماتريوشكا الروسية، ما إن ترفع غطاء البساطة عنها، حتّى يتكشّف لهم غناها المتنوّع الألوان. وفي ختام هذا المقال لا بدّ من القول، بأن ترجمة أمارجي ويوسف وقاص لهذه التحفة الفنية، كانت من السلاسة والتدفّق، لدرجة تدفع القرّاء لتذكّر حكايا الجدّات في الطفولة.
باسم سليمان
كاتب سوري
خاص ضفة ثالثة

January 22, 2025
سليمان عوّاد من روّاد قصيدة النثر السورية
مقالي في مجلة الأقلام العراقية 2024
عدد خاص من الأقلام عن قصيدة النثر العربية. وهو خير ما تختم به الأقلام عام 2024 .. وهو، ذاته، عامها الستون.
يقول أدونيس في قصيدة نشرها في مجلة شعر عام 1957 بأنّ: “الشعر يحرق أوراقه القديمة”؛ وكأنّنا بقوله هذا مع حركة طارق بن زياد الحداثية، عندما أشعل النار في سفنه قائلًا: “البحر من ورائكم والعدو من أمامكم”. إنّ الدلالة الفكرية لهذين المقبوسين تكمن في أنّ المعنى/ الجوهر لم يعد سابقًا على الوجود، فالشعر الذي يحرق أوراقه يشبه صقر قريش في مقاربة أدونيس له؛ فعبد الرحمن الداخل ترك كل شيء خلفه في دمشق وانطلق ليصنع لحظته الوجودية المبتكرة/ الأندلس، وكأنّه طارق بن زياد آخر، لم يبق لجنوده إلّا صناعة النصر، وإمّا الموت. هذه الإرهاصات للفلسفة الوجودية التي أشار إليها أدونيس في شعره معلنًا زمن الشعر الخالق، نراها متجسّدة في فلسفة سارتر الذي نقض مقولة أسبقية الجوهر على الوجود؛ والتي كانت تطبيقًا لمقولة هيدغر بقوله، أنّ واجب الفن أن يخلق أرضه الجديدة، وقد وازاها أدونيس بالقول: “عش ألقًا، ابتكر قصيدة وامضِ، زد سعة الأرض”. وإذا توجّهنا إلى الناقدة الفرنسية سوزان برنار، والتي تعدّ من أوائل من نظّر لقصيدة النثر بإصدار كتابها: (قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا عام 1958) نجد ثلاثة محدّدات لقصيدة النثر، وهي: (التكثيف – التوهّج – المجانية) مستحلبة من فلسفة سارتر الوجودية بالإضافة إلى الرؤى الفكرية التي تراكمت من عصر الأنوار إلى لحظة المقاربة النقدية من قبل سوزان برنار؛ حيث نفى سارتر المعنى السابق لوجود الإنسان وبالتالي أفق التوقّع الموروث: (الديني – السياسي – الفكري – الاجتماعي…) الذي كان محكومًا من المقولة التوراتية: “لا جديد تحت الشمس”. هذا الجوهر السابق لوجود الإنسان قد نقض، والإنسان الآن، هو من يبتكر آفاق توقّعه الجديدة غير المسبوقة، وكأنّه كريستوفر كولومبس في اكتشافه أمريكا، وهذا دور الشعر.
إنّ أخص خصيصة لقصيدة النثر كانت في كسرها لأفق التوقّع؛ ومن ثم وضعها في موقع المعارضة مع الوزن (عمود – تفعيلة). إنّ هذا التضاد بين قصيدة النثر والوزن، هو الصيغة الأظهر لها في مباينتها لغيرها من أنواع شعرية (عمود – تفعيلة) وهو التطبيق الأمثل لأبستمولوجيتها، فقصيدة النثر أتت كتذوق جديد للكون نتج عن سقوط الكون البطليمسي وظهور الفرد كشخصية مستقلة عن أي أقواس سابقة لوجوده، فما من غزية بعد الآن أيًا تكن، فـالجملة الدينية والتي تجد لها صدى في كلّ الأديان:”كما في السماء كذلك على الأرض” ذهبت إلى غير رجعة، ولحقت بها كل الأنماط السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة على حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة. إنّ العري العقائدي والفكري والثقافي بأشكاله كافة، قد داهم الفرد وخاصة في القرن التاسع عشر، فأصبح مطلوبًا منه أن ينسج حياته ذاتيًا، وأن يخصف لها أوراقًا جديدة. في هذا القرن بالذات بدأت كلّ الآداب والفنون التي خرجت عن الفكر والثقافة التقليدية – إن صحّ التعبير- بالتشكّل على الأقل أوروبيًا. ومن هذا الواقع الفكري الجديد نفهم لماذا كانت (لا وزنية) قصيدة النثر تهدم مقولة الجاحظ الثاقبة، بأنّ “المعاني ملقاة على قوارع الطرقات”، وقد كان بهذا القول، قد اختصر الثقافة العالمية من جلجامش إلى عصر الأنوار الأوروبي، فلا وزنيتها، قد أدّت إلى أنّ أفق التوقّع للمقول/ الخطاب الذي كان دوماً متاحًا قد اهتزّ. ومن هنا نفهم الاعتراض الذي قيل لأبي تمام: “لمَ لا تقول ما يُفهَم؟ فأجابه: ولمَ لا تفهم ما يُقال؟”؛ مع أنّه لم يغادر الوزن قيد أنملة ولم يخرج إلى الغرابة في صوره، أمّا عدم فهمه، فقد أتى من أنّه غيّر قليلًا بأفق التوقّع الموروث. وهذا التغيير كان قد نتج عن حركة الترجمة وتطور بنيان المجتمع العباسي، ممّا سبّب في اعتراض أصحاب المعرفة المستقرّة؛ مع أنّها جهل مستمر، كما يقول النفري. و كما فعل أبو تمام ثار أبو نواس على أفق التوقّع الموروث بقوله: “تعجبين من سقمي/ صحتي هي العجب”. إنّ جوهر قصيدة النثر يقوم على قراءة جديدة للكون تعارض أفق التوقّع، ففي القصيدة العمودية يكون حصان المعنى فيها ملجم بالوزن والقافية؛ أي مقدّر للمعرفة قبل أن يتلفّظ الشاعر به، كذلك مغامرته الشعرية محدّدة بميدان الصدر والعجز. وهذا لا يعني أنّ قصيدة العمود أو التفعيلة لاحقًا، كانت حبيسة التفاعيل بشكل لا مناص منه، فالشاعر الحقّ كان يوسع الميدان الذي تجري فيه قصيدته إلى حدّ ما، لكنّه في النهاية لا يستطيع تجاوز أفق التوقّع للمعنى إلى ما بعد الأكمة إلّا قليلًا. يشرح تزفيتان تودوروف في كتابه (شعرية النثر) طبيعة الحبكات القديمة -أفق التوقّع- في السرود الحكائية والشعرية بالقول، بأنّ تحقّق النبوءة التي تخصّ البطل وإن كانت تفضح مجريات القصة بحيث تصبح حركات البطل متوقّعة ومكشوفة لا يعتبر ضعفًا، بل من طبيعة السرود القديمة، فالبطل سيهزم التنين دومًا، كذلك الشعر، فرحلة الشاعر القديم على ناقته إلى الممدوح ستتم على الرغم من الصعاب. في الوقت الذي ظهرت فيه قصيدة النثر في أوروبا كان أفق التوقّع الكلاسيكي قد انتهى بسقوط الكون البطليمسي، وانفتح العالم على احتمالات لامتناهية، فالتاريخ يصنعه المغامر الجريء من دون نبوءة. إنّ إرهاصات خلخلة أفق التوقّع الفكري والثقافي قد بدأت في البلاد العربية مع حملة نابليون على مصر والصدمة الحضارية التي أحدثتها، وتبعها الاحتلال (الانتدابي) الأوروبي والترجمات لآداب الشعوب الأخرى بدءًا بترجمة هوميروس، على سبيل المثال، فمرحلة الإحياء والبعث التي ابتدأها محمود سامي البارودي، والتي جاءت ردًا على سطوة الثقافة الأوروبية، إلّا أنّها ظلّت كدبيب النمل على الصخر. ومن ثم جاء القرن العشرون؛ العصر الحداثي الذي بدأ يخيم على الثقافة، ممّا دفع بالمفكّرين والأدباء العرب للبحث عن أساليب جديدة تستوعب الدفق الحضاري الآتي من الغرب ومن واقعهم في الوقت نفسه. ومع بدء تلمّس السرد الجديد بالرواية الأوروبية، والشعر مع بودلير ورامبو ومالارميه وغيرهم، شعر الأديب العربي أنّ وسائله قاصرة، فهي تناسب زمنًا آخر لم يعد موجودًا، ففي الشعر كانت التفعيلة وسيلة لاستيعاب فيض المشاعر والأفكار، كما علّلت الشاعرة نازك الملائكة أسباب كتابة قصيدتها (الكوليرا). وفي المنحى ذاته استوعب شعر التفعيلة إدخال الأسطورة في شعر السياب، لكنّ شعور بعض الشعراء، بأنّ قيد التفعيلة لا يختلف كثيرًا عن قيد البيت، دفعهم مع وجود المثال المحتذى المترجم والتجارب النثرية العربية إلى شعرنة النثر وكتابة قصيدة النثر، فلا قيد، ولا حدود، ولا أفق توقّع معروف مسبقًا، وإنّما مجهول على الشاعر أن يضيئه بتجربته الخاصة. لاريب أنّ بدايات الشعر المنثور المتحرّر من الوزن والقافية في القصيدة العربية، كانت قد بدأت تومض مع جبران خليل جبران وأمين الريحاني وغيرهم، بينما الزمن يتقدّم إلى المحطة المفصلية في قصيدة النثر العربية مع مجلة شعر، التي أصدرها يوسف الخال في شتاء عام 1957. حيث نجد العديد من الشعراء قد نشروا دواوينهم الشعرية النثرية قبل سطوع مجلة شعر وتنظيراتها؛ مثل الأردنية ثريا ملحس في ديوانها (النشيد التائه) عام 1949 والعراقي حسين مردان (صور مرعبة) 1951 والفلسطيني توفيق صايغ (30 قصيدة) 1954 وفي سورية تحديدًا كان أورخان ميسر في ديوانه (سريال) 1948 وخير الدين الأسدي (أغاني القبة) 1951 وسليمان عواد (سمرنار) 1957 وغيرهم كاسماعيل عامود وإلياس فاضل. والمقصد من ذكر هذه الدواوين بأنّ لحظة المعايشة للشعر المنثور، ولقصيدة النثر لاحقًا، أصبحت متاحة للشاعر والقارئ معًا، قبل ولادتها الشرعية التنظيرية النقدية من خلال ترجمة بعض من أفكار سوزان برنار بمجلة شعر، وتنظيرات أدونيس وأنسي الحاج ويوسف الخال.
طغت شعرية الماغوط وتنظيرات أدونيس على جميع التجارب السورية التي كتبت قصيدة النثر بالتوازي الزمني معهما، بل إنّ بعض هذه التجارب كان أسبق زمنيًا، ومع ذلك أهملوا من الدرس النقدي لأسباب عديدة؛ لربما أحدها عدم تدفق تجربتهم بالقوة التي كانت للشاعرين المذكورين آنفًا. ومع ذلك لا بدّ من إلقاء الضوء على تجربتهم، فهي دليل على أنّ قصيدة النثر لم تكن نبتًا غريبًا في الأربعينات والخمسينات من القرن المنصرم حتى ظهور مجلة شعر، وأنّ الأصداء التي لقيتها مجلة شعر كانت تعود إلى أنّ الأرض الشعرية قد بدأت تزدهر بقصيدة النثر، فلم تكن الأرض خربة ومن ثم جاءت مجلة شعر، لتقول: كن فيكون! وبناء على ما سبق سنختار أحد الرواد الذين توارت تجربتهم الشعرية نتيجة الحضور القوي لأدونيس والماغوط. مستصغر الشّرر قد كان من سليمان عوّاد:
“لولا سليمان عوّاد لما تعرّفت على قصيدة النثر وكتبتها” هذه الجملة التي صرّح بها الماغوط وإنْ كانت تشير إلى ريادة سليمان عوّاد في كتابة قصيدة النثر والتعريف بها – على الأقل سوريًا- إلّا أنّها تومئ في الوقت ذاته إلى أنّ اللحظة الحداثية أصبح من الممكن تذوّقها وإدراكها وتمثّلها بالنسبة للشعراء والنقّاد والمتلقين في خمسينات القرن الماضي. ويتابع الماغوط في ذكر الإرهاصات الأولى لقصيدة النثرـ بالقول بأنّ عوّاد كان يترجم الشعر الفرنسي ويطلب من أصدقائه محاكاته، حيث بدأ سليمان عوّاد بنشر قصائده النثرية في مجلة الأديب اللبنانية، أو تطبيقاته العملية للشعر المنثور منذ منتصف الأربعينات.
ولد الشاعر السوري سليمان عوّاد في بلدة سلميّة (1922 -1984) وهناك تلقى تعليمه للمرحلة الابتدائية، وتابع دراسته في المرحلتين الإعدادية والثانوية بين مدارس حمص وطرطوس وحماة، ثم سافر إلى لبنان ليلتحق بكلية العلوم السياسية بالجامعة اليسوعية في بيروت لمدة سنة، وبعد ذلك غادرها إلى دمشق ليعمل معيدًا في مدرسة (خرابو) للزراعة، ومن ثم عمل في دائرة الرقابة في وزارة الإعلام، وفصل من عمله بسبب السياسة، وأعيد إلى وزارة الإعلام إلى أن انتهت حياته الوظيفية.
أصدر عوّاد العديد من الدواوين (سمرنار عام 1957 – شتاء- أغان بوهيمية – حقول الأبدية -أغان إلى زهرة اللوتس) وديوان (الأغنية الزرقاء الأبدية) التي صدر بعد رحيله، وله ترجمات عن الشعر الفرنسي والروماني ومسرحية واحدة بعنوان: (همجستان).
بعد هذه المقدمة يأتي السؤال، هل تنطبق المحدّدات التي وضعتها الناقدة سوزان برنار في خمسينات القرن المنصرم في كتابها عن قصيدة النثر الفرنسية على شعر سليمان عوّاد؟ وهذه المحدّدات الفنية تكمن في: التكثيف – التوهّج – المجانية، والتي شرّعتها مجلة شعر كنقاط علّام إلى جانب الخروج عن الأوزان والقوافي كقالب لقصيدة النثر مع أنّها بذاتها ثائرة على التنميط. إنّ الإجابة ستكون: نعم إلى حدّ ما؛ يقول سليمان في قصيدته صقيع: “خذْ حريتي يا شتاء/ واعطني معطفًا .. ونهرًا من نبيذ”. إنّنا نجد في هذا المقطع تكثيفًا وتوهجًا ومجانية قد نتجت من كسر أفق التوقّع، فقد أصبح الشاعر أمام مجهول لم يعتده، وهو ابن بلدة ريفية تتكرّر أزمنتها، وقد غادرها إلى مدينة دمشق التي كانت تعيش عصرنة مفادها، بأنّ لا قديم تحت شمسها. لقد أدرك عوّاد مبكرًا بأنّ الإنسان في العصر الحديث يستعبده شتاء اقتصادي وسياسي وديني، لم يبق له إلّا حريته ليقايض بها، وخاصة أنّ التطلع إلى الآمال والغايات التي وعد بها القرن العشرون، قد انتكس فيما بعد، لذلك يخاطب عوّاد هذا السيد الجديد الممثّل له بالشتاء، عارضًا مقايضة غريبة، بأن يقول له، خذْ حريتي والقِ إلي بفتات مخدر، لاستحمل سياطك أيّها السيد، هبني معطفًا لأحتمل بردك، ونبيذًا لأدفأ، وأنسى أنّني إنسان حرّ؛ مادام لن يعقبك ربيع. إنّ كلمة (شتاء) وما تحيل إليه من دلالات، ليس آخرها الشتاء النووي وكلمة (المعطف) التي تأخذنا إلى معاناة أكاكي أكاكيفيتش ومعطفه لغوغول وكلمة (نهر) التي تومئ لهيراقليتس؛ تجسّد محدّدات سوزان برنار لقصيدة النثر.
إنّ ريادة عوّاد تكمن أيضًا في كتابته القصدية العمدية للقصيدة النثرية في خضم سطوة العمود والتفعيلة، فهو لم يتدرّج من العمود إلى التفعيلة، ومن ثم إلى النثر، بل بدأ فيها مستهديًا بقراءاته وترجماته للشعر الأجنبي، في زمن لم تكن تلك القصيدة تستند إلى دعم تنظيري ولا نقدي، وإن حدث باستحياء كما قالت مي زيادة في كتابها (الصحائف): “ما النثر إلّا شعر أفلت من أقيسة الوزن الضيقة، غير أنّه لا يكون مرضيًا إلّا إذا خضع لنواميس الإنشاء بما فيها من توازن الجمل وموسيقى الألفاظ، وسرد الأفكار بسلاسة… فالنثر إذن شعر حرّ، يتسنى لكل كاتب أن يكون شاعرًا في نثره”. هذه الإرادة لكتابة الشعر المنثور هي ما تمنح عوّاد الريادة يقول في إحدى قصائده: “صرت آلة/ صرت شيئًا من المقهى/من المنضدة/من المقعد الجلدي الأخضر… دخّنِ السكائر/ إثر الخمرة يا شاعر الضياع/ يا أخا الفقر/ يا خدين الضجر… آه الضجر/ بلابل لا مبالية/ترحل من مكان إلى آخر”.
لقد تفتحت شاعرية عواد مثله مثل الشعراء الآخرين الذين ذكرناهم أعلاه بلحظة بدأ الاستعمار التقليدي يتراجع، فقد نالت سورية استقلالها عام 1946 عن الانتداب الفرنسي. لقد وفد عواد إلى دمشق وهو ابن بلدة سلمية الريفية، حيث الفصول مازالت تتكرّر منذ الأزل مانحة طمأنينة لم يجدها عوّاد في مدينة دمشق، فتحول إلى متسكّع على أرصفتها، محاولًا أن يجد بوصلة توجهه في هذا التوهان، فكانت قصيدة النثر تعبيرًا عن حياة ما هي إلّا نثار تتقاذفه الأقدار خبط عشواء، يقول عوّاد في قصيدته أغاني القيثارة الخضراء: “القمر يشرق منذ آلاف السنين/ فكم شاهد من أناس، وخبر من حضارات/ كم خبأ في صدره، من أسرار. القمر يشرق/ دون أن يعلم شيئًا عن مبتداه، ومصيره/ كالدهر نفسه، لا يعرف من أين أتى، ولا أين ينتهي!”.
لقد كان الماغوط طوفان نوح لقصيدة النثر والذي تجلّى في ديوانه (حزن في ضوء القمر) الذي صدر عن دار محلة شعر عام 1959 وما تلاه من دواوين. وهنا لنا أن نسأل من تأثر بالآخر؛ الماغوط أم عوّاد؟ إنّ القصائد المختارة في هذا المقال، هل تشعرنا بأنّ هناك روحًا ماغوطية فيها؟ الإجابة ستأتي بالتأكيد، كما يذهب الناقد السوري مازن أكثم سليمان، فالروح الماغوطية موجودة فيها! لكن لنقل بأنّ قصائد الماغوط الأولى كان فيها من روح عوّاد، لكن الماغوط حلق بعيدًا في فضاءات قصيدة النثر، وأخذها إلى أماكن أخرى لم يكن عوّاد قادرًا عليها، فإذا كان الماغوط في لحظة ما تلميذ عوّاد، إلّا أنّه تجاوز أستاذه بأشواط بعيدة، لدرجة يصبح القول بتأثر الماغوط بعواد حديث خرافة. وفي ختام هذه الإضاءة نورد إحدى قصائد عواد
: “أنا لستُ بالصّاحي / لقد شربتُ حتّى ارتويتُ / حتّى تلاشيتُ صبابةً سديميّة / تذهبُ في غيبوبة ذاهلة / أنا لستُ بالصّاحي / لقد كرعتُ حتّى رثَّتِ الأقداحُ / آمِلاً أنْ أتخلَّصَ من عبوديّة التُّراب / ولكنِّي واخيبتاه! / لم أعثرْ إلّا على سراب / أنا لستُ بالصّاحي / لقد تجرَّعتُ حتّى أنسى وجودي / وجودي السَّكران بالشَّقاء وخيبة الآمال / لم يبقَ لي في هذا الوجود / سوى أن أُودِّعَ الحياة / غايتي أن أستحيلَ على مرِّ السِّنين / طيراً بحريّاً أبيض الجناح / يُرافقُ الملّاحينَ عبرَ البحار / أو محارةً تحتضِنُ لؤلؤةً ناصِعة / أو موجةً زرقاء / تُغنّي في أعماق المُحيط”. هذا هو سليمان عوّاد الذي قال عنه رائد آخر من رواد قصيدة النثر اسماعيل عامود ابن بلدته سلمية: “من يتحدَّث عن ريادة الشعر النَّثريّ يجب أن يُدرِكَ أنَّها تعود إلى سليمان عوّاد”.
إنّ تخصيص الإضاءة على الشاعر سليمان عوّاد، بهذا المقال، لا يعني بأنّ الآخرين المغمورين لم يكن لهم دور، بل هي دعوة لإعادة قراءة اللحظة الحداثية في تاريخ أدبنا وكيفية خلقها وتلقيها وانتشارها وعدم الاكتفاء بالأسماء المشهورة، فكثيرًا ما تسند الجرة حصاة.
ملاحظة: تم الاستناد إلى مقبوسات تراثية عربية، للتأكيد من أنّ فكرة كسر أفق التوقّع المكتسب من الأعراف والتقاليد والأنماط الفكرية السائدة، كانت دومًا موجودة، ولم تأتنا كلّية من الغرب.
باسم سليمان
خاص أقلام


January 18, 2025
تاريخ مختصر لنشأة الدراسات الأكاديمية عن الإعاقة – باسم سليمان
باسم سليمان 18 يناير 2025
ظلّ الأشخاص من ذوي الإعاقة عبر التاريخ يعاملون كاستعارة سلبية، فكرية كانت أو واقعية، أسواء كان الأمر في الدين أم الفلسفة أم الأدب أم القوانين، وذلك في الأعم الأغلب من التصوّرات المجتمعية التي تناولتهم في مضامينها، كما يقول عالم الإعاقة (ليونارد كريجل). هذه النظرة اللاإيجابية لذوي الإعاقة انعكست في الرؤية الطبية التي حصرتهم في نطاق ضعفهم الجسدي أو العقلي، فاعتبرت الإعاقة حالة كامنة فيهم، لا يمكن تجاوزها، إلّا بالشفاء من المرض أو إعادة التأهيل، رافضة قبولهم كما هم.
لم يستكن الأشخاص من ذوي الإعاقة للتصنيفات المجهضة لذواتهم من قبل المجتمع، فظهرت في عصرنا شخصيات عديدة قلبت موازين التصوّر المجتمعي عنهم، كالأديبة والناشطة هيلين كيلر في بدايات القرن العشرين، التي كانت تعاني من العمى والصمم. والرسام والكاتب الإيرلندي كريستي براون الذي كان مصابًا بالشلل الدماغي، أمّا في عالمنا العربي، فقد كان عميد الأدب طه حسين مصابًا بالعمى. لكن هذه الشخصيات كانت أشبه بجزر متناثرة يحتفي المجتمع البشري بها، في حين أنّ السواد الأعظم من الأشخاص من ذوي الإعاقة لم ترفع عنهم الاستعارة السلبية، فظلّوا تحت حكم هذه النظرة البخسة لوجودهم، حتى ذهبت بعض المجتمعات إلى إخفائهم أو تعقيمهم وحتى إبادتهم كما حدث في ألمانيا النازية.
كانت الحربان العالميتان في القرن العشرين، وما أفرزتاه من جنود كُثر قد تحوّلوا إلى خانة ذوي الإعاقة بسبب إصاباتهم الحربية، إحدى الأسباب التي دفعت المجتمع إلى إعادة النظر في مفهوم الإعاقة التي كانت بمجملها تحدث بسبب الأمراض سابقًا، أمّا أن يكون الوافدون الجدد لهذا الحقل من الجنود المصابين في الحرب، فلا يمكن إهمالهم، لأنّ ذلك سيؤدّي إلى تكون تصوّر عن المجتمع، بأنّه لا يعتني بمن ضحّوا بأثمن ما يملكونه بعد حياتهم ألا وهي صحتهم في سبيله. إنّ النظرة السلبية التي تكلم عنها كريجل، لم تكن لتستمر مع التقدّم الطبي والتقني للمجتمع البشري، مضافًا إلى ذلك تطوّر العلوم الاجتماعية والفلسفية والنقدية، ويضاف إلى ذلك حركات التحرّر من الاستعمار، وحقوق الإنسان والملونين ووجهة النظر النسوية التي رفعتها المرأة في مواجهة الحيف الذكوري، كانت كلّها، قد شكّلت رافدًا فكريًا وتطبيقيًا داعمًا للاحتجاجات التي انطلقت منها حركات الأشخاص من ذوي الإعاقة للمطالبة بحقوقهم التي أغفلها المجتمع البشري. وبناءً على ما سبق، بدأت تصدر القوانين التي تلحظ الإعاقة وتعمل على تذليلها، فقد كان أول القوانين التي شرّعت من أجل هذه الرؤية: (قانون الحواجز المعمارية 1968) الذي عمل على تخفيف الحواجز بوجه أصحاب الإعاقة، حيث نصّ على أنّ المنشآت المعمارية التي تُبنى بالأموال الاتحادية للولايات الأمريكية يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الصعوبات الحركية التي يعاني منها ذوو الإعاقات في تصميم المباني والساحات والطرق، هكذا بدأ ظهور المنحدرات المناسبة للكراسي المتحركة، أو السلالم السهلة الصعود. فتح هذا القانون نافذة للناشطين في مجال حقوق ذوي الإعاقة لتكثيف ضغوطهم والتي أثمرت عام 1980 بأن أصدرت الأمم المتحدة تصنيفًا رسميًا للإعاقة. تتابعت القوانين التي تدعم حقوق ذوي الإعاقة، فصدر في أمريكا عام 1990 قانون يعتبر انتصارًا مدويًا في تأكيد حقوق ذوي الإعاقة حيث عدّ نضوجًا لقانون التشريعات المدنية الذي صدر عام 1964 لحماية ذوي الإعاقة من التمييز والإهمال المجتمعي. تعتبر أمريكا رائدة في التشريعات الداعمة للأشخاص من ذوي الإعاقة وقد نسج العالم على منوالها، هكذا ظهرت قوانين مشابهة لقانون عام 1990 لكن كان أفضلها هو (قانون المساواة) في بريطانيا عام 2010 الذي جعل التمييز نحو ذوي الإعاقة في التوظيف والتعليم والنقل وتوفير السلع والخدمات وغير ذلك ليس قانونيًا. وأخيرًا نصّت الأمم المتحدة في رؤيتها الشاملة للتنمية البشرية المستدامة لعام 2030 على أن تشمل هذه التنمية الأشخاص من ذوي الإعاقة.
هذا الواقع التشريعي الجديد على امتداد تطوره التاريخي، أفرز رؤى جديدة فضحت مقدار الحيف والظلم الذي كان يقع ومازال على ذوي الإعاقة، وفي الوقت نفسه بيّن أنّ الحركات الشعبية المكوّنة من ذوي الإعاقة والمناصرين لهم منذ ستينيات القرن الماضي، قادرة على توسيع المظلة القانونية لتشمل كل تطلعاتهم، وهذه ما أوضحته إحدى الناشطات من ذوي الإعاقة (سيمي لينتون) بقولها: “لقد خرجنا إلى الشارع غير مرتدين تلك الأردية الصوفية البنية فوق أرجلنا الذابلة، أو النظارات الشمسية فوق أعيننا الشاحبة، ولكن مرتدين السراويل القصيرة والصنادل… بصراحة، وبلا أقنعة، وبلا اعتذار” وما قصدته لينتون بأنّ تاريخ الإخفاء والإخراج من المشهد العام للمجتمع لذوي الإعاقة، والذي مثّله أقبح تمثيل (قانون مكافة المتسوّلين وذوي الإعاقة الأمريكي) الذي ألغي في سبعينيات القرن الماضي، ولكنّه يعود تاريخيًا للقرن التاسع عشر، قد خُرق ولن يعود له مكان. سبق لينتون بهذ المجال الكاتب والناشط البريطاني (بول هانت) في كتابه (الوصمة: تجربة الإعاقة، بإعلان جريء)، والذي قدّمه بالمقولة التالية: “هذا الكتاب غير مريح” والذي يعنيه هانت، بأنّ كتابه وما تضمنه من مقالات لذوي إعاقة آخرين، لن يكون مهادنًا، لأنّ مشكلة ذوي الإعاقة لا تكمن في الضعف الجسدي فقط، بل في علاقتهم مع المجتمع الذي يحيون فيه ويمارس عليهم التمييز السلبي، بهذا التحليل رمى هانت الكرة في ملعب المجتمع الذي كان يجد في الإعاقة كصفة متجذّرة في الشخص مرتكزًا للتخلّص من واجباته نحوه، كما كان يمارس التمييز والإقصاء بحقّ الملونين والنساء على نفس المنوال. لقد شكّلت أفكار كلّ من هانت ولينتون أفق المطالبات لذوي الإعاقة في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم، وذلك باعتبار الإعاقة لا تتعلّق بالشخص بقدر ما هي مرتبطة بمحيطه وبيئته الاجتماعية بمستوياتها كافة: (الدينية والسياسية والاقتصادية). لقد كان هانت عضوًا مؤسسًا في (اتحاد المعوّقين جسديًا ضد الفصل العنصري) كذلك كانت لينتون عضوًا ناشطًا في الحملات الشعبية التي كان ذوو الإعاقة يحيونها في الشوارع والساحات معبّرين عن مطالبهم. وفي كتابها (الخروج) رصدت لينتون يوميات المظاهرات والاحتجاجات والتجمعات التي قام بها ذوو الإعاقة مع مناصريهم للخروج من (المعتقلات) إن صحّ التعبير بقولها إنّ: “المؤسسات التي حبستنا، والعلّيات والأقبية التي كانت تؤوي عار عائلتنا” انتهت إلى غير رجعة. هذا النضال الذي سطّره هؤلاء الناشطين واستلهموه من حركات الحقوق المدنية للملونين والحركات النسوية، عمل في الوقت نفسه على دعم من سبقوهم في تلك الاحتجاجات، من غير فئات كانت تعاني من الاضطهاد المجتمعي، وأفرز تحديّات جديدة يجب تجاوزها بالنسبة لذوي الإعاقة، فقانون الحواجز المعمارية كان خطوة بسيطة وهناك حواجز أخرى يجب رفعها لتحقّق المسيرة الإنسانية لذوي الإعاقة غايتها. وقد لخّصها الكاتب (فرانك باو) في كتابه (إعاقة أمريكا لعام 1978) بما يلي: “المعمارية، والسلوكية، والتعليمية، والمهنية، والقانونية والشخصية” والتي يمكن شرحها باختصار، فالمنشآت المعمارية، لا يجب أن تحدّ من حركة ذوي الإعاقة، أمّا السلوك العام الذي يقوم على التمييز السلبي ضدهم، فيجب أن يتوقّف، فيما الصروح التعليمية من مدارس وجامعات من الواجب أن تفتح أبوابها لهم، ومن الضرورة أن تنصّ قوانين العمل والتوظيف على استيعاب ذوي الإعاقة لتحريرهم ماديًا ولإظهار إمكانياتهم ومواهبهم، ولا يجوز ترك إدماج ذوي الإعاقة في بيئة العمل لصالح رغبات أصحاب العمل وخاصة لجهة الأجور، ولن يتم ذلك إلّا بإصدار تشريعات قانونية حاسمة وواضحة نحو هذه المواضيع، لكن على ذوي الإعاقة أن يخرجوا من قوقعة الإعاقة كسلْطعونات بحر إلى الضوء والحياة.
هذا النشاط المكثّف خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين من خلال تأليف الكتب والحراك على الأرض، أظهر أنّ الإعاقة كانت تقليديًا حكرًا على الطب وعلم النفس والعمل الاجتماعي وكانت تخضع للنظرة الطبية، لكن في السنوات اللاحقة من الثمانينيات والتسعينيات، بدأ العلماء في علم الاجتماع والسياسة الاجتماعية والتعليم والدراسات الثقافية والعلوم الإنسانية في الاستفادة من الحركات الاحتجاجية والحقوق المدنية من أجل طرح نموذج بديل للإعاقة. وقد عارضوا النموذج الطبي الذي تُوصّف فيه الإعاقة بأنّها عجز كامن في الفرد؛ رافضين النظر إلى الإعاقة باعتبارها مرضًا أو التعامل معها باعتبارها مشكلة تحتاج بالضرورة إلى علاج أو إعادة تأهيل أو إخفاء. وبدلاً من ذلك، طرح الناشطون والعلماء نموذجًا اجتماعيًا، يُطلق عليه أحيانًا نموذج “البناء الاجتماعي”، للإعاقة. وقد أكد هذا النموذج على الجوانب العامة والبنيوية للإعاقة وسلّطوا الضوء على وضع الأشخاص ذوي الإعاقة كمجموعة مضطهدة تاريخيًا. يضع النموذج الاجتماعي تمييزًا رئيسيًا بين “الضعف” و”الإعاقة”، وهو على النحو التالي: الضعف: هو الافتقار إلى جزء من أحد الأطراف أو كلّه، أو وجود عيب في أحد الأطراف أو الأعضاء أو آليات الجسم. أمّا الإعاقة: هي الحرمان أو تقييد النشاط عبر آليات منع من المنظومة الاجتماعية التي لا تأخذ في الاعتبار الأشخاص ذوي الإعاقات الجسدية وبالتالي تستبعدهم من المشاركة في التيار الرئيسي للفعاليات في المجتمع. هذا النموذج، كان قد اقترحه لأول مرّة الكاتب (إيرفينج كينيث زولا)، معرّفًا الإعاقة بعيدًا عن النظرة الطبية بأنّها: “قيد وظيفي” لأنّها تنشأ من خلال سيرورة اجتماعية، والتي تظهر من خلال العلاقة بين الفرد الذي يعاني من إعاقة والمجتمع الذي يعيش فيه. حيث يُعيق المجتمع الأفراد من ذوي الإعاقة، من خلال استبعادهم، أو التمييز ضدهم وخلق حواجز عاطفية، أو حسّية، أو معرفية، أو معمارية. وبمعنى أكثر وضوحًا، تشير وجهة نظر النموذج الاجتماعي إلى أنّ مستخدمي الكراسي المتحرّكة، قد يعانون من إعاقة في الحركة، لكنّهم معوّقون بسبب عدم توفير المنحدرات ومرافق الوصول المناسبة. وبالمثل، لا يصبح الشخص الذي يعاني من ضعف السمع معوقًا، إلّا عندما لا يستطيع أي شخص آخر في الغرفة التواصل معه باستخدام لغة الإشارة.
لقد كان للنموذج الاجتماعي للإعاقة تأثير واسع وفعالية واضحة على النظرة المجتمعية إلى ذوي الإعاقة، ويقول الكاتب والباحث (توم شكسبير) بأنّها قد كانت بمثابة قوة للتغيير على ثلاثة مستويات: وذلك من خلال إمكاناتها السياسية لبناء حركة اجتماعية للأشخاص ذوي الإعاقة؛ وعن طريق قوتها العملية في التأكيد على الحاجة إلى تكيّف المجتمع لإزالة الحواجز بوجه ذوي الإعاقة؛ ومن خلال التحوّل النفسي الذي دعم تطوير هوية جماعية بين الأشخاص ذوي الإعاقات الجسدية والعقلية المتنوعة جدًا.
ظهور دراسات الإعاقة كتخصص أكاديمي: ولدت دراسات الإعاقة كمجال أكاديمي في تسعينيات القرن الماضي، وتعدّ نتيجة لما ذكرناه سابقًا، حيث أصبحت البيئة الاجتماعية والتشريعية والمعرفية جاهزة لاستقبال هكذا دراسات بعد التقدّم الكبير الذي أحرزه الأشخاص من ذوي الإعاقة في سعيهم نحو مطالبهم المشروعة والطبيعية. ويؤكد الكاتب (لينارد ديفيس) في مقدمة كتابه (دراسات الإعاقة لعام 1996) على أهمية فهم تشكّل هذا المجال من منظور تاريخي، وذلك من خلال حواره مع مجالات أخرى متعدّدة التخصصات معنية بالحقوق والعدالة الاجتماعية، كحقوق الملوّنين والحركات النسوية: “ليس الأمر، وكأنّ دراسات الإعاقة قد ظهرت ببساطة من رأس شخص ما في تلك اللحظة التاريخية، لكن سيكون من المناسب أن نقول بأنّ دراسات الإعاقة كانت في طور التكوين لسنوات عديدة، ولكنّها، مثل الأشخاص ذوي الإعاقة، لم تعترف بنفسها إلّا مؤخرًا ككيان معرفي وسياسي وخطابي”.
يقول ديفيس في عام 2006 بمناسبة الطبعة الثانية من كتابه: “عندما كتبت المقدّمة لكتاب (دراسات الإعاقة) قبل عشر سنوات، كنت أعلن عن ظهور مجال جديد للدراسة… ومن دواعي السرور أن نلاحظ أنّه بعد أقل من عقد من الزمان، تغيّر كل ذلك. تُدرَّس الآن دراسات الإعاقة في جميع أنحاء الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والعالم. وقد أثمرت أخيرًا جهود العديد من العلماء والناشطين في مجال الإعاقة لولادة هذا المجال من الدراسات الأكاديمية”. يرى مؤرّخ الإعاقة (بول لونجمور) بأنّ تاريخ دراسات الإعاقة يشبه الموجات، حيث كانت الموجة الأولى عبارة عن نشاط، ونضال من أجل الحقوق المدنية والذي بلغ ذروته في قانون الأمريكيين ذوي الإعاقة لعام 1990. فيما تجلّت الموجة الثانية، بظهور دراسات الإعاقة كمجال أكاديمي ظل مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالهوية الجماعية وحملات ثقافة الإعاقة. وفي الآونة الأخيرة، اقترح العلماء بأنّ نظرية الإعاقة تدخل موجة أو مرحلة ثالثة متداخلة مع سابقتها، حيث بدأ المجال في الانقسام حول بعض المبادئ الرئيسية؛ وخاصة في التفريق بين الإعاقة والضعف. لقد كان للنموذج الاجتماعي للإعاقة فائدة كبيرة، حيث تم من خلاله كسر الحواجز البيئية والديناميكيات الاجتماعية الثقافية للإعاقة، لكنّه على الرغم من وسع مظلته، إلّا أنّه لا يستوعب جميع حالات الإعاقة. إنّ التركيز على البناءات الاجتماعية الثقافية للهوية في دراسات الإعاقة قد طغى على المناقشات المهمة حول الحقائق المادية التي يواجهها الأشخاص ذوو الإعاقات الجسدية، من آلام جسدية ومعاناة على صعيدهم الشخصي، التي لا دخل للمجتمع فيها. لقد كان اعتبار الإعاقة صفة مجتمعية لا فردية، بأن هُمّشت المشاعر والأحاسيس الذاتية لذوي الإعاقة. أمام هذه الدراسات الجديدة تعرّض النموذج الاجتماعي للإعاقة لانتقادات بسبب الطريقة التي يُقدم بها الأشخاص ذوي الإعاقة على أنّهم يتمتعون بقدر ضئيل من الوكالة في تمثيل أنفسهم، فقد عدّت الانتصارات التي حقّقوها، ليست نابعة بالفعل من الجمهور من ذوي الإعاقة كما تنصّ الدساتير على أنّ الشعب هو مصدر السلطات. والسبب في ذلك أنّ النموذج الاجتماعي يخضع بمكان ما بشكل كبير كما أوضح الفيلسوف ميشيل فوكو عن دور الدولة في تنظيم وتطبيع الأجساد، من خلال عملية “الإخضاع” وتقنيات القوة الحيوية؛ مثل الإحصاءات والديموغرافيا والتعقيم وتحسين النسل. إنّ وجهة النظر البنائية الاجتماعية تضع الأجساد المعوّقة باعتبارها، على حدّ تعبير فوكو: “أجسادًا مطيعة”. قد تبدو هذه الحجج حول حدود النموذج الاجتماعي وكأنّها تشكّك في نطاق المجال نفسه؛ لذلك يقترح شكسبير، بأنّه على الرغم من قيمة وأهمية النموذج الاجتماعي في الماضي، إلّا أنّه قد: “أصبح الآن عائقًا أمام المزيد من التقدّم”. تبيّن هذه الانتقادات قوة دراسات الإعاقة في إقلاق وزعزعة استقرار حتى أكثر افتراضاتها أساسية. إنّ هذا الجدل الذي أوجدته الدراسات الأكاديمية كان دعوة لتحدّيات جديدة، كالدعوة إلى نظريات بديلة للجسد والألم والمعاناة تأخذ في الاعتبار الإعاقة وأشكال المعرفة ضمن التطبيقات العملية وليس النظرية فقط. وفي الوقت نفسه الذي تؤكّد فيه العودة إلى الاهتمامات الجسدية، هناك أيضًا تركيز متزايد على قضايا ضعف الإدراك، وهي المنطقة التي تم تهميشها تقليديًا في دراسات الإعاقة. إنّ التركيز على قضايا ضعف الإدراك، مثل التوحّد أو متلازمة داون، يتحدّى فهم الإعاقة على أنّها ببساطة عدم توافق بين البيئة الاجتماعية والإعاقات الجسدية للفرد. وبناءً على هذا السياق، يجب أن يتم إعادة صياغة مفهوم الإعاقة. لقد رفضت بعض أحدث الدراسات النظريات المتعلّقة بالإعاقة التقسيم بين العقل والجسد، وبين الطبي والاجتماعي. وبدلًا من ذلك، فقد انطلقت من افتراض مفاده أنّ “الهويات البشرية، مبنية اجتماعيًا، إلّا أنّها مع ذلك ذات معنى خاص وليس جمعيًّا، لأنّها مجسدة بشكل ذاتي وفردي”. يشير هذا المنظور الجديد إلى أنّ الإعاقة تنتج من خلال التفاعل بين الأجساد الفردية والبيئات الاجتماعية كما يوضّح توم شكسبير. إنّ هذا التحوّل والتطوّر، الذي شهدته الدراسات الأكاديمية للإعاقة من المنظور الاجتماعي إلى الواقعية الجديدة للجسد، على الرغم من عمرها القصير، إلّا أنّ دراسات الإعاقة أصبحت منهجًا علميًا كاملًا يفترض النظرية ومن ثم يضعها موضع التطبيق ليرى نتائجها الفعلية في الواقع، ويعمل على تعديلها لتلائم المتطلبات الجديدة لذوي الإعاقة. لقد مضى الزمن الذي كان فيه الأشخاص من ذوي الإعاقة يخضعون للاستعارات أسواء كانت سلبية أو إيجابية، وبدأوا بصناعة استعاراتهم الخاصة ودمجها في محيطهم الاجتماعي والمعرفي. إنّ الدراسات الأكاديمية للإعاقة ستعيد تفسير وتغيير علاقة الإنسان بمحيطه، أسواء كان من ذوي الإعاقة، أم لم يكن.
باسم سليمان
كاتب من سورية
خاص ضفة ثالثة

December 29, 2024
عن الإعاقة في السيرة الذاتية – مقالي في ضفة ثالثة
باسم سليمان 29 ديسمبر 2024
لربما يكون شعار: “لا شيء عنّا من دونِنا” من أدقّ المطالب التي رفعها الأشخاص من ذوي الإعاقة في زمننا الحالي تعبيرًا عن المرحلة التي وصل إليها كفاحهم المستمر من أجل الحصول على حقوقهم الطبيعية التي تغاضى عنها المجتمع البشري لأزمنة طويلة بسبب قناعات دينية وأخلاقية وسياسية واقتصادية. وتعدّ السيرة الذاتية من أهم الأساليب التي لجأ إليها الأشخاص من ذوي الإعاقة للتعبير عن وجودهم الفردي المهمّش، حيث تكمن قوتها في أنّها تعبير أدبي عن الحيوات الحقيقية للأشخاص من ذوي الإعاقة، وليست المتخيّلة التي يكتبها الآخرون عنهم. هذا الشكل الأدبي الذي تتبدّى به السيرة الحياتية لذوي الإعاقة يضعها في قلب وسائل وأدوات الثقافة المجتمعية، ممّا يعني تداولية تلك الحالات الفردية وجعلها منظورة من قبل المجتمع.
إنّ العمى، أو الصمم، أو الشلل، وغير ذلك من إعاقات، هي حالات مرضية تصيب الأفراد، لا الجماعات البشرية كلية، مهما كانت منتشرة، فلا يمكن اعتبارها جوائح مرضية عامة، حتى يتقاسم البشر التجارب والمشاعر عنها، وهذا ما عبّر عنه الشاعر والباحث الأميركي (Stephen Kuusisto/ ستيفن كوزيستو 1955) في كتابه “كوكب العميان”، والذي يعتبر سيرة ذاتية إلى حدٍ ما، حيث أسف في مقدّمة كتابه، لعدم تواجد كتب وبحوث وقصص وروايات في خمسينيات وستينيات القرن العشرين عن كيفية التعامل مع الأطفال الضعيفي البصر أو العميان، حيث عانى والداه الكثير من المصاعب لكي يؤمّنا له قبولًا في المدارس والمجال العام، ولو كانت تلك الكتب موجودة لهان الأمر أكثر. وبمقول آخر، لو اعتبرت هذه الإعاقات ذات طبيعة مجتمعية لعُني بها الرأي العام ولم تهمل. وما يقصده كوزيستو بأنّ أية تجربة بشرية يجب أن يسلط عليها الضوء وتدرس حتى لو كانت نادرة جدًا، فكيف بالأشخاص من ذوي الإعاقة المتواجدين بنسبة معتبرة في المجتمع.
ولكي نفهم الفرق بين الإعاقة كحالة فردية، والجوائح المرضية التي تصيب المجتمع، ونتبيّن المفارقة في استجابة المجتمع لكلتا الحالتين، لنأخذ على سبيل المثال جائحة الطاعون، حيث كتب الإيطالي جيوفاني بوكاشيو (1313-1375) مجموعة من القصص تسمى “ديكاميرون” وكان الباعث لها وباء الطاعون، فالبشرية، على الأعم الأغلب، تعطي اهتمامًا للمشترك العام وتقصي الاستثناء الخاص من اعتباراتها، وهذا ما حدث في جائحة الكورونا في زمننا.
كنّا قد ذكرنا مرض الشلل أعلاه كحالة فردية لا مجتمعية، لكن في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي تحوّل إلى وباء في الولايات المتحدة الأميركية، ممّا جعله مدار اهتمام عام، وساعد انتشار هذا المرض في لحظ حقوق أصحاب ذوي الإعاقة الذين يعانون من إعاقات أخرى مختلفة. إنّ خروج الشلل من حالة فردية خاصة إلى حالة جماعية عامة؛ هو ما جعله ملحوظًا من قبل المجتمع، مع أنّ الشلل في تاريخ الإنسان كان موجودًا دائمًا. وفي المنحى ذاته أنتجت إصابات المعارك في الحرب العالمية الأولى والثانية اهتمامًا جديًا بالأشخاص من ذوي الإعاقات، من خلال تقصيّ حالات الجنود من ذوي الإصابات الحربية الدائمة، فظهرت قصص وروايات وبحوث وسير ذاتية تسرد المصاعب والمعاناة التي يتكبّدها الجنود بعد عودتهم من الحرب.
إنّ إثارة كوزيستو لهذه النقطة تكشف لنا، بأنّ النتاج البشري كان دومًا يوجّه إلى من يعدّون هم القاعدة ويهمل الاستثناء. وهذا المبدأ الاقتصادي الاستهلاكي، لم يخرج عنه لا الدين، ولا الأخلاق، ولا السياسة، ولا الثقافة، فوجود أصحاب ذوي الإعاقة، كاستثناء، في أيّة مروية بشرية كان لخدمة القاعدة، لا لمن هم من ذوي الإعاقة/ الاستثناء، فالعمى أو الشلل كثيمة في السردية الدينية، كانت تستخدم كجزاء رادع لمن يفكّر بالخروج عن تعاليم الدين.
أمّا في السياسة، فالملك أو الرئيس كان يجب أن يكون صحيح الجسد، فالرئيس الأميركي روزفلت كان يأمر الصحافيين بعدم تصويره كشخص مشلول، لكي لا تهتز صورته في أعين ناخبيه والشعب الأميركي. لم يلحظ المجتمع البشري أصحاب ذوي الإعاقة يومًا ككتلة بشرية، كالنقابات أو الطوائف أو الأحزاب… بل كان ينظر إليهم كأفراد، لا حول لهم ولا قوة، ولم يعاملهم إلّا في أواخر القرن العشرين ككتلة بشرية يجب مراعاة حقوقها والعمل على تمكينها للقيام بواجباتها وهذا ما ظهر في تشريعات الأمم المتحدة وفي قوانين الدول.
لقد عالجت الفنون والآداب قضية ذوي الإعاقة من منطلقات عديدة بين قوسي السلب والإيجاب، لكن هذه الإبداعات كانت دومًا تعتبر تمثيلًا للجماعة البشرية، حتى في أشد حالاتها فردية وعزلة، كرواية “أحدب نوتردام”. وعندما ظهر فنّ السيرة الذاتية مع القديس أوغسطين (354-430) مرورًا باعترافات جان جاك روسو (1712-1778) كانت السيرة الذاتية تتناول قضايا اجتماعية في صلبها وإن تم تظهيرها من خلال الحياة الفردية، لذلك تأتي أهميّة السير الذاتية لذوي الإعاقة، لأنّها تُلحق (ألـ) التعريف بمن كان يُعتبر نكرة في المجتمع الإنساني، وذلك لأنّ تسريد الإعاقة من خلال وسيلة إشهارية ومعرفية كالكتاب؛ يعني بأنّ الأشخاص من ذوي الإعاقة قد دخلوا ضمن الثقافة المقبولة والمطلوبة في المجتمع، فالكتاب بيان لفكّ العجمة عن حيوات من هم من ذوي الإعاقة، فتصبح حيواتهم ضمن سياق المجتمع الذي كان معنيًا فقط بهمومه العامة والخاصة، بعيدًا عن حيواتهم ومصاعبهم. إنّ السير الذاتية خطوة جبارة في المسار الطويل الذي بدأ الأشخاص من ذوي الإعاقة بشقّه في صلب العقائد والأفكار البشرية التي تزدريهم. تعمل السير الذاتية كمترجم للغة يتجاهلها المجتمع أو يجد صعوبة في إدراك معانيها، ككلمة قديمة مقرّها في القواميس، لا على ألسنة الناس، والذي تنجزه السير الذاتية، هو إعادة تحيين هذه المفردة وضخّها في الفضاء العام، لكي تفهم وتدرك وتستوعب. تمثل السير الذاتية والمذكّرات والرسائل التي خطّها الأشخاص من ذوي الإعاقة فهرسًا تاريخيًّا يسمح لنا باستكشاف تموضعهم في المجتمع، وكيف طفقوا يثبتون حقوقهم وواجباتهم نحو جنسهم البشري. ولأجل ذلك سنركّز في هذا المقال على السير الذاتية لثلاثة أشخاص من ذوي الإعاقة، عملت سيرهم وحيواتهم وأفكارهم على تفكيك البداهات القارة في الفكر البشري وسنبدأ مع هيلين كيلر.
تعدّ سيرة هيلين كيلر الألف باء بالنسبة للسيّر الذاتية لأصحاب ذوي الإعاقة والتي نشرت في مطلع القرن الماضي، فقد شرّعت الباب الذي ظلّ مقفلًا أمامهم من أجل سرد حيواتهم الواقعية، لكن أهميتها تكمن في تغيير النظرة لبقية الحواس التي كانت مهملة فلسفيًا ودينيًا وثقافيًا كاللمس والشّم والذوق في مقابل حواس العقل: العين والأذن. لقد فقدت كيلر حاستين شريفتين برأي الفلسفة والدين والثقافة في عصرها، وهما: البصر والسمع، لكنّها استطاعت عبر حواس أخرى، كانت مزدراة، أن تتجاوز سطوة البصر والسمع كأدوات لحيازة المعرفة والفكر، إذ أنّ الأصابع تقرأ كالعين والجلد يسمع كالأذن، بهذه الطريقة بدّلت كيلر طريقة نظر الدين والفلسفة والثقافة في الفكر البشري، وإن لم تكن فيلسوفة أو قديسة.
أمّا السيرة الثانية، والتي تعتبر حاسمة بالنسبة لجميع الإعاقات الجسدية الحركية، فقد كُتبت بالقدم اليسرى للرسّام والكاتب الإيرلندي كريستي براون (1932-1981) وكانت بعنوان: “قدمي اليسرى”. ولد براون لأسرة فقيرة، ولأنّه كان يعاني من الشلل الدماغي الذي تسبّب له بفقدان الحركة والنطق، ظن الجميع أنّه يعاني من ضعف في الدماغ يمنعه من التفكير. لقد كان كريستي يشعر بما يدور حوله ويسمع ويفكر، لكنّه لم يكن يستطيع الكلام ولا التعبير، إلّا أنّه كان يملك قدمًا يسرى يستطيع تحريكها، وفي لحظة أقرب لـ (يوريكا) أرخميدس خطّ على الأرض حرف الألف، بعد أن أمسك قلم طبشور بأصابع قدمه اليسرى، فلم يصدّقه والده، فشطب ما خطّه ابنه كريستي، ورسم له مثلثًا بدلًا من حرف الألف باللغة الإنكليزية. لم ييأس براون وكتب كلمة (Mother/ ماما) في تلك اللحظة عاد للأب شعور الفخر بابنه وحمله إلى الحانة حيث رفاقه الذين عيّروه بابنه المصاب بالشلل وصرخ هذا ابني، وكأنّه لم يكن قبل ذلك ابنه! دومًا كانت تعتبر مقولة العقل السليم في الجسم السليم حاسمة في تصنيف البشر بين صحيح ومعطوب، إلّا أنّ كريستي براون نقضها بالمطلق، عندما أثبت بأنّها مقولة فاسدة، لقد كتب سيرة حياته بأصابع قدمه اليسرى على آلة كاتبة. حقّقت سيرة كريستي شهرة كبيرة واستطاع إنقاذ العائلة اقتصاديًا بعد العائدات المادية التي نتجت عن بيع سيرته الذاتية. تم تجسيد سيرة كريستي عبر فيلم إيرلندي عام 1989 نال جائزة الأوسكار.
تأتي الحالة الثالثة من سير الأشخاص من ذوي الإعاقة لتوضّح بأنّ الإعاقة إحدى الحالات الإنسانية والتي قد تصيب الإنسان في أيّة مرحلة من عمره. لقد كان جون دومينيك بوبي الذي كان يترأس تحرير مجلة نسائية يعيش حياة طبيعية وفق فهم المجتمع لمعنى الطبيعي؛ أي لا أمراض ولا إعاقات، لكنّه تعرض لحادث سيارة، تسبّب له بنوبة قلبية، أورثته شللًا كاملا في جسده، فلم يبق من ذلك الجسد الصحي قادر على الحركة إلّا رمش عينه اليسرى. لم تكن حياة بوبي قبل الحادثة ذات شأن على الصعيد الأدبي، فقد نشر العديد من الكتب والمقالات، لكن مع سيرة حياته التي عنونها: “بذلة الغوص والفراشة” نال شهرة كبيرة وإن جاءته بعد موته، فقد ظل سنتين يرصف الحرف قرب الحرف، بمساعدة ممرضة حتى أنجز تلك التحفة الأدبية، التي عالج فيها اليأس والأمل ومعنى الحياة وكيف يمكن استخلاصها من أشد الأماكن عقمًا.
لا نجد إلّا القليل من سير الأشخاص من ذوي الإعاقة في عالمنا العربي، ولربما أشهرها تعود إلى عميد الأدب العربي طه حسين الذي أصيب بالعمى منذ طفولته. لم يفرد حسين مساحة كبيرة عن إعاقته في ثنايا سيرة حياته، لكنّه من خلال إنجازاته أثبت أن غياب البصر لا يعني أبدًا غياب البصيرة.
أصبحت السير الذاتية للأشخاص من ذوي الإعاقة في الغرب خطًا أدبيًا، مثل أي جنس أدبي آخر، له قراؤه الكثر، لذلك نرى في الغرب تطوّر التشريعات التي تسمح للأشخاص من ذوي الإعاقة عيش حياتهم بكامل تفاصيلها. وما زال أدب السير الذاتية في بلادنا العربية حتى للأشخاص المشهورين نادرًا، فكيف بالأشخاص من ذوي الإعاقة؟ إن تكاثر هذه السير لذوي الإعاقة، سيكون داعمًا للتشريعات والقوانين التي تسنّها البلاد العربية، والتي تظل في الأعم الأغلب حبرًا على ورق. أرقن أحرف هذ الكلمات الأخيرة، بإصبع واحدة، كنت قد كتبت بها هذه المقالة، بينما ابتسامة شيشاير (قط أليس في بلاد العجائب) ترتسم على وجهي.

December 19, 2024
المرآة البيومترية* طوطم هذا الزمن
باسم سليمان 19 ديسمبر 2024

لقد شُغف الإنسان بماضيه وحاضره ومستقبله، بالإضافة إلى أناه وبالضرورة علاقته بالآخر، لذلك ظهرت الحاجة إلى وظيفة الشامان والكاهن، ليستقرأ أزمنته وليثبت تميّز أناه في مواجهة غنى الكون من حوله بالآخرين عبر النبوءة والكهانة، فانطلق يستنطق ما حوله ويتقصّاه بالمماثلة والمحاكاة، كما يقول جيمس فريزر في كتابه: (الغصن الذهبي)، محاولًا أن يعرّف سيرورة أزمنته وأمكنته، وذاته وأقرانه، فطبائع الكون من حوله كانت واضحة وثابته إلى حدٍ ما، كذلك الحيوان والنبات، والذي بقي عصيًا عليه هي ذاته وذوات غيره من الكائنات البشرية، وقد وأدرك ذلك من خلال تجربته الخاصة في الإضمار وإظهار عكس ما يرغب وما ينزع إليه، فكيف حين يتعلّق الأمر بمكنونات غيره من أبناء جنسه!
الإنسان كائن مستقبلي بقدر ما هو ماضوي! وعندما أدرك هذه البداهة/ المتاهة، انتصب، يستشرف الآتي من الزمن عبر فضيلة/ نقمة القلق الوجودي، فأبدع مفهوم الطوطمية كنوّاسٍ بين الماضي والمستقبل، مرورًا بلحظتة الآنية/ الحاضرة/ الزائلة، كحال اللّذة/ المعرفة، التي ما إن تُحاز حتى يفرّغها الواقع من مضمونها عبر تقديم معطيات جديدة.
الطوطم حالة زمكانية، ثبوتية، تنبؤية في الوقت نفسه، هذا ما أظهره سيغموند فرويد في كتابه: (الطوطم والتابو) وبه يتم ضبط الحرام والحلال والمقدّس والمدنّس، ومن خلاله انتظمت العلاقات البشرية، فأبناء عشيرة ما، لهم طبائع طوطمهم التي يرثونها ويورّثونها، وكأنّهم بهذا الطوطم يشهرون بطاقة تعريفية لا يحتاج الناظر معها إلى الكثير من التدقيق والفحص حتى يستشرف أفعالهم وردود أفعالهم، أو ما يضمرونه وما يتقنّعون به من مظاهر أشبه بمكيدة الصيد أو الحرب، فهذا الجانب النبؤي/ الفراسة في الطوطم سواء أكان حيوانيًّا أم نباتيًّا أم أبًا أسطوريًا للقبيلة، أطلّ به الإنسان على المستقبل المجهول لذاته أولًا، ولغيره ثانيًا، أكان كائنًا بشريًا مثله أم حيوانًا أم نباتًا، وملك إضافة إلى ذلك، الزمن الماضي، عبر الذاكرة التي تنطلق من الحاضر إلى الماضي ومن ثم إلى الحاضر من جديد، فأبدع الأرشيف الذي يوطّد الماضي في مواجهة النسيان.
هل نحن أولاد الطبع أم التطبع؟:
إنّ قصة: (النملة والجُندب) حكاية عن الجدّ والكسل حكاها إيسوب الفيلسوف، ومن خلالها نلاحظ أولى مناهج دراسة الطبائع من خلال استكناه الصفات المميزة لهاتين الحشرتين وإسقاطها على شخصية الإنسان، فالإنسان الثعلب ليس الماكر فقط، بل له سيماء وملامح وجهية وجسدية وحركية تذكّر بالثعلب، كذلك الإنسان الثور أو الدّب أو الغراب، وقد أكّد الفيلسوف أرسطو فيما نقل عنه، هذا النمط في التعرّف على طبائع الإنسان، ومن هذا التوجّه ندرك أسلوب الشاعر علي بن الجهم الآتي من الصحراء في مديحه للمتوكّل:( أَنتَ كَالكَلبِ في حِفاظِكَ لِلوُدْ/ وَكَالتَيسِ في قِراعِ الخُطوبِ)، فهو يكشف طبائع الممدوح وخاصة أنّه ابن ثقافة الفراسة والتطيّر التي يأمن بها ساكن الصحراء من الغريب أكان بشرًا أم غير ذلك.
لا نستطيع أن نغفل كتاب أوفيد: ( التحوّلات – المسوخ) فالمدقّق للتغيرات التي أصابت شخصيات قصصه، كان بإمكانه أن يتوقّعها من خلال التحليل الطبائعي للشخصية، فعلى سبيل المثال إذا أخذنا الأميرة (دافني) التي تحوّلت إلى شجرة غار، فقد كان لها خصائص الشجرة من طهارة وأنفة وتمنّع إلّا على المنتصرين، لذلك أصبح غصنها تاجًا للأبطال بتخصيص من الإله أبولو. وإذا اتجهنا إلى مصر الفرعونية، فالرموز الحيوانية والنباتية التي ملأت جدران المعابد والمقابر، مع قليل من التبصّر، نكتشف أنّها صور للطبائع، فعندما يصوّر (الجعران) بأنّه رمز للحياة، لا يتأتّى ذلك التصوير، إلّا من طبيعة حياته التي تولد من كرة روث جافة، كما ظهرت الحياة من تراب الأرض.
هذا التبادل الطبائعي، أكان من الإنسان باتجاه الحيوان أو العكس بحثه بشكل جدّيّ الإيطالي (جيامباتيستا ديلا بورتا – القرن السادس عشر ميلادي) مستخلصًا الطبائع البشرية من خلال الشبه بين الإنسان وحيوان ما، وقد كان له دور كبير في نشر علم الفراسة في الغرب، وتبعه في ذلك رسام البلاط الفرنسي ( تشارلز لوبرون – القرن السابع عشر ميلادي) حيث أنجز نماذج كثيرة لوجوه حيوانات بملامح بشرية وقد تجاوزت تلك البورتريهات 250 لوحة وكلّ ما سبق من أجل ضبط الكائن البشري في حظائر يسهل السيطرة عليها.
لم يترك رائد الخيال العلمي (هـ. ج. ويلز) هذا الموضوع يمرّ مرور الكرام، فقد كتب رواية (د. مورو) التي نجد فيها عالمًا يغيّر من فيزيولوجيا الحيوانات لتصبح أشبه بالبشر جسديًا وفكريًا، وخاصة بعد احتدام الجدل الأخلاقي حول تشريح الحيوانات لمقايسة جسدها بجسد الإنسان واكتشاف أغواره في القرن التاسع عشر. ويجب أن لا ننسى السرد الديني عن موضوعنا، فنجد في الكتب السماوية، ذكرًا عن حيوانات ونباتات وحتى عن جماد؛ تلعب أدوارًا لها غاياتها الأخلاقية والتعليمية والترغيبية والتحذيرية، فتساعدنا على فهم الحقّ والحقيقة، فنذكر شجرة التين غير المثمرة التي لعنها السيد المسيح، فكلّ خضارها وبهرجها الجاذب للعين لا ثمر له، أي لا جوهر، وعلى نفس الشاكلة حوت النبي يونس وناقة النبي صالح، والمسخ إلى قردة وخنازير، وبقرة بني إسرائيل وغير ذلك، فالخوف من تشاكل وتشابه البقر، هو ما يدعونا إلى الفراسة وقراءة الطبائع! لعب الأدب حجر نرده في هذا الشأن، فنجد لدى كبار الأدباء مثل دوستويفسكي إصرارًا على رسم الشخصيات بما يتناسب مع طبائعها، وجاراه في ذلك فيكتور هيجو، وفلوبير، وغيرهم الكثير. ولم تشذ عن هذه القاعدة قصص الأطفال التي جمعها الأخوان غريم من ذاكرة الشعوب. في بداية القرن العشرين، أصبح حديث الفراسة خرافة! وخاصة مع سطوة التفكير العلمي، فذهبت نظريات (لومبروز) في علم الجريمة وطبائع المجرمين أدراج الريح، واكتسحت مدارس التحليل النفسي المدرسي الفرويدي ومن بعده تلاميذه بمفهوم اللاشعور كلّ ما سبق، لكن في صلب الحرب العالمية الثانية تم اختيار طياري (الكميكازي/ الانتحاريين) اليابانيين وفق مبدأ الفراسة وقراءة الطبائع، من خلال ملامح الوجه ومظهر الجسد وحركاته، وقد أثبت الأمر نجاعته بنسبة 80%!
قدّم لنا برنامج (السناب شات) في زمننا الحديث أقنعة تمزج بين وجه الإنسان وعدد من الحيوانات المختارة بعناية كالقطط والكلاب والأرانب، فيقوم مستخدم الحساب باختيار ما يناسبه من تلك (الفلاتر) فقد يرغب أن يظهر بشوارب قطّ أو بأذني أرنب، ومهما اعتبرنا ذلك نوعًا من اللعب لأجل المتعة والضحك، لكن اللاشعور الذي يتدخّل في تصرفاتنا الشعورية يجعلنا في خياراتنا نبحث عن طبائع تلك الحيوانات، فننتقي ما يشبه طبائعنا.
درس علم النفس الطبع وأنجز معايير جسمانية، صنف بها البشر كالإنسان الهضمي والإنسان الرياضي…، وقادت تلك التصنيفات إلى استخلاص صفات ونعوت لكل معيار جسدي جعلت الكائن البشري ضمن خانات يعامل على أساسها، أليست العنصرية اللونية والعنصرية الجنسية بين الذكر والإنثى تدخل في نفس المضمار الذي نشأ مع فكرة الطوطم البعيدة في طيات الماضي الغامض للنشوء البشري، فهل بعد كل هذا التطور الحضاري، مازال الإنسان في كهفه؟ تعمل شركات التأمين على إنشاء خريطة جينية للذين يشتركون لديها بالتأمين الصحّي، ومن خلال تلك الخريطة، تتوقّع شركات التأمين الأمراض المحتملة بشكل جدي، فترفع نسبة اشتراك التأمين، وقد ترفضه من الأساس، بناء على استشراف تلك البيانات الجينية. يعتبر عمل الشركات غير قانوني وترفض الجهات الرقابية ذلك، لكن من سيمنع المرآة البيومترية المتاح استخدامها لهذه الشركات، وخاصة مع انتشار صور البشر على كل وسائل السوشيال ميديا والأهم وجود الكاميرات التي تراقب حركة البشر من كلّ زاوية كما في لندن العاصمة بحجّة الأمن ومكافحة الإرهاب، من أن تنفذ مآربها.
المستقبل نوع من الماضي:
إذا جرّدنا كلمة (مستقبل) من أحرف الزيادة، نتحصّل على جذر(قَبَلَ) والذي يعني تمام الأمر وحصوله، فالقبول يؤدي معناه إلى انتهاء المساومة/ التنبؤ، وهذا يدخله حظيرة اللحظة الآنية التي لا تلبث أن تصبح ماضيًا، ومع القليل من المكر اللغوي، ألا نرى في كلمة (قَبْلَ) معنى الماضي! رويدًا، رويدًا، يتكشّف لدينا جزع الإنسان من جزئية المستقبل ومحاولته المستميته للسيطرة عليه بالمطلق، ممّا أدّى إلى نكوصه إلى طوطمه الحيواني أو النباتي، فقد دخل عوليس في جدلٍ مع أحد بحارته الذي تحوّل إلى حيوان ما، بقدرة حورية البحر كاليبسو، فشرع البحّار/ الحيوان، يجادل عوليس بفضائل الحالة الحيوانية التي أمسى فيها، فليس من قلق ولا مسؤولية ولا مستقبل ولا ماضٍ، فقط الحاضر ومتعه اللامتناهية.
تقودنا المعرفة التي حرّرتنا من ربقة القانون الطبيعي الصارم على الحيوان والنبات إلى عبودية جديدة لا تترك شاردة ولا واردة، إنّها عبودية تحوّل المستقبل إلى ماضٍ، وتلغي قدرتنا على صناعة مصيرنا الخاص. كانت الطوطمية حالة شعرية تفتح المستقبل على آلاف الدلالات كما الصورة في الشعر، والآن تحوّلنا الطوطمية المعرفية إلى مسنننات في آلة كبيرة مائعة، كما يؤكّد الفيلسوف زيجموند باومان في كتابه “الحداثة السائلة”. في النهاية لن نستطيع أن نحسم أيّهما أفضل حالًا، النملة أم الجندب، الطبع أم التطبّع، لكن مسخًا من كليهما سيجعل من المستقبل ممكنًا!
هوامش:
*البيومترية: علم تحقيق شخصية الإنسان عن طريق مكونات الأجسام البشرية، كـــالصفات الشكلية، والفسيولوجية، والتشريحية وملامح الوجه والصوت والبصمات وغير ذلك. *المرآة البيومترية: برنامج يقوم بتحليل صورة الشخص، بعد أن يقف أمام مرآة، أقرب لجهاز السكانر، وخلال مسح الوجه من قبلها، يسأل الجهاز الشخص عدّة أسئلة، فيحكم على صلاحه لعمل ما أو عدم قابليته لذلك، حتى من الممكن توقّع إرتكابه أفعال معينة قد تكون جرمية.
باسم سليمان
كاتب من سورية
November 17, 2024
صورة بألف كلمة عن الإعاقة
باسم سليمان 17 نوفمبر 2024
يقول سقراط: “تكلّم كي أراك” وبناءً على هذه المقولة، لم يتح للإعاقة كصفة يتميّز بها جزء من البشر، أن تتكلّم عن نفسها، فدومًا كان هناك من يتحدّث عن المعوّق، أمّا المعوّق فلم يكن يملك حق الإخبار عن نفسه. وقد مضت قرون كثيرة، كُتم فيها صوت الإعاقة، حتى ما بعد منتصف القرن العشرين، حيث بدأت تعلو أصوات أصحاب الإعاقة وبدأوا يعلنون عن ذاتهم، فيظهرون كما هم؛ وفق مقولة سقراط، بعيدًا عن الشفقة أو الشيطنة، وبعيدًا عن الأنماط السلبية أو الإيجابية التي وضعهم المجتمع فيها. لقد لحظتْ الأساطير أصحاب الإعاقة، وكذلك الأديان والفنون والآداب قديمًا، لكنّنا لا نجد إعاقة تشرح كينونتها إلّا فيما ندر. ولم تخالف الثقافات الحديثة هذا النهج وضمنًا ما نتج عنها من فنون جديدة كالرواية والسينما على سبيل المثال. تعتبر السينما مع صنوها التلفزيون من أقوى أنواع القوى الناعمة للتأثير في آراء الشعوب، ولربما جوهر هذه القوة الناعمة للسينما والتلفزيون تفسّرها مقولة: “صورة واحدة تساوي ألف كلمة” والتي ظهرت في السنين الأولى للقرن العشرين، حيث أبانت بشكل قطعي عن سلطة الصورة في عصرنا، أكان الأمر بشكل إيجابي أم سلبي، على غيرها من وسائل البيان البشري كالنطق والكتابة، والأهم على الناظرين إليها، فما تكرّسه الصورة الثابتة أو المتحرّكة ينحفر عميقًا في شعور ولا شعور الإنسان. قال كونفشيوس: “سماع الشيء لمئات المرّات، ليس أفضل من رؤيته”. ونستطيع أن نلعب بكلام كونفشيوس، بأن نستبدل كلمة: (سماع) بكلمة متصادية معها، أي: (القراءة) فلن يحدث فرق، فالرؤية/ الصورة ستظل أقوى من السماع والقراءة. إنّ أهمية الرؤية بالعين التي تكلّم عنها كونفشيوس، تسمح لنا بأن نعطي للصورة ذات الأهمية، ونستطيع أن نستدلّ على هذا التشابه بين الرؤية العينية والصورة، ممّا تحوية اللغة من صور، كونها وعاء الفكر، والتي تأتي على شكل تشبيه أو استعارة أو كناية، تعبيرًا عن مفاهيم حسيّة أو معنوية، وبهذه الصور الفكرية يتحصّل الفهم والإدراك أكثر بكثير مما لو قدمت الأفكار عبر كلام مجرد محض، فكثيرًا ما لجأ الفلاسفة ورجال الدين وغيرهم من المشتغلين بالكلمة إلى الصور الفكرية واللغوية لتبيان مقاصدهم وتوضيحها؛ لذلك ذهب القديس يوحنا الدمشقي إلى مدح الأيقونة/ الصورة، حيث كان متبصرًا لتأثيرها الحقيقي في المتطلّع إليها من المؤمنين، فقد جاء كلامه على أثر الحرب على الأيقونات التي قام بها الإمبراطور البيزنطي في القرن الثامن ميلادي، حيث عدّ القديس يوحنا الصورة وسيلة إيضاح مناسبة ومؤثرة لأمور الدين بالنسبة للأميين والبسطاء، ولا يجوز منعها. كان للصورة عبر تاريخها، أ سواء كانت محرّمة أو مخصوصة بالأشخاص المقدّسين، ومن بعدهم السياسيين وصولًا إلى الناس العاديين تأثيرها الحاسم على التصوّرات التي يتبنّاها الناس عن شخص ما أو عقيدة ما أو حادث ما. يذكر ريجيس دوبريه في كتابه: (حياة الصورة وموتها) بأنّ تمثالًا من الشمع أي صورة مجسّمة كانت تُقام مقام الإمبراطور الميت، حيث تقدّم لهذا التمثال الشمعي المراسيم التعظيمية المناسبة لشخص الإمبراطور من عزاء ووداع إلى حين حرق الجثة، دلالة على أنّ الصورة تقوم مقام من تمثّله. وإذا انتقلنا إلى دارسة تأثير الصورة، أكانت معنوية أو محسوسة، على أصحاب الإعاقة في وسائل الإعلام من سينما وتلفزيون، سنرى أنّها أكثر خطورة من الكلمة بشكلها المنطوق أو المكتوب، فالصورة لها إمكانية تبنّي وتكثيف وتثبيت معتقدات المشاهدين عن موضوع ما، أو تحطيم هذه المعتقدات وإعادة بنائها بأسهل الطرق.
لقد استعارت السينما والتلفزيون بداية، صورة الإعاقة السلبية التي تتواجد في تصورات ومفاهيم المجتمع بعجرها وبجرها، بل تكاد تكون حذو النعل بالنعل، وإذا كان من دليل حاسم على هذا الأمر، فلا بد من ذكر أنّ من أوائل أفلام الأخوين لوميير كان فيلم قصير بعنوان: (المُقعَد الكاذب1897) فالفيلم يصوّر صاحب إعاقة يستجدي الناس العطاء، وعندما يقترب منه الشرطي ليتأكّد من إعاقته ينتصب المقعد ويجري بعيدًا وهو بكامل صحته. نستطيع قراءة معطيات هذا الفيلم القصير من بدايات السينما بعدّة طرق منها، بأنّ هناك من ينتحل صفة الإعاقة ليتسوّل من الناس الرأفة والشفقة، ممثّلة ببعض القطع النقدية، لكنّ القراءة السطحية للصورة المقدّمة في فيلم لوميير ستنحو إلى اعتبار الإعاقة هي سبب التسوّل، ولن ينظر إلى الخداع الذي قام به الرجل؛ ويدعم هذا التفسير أنّ كلمة (handicap/ المعوّق) ترجع إلى مصطلح: القبعة في اليد، والذي يعني التسوّل. ومن هنا تأتي خطورة الصورة ثابتة أو متحرّكة، فيما تعرضه، فهي تخاطب مباشرة قناعات وطبائع المشاهدين المكرّسة اجتماعيًا وسياسيًا، من دون أيّة محاولة لنقدها، ففي القرار الذي اتخذته النازية بتحييد أصحاب الإعاقة من المجتمع الألماني استخدمت أفلامًا سينمائية تصوّر أصحاب إعاقات شديدة، وما يترتب على ذلك من معاناة للشخص المعوّق ولأولئك الذين يعتنون به، إلى جانب التكلفة الاقتصادية الكبيرة للعناية بالمعوّقين، وكل ذلك لإيجاد الحجة المقنّعة بالصالح العام للمجتمع من أجل تعقيمهم جنسيًا، ومن ثم قتلهم.
قد لا تتبين أهمية الصورة الممثّل لها في السينما والتلفزيون بالنسبة للإعاقة، لأنّه هناك الكثير من الأفلام والمسلسلات قدمت جوانب عديدة للإعاقة، طبعًا لم تظهرها كما ينبغي، لأنّ صفة الإعاقة لم تكن تتحدّث عن نفسها، وإنّما كانت تلعب دورًا نمطيًا، كأن يصوّر المعوّق بريئًا كطفل كما فيلم: (Rain Man/ رجل المطر لعام 1988) مع أن الفيلم مقتبس عن الأمريكي (كيم بيك) المصاب بالتوحّد ويملك قدرات استثنائية، إلّا أنّ الفيلم أظهر شخصيته ببراءة منقطعة النظير، ممّا أفقدها واقعيتها، أو أن تعرض السينما والتلفزيون شخصية المعوّق كملهِم، وهذا ما استنكره عالم الإعاقة بول لونجمور، وقالت عنه إحدى الناشطات في حقوق الإعاقة، أنّ تقديم المعوّق كشخصية ملهمة أشبه بــ(الإباحية الملهمة)، لأنّ المعوّق يصبح مجرد وسيلة لا غاية بذاته. وما نقصده، بأن تبيّن الخطورة التي تحملها صورة الإعاقة في السينما والتلفزيون من الممكن تضليلها وتأطيرها بالعواطف والتمنّيات، لأنّها إذا ذهبت باتجاه تصوير الواقع كما هو، فإنّها تجبر المجتمع على فتح عيونه على المناطق المظلمة منه، والتي يخفيها بأساليب كثيرة. يعدّ فيلم (Titicut Follies- حماقات تيتكت لعام 1967) للمخرج فريدريك وايزمان من أوائل الأفلام الوثائقية التي رفعت مخرز الحقيقة في وجه عين المجتمع المغمضة، فقد صور المعاملة القاسية والضرب والتنمر على المساجين المجانين من قبل حراس مشفى (بريدجوتر الحكومي للمجرمين المجانين) في ولاية ماساتشوستس الأمريكية. وأمام هذا المضمون الحقيقي للفيلم مُنع عرضه بأمر من المحكمة في أمريكا. وقد كانت هذه المرّة الأولى التي يمنع فيها فيلم لأسباب لا تتعلّق بالتابوهات الثلاثة: الدين والسياسة والجنس، وإنّما لأنّه تناول قضية الإعاقة بمنظور واقعي، فمنع عرضه، وقرّرت المحكمة حرق نسخه، لأنّه بحسب وجهة نظر المحكمة كان ينتهك حقوق الناس! استأنف المخرج الحكم بالمنع، فمنحت المحكمة العليا الأذن بالعرض لمجموعة محدّدة من المشاهدين لأغراض تعليمية: “كالقضاة والمشرعين والأطباء والمحامين وعلماء الاجتماع والعاملين الاجتماعيين والأطباء النفسيين والطلاب في هذه المجالات أو المجالات ذات الصلة والمنظمات التي تتعامل مع المشاكل الاجتماعية للرعاية الاحتجازية والضعف العقلي”. لكنّ الفيلم انتظر طويلًا حتى سُمح له بالعرض الجماهيري في عام 1991 وبقرار من المحكمة العليا الأمريكية. لم يحدث هذا السماح إلّا بعد أن مات أكثر نزلاء ذلك المشفى!
بدأت الأفلام الوثائقية عن أصحاب الإعاقة تشق طريقها إلى الجمهور والجوائز بعد فيلم فريدريك وايزمان، فقد نال فيلم: (I’ll Find a Way/ سأجد طريقة- لعام 1977) للمخرج بيفيرلي شافر جائزة أفضل أوسكار عن فيلم وثائقي قصير. يصوّر بيفيرلي طفلة تدعى (ناديا) لديها إعاقة وتأمل ناديا أن تلتحق بمدرسة عادية على الرغم من أنّها تعلم أن الأطفال الآخرين سيضايقونها، لكنّها أجابت عن هذا الأمر: (بأنّها ستجد طريقة). لقد كانت ميزة هذا الفيلم، بأنّه صوّر شخصية ناديا، لا ما نتخيله نحن عنها.
لقد حصل فيلم (King Gimp/ الملك جيمب) على جائزة الأوسكار لعام 2000 فقد كان عن الفنان (دان كيبلينجر) الذي يعاني من شلل دماغي، ولا يملك سيطرة على أطرافه، ولا يستطيع الكلام، وكانت فرشاة الرسم تثبت بخوذة على رأسه. التقى مخرجا الفيلم (سوزان هداري وويليام وايتفورد) دان عندما كان صغيرًا وأنتجا خلال ثلاثة عشرة عامًا الكثير من ساعات التصوير، استخلصا منها 39 دقيقة لتكون مدّة الفيلم. شارك دان بالتصوّرات عن الصيغة النهائية للفيلم، وخاصة لمنع أن ينمّط ضمن خانة البطولة أو المأساوية، وعندما أعلن فوز الفيلم قفز دان من كرسيه تعبيرًا عن فرحة النصر.
يقال بأنّه في غرفة التحرير والمونتاج تصنع الحقائق، وذلك بعمليات القص واللصق والحذف والدمج، وتهدر في الوقت نفسه الحقائق بذات العمليات. في تلك الأفلام الوثائقية التي عرضنا لها استبعدت غرفة التحرير والمونتاج من يد المتكلّم الآخر، وأعطيت لأصحاب الإعاقة، ليكونوا ذاتهم بعيدًا عن القص واللصق والحذف والدمج. هذه الأفلام طرحت على صناع الصورة حقيقة بأنّ استبعاد أصحاب الإعاقة عند التعرّض لحالتهم واستبدالهم بممثلين أصحاء لن يكون في صالحهم، ولذلك بدأنا نرى أفلامًا ومسرحيات ومسلسلات يأخذ فيها أصحاب الإعاقة أدوارهم كما في سلسلة (Blind Love/ الحب الأعمى) الذي يصور أربعة من فاقدي البصر في سعيهم نحو الحبّ، لكن هذا لا يعني أن أفلامًا صورت حياة المبدعين كهيلين كيلر أو ستيفن هوكينغ عالم الفيزياء النظرية وعلم الكون، ليست إيجابية، لكن لنتصوّر لو كان من أخذ دور هيلين كلير ممثلة لها حالتها، كذلك الأمر عن هوكينع، فكم سيكون الأمر رائعًا. أخيرًا بدأت مقولة سقراط: “تكلم كي أراك” تأخذ معناها الحقيقي في صناعة صورة المعوّق الحقيقية، ولا بد أن الأمر سيتطور جدًا وتصبح صورة المعوّق تساوي الحياة بأبعادها كافة.
باسم سليمان
كاتب سوري

November 12, 2024
من أجل ماضٍ أفضل – قصتي في مجلة الرافد الإماراتية – باسم سليمان
هاتفتُ أصدقاء العمر، لربما أجد صورًا لي من الماضي معهم!
– من أين نعثر لك عمّا تسأل؟ ألهذا تتصل!
للحقيقة، البعض منهم، لم يوفّر جهدًا، فلقد تحصّلت على بعض ما طلبت، أمّا البعض الآخر، فقد ظنّوا بي الخرف! لم أعتبر ألبوم الصور كاملًا كما أشتهي، ولكنّه جيدٌ، فقد استطعت أن أعيد تركيب الماضي إلى حدٍّ ما.
هكذا أصبحت أجلسُ في خلوتي، لأمارس طقس التذكّر، هنا صورة لي، وأنا في رحلة إلى تدمر، وأخرى لرفاق لي في التعليم الثانوي، وهذه أول حلاقة على الصفر لشعري عندما خدمتُ عسكريتي. أمّا صور طفولتي، فكانت تمنحني ذاكرة مرمّزة بالحنان والشوق، لكنّها بلا أفكار واضحة لأعيد صياغتها، وخاصة عندما كنت في طور الرضاعة: آه يا أمي، لو أنّك مازلت على قيد الحياة؛ لكنتِ أسعفتني بما أريد.
يقول أبي: ما بكَ يا مجنون، وهل تركت لنا الحرب الدائرة الكثير لنتذكّره؟ أمّا البقية من عائلتي، فقد خمّنوا بأنّ هناك مشروعًا، أعمل على إنجازه.
ماذا أقول! لم يبقَ لي شيء آخر غير التذكّر، والباقي من حياتي بأجمعه متشابه، بطريقة تدعو للدوران حول نفسي، وفقدان الوعي.
لم أكن أستطيع أن أعدّ السعي وراء لقمة العيش وتأمين بيت وتأسيس أسرة، هو حقًا ما يملأ الحياة بهجة وانشغالًا، ونسيانًا، وحزنًا، وفرحًا، بحيث يصبح وضع الرأس على المخدة في نهاية اليوم، هو المشتهى. لا بُدّ أنّ هناك شيئًا آخر مفقودًا، يربط بين تلك الذكريات المبعثرة ويخرجها من العادة القاتلة إلى رغبة في يوم جديد! أعترف أنّني أصبحتُ كالبقرة التي تعود من المرعى مساءً؛ لتقضي الليل كلّه وهي تجترّ العشب.
لو أجري وراء الكرة حتّى تتكسّر قدماي في ساحة القرية، وأعود إلى البيت متسخًا وأنال نصيبي من الصفعات الحنونة من أمي، فالأمهات عندما يضربن! يضربن بحبّ. إنّني أحنّ إلى بعض تلك الكفوف وصراخها: ألم أقل لك، لا تلعب بثياب المدرسة ثانية. ولكنّها عندما تجرّني إلى الحمام من أذني، وتسكب أول طاسة ماء ساخن، تبدأ بالغناء.
أشتاق إلى أنْ أستيقظ صباحًا لأجد حبّ الشباب وقد انبثق في وجهي، فأعمل على تنظيفه، وأنا أنظر إلى شفرات الحلاقة العائدة إلى أخي الكبير، فأهمس لنفسي: الحلاقة هي الوسيلة الناجعة للقضاء على حبّ الشباب. ومن ثم أسرّح شعر رأسي بمصفّف الشعر، فأسمع أبي يقول: ما هذا الوسخ الذي تضعه على رأسك! أتجاهل كلماته وأهرع إلى الشارع، أنتظر قدومها على زاوية الطريق، فقط لتسلّم عليّ، ومن ثمّ نتمشى صامتين باتجاه المدرسة، فهكذا أكون قد جهزّت ما يلزم لأنام ليلتي، وأحلم بغدٍ يفكُ صمْته الكلام.
ماذا حدث لك أيّها القلب؟ لماذا لم تعد تجيد غير ضخ الدماء؟ إنّك كوظيفتي والطقم الذي ألبسه! إنّك جامد كتمثال، لا تقارن أيّها القلب، أبدًا، بأيام بنطال الجينز وT شيرت وحذاء الرياضة، ففي تلك الأيام كنتَ تصهل كحصان في داخلي، وتدقّ بحوافرك على قفصي الصدري.
هل أصبحت عجوزًا هرِمًا؟ لكنّ وجهي لم يتغضّن جبينه بعد، ولم تتسع صلعتي! هذا ما تقوله بطاقتي الشخصية، فأنا في العقد الرابع والمعنى: شباب! إذن؛ لمَ لم يبق لي غير الصمت والتذكّر؟ هل أنا غير سوي؟ يخيفني السؤال!
أمضغ كلّ شيء ببطء سلحفاة، مبتسمًا، كأنّني قد وضعت ملقطي غسيل على وجنتيّ؛ كي أحافظ على بعض ابتسامه، فلست قادرًا على تحمّل تلك النظرات المستفسرة من الآخرين، ولا أستطيع الشرح، فمنذ زمن بهتت ألواني، وبتّ أقوم بكلّ أعمالي بشكل نفّر الآخرين منّي. “أربعون حولاً- لا أبالك – يسأم”؛ أضحكتني المقارنة جدًا مع بيت زهير بن أبي سلمى، فرحتُ أسعل من كثرة القهقهة لتلمع في ذهني فكرة قد تجعل الحياة أقل رتابة؛ أو لنقل متفجّرة كنبع في الربيع. أخذت نفسًا عميقًا وسعّتُ به أفق الشباك الذي أطلّ منه على الشارع الفرعي في مكان عملي. نحّيت جانبًا كل تلك البنايات التي تنتصب أمامي. مددت المدى وأخرستُ الزحام وأنا أدندن أغنية شبابية، نقّيت الهواء من حولي بياسمينة وشجرة ليمون في خيالي، ومع البرودة التي تنساب من البحيرة الصغيرة في ساحة المؤسّسة، ابتسمت لزميلتي بدون ملاقط غسيل على الوجنتين: أراكِ غدًا!
يجب أن أحبّ، أن أعشق، أن أهيم، من إذن؟ زميلتي في العمل، السكرتيرة! ولكنّني لست مديرًا لتقع في غرامي! أو مراهقة كـــــ(لوليتا) للروائي نباكوف، لكن من أين أجد امرأة مطلقة أو أرملة لأتزوّجها ومن ثم تغرم بي ابنتها! ومن أين لي الشجاعة لأقتل أمّها! لست قاسيًا حتى إنّني أخاف من منظر الدم، وهذا ما عطّل على أبي حلمه، بأن أصبح طبيبًا. ضحكت من كلّ قلبي على تلك الأفكار حتى من كان معي في الباص، قد ظنّوا بأنّني مجنون.
لم أذهب إلى البيت مباشرة، قصدت تلفونًا عامًا مع أنّ جوالي معي، واتصلت بإحداهن، وقلت جملًا كثيرة دون أن أنتظر الإجابة خاتمًا كلامي: بعد نصف ساعة، لا تتأخري!
تنقل ساعتي عقرب دقائقها بكلّ تأنٍ، فيما أنظر إلى مينا الساعة الذي تآكل لونه ومعدنه. مضت عشرين سنة وأنتِ في يدي؛ كانت ليلة حمراء عندما أهدتني إياها. انقضت ربع ساعة على الوقت المحدّد، إنّه الزحام، هذا ما فكّرت به، سوف تأتي بلا ريب. جلستْ قبالتي على الطاولة ملهوفة ووجهها يحمل ألف سؤال!
– ماذا تشربين؟ أو بالأحرى ماذا سنأكل؟ وبوجهٍ يكاد يلتهمني لينطق غاضبًا من الهلع الذي سبّبته لها. ولكن قبل ذلك، نظرتُ إليها بعينين تعودان إلى عشرين سنة خلت، وقلت: أحبكِ …
رنّ الخلوي.
– أين أنتما؟ هل حدث شيء؟
فأجيب: لا شيء يا ولدي، ولكنّني دعوت أمّك إلى الغداء.
أغلقت الألبوم.
تمت
https://arrafid.ae/Article-Preview?I=0PAwwC8qeEg%3d&m=5U3QQE93T%2f0%3d

باسم سليمان's Blog
- باسم سليمان's profile
- 24 followers
