الحداثة الغائبة والسرد البوليسي-دراستي في كتاب : (الرواية ولغاتها – دراسات وشهادات في الرواية العراقية) المرفق مع مجلة أقلام العراقية عن القصة لعام 2024 والتي تصدر عن دار الشؤون الثقافية العامة – وزارة الثقافة والسياحة والآثار العرافية.

ليس الشكل الفنّي لنتاج إبداعي ما، إلّا نتيجة لمجموعة من الأسس، لا تقتصر على عناصره الداخلية فقط، بل يتداخل في إخراج هذا الشكل الإبداعي عوامل خارجية مجتمعية من سياسية وثقافية واقتصادية. وإذا أخذنا السرد القصصي كمثال نجد أنّ أحد العوامل التي دفعت به إلى الواجهة، هو ظهور الصحافة الورقية، فالشكل الفنّي في تحقّقه يتجاوز بناه الخاصة، ليتعاضد مع بُنى خارجة عنه حتى تكتمل مرآويته. وعندما نقترب من السرد البوليسي الذي ابتدأ في منتصف القرن التاسع عشر مع الأمريكي إدغار آلان بو نجد معطيات لا تتعلّق بالفن، بالمعنى المباشر، كان لها الدور الحاسم في نشوئه. إنّ البُنى المدنية المعقّدة التي ظهرت في أوروبا نتيجة ولادة الدولة القومية، ومبدأ فصل السلطات، وظهور مؤسسات الشرطة، والتطور العلمي العملي البحثي، كان لها دور فاعل في وجود المحقّق الرسمي أو التحرّي السري، والذي يعتبر عماد السرد البوليسي.

عرفنا الرواية البوليسية وتأصيلها التاريخي من الغرب، فقد كانت رواية إدغار آلان بو؛ (جريمة في شارع مورغ) الفاتحة لهذا الجنس الروائي. حيث تم استنباط الأسس الثلاثة منها والتي أقيمت عليها هيكلية هذا الجنس من السرد الأدبي، وتتجلّى هذه الأسس، أولًا بوجود جريمة قتل بالأعم الأغلب، وثانيّا، مرتكب الجريمة المجهول، وأمّا الركن الثالث فيظهر بالمحقّق الذي يفكّ شفرات غموض الجريمة، ويكشف عن مرتكبها بأسلوب مشوّق يتنامى تدريجيّا حتى لحظة انكشاف الحقيقة. وقد اعتبر التحرّي أوغست دوبان الي أبدع شخصيته إدغار آلان بو، الأب الشرعي لمن جاء بعده من شخصيات المحقّقين، كشرلوك هولمز مع المؤلف آرثر كونان دويل، وهيركل بوارو مع أغاثا كريستي، وروبرت لانغدون مع دان براون. وفيما بعد تم التنويع على هذه الأركان وعلائقها ببعضها البعض، فظهرت الرواية السوداء ورواية التشويق.                                                                                 عرفت الرواية البوليسية ازدهارًا كبيرًا في القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، ومن ثمّ تراجع الاهتمام بها بعد ذلك، لكن مع رواية وشم الوردة لأمبرتو إيكو، وشيفرة دافنشي لدان بروان، وآخرين غيرهم عادت الرواية البوليسية للتربّع على عرش اهتمامات القراء.  لحظ النقّاد وعلماء النفس أهميّة الرواية البوليسية، حيث نجد جاك لاكان يحلّل قصة الرسالة المسروقة لإدغار آلان بو، ويكشف من خلال الغوص في تفاصيلها ما يحمله هذا اللون من الأدب من خصائص قادرة على الغوص في النفس البشرية. تعمّق الاهتمام بالسرد البوليسي وتتبّعها كبار النقّاد كتزفيتان تودوروف، لكنّ المفكّر الفرنسي بيير بيّار خطا خطوة جبارة في الكشف عن مضمرات هذا السرد، فلقد ذهب عكس المتوقّع، فبدلًا من تحليل الأدب وفق مذهب التحليل النفسي طفق يحلّل علم النفس بموجب الأدب مستندًا إلى قصص وروايات أغاثا كريستي، فقد بيّن أنّ النص الأدبي يسمح بفهم  أكبر لبعض المفاهيم في منهج علم النفس التحليلي، بل وإغنائها.                                                                                                     هذا التأصيل التاريخي كثيرًا ما استند إليه في تبرير غياب القصة والرواية البوليسية عن مجتمعات معينة  قد عانت من أنظمة شمولية، جعلت من مؤسسة الشرطة أداة قمعية، فلا يمكن تصوّر محقّق كما شرلوك هولمز أو هيركول بوارو يلعب ذلك الدور في تلك المجتمعات. وهذا الوضع لحظ في بلاد كإسبانيا التي تأخر ظهور الرواية البوليسية فيها إلى ما بعد القضاء على ديكتاتورية فرانكو فيها. كذلك إيطاليا التي منعت السلطات الروايات البوليسية فيها إبّان حكم موسوليني. وعندما نطل على البلاد العربية نرى أنّ الفن الروائي والقصصي قد اشتبك مع الواقع على جميع الأصعدة، إلّا في النمط البوليسي الذي ظلّ صوته خافتًا، بل ويكاد أن يكون معدومًا، حيث جاءت التعليلات من الروائيين والنقّاد بأنّ شمولية أنظمة الحكم العربي وقمعيتها واستخدامها للأجهزة البوليسية لصالحها، واحتكارها حقّ التحقيق والسؤال منعت الجنس الروائي البوليسي من إيجاد أرضية له في مخيال الكاتب إلى جانب القارئ، بالإضافة إلى استمرار النظرة التبخيسية لهذا الجنس التي سادت في فترة معينة في أرض منشأها الإنكليزي والفرنسي والأمريكي، فظل الروائي العربي رهين تلك النظرة التي أكّدها له الناقد الذي ترفّع عن الخوض في التنظير لهذا النمط الروائي. هذا المنظور للرواية البوليسية دُعم بطبيعة المجتمعات العربية، حيث الجريمة فيها ابنة الثأر والانفعال، فلا تخطيط ولا سرّية، بل إنّ المجرم يفاخر بفعلته، مثلما يحدث في جرائم الثأر والعار. ويحيط بكل هذه الظروف أنّ المدينة العربية مازال لها من طبائع الريف الكثير، فالتعقيد الذي نراه في المدينة الغربية مازلنا بعيدين عنه، وبالتالي لن تحدث تلك الجرائم التي تحتمل سردية روائية لمقاربتها تخييليًا.  

يحثنا واقع قلة الإنتاج الأدبي العربي في السرد البوليسي إلى سؤال الحداثة في مجتمعاتنا العربية، وذلك استنادًا لتعريف معجم النقد الأدبي (1) حول مادة الرواية البوليسية: بأنّها شكل روائي ظهر في القرن التاسع عشر مع التطور الحضري للمدينة الأوروبية وما رافقه من ظهور مؤسسة الشرطة، وتطور العلم الوضعي وآليات البحث. وعادة ما تطرح لغز جريمة قتل في الأعم الأغلب يجب كشف مرتكبها عبر محقّق ما. وبناء على هذا التعريف وغياب أو قلة الانتاج السردي البوليسي، نستخلص بأنّ المجتمعات العربية لم تدخل بعد في مرحلة التطور الحضري، كما حدث مع المجتمعات في الغرب! لا ريب أنّ هذا الاستنتاج مجحف  بحقّ السرد العربي، فالعناصر المكوّنة للجنس البوليسي وإن لم تتوفر بأثافيها الثلاث من جريمة ومجرم وخاصة المحقّق، لا يعني أنّنا تخلفنا عن هذه المظهر السردي للرواية والقصة، وبأنّنا لا يمكن أن نكتب سردًا بوليسيًّا وفق المعيار القياسي النقدي. إنّ التطور الحضري أو ما سمّي لاحقًا بالحداثة، له أشكال عديدة تنبثق من واقع كل مجتمع، وليس من الضرورة أن تكون استنساخًا للحداثة الغربية.                                                                                                يتساءل تودوروف(2) في مقاله؛ أنماط الرواية البوليسية، عن أنّ التجنيس التصنيفي، يحمل بصمة تبخيسية، لأنّه يحدّد مسبقًا العناصر المكوّنة لنوع روائي ما، وبالتالي يمنع أي محاولة تطوير لهذا الجنس السردي ما دامت محدداته لها صفة القدرية. وهو إذا ينبّه إلى خطورة محددات التصنيف مناقشًا ذلك من خلال أنماط الرواية البوليسية من رواية اللغز والسوداء والتشويقية على ضوء تصنيف الناقد والروائي فان دين الذي وضع عشرين قاعدة حاكمة لتدخل الرواية في النوع الروائي البوليسي، فإنّ تودوروف يشرح بأنّ ولادة نمط جديد من الرواية البوليسية يتجاوز محددات فان دين، وهذا لا يعني بالضرورة نفي الملمح القديم للجنس البوليسي، لأنّ الاتجاه الجديد، هو بوتقة مختلفة الخصائص، ليس مطلوبًا منه، أن يكون منسجمًا مع القواعد القارة، ولا يعني في الوقت نفسه بأنّ كسر تلك المحدّدات يُخرج الطرح الجديد من الجنس الروائي القار.

إنّ تأملًا في ما قاله تودوروف يوسّع دائرة الجنس السردي البوليسي، وينتشله من عقم التجنيس. وهذا ما نستطيع أن نراه في رواية: اللص والكلاب لمحفوظ، ورواية: (الشيء الآخر، من قتل ليلى الحايك) لكنفاني، لجهة استخدامها الحبكة البوليسية مع تراخيهما في استنساخ البنية النمطية التي وضحّ مارك ليتس عناصرها (3) قائلًا: إنّ الرواية البوليسية قد بدأت مع إدغار آلان بو، وهي تتألف من جريمة عصيّة على التفسير ومجرم متخفّ، ومحقّق يكشف حيثيات الجريمة عبر استقراء وقائعها واستنباط كيفية حدوثها. إنّ مناقشة تودوروف تهدف إلى كسر تلك البنية التقليدية للرواية البوليسية، فهي وإن ولدت في الغرب ومعطياته، فالمجتمعات البشرية الأخرى لديها معطيات مختلفة لا تتوفّر فيها العناصر المطلوبة في التجنيس، لكن من حقّها أن تكتب روايتها البوليسية الخاصة بمجتمعها.

ولكي نكون على وضوح أكثر فيما ذهب إليه تودروف يأتي الكشف عن الأصول القديمة للسرد البوليسي داعمًا لتوجهه، وخاصة الأصول التراثية في الثقافة العربية. ولأنّنا محكومون بالمستند النقدي الغربي، سنورد رأي بيار براهام الذي جاء في مجلة أورب النقدية(3) الذي اعتبر شهرزاد ضحية مطلوبة من قاتل يسمى شهريار تؤجّل موتها يوميًا عبر قصة ترويها. وإن كان لنا أن نوصّف هذا التأجيل لحكم الموت، فلا يمكن أن نجد له مرادفًا حديثًا وخصيصة جوهرية في الرواية البوليسية إلّا التشويق. إنّ التشويق هو المحرّك الخفي الذي قيدت به شهرزاد يد شهريار، وربطت به القارئ الذي لا ينفكّ يخرج من قصة إلى قصة أخرى معها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تقدِّم ألف ليلة وليلة عدّة حكايات لها صفات بوليسية قياسًا على ما عدّه الناقد بيير بيّار إرهاصات أولى للرواية البوليسية(4) فقد اعتبر مسرحية أوديب لسوفكليس، هي البداية الأولى للرواية البوليسية مع أنّها ليست قياسية وفق ما استقر النقد الغربي على شكل الرواية البوليسية.                                                                قلنا بأنّ الأدب البوليسي قد كانت بدايته مع بو، لكنّ الناقد فرانسيس لوكسان قال بأنّ بو استلهم روايته من مؤلف لفولتير بعنوان: (زاديك) حيث نجد أنّ الفراسة والفطنة التي اتسم بهما المحقّق دوبان عند بو مستنسخة من شخصية البطل في زاديك. ويتابع لوكسان بأنّ فولتير استند في قصته إلى مؤلف بعنوان الأمراء الثلاثة لسرنديب الذين يكتشفون صفات جمل من آثاره، مع أنّهم لم يروه، فهو أعور لأنّه يرعى في جهة واحدة من الحقل، أي من جهة العين السليمة، وأنّه أبتر الذيل لأنّ بعره كان مجتمعًا، والجمل يوزّع بعره يمنة ويسرة بتحريك ذيله. وبأنّ إحدى رجليه زوراء لأن آثار رجليه في الأرض مختلفة. وهو شرود لأنّه يتجاوز عشبًا طريّا إلى آخر، فهذا دليل على أنّه قد نفر عن قطيعه. هذه الطريقة بالفراسة سميت السرنديبية، وأول من وضع المصطلح لها كان هوراس والبول مستندًا إلى قصة الأمراء الثلاثة الذين اكتشفوا أمورًا لم يبحثوا عنها في الأصل، لكن عبر المنطق والحدس ربطوا السبب بالنتيجة. وأصبح هذا المصطلح يستخدم للاكتشافات العلمية غير المقصودة كما جاء في كتاب: (فنّ التحقيق العلمي) للبريطاني ويليام أيان. هذه الميزة في الكشف عن الأشياء الغامضة اعتبرت من أهم خصائص المحقّقين، لكنّ تلك القصة موجودة في تراثنا العربي، فنجدها مع الأبناء المؤسسين للقبائل العربية العدنانية: إياد وأنمار وربيعة ومضر. يرتحل أبناء نزار بن معد إلى الحكيم الأفعى الجرهمي ليفسر لهم وصية أبيهم. وبينما هم  في الطريق على بُعد يوم وليلة من نجران، إذ رأوا أثر بعير، فقال إياد :إنّ هذا البعير الذي ترون أثره أعور. ثم قال أنمار: إنّه لأبتر. وقال ربيعة :إنّه لأزور. وقال مضر: إنّه لشرود.

ثم جاء رجل يبحث عن بعيره، فحدثوه بأوصافه. فطلب منهم أن يخبروه بمكان البعير، فقالوا إنّهم لم يروا بعيره، ولكنّه لم يصدّقهم، لأنّهم وصفوا بعيره بشكل دقيق، فكيف يزعمون أنّهم لم يروه! فظل يتبعهم حتى وصلوا عند الأفعى الجرهمي، وهناك اتهمهم بأنّهم قد أخذوا بعيره. فسألهم الأفعى عن ذلك، فقالوا له: إنّهم رأوا أثر البعير وليس البعير نفسه. وتتكرّر التفاسير ذاتها التي اشتهر بها أمراء سرنديب مع أبناء نزار، وهذه الطريقة في التفسير المستندة على الحدس والتفكير المنطقي، اعتبرت أسًا من أسس الرواية البوليسية وخاصة في شخصية المحقّق.                                                                                               لم تكن القصص التي جاءت في ألف ليلة وليلة مكتملة البنية(5)، لكن فيها الكثير من السرد البوليسي، ففي حكاية : (لتفاحات الثلاث) نلقى أنفسنا أمام الشكل الغالب للقص البوليسي، حيث تُكتشف جثة، فيبدأ التحقيق لكشف الأسباب التي أدّت إلى تلك الجريمة، فعندما وجد الخليفة الرشيد جثة في الصندوق الذي اشتراه من الصياد يأمر وزيره بالبحث عن القاتل.          خرج الرشيد ووزيره جعفر البرمكي، لتفقّد أحوال الرعية، فمرّا بصياد سمك يندب حظّه، فسأله الخليفة عن السبب، فأخبره، بأنّه لم يصطد شيئًا، فطلب الخليفة منه أن يرمي شبكته وسيأخذ ما تحتويه من صيد البحر بمائة دينار وكان ذلك. وعندما سحب الصياد شبكته وجد فيها صندوقًا وبعد أن فُتح وُجدت فيه صبية مقتولة. يطلب الخليفة من وزيره أن يكتشف القاتل خلال ثلاثة أيام وإلّا سيعاقبه بالصلب. تتكشّف القصة رويدًا رويدًا عن أنّ زوجة أحد التجار قد اشتهت التفاح وكان قد عزّ وجوده في الأسواق، لكنّ الرجل استطاع أن يحضر ثلاث تفاحات لزوجته. وبعد ذلك مرّ به عبد يحمل تفاحة، فسأله الرجل عنها، فأخبره بأنّ امرأة تخون زوجها معه قد أعطته إياها، فغضب الرجل وقتل زوجته ووضعها في سلّة ورماها في دجلة. لكن بعد عودته إلى البيت يكتشف أن عبدًا كان قد سرق التفاحة من ابنه ولم تعطها زوجته له، وأنّها لم تخنه بالمطلق، فيندم أشدّ الندم. يسمع التاجر بأنّ الخليفة سيصلب جعفر البرمكي، لأنّه لم يجد القاتل، فيهرع إلى جعفر البرمكي قبل أن يصلبه الخليفة ليعترف له بالحقيقة. وتتتابع الأحداث حتى يكتشف جعفر البرمكي بأنّ عبده هو من سرق التفاحة، وتسبّب بكل تلك الأحداث السيئة.

للحقيقة، لا نستطيع أن نعتبر جعفر البرمكي محققًا كما شرلوك هولمز، فقد لعبت الأقدار دورًا مهمًا في الكشف عن الجريمة؛ وهذا ما حذّر منه فان دين كتّاب السرد البوليسي، لكنّ تودوروف يخبرنا بأنّ نمط السرد القدري كان شائعًا في الزمن القديم، فتحقّق النبوءات بحقّ الفرسان الباحثين عن الكأس المقدس لا يعتبر ضعفًا في البنية الفنية، بل هو تماه مع البنى الثقافية في ذلك الزمن. في نهاية حكاية التفاحات الثلاث تتكشّف الحقيقة، بأنّ العبد لدى جعفر البرمكي، هو المسبّب في تلك الجريمة. وهذه النقطة التي تُظهر بأنّ المجرم من الدائرة الضيقة للمجني عليه كثيرًا ما استخدمت في الرويات البوليسية الحديثة.                                                     وتتجلّى السمة التحقيقية للرواية البوليسية بأبهى صورها في حكاية: (علي كوجيا) التي وردت في نسخة ريتشارد بريتون الجزء الخامس من ألف ليلة وليلة، حيث نلقى بأن التاجر علي كوجيا قد اعتزم السفر، ونوى أن يخبئ دنانبره الألف عند صديق له بصفة أمانة قد كانت عبارة عن جرّة من الزيتون، فقبل معه صديقه التاجر حسن، وتم وضع الجرّة التي فيها الدنانير المغطاة بحبات الزيتون في أحد مخازن التاجر حسن. وهكذا يغيب علي كوجيا سنوات عديدة، وعندما يعود يطالب صديقه بالأمانة، فلا يتخلف التاجر حسن عن أداء الآمانة، لكن علي كوجيا يكتشف أن صديقه التاجر قد خان الأمانة وسرق الذهب، ووضع بدلًا من الذهب زيتونًا. اتهم علي التاجر حسن بخيانة الأمانة، لكنه أنكر ذلك، فترفع القضية إلى هارون الرشيد. وفي إحدى الليالي وكعادة هارون الرشيد في التنكر لمعرفة أحوال الرعية يشاهد مجموعة من الأولاد يلعبون، وذلك بأن أقاموا تمثيلية استحضروا فيها ما حدث مع علي كوجيا والتاجر حسن، بعدما شاعت قصتهما في بغداد. قام أحد الأولاد بلعب دور القاضي وطلب فحص الزيتون الذي في الجرّة، فإن كان كله قديمًا، فإن التاجر حسن لم يخن الأمانة، لكن إن كان بعضه قديمًا، والآخر حديث العهد، فقد خان الآمانة. وهنا يتفطن الخليفة هارون الرشيد ويطلب التحقّق من الزيتون الموجود في الجرّة، فيكشف له الخبراء، بأنه زيتون حديث العهد من ثمار هذه السنة، وليس قديمًا أبدًا. بهذه الطريقة في التحليل تظهر الحقيقة وتكشف إساءة الائتمان من التاجر حسن. إن إسلوب التحقيق الذي اتبعها هارون الرشيد يذكرنا بأساليب المحقيقن الذين اشتهروا في الروايات البوليسية.

وقد جاء في كتاب (أخبار الأذكياء لابن الجوزي) بأنّ أحد خدّام الخليفة المعتضد بالله، قد رأى صيادًا طرح شبكته في النهر، فوجد جرابًا فيها، وعندما فتحه عثر فيه على يد مقطوعة، فأعلم المعتضد بذلك، فقال قولته المشهورة: “معي في البلد من يقتل إنسانًا ويقطع أعضاءه ويفرِّقه ولا أعرف به، ما هذا مُلك”. يكلّف الخليفة أحد ثقاته بأن يذهب إلى السوق حيث تباع أمثال ذلك الجراب، ويسأل عن من اشتراه. وهكذا حتى يصل المعتضد إلى القاتل. في هذه القصة تظهر شخصية المحقّق كما عهدناه عبر تتبع الأسباب وصولًا إلى النتائج. 

قدم لنا التراث العربي القص البوليسي من دون وجود التطور الحضري الذي أشار إليه معجم النقد الأدبي! نعم هي قصص لا تخضع للمعيار القياسي الذي وضع للسرد البوليسي الغربي، لكن تلك القصص ابنة بيئتها، وقد منحت قارئها التشويق وممارسة التحقيق لكشف المجرم كما فعلت مسرحية أوديب التي ذكرها بيير بيّار.

في رواية إمبرتو إيكو اسم الوردة يُندب المحقّق ويليام باسكرفيل، الذي كان يعمل في محاكم التفتيش في القرون الوسطى للتحقيق في وفيات غامضة في أحد الأديرة، يقف وراءها أمين المكتبة الذي لم يكن راغبًا بأن يطلع الرهبان على كتاب فن الشعر لأرسطو وخاصة الجزء المتعلق بالضحك. يعتبر كتاب فن الشعر لأرسطو أول تنظير أدبيًّ لفكرة التخييل، نعم كان أمين المكتبة خائفًا من فكرة الضحك وأنّها ستقود إلى قلّة الإيمان، لكن القلق العميق كان من التخييل الذي سيسمح للرهبان بالخروج عن المدونة الرسمية للكنيسة، وتخيّل سير أخرى تنقض الرواية الرسمية. هذه النقطة لا ريب أنّها كانت تدور في ذهن المحقّق باسكرفيل الذي عمل في محاكم التفتيش التي طاردت كلّ محاولة للتخييل، أكانت واقعية أو فكرية وحكمت على من تجرأوا بالموت، لذلك كان لديه معرفة بالدافع العميق الذي يحث أمين المكتبة على تسميم صفحات الكتب التي يخشى منها أن تلوث إيمان الرهبان.

إنّ التخلّف عن كتابة السرد البوليسي بحجّة عدم قيام عناصره، يضعنا في موقع أمين المكتبة في رواية أمبرتو إيكو. إنّ رفض الروائيون والنقّاد خوض هذه المغامرة، يعني أنّهم قد قبلوا بأن يقتل التخييل مع أنّهم أقرب لباسكرفيل، من حيث معرفتهم الحقّة بالعناصر الأساسية للسرد البوليسي، ولذلك يجب الثورة عليها، كما فعل باسكرفيل بجبّ ماضيه، وكشف قاتل الرهبان. إذن علينا ابتداع سردنا البوليسي المولود ضمن بيئتنا، ولا ننتظر حتى يتحقّق التطور الحضري الذي حدث في المدن الغربية لدينا، فالحداثة بقدر ماهي ابنة المدينة الغربية، هي في الوقت نفسه عودة أصيلة إلى بيئة الكاتب الذي يعلم تمام المعرفة بأنّ التخييل لا يقف أبدًا عند معوقات الواقع، بل إنّ تلك المعوقات هي أحد الحوافز التي تجعله يتجاوز واقعه ونفسه، ليصنع حداثته  الخاصة به وبمجتمعه.

المصادر:

مجلة فصول العدد 76- 2009 الهيئة المصرية العامة للكتاب.شعرية النثر، تزفيتان تودوروف، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة – دمشق 2011.الرواية البوليسية، عبد القادر شرشار. منشورات اتحاد الكتاب العرب – دمشق 2003. مجلة الجديد العدد 51 لعام 2019.الرواية الأم، ألف ليلة وليلة في الآداب العالمية، ماهر البطوطي. مؤسسة هنداوي 2017. 

باسم سليمان

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 13, 2025 06:43
No comments have been added yet.


باسم سليمان's Blog

باسم سليمان
باسم سليمان isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow باسم سليمان's blog with rss.