باسم سليمان's Blog, page 2

June 25, 2025

الأسوار حيث تنتهي الـ نَحنُ وتبدأ الـ هُم

باسم سليمان 25 يونيو 2025

في عالمٍ يسوده، في الأعم الأغلب، انعدام الأمان والاضطراب، تغدو الأسوار والجدران والحوائط نُظمًا يُعتمد عليها، هنا أو هناك، فهي ضخمة وصلبة، تنتصب أمامنا مباشرةً أو خلفنا، حاضنة لنا أو طاردة. تؤمّن الحوائط الراحة النفسية والسكينة، ووعد غامض بالسعادة لمن تحوطه، أو الرفض والصدّ ومشاعر اليأس وانحسار الأمل لمن تنبذه، فوجودها يشي دومًا بالتناقض، وكثيرًا ما تعتري الإنسان نوايا متناقضة نحوها، تارة رغبة بالبناء أكثر وأكثر، وتارة أخرى رغبة بالهدم حتى القاع الصفصف. قد يكون السور خطًّا مستقيمًا أو ملتويًا يقطع الصحاري والغابات والأنهار والمدن الكبيرة والوديان والجبال. إنّ الخطّ المستقيم ليس فقط أقصر مسافة بين نقطتين، بل هو أيضًا أرخص طريقة لبناء جدار، أمّا الجدار الملتوي كأفعى، فهو أفضل طريقة للتحايل على تداخل الحدود. الأسوار أو الجدران أو الحوائط مهما كانت التسمية، هي من أقدم الأفكار الهندسية التي سخّرت لحماية الإنسان أو أذيته، فهي على الرغم من ماديتها تنشئ تحالفات وتآلفات وانقسامات وتضادات، كما يفعل العقل والقلب. يقول الألمان الذين قسمهم جدار برلين بين شرق وغرب، والذي هو الابن الشرعي للستار الحديدي الذي بنته الشيوعية في مواجهة الرأسمالية عبارة: “جدار في الرأس”؛ وما يقصدونه من وراء ذلك، ليس إلّا تأكيدًا على سقوط الجدار، لكنّه ما زال في اللاشعور، فكما انتقل الجدار من الأيديولوجيات الفكرية والسياسية والدينية والاجتماعية إلى الواقع، كذلك يعاود الانتقال بعد هدمه من الواقع إلى الرأس. إنّ الجدران تجعل الحدود بين الأنا والآخر واضحةً ومتمايزة ويقينية؛ إنّها دائمًا ديكارتية، إيجابًا أو سلبًا، وعند النظر إلى الأرض من الفضاء، يعدّ سور الصين العظيم أحد الدلائل القليلة على أنّ الأرض مأهولة بكائنات عاقلة، يا للمفارقة!

عندما سقط جدار برلين عام 1990 الذي بُدء بإنشائه عام  1961 من قبل ألمانيا الشرقية في مواجهة هجرة العمالة منها إلى ألمانيا الغربية، إلى جانب الموقف السياسي العالمي الذي قسم ألمانيا إلى شرق وغرب، وبالمثل العالم إلى شرق وغرب؛ شرق يرتدي الشيوعية كأيديولوجيا يرأسه الاتحاد السوفييتي سابقًا، وغرب يعتمر قبعة الرأسمالية وتتسنّمه الولايات المتحدة الأمريكية؛ كانت فكرة العولمة قد نضجت وعبّر عنها بمصطلح: (القرية العالمية) التي لا حواجز ولا أسوار بين أحيائها وسكّانها. لكن بقدر ما اكتسحت فكرة العولمة الفكر الإنساني داعية إلى هدم الأسوار المادية المجازية بين الدول والشعوب، في الوقت نفسه تضاعفت أهمية الأسوار، فمنذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، انتشرت الجدران والأسوار الحدودية وأصبحت ظاهرة عالمية، حيث يمتلك حوالي ثلث الدول جدارًا أو سياجًا واحدًا على الأقل على طول حدودها. خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وجعلت من بحر المانش حائطًا بينها وبين القارة العجوز، أمّا أمريكا صاحبة فكرة العولمة، فشرعت ببناء السور الذي  سيفصلها عن المكسيك. وإذا نظرنا إلى الحدود والعلاقات بين الدول على خارطة الكرة الأرضية سنجد أن الأسوار والحيطان والجدران تزدهر في كل مكان، لمنع الهجرة غير الشرعية، والمخدرات، والسلاح، وكإبرة تخدير بين الأخوة المتحاربين كالكوريتين، أو للتأكيد على الاحتلال كما تفعل إسرائيل بفلسطين. لا ريب أنّ مقولة “الجدار في الرأس” موجودة في رؤوس كل البشر ليس الألمان فقط، فعلى ما يبدو أنّ الأسوار تشبه غرائز الإنسان الأساسية، مهما جهد في ترويضها ودفعها عميقًا تحت جناح إرادته وعقله، تعود وتظهر كزلّات اللسان من خلال كلامه وفعله.                                                                                      خرج الإنسان من رحم جدران الكهف، وأول ما فعله هو استنساخ جدران الكهف الذي كان يؤمّن له الحماية والدفء وشبهة هوية ذاتية/ جماعية بدأت بالتشكل رويدًا رويدًا، وبقدر ما تتأكّد تلك الهوية يولد الآخر المجانس أو المختلف. سكن آدم وزوجته الجنّة، وأصبحا من الملأ الأعلى، لكنّهما ارتكبا الخطيئة، فطردا منها: “فَطَرَدَ الإِنْسَانَ، وَأَقَامَ شَرْقِيَّ جَنَّةِ عَدْنٍ الْكَرُوبِيمَ، وَلَهِيبَ سَيْفٍ مُتَقَلِّبٍ لِحِرَاسَةِ طَرِيقِ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ.” هذا السيف هو سور يمنع آدم من العودة إلى جنّته الأبدية، بعدما أكل من شجرة المعرفة، ولكي لا تمتد يده إلى شجرة الحياة/ الخلود، كان السيف/ السور. لقد حدّد هذا السيف ذاتية جديدة للإنسان، مختلفة عمّن هم ضمن الجنّة/ الحديقة والحديقة تعني البستان المسوّر الذي لا يتم الدخول إليه إلّا ببسبور الإيمان. تقدّم لنا التوراة رؤية لمدينة أورشليم في سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي، بأنّها مسوّرة، لأنّها ستفصل بين المؤمنين الذي سيكونون في داخلها، والكفّار الذين سيكونون خارجها. لا تختلف أورشليم عن مدينة أسغارد في الأساطير الإسكندنافية، فهي الأخرى محاطة بجدران عظيمة تحميها من هجوم المردة. وفي التراث الديني يقوم ذو القرنين بفصل المتوحّشين (يأجوج ومأجوج) عن الآدميين بسدٍّ عظيم، لن ينقب إلّا في آخر الزمان. إذن السور يمنحنا دلالات عديدة: الفصل والاتصال، الداخل والخارج، النّحن والهُم، الشرعي وغير الشرعي، ابن البلد والغريب عنها؛ وقد وجدت هذه الثنائيات في جميع تطبيقات الأسوار المادية والمعنوية عبر التاريخ الإنساني.

إسبرطة vs أثينا:

جادل الفيلسوف وعالم الاجتماع لويس ممفورد، بأنّ المدن تطوّرت في المقام الأول ككيانات عسكرية، وأنّ جدرانها كانت أوضح دليلًا على طابعها الحربي العميق، فلقد بُنيت أسوار المدن كدرع عسكري واجتماعي. هذه المقولة ذات الصبغة المنطقية تخالفها مدينة إسبرطة غريمة أثينا الأبدية، فلم تبن أسوارًا أبدًا، حيث كان الإسبرطيين يهزأون من الأثينيين الذين بنوا أسوارًا حول مدينتهم، بأن وصفوهم بالنساء خلف الجدران. لكن لنتأمّل حياة الإسبرطيين، فلقد كانوا عبارة عن جيش في حالة استنفار دائمة، لذلك لم يكونوا بحاجة للأسوار كالأثينيين الذين خلف أسوارهم أبدعوا الفلسفة والعلوم والمسرح، عندما وضعوا السيف جانبًا، وأوكلوا للأسوار إرهاب المهاجمين. ومع ذلك هزمت إسبرطة أثينا، لكن أثينا انتصرت على إسبرطة في النهاية حضاريًا! إذن هل بناء الأسوار أفضل للحضارة؟ تذكر لنا أساطير بلاد الرافدين بأنّ أحد الملوك قد قال بعد الانتهاء من بناء السور بأنّه أتيح لشعبه النوم هانئين وبأمان! لقد بنت ألمانيا الشرقية الجدار لأسباب عديدة، لكنّه انقلب عليها أيديولوجيًا، فعلى الرغم من الألغام وكلاب الحراسة ودوريات الأمن خاطر الكثير بحياتهم، كي يعبروا إلى ألمانيا الغربية بحثًا عن حرّية مشتهاة، حتى أنّ أحد الجنرالات الغربيين قال عن جدار برلين بأنّه: “جدارنا لا جدارهم”. تتمرّد الجدران على أصحابها، فالإمبراطور الروماني هادريان الذي بنى أطول سور في أوروبا، وخاصة في بريطانيا، كي يمنع قبائل الشمال من الهجمات المرتدّة على الجيش الروماني، قائلًا بأنّ غاية السور ليس الدفاع فقط، بل فصل الحضارة عن البرابرة، لم ينتبه بأنّ القبائل أصبحت ترغب باجتيازه أكثر، وكان لها ذلك، فلقد سقطت روما في النهاية تحت ضربات القبائل الجرمانية، عندما اشتهى البرابرة أن يكونوا حضاريين كبناة الأسوار. ليست إسبرطة بدعًا عندما رفضت بناء سور، فهناك شعوب استطاعت أن تمسك العصا من المنتصف ما بين البناء أو عدمه؛ لقد أهمل الأباطرة الصينيون الأقوياء، على عكس الضعفاء، الاعتناء بالسور الأشهر عالميًا، وعلى ما يبدو كان للسور في زمنهم غايات أبعد من الحماية؛ وهي منح الجنسية الصينية لمن يولدون داخل السور وتحجب عمّن ولِد خارجه. بعد العديد من الأمثلة التي أوردناها أعلاه لا نجد بأنّ التضادية بين إسبرطة وأثينا قد تحسم لصالح أحدهما، فلِلأسوار فوائدها ومساوئها، ففي إحدى قصائد الشاعر الأمريكي روبرت فورست والتي كانت بعنوان: (ترميم الجدار) يطرح الشاعر في قصيدته أفكارًا عن جدوى بناء السور أو هدمه ويترك للقارئ أن يختار.

هجوم الأسوار:

ليس غريبًا أن يكون أشهر سلاسل الأنمي عالميًا في القرن الحادي والعشرين هو: (هجوم العمالقة)، وهو من تأليف ورسم الفنان الياباني هاجيمي إيساياما. حيث تدور فكرة المسلسل عن أنّ البشرية لكي تحمي نفسها من هجوم عمالقة يأكلون البشر أحاطت مدنها بأسوار عالية جدًا. يحمل المسلسل دلالات كثيرة من الممكن اختصارها، بأنّ  العملاق والجدار هما كينونة واحدة وأنّهما ليسا إلّا الإنسان ذاته. على نفس الشاكلة عندما كتب جورج ر. ر. مارتن سلسلة (أغنية الجليد والنار) كان يلعب على نفس التناقض الذي طرحه هاجيمي إيساياما في أنميه عبر سؤال من النّحن ومن الهُم؟ تسرد رواية مارتن والتي حوّلت إلى مسلسل تلفزيوني ناجح جدًا عن تاريخ سبع عائلات تتقاتل على العرش، لكن مع الوقت من كثرة القتل يظهر الموتى السائرون، ولأجل منعهم يُحجزون خلف جدار هائل من الجليد. ينهار الجدار وتبدأ معركة يتصارع فيها الأحياء والموتى/ النار والجليد، ولا ينتهي الصراع إلّا بتحوّل الجليد إلى بخار والنار إلى دخان، وكأنّ الكاتب أراد أن يقول بأنّ عدو الإنسان هو الإنسان لا الجدار. من الطبيعي أن تتنامى السرود التي تتكلّم عن الأسوار في زمننا الحالي، فلقد جاء طرح السلسلتين مع شيوع ظاهرة الأسوار في العالم المادية والرمزية منها، وخاصة بعد تهرّؤ إعلان الأمم المتحدة عن أن مبدأ حرّية التنقل والسفر للبشر مكفولة، فلقد أصبحت كلّ الدول تضع شروطًا للدخول إلى أراضيها، ومن لم لا يحز صلاحية الدخول يُمنع. ومع تنامي الهجرة من الجنوب الفقير نحو الشمال الغني ارتفعت وتيرة بناء الأسوار من حجر وصولًا إلى الأسلاك الشائكة المكهربة والمرصودة بالكاميرات والحراس.

ينقسم البشر إلى الـنّحن و الـهُم، هذان الضميران المعبّران عن البشرية بأجمعها، أصبح بينهما سور وحائط وجدار يمنعهما من الاقتراب من بعضهما البعض، واكتشاف أنّهما في الأصل من الضمير (أنا).  تُبنى الجدران لأسباب مختلفة، ولأغراض متنوّعة، لكن على ما يبدو أنّ وظيفتها الأساسية هي خلق الانقسامات، ومنع الناس والأفكار من التنقّل بحرية، وإضفاء الشرعية على الاختلافات. في النهاية، لا يهمّ السبب الذي شيّد من أجله السور، لأنّنا سنجد أسبابًا تبرّر بناءه وأسبابًا تشجّع على هدمه، لكنّه بمجرد أن يُبنى، سيكتسب حياة خاصة به، وسينظّم حياة الناس وفقًا لقواعده الخاصة، لكن الأهم من ذلك كلّه، أنّه سيمنحهم معنىً وإحساسًا جديدًا بالاتجاه؛ لقد أصبح لدى جميع المحاصرين بالجدران الآن هدف، أن يجدوا أنفسهم، بأيّة وسيلة كانت، على الجانب الآخر من الجدار.

باسم سليمان

كاتب من سورية

خاص ضفة ثالثة

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 25, 2025 05:50

June 13, 2025

هل الملابس بُعد خامس للإنسان؟

باسم سليمان 13 يونيو 2025

تسرد التوراة بأنَّ آدم ستر عورته بورقة تين بعد الخطيئة، ظنَّا منه أنّه قادر على النجاة من عين الإله الفاحصة واسترداد طهارة مفقودة. منذ ذلك والإنسان يرى في ملابسه دلالات متنوعة وأبعاد مختلفة تتجاوز الحماية من القرّ والحرّ حتى أنّها قد تمنحه هوية أخرى.                                  انتشرت خرافة مجتمعية في أوروبا في القرن السادس عشر تقول، بأنّ ارتداء قطعة من الفرو مع الثياب ستُقنع البراغيث بالانتقال من جسد الإنسان إليها، ممّا يسمح بالتخلّص من لدغاتها. وفي مقلب آخر، أثبتت دراسة بيولوجية، بأنّ القمل الذي يتطفّل على الجسد البشري والذي تطوّر عن نوع آخر من القمل يعيش على الحيوانات، لا يمكن له أن يبقى حيًا على الجسد الإنساني المضيف من دون ثياب، وقد ساهمت هذه الدراسة في تحديد عمر قمل الجسد الإنساني، إذ يعود إلى أكثر من مليون سنة، فتم الافتراض بأنّ الإنسان قد بدأ بكساء جسده منذ تلك الأزمنة بملابس من أعشاب وجلود، حتى بات يرتدي الأقمشة. هاتان الواقعتان التاريخية والبيولوجية تلمّحان إلى أنّ التبادل الدلالي سيتجاوز العلاقة المادية البحتة التي تقوم بين الجسد الإنساني وما يرتديه من ملابس، حيث تصبح الملابس حمّالة دلالات كثيرة، فلا تقوم فائدتها على حماية الجسد من الحرّ والقرّ وستر العورة فقط، وإنّما كما يقول العالم الاجتماعي البريطاني هربرت سبنسر: “لم تنشأ الملابس للوقاية من برد، ولا طلبًا للحشمة، بل لسبب مختلف تمامًا. في المجتمعات البدائية، بعد أن كان الصياد الماهر يصطاد فريسته، لم تكن له وسيلة للتعبير عن مأثرته والتباهي بإنجازها أمام الجماعة أفضل من أن يسلخ الطريدة، ويغطي جسده بفروها أو جلدها، لكي يستعرض تفوّقه على أقرانه الأقل مهارة وقوة”. إذن الملابس من أبرز التعابير الحضارية والثقافية للإنسان، فهي مظهر مهمٌ لشخصية الفرد ورمز من رموز انتمائه إلى مجتمعه، فهي متعدّدة الأشكال والأنواع، مليئة بالدلالات والمعاني ومرتبطة بالطبقات الاجتماعية وبالمهن والحرف والمذاهب والعقائد والأفكار والأحلام والجنس. وأمام هذا البعد المتجذّر للملابس في حياة الإنسان ألمح الروائي جورج أورويل في كتابه (الطريق إلى رصيف ويغان) إلى بعدها الذاتي والاجتماعي والاقتصادي، حيث رصد في كتابه الظروف الاجتماعية الكئيبة والاقتصادية الصعبة في مدينة (لانكشر) شمالي بريطانيا عام 1937 فيقول: “قد يكون لديك ثلاثة أنصاف بنس في جيبك ولا أمل في الدنيا، لكن بملابسك الجديدة، يمكنك الوقوف في زاوية شارع، منغمسًا في حلم يقظة خاص بك، مثل كلارك غيبل -ممثل مشهور- أو غريتا غاربو-ممثلة مشهورة-” وما يقصده أورويل بأنّ الملابس قادرة على إعطائك هوية أخرى وتنقلك من طبقة مجتمعية إلى أخرى، ولربما جبّ هويتك القديمة كليًا، والأحرى أنّ الملابس تصنع هويتك الذاتية بشكل مستمر، وكأنّه يعيد قراءة معضلة سفينة البطل ثيسيوس الإغريقي، فبعد عودته من رحلة مظفّرة كرّمته مدينته، بأن أبقت سفينته راسية في الميناء كشاهد على يوم عودته العظيم، لكن مع الوقت بدأت تتهرّأ بعض قطع السفينة تباعًا، إلى أن أصبحت سفينة ثيسيوس سفينة أخرى بعد عمليات الإصلاح المتكرّرة. وهنا يكمن السؤال الفلسفي عن الهوية؛ ما الذي يحدّدها! هل هو المظهر أم الجوهر، أو الناظر أم المنظور إليه؟ إنّنا نشبه سفينة ثيسيوس في علاقتنا مع الملابس، أو ذلك الرجل الواقف على زاوية شارع حيث استطاعت ثياب جديدة أن تنقذه من وصف سكان مدينة لانكشر البائس وأن تمنحه هوية أخرى وأملًا بحياة طيبة!                                                                                                  إنّ الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يرتدي الملابس، حتى أنّ العالم ديزموند موريس أطلق عليه تسمية (القرد العاري) ويذهب بعض الداروينيين إلى أنّ العري الذي ميّز جلد الإنسان عن بقية الرئيسيات من القردة، بأنّه كان خيارًا تطوريًا، فالجلد العاري يسمح للإنسان بأن يكون أكثر تأقلمًا مع بيئاته المتنوعة وقادرًا على الانتقال المتبادل بين محيط  بارد ومحيط حار بمجرد أن يخلع ملابسه أو يرتديها. تحكي أسطورة دينية عربية، بأنّ آدم كان مكسوًا بجلدٍ يشبه مادة الظفر البشري لا يحتاج معه إلى ستر عورته ولا تنال منه عوامل الطبيعة المتغيّرة، لكن بعد الخطيئة انحسر هذا الجلد ذو الطبيعة الظفرية ليغطي رأس أنامل أصابعه فقط. لقد وعى الإنسان سريعًا عريه بعد الخطيئة، فطفق يخصف على نفسه من ورق الجنّة، ولقد أضافت التوراة بأنّ الإله قام بقتل حيوان وخياطة جلده كلباس لكل من آدم وحواء. نستطيع أن نقرأ هذا القصّ الديني كتفسير للحظة التي أدرك فيها الإنسان مفارقته للحيوانات، وأنّه حيوان ليس كالحيوانات، ممّا اقتضى علاقة مختلفة مع عريه الجسدي الذي لا يستطيع أن يعرضه ببساطة أمام الآخرين. وأكثر من ذلك  وجد في عريه وسيلة تأقلم غير محدودة، فالظفر هو إحدى هيئات المخلب أو الحافر الذي يميّز الحيوانات وبقائه إشارة إلى أصل الإنسان الحيواني، وفي الوقت نفسه تذكارًا من جنّة وجد فيها لبرهة من الزمن، وكأنّ الظفر الذي هو من مصدر (ظَفَر) والذي يعني الفوز والنجاح والغلبة، يذكر الإنسان بأصله الحيواني وضمنًا قدرته على الارتقاء فوقه. يدعم توجهنا في هذا التفسير أسطورة ثيسيوس الذي قتل المينوتور (نصف إنسان ونصف وحش) لكن كيف استطاع فعل ذلك. لقد كان المينوتور يعيش في متاهة لا أحد يعرف لها مخرجًا وعندما تقدم البطل ثيسيوس وولجها زودته حبيبته (أريادن) بكرة صوف ثبّت خيطها في بداية المتاهة، ودخل يجرجر خيط كرة الصوف خلفه، وبذلك سيجد طريق الخروج ثانية. تكمن الفكرة في كرة الصوف، بأنّ الثياب تنسج منها، وبالتالي تعني الأسطورة بأنّ الثياب هي التي تفرق بين الإنسان والوحش. وعلى نفس المنوال كانت بينلوبي زوجة أدويسيوس في غيابه تنسج الصوف الذي يميّز بين عالمها الإنساني عن العالم المختلف اللاإنساني الذي تاه فيه أدويسيوس. إذن بقدر ما الإنسان صانع ألبسة، تعيد هذه الألبسة تشكيل هويته، فالألبسة ليست أردية صامتة بل متكلمة، فالأديان تفرض على معتنقيها ثيابًا معينة تعكس معتقداتها في الحلال والحرام والتواضع وعدم التبجّح والتفاخر، والسياسة تفعل المثل، ففي أثناء الثورة الفرنسية كان الأرستقراطيين هدفًا للثوار بسبب ثيابهم المميّزة، ممّا دفعهم إلى استبدالها بثياب العامة كي ينجوا، حتى قيل: “بأنّ الثياب هي الرجل”.

الاقتصاد المخبأ في معطف غوغول:

لم يكن الروائي الروسي (إيڤان سيرجييفيتش تورغينيف) مخطئًا عندما قال: “كلّنا خرجنا من معطف غوغول” أمّا قصة المعطف لنقولاي غوغول، فتسرد حكاية الموظّف الفقير (أكاكي أكاكيفتش) وكفاحه المرير من أجل أن يستبدل معطفًا جديدًا بمعطفه المهترئ الذي أصبح يشبه ثياب المتصوّفة لكثرة الرقع فيه، وما إن تحقّق حلمه بعد معاناة كبيرة حتى سُرق منه المعطف ومات من البرد من دون أن يدري أحد عنه شيء. لقد كان مقصد تورغينيف على الأقل ظاهريًا يتعلّق بأنّ قصص غوغول هي ألف باء الأدب الروسي، لكن لنا أن نتجاوز تفسير تورغينيف ونرى بالمعطف استبدادية النظام الاقتصادي الرأسمالي، فالإنسان محكوم بدورة اقتصادية تحدّد قيمته، وعادة ما تظهر بنوعية ملابسه التي تبرز طبقته الاجتماعية أيضًا. ولأنّ السيرة سيرة المعاطف لا بدّ أن نذكر أن أكاكي أكاكيفتش قد تقمّصه كارل ماركس، ففي إحدى الحوادث التي جرت مع ماركس وذكرها في مقدمة كتابه (رأس المال) حيث كان يتكلّم عن الطبيعة المشوَّهة للسلعة في الاقتصاد الرأسمالي وكيف تتم سرقة جهد العامل، حيث ذكر أنّه كان بحاجة للنقود -هذه كانت حاله دائمًا، لولا صديقه فريدريك إنجلز الذي كان يقرضه بعضًا من المال- قام ماركس برهن معطفه مقابل بعض النقود، لكنّه وجد أنّه من دون معطفه الذي يمنحه صورة لائقة غير مسموح له دخول قاعات المطالعة في لندن. لقد كانت جميع السلع، بما فيها المعاطف، كما بدا لماركس، أشياء غامضة، محمّلة بمعاني غريبة تستمد قيمتها لا من العمل المُستَثمَر في إنتاجها، بل من العلاقات الاجتماعية المجرّدة والتنافسية للرأسمالية. لاحظ ماركس الطريقة المنحرفة التي يمكن بها للسلعة، بدورها، أن تستولي على صفات الإنسان وتقلّدها، كما لو كانت تمتلك حياةً خاصة بها. تُجسّد الملابس هذه الملاحظة ببراعة، فالسعي لاقتناء أحدث الأحذية الرياضية، أو الفساتين ذات الماركات العالمية يسيطر على عقول الناس، ويعيد تشكيل صورتهم عن ذاتهم. لقد رفض ماركس هذا التمجيد الاستهلاكي للسلعة في الثقافة الحديثة، وكان يستخدم الكلمة البرتغالية feitiço))، والتي تعني السحر أو الشعوذة، تعبيرًا عن هذا التمجيد للسلعة، وكأنّه يشير تحديدًا إلى ممارسة عبادة الأشياء التي كانت سائدة في غرب أفريقيا، كما شهدها بحارة القرن الخامس عشر، حيث كان المتعبّدون ينسبون إلى الأشياء أو السلع أنواعًا مختلفة من الخصائص السحرية. وعلى نحو مماثل، بدا لماركس أنّ الرأسمالية الحديثة تمنح السلع هذا التمجيد السحري، ولم تكن الملابس بمنأى عن هذا التعبّد الزائف. فنحن نشيد بالأحذية والفساتين والسترات والحقائب، كما لو كانت تمتلك قوة فطرية، أو روحًا؛ ونمنحها قصصًا وحياة وهويات، وبذلك نطمس أصولها الحقيقية وهوياتنا في الوقت نفسه.

لقد لحظ غوغول سطوة التعريفات المجتمعية التي تفرضها الملابس على مرتديها، والتي لا يمكن الفكاك منها أبدًا، ما دامت الملابس أصبحت جلدًا آخر للإنسان اكتسب شرعيته من الحاجات المادية التي تؤمّنها للقرد العاري. وعلى نفس النهج من القيم المعنوية والمادية التي تكتنزها الملابس في ثناياها، نحلّل إحدى قصص شارل بيرو (القط ذو الحذاء) الذي كان من نصيب أحد الأبناء من إرث أبيه الذي أوشك على الموت. احتجّ الشاب على تلك القسمة الضيزى بينه وبين أخوته لكنّه خضع للأمر، ولم تمض إلّا فترة قصيرة حتى حوّله القط ذو الجزمة إلى غني. لقد صمتت القصة عن السرّ الذي يملكه ذلك القط، لكن عنوانها كان كافيًا، فقطٌّ ينتعل جزمة قادر على أن يكون بذكاء وخبث إنسان عركته الحياة، فالجزمة دليل سلطة! ونجد الأمر ذاته مع قصة سندريلا حيث يكون الحذاء البلوري الذي يناسب قدمها هو الدليل الصارخ على أنّها تلك الفتاة التي سحرت الأمير في ذلك العشاء الراقص في قصره. ولا يختلف الأمر مع قصة (فرخ البط القبيح) لهانز كريستيان أندرسن، فلقد رفض هذا الفرخ من مجتمع البط، لأنّه كان يختلف عنهم بالهيئة، ولنقل بأنّه كان لا يرتدي معطفًا يسمح له بولوج المكتبات العامة. عبر التاريخ كانت المجتمعات تتميّز بملابس خاصة بها ومن يتجاوز عادات الملابس وأعرافها يُرفض كفرخ البط القبيح، بل إنّ السياسات الديكتاتورية فرضت على الأفراد أنماطًا من الملابس والهيئات لترى من هو مطيع ومن هو متمرّد، فالملابس هوية فوق هوية.

أنا أرتدي ملابس إذن أنا موجود:

هذا العنوان الفرعي هو تحوير مقصود لمقولة ديكارت الشهيرة، والسؤال هل اهتمت الفلسفة يومًا بالملابس وجعلتها في دائرة موضوعاتها، يقول الفيلسوف (نيكولاس باباس/Nickolas Pappas): “عاجلًا أم آجلًا، يصبح كل شيء محل اهتمام الفلسفة”. لا ريب أنّ الفلسفة من سقراط إلى زمننا قد لحظت موضوع الملابس، لكنّها لم تضعها في حسبانها، لربما لأنّ الحقيقة (الاليثيا) كما كانت تصوّرها الثقافة اليونانية عارية، فالمظاهر إن جاز لنا القول هي صيغة لعالم المحاكاة الذي ازدراه أفلاطون واتبعه الفلاسفة والأديان أيضًا في ذلك، وكأنّ دلالات الألبسة حُصرت فقط في جوانبها المادية كالحماية من الحرارة والبرد والحشمة ورفض أي دور آخر لها، بل تم نبذه وتهميشه. لم يكن لدى أفلاطون أي مانع أن يلعب الرجال والنساء عراة في (الجمانيزيوم) والذي يعني مكان التفكير والتدريب، أكان فكريًا أم جسديًا، فبالنسبة لأفلاطون التدريب الجسدي يعدّ استكمالًا للتفكير العقلي، وبما أنّ التفكير الفلسفي يسعى نحو الاليثيا/ الحقيقة، فارتداء ثياب حتى لستر العورة في التدريب الجسدي يعتبر خيانة للحقيقة لأنّ المتدرِّب عليه أن يترفّع عن شهواته. الحقيقة العارية من المظاهر هي الغاية القصوى للفلاسفة وهذا ما تعبّر عنه قصة (ملابس الإمبراطور الجديدة) لهانز كريستيان أندرسن وفحواها، بأنّ محتالين أقنعا الإمبراطور بأنّهما سينسجان له ثوبًا لم يُر له مثيل. والحقيقة أنّهما لم ينسجا شيئًا، ومع ذلك ظهر الإمبراطور بثيابه الجديدة الوهمية، لكنّه كان عاريًا. وهنا أبدت رعيته إعجابها العظيم بملابسه الجديدة، إلّا طفل صغير صرخ: “لكنّ الإمبراطور عارٍ”. وبالتالي إنّ الاهتمام بالملابس بنظر الفلسفة والدين سيكون نوع من الرياء، لأنّها ستجد من يمدحونها لقيمتها الخلبية لا فائدتها العملية، إلّا طفل مثل الاليثيا.

إنّ تقليد ازدراء الملابس الذي خطّه أفلاطون نجد أصدائه مع الفلاسفة من بعده، فكانط أهمل التفكير في الملابس وخاصة الموضة التي بدأت إرهاصاتها بالتشكّل في زمنه قائلًا عنها أنّها: “سخيفة” والسبب في ذلك كان اهتمامه بالجوهر والمضمون في مقابل المظاهر. كذلك أوضح الفيلسوف الدانماركي سورين كيركغارد طريق الفلسفة كيف يكون: “لكي يسبح المرء عليه أن يخلع ملابسه بالكامل – وللسعي إلى الحقيقة، عليه أن يخلعها -أي المظاهر- بمعنى أعمق بكثير”. إنّ حقيقة معرفة الذات تتطلّب التخلّي، والتجرّد من الملابس المجازية، وكذلك من جميع الانشغالات المادية والغرور، فالملابس الخارجية الصارخة تحجبنا عن حقيقتنا الداخلية العارية، هكذا شرح كيركغارد. أراد مارتن هايدغر صياغة مفهوم الاليثيا الكلاسيكي، بشكل جديد لأنّه رفض فكرة التجلّي الصارخ للحقيقة المجردة، وإنّما تصوّرها كشيء أشبه بإدراكٍ بطيءٍ لما هو موجودٌ بالفعل، وبالتالي لم يعارض بأن الملابس قد تكون حجابًا يمنعنا من معرفة الحقيقة. أمّا فلسفة فريدريك نيتشه المتمرّد جذريًا على التقاليد الفلسفية، فقد قدّرت المظهر/ الملبس، كوسيلة نلعب بها لكي نسقط الأفكار المُسلّم بها، لكن مع ذلك، لا تزال اهتمامات الفلسفة تتعارض مع فكرة أنّ الملابس تمنح مرتديها هوية أخرى إن جاز التعبير. لربما تحتاج الفلسفة للتحليل النفسي الفرويدي كي تخرج من تعنّتها نحو الملابس وربيبتها الحديثة الموضة. عندما درس سيغموند فرويد النفس البشرية وجدها تتألّف من ثلاثة أقانيم : (الهو- الأنا- والأنا الأعلى) وإذا اعتبرنا الهو هو الاليثيا، والأنا هي الملابس، والأنا الأعلى هي التقاليد والقوانين والأعراف المجتمعية تصبح الأنا/ الملابس وسيلة حوار بين الهو/ اللاشعور والأنا الأعلى. هذا لا يعني أن الملابس هي الذات، بل إنّها تشير بشكل استكشافي، إلى أنّ تجاربنا مع ذاتنا تحدّدها أشياء كثيرة، بما في ذلك الملابس. إنّ الأحكام الفلسفية التي تدعونا لأن نتجاهل الاهتمام بالمظاهر كالملابس على سبيل المثال، تُشكل عقبة أمام فهمنا للوجود. وكما تقول سوزان سونتاغ، على العكس من أفلاطون: “ربما لا يوجد تعارض بين وجودنا الحقيقي وأسلوب ظهورنا في الواقع، لأنّ الظهور هو الطريقة الأنسب لنا، التي نتجلى فيها في هذا الوجود” وما تقصده سونتاغ أنّ سفينة ثيسيوس ظلت في جوهرها هي هي، على الرغم من أنّ خشبها بالكامل قد تبدّل! إذا كان اللباس يجذب انتباهنا كأسلوب فهم، فذلك لأن حياتنا الداخلية، على الرغم من كل الصيغ المجردة والسامية للذات والروح، غالبًا ما تكون مُغطاة بالملابس. كيف يمكننا أن نتظاهر بأنّ طريقة لباسنا لاتتعلّق بدوافعنا؟ إنّ الملابس التي نرتديها تحمل أسرارنا وفي الوقت نفسه تكشف أكثر ممّا نرغبه عن أنفسنا. هناك سذاجة فلسفية في التقليل من شأن الملابس! كان شكسبير يعلم ذلك، ففي مسرحية الملك لير يفصح الملك: “من خلال الملابس الممزّقة تظهر الرذائل العظيمة؛ أمّا الأردية الفاخرة والفرو فهي تُخفي كل شيء” لقد قال الملك لير ذلك حتى عندما لم يعد بذخه يُخفي إفلاسه الأخلاقي. لكن الشاعر والفيلسوف إيمرسون سخر بطريقته ممن يمجّدون الملابس ومن يزدرونها: “هناك سبب آخر لارتداء ملابس أنيقة، وهو أنّ الكلاب تُقدّر ذلك ولن تُهاجمك”.

فستان مارلين مونرو:

لقد كان أوسكار وايلد مسؤولًا محرّرًا في إحدى مجلات الموضة، حيث طرح أفكاره المهمّة عن دور الملابس في تشكيل المجتمع. وقد نبّه إلى أنّ بعض الملابس تمارس العنف على مرتديها، ومن الضروري نبذ هكذا ملابس، كالقفص الحديدي الذي كانت المرأة تلبسه ليجعل خصرها أكثر نحولًا، فلا غرابة أن يقول في روايته (صورة دوريان غراي): “إنّ السطحيين فقط هم من لا يحكمون على الأمور من خلال المظاهر. إنّ سرّ العالم الحقيقي يكمن في المرئي، لا في المخفي”. لقد دعا أوسكار وايلد إلى ملابس تمنح الجسد الحرية وسهولة الحركة، وكأنّه يريد من المصمّمين أن يأخذوا بحسبانهم أن ترتدي الاليثيا ثياب الحرية والحركة لا عري الحقيقة فقط. في فيلم (The Seven Year Itch لعام 1955) نفخ مرور القطار الفستان الأبيض، لأيقونة الجمال مارلين مونرو، فتطاير إلى الأعلى تعبيرًا عن الحداثة وما بعدها التي ستعصف بكل القناعات الفلسفية والدينية. لم تعد الملابس في عصرنا مجرد كساء للجسد، ولا مكانًا للإزدراء الفلسفي، ولا وصفًا يساعد في تخيّل الشخصية في السرود الأدبية. لقد أصبحت الملابس أسلوب حياة يعبّر عن موقعنا في هذا الوجود وموقفنا منه، فأن ترتدي قميصًا مصورًا عليه المناضل الأممي تشي غيفارا، فأنت تعلن ميولك السياسية، أو أن ترتدي بنطالًا من دون حزام يشدّه إلى خصرك، فأنت تومئ إلى العنصرية التي كانت تمارس على السود في السجون الأمريكية، أو أن ترتدي زيّا أفغانيًا، فأنت تعبّر عن أصولية دينية وهكذا.  تقول فرجينيا وولف في روايتها (أورلاندو: سيرة): “للثياب وظائف أهم من مجرد إبقائنا دافئين؛ إنّها تُغير نظرتنا للعالم ونظرة العالم إلينا” وكأنّنا مع تحوير لمقولة سقراط: “تكلم كي أراك” لتصبح: أرني ما تلبس لأقول لك من أنت!

باسم سليمان

كاتب من سورية

https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/civilisation/2025/6/13/%D9%D9-%D8%A7%D9%D9%D9%D8%A7%D8%A8%D8%B3-%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D8%AE%D8%A7%D9%D8%B3-%D9%D9%D8%A5%D9%D8%B3%D8%A7%D9خاص ضفة ثالثة

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 13, 2025 05:30

May 25, 2025

الأندلس: إرهاصات حقّة لعلم الجمال

باسم سليمان25 مايو 2025

يقول الفيلسوف لودفيغ فيتجنشتاين، بأنّ الجماليات هي “مفهوم مفتوح” أي أنّ معناها، هو مجموعة توظيفاتها عبر التاريخ؛ وهذا يؤدّي إلى أنّ صكّ المصطلح من قبل عالم الجماليات ألكسندر بومجارتن عام 1735 لا يعني بتاتًا، بأنّ المفاهيم الجمالية لم تكن موجودة قبل هذه اللحظة التاريخية التي اجتمعت فيه عناصرها الأساسية، فالجماليات كانت دومًا مدار بحوث ونقاشات من أفلاطون في محاوراته كــ (هيباس الكبرى) إلى أرسطو وكتابه (في الشعر) صعودًا إلى زمننا الحالي، وإن لم تحصر بنهج وعلم خاص في تلك الأزمنة؛ وهذا ما دفع الفيلسوف أمبرتو إيكو لمعارضة المفكّر بنديتو غروتشي في منتصف القرن العشرين الذي كان يصرّ على أنّ الجماليات قد تأسّست فقط وفق الأنموذج اليوناني واللاتيني إلى جانب عصر النهضة الأوروبي، رافضًا مساهمات الحضارات الأخرى بها، ومنها الحضارة العربية الإسلامية التراثية، فقد كان إيكو يؤكّد بأنّ الجماليات في الحضارات الأخرى، كان لها صور وأشكال شتى تقترب وتبتعد من علم الجماليات الغربي وتغنيه في الوقت نفسه، وعادة ما تدور مواضيعها في البحث بأحكام القيمة، أسواء كانت من منبع حسّي أو عقلي من أجل الحكم على الأشياء والمفاهيم والأفكار والإبداعات بأنّها جميلة أو قبيحة.

من هذه الرؤية الإيكوية انطلق الباحث والمفكِّر الإسباني خوسيه ميغيل بويرتا في اكتشاف الجماليات العربية وخاصة الأندلسية منها في كتابه: (الجمالية في الفكر الأندلسي، الصادر عن دار مؤسسة الفكر العربي لعام 2024 ترجمة جعفر العلوني) بناء على تكليف من مؤسسة الفكر العربي، وخاصة أنّه دارس لتاريخ الفنّ في جامعة غرناطة تلك المدينة الأندلسية الغنية بالآثار والمعالم الجمالية، وقد قضى ما يناهز الثلاثين عامًا من عمره في دراسة الآثار الأندلسية ومعالم مدينة غرناطة حتى لُقب بقارئ الحمراء والمقصود قصر الحمراء الذي بناه الخليفة محمد بن يوسف الأول مؤسس دولة بني نصر ما بين (1232- 1492) وهو من بني الأحمر، حيث يُرجح أن تكون تسمية القصر نسبة لهم. ولقد أصدر بويرتا العديد من الكتب التي تركّزت واحتفت بالفكر العربي وجمالياته نذكر منها: تاريخ الفكر الجمالي العربي. لقد كان مفهوم الجماليات حتى بالنسبة للثقافة الغربية مستبعدًا إبّان القرون الوسطى، فكيف سيتم قبول وجود جماليات في الثقافة العربية والأندلسية في تلك الأزمنة! وأمام هذا الافتراض التاريخي غير الموضوعي شرع بويرتا في مشروعه لجلاء أسس علم الجمال في الثقافة العربية وخاصة في الأندلس.

نظرية الإدراك الحسّي:

عند النظر إلى النتاج الأندلسي الفكري والفلسفي واللاهوتي والمعماري نجد أنّ الأصول المعرفية لها تعود إلى الوحي القرآني والفلسفة اليونانية؛ وكلاهما قد وضعا الإنسان في محور الكون، وأحالا له جهد استنباط المعرفة والعمل بها؛ ومن هذا المنطلق ظهر الاهتمام بالحواس كمصدر للمعرفة، أو كما يقول ابن حزم عن الحواس، بأنّها منافذ وأبواب للقلب. ولقد وضع ابن حزم مفهومًا للنفس البشرية، بأنّها كيان مادي يتغلغل في جسد الإنسان كلّه، فهي التي تملك الحياة والقدرة الإدراكية والحسّية للكائن البشري: “لا حسّ البتة إلّا للنفس، ولا حسّاس إلّا هي، فهي حسّاسة لا محسوسة”. فالنفس بحواسها الخمس تدرك اللذة والألم وغير ذلك، والعقل منها له السطوة على تلك الحواس، حيث يصحّح معطياتها، لكنّ ابن حزم يرفض قوى النفس التخييلية والظنّية فهي كذب برأيه، ولا تساهم في إنشاء المعرفة. أمّا ابن باجة فهو يرى بالمعطيات التي تقدّمها الحواس درجة أولى في التجريد المعرفي وهو يعدّ أول المعلّقين على كتاب أرسطو (في النفس) وهنا يحلّل ابن باجة كيف ترتسم المعرفة في العقل الإنساني، فبرأيه بأنّ المعنى معطى روحي، يستخلصه العقل من المادة المحسوسة. بينما وسع ابن رشد من شأن الحواس وفصلها عن بعدها الميتافيزيقي الموجود عند غيره من المفكّرين، إذ يرى بأنّ الأشياء في الطبيعة التي هي موضوعات الحواس لها وجودها الموضوعي؛ ومن هنا يمكن إدراكها بشكل معقول وواقعي. وكما كان ابن حزم وابن باجة يريان بأنّ السمع والبصر من الحواس العليا فعل ابن رشد مثلهما، وعدّ البصر والسمع الحاستين الموجودتين نحو الأفضل، أي أنّ لهما وظائف أسمى من مجرد السمع والبصر لأنّها مرتبطتان بالتخييل عن طريق ما يسمى (الحسّ المشترك) وهو منطقة برزخية بين الحواس وقوى العقل من تفكير وتخييل وذاكرة، فالسمع يلتذ بالأصوات المتناغمة والبصر يبتهج للصور الجميلة. ولقد رفض ابن رشد الموضوعة الأفلاطونية القائلة، بأنّ الحواس تدرك الأشياء عبر تذكّر بسيط يعود إلى عالم المثل، بل عدّ معرفتها معاينة مباشرة لا تذكرية؛ وبذلك قام ابن رشد بفصل المعرفة الحسّية عن المعرفة الميتافيزيقية مؤسسًا لموضوعية علمية.

لقد عظّمت الفلسفة اليونانية حاستي البصر والسمع، حتى أنّها تقول لمن لفظ أنفاسه الأخيرة، بأنّه ألقى نظرته الأخيرة على العالم. وقد فعل القرآن الكريم الشيء نفسه بالنسبة للبصر وخاصة بالتعرّف على العظمة الإلهية من خلال جمال الكون وإدراكه، لذلك انشغل المفكّرون الأندلسيون من ابن باجة إلى ابن رشد وغيرهم بتفصيل كيفية حصول الإحساس والإدراك من خلال البصر، وقد رأوا بأنّ الضوء واللون مهمان جدًا لحدوث البصر. ولم يكتفوا بأن درسوا آليات الحواس، فقد بحثوا في اللذة المتأتية عنها، وقد قال ابن خلدون صاحب علم الاجتماع، بأنّ السمع يلتذ بإدراك الأصوات المناسبة. ولقد درسوا دور الحواس في الفنون وعلم الجمال، حيث منح حازم القرطاجنى الحواس مكانة مهمة وأساسية، إذ ربط على نحو دائم بين فنون السمع وفنون النظر. على الرغم من الدور الكبير الذي أخذته الحواس لكنّها ظلت مادية لا ترتقي إلى المعرفة العقلية والروحانية، حتى جاء ابن عربي وتجاوز الانقسام بين المادي والمحسوس من جهة، والروحاني والتأملي من جهة أخرى عبر نظرية المعرفة العرفانية والتي تعرف عادة بالحلولية. هكذا نرى بأنّ أدوات المعرفة لدى المفكِّرين والفلاسفة الأندلسيين كانت الأرضية المناسبة لينطلق منها فكرهم نحو آفاق فكرية وروحانية وعمرانية وجمالية.

الجمالية الأندلسية:

لا يمكن الإحاطة بالتفاصيل الكاملة التي أوردها ميغيل خوسيه بويرتا في دراسته للجمالية في الأندلس، لذلك سنختار بعض النقاط المائزة عند ابن رشد وحازم القرطاجني وابن عربي في هذا الكتاب.

ابن رشد:

إنّ” الأخلاق والجمالية هما الشيء نفسه” هذه المقولة للفيلسوف لودفيغ فيتخنشتاين، وهي مختصر رؤية ابن رشد بالنسبة لفنّ الشعر. يعتبر ابن رشد الشارح الأكبر في القرون الوسطى لأرسطو وخاصة كتابه (في الشعر) وقد فهم ابن رشد بأنّ مفهومي التراجيديا والكوميديا هما المدح والهجاء. وهذا الخطأ لم يكن مصدره ابن رشد وحده، فالمترجمين لأرسطو كأمثال ابن سينا والفارابي ذهبوا ذات المنحى. لقد كان ابن رشد  يرى بأنّ قيمة الشعر تكمن في قدرته على نقل القيم الأخلاقية إلى المجتمع من خلال المحاكاة والتخييل، لذلك كان يرفض ميله إلى الكذب والمديح المبالغ به، ولهذا عدّ المحاكاة التي نظّر لها أرسطو بأنّها ليست تقليدًا للواقع عبر التخييل، أو كما فسّرها ابن سينا والفارابي بأنّها إعادة صياغة تخييلية أو مرحة للواقع. فقد كان يرى المحاكاة أو التخييل، بأنّه تقليد الواقع بأسلوب بلاغي عبر الاستعارة والإبدال والتشبيه وكأنه بذلك يمنطقها نازعًا منها روحية إعادة كتابة الواقع كما رأى أرسطو، فقد كان ابن رشد يعدّ ذلك كذبًا لأنّه يقطع العلاقة بين الشعر والحقيقة. ومع أن نظرة ابن رشد تعدّ إلى حدٍّ كبير متزمّتة نحو الجمالية الشعرية، إلّا أنّها في الوقت نفسه تسمح للعقل بالتدخّل في الفنّ من أجل صالح المجتمع الأخلاقي.

حازم القرطاجني:

لقد وضع حازم نظرية كاملة للجمالية في كتابه (منهاج البلغاء) وخطى خطوات جبارة بفصل الفنّ عن الحقيقة المنطقية أو الواقعية، فالشعر عنده تخييل ومحاكاة إبداعية لا ترى ضررَا باستخدام الكذب والمبالغات لكنّ المهم أن تكون منظمة ومتناسبة ومتآلفة وتقوم على المحاكاة والتخييل والتعجب واللذة وجمالية النور والانعكاس والاهتمام بالمشاعر والانفعالات الإنسانية الأكثر عمقًا ومشاركة بين البشر؛ ممّا يؤدّي إلى الكمال والجمال والابتكار.

ابن عربي:

إنّ ابن عربي فيلسوف الحبّ، وهو الذي أقام فلسفة صوفية جمالية على الحديث النبوي الكريم: “الله جميل يحبّ الجمال” ولقد كان يرى بأنّ الكون جميل لأنّه انعكاس أو تجلٍ لجمال وجلال الخالق، لكنّ الكون فيه من البشاعة والقبح ما فيه؛ وهنا كان لابن عربي نظرة تؤسس لما عرف فيما بعد في بحوث الجماليات بجمالية القبح. يقول ابن عربي بوحدة الوجود والخالق هو واجب الوجود إذن الكون يشارك الإله بالوجود، وقد وصف الخالق نفسه بأنّه جميل إلّا أنّه خلق المكروه والضار، وما لا يلائم الطباع، ولا يوافق الرغبات. هذه الفكرة دفعت ابن عربي إلى الوصول إلى نتيجة عجيبة؛ أي أن مرتكب الشرور كسيئ النية مثلًا سيكون مصيره جهنمًا، لكن جنهم ستكون مصدر سعادته لأنّ رحمة الله وسعت كل شيء. هذه النقطة التي أثارها ابن عربي نستطيع أن نفهمها عبر التخييل، إذ بواسطته نلج عالم البرزخ، حيث يلتقي الخالق بالخلق عبر التخييل، ونتجاوز به النظرة السطحية للموجودات حتى الضار منها. لقد رفع ابن عربي قوة التخييل لأعلى المراتب، فبواسطتها نعيد وصل ما انقطع بين الخالق والخلق بين الحسّي والعلوي في كلّ واحد. وبناء عليه لا يميّز ابن عربي بين حاسّة وأخرى أو أنّ حاسّة أفضل من حاسّة كغيره من الفلاسفة والصوفيين الذين عدوا البصر والسمع حواس عليا وغيرها حواس دنيا. ومن هذا المنطلق يصبح الكون مجلاة للإله، وبما أنّ الله جميل يحبّ الجمال، فعلى العابد أن يرى الجمال في كل شيء كعاشق قيده حبُّه، وهنا تنتفي الأحكام الأخلاقية والتقييمية بالإيجاب والسلب؛ إنّه عماء الحبّ المبصر للجمال.

العمارة الأندلسية نصٌّ جمالي:

مع ابن رشد وأخلاقياته الجمالية، وتحرير الشعر من قيد الصدق عند القرطاجني، وغمر الكون بالحبّ والجمال عند ابن عربي؛ كانت العمارة الأندلسية أقرب لعمارة طوباوية جمالية، ولقد ذكر الكاتب بويرتا كيف أنّ تلك الآيات القرآنية والأشعار التي نقشت على عمائر الأندلس قد كانت تمثيلًا وشعارًا وتطبيقًا لخطّة فكرية فلسفية لإعادة تصوير الأندلسيين لجنّة الله على الأرض، حيث حاولوا محاكاة الجمال الإلهي للكون، وجعلوا من الحاكم هو المنفّذ لهذه الملحمة الجمالية، إذ كانت تُنسب الجماليات له من كبيرها لصغيرها كونه خليفة الله على الأرض، لذلك عندما بنى آل نصر غرناطة كان في خواطرهم وغاياتهم محاكاة الجمال الإلهي للجنّة، يقول الشاعر ابن زمرك:                                                                                      وانظر عجائبَ حار في إبداعها                                                                   إحكام كلّ مهندمٍ ومهندس”.                                                                                    هذه الرؤية الطوباوية والمثالية للجمال في الأندلس كانت مدار غايات الشعراء بقولهم الجمالي، فها هو ابن خفاجة يقول:                                                                                  يا أهل أندلس لله درّكم                                                                                         ماء وظلّ وأنهار وأشجار                                                                                        ما جنّة الخلد إلّا في دياركم                                                                                ولو تخيّرت هذا كنت أختار                                                                                     لا تختشوا بعد ذا أن تدخلوا سَقرًا                                                                                 فليس تُدخل بعد الجنّة النار.

هذا غيض من فيض ما يكتنزه هذا الكتاب، لكنّ الأهم فيه، بأنّه أبرز دور العرب والمسلمين في التأصيل لبدايات علم جمال يستند إلى البعد اللاهوتي الديني والميتافيزيقية الفلسفية والحسّية المادية وفي الوقت نفسه إلى شخصية الإنسان الذاتية الفاعلة في هذا الكون. ونختم هذا المقال بأبيات في رثاء الأندلس بعد فقدها لأبي البقاء الرندي:                                                                                لِكُلِّ شَيءٍ إِذا ما تَمّ نُقصانُ

فَلا يُغَرَّ بِطيبِ العَيشِ إِنسانُ

هِيَ الأُمُورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ

مَن سَرّهُ زَمَن ساءَتهُ أَزمانُ

وَهَذِهِ الدارُ لا تُبقي عَلى أَحَدٍ

وَلا يَدُومُ عَلى حالٍ لَها شانُ.

باسم سليمان

كاتب سوري

خاص ضفة ثالثة

https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/books/2025/5/25/%D8%A7%D9%D8%A3%D9%D8%AF%D9%D8%B3-%D8%A5%D8%B1%D9%D8%A7%D8%B5%D8%A7%D8%AA-%D8%AD%D9%D8%A9-%D9%D8%B9%D9%D9-%D8%A7%D9%D8%AC%D9%D8%A7%D9
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 25, 2025 06:41

May 12, 2025

الحبّ المطمْئِن فاعلٌ لا منفعل – ضفة ثالثة – العربي الجديد

باسم سليمان 12 مايو 2025

إنّ متلازمة السعادة الأبدية التي تربطها الأذهان البشرية بالحبّ الرومانسي، أصبحت سؤالًا ممضًّا لدى الفيلسوفة كيري جينكينز في كتابها: (حبٌ حزين، الرومانسية والبحث عن معنى. ترجمة فاطمة القريشي والصادر عن دار شهريار للنشر والتوزيع لعام 2025)، فبعد كتابها  (ما الحبّ؟) دخلت جينكينز في حالة من الحزن والكآبة، فتبادر لذهنها سؤال؛ هل فقدت الحبّ مع شريك حياتها، ما دام الحبّ يفترض السعادة، أم أنّه من الممكن للإنسان أن يكون في حالة حبّ وإن كان حزينًا وكئيبًا؟ لقد شرعت جينكينز في تأليف كتابها عام 2017 وأنهته في عام 2022 حيث ترافق إنجاز الكتاب جائحة وباء كوفيد، ووصول ترامب إلى سدّة الرئاسة في أمريكا، وما رافق ذلك من تحديات ديمقراطية وأزمات اقتصادية. هذه الظروف دفعت الفيلسوفة لتوسّع بحثها عن مفهوم الحبّ، ليصبح وصفة للعيش الجيد، فأن يكون الإنسان حزينًا أو مكسور الفؤاد، فهذا لا يعني أنّه لا يستطيع أن يحبّ شريكه أو بلده أو الإنسانية! واقتضى ذلك أن تفكّك جينكينز مفهوم السعادة المرتبط بالحبّ وما تفترضه الرومانسية من أبدية الحبّ، لتصل لمفهوم له من دون وعود بالسعادة الأبدية، لكن لا يقل ولا يتلاشى، حبّ يهدف للبحث عن المعنى ويفيض بالحياة بمستوياتها كافة، اسمته: الحبّ المطمْئِن.

تنطلق جينكينز بمشروعها الفلسفي من ثلاث رسائل اجتماعية تؤطّر مفهوم الحبّ الرومانسي: الحياة الجيدة هي الحياة المليئة بالحبّ والسعادة، والحياة السيئة هي التي من دونهما. الحبّ والسعادة مجانيان. ينبغي للمرء أن يسعى وراء الحبّ والسعادة لعيش حياة طيبة ويهمل طلب الثروة والسلطة والشهرة. تظهر هذه الرسائل في الثقافة المجتمعية ارتباط الحبّ بالسعادة؛ ولاريب أنّ السعادة غاية الكائن البشري. هذه المثالية الخيالية في الحبّ هي النمط التقليدي لتصوّر الحبّ في حياة الإنسان، لكنّه في الواقع ليس بهذه المثالية ولا يؤمّن سعادة أبدية، بل أكثره تراجيديا، فما الحلّ؟

معضلة السعادة:  

يقول الفيلسوف الأمريكي ويليام جيمس (1842-1910) بأنّ الشخص الذي يتمتّع بصحة عقلية جيدة هو الفرد الذي ينظر إلى الأشياء ويراها جيدة، بينما من يرى عكس ذلك فهو روح مريضة! يضع جيمس مسؤولية السعادة على عاتق الفرد، وكأنّه يؤسس لمفهوم (قانون الجذب) في علم النفس الإيجابي الذي يرى بأنّ الواقع يتجلّى بالطريقة التي نفكّر بها، فإن فكّرنا بالمال لا بدّ أن نتحصّل عليه! ولا تختلف السعادة عن ذلك، فكلّ ما نحتاجه لننالها هو أن نكشف عن نوايانا بالسعادة، يا للعجب؛ إذن السعي وراء السعادة يجلبها وتحويلها إلى غاية سيسمح للإنسان بتحصيلها! يعارض الفيلسوف فيتكور فرانكل النمساوي وأحد الناجين من الهولوكوست في كتابه (الإنسان يبحث عن معنى) ذلك: “ولكن لا يمكن أن يُسعى وراء السعادة: يجب أن تكون نتيجة”. إنّ مقولة فرانكل تكشف عن معضلة السعادة، فالسعي إليها يقصيها! لقد شرح الفيلسوف جون ستيوارت ميل هذه المعضلة بالقول: “هؤلاء فقط سعداء، الذين صبّوا تفكيرهم على شيء آخر غير السعادة، على سعادة غيرهم أو على تحسين الإنسانية أوحتى على بعض الفنون أو المهن، انخرطوا فيها ليس كوسيلة بل كغاية مثالية لذاتها، هكذا يجدون السعادة في طريقهم”. إذن السعادة تأتي كأثر جانبي في سعينا نحو أمور أخرى. كتب فولتير روايته (كانديد المتفائل) في ردّه على فلسفة لايبنتز التي تقول، بأنّ السعي وراء السعادة حقّ مشروع لكلّ إنسان. كان فولتير يتساءل كيف من الممكن تحصيل السعادة في عالم مليء بالشرور؟ أتت الإجابة من فرانكل الذي استخلص من وقائع الهولوكوست بأنّ الناجين هم من كان يحدوهم معنى ما لحياتهم، كأن يظلّوا على قيد الحياة من أجل أبنائهم على سبيل المثال. من هذه الرؤية نفهم مقولته بأن السعادة نتيجة لأمر آخر. يخفّف هذا التحليل من ضغط مقولة بأنّ السعادة أمرٌ إرادي، ما إن تتغياها حتى تتحقّق. لم تشأ جينكينز الاكتفاء بذلك بل ذهبت لدراسة كلمة السعادة لغويًا عودة بها إلى جذورها القديمة. تعود كلمة (السعادة/(Happiness  إلى اليونانية إلى جذر (Hap) والذي يعني (الحظ) فكلمة (Happy) تعني محظوظ، حتى أن كلمة (يحدث/Happen) تشير بأحد معانيها القديمة والتي لم تصمد في التداول اللغوي للمجتمع عبر التاريخ إلى الطالع الجيد. تقول لنا الجذور القديمة بأنّ السعادة قضية حظوظ، لا قضية سعي، فلماذا نجعلها غاية ونحمل الإنسان ما لا يطيق، أليس الأفضل أن نتركها تحدث كأثر جانبي لشيء آخر قد يكون عملًا ما أو حبًّا، فلا يفترض بالحبّ أن يقود إلى السعادة، لكنّه يبقى حبّا ويظل أمرًا إيجابيًا للإنسان حتى لو كان حزينًا، فالحبّ لا يفترض السعادة ولا الحزن، لكنّه يحيا معهما بكلّ ألفة أو من دونهما.

المعضلة الرومانسية:

هناك من يقول: “بأنّ القُبل هي مصير أفضل من الحكمة” لقد ظهرت الرومانسية كمذهب ردًّا على العقلانية المادية في القرن التاسع عشر، وأعلت من شأن الحواس والمشاعر، حيث وضعت المشاعر في تضاد مع العقل وهذا ليس بجديد، فإرهاصات الرومانسية موجودة منذ القدم وإن لم تتجل في مذهب كما حدث فيما بعد، فأفلاطون يذكر على لسان سقراط مقولة أحد العجائز الذي قال عن الحبّ بأّنّه سيدٌ مجنون! لقد ذابت الرومانسية في عصرنا في مذاهب فكرية أخرى، ولم تعد واضحة إلّا في الحبّ، بل إنّ الحب كانفعال ومشاعر احتكرها. لكن قبل أن نخوض في معضلة الرومانسية التي تشبه معضلة السعادة، لنحلل كلمة (Eros) التي تترجم إلى حبّ وشغف ورغبة جنسية. وقد حلّلت الشاعرة (آنا كارسون) في كتابها (إيروس الحلو والمرّ) بأنّ هذه المشاعر تأخذ منحيين تارة ممتعة وتارة أخرى مؤلمة وأنت وحظّك، وبالتالي تبدو العاطفة الإيروسية متضادة مع ذاتها، بل متناقضة وتجعل ممّن يعيش الحبّ على عواهنه كأنّه في مهمة مستحيلة، فالحبّ جنون ومشاعر غير منطقية وهذا الوصف يجعل من الرومانسية حالة من الغموض والاستسلام لهذا السيل الجارف! لذلك صوّر عيش الحبّ كحالة وقوع أو إصابة بسهم، شيء خارج عن إرادتنا نخضع له كالعبيد مدعين سعادة سرابية، فيما لا نحصد غير الشقاء. وأكبر دليل على ذلك، بأنّ الأدب يكاد لا يذكر إلّا تراجيديا الحبّ. وعندما تختم قصة الحبّ بالسعادة يتوقّف السرد، وكأنّ السكون هو من يحل في خاتمة هذا السعي مع أن الحياة السعيدة التي وفرتها الرومانسية للعشاق هي الأحق بالرواية إلى جانب مغامراتهم والصعوبات التي تجاوزوها حتى توّجوا حبهم باللقاء. كثيرًا ما يصوّر الحبّ كاعتلال عقلي وجسدي وفي اللغة العربية تعود كل أسماء وصفات الحبّ إلى أمراض، كما تذكر المفكّرة رجاء بن سلامة في كتابها: (العشق والكتابة) وتفيد البحوث الإمبريقية/ التجريبية، التي أجريت على الحبّ، بأنّه يشابه مرض إدمان القمار، فمن ربط هذا البركان الانفعالي بالسعادة؟ وكما رأينا بمعضلة السعادة نجد أنّ معضلة الرومانسية المناهضة للعقل لا تحل. لقد طُلب من مجموعة من العشّاق أن يتخيّلوا صراعات مستقبلية مع شركائهم، وهل تؤثّر تلك التصوّرات على رضاهم على علاقتهم الرومانسية؟ لقد كانت النتائج مخيبة للآمال، فالعشاق أصابهم إحباط من انتهاء فكرة الحبّ السعيد! لكن من أقنع هؤلاء العشّاق وأعمى بصيرتهم، بأن الحبّ قادر على منحهم سعادة أبدية؟ الحبّ الرومانسي حلم وردي ما إن نرفع الغشاوة عن الأعين، حتى يعود مجرد شعور كغيره من المشاعر؛ وهنا هل يدفعنا ذلك إلى إهماله؟ بالتأكيد لا! لا تطرح جينكينز ذلك إلّا أنّها تقول، بأنّ الحبّ الرومانسي ليس هو الصورة الطبيعية للحبّ، وهو ليس مشاعر مطمئِنة أبدًا. فهل هناك حبّ مطمئن لأصحابه؟

الحبّ المطمْئِن:  

لا يطرح مفهوم الحبّ المطمْئِن السعادة أو الرومانسية ضمن أجندته بشكل حاسم، لكنّه لا يستبعدها، بل يعدّها ضمن النتائج التي قد تتحقّق أو لا تتحقّق، كما قال فيكتور فرانكل عن السعادة وضرورة عدم سعينا نحوها كهدف مباشر. لذلك لا يقيّم الحبّ المطمْئِن بإجابات من قبيل: (نعم أو لا) كالحبّ الرومانسي، فالحب المطمْئِن وفق جينكينز؛ هو قضية فعل ونشاط وإبداع، ليس الفشل إلّا إحدى حالاته التي ستكون ملهمة لخطوة أخرى نحو تحقيقه. وإذا أردنا أن نضع مقارنة بينه وبين الحبّ الرومانسي، نجد بأنّ الحبّ المطمْئِن لا يعترف فقط بمشاعر الرضى والسرور، بل بالمشاعر السلبية كالغضب والحزن والكآبة، وبكل مروحة مشاعرنا وانفعالاتنا، فأن تكون في حالة حزن لا يعني أنّك فاشل في الحبّ، لأن الحب المطمْئِن لا يتمحوّر حول الإحساس بشيء ما، وإنما يتمحوّر حول فعل شيء ما. والمقصد من كلام جينكينز بأن الحبّ المطمْئِن يجمع بين العقل والعاطفة بتوازن وتناغم. فعندما نبدأ برؤية الحبّ كنشاط وليس كحالة انفعالية سنقدِّر بأنّ الحبّ هو شيء مسؤولون عنه. وكما يقول أصحاب الفلسفة الوجودية بأنّنا مسؤولون عن شخصياتنا في هذه الحياة، كذلك نحن مسؤولون عن الحبّ كنشاط وجودي يخلق العلاقة الجيدة بين العشّاق بشكل خاص، والآخرين بشكل عام.

وفي خاتمة هذا الكتاب، يتبيّن لنا بأنّ مقاصد جينكينز قد كانت، بأن تساعد إنسان عصرنا القلق والمحبَط، بأن يجد طريقة جيدة للعيش، فيها الكثير من تحقيق ذاته، على الرغم من كلّ من يحاول سلبه إياها، سياسيًا واقتصاديًا ودينيًا واجتماعيًا وحتى من الحبّ ذاته.

باسم سليمان

كاتب من سورية

خاصة ضفة ثالثة

https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/civilisation/2025/5/12/%D8%A7%D9%D8%AD%D8%A8-%D8%A7%D9%D9%D8%B7%D9%D8%A6%D9-%D9%D8%A7%D8%B9%D9-%D9%D8%A7-%D9%D9%D9%D8%B9%D9

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 12, 2025 05:28

April 29, 2025

القلق: ذلك المارد في الفانوس الصغير

باسم سليمان 29 أبريل 2025

يكاد لا يخلو لسان إنسان على هذه الأرض من التلفّظ بمعنى صدر البيت الشعري للمتنبي: “على قَلَق كأنّ الريح تحتي” ومع ذلك لا يتمّم هذا الصدر بالعجز: “أوجهها جنوبًا أو شمالا”. لقد كان المتنبي سيد قلَقه، أمّا إنساننا في هذا الزمن، فهو في قلق دائم، كأنّه البحر المضطرب، لا مرساة تنجيه، ولا مرفأ يؤويه، ولا شراع يشدّ من أزره، حتى أصبح القلق مرض العصر، كأنّه مارد ما إن تحفّ فانوسه حتى يخرج لك ضباب لا يستبين منه شيئًا، فتلقي عليه الأماني لدحض المخاوف، فلا تجد منه إلّا العجز المدوي. إنّ الإنسان كائن القلق، لأنّه كائن الحرية وكائن الإرادة؛ والحرية والإرادة هما من يسبّبان القلق، لأنّهما يدعوانه لاكتشاف ذاته. في أوديسة هوميروس احتجزت الجنية (كاليبسو) أوديسيوس وبحارته، حيث حوّلت بحارته إلى حيوانات وأبقت عليه عشيقًا. أراد أوديسيوس استكمال رحلته إلى وطنه، وعندما حاول إقناع بحارته الذين تحوّلوا إلى حيوانات بالعودة إلى حالتهم الإنسانية، أجابه أحد البحارة الذي أصبح  خنزيرًا، بأنّ هذه الحياة الحيوانية أفضل من حياة الإنسان، فلا قلق، ولا مخاوف، ولا هلع من المستقبل، فلماذا نستبدلها؟

لقد كان القلق العقدة الكأداء في حياة الإنسان التي حاول تذليلها بالأقدار التي تخطّها الآلهة، وفق المثل القائل: “المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين”. لكن الحياة لم تكن بهذا السخاء، فالقلق في أصل جبلة الإنسان، ولولاه لكان إحدى الحيوانات كما في أوديسة هوميروس. ومع ذلك تأخّر ظهور مفهوم القلق بصورة مستقلّة عن غيره من الانفعالات والمشاعر والأفكار الإنسانية، بل إنّ تصنيفه كمرض مستقل إلى حدٍّ ما، انتظر حتى القرن التاسع عشر، وإن كان هناك إرهاصات سابقة على ذلك، فقد صنّف الباحث والكاتب الإنكليزي روبرت بيرتون (1577- 1640) في كتابه (تشريح الكآبة) ذكرًا للقلق كحالة مرضية، لكن كأحد مظاهر الحزن أو الخوف. تتابعت الدراسات الطبية والاجتماعية في لَحظ القلق على أثر بيرتون، حتى استقام كأحد أهم الأمراض النفسية في القرن العشرين المنصرم وقرننا هذا، إلى جانب أنّه أحد أهم التمظهرات الفلسفية للإنسان في بحثه عن معنى وجوده. ومن هنا يتبادر السؤال إلى عقولنا، هل كان الإنسان قبل العصور الحديثة خليًّا من القلق، كأنّه في جنة ديلمون؟

“أكون أو لا أكون؛ هذا هو السؤال”:

هذه الجملة قد جاءت على لسان هاملت إحدى شخصيات شكسبير (1564-1616). وقد كانت دليلًا على القلق وإن لم يذكر بلفظه، فالقلق يأتي من تلك المفاضلة: بين أن أكون أو لا أكون. لقد عانى هاملت من التردّد باتخاذ قرار الانتقام من عمّه قاتل أبيه، ليس لأنّه لا يملك الشجاعة، بل لأنّه لم يستطع أن يكون حرًّا، فظل رهين القلق، والقلق يُصبح مرضيًا، إن لم يُحسم أمره من قبل الإنسان، وكما يقول المثل السائر للإمام علي: “إذا هبت أمرًا فقعْ فيه”. وإذا عدنا في الزمن وجدنا جلجامش بعد موت صديقه أنكيدو يعاني من ذات السؤال الهامليتي، فما معنى الحياة، إن كان الموت سيختمها! لذلك انطلق بحثًا عن الخلود إلى أن وجد جدّه أتونفشتم الذي أخبره بأنّ الموت قدر من الآلهة، وليس له إلّا أن يلاعب طفله ويداعب زوجته ويأكل رغيفه! هذه النصيحة الأتونفشتيمية سنجدها في فلسفة أبيقور الذي ظُلم بالقول بأنّها فلسفة المتعة!

كان أبيقور أحد الفلاسفة الذين تصدّوا للمخاوف البشرية والقلق من الموت والمستقبل والألم، وغير ذلك، قائلًا بأنّه عندما يحدث الموت لن يكون الإنسان حيًّا، فالموت وعيشه لا يتواجدان معًا، فلماذا الخوف/ القلق من الموت؟ كذلك الألم، فمصير الإنسان أن يتعوّد عليه. أراد أبيقور أن يخفّف من القلق الإنساني وأن يعيش الإنسان الطمأنينة عبر فلسفة للمتعة تتجلّى عبر شغف كبير وتعقّل واسع. لم تختلف الرواقية كفلسفة تقشفية عن الأبيقورية في مقاربتها للقلق، فشيشرون الكاتب والسياسي الروماني كتب رسالة بعنوان: (نداء إلى الرواقية) بعد موت ابنته (توليا) أثناء الولادة، تعتبر هذه الرسالة مرجعًا في العلاج المعرفي للقلق، لما تحويه من نصائح لقبول الأقدار وعدم الذهاب إلى القلق الفكري الذي شبّهه بالاضطرابات المرضية التي تصيب الجسد؛ فكما للجسد أدويته كذلك للقلق أدويته بالحكمة. وعلى نفس المنوال كتب الفيلسوف سينيكا كتابًا بعنوان (راحة البال) والمقصد من كلام سينيكا أنّ الإنسان سيكون في راحة بال عندما لايكون قلقًا، وأهم ما يقلق الإنسان هو الموت لذلك يقول سينيكا: “من يخاف الموت لن يتصرّف أبدًا كما يليق برجل حي”. تتنبأ هذه الفكرة السينيكية بالطروحات التي سنجدها في فلسفة كيركغارد وهايدجر والفلاسفة الوجوديين حول القلق الأساسي الناجم عن إدراك الإنسان أنّ وجوده محدود. لقد اقترح سينيكا بأنّ إحدى طرق الهروب من براثن القلق، تكمن في تكريس انتباه المرء للحاضر بدلاً من القلق بشأن المستقبل. وقد ذكر في كتاب آخر له بعنوان: (عن قصر الحياة) توصية بدمج الماضي والحاضر والمستقبل في زمن واحد، هكذا يطيل الإنسان حياته عبر دمج كلّ الأزمنة في زمن واحد. لم يكن القلق غائبًا عن تفكير الإنسان عبر العصور، لكن الذي وضع له فلسفة كان سورين كيركغارد الدانماركي. هذه الرؤى الفلسفية التي تتعامل مع القلق الوجودي، تارة من خلال قبوله، وتارة أخرى من خلال مواجهته، لا تبتعد كثيرًا عن رؤية معارضة لها إن صح التعبير؛ وهي رؤية الحكيم بوذا. لقد كان بوذا يرى بالوجود عبارة عن (دوكة) أي بحر من المعضلات والعواطف والأفكار السيئة والأقدار القاسية، ولكي يخرج الإنسان منها كالشعرة من العجين، عليه أن ينهي تعالقه مع الوجود، لكي لا يعود إلى تقمّص جديد وخضوع لأحكام الكارما، ولن يكن ذلك إلّا بمحو القلق من حياته، ولا ينجز ذلك، إلّا بأن يمشي الإنسان على نهر هيراقليتس، وذلك لا يكون إلّا بإيقاف الخوف من الموت والمرض والرغبة بالحاجات الدنيوية. أو بعبارة أخرى، فإذا كان القلق زهرة الوجود آكلة اللحم البشري، فالدواء يكون بالخروج من الوجود إلى النيرفانا، حيث لا وجود ولا عدم.

القلق والفلسفة:

يُعدّ الفيلسوف سورين كيركغارد (1813-1855) في كتابه (مفهوم القلق) أول من ربط القلق بأصل نشأة الإنسان، وإن لم يكن الأمر على صعيد أنثروبولوجي، فهو عندما أراد تفسير القلق الإنساني ومنابعه النفسية، لجأ إلى مفهوم “الخطيئة الأصلية”، وفق تسمية القديس أوغسطين لها (354-430) وذلك ليعالج مفهوم الحرية أو معضلة الاختيار التي وقع فيها أبو البشرية، والأحرى هو شخصيًا، أو أي إنسان آخر، فالإله عندما حرّم على آدم أن يذوق شجرة المعرفة لم يكن آدم يدري عن حريته شيئًا إلى جانب قدرته على الالتزام بأمر الإله أو مخالفته له، قبل ذلك، لكن هذا المنع الإلهي أيقظ في آدم شعوره بالحرية وقدرته على الاختيار، وحتى مخالفة أمر الإله! ومن هذا التحليل كانت مقولة كيركغارد عن أنّ القلق هو: “دوار الحرية” فالقلق يضع الذات الإنسانية في مواجهة مع نفسها، عندما تكتشف محدوديتها أمام لا محدودية الوجود، أو بمقولة أخرى وفق كيركغارد، بأنّ الروح الإنسانية هي توليفة بين المتناهي واللامتناهي، وكأنّ الإنسان عليه أن يصنع معناه، على الرغم من محدودية قدراته، أمام معنى الكون المطلق، لذلك يعتبر كيركغارد أبو المذهب الوجودي قبل الفيلسوف مارتن هيدغر وجون بول سارتر. إذن القلق، هو السؤال عن معنى وجود الإنسان على هذه الأرض، فالقلق هو (ألـ) التعريف التي على الإنسان أن يضعها في أول كل النكرات والمجهولات في هذا الوجود، حتى تتحوّل إلى معارف وتطمئن نفسه، فالقلق موجود بوجود الإنسان، من الكهف لناطحة السحاب.

أمّا الفيلسوف الثاني الذي درس مفهوم القلق، فقد كان الألماني مارتن هيدغر فيلسوف الكينونة أو الجوهر الإنساني، وكان يرى بأنّ الإنسان يصاب بالقلق لأنّه غير قادر على أن يكون ذاته ولأنّ وجوده مزيّف. وحتى يحقّق الإنسان ذاته، عليه أن يخرج من عالم الزيف إلى عالم التحقّق، بأن يكون أصيلًا في هذا الكون فردًا يدرك كينونته في نهر هيراقليتس الذي لا تستطيع أن تستحم به إلّا مرّة واحدة.

لا يختلف فيلسوف الوجودية جان بول سارتر عن سابقيه، إلّا في اعتباره، بأنّ الوجود يسبق الجوهر، فلا جوهر سابق للإنسان قبل الفعل، على عكس ما تطرحه الأديان أو الأيديولوجيات الشمولية التي ترى بالإنسان جزءًا من منظومة سماوية أو أرضية تمنحه المعنى قبل وجوده. إذن جوهر الإنسان لاحق لوجوده وفق سارتر، وقيام هذا الجوهر أو المعنى لا يكون إلّا بالفعل، وكأنّنا مع مقولة هاملت: “أكون أو لا أكون، هذا هو السؤال” فالقلق الوجودي الذي يعتري الإنسان متأتّى من سؤاله الذاتي عن معنى وجوده وكيف يصنعه بإرادته، فالإنسان مسؤول كلية عن أفعاله لذلك هو صانعها. هذا النظرة الفلسفية من قبل سارتر كانت تدعو الإنسان لتحمّل أعباء وجوده ومواجهتها، ولا يجب له أن يهرب من هذا القلق، فبه تُولد ذاته.

وعلى نفس المنوال ترى شريكة سارتر سيمون دو بوفوار، بأنّ الإنسان مثل رجل على جزيرة مهجورة، عليه أن ينهض بأسس حياته لوحده. ولكن ما وجدته دو بوفوار في طبيعة الإنسان، بأنّه يرى بالقلق المظهر المزعج للحرية، لذلك يهرب منه إلى منظومات دينية وأيديولوجية تحميه من عبء السؤال الوجودي وحريته بالمقتضى، كأنّه أحد بحارة أوديسيوس، لكنّه بذلك سيفقد معناه متقنعًا بطمأنينة زائفة.

إنّ راحة البال التي تكلّم عنها سينيكا، وفق رؤية الفلاسفة المعاصرين، تكمن في تقحّم قلقنا من الحياة التي وجدنا فيها رغمنا عنّا. وكما صنع الإله آدم من طين، على الإنسان أن يصنع ذاته من تلك الأشياء التي تثير قلقه، فالإنسان لو ظلّ طينًا لكان أشبه بالفخارة التي مصيرها أن تنكسر. كذلك لو ظلّ خاضعًا لقلقه من دون توجيهه على مثال بيت المتنبي مع (قَلَقه) كما يطيب لمفسّري ديوانه في زمننا أن يشرحوا بيته هذا، مع أنّ المتنبي كان على (قَلِق) بكسر اللام، وهو صفة لحصانه المضطرب دومًا، لكن لا خلاف، فالشاعر الجاهلي كان يلقي على حيوانه صفات من شخصيته، وهنا ألبس المتنبي حصانه القلِق قلَقه كما نفخ الإله الروح في الطين.

لا حل لنا في مواجهة قلق أزمنتنا، إلّا بأن نكون كالمتنبي عبر جعل قلقنا حصانًا نركبه في أي اتجاه، فليست الريح هي من تنفخ أشرعتنا وتدفعها إلى الإبحار فقط، بل الدفة/ نحن، من نهيئ الزاوية المناسبة لتتوالف الريح والأشرعة، المتناهي واللامتناهي والقلق والوجود الإنساني.

باسم سليمان

كاتب من سورية

https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/civilisation/2025/4/29/%D8%A7%D9%D9%D9%D9-%D8%B0%D9%D9-%D8%A7%D9%D9%D8%A7%D8%B1%D8%AF-%D9%D9%8A-%D8%A7%D9%D9%D8%A7%D9%D9%D8%B3-%D8%A7%D9%D8%B5%D8%BA%D9%8A%D8%B1خاص ضفة ثالثة

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 29, 2025 02:44

April 15, 2025

الكوميكس: ملتيميديا الفنون والآداب – ضفة ثالثة

باسم سليمان 15 أبريل 2025

إنّ البحث والحفر عن جذور فنّ الكوميكس في التاريخ الإنساني لا يكون إلّا انطلاقًا من تعريفه الذي استقرّ في زمننا الحالي، بأنّه سلسلة من الصور المتتابعة سببيًا، والتي تروي قصّة ما؛ عبر الرسم التشكيلي المدعّم بالكلمات، والتي تؤطّر ببالونات حوارية، إلى جانب المؤثّرات الصوتية المعبَّر عنها بصيغة كتابية. هذا التعريف بعناصره كافة لم يظهر بشكل كلّي ابتداءً، بل بدأ بالرسوم المتتابعة إلى حدّ ما، والتي وجِدت في الكهوف، ككهف (لاسكو 30000 ق.م)، وعلى جدران المعابد الفرعونية والهندية، والأفاريز التي تعلو أعمدة الآثار اليونانية، والصور المنقوشة المتتابعة على عمود (تراجان) في روما، إلى جانب نسيج (بايو) في القرون الوسطى الذي يصوّر غزو النورمانديين لإنكلترا، مضافًا إلى ذلك الأناجيل المصوّرة. وبعد اختراع الطباعة، وظهور الصحف والجرائد وفنّ الكاريكاتير في القرن الثامن والتاسع عشر، بدأت القصص المصوّرة تأخذ معالم قريبة ممّا نعرفه حاليًا، وخاصة البوالين الحوارية. كانت العقود الأولى للقرن العشرين لحظة الولادة الحقيقية لفنّ الكوميكس، ففي فرنسا ظهرت سلسلة (تان تان)، وفي أميركا ظهرت سلسلة الأبطال الخارقين مع (سوبرمان، وبات مان)، وتوالت القصص المصوّرة في الجرائد والمجلّات. ومع انضمام المانغا اليابانية لهذه الموجة الفنية اكتملت عناصر هذا الوافد الجديد، ممّا استدعى أن يُعدّ فنّا قائمًا بذاته، فسمّي: الفنّ التاسع، وكأنّنا مع كائن، متعدّد الوسائط، يمتح من الرسم والمسرح والسينما والسرد عناصره المميّزة.
يقول الرسّام والكاتب سكوت ماكلاود/ Scott McCloud في كتابه: “Understanding Comics: The Invisible Art/ فهم القصص المصورة: الفن غير المرئي” عن الكوميكس: “إنّه يُوضع في وسط ورقي، لكنّه رغم ذلك يحتوي على رسومات مثل اللوحات، ويُنتج تأثيرًا بتتابع تلك الصور مثل السينما، ولأنّ كل هذا العمل موضوع في قالب إبداعي، فقد أدّى إلى اعتباره فنًّا مستقلًا بذاته”. ومن هذا العرض المبسّط لعناصر فنّ الكوميكس على يد أحد مبدعيه، سنقاربه من عدّة زوايا تثبت ارتباطه بالفنون والآداب كافة.

العيون الكبيرة للمانغا
القصص المصوّرة في اليابانية، هي الـ (مانغا/ manga)، وهي كلمة مؤلّفة من مقطعين: (مان/ خيالي، أو مرتجل)، و(غا/ صورة)، فالمانغا تعني: الصورة الخيالية. تعدّ المانغا في اليابان نسقًا خاصًا طبع الثقافة اليابانية بميسمه، أمّا فئة المعجبين بها، فهم يمثلون ثقافة (الأوتاكو/ المهووسين)، وللحقيقة فإنّ عشّاقها كذلك، فما يُطبع من كتب المانغا يعدّ ضخمًا جدًا يصل إلى ملايين الكتب، وهي تُمثل 25% من نتاج الثقافة اليابانية، حيث تنقسم إلى أنواع عدة، للصغار والكبار والإناث والذكور، وهي متعدّدة المواضيع، من التاريخي، إلى الخيالات الرومانسية للعشاق، إلى اليومي، فالخيال العلمي، وغير ذلك.

تعود المانغا بجذورها في اليابان إلى القرنين الثاني والثالث عشر ميلادي، فلقد ظهرت إرهاصاتها الأولى في سلسلة من الرسومات كانت تحوي ضفادعًا وأرانبًا جاءت تحت عنوان “مخطوطات الحيوانات المرحة” أنتجها عدد من الفنانين، لكنّها لم تكتسب اسم المانغا، إلّا في القرن الثامن عشر مع كتاب “الفصول الأربعة”، ولقد تأكّد هذا المصطلح في القرن التاسع عشر، ليصبح بعدها المعبّر عن أنماط القصص المصورة. على أثر الحرب العالمية الثانية، والاحتلال الأميركي لليابان، جلب الأميركان قصصهم المصوّرة/ الكوميكس، ممّا أخصب أرض المانغا اليابانية بأمداء أخرى. هذا الهواء الجديد بعث نهضة جديدة في القصص المصوّرة، وطوّر من أساليب الرسّامين والقاصين اليابانيين التي ظهرت في الجرائد والمجلّات، إلى أن أصبح للمانغا جرائدها ومجلّاتها الخاصة. ومع ذلك، لم تتخلّ المانغا اليابانية في نتاجها الأعم الأغلب عن صبغتها الأعز، إذ أنّها تُرسم بلونين: الأبيض والأسود، على عكس القصص المصوّرة الأميركية ذات الألوان المتعدّدة. في تلك الأجواء التي تلت الحرب العالمية الثانية ظهر الرسّام (أوسامو تيزوكا 1928 ــ 1989)، الذي يعدّ أول وأنجح فنان مانغا إلى اليوم في اليابان، إلى جانب آخرين لا يقلّون عنه شأنًا، وهو مبدع العيون الكبيرة لشخصيات رسوم المانغا. قد يتبادر إلى الذهن أنّ أوسامو قد رغب بأن تكون عيون شخصياته كبيرة؛ لربما مثل عيون شعوب القوقازيين الكبيرة والمستديرة في آسيا، أو مثل عيون محتّله الأميركي في أربعينيات القرن الماضي، لكنّ أوسامو استلهم ثيمتها من مسرح (تاكارازوكا ــ مسرح يعتمد على الإناث في عروضه التي تقوم على عالم من الألوان والأحلام والخيالات، ومن أشهر عروض هذا المسرح (وردة فرساي 1974)، الذي طوّر عن إحدى قصص المانغا وقد عرفنا هذه القصة عربيًا عبر المسلسل الكرتوني: (الليدي أوسكار). لقد كانت والدة أوسامو تأخذه لمشاهدة عروض مسرح تاكارازوكا في صغره، فرأى في عروضه المعبّرة حلًّا فنّيًّا للتعبير عن مشاعر الشخصية، فالعيون مرآة الروح، فأمام غياب الأصوات والمؤثّرات في القصة المصوّرة كانت العيون هي وسيلة التعبير عن المشاعر والعواطف والانفعالات والأفكار، كأنّ العيون هي مسرح تاكارازوكا أمام أوسامو، لذلك اختارها لتطبع أسلوب المانغا اليابانية، وكلّ من حذا حذوه. لقد تم نزع أسلحة اليابان الهجومية إثر هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، لكن المانغا تعدّ من القوى الناعمة لليابان التي تغزو بها العالم، حيث شكّلت المانغا إحدى الركائز الأساسية للثقافة اليابانية داخلها وخارجها، فلقد استلهمتها ألعاب الفيديو، وأفلام الأنيميشن، وغير ذلك، فمنذ ثمانينيات القرن المنصرم دخلت المانغا على الثقافة الأوروبية، وتزواجت معها، وخاصة في فرنسا، وهي إحدى روّاد هذا النوع من الفنّ. ولم تسلم أميركا من ذلك. وتعد الآن الهند سوقًا مفتوحة وواعدة لهذه الثقافة التي تنبع من المانغا. ولا يمنع أن نذكر أهم الأعمال التي كان منشؤها المانغا كــ (Astro Boy/ أسترو بوي) التي كتبها ورسمها أوسامو، و(One Piece/ ون بيس)، و(Dragon Ball/ دراغون بول)، على سبيل المثال.

البدايات التي تُنسب إليها جذور الكوميكس هي الصور التوضيحية لفكرة سردية ما، أو الكاريكاتير. لكن رسّامي الكوميكس الأوائل لم يكونوا يوقّعون رسومهم، ممّا سبب إخراج صور الكوميكس عن مفهوم العمل الفنّي، كما نجده في اللوحات، والذي نظّر له علم الجمال كثيرًا. تطوّر الكوميكس، وارتياده مناطق جديدة، دفع الفنانين إلى إظهار أسلوبهم المميّز بحيث أصبحنا أمام بصمات فنية لكلّ رسّام، ممّا سمح للقارئ لمجلات الكوميكس أن يتعرّف على الفنان من خلال خطوطه وألوانه. وقد ساعد في ذلك ترأس (ستان لي) الكاتب والمحرّر للقصص المصوّرة الأميركية لشركة مارفل، فأصبحنا معه أمام شخصيات ذات أبعاد نفسية عميقة، وخاصة بالنسبة للأبطال المشهورين، كسوبرمان، وبات مان، وفلاش، وغيرهم، بالإضافة إلى إطلاق الحرية للرسّامين في السيطرة المطلقة على خطوطهم وألوانهم، وأيضًا للكتّاب في تناول أي موضوع يرونه مناسبًا. من هذا الواقع الجديد الذي تكرّس منذ سبعينيات القرن الماضي، بدأ عدد من رسامي الكوميكس يمتحون من الأصول الفنية لأهم مدارس الرسم العالمية، كسلفادور دالي بالنسبة للسريالية، وغوستاف كوربيه للواقعية، وموريتس كورنيليس إيشر، الذي استوحى من علم الرياضيات ليرسم لوحاته. ويعد رسّام القصص المصوّرة (Jim Steranko/ جيم ستيرانكو) صاحب شعار السلسلة المشهورة (X-Men) من أدخل النمط السريالي إلى عالم الكوميكس بشكل فعلي، حيث نجد رسومه أقرب إلى الأحلام، أو ذوبان الزمكان في لوحات دالي، وقد كان هذا مناسبًا جدًا لتصوير العوالم المتوازية في القصص المصوّرة. أما الرسّام (Jae Lee/ جاي لي) فيعيدنا إلى عصر النهضة، ومثلثها الذهبي الذي كان يحكم عناصر اللوحة، فمن خلال وضع الشخصيات الرئيسية داخل مثلث متخيّل، مع الحفاظ على المنطقة المحيطة به فاتحة الألوان وأقل ازدحامًا بالشخصيات، تمكّن الفنانون في عصر النهضة من رسم شخصيات متعدّدة في المشهد، مع تجنّب الفوضى. ويتبع جاي لي المبدأ نفسه، لا سيما في أغلفة باتمان، وسوبرمان، وولفرين، حيث تحظى كل شخصية بالقدر المناسب من الاهتمام، فعينا القارئ تعرفان تمامًا أين تركّزان.
بينما يذهب Alex Ross/ أليكس روس ليعيد إنتاج أسلوب غوستاف كوربيه في خمسينيات القرن التاسع عشر، حيث يُحاكي الطبيعة كما هي، لا أشكال مبالغًا فيها، بل مشاهد وشخصياتٌ أقرب إلى الواقع، مُجسّدةٌ في ضوءٍ طبيعي. إلى جانب ذلك، يستلهم روس من الواقعية المثالية اليونانية رسوم شخصيات الكوميكس، وكأنّنا أمام النحت اليوناني المعروف بواقعيته المثالية، أو تصويره للشكل الإنساني بشكل مثالي، وبهذا الأسلوب منح شخصيات أبطال الكوميكس قوامًا إلهيًا، وعادة ما كان يصوّرها في نطاق رؤيةٍ مُنخفض، ممّا يمنح الناظر شعورًا بأنّه ينظر إلى شيءٍ ضخمٍ وقوي. في حين ذهب Frank Miller/ فرانك ميلر في قصة مدينة الخطيئة/ Sin City إلى تقديم البساطة في الخطوط، وغنى اللونين الأبيض والأسود مذكرًا بالزمن الذهبي للسينما عندما كانت بالأسود والأبيض.

ولم يكن رسّامو الكوميكس العرب بعيدين عن ذلك، وإذا كان لنا أن نختار منهم، فليكن الفنّان السوري ممتاز البحرة، سواء برسومه في كتب التعليم في سورية، أو في مجلة “سامر”، فقد كانت غنية جدًا، وأقرب إلى اللوحات حية، حيث كان لها تأثير مهمّ على توسيع عقول الأطفال وخيالاتهم.

السرد المصوّر
يُقال بأنّ الصورة الواحدة بألف كلمة، لكنّ كلمة البحر ــ على سبيل المثال ــ تحوي ألف ألف صورة واقعية ومتخيّلة عنه. هذه المنافسة بين الكلمة والصورة كانت دومًا تنتهي لصالح الكلمة. وللحقيقة، الكلمة هي من حملت الثقافة البشرية لا الصورة، فالصورة، أكانت نحتًا، أو رسمًا، أو نقشًا، كان لها دور مساعد، لا أكثر، يأخذ شكل التفسير، أو التوضيح، إلّا أنّه مع القصص المصوّرة تصدّرت الصورة على الكلمة، في التعبير عن الثقافة البشرية، وأصبحت حاملًا سرديًا للتخييل الأدبي. ومع ذلك، لم يقرّ نقّاد الأدب للقصص المصوّرة بأن تكون حاملًا سرديًا له الإمكانيات التي تتوفّر للكلمة. لا ريب أنّ المجالات التي تناولتها القصص المصوّرة ساهمت في هذا التقييم السلبي، فسلاسل الأبطال الخارقين الذين ظهروا قبيل الحرب العالمية الثانية التي ساهمت في ذيوع وانتشار القصص المصورة لم تحمل مضامين إنسانية عميقة، كما تفعل الروايات والقصص والشعر، سواء الموجّهة إلى الصغار، أو الكبار. لقد ظلّ الحال على هذا الأمر إلى أن جاءت سلسلة Maus: A Survivor’s Tale/ فأر: حكاية ناج، التي نشرت على حلقات من عام 1980 إلى 1991 لتقلب الحكم السلبي إلى حكم إيجابي بعد فوزها بجائزة البوليتزر المرموقة. لقد استلهم رسام القصص المصورة Art Spiegelman/ آرت سبيجلمان قصة والده الذي نجا من الهولوكوست مصورًا اليهود كفئران، فيما الألمان والبولنديين كقطط وخنازير، عبر صفحات الرواية المصوّرة. كانت هذه الرواية تأكيدًا حاسمًا للبدايات الخجولة لدخول القصص المصوّرة في مجال النقد الأدبي بشكل حقيقي، وخاصة إثر فوزها بالجائزة المذكورة.
هذا على الصعيد العالمي، أمّا على الصعيد العربي، فقد كانت رواية “مترو” (2008) للروائي المصري مجدي الشافعي هي أول رواية عربية مصوّرة للكبار، وتدور قصتها عن شاب يقرّر سرقة أحد البنوك، لتبدأ بعدها سلسلة أحداث تشتبك مع السياسي والاجتماعي بقوة عبر استخدام لغة الشارع وألفاظه الجريئة. حقّقت الرواية شهرة واسعت، وترجمت إلى لغات عديدة، وحوكم الشافعي بسببها. هكذا كانت رواية مترو فاتحة ليقتحم السرد المصوّر عوالم التخييل الأدبي بقوة في الوطن العربي.
نستطيع القول، في نهاية هذا المقال، عن فنّ الكوميكس/ القصص المصوّرة، بأنّه فنّ متعدّد الوسائط، له الميزة على جمع المتباعد والمختلف بين أنواع الفنون والآداب على صفحات مرسومة متسلسلة.
لم تعد الفنون والآداب في صراع أيهما أكثر تعبيرًا عن الجمال، بل أصبحت في حوار خلّاق في فنّ الكوميكس، وبذلك فتح الفنّ التاسع بابًا جديدًا سيمنح الإبداع الإنساني عوالم موازية مدهشة تتوافق مع طروحات علماء الكوانتا عن وجود عوالم موازية لعالمنا هذا.

https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/revisions/2025/4/15/%D8%A7%D9%D9%D9%D9%D9%8A%D9%D8%B3-%D9%D9%D8%AA%D9%8A%D9%D9%8A%D8%AF%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%D9%D9%D9%D9-%D9%D8%A7%D9%D8%A2%D8%AF%D8%A7%D8%A8 * كاتب من سورية.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 15, 2025 06:05

April 4, 2025

الأقنعة: هل هي أوجه الإنسان الأخرى؟

باسم سليمان 4 أبريل 2025

يقول محمود درويش في إحدى قصائده: “سقط القناع عن القناع” وما يقصده درويش أنّ الأخلاق هي كالقناع  تسقط عن الوجه، ما دامت الأفعال الجرمية الصهيونية بحقّ الفلسطينيين لم تردعها حقيقة أنّ الإنسان خُلق على صورة الإله كما تقول التوراة. لكن الأكثر عمقًا في مقولة درويش هو أنّ صورة الإنسان الذي شُكّل من طين هي أيضًا هيئة مستعارة/ قناع. إذن الأخلاق الإنسانية قناع قد يُزاح عن الوجه الإنساني، الذي هو بدوره قناع للصلصال الذي خُلق منه الإنسان!

هذه النظرة بأنّ الإنسان يبدّل وجوهه حسب مآربه صبغت مفهوم القناع بالحكم السلبي، لكنّ القناع أداة تواصل من قِبل الإنسان مع ذاته ومع الآخر ومع محيطه الفيزيقي والميتافيزيقي. وهو لغة قبل اللغة التي نعرفها من رسوم وأحرف، فالعلماء يقولون، بأنّ الإنسان قد استخدم القناع قبل أن يخترع اللغة بزمن طويل، فأقدم قناع تم اكتشافه قد كان في جبال الجليل في فلسطين يعود إلى تسعة آلاف عام قبل الميلاد، وهو قناع منحوت من الحجر لصورة وجه بشري، فما الذي أراده الإنسان من إلباس وجهه وجهًا آخر؟ هل هو مقاومة الفناء الذي يسببه الموت للجسد البشري؟ يذهب علماء المصريات بأنّ قناع الذهب للملك توت عنخ آمون المتقن التفاصيل والملامح، كان الهدف منه هو أن تتعرّف روح الملك على وجه مسكنها الجسدي عندما تعود من العالم الآخر. هذه الرؤية الفرعونية تشاكلها بعض الأساطير لدى هنود المكسيك، إذ كان القناع الذي يوضع على وجه الميت مزينًا بالأحجار الكريمة حتى يشبه أوجه أهل السماء وإلّا لن يدخلها الميت.

كان القناع جواز عبور إلى العالم الآخر، لكنّه في الوقت نفسه أداة خلق. تذكر لنا أساطير حضارة المايا، بأنّ الإلهين البطلين الإنسانين (هوناهبوه وإكسبالانك) كان يسليان آلهة العالم السفلي/ الموت، برقصات يضعان خلالها على وجهيهما أقنعة حيوانات من مثال (ابن عرس وحيوان المدرع) وكأنّهما بذلك يقومان بخلق هذين الحيوانين. ولكي نفهم دلالات هذه الأسطورة سنستعير أساليب التحنيط عند الفراعنة، فالكهنة كانوا يرتدون قناع الإله أنوبيس (ابن آوى) إله الموت عندما يقومون بتحنيط الموتى. بهذا التقنّع كانوا يستحضرون فعالية إله الموت في عملهم، فالقناع استعارة لكلمة وفعل الإله أنوبيس. ولا يختلف عنه الإلهان (هوناهبوه وإكسبالانك) بارتدائهما أقنعة الحيوانات وهما يرقصان أمام آلهة العالم السفلي، فبهذه الطريقة خلقا الكائنات الحية الأخرى بعد أن أبهرا آلهة الموت برقصاتهما عبر تقليد أفعال الخلق.

تنتشر الأقنعة عبر حضارة الإنسان القديمة لأسباب كثيرة، فالصياد الذي يرتدي وجه طريدته يستعير قوتها ليسيطر عليها، والقناع الجنائزي للميت هوية تعريفية له بالنسبة للروح الذي ستعود إليه أو جواز مرور إلى العالم الآخر. لم يبق الكثير من الأحفوريات عن الأقنعة، فالمواد المستخدمة في صناعتها كالخشب والجلود والأعشاب لا تقاوم عوامل الزمن، لكن القليل من اللقى الأثرية كانت كافية للاستدلال على بعض استخداماتها مع الكتابات والرسوم التي ذكرت الأقنعة.

لعبت الأقنعة أدوارًا كثيرة في الطقوس الدينية والجنائزية والاحتفالات الشعبية وطقوس العبور من مرحلة عمرية لأخرى وحتى كوسيلة ترفيه. ظهرت كلمة (Mask/ قناع) في القرن السادس عشر في أوروبا وكانت تعني غطاء لإخفاء الوجه أو حمايته، وهي مشتقّة من الكلمة اللاتينية (Masca) التي تعني: قناع، شبح، كابوس. كان العرب يطلقون على من يصبغ وجهه بالألوان لأداء بعض الفقرات المضحكة بـــ(المسخرة/ maskharah) وهناك ترجيح أن يكون أصل كلمة (Mask) يعود إلى العربية. تفيد كلمة قناع بالعبرية معنى المسخ/ التحوّل وقد كتب الشاعر الروماني أوفيد كتابًا سمّاه (التحوّلات/ مسوخ الكائنات) رصد فيه الشخصيات التي تبدّلت هيئتها، وكأنّها ارتدت قناعًا؛ كالجميلة (دافني) التي كان الإله أبولو يطاردها، فطلبت من الآلهة تحويلها إلى شجرة غار. هكذا نرى أنّ للقناع قدرة تحويلية، كما لحظنا سابقًا قدرته كمجاز عبور بين العوالم أو الخلق.

يشتغل القناع كآلية للتغيير والإيضاح والخلق وحتى الإخفاء والحماية، وبالموازاة مع اشتغاله الميتافيزيقي، كان له دوره الأساسي في حياة الإنسان الفيزيقية، في أهم فنّ عرفه الإنسان، ألا وهو المسرح. كانت الأساطير تحكي حكاية الآلهة، أمّا المسرح، فهو حكاية الإنسان الذي تدور حياته بين رحى الفرح والحزن، الضحك والبكاء، الكوميديا والتراجيديا.

أقنعة أبي الفنون:  

يُعدّ فنّ ارتداء الأقنعة ممارسة مسرحية قديمة جدًا، تتجاوز حدود الشعوب والعصور، فمن قناعي المسرح عند الإغريق، إلى الأقنعة التي تعبّر عن شخصيات نمطية في الكوميديا ​​المرتجلة لدى الإيطاليين، إلى الوجوه ذات الدلالة الروحية في مسرح (Noh/ نو) الياباني، يُعزز فنّ ارتداء الأقنعة أداء الشخصيات وسرد القصص من خلال تمكين الممثّلين من استكشاف طيف واسع من المشاعر والعواطف والقصص البشرية. إنّ ارتداء وجه زائف لتبدو شخصًا آخر مؤقتًا هو جوهر التمثيل. يعود ارتداء الأقنعة في الاحتفالات المسرحية إلى مهرجانات الاحتفاء بالإله ديونيسوس/ إله الخمر والخصب عند الإغريق، والتي كان لها دور مهمٌّ في نشوء المسرح اليوناني. كانت مهرجانات هذا الإله تستخدم الأقنعة التي تمثل حالات معينة، سواء للإله أو للمتعبّدين له، وبما أنّ الفرح والحزن هما العاطفتان الواضحتان جدًا على وجه الإنسان مثّل لهما المسرح اليوناني بشقيه الكوميدي والتراجيدي بقناعين ضاحك وباكٍ. ولم يكن هذان القناعان من دون تأصيل مثيولوجي، فابنتا الإله زيوس (ميلبو وثاليا) خالق الإنسان في الأساطير الإغريقية، كانتا ترتديان هذين القناعين؛ ميلبو لها القناع الباكي، وثاليا لها القناع الضاحك.

يعتبر (ثيسبيس) الممثل الأول الذي نقل الأقنعة من الأنشطة الدينية لليونانيين إلى المسرح الإغريقي، ومع تطوّر المسرحيات وظهور الآلهة والأبطال والشخصيات النمطية في المسرح، بدأ اعتماد الاقنعة المعبّرة عن تلك الشخصيات، فلم يكن يحتاج الممثّل للانتقال من دور إلى دور إلّا أن يغيّر القناع. لكن ليس لهذا السبب فقط ظهر القناع، يرى أرسطو بأنّ التراجيديا هي صراع بين الأخلاق والعواطف، ولكي يتم نقل التعابير العاطفية بشكل جيد للجمهور، كانت الأقنعة وسيلة ممتازة لذلك، إلى جانب أنّ فم القناع صنع بشكل أسطواني ليضخّم صوت الممثّل حتى يصل إلى كافة أرجاء المسرح.  

ظهرت المسيحية وتراجعت الثقافة اليونانية والرومانية الوثنية اللتان كانتا تستخدمان الأقنعة، ممّا أدى إلى انحسار هذا الأسلوب التعبيري، إلا أنّ ظهور المسرح الارتجالي في إيطاليا في عصر النهضة أعاد للأقنعة المسرحية شأنها الذي اندثر. كان هذا المسرح ارتجاليا يتبع الخطوط العامة للمسرحية، يتناول العادات والشخصيات النمطية في المجتمع وينتقدها، كذلك سقطات السياسيين، ممّا أدّى إلى قمعه من السلطات، لكنّه استمر حتى تغيّرت الأذواق وظهرت أنواع أخرى من المسارح أكثر شعبية لدى الجمهور.

قد يكون المسرح الياباني (نو) الذي ظهر في القرن الرابع عشر ميلادي، من أهم المسارح التي تعتمد على الأقنعة لإظهار المشاعر الباطنية، فالنظرية النفسية لدى اليابانيين تقول، بأنّ للإنسان ثلاثة أقنعة: الأول هو الذي يظهره للناس، أمّا الثاني فهو وجهه مع العائلة والأقرباء والأصدقاء، فيما الثالث فهو الخفي حيث الرغبات والدوافع الخفية التي يعيشها الإنسان بينه وبين نفسه. ولقد استلهم هذا المسرح هذه النظرية إلى جانب نشوئه على يد رهبان ديانة (الشنتو) حيث يعتمد الرقص والحركات المحدّدة للتعبير عن دخيلة الإنسان والآلهة والأشباح، وعادة ما تكون أقنعة الممثلين أصغر من وجههم بالإضافة إلى حيادية تعابيرها إلى حدّ ما، ممّا يفرض على الممثل أن يبذل جهودًا كبيرة حتى يعبّر عمّا في داخله.  

أصبح القناع في عصرنا من أدوات المسرح، وليس مجرد رمز له، فأمام تعقّد الحياة العصرية، أصبح لزامًا على الإنسان العادي أن يرتدي قناعًا وهميًا على وجهه، لربما لحمايته من الآخرين والمحافظة على خصوصيته، أو لأداء دور وظيفي في مؤسسة ما. ومن السهل ملاحظة أنّ أوجه أهل المدن الكبيرة حيادية التعبير، بينما أوجه أهل القرى والبلدات أكثر تعبيرًا وقد تنبّه المسرح لهذا الأمر، فإن غاب القناع المادي عن وجه الإنسان ظهر القناع النفسي بدلًا منه. وفي إحدى مسرحيات الأخوين رحباني (هالة والملك) يكون أحد المشاهد احتفالًا بعيد الوجه الثاني، حيث يعترف كلّ من شخصيات المسرحية بوجهه الثاني من الحمار إلى الفأر!

وليس بعيدًا عن المسرح وأقنعته، فقد استلهمت السينما ثيمة القناع، فنجد أكثر الأبطال في عالم ( (Marvel – DCالسينمائي يرتدون الأقنعة، فالقناع هو الإشارة التي يتحوّل بها الشخص العادي إلى بطل، حتى ولو كان عبر نظّارة، كما لدى سوبرمان، فما إن يخلع (كلارك) نظّارته حتى يتحوّل إلى سوبرمان وما إن يضعها على عينيه حتى يعود كلارك الشخص الإنطوائي الطيب. ويعتبر فيلم (Mask) بطولة الممثل جيم كيري أهم الأفلام التي أظهرت خصائص القناع في الثقافة البشرية. يعرض لنا الفيلم حياة الموظف (ستانلي إبكيس) الذي يكون موقع سخرية الجميع ويحدث له أن يجد قناعًا فيرتديه. لقد كان القناع يحتوي روح الإله (لوكي) في الأساطير النوردية وهو إله الخداع والمكر وهنا تنطلق شخصية ستانلي الغنية التي كانت مكبوتة، لتحارب الأشرار وتفوز بحبّ الجميلة. ما يتغياه الفيلم بأنّه من الضرورة أن نخلع القناع الذي يفرضه المجتمع علينا، ونرتدي قناعنا الحقيقي الذي يعبر عن شخصياتنا الحقّة.

القناع حرّية وقد يكون سجنًا:

يعدّ السجن خلف القضبان أول قناع حجب الإنسان عن حريته، لكن أن يجبر السجين على ارتداء قناع من الحديد على وجهه، فلم يسبق أحد ملك فرنسا لويس الرابع عشر على هذا الأمر! يذكر فولتير في موسوعته العلمية أنّ السجين المعروف باسم (أوستاش دوجيه) هو شقيق ملك فرنسا ولكي لا ينافسه على الحكم أمر بسجنه وفوق سجنه خلف أبواب عديدة ألبسه قناعًا من حديد كي لا يتعرّف عليه أحد، وأوكل حراسته لحارس خاص من حاشيته. هكذا مُحي وجه شقيق ملك فرنسا خلف قناع الحديد، مع أنّ الملك كان يلقّب بملك الشمس ومع ذلك حجب أخاه خلف عتمة القناع.

لاريب أنّ جاي فوكس (1570-1606) ذلك الثائر على الملك البريطاني جيمس الأول كان مغامرًا كبيرًا، عندما فكّر بأن ينسف مبنى اللوردات الإنكليز وبالتالي القضاء على هذا الملك. لم تنجح خطة جاي وأُلقي القبض عليه بوشاية من مجهول ومن وقتها والبريطانيون يحتفلون بفشل مؤامرة جاي فوكس، إلّا أنّ المؤلف (ألان مور) استلهم حياة ووجه جاي فوكس وصنع قصة مصورة عن ثائر ضد السلطات يرتدي قناعًا. هذه القصة استلهمتها هوليوود لتنتج فيلمًا بعنوان (V for Vendetta) تدور قصته على نفس منوال القصة المصورة ومن وقتها أصبح قناع هذا الثائر رمزًا للحركات التحرّرية في الغرب من قراصنة النت الذين يحاربون سطوة الشركات المتحكّمة بعالم الأعمال والبرامج الإلكترونية، إلى حركة (احتلوا وول ستريت/ شارع البورصات في نيويورك) وهو رمز للرأسمالية العالمية. ولا يبتعد المسلسل الإسباني الناجح جدًا (La Casa De Papel/ بيت من ورق) عن ثيمة القناع حيث يقود البروفسور (سيرجيو ماركينا)عصبة من اللصوص ليسرقوا أموال البنوك ويوزّعوها على الفقراء. قد يبدو السؤال عن ارتباط ثيمة القناع بلصوص الأموال أو الثوار ضد الرأسمالية ضروريًا بعد توتر هذه الثيمة في كثير من الأدبيات وحتى الوقائع الفعلية، ولربما ذلك يعود إلى نقد ماركس للرأسمالية التي تتقنع بقانون العرض والطلب، فيما القضية أنّها تستغل قوة العامل وتحوّلها إلى أرباح عبر فائض القيمة. لقد كان ماركس يعتقد أنّ الرأسمالية تخفي جشعها الذي لا ينتهي خلف قناع آليات السوق.

ليس من وجه إلّا القناع:

عندما انتشر مرض الطاعون الدبلي في القرن السادس عشر في أوروبا، لم يجد الأطباء من طريقة لمنع العدوى، إلّا بارتداء لباس يتألّف من قناع له منقار محشو بالأعشاب ذات الرائحة الطيبة مع معطف جلدي يغطي كامل الجسد. كان الاعتقاد في ذلك الزمن أنّ (الميازما/ الهواء العطن) هو حامل هذا المرض، فعبر القناع والمعطف اعتقد أطباء ذلك الزمن بقدرتهم على تجنب العدوى، لكنهم لم يدركوا وقتها، بأنّ القناع والمعطف منعا تسلّل البراغيث إلى أجسادهم، فهي التي كانت تحمل جرثومة الطاعون. في القرن التاسع عشر بعد تطوّر الطب واكتشاف الجراثيم ظهرت الأقنعة الطبية، وتأكّدت الحاجة لها بجائحة الإنفلونزا الإسبانية التي قضت على ملايين البشر في أوائل القرن العشرين. وفي عصرنا الحالي عندما انتشر مرض كورونا عاد الإنسان إلى ارتداء القناع الطبي، لكي يحمي جهازه التنفسي من العدوى.

إن استخدامات القناع الدينية والترفيهية والطبية والوقائية تؤكّد لنا، بأنّ القناع وجه آخر يستخدمه الإنسان عندما يصبح المحيط من حوله يحتاج وسائل أخرى لتجاوزه، ففي البندقية في عصر النهضة ظهرت فئة من التجار تراكمت الثروات لديهم، ممّا مكّنهم من أن يصبحوا من كبار القوم، ولأنّ العادات والتقاليد كانت ترفض العلاقات الاجتماعية بين النبلاء وعامة الشعب، بدأوا بارتداء الأقنعة، التجار الجُدد والنبلاء في لقاءاتهم كي لا يتم التعرّف عليهم.

مهما حاولنا نزع الأقنعة عن الوجوه، ووصمها بالحكم السلبي، بحثًا عن الوجه الحقيقي للإنسان، إلا أنّه سيظل الكائن الأكثر تقنعًا بين الكائنات الحيّة على الأرض، سواء بالكلمة، أو بالحركة، أو بإضمار عكس ما يبدي، أو بارتداء قناع، لأنّ الإنسان كائن بأقنعة عديدة؛ واحد يخفي فيه أنّه خلق من صلصال، وواحد يبدي فيه أصله السماوي، ومن ثم قناع آخر وآخر.  

يتقنّع اللاشعور بالشعور كما يذهب فرويد. وتتقنّع السياسة بالدبلوماسية. وتتقنّع السلعة بالدعاية لتغري المستهلك، ويتقنّع السارق بالجورب حتى لا تستبان ملامحه. يتقنع الصياد بهيئة طريدته حتى لا تجفل منه. ويتقنع المعنى بصورة اللفظ حتى يبقى له ما في قلب الشاعر. ويتقنع الشيطان بالنصيحة حتى يغوي آدم. وأخيرًا نقول: من ذا الذي لا يتقنّع بقناع ما؛ كأن يكون جاي فوكس، أو أحد شخصيات مسرح (نو) الياباني أو الإغريقي، لكنّه في النهاية سيرتدي قناع أنوبيس.

باسم سليمان

كاتب من سورية   

https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/civilisation/2025/4/4/%D8%A7%D9%D8%A3%D9%D9%D8%B9%D8%A9-%D9%D9-%D9%D9%8A-%D8%A3%D9%D8%AC%D9-%D8%A7%D9%D8%A5%D9%D8%B3%D8%A7%D9-%D8%A7%D9%D8%A3%D8%AE%D8%B1%D9خاص ضفة ثالثة

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 04, 2025 00:34

March 23, 2025

الرغبة شجرة الحياة

باسم سليمان23 مارس 2025

“الرغبة جوهر الإنسان” هذه المقولة تعود للفيلسوف باروخ سبينوزا -القرن السابع عشر-   وقد صرّح بها قبل أن يكتشف علم الأعصاب الحديث، بأنّ الدماغ البشري تحيط به قشرة دماغية جعلت من الإنسان سيد كائنات هذه الأرض عبر الذكاء، لكنّ الدماغ يتألّف من أجزاء أخرى غير القشرة تنبثق منها رغباته، ومن هنا كانت ضرورة تنمية هذه الرغبات وتنظيمها، لا أن تترك على سجيتها ولا أن تُقمع كلّية. هذه القشرة الفائقة القدرة تتأثّر بشكل جلي وعميق بجزء من الدماغ أقدم منها في تكوّنه، وهو مشترك بين الإنسان والحيوانات الأخرى، ويُسمى الدماغ (المخطّط) وهو مصمّم لمتابعة خمسة أهداف أساسية للبقاء على قيد الحياة: الطعام، التكاثر، واكتساب السلطة، وتجميع المعلومات عن البيئة المحيطة، والحصول على كلّ هذا بأقل جهد ممكن؛ وهذه الأهداف الخمسة تعرّف بأنّها: “المعزّزات الأساسية” وتعمل وفق مبدأ المكافآت، فكلما تحقّق هدف من أهداف هذه المعزّزات الأساسية يُطلق الدماغ البشري جزئية كيميائية تُدعى (الدوبامين) تسبّب المتعة والسعادة. وقد تنبّه الفيلسوف هنري برغسون في أوائل القرن العشرين لذلك، فقال: “المتعة ليست سوى حيلة ابتكرتها الطبيعة لكي تحصل من الكائنات الحيّة على رغبة قوية بالمحافظة على الحياة”. لم يتغيّر شيء في تركيبة الدماغ البشري منذ القديم إلى الآن، فمازال الدماغ المخطّط يطلب المزيد من تحقيق المعزّزات الأساسية، وقد أوضح عالم الأعصاب سيباستيان بوهلر هذه الطبيعة الجوهرية في صلب الدماغ البشري بأنّ: “دماغنا مهيأ ليطلب المزيد دائمًا، حتى عندما تُشبع حاجاته”.

إن هذه المعزّزات الأساسية يمكن أن نشملها بكلمة واحدة؛ هي الرغبة، والتي تنطوي تحتها الكثير من الحاجات الجسدية والاحتياجات العقلية والدوافع الغريزية كالجنس، وتنمو من تربتها الخصبة الكثير من الغايات العقلية كالفلسفة، فليس غريبًا أن يوصف العقل البشري، بأنّه “دماغ اسمه الرغبة!”.  يرى أرسطو بأنّ الرغبة هي القوة الدافعة الوحيدة للإنسان، فالعقل لا يتحرّك من دون رغبة، بينما يمكن للرغبة أن تتحرك من دون تفكير؛ وهكذا يرى أرسطو بأنّه يوجد مبدأ محرِّك واحد لدى الإنسان وهو “الكلّية الراغبة” هذه الكلّية الراغبة في صلب كينونة الإنسان تتعالق بقوة مع الفلسفة، فقد بدأ كتابه (الميتافيزيقا) بهذه الجملة: “لكلّ الناس الرغبة في المعرفة بطبيعتهم” وعليه بفضل هذه الرغبة ولدت الفلسفة؛ ومن هنا ولدت مقاربة الرغبة كقضية فلسفية عند الفيلسوف فريدريك لونوار في كتابه الجديد (فلسفة الرغبة الصادر عن دار الساقي، ترجمة إسكندر حبش لعام 2024) كاشفًا صميمية الرغبة في حياة الإنسان وفكره.

إنّ تنوع رغبات الكائن البشري وكثافتها، هو ما يجعله حقًّا على قيد الحياة. وفي الوقت نفسه إذا غابت الرغبة عن الكائن البشري دخل في الاكتئاب والسوداوية، حتى أنّ اختفاءها قد يؤدي إلى الموت. وإذا أطلقت على عواهنها تحوّلت إلى شغف مدمّر أو كراهية أو إدمان، فالرغبة قوة خام عملت الفلسفة والأديان والقوانين على تصنيعها كلّ وفق رؤاه.

الرغبة كافتقار:

لا تشبه الرغبة إلّا التراجيديا الإغريقية، ففي اللحظة التي ينتصر فيها البطل يكون الموت في انتظاره. هذه الفكرة عبّر عنها شيخ الساخرين الإنكليز جورج برنارد شو بقوله: “هناك مأساتان في الحياة: الأولى في عدم الحصول على ما نتوق إليه. والأخرى في الحصول عليه”. وأمام هذه المحصّلة الصفرية التي تشي بالنقصان الذي يسم الرغبة حاول الفلاسفة تجاوز هذا النقص الجذري في الرغبة بعدّة نظريات.                                                                                       يستشهد أفلاطون في محاورة (جورجياس) بأسطورة (الداناييدات- بنات الملك داناوس اللواتي حُكم عليهن أن يملأن برميلًا من دون قعر بالماء) ليصف الرغبة، فالرغبة لا تكتفي أبدًا، لذلك يعيش الإنسان في تعاسة، وليشرح أفلاطون فكرته، ساوى بين الحبّ والرغبة، وهما برأيه كلاهما نقص وافتقار إلى آخر، إلّا أنّنا بمجرد امتلاكنا للطرف الآخر تتضاءل رغبتنا فيه، ممّا يُولّد من جديد ذلك النقص الذي لا يشبع! ولكي يجد أفلاطون حلًّا لهذه المعضلة الكأداء، اقترح فكرة التصعيد؛ حيث ينطلق الإنسان من الحبّ الحسي صعودًا إلى حبّ الكمال الذي لن يعتوره نقص بعدها. هذا الحبّ الأفلاطوني استبعدت عنه غريزة الجنس المشوبة دومًا بالامتلاء والتفريغ، لكن للحقيقة لولا الحبّ الجسدي الحسّي لم يكن هناك من تخيّل لحبّ الجمال الكامل. على نفس المنوال كان المسرحي أريستوفانيس الذي أبدع أسطورة أنّ البشر كانوا كائنات مزدوجة، يتألّف كلّ كائن من ذكر وأنثى، وقد كانوا من القوة أنّهم هدّدوا عرش الأوليمب، ممّا دفع الإله زيوس إلى شطر هذه الكائنات إلى قسمين، حيث طفق كلّ قسم يبحث عن نصفه الآخر. لقد كان أريستوفانيس يرى أنّ الحل في تجاوز النقص الكامن في الرغبة البشرية، بأن يجد كل قسم جانبه المفقود ويعاود الالتحام معه. ونستطيع أن نفسّر قوة كائنات أريستوفانيس بأنّها كانت من دون رغبات مكتفية بذاتها، لكن بعد أن شطرها زيوس ضعُفت، لأنّ رغبتها أصبحت خارجة عن كينونتها.

إذن الرغبة نقص، وهي أيضًا محاكاة، فنحن لا نتعرّف على رغباتنا من خلال ذواتنا فقط، بل من خلال المجتمع المليء برغبات متنوّعة لكلّ فرد منه. لقد شرح هذه الفكرة المفكّر الفرنسي رينيه جيرارد في كتابه (الكذبة الرومنسية والحقيقة الروائية) فلقد عارض فيه الفكرة الرومانسية عن عفوية الرغبة وطبيعتها الفردية، حيث عدّها تقليدًا للآخرين، فدون كيشوت لم يكن ليواجه طواحين الهواء، لو لم يقرأ عن الفارس الخيالي (أماديس دو غول) في كتب الفروسية. لقد نزع جيرارد الرغبة من فرادتها وأغرقها في مجتمعية لا تنظر إلى الفرد ككيان مستقل قادر على التصرّف برغباته من دون محاكاة الآخرين.

يقول الفيلسوف جان بودريارد: “الجنسانية لا تختفي في التسامي والقمع والأخلاق، إنّها تختفي بالتأكيد في ما هو أكثر جنسية من الجنس: الإباحية”. لقد اعتبر سيغموند فرويد الجنس/ الليبيدو هو القوة الدافعة الرئيسية للإنسان وناقش أبعاد الكبت التي تمارس على هذه الرغبة وما تؤدي إليه من أمراض نفسية وجسدية، ووجد الحل بالتسامي بهذه الرغبة عبر توجيهها نحو مناطق إبداعية. كان فرويد يعتقد بأنّ تحوير موضوع الرغبة الجنسية قادر على لجمها، لكن هل حدث حقًّا ذلك؟ يطرح بودريارد زاوية أخرى من النقاش أمام عزوف شباب الغرب عن الجنس بالمعنى الحميمي حيث تحوّل الطرف الآخر للعلاقة إلى مجرد موضوع/ سلعة، ورأى أنّ السبب في ذلك هو الإباحية، فهي تتخم الرغبة بموضوعها حتى تتقيأه، ممّا يؤدّي إلى تدميره بنيتها الأساسية، كما عرفناها عند الإنسان الطبيعي وظهور الشذوذات ومنها العزوف عن رغبة الجنس بحدّ ذاتها.

هذه الاتجاهات الثلاثة التي قاربت الرغبة من أفلاطون إلى جيرارد إلى بودريارد بزواياها المختلفة، لم تستطع أن تحيط بالرغبة المتفلّتة من أي تنميط، لذلك كان هناك فلاسفة ومفكرين عبر التاريخ، قد رأوا بأنّ الاستثمار الأكمل للرغبة يكون في الاعتراف بها.

تنظيم الرغبة:

لم تكن الرغبة لدى أرسطو تلميذ أفلاطون نقصًا لدى الإنسان، بل اعتبرها محرّك وجوده وضمنًا نشاطه الفكري وحتى الروحي! فلدى أرسطو هناك الروح الراغبة التي عدّها قبسًا من السبب الإلهي، وبالتالي علينا أن نعيش وفق هذه الرغبة الروحية التي تعمل على تعديل أو كبح أو تأجيل رغباتنا التي تريد تحقيق معزّزاتنا الأساسية، لكنّه لم يشجب المتعة المتأتاة عن الرغبة، بل رأى فيها السعادة التي يسعى إليها الكائن البشري. قد يبدو أرسطو نسخة عن أفلاطون بأسلوب آخر، لكن أرسطو لم ينبذ رغباتنا غير الروحية، وإنّما عدّها مع العقلية كلًّا متكاملًا بقيادة الروح. ومن هذا المنطلق رأى أرسطو بأنّ الفضيلة: هي وسط بين إفراط وتفريط.

وفق هذا المنحى الجديد في رؤية الرغبة البشرية، كان أبيقور أحد رواد الاعتدال في الرغبة، ليس كما أشيع عنه، بأنّه فيلسوف المتعة. كان أبيقور يرى أنّ الاعتدال في الرغبات طريق السعادة، فهو لا يشطب الرغبة، ولا يلجمها، بل الاكتفاء بالطبيعي والضروري منها، حتى تتحقّق حياة المتعة. أمّا المذهب الرواقي الذي أسّسه الفيلسوف زينون، فهو تيار زهدي في الحياة، كان يرى بأنّ توجيه الإرادة إلى ما ترتبه الأقدار للكائن البشري هو الطريقة السليمة لعيش الحياة. وكأنّ رغبات الإنسان عليها أن تقمع وتخضع للأقدار، فإن كان فقيرًا، فعلى إرادته أن ترغب الفقر على سبيل المثال، حتى يتحقّق له عيش الحياة بسعادة. في الجانب الآخر للحكمة الفلسفية التي تريد تنظيم الرغبة كان لبوذا مذهب ليس بالسهولة بمكان، فهو يعترف بالرغبة بكل أبعادها، لكن يرفض التعلّق بمواضيع الرغبة، فلا يرفض الرغبة بالغنى لكن اكتناز المال والحزن على فقده هذا ما كان يرفضه، حتى في سعي الراهب البوذي للاستنارة، إذا كان متعلقًا بشدة بموضوع رغبته أي الاستنارة، فهو على الطريق الخاطئ إذ عليه أن يسعى إلى التنوير، لكن من دون التعلّق به، لأنّه سيحدث عندما يقطع كل تعالقاته مع موضوعات رغباته ويبقي على الرغبة صافية من مواضيعها.

لا تفترق كثيرًا الأديان عن ما سبق، فهي إن كانت تريد تنظيم الرغبة بموجب الوحي الإلهي وقوانينه، إلا أنّ هذه القوانين كانت تحت سيطرة العقل حتى يكون للإرادة سطوة على الرغبات المختلفة للإنسان.

الرغبة كإبداع:

هذا المدّ الكبير من التفكّر بالرغبة جُنيت ثمراته من قبل الفيلسوف سبينوزا التي نظّر لها بأنّها: “الشهية مع وعي الذات” فهذا الفيلسوف كان يرى بالرغبة القوة الحيوية للإنسان، فإذا فُقدت تسبّبت بالحزن، وإذا تحقّقت تمنح السعادة. ومن هذا المنطلق كان سبينوزا يحثّ على تنمية الرغبة كأنّها ربيع الإنسان، لكن مع الوعي بأبعادها كافة. جاء بعد سبينوزا نيتشه الذي قال في هكذا تكلّم زرادشت، بأنّ على الحياة أن تتجاوز نفسها؛ وما يقصده نيتشه، بأنّ على الرغبة أن تتحوّل إلى إبداع، كما في رؤيته للإنسان الأعلى، فالعقل من دون الرغبة عاجز عن تفعيل الإرادة، حيث قال ديكارت، بأنّ الإرادة من دون الغرائز لا تستطيع أن تفعل شيئًا.

إذن الرغبة شمس الإنسان، إن طمسها وقع في الظلمة، وإن ترك نفسه لأهوائها أصبح كالتائه في الهاجرة. بين هذين الحدّين مضى الفيلسوف فريدريك لونوار باستعارض الرغبة الإنسانية والتأمّل فيها، من قطف التفاحة في الجنة إلى عبودية الــ(Like) في السوشيال ميديا، معطيًا القارئ مساحة ليستنتج هو الآخر مفهومه عن الرغبة كونها من صميم وجوده. وأخيرًا نختم  بهذا القول للمفكّر أندريه جيد: “كل رغبة أغنَتني دومًا أكثر من الحيازة الزائفة لغرض رغبتي”.

باسم سليمان

كاتب من سورية

خاص ضفة ثالثة

https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/books/2025/3/23/%D8%A7%D9%D8%B1%D8%BA%D8%A8%D8%A9-%D8%B4%D8%AC%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%A9

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 23, 2025 08:41

March 14, 2025

الأرملة ضحية صامتة للعادات والتقاليد

باسم سليمان14 مارس 2025

في كتابها الجديد: (الأرامل التاريخ المسكوت عنه الصادر عن دار صفصافة لعام 2025) تقدّم الكاتبة والباحثة الهولندية (مينيكه شيبر) سبرًا معمّقًا يمتدّ من فجر التاريخ الإنساني حتى اللحظة الراهنة عن أوضاع فئة من المجتمع أغفلت بشكل متعمّد، بل ومتواطئ حتى من قبل الحركات النسوية، حيث كانت الكاتبة (مارجريت أوينز) في كتابها (عالم من الأرامل 1996) أول من سلّط الضوء على الوضع القانوني والاجتماعي الضعيف للأرامل وخاصة في المجتمعات الفقيرة في أفريقيا وآسيا. لقد بيّنت تلك الكاتبة بأنّه على الرغم من تزايد جماعات حقوق الإنسان والاهتمام المتزايد بحرية التعبير عبر العالم، إلا أنّ فئة الأرامل ظلّت غير مرئية، مهملة ومنسية، فأن تصبح الأنثى أرملة، فهذا يعني أن تعيش حياة من الإهمال والتمييز والتحرّش والوحدة والنبذ والفقر دون استثناء تقريبًا.                                                   إذا كانت اللغة وعاء الفكر الإنساني، فهي ليست مؤدّية حيادية عنه، بل تُفصح عن تحيّزاته الأيديولوجية. تشير كلمة (الترمّل) إلى الخواء، ففي اللغة السنسكريتية تفيد كلمة (فيدهوا/ الأرملة): المعدمة. وفي اللاتينية تعني (فيدواتا/ الترمّل): جعله معدمًا؛ وهذه الكلمة هي جذر الكلمات الدالة على الأنثى الأرملة في لغات أوروبية عديدة. أمّا كلمة الذكر (الأرمل) ومع أنّها من ذات الجذر اللغوي، فهي تعني أنّ ترمّله مؤقت، لأنّه سيتزوج بعدها، ومن المفارقة أنّ كلمة أرمل لا توجد في بعض اللغات مع أنّ كلمة أرملة موجودة. وهذا يفيد بأنّ الترمّل حالة تستغرق الأنثى، فيما هي مجرد سحابة صيف في عمر الرجل. ولربما كانت اللغة اليابانية أكثر صراحة في توضيح المعنى، فكلمة (موبيجين/ أرملة) تعني: “تلك التي لم تمت بعد” فلا يوجد صيغة لغوية كهذه تتعلّق بالذكر بالمعنى ذاته. لا تبتعد اللغة العربية عن هذا المنحى في معاني كلمة الترمّل: الإنسان الأرمل، هو الفقير الذي ليس له من يعوله ويطعمه، والترمّل كلمة مستوحاة من رمل الصحراء غير الخصبة. هذا المعنى السلبي للأرملة في شتى الثقافات الإنسانية لا يتوقّف عند معنى الكلمة الدالة على الأنثى التي تفقد زوجها، فهناك أساطير عديدة توضّح السبب لماذا رُبط الخواء بكلمة الترمّل، ففي أساطير ما بين النهرين نجد الإلهة (إنانا) تقرّر النزول إلى العالم السفلي/ عالم الموت لتضمّه إلى مملكتها السماوية، لكنّ أختها (إريشكيجال/ إلهة الموت) تتمكّن منها وتقتلها، ولكي تعود إلى الحياة كان عليها أن ترسل بديلًا عنها؛ إنسانًا فانيًا، فتختار إنانا زوجها الراعي (دوموزي) بديلًا عنها. هكذا أصبح على الراعي أن يقضي عدّة شهور في السنة في عالم الموت ويحيا عدّة أشهر أخرى قرب إنانا، منتجًا بموته المؤقت المناحة البكائية في أساطير ما بين النهرين ومن خلالها نفهم لماذا أوكلت الثقافة البشرية طقوس البكاء والنواح على الميت إلى الأنثى وفي الوقت نفسه حمّلتها السبب بموته. إذن الأنثى كانت السبب في موت زوجها بشكل مباشر وفي القصّ الشعبي اليهودي هناك تصريح واضح من آدم حينما حضره الموت؛ بأنّ حواء هي سبب الموت. بناء على هاتين الأسطورتين كان الاتهام حاضرًا بحقّ الأنثى، بأنّها السبب في وفاة زوجها، أسواء بسبب الخطيئة، أو بأعمال السحر لدى الشعوب الأفريقية، أو لأنّها ارتكبت معصية في حياتها السابقة كما في ثقافة الهندوس في الهند، فالأنثى هي السبب بموت زوجها وعليها أن تدفع الأثمان. وأمام هذه الاتهامات كان على الأرملة أن تدخل في الحداد على زوجها الميت، لزمن محدّد أو طوال العمر مرتدية اللون الأسود أو الأبيض، أو تلتحق بزوجها الميت عبر دفنها معه، أو انتحارها أو أن تمتنع عن الزواج وتعيش بتولية جنسية إلى آخر العمر ويصاحب ذلك إقصاء عن النشاط الحياتي إلى حدوده الدنيا.

لا حياة بعد موت الزوج:

تملك الكثير من الشعوب عادات تُجبر فيها الأرملة على اللحاق بزوجها، وذلك بأن تدفن معه، أو أن تُحرق حيّة مع جثة زوجها، أو تُشنق، أو تُخنق، أو يُقطع رأسها، أو يُطلق عليها الرصاص. كان الحاكم قديمًا يصحب معه زوجاته ومحظياته إلى العالم الآخر، ففي الباراغوي أشار الرحّالة (فرانسوا خافيير شارليفوا) بأنّه لم يكن صعبًا وسط شعب (جوارني) البارغواني أن يجد ضحايا يرافقون الملك في موته، أسواء كان الأمر من زوجاته أو رعيته، فقد كان يعتقد بأنّ ذلك سيمنح الملتحقين بالميت حياة سعيدة في الآخرة. وهذا الأمر متواجد في أفريقيا، ففي قبيلة (الأشانتي) يمضي الناس بطواعية إلى الموت مع زعيمهم. أمّا في أوروبا، فقد قدّم الرحالة العربي أحمد بن فضلان (879- 960) مشاهداته عن حرق وقتل الزوجات لأجل مرافقة أزواجهن إلى العالم الآخر. لقد كان الفايكينغ والشعوب الجرمانية يفعلون ذلك وقد حضر بن فضلان جنازة أحد الزعماء ونقل ما جرى، حيث جرت مراسم تشييع الميت وأحضرت زوجته وألبست ثياب العروس وأدخلت معه سفينته التي سُحبت إلى الشاطئ وأضرمت بها النار ليحترقا معًا. واستنادًا إلى هذه المروية رسم الفنان (هنريك سيميردزكي) لوحته (مراسم حرق جثة روسي 1884) وهي موجودة الآن في متحف سانت بطرسبرغ.  وعلى نفس المنوال ذكر الرحّالة العربي ابن بطوطة طقوس حرق الأرامل في الهند، وأورد ملاحظة بأنّه لم يكن إجباريًا. لقد فات ابن بطوطة العقيدة التي تقف خلف ذلك، فلقد كان الهندوس يعتقدون بأنّ الأنثى التي تندفع إلى محرقة زوجها ستصبح (سوتي) كزوجة الإله (شيفا) وأمام هذا المطلب لم يكن يبقى للأرملة من حلّ، فإن رفضت ذلك جلبت العار لنفسها ولأهلها ولمجتمعها وستعيش عيشة الموت أفضل منها، لذلك كانت تُقدم على الموت بطواعية باطنها الإجبار. وقد سجل الطبيب الإنكليزي (ريتشارد هارتلي كيندي 1895) إبّان احتلال إنكلترا للهند مراسم حرق إحدى الأرامل على نفس شاكلة ذكر ابن بطوطة.

تقول (مارتي شانتال نجوسا) رئيسة منظمة (أرامل في محنة) في أفريقيا، بأنّ موت الأرملة يبدأ مع موت زوجها. لقد كانت النساء اللواتي يتوفى أزواجهن يتّهمن بممارسة السحر وقد كانت أكثر التهم التي طالت النساء في محرقة الساحرات في أوروبا تنال من الأرامل، حيث توجّه لهن تهم القيام بأعمال سحرية أمتن بها أزواجهن، فيقتلن لهذا السبب. وهناك تمثال برونزي في هولندا يمثّل الأرملة (مختيلد تن هام 2004) التي أحرقت عام 1605 بسبب اتهامها بالسحر. أمّا في أفريقيا فبالكاد أن تنجو أرملة من اتهامها بالسحر، وعادة ما تقتل الأرامل لهذا السبب. أمّا أسباب قيام هذا التقليد، فهو الاستيلاء على أملاك الزوج الراحل من قبل إخوته، فلا يتركون شيئًا للأرملة حتى أطفالها.

أقواس العفة:

كان انتحار الأرامل في الصين بعد موت أزواجهن ينال حظوة كبيرة ويثمّن اجتماعيًا، لكن مع الوقت حلّت عادات أخرى، فالأرملة التي تمتنع عن الزواج وتحفظ عفتها من أية علاقة جنسية شرعية أو محرّمة، تنال التكريم من مجتمعها وعندما تموت يُبنى لها قوس يسمّى (قوس الشرف) يصبح مزارًا وشرفًا اجتماعيًا لعائلتها. هذا الوأد الجسدي للأنثى لم يكن في الصين فقط، بل في الهند أيضًا، فإذا كانت الأرملة التي تتقدّم بشجاعة إلى محرقة زوجها قادرة بانتحارها هذا على تبرئة زوجها في العالم الآخر من أخطائه الدنيوية، فإنّها بنذر العفّة تنال أيضًا نصبًا تذكاريًا، يتحوّل إلى محجّة لطلب المغفرة. هذا المنطق الذي يتوسّل ظاهر الأخلاق يخفي خلفه الطمع بميراثها من زوجها وعدم تشتت الملكية الموروثة إن تزوجت من رجل آخر. لا تختلف العادات الأفريقية عن ذلك كثيرًا، فإذا كان لباس (الساراي الأبيض) الذي ترتديه الأرملة طوال حياتها في الهند دليلًا على التزامها بعفّة جسدها، فالأرامل في أفريقيا عليهن أن يقمن بطقوس تطهير، لكي لا تعود روح الزوج وتزعج الأحياء، وهذه الطقوس ليس أقساها بأن تعتزل الأرملة المجتمع أو تشرب ماء غسيل جثة زوجها، بل عليها أن تقيم علاقات جنسية مع إخوة الزوج أو شخصًا يمتهن التطهير يسمى (الوارث) يتجلّى عمله بإقامة علاقات جنسية مع الأرملة من دون وقاية مع المخاطر المرضية المترتبة عن ذلك، كالإصابة بالإيدز، حتى تتطهّر من روح زوجها.

لم تكن الأديان السماوية مجحفة كثيرًا بحق الأرملة كما رأينا عند بعض الشعوب، ففي الديانة اليهودية يرث أخ الزوج أرملة أخيه ويكون الأطفال المنجبين من هذه العلاقة على اسم الأخ المتوفى كي لا ينقطع ذكره في بني إسرائيل. أمّا لدى المسيحية، لم يكن هناك ما يمنع الأرملة من متابعة حياتها، لكن تعليمات القدّيسين ورجال الدين كانت بأن تلتزم الأرملة نذر العفّة حتى مماتها. بينما أجاز الإسلام  للأرملة بعد انتهاء عدّة الوفاة أن تعود إلى نشاطها الحياتي الطبيعي.

الأرامل:

على الرغم من أنّ الذكر المتوفّاة زوجته، يسمى أرملًا، لكن كما يقول المثل: “حزن الرجل على زوجته المتوفّاة يمتد فقط إلى الباب”. لم يطالب المجتمع الذكر يومًا أن يخضع لتلك التقاليد والعادات والأعراف التي سُجنت بها الأرملة طوال حياتها، لذلك كان هذا الكتاب عن تاريخ الأرامل النساء المسكوت عنه. هو كتاب غني بالقصص والتحليلات والأمثلة؛ من الصغيرات اللواتي يصبحن أرامل قبل أن يبلغن بسبب زواجهن المبكّر، إلى فكرة أنّ روح الأنثى بعد وفاتها ليس لها تأثير، لذلك يهمل الذكر مراسم الحداد عليها، فيما روح الذكر له تأثير على عالم الأحياء، فأنيطت بالأنثى طقوس إبعاد هذه الروح، عن طريق الحداد وعفّة الجسد طوال الحياة، ممّا أدّى إلى سلب حياتها منها. لقد انقرضت الكثير من هذه العادات لكن بعضها مازال حاضرًا. فحياة الأرملة مازالت صعبة ومن الضرورة الإنسانية السعي إلى تغييرها، وكما قالت الكاتبة: “لا نستطيع أن نغيّر التاريخ، لكنّنا نستطيع أن ننظر إلى الماضي بمعرفة جديدة وإلى المستقبل بعيون جديدة”.

باسم سليمان

كاتب سوري

https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/books/2025/3/14/%D8%A7%D9%D8%A3%D8%B1%D9%D9%D8%A9-%D8%B6%D8%AD%D9%8A%D8%A9-%D8%B5%D8%A7%D9%D8%AA%D8%A9-%D9%D9%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D8%A7%D8%AA-%D9%D8%A7%D9%D8%AA%D9%D8%A7%D9%D9%8A%D8%AFخاص ضفة ثالثة  

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 14, 2025 08:30

March 4, 2025

اللون الأسود: جدل اللاأضداد

باسم سليمان3 مارس 2025

ليس الأسود لونًا، فعند التحليل الطيفي للضوء لا نجد له أثرًا، ومع ذلك يظهر الأسود كلون. إنّ التعامل البشري مع الأسود عبر حضارته، منذ إرهاصاتها الأولى إلى الآن، يعدّه لونًا، بل هو اللون الضد للون الأبيض، الذي يكتنز في ثناياه جميع ألوان الطيف التي يغيب عنها الأسود. إنّ الأسود هو غياب الضوء، وحكمًا يعني غياب أي طول موجي طيفي للضوء، إذن الأسود نفي للضوء/ اللون الأبيض. هذا النفي يعني أنّه لا ضوء، وبالتالي لا لون، لكنّ الأسود لون، فهل يعني أّنّه قادر على نفي الضوء والألوان؟ الأسود لا يفعل ذلك! فالأسود نفي سلبي للضوء والألوان، فهو إشارة لغياب نظيره/ ضده؛ اللون الأبيض، وكأنّه تأكيد سلبي لحضور الأبيض الغائب. من هذا الجدل البيزنطي الخلّاق ينطلق الفيلسوف ألان باديو في كتابه الجديد: (الأسود فلسفة اللالون، والصادر عن دار الساقي لعام 2024، ترجمة جلال بدلة) في مَوْشَرة (من موشور) الأسود ليس بحثًا عن ألوان الطيف المختبئة في داخله والتي لا يسفر عنها، كما يحدث عند تمرير اللون الأبيض في الموشور، وإنّما كشفًا عن أطيافه الثقافية والفلسفية والبيولوجية في حياة الإنسان، فالأسود بقدر ما يتنكّر كلون، إلّا أنّه في الوقت ذاته يؤكّد على لا لونيته ونفيها من الطيف الموجي للضوء، لكنّه يثبتها، في الوقت نفسه، في الطبيعة والفكر البشري ومفاهيمه.

لا ينتهج باديو الطريق المعتاد للفلسفة الغربية في مقاربة الأسود، بحثًا في مقدمات وجنيًا لمستخلصات ينمّط فيها الأسود سلبًا أو إيجابًا، وإنّما ينتهج طريقًا أقرب إلى إشراقات فلسفة الزن الصينية، من مثل : “ما صوت يد واحدة تصفق لوحدها”!                                   إنّ الاستفسارات والأسئلة وحتى الأجوبة التي يضعها، لا تتغيا نتيجة، بل نسجًا لبدء جديد، بقدر ما تعارض المنطق السائد للفكر، إلّا أنّها تجلوه وتمدّه بأمداء جديدة، ففي مقاربته لعلاقته بـ(قلم الرصاص الأسود) الذي يخطّ باللون الرمادي! يستذكر معلّمه في الرسم الذي كان يطلب من الطلاب إظهار أشكال وحجوم الأواني من خلال قلم الرصاص الموصوف بالأسود! والمفارقة التي يقصدها باديو تكمن بين صفة الأسود لقلم الرصاص ولون خطّه الرمادي، والأحرى أنّ صفة الأسود للقلم، لا تدرجات لها، ولا يمكن إظهار حجوم الأشكال المرسومة من خلالها، لكنّ خطّ قلم الرصاص رمادي وله تدرجات من الغامق إلى الشفاف، فالإمكانية موجودة في التطبيق لكنّها ممتنعة في الصفة! هذه الرؤية في المقاربة تفكّك البداهات والقناعات البشرية التي التصقت بالأسود كجلده، من وصف الحزن بالسّواد، أو أنّ الشر أسود، أو أنّ النفوس السيئة سوداء، أو تصنيف البشر برتبة دنيا تستوجب العبودية بموجب سواد بشرتهم، أو وسم الأخضر بالسلام، فيما تمتح جذور النباتات من عتمة التراب.

الأسود في مواجهة أريكة سيغموند فرويد:

ولدت مخاوفنا عندما تُركنا في سواد الليل عندما كنّا أطفالًا؛ ومن هذه الذكرى التي لا نتذكّرها بشكل شخصي، وإنّما ندركها بالملاحظة، عندما نكبر ونرى هلع الأطفال من الظلمة. ينطلق باديو بفصل عنونه بــ: (الطفولة والشباب) يقارب السّواد بموجبه، فعندما كان عسكريًا حيث كان مسؤولًا عن فرقة من العازفين، ففي ذلك الزمن كانت واجباته أن يطفئ موقد الفحم الأسود الحجري والأضواء قبل النوم، حتى لا يتسمّموا بالغاز السّام، فالأسود الفحمي المحترق لا يدرك أنّهم أعضاء فرقة النشيد الفرنسي في الاستعراضات. وحينما تطفئ الأنوار ويندسّون كخادرات الفراش في أسرّتهم، يغني أحدهم لـ(جوني هاليداي/Johnny Hallyday) أغنيته الشهيرة: “سواد، سواد في كل مكان! لا أمل بعد اليوم” هكذا كانوا يستقوون بأغنية السّواد على قوى الليل والبرد المهكلة، إذ لطالما حمل التغنّي باليأس الأسود عزاء ما!

ليس كالسواد ما هو قادر على طمس قوانين ومحرّمات النهار، ولأجل ذلك اخترع باديو عندما كان مراهقًا لعبة “أزوف منتصف الليل”. كانت اللعبة تقتضي أن يبتعد الآباء عن البيت، ليخلو للمراهقين الأصدقاء من الجنسين، أن يعتموا إحدى الغرف ويبدأوا اللعب في السواد المحرّم وعندما يشعلون الأضواء من جديد ويعود النهار الاصطناعي بالأضواء الكهربائية، يجب أن لا تبدو قوانين المحرّمات قد خُرقت! لن تستطيع أن تكتب وتقرأ في الظلمة، لكن في فصل: (المحبرة) قلب المداد الأسود، عندما يخطّ الحبر الأسود على بياض الورق، تتجسّد المعرفة بأبهى صورها، هكذا يخبرنا باديو، بأنّ التضاد طريق التآلف بين المختلفات، فمن لا يدرك بأنّ العالم هو حصيلة لمعايرة مبدعة ودقيقة لأسود منثور على البياض، ستفوته المعرفة، لأنّ تلويث نصاعة اللون الأبيض بالأسود؛ هو جوهر المعرفة.

ديالكتيكات الأسود والأبيض:

لماذا توصف النفوس السيئة بالسّواد والجيدة بالبياض؟ في مسرحية (فيدرا) للمسرحي (راسين/Racine) يتّهم أحد الشخصيات بطل المسرحية (هيبوليت) بأنّه متيّم بالفتاة (فيدرا) زورًا وبهتانًا، وهنا ينبري الشاب هيبوليت دفاعًا عن نفسه واصفًا كلام الشخص الآخر، بأنّه (فرية سوداء) وأن سريرته صافية كالنهار. هذا التعارض الأخلاقي بين الأسود والأبيض ينقل اللونين إلى مجال آخر، حيث يصبح السّواد مدار الشر أمّا البياض، فمدار النقاء والعفّة، ألهذا تزيّن العرائس بثوب أبيض، وكأنّ بياض ثوبها ينفي عنها تهمة عدم عذريتها، لكن هذا البياض دفاع ضعيف يتمثّل بالجهل، فالعروس عذراء بقدر جهلها للعلاقة الجنسية، كما في قصة ليلى والذئب، فهي لم تر الذئب الجنسي بعد. ما معنى ذلك وفق رؤية باديو؟ إنّه يرى بأنّ الأبيض، ليس إلّا شبح الجهل، ولا معرفة حقّة إلّا بالأسود. ألم تكن غواية الشيطان الموصوم بالسّواد، هي سبب أكل آدم وحواء من شجرة المعرفة، ألهذا نطلق عليه تسمية: أمير الظلمات، أو أمير المعارف!

الأبيض لون السلام، ولكنّه راية الاستسلام، وهو رمز النقاء وفي الوقت نفسه رمز التخلّف والرجعية، فعادة ما يقال في الأدبيات المناهضة لفكرة الثورة عن شخص معارض لها، بأنّه أبيض! فهذا يعني أنّه رجعي! هذه التضاد الرمزي في الأبيض نجد صنوه في الأسود! لقد كانت رايات القراصنة ومجموعة “الدولة الإسلامية” في أفريقيا تدل على الموت والقتل، وكذلك كانت قمصان شباب موسيليني السوداء والصليب المعقوف لهتلر بلون أسود. وهكذا لا يمكن أن تكون راية ثورة حقيقية سوداء، لربما حمراء من لون الدم، لكن أليس الأسود، كما يقول (غوته) في (فاوست) على لسان أمير الظلمات، بأنّه: “أنا الذي النفي ديدنه”  قادرًا على نفي نفسه؛ إذن الأسود يثور على ذاته ويصبح راية الثورة! لقد رفع الثوّار ضد الديكتاتور فرانكو في إسبانيا راية سوداء إلى جانب الراية الحمراء، كذلك كانت المنظمة الروسية الشعبوية (الأرض والحرية) التي ثارت ضد القيصرية قد رفعت راية سوداء. كان (ماو) الزعيم الصيني يعمل تحت فكرة “ديمومة الفعل بين الجماهير” وأمام انقسام الفرقاء السياسيين في الصين، ما بين الثوّار القليلي الصبر وتأنّي (ماو) السياسي أطلق على فصيله تسمية: “القسمة السوداء”. كيف من الممكن أن ينقسم الأسود على ذاته وقد رأينا في فصل (قلم الرصاص الأسود) استحالة التدرج في اللون الأسود كما الرمادي؟ يحضر الجواب من التنظير الشيوعي وفق المذهب الصيني، فإذا كانت الشيوعية ترى في الديالكتيك، بأنّه يعني “اندماج اثنين في واحد” كانت الشيوعية الصينية ترى العكس: “انقسام الواحد إلى اثنين” وعليه يمكن للأسود أن ينقسم على ذاته؛ بين أسود عدمي وأسود الثورة والأمل. يوصف الحزن بالسّواد، لكن هناك الفكاهة السوداء، فإذا كان الحِداد على الميت بلون السّواد المبلل بالدموع، فإنّ الفكاهة السوداء التي تنبت من قلب الحزن كزهرة ترسم ابتسامة.

المادة السوداء:

إنّ المادة المرئية في الكون لا تفسّر لوحدها وجوده وانتظامه ودوامه، لذلك اقترح العلماء وجود مادة خفية غير مرئية، نسبوا إليها تلك القوة في الكون. وكان من الممكن تسميتها المادة الخضراء مثلًا، إنّما الأسود يليق بها أكثر، بما أنّه نفي سلبي للضوء؛ أي للرؤية والحسّ، وكأنّ الأسود يأتي لتسمية ما ينقص داخل الإدراك كي لا ينقص شيء داخل الفكر. كانت الزنبقة السوداء كما تخيلها الكاتب الروائي (ألكسندر دوما) رمزًا للمحال أو الوردة الأفلاطونية لاستحالة وجودها؛ لكن ما علاقة السّواد بالطبيعة الخضراء رمز السلام والخصب، حيث يعدّ السّواد رمزًا للجفاف والعقم؟ كان فيكتورهوغو يقول بضرورة النظر إلى الشجرة من جذورها لا من أغصانها وأوراقها، ففي ظلمة التربة وسواد الجذور يتكوّن في الأعلى الأخضر الذي نراه، فليس غريبًا أن تسمي العرب اللون الأخضر بالأسود!

والآن بعد أن أخذنا باديو في رحلة في عالم اللون الأسود، من الأسود الشهواني على جسد المرأة، إلى الأسود المقدّس على جسد الراهب، إلى الثقوب السوداء في الكون، فما هو هدفه؟ قد تكون مشكلة العنصرية بسبب اللون من أخطر المشاكل التي مرّ بها الإنسان في تاريخه الحديث. وما يريده باديو من كتابه أن يثبت بأنّ الإنسان، هو الكائن الوحيد الذي لا لون له، لا أسود ولا أبيض، لا أحمر ولا أصفر، فيقول بعد معالجة مطولة وجدالية لقضية العنصرية بسبب اللون: “ففي النظام العالمي الجديد الذي تتطلّع إليه البشرية، ليس للأسود والأبيض أي حقٍّ في الوجود وجملة القول: الإنسانية، بوصفها كذلك، عديمة اللون”. إذن باديو يرى الإنسانية بلا لون، كي لا تستغل دلالات الألوان، فلا تُبنى عليها رموز سلبية أو إيجابية في تقسيم البشر بين أسياد وعبيد.

هذا هو الأسود في فكر الفيلسوف ألان باديو، لون فائق ككتلة ثقب أسود، ففي وسط كلّ مجرّة كمجرّة درب التبانة – خاصتنا- هناك ثقب أسود، لا يُرى، لا لون له، لكنّه يمنع تلك المجرة من الانهيار! ونختم باقتباس من تقديم الكتاب: “في الواقع، لم يكن الأسود مضيئًا من قبل كما في هذا الكتاب”.

باسم سليمان

كاتب من سورية خاص ضفة ثالثة https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/books/2025/3/3/%D8%A7%D9%D9%D9%D9-%D8%A7%D9%D8%A3%D8%B3%D9%D8%AF-%D8%AC%D8%AF%D9-%D8%A7%D9%D9%D8%A7%D8%A3%D8%B6%D8%AF%D8%A7%D8%AF                                                                                                     

               

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 04, 2025 07:42

باسم سليمان's Blog

باسم سليمان
باسم سليمان isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow باسم سليمان's blog with rss.