فنّ القصّة أنْ تجعلَ الحبّة قبّة والقبّة حبّة – مقالي في مجلة (أقلام العراقية الفصلية لعام 2024- عدد خاص بالقصة القصيرة في العراق)- باسم سليمان
عندما قرأتُ جملة محمود درويش: “هَزَمَتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعُها” وكان ذلك قبل الحرب السورية أملت شفتي ومططتُ السفلى علامة التبرّم، وهمستُ لنفسي المتهكّمة: (يا رجل -قاصدًا محمود درويش- أ ينقصنا جملٌ خلّبية في عالمنا العربي الذي يمتد من الملح إلى الملح!) لكن بعد لحظة تداركت سذاجتي، بعدما لاح لي طيف شهرزاد وهي تجعل من فنّ القصّ أسلوبًا للنجاة، يضارع الفانوس السحري الذي يستجيب للأمنيات، والسيف الذي يقطع رؤوس الحيّات، والشجاعة التي هي وقود المغامرات. ففي الكثير من الحكايا يتوقّف نجاة إحدى شخصياتها على قدرتها على قصّ حكاية مقنعة وجميلة، تقنع المستمِع، أ كان: (السلطة- القاتل – المارد- الوحش…) بأحقية بقائه على قيد الحياة.
إنّ حقّ الدفاع الذي ثبّتته الدساتير لكلّ شخص في العصور الحديثة، قد أثبتته شهرزاد قبل ذلك بكثير في لياليها. إنّ الفنّ والأدب يكمن جوهرهما في حقّ الدفاع عن الحياة. وقد يقال بأنّ الفنون والآداب تهدف إلى الجمال والمتعة واللذة والمعرفة… لكن ذلك لن يكون من دون الحياة في مقابل الموت وأشكاله العديدة من الحرب إلى الديكتاتور، فبالحياة نعيش وندرك الجمال والمعرفة والمتع واللذات. من هذا المنظور كان سمت النقد الذي تم اعتماده في مقاربة أربع مجموعات قصصية عراقية كُتبت ما بعد الألفية الثالثة، وذلك بإظهار توقها إلى الحياة وقدرتها على تفكيك آليات الموت المديدة في العراق. يعلق الفيلسوف لودفيغ فيتجنشتاين على موضوعة (التعاريف) التي هي ركيزة في العلوم والفلسفة والآداب والنقد؛ كونها تساعد على ضبط المفاهيم؛ بأنّ التعاريف مفاهيم مفتوحة مرتبطة بزمن معرفي معيّن، فإن تغيّر الزمن تغيّر التعريف؛ وعليه أتى العنوان الرئيس لهذه المقاربة، لأنّه عادة ما تعرّف القصة القصيرة، بأنّها نموذج للتكثيف وأخذ شريحة معينة من مجرى الحياة ومعالجتها. ويضاف إلى ذلك بأنّ القصة القصيرة تكره الإطناب وتميل إلى الإيجاز وذلك استنادًا لتقعيد إدغار آلان بو، بأنّ القصة يجب أن تُقرأ في جلسة واحدة. الغريب في هذه الصفات للقصة القصيرة، بأّنّها وضعت بعدما ظهرت الرواية وقياسًا عليها؛ مع أنّ القصة أسبق زمنيًا. ولربما أتتها هذه الصفات من المساحة المعطاة لها في الجرائد. مهما يكن، ليس هذا هو مقصدنا في تعريف القصة القصيرة، بل تبيانًا للعنوان الرئيس لهذه المقالة، فالقصة تكون أحيانًا، أن تنتشل الإبرة من كومة القش، وأحيانًا أخرى إعادة إلقائها في كومة القش، ففنّ القصّ يحتمل كل الصفات التي نسبت إليه والتي لم تنسب! والأهم أن يكون دفاعًا حقيقيًا عن الحياة كما قعّدته شهرزاد.
صانع الحلوى عندما تجلب العالمية إلى عتبة بيتك:
يقول الشاعر رسول حمزاتوف: “العالمية تبدأ من عتبة بيتي”. يا لِجمال هذه الجملة، إلّا أنّه في زمننا الحالي من الأفضل أن تُقال على هذا المنحى: (العالمية تبدأ عندما تحطّ رحالها على عتبة بيتي) فهل أخطأ حمزاتوف؟ إنّ السبب الذي دعانا إلى هذه المعارضة، يكمن في رومنسية جملة حمزاتوف التي ينقضها الحدث! والحدث في زمننا الحالي تصنعه ماكينات إعلامية سياسية ودينية واقتصادية وليست ماكينات جمالية أبدًا، فما ترفضه تلك الماكينات يقصى من الوجود وما تثبته يصبح هو الوجود. ولكي تصبح العالمية هي عتبة البيت، يجب أن تكون حدثًا يسلّط عليه الضوء، أكان مهمًا أو تافهًا، وهنا يكمن دور الفنّ بأن يجعل العالمية تبدأ من عتبة بيت رسول حمزاتوف، بأن يجعلها حدثًا جماليًا؛ وهذا ما قصده حمزاتوف. من هذا المنطلق ذهب ميلان كونديرا للتكلّم عن معرفية الرواية وأخلاقيتها التي تكمن بالذهاب إلى المسكوت عنه وغير المكتشف، أي أن تجعل الحدث المغفل عمدًا في بؤرة الاهتمام. ومقولة كونديرا تنطبق على جميع الفنون، ولربما يكون فنّ القصّة أكثر ملاءمة لأنّ جوهره يقوم على الحدث الذي يُقتنص من نهر هيراقليتس ليقال مرّة أخرى، ويتم تثبيته كشجرة على مجرى النهر. هذه المعادلة نلحظها في المجموعة القصصية (صانع الحلوى لعام 2017) لأزهر جرجيس، لأنّ نهر الأحداث في العراق سريع الجريان بحيث تمحو آثار حرب حربًا أخرى سريعًا، فمن الحرب العراقية الإيرانية إلى الاحتلال الأمريكي، إلى داعش، يتكرّر القتل والسجن والاختفاء والهجرة. وكما قال عزرائيل في قصة (بريد عزرائيل) من المجموعة: “أنتم أكثر شعوب الأرض تعاملتُ معهم بالجملة لا بالمفرد” يقصد العراقيين. هذا التكرار يقتل الحدث في القصص عندما يتكرر آلاف المرات، محوّلًا النهر إلى مستنقع، وهذا ما حاول جرجيس جاهدًا رفضه وإنقاذ الحدث من التعفّن، وجعله غير عادي، لأنّ العراقي والسوري واليمني والليبي على سبيل المثال إن كلّمته عن الموت تثاءب، يا للفاجعة! وإن حدّثته عن الحياة أصابته الدهشة والعجب. هذا الواقع العراقي المصمت الذي يقاربه جرجيس يصبح من الصعب جدًا اقتناص الحدث القصصي فيه، ففي قصص المجموعة على سبيل المثال: (الكوخ الهنغاري- وجه النحس – يوم أسود، وأشباهها من المجموعة) نكتشف هذا المصمت الذي لا يعني القارئ العراقي وأشباهه، بل يعني قارئًا يحتاج أن يرطّب سلامه ببعض أجواء الحرب، وأين شبيه هذا القارئ في تلك البلاد! ففي قصة (الكوخ الهنغاري) تحوّل عجوز المهاجرين إلى أقزام بعد نقعهم ببول الحمير، ليصبحوا أقزامًا للتسلية في سيرك العالم الغربي. وفي قصة (وجه النحس) يتم سرد ولادة طفل عراقي في أول يوم من الحرب العراقية الإيرانية وكيف كان نحسًا على كل من عرفهم. وفي (يوم أسود) يسرد جرجيس كيف تحوّل الحلّاق اللوطي الذي حاول اغتصاب الصبي الذي يشتغل معه في محل الحلاقة إلى داعشي يقطع رقاب الناس بتهمة الردّة، وقد كان من بين المحكوم عليهم بالموت الداعشي ذلك الطفل الذي هرب من الحلاق اللوطي؛ والقارئ يحقّ له التساؤل! وما نفع تكرار حبكة شهرزاد، بأنّه تم إيجاد الخاتم الذي ضاع في بطن السمكة!
قد يبدو ما تقدّم تجنّيًا على القاص أزهر جرجيس صاحب اللغة القصصية المميزة جدًا والسرد المتتابع كأحجار الدومينو والحبكات الذكية! إلّا أنّه كان السبب في منحى هذه المقاربة؟ بعدما قدّم في مجموعته (صانع الحلوى) قصتين رائعتين يجب احتذاءهما في فنّ القصّ في تلك البلاد التي أكلت الحرب ماضيها وحاضرها ومستقبلها. والأولى هي (صانع الحلوى) يقص جرجيس عن ذلك العراقي المدعو حنا العراقي، والذي كان يحلم أن يصبح سينمائيًا بعدما دارت في رأسه بكرة الشريط السينمائي وهو يرى أمّه تدفن رأس أبيه الذي وجداه مقطوعًا ومعصوبًا بخرقة مكتوب عليها: “كافر”. وتتساقط الأيام ويهاجر حنا إلى هولندا حاملًا معه جمجمة أبيه وكلّه أمل أن يصبح سينمائيًا، لكنّ الهولنديين السعداء يكرهون سيرة الحرب، فما العمل؟ فكر حنا بطريقة يجعل فيها الهولنديين حزانى، فما كان منه إلّا أن أتصل بأمّه هاتفيًا، وسأل عن الحلوى التي تقدّم في أيام العزاء: (سمن وسكر وهال ونشا) أجابته أمّه. بدأ بصناعة الحلوى في قدر كبيرة وضع فيها المكونات ومن ثم أسقط جمجمة أبيه في القدر، ليصيب الهولنديين بالحزن. ذاع صيته وانتشر وأصبح ماركة مسجلة في الحلويات. وفي إحدى المرات يأتيه اتصال ليحضر طلبية من تلك الحلوى إلى أحد البيوت. وبعد أحداث تكشف له إحدى النساء عن سرّ الإعجاب بحلواه، فالنساء الهولنديات اكتشفن بأنّ هذه الحلوى تسبب الحزن، لذلك كن يحتلن لإطعامها لأزواجهن وعشّاقهن الذين يهجرونهن، فيصابون بالحزن؛ ولا يداوي الرجل الحزين إلّا امرأة، فيعودون إلى نسائهم بعد هجرهم. هكذا أخبرته إحدى السيدات الهولنديات بعد أن أطعمته الحلوى وقادته إلى السرير بعد إصابته بالحزن. لكن صانع الحلوى لا يقع السحر عليه، هكذا أخبر حنا تلك السيدة التي فتنته، والتي رأى فيها بطلة السيناريو الجديد الذي سيقدّمه إلى لجنة السينما بعنوان: (صانع الحلوى) ليخرجه سينمائيًا. بهذه الطريقة أظهر جرجيس في هذه القصة المميزة جمالية مقولة: “السّم في الدسم” التي يعيشها المهاجر العراقي وهو يتذوّق الديمقراطيات الغربية. أمّا القصة الثانية، فهي (بشارة الغراب) والتي يسرد فيها جرجيس معاناة المهاجر في بلاد الغربة. يقصّ جرجيس عن عراقي كان أنفه كبيرًا، وذلك يشي بأنّه كان يدسّ أنفه فيما لا يعنيه في بلده، لذلك انتهى مهاجرًا. لقد رغب ذلك العراقي بأن يجري عملية تجميل لأنفه الكبير، لكن كان لديه فوبيا من العمليات الجراحية بسبب أنّه قد تعرض في صغره لعملية في القلب. وحدث وهو عائد إلى بيته في تلك البلاد الشمالية البعيدة التي تتفاءل بالغراب عكس بلاد شرق المتوسط، بأن صفق الغراب بجناحيه مخبرًا إياه عن بشارة قادمة، فتطيّر حنا منه. يتعرّض صديقنا العراقي إلى عملية اختطاف من حسناء ماجنة لينتهي في غرفة عمليات، فيظن أنه قد أصبح بنكًا للأعضاء البديلة وهذه العصابة ستأخذ أعضاءه، فيبدأ بتعداد مساوئ أعضائه من قلبه إلى عينيه وكليتيه، لكن فتيات العصابة أنكرن أن يكون ذلك مقصدهن بكل أدب حتى ظنّ أنّهن سيستأصلن عضوه الذكري، وشعر بالأسف أن يفقده في بلد يشح فيه الذكور! لكن عصابة الممرضات أخبرنه أنّهن لا يردن منه شيئًا غير إجراء عملية تجميل لأنفه، لأنّ جارته العجوز أخبرت السلطات بأنّ جارها المهاجر لديه أنف كبير يستهلك ما نسبته 65% من الهواء المتاح للتنفس، ويجب تصغيره من أجل أن يخف استهلاكه وذلك لصالح البيئة. لا تحتاج هذه القصة إلى شرح لأنّ ذلك سيفسد جمالياتها، بل إلى التأمّل والتأمّل فقط، فنزار قباني قد قال: “الصمت في حرم الجمال جمال” أي إدراك للجمال. هاتان القصتان تعبران عن أدب الحرب أكثر بألف مرّة من كل قصص المجموعة المملوءة بالسحل والقتل والدماء والتي تخاطب قارئًا، ليس عراقيًا ولا سوريًا ولا… وهاتان القصتان من تجعلان العالمية تبدأ من عتبة بيت العراقي.
الخزرجي في نزوحه إلى الممكن: لا للمتن، نعم للهامش:
لنا أن نفترض، بأنّ فنّ القصة يختصّ بمحورين؛ الأول: تركيزه على الحدث قصدًا، أي جعله في مركز منظور القصة، وهذا هو المعتمد غالبًا. والثاني: إغفاله للحدث عمدًا وتشتيته عن المنظور، وهو يعتبر استثناء لا تسلم عواقبه، لكنّه أكثر إبداعًا. وإذ ابتدأنا بهذا الفرض النقدي، فذلك لكي نلقي الضوء على أسلوبية القاص ميثم الخزرجي في مجموعته (النزوح نحو الممكن لعام 2020) والذي نحا باتجاه تشتيت مركزية الحدث القصصي. هذه المخاطرة في قصص الخزرجي كانت ضرورية، فالحروب المديدة التي عاشها العراق جعلت من الحرب، هي المتن الديكتاتوري الذي لا يسمح بأيّة هوامش أخرى أن تقال. ومن هنا جاء لجوء الخزرجي إلى الهامش المتبقي عن مركزية الحرب لربما ينسج صوتًا آخر للحياة.
في القصة الأولى (جمال مضمر) من المجموعة، والتي تتكلّم عن التحاق مدرس للغة العربية من بغداد بإحدى المدارس الريفية، نتذكر الواقعية الاشتراكية التي اكتسحت السرد العربي قبل الهزيمة الساحقة الماحقة للعرب من قبل الصهاينة عام 1967، فالمدرس مفعم بالأمل كذلك المدرسون الآخرون والطلاب أيضًا الذين يحلمون بأن يصبحوا أطباء ومهندسين ورسامين على الرغم من الواقع الصعب، فالمدرسة مبنية من حجر وطين والطرقات غير معبدة ووسائل النقل في تلك البلدة الريفية ما زالت عبارة عن عربات تجرها الأحصنة أو الحمير كانت تعرف بـ(الربلة) وهي من بقايا الاستعمار البريطاني. إذن نحن في زمن يعود إلى ما قبل سبعينيات القرن العشرين. تبدو قصة (جمال مضمر) شاذة وغير منطقية، لا أسلوبيًا ولا فنيًا، ونحن نغذ الخطا في القرن الواحد والعشرين وبعيدة عن ذاكرتنا التي لم تعد تستوعب إلّا الحرب في العراق؛ حالنا كحال (عناد الدفّان) في قصة (سادن المقبرة) في ذات المجموعة، فلكثرة الموت في العراق لم تعد ذاكرة عناد الدفّان الذي يعمل حفار قبور وحارسًا للمقبرة قادرة على تذكر الأحياء، فالموتى شغلوا مساحة ذاكرته كلّها.
هذا الشذوذ الأسلوبي الذي يمتح من الزمن الجميل! الذي قدمه الخزرجي في قصته (جمال مضمر) يضمر بأنّه كان يومًا هو الأصل أو هو الحلم المشتهى، كما الطفل الذي قدم لوحته لمعلم اللغة العربية ورأى فيها المعلم: “… أمعنت النظر إلى الرسم، تدرجت بأنظاري إليه وعن ماذا يتحدث، لتنجاب إلى مخيلتي بأنّه بادر إلى اللحاق بالأمل برسم مدينته الوادعة واستحضار معالمها من البنايات الفقيرة والشوارع المهملة ولكن بصورة ترتقي بالبشر”. فما الذي تغيّر حتى تصبح قصص الخزرجي فيما بعد عبارة عن كوابيس واقعية؟
تتابع القصص بعد قصة (جمال مضمر) لتسمح للقارئ باستيعاب تلك (السقطة) الفنية، وأنّها مجرد تشتيت مقصود لانتباه القارئ من قبل القاص، لتتضح له المقارنة بين ما كان يُؤمل من الحاضر وما انتهى إليه المستقبل. ففي قصة (غصّة كونية) تتبدّى مجزرة سبايكر، كأنّها غصّة في حلق العراق على الرغم من تاريخه وحاضره المليء بالموت والدماء. وكأنّه بعد كل هذا الموت مازال هناك موت أعظم. يسرد لنا الخزرجي في قصته، كيف نجا أحد الجنود بمساعدة أحد سكان تكريت؛ ملمحًا إلى أن (داعش) ليست تجليًا لصراع مذهبي، فقد عرضت داعش شريطًا مصورًا لإعدام مجموعة من أهالي تكريت كانوا قد ساعدوا الجنود العراقيين في قاعدة سبايكر بالهرب، كان من بينهم ذلك السائق الذي ساعد الجندي على الهرب ليعود إلى أهله في ميسان ذات الأكثرية الشيعية.
يبتعد الخرزجي عن المتون، ويتجه نحو الهوامش، حتى يكاد خيط السرد يغيب ويتقطّع ويؤذن بأنّ القاص قد أضاع بوصلته، لكن مع تشتت الواقع والمنطق في الحروب المديدة، لا ريب أنّ هذه هي الصورة الوحيدة الممكنة للتعبير والتي يمكن للسرد أن يتخذها، ففي قصة (حكاية قرية) وهي جوهرة المجموعة لما تحمله من مضمرات لا تتكشّف إلّا في اللحظة الأخيرة. كان محمد السلطان يدير مصنع أبيه جابر السلطان للبلاستيك بعد أن أقعده المرض، ولم يكن جابر إلّا ذلك الإقطاعي الذي أذاق أهل القرية المرار وصولًا لاغتصاب بناتهم وقتلهم وتهجيرهم. لم يكن جابر السلطان واثقًا بابنه محمد، ويجد في العامل سلمان المشغلجي عينه اليقظة على ما يحدث في المصنع. تعرض لنا القصة التوترات بين شخصياتها، فــ(فدعم) رجل محمد السلطان في المعمل يكره سلمان المشغلجي وعندما يعرف أنّه يلتقي بالعاملة رقية، يدبر مكيدة بأن يجعل محمد السلطان يستدعي رقية لكي ينال منها مأربه. وفي الوقت نفسه يخبر سلمان بأنّ المدير يريده. يحاول محمد السلطان الاعتداء على رقية تحت غطاء ضجيج الآلات في اللحظة التي يدخل فيها سلمان مكتبه، فيهجم عليه ويقتله، ولكن قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة يطلق النار عليه، فيموت كل من محمد وسلمان ليصرخ فدعم: “لقد أخذت بثأرك يا عم”. تتكشف خيوط حبكة القصة؛ لنكتشف أنّ سلمان هو ابن إحدى عاملات المصنع التي اعتدى عليها جابر السلطان من ثلاثين سنة، لكنّه لم يعترف به، مع أنّ عواطف الأبوة كانت واضحة في جعله عينه اليقظة في المصنع! لقد كان حاتم الصكر عمّ فدعم عارفًا بتلك الجريمة، ولأجل ذلك حرق جابر السلطان بيته وعائلته. لقد ثأر فدعم أخيرًا، لكن المتن الحقيقي للقصة والذي واراه الخزرجي، يكمن في قصة تلك العاملة التي اغتصبها جابر السلطان وأنجبت منه سلمان مضافًا إليها رقية التي خسرت حبيبها ومستقبلها، فلن يرضى عنها جابر السلطان بعدما تسبّبت بمقتل ابنه الشرعي وابنه غير الشرعي. قد يشعر القارئ بالرضا لتحقّق الثأر، لكن ماذا عن الضحايا من النساء في هذه القصة؟ فليس لهن اعتبار، فلم يصرخ فدعم بأنّه ثأر لتلك الصبية التي اغتصبها جابر السلطان، بل لأجل عمّه حاتم الصكر/ الذكر، وذلك لأنّ حكاية تلك الأنثى، ما هي إلّا قصة شعب العراق، فلا أحد يبدو أنّه يفكر بالثأر له!
ما أراده الخزرجي من أسلوب إغفال الحدث الجوهري في قصصه، أو التشويش عليه، أن يقول بأنّ، القصة الحقيقية خارج الإطار، ولكي تقرأها بطريقة صحيحة عليك التفكير خارج صندوق السرد. لكن لابد من القول أنّ بعض القصص في المجموعة فقدت بوصلتها، في مقابل قصص أخرى كانت مميّزة كقصة: (إعلان سر!) التي تبحث في السبب الذي يدفع أمًا لتلقي بفلذة أكبادها في النهر ليموتوا.
حدود الإبداع وشبهة التقليد:
يقول المتنبي في تعليقه على تشابه بعض أبيات الشعر بين الشعراء: “بأنّ الحافر يقع على الحافر” ويبقى الفيصل قدرة الشاعر على تجاوز التناص بينه وبين شاعر آخر، عبر أخذ الصورة المشتركة إلى أمداء أخرى أكثر إبداعًا. والتناص كما تشرح جوليا كريستيفا، بأنّه لا مناص من وقوع التناص، فالوقائع المتشابهة ستؤدّي إلى سرود متشابهة. وإذا وجّهنا الرؤية نحو فنّ القصّ الأكثر محايثة للظروف المتشابهة بين البشر، فوقوع التناص فيه أكثر من الرواية التي تبتلع التناص، فهي كالبحر تبتلع كل مياه الأنهار العذبة المختلفة المنابع، وتحوّلها إلى مياه مالحة. ليست هذه المقدمة اتهامًا للمجموعة القصصية: (بين السبابة والإبهام لعام 2023) للقاصة ميرفت الخزاعي، بوقوعها في تناصات عديدة مع قصص أخرى، ففي قصة بعنوان: (ترويض) حيث يسرد الطائر الجارح الصقر كيف تم أسره وترويضه على الرغم من مقاومته، ليصبح في النهاية الطائر الجارح تابعًا لسيده، يأتيه بالطرائد شاعرًا بالزهو والفخر. هذه القصة تحيلنا إلى (النمور في اليوم العاشر) للقاص زكريا تامر وتدفعنا بالقوة إلى المقارنة! وفي قصة: (تحوّل) عن أنثى بوجه مشعر تُستخدم للعرض في السيرك لغرابتها. تحيلنا هذه القصة إلى أحداث واقعية حدثت في القرن التاسع عشر عن سيدة مكسيكية مشعرة الوجه تدعى (جوليا باسترنا) استخدمها سيدها في عروض السيرك! وفي قصة: (العرافة) تومض في رأسنا قصة القرد والغيلم في كليلة ودمنة! لم أكن في وارد عرض التناصات في المجموعة القصصية مع بقية السرود القصصية المشهورة، لولا أنّ القاصة الخزاعي ذكرت في إحدى قصص المجموعة وهي بعنوان: (لصّ الأفكار) بأنّ بطلة القصة هيفاء تعاني من سرقة أفكارها، فما إن تومض فكرة حتى تجدها على صفحات التواصل الاجتماعي!
نعم! يحدث التناص كثيرًا في الفنّ القصصي، وعلى القاص أن يكون أكثر إبداعًا لينجو من هذا المأزق. وهذا ما سنجده في نماذج من قصص الخزاعي مهما تناص معها القاصون الآخرون سيبقى لها قصب السبق. ففي قصة: (اِنكسار) تكتشف الفتاة بأنّ مقولة أمها: (أخذ الشّرّ وراح) هي الحل للقضاء على الشّرّ في العالم. فهذه الجملة التي ترددها أمها كلما كسرت آنية زجاجية هي المفتاح لقمع الشّرّ. هكذا بدأت الفتاة بكسر أواني البيت الزجاجية، لتكسر الشّرّ. ولكي تتجنب غضب أمها أخذت تعوضها بأواني بلاستيكية (فايبركلاس). كانت الفتاة تشعر بفرح غامر وهي تكسر الأواني الزجاجية، فبذلك سيتضاءل الشّرّ في العالم، ولذلك بدأت بشراء الزجاج وكسره حتى نهضت تلة من قطع الزجاج، لكن الشّرّ لم ينقص في العالم، بل ازداد وانتشر. وهنا تتنبّه الفتاة إلى أنّ الإناء الذي يجب أن يكسر هو القلب، فلو لم تكن القلوب فاسدة لما ازدهر الشّر. ولأنّها لا تستطيع أن تقتل أحدًا لطيبتها، أخذت سكينًا وطعنت قلبها الذي تشظى إلى قطع بلورية تناثرت كأزهار حمر فوق جبل الزجاج. تحيلنا مقولة (أخذ الشّرّ وراح) التي نتلفظها في مجتمعاتنا العربية بكثرة إلى فنّ (كينتسوكوروي) الياباني الذي يعني إصلاح الأواني المكسورة بالذهب. لا ريب بأنّ المعالجة اليابانية أكثر حضارية وإنسانية من مقولتنا العربية (أخذ الشّرّ وراح) لكن فتاة قصة اِنكسار ذهبت إلى مكمن الشّرّ أي القلب، فإن صلحت القلوب سيتوقّف الشّرّ- لكن هيهات- عن كسر زجاج حياتنا ولا حاجة لإصلاحه بالذهب.
يقول محمود درويش: “عَلَى هَذِهِ الأرْضِ مَا يَسْتَحِقُّ الحَيَاةْ” تظهر مقولة درويش قدرة المقاومة الفلسطينية على ابتداع الحياة رغمًا عن أنف الاحتلال، فما الذي حدث حتى ينظر أهل قرية عراقية جاءها أبناؤها شهداء إلى أحد الناجين باحتقار؟ هذا ما تعالجه قصة (سرّ) ليس غريبًا أن يستقبل الشهداء بالزغاريد، لكن أن يُحتقر أحد أبناء القرية، لأنّه نجا من الموت ويتم تعييره بذلك فهذا الغريب؟ كان أهالي الشهداء من هول الصدمة يفسّرون الابتسامة على وجه أبنائهم الشهداء بأنّهم رأوا الجنة، فيقولون للناجي، لماذا لم تلحق بسربك الذي طار إلى السماوات العليا. وبرغم التعنيف من قبل أهل القرية للناجي الوحيد من أبنائهم، إلّا أنّه حافظ على السّرّ، فمن العار أن يفسد بهجتهم باستشهاد أبنائهم. أمّا سّر البسمة التي علت وجه الشهداء، فكانت بسبب غاز الضحك الذي قصفهم به العدو أثناء إبادتهم. تطرح الخزرجي في قصتها تساؤلًا مهمَا، هل نحن حقًا جديرون بأرض لا نراها إلّا ممرًا إلى جنة أو نار. لربما يكمن في هذا التساؤل سرّ فشل النهضة العربية!
وقبل أن نختم هذه الإضاءة على مجموعة ميرفت الخزاعي القصصية من الضرورة القول بأنّ سردها يمتلك الكثير من الرشاقة والخفّة وهذه الميزة من أهم مميزات القصة.
فلسفة التفكيك في : في ضياع في خمسة ميل:
هو عنوان ضخم، وقد يبدو ساخرًا للوهلة الأولى، لكنّه ولِد من إحدى قصص حسن السلمان في مجموعته: (ضياع في خمسة ميل) لقدرتها الكبيرة على الغوص في الغريزة الدينية لدى الإنسان وتفكيك بناها. والقصة المقصودة هي : (الرائية واللصّ) تدور بكرة القصة على لسان طفل صغير مشبع بالتصورات الغريبة عن اللصوص، بأنّهم كائنات مرعبة بهيئة الوحوش، لهم خلقة الماعز وآذان الخفافيش وعيون كالجمر وأنياب كبيرة، هكذا وصفتهم عمّته، ثم يتفاجئ الولد الصغير، بعدما قبض أبوه على أحد اللصوص، وهو يحاول سرقة بقرتهم في ليلة ماطرة عاصفة حوّلت القرية إلى قدر من الطين يغوص فيه كل من يفكّر ببنت خطوة، بأنّ اللصّ هو بشري مثلهم، لا يختلف عنهم بشيء. لقد حدث هذا المطر بعد جفاف كبير أهلك الضرع والحرث، فكان فرحة كبيرة لأهل القرية الذين رفعوا صلوات الشكر لله، حتى جاءهم هذا اللصّ لينّغص عليهم فرحتهم، لكن نعم الله كثيرة، مكّنت صاحب البيت من القبض عليه. يكلّف الولد الصغير مع ابن عمّه بحراسة اللصّ المقيّد في زريبة للغنم، إلى أن يتوقّف المطر حتى يذهبوا به إلى الشرطة، لكنهم منعوا من ذلك مع استمرار سقوط المطر، فعجلات العربة ستغوص في الطين ومن الضروري أن يكون الطريق جافًا. أخيرًا توقف المطر وأصبحت الطرقات الترابية صالحة للعبور، وما إن همّوا بذلك حتى عاود المطر السقوط. أمام هذا الواقع الغريب المتكرّر، استشعرت عمّة الولد وكانت كبيرة العائلة بأنّ المطر يرتبط باللص، فلماذا يعاود السقوط ما إن يهموا بالذهاب به إلى الشرطة، وتكتشف بأنّها لو أبقته سجينًا لديهم لظلت منطقتهم خصبة، بسبب تساقط الأمطار، إلى أن تنتهي القصة، بأن تتحوّل الزربية التي سجن فيها اللصّ إلى الأبد إلى مزار مقدّس، أمّا الطفل فقد كبر وأصبح عجوزًا يخدم زوار المزار.
يبدو ظاهر القصة نقدًا للمنظومة الدينية وهذا صحيح، فتلك المزارات التي ترجى وساطتها مع السماء، وورثتْ تقاليد تقديسها من الأجداد، قد يكون في ضريحها جثة لصّ! لكن في العمق تكشف عن نقد مرّ للمجتمع الذي يخوض في طين الجهل، فهل كانت العمّة على خطأ، حين أصرّت على إبقاء اللص مسجونًا، وهي في منطقة يعتورها الجفاف أكثر الأوقات، استجلابًا للمطر كلّما داهم قريتها الجفاف، لكن لو كان هناك سدود وشبكات للري تسمح بمواجهة الجفاف، فهل كانت ستتصرف العمّة كما سلف؟ وإذا أخذنا جانب الولد الذي قام بحراسة اللصّ واكتشف بأنّه بشري مثلهم، فليس له أذنان كالخفاش ولا أنياب، فلماذا، وهو من الجيل الجديد لم يكسر المقدّس الذي اصطنعته عمّته حتى أصبح سادنًا للصّ، والإجابة بأنّ العلم الذي كشف حركة الأنواء والدورات المناخية لم يدخل المنطقة ليميط اللثام عن تلك الخرافات. أمّا لماذا لم يهرب اللصّ أو يستنكف عن كراماته اللاشعورية، لأنّه هو الآخر وجد في سجنه حاجاته اليومية من طعام وشراب ومأوى، فلماذا الهروب والعودة إلى عالم لا تقوم قائمة للعدل فيه، فلو كان هناك عدل لعوقب الشيخ على فعلته حين طرد عائلة اللص خارج قريتهم. إذن غياب المعرفة والعوز الاقتصادي والعدالة، هو ما يجعل الدين ينحدر إلى الخرافات والأوهام، بعدما كان رحمة سماوية تبسطها السماء على الجميع.
تأتي قصة (محاولة فاشلة لمصافحة العالم) كصدى لرواية كافكا (التحوّل) التي يستيقظ فيها بطل الرواية غريغوري سامسا وقد أصبح صرصارًا، بينما تقوم قصة حسن السلمان على رغبة صرصار بأن يصبح بشريًا، لكنّه بعد إنجازه التحوّل يرتد هاربًا إلى (صرصاريته). عندما كتب كافكا روايته لم تكن القنبلة الذرية قد اخترعت! لكن رؤيوية كافكا للصرصار كحشرة قادرة أن تسكن المجارير، وتبقى على قيد الحياة منحته تحديد صفة التحوّل الذي سينتهي إلى غريغوري الذي يعاني من انحدار مجتمعه، فلا حلّ للتأقلم معه أو النجاة منه إلّا بالتحوّل إلى صرصار. وفي قصة حسن السلمان يرتد الصرصار الذي أصبح بشريًا إلى نفسه لأنّه ألفى بوجوده كصرصار قوة افتقدها بعدما صدمه الزيف الكبير الذي يعيش فيه الإنسان، فيما الطريقة الوحيدة للتأقلم أو النجاة من الزيف البشري تكمن بالعودة إلى هيئته الأولى. وخاصة إذا علمنا بأنّ الصراصير، هي الكائنات القادرة على النجاة من الجحيم النووي، مجازًا وواقعًا!
تدور قصص السلمان في مجموعته في نفس الأجواء، على الرغم من أجوائها الكابوسية، إلّا أنّه هناك رغبة بالحياة لا تهادن على الرغم من الصعاب، أكان في طوفان يعيد تشكيل الحياة كما في قصة (ضياع في خمسة ميل) أو بالتحوّل إلى شبح كما في (الأسطورة) وفي جميع القصص يفكّك المنظومة التي حوّلت البشر إلى موتى أحياء.
تنوّعت اشتغالات القاصين العراقيين، في مقاربة واقع العراق الحديث، فمن الحرب وتداعياتها، وسطوة المخابرات والمعتقلات والهجرة مع أزهر جرجيس، إلى معالجة الواقع الاجتماعي وتخلّفه مع ميثم الخزرجي، وشؤون اليومي وجزئياته مع ميرفت الخزاعي، وزمن الكوابيس مع حسن السلمان، فقد كانوا قادرين على إزاحة الركام عن نبتة الحياة ورعايتها كأمنية متحقّقة، وحلم مفسّر، وتطلّع نحو مستقبل آخر، ليس ابنًا للحاضر ولا حفيدًا للماضي، بل هو نشء جديد يريد أن يجبّ موروثات الحروب والقتل والدماء في العراق، فالعراقي هو جلجامش الذي رأى.
باسم سليمان
خاص مجلة أقلام


باسم سليمان's Blog
- باسم سليمان's profile
- 24 followers
