حقائق تكشف لأول مرة عن اللقاءات الأولى بين المسيحية والإسلام – باسم سليمان – مثالي في رصيف 22
تقدّم لنا المرويّات التاريخية العديد من الأخبار، التي ترصد الاتصالات الأولى بين المسلمين والمسيحيين، وخاصة من الجانب الإسلامي، حيث نجد لقاء الرسول محمد عندما كان طفلاً بالراهب بحيرة، عندما سافر مع عمّه إلى الشام. وبعد ذلك هجرة المسلمين إلى الحبشة، بسبب اضطهاد قريش لهم، واستقبالهم باحترام من قبل ملكها النجاشي، وفي واقعة المباهلة عندما أتى مسيحيو نجران لرؤية الرسول في المدينة. وعندما سأل هرقل معاوية بن أبي سفيان قبل إسلامه عن الرسول في الحوار المشهور في الأدبيات الدينية الإسلامية. كان أبو سفيان في تجارة إلى الشام وعلم بذلك هرقل، فاستدعاه وأخذ يسأله عن الرسول، فاستحى معاوية أن يكذب وأخبر بحقيقة محمد إلى أن تنتهي المحادثة بقول هرقل: “فإن كان ما تقول حقاً، فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه”. ومن الجانب المسيحي هناك كتابات يوحنا الدمشقي على سبيل المثال والتي تناولت بعض الاختلافات بين العقيدتين المسيحية والإسلامية. هذه المرويّات خُطّت باللغات العربية واللاتنية واليونانية، وأخذت الجانب الأكبر من اهتمام الباحثين. وفي المقابل أُغفلت الكتابات باللغة الآرامية السريانية التي كتب بها مسيحيو بلاد الشام والعراق لسببين: الأول لغوي، فالاهتمام قد انصب على الوثائق التي خطّت باللغة العربية واللاتنية، مضافاً إلى ذلك، تحوّل السريانية مع الوقت، إلى لغة شعائرية اقتصرت على الكنائس، ممّا أبعدها من أن تكون مصدراً للكتابة، فيما بعد في هذا الشأن. والثاني، عقائدي، لأنّ الدراسات الماقبل حداثية في العالم الغربي كانت تنظر إلى مسيحي الشرق الأوسط كمهرطقين، بسبب الخلاف الديني بين أتباع مفهوم الطبيعتين للمسيح والذي تبنته الكنسية الغربية بشكل رسمي منذ مؤتمر خلقيدونية 451 ميلادية، وأصحاب الطبيعة الواحدة الذي كان يعتنقه أكثر مسيحي الشرق، ممّا أدّى إلى تنحية وثائقهم من البحث التاريخي.
هذه الوثائق كانت قد نتجت عن اللقاء الأول بين مسيحي العراق وسورية والمسلمين. وقد كتبت باللغة الآرامية السريانية، وقد جمعها وناقشها الباحث مايكل فيليب بن في كتابه الجديد (حين التقى المسيحيون بالمسلمين أول مرّة، مرجع لأقدم الكتابات السريانية عن الإسلام) الصادر عن دار جليس في الكويت 2022 ترجمة عبد المقصود عبد الكريم. وقد قدّم وصفاً وعرضًا لهذه الوثائق، التي تتنوّع بين سجلات تواريخ، ومراسلات، وأدب رؤيوي، ومحاورات وشذرات أخرى متفرّقة، سلسلها تاريخيّا، بحيث تغطي الفترة، من ما بعد موت الرسول 632 إلى سقوط الدولة الأموية على يد العباسيين عام 750ميلادية.
تكمن أهمية هذه الوثائق من أنّ أكثر النصوص التي كتبت عن بدايات الإسلام من طرف يختلف عقائدياً معه، ولكنّه صدر عن أناس كانوا ضمن سلطة الدولة الإسلامية. وقد أتت هذه الوثائق من مسيحي سورية والعراق، حيث سجلوا انطباعات أولية عن اللقاء مع الفاتح الجديد، سمحت بظهور التصوّرات الأولى للمسلمين من قبل الآخر. تختلف هذه الوثائق عن المدونات البيزنطية واللاتنينة، فهذه الأخيرة نشأت في الخارج من قبل البيزنطيين. لذلك تأتي مدونات المسيحيين الشرقيين مختلفة إلى حدّ ما عن ما كتبه الطرفان المسلم والبيزنطي. فقد سمح تواجد المسيحيين الشرقيين ضمن الدولة الإسلامة لقيام الفرصة لعلاقات أكثر قرباً وتعايشاً مع المسلمين. فقد ناقشت تلك الوثائق حالات الأكل مع المسلمين، وتوريث المسلمين، والزواج منهم، وحتى القتال مع جيوشهم، وغير ذلك الكثير، لكن هذا لا يعني أن جوّاً من التسامح والصداقة وانعدام العدوانية كان هو السائد، بل مزيجاً من كل ما سبق.
يعرض مايكل فيليب بن هذه الوثائق بشكل متدرّج تاريخيّاً. ويهدف من ذلك إلى رصد الملاحظات والتغيّرات التي اعترت الكتّاب المسيحيين تجاه السلطة العربية الناشئة بقوة، والتي سيطرت خلال فترة قصيرة على أكبر إمبراطوريتين في ذلك الزمان، الفرس والرومان. حيث نجد في الوثيقة الأولى ذكر للرسول محمد، ومعركة اليرموك، وكيف هُزم الرومان، لكن من دون ذكر للدين الجديد، مع التركيز على دور الرسول في توحيد العرب. وقد وجدت هذه الوثيقة من خلال كتابة على الصفحة الأولى لأحد الأناجيل من قبل أحد المعاصرين للحدث. أمّا في رسائل البطريرك إيشوعياب الثالث إبّان الحكم الأموي، فتمنحنا نظرة عن الكيفية التي تم فيها التعامل مع الجباية لصالح سلطة جديدة. حيث نجد البطريرك يشير إلى مقولة المسيح بإعطاء مال قيصر للقيصر. ويلاحظ مايكل فيليب بن بأنّ البطريرك إيشوعياب الثالث، كأنّه كان غير معنيٍّ بالقادم الجديد مع عقائده الجديدة، فقد ركّز البطريرك في رسالته على شؤون إدارية وتنظيمية. بالإضافة إلى ما تقوم به الطوائف المسيحية المتواجدة ضمن الدولة الإسلامية من محاولة استخدام الحكم العربي في تنافسهم العقائدي. وعلى الرغم من ضخامة الحدث الذي شمل المنطقة كلّها، إلّا أنّ رسائل البطريرك إيشوعياب الثالث تأتي ضمن اهتمامه بتنظيم كنيسته في الأعم الأغلب.
يحلّل مؤلف كتاب: (حين التقى المسيحيون مع المسلمين أول مرة)بأنّ الغزوات الإسلامية لم تترك دماراً كبيراً، فقد شهدت النقوش على الكنائس في ذلك الزمن استمراراً لعمليات البناء وحتى إنشاء أبنية جديدة. تدفع هذه الملاحظة إلى الاستنتاج، بأنّ الخلاف الديني بين المسلمين والمسحيين لم يكن واضحاً بالقدر الكافي أو مهماً، حتى تتم مناقشته بشكل أوسع في رسائل البطريرك إيشوعياب.
اختلفت مواضيع هذه الوثائق حسب تتاليها زمنياً، بحيث نرى استجابة مختلفة مع كل حدث، فبعد تأكّد الحكم الأموي بانتصار معاوية على علي، واتساع الفتوحات الإسلامية نرى بأنّ سجل خوزستان يهتم بالغزوات الإسلامية ويقدم بيانات مهمة حول المعارك التي نشبت. ومن هذه الملاحظات الجديدة لتلك الوثائق نستشف بأنّ الاهتمام المسيحي بالسلطة الجديدة قد بدأ يتبدّل، حيث ظهرت أسفار رؤيوية ترى بأنّ انتصار المسلمين غضب من الله على فساد المسيحيين، وأنّها علامة على نهاية الزمن، كما جاء في سفر رؤيا إفرام الذي كُتب بطريقة شعرية: “… هناك ينطلق شعب من الصحراء/ أبناء هاجر، خادمة سارة… يجبرون على دخول الأرض باسم الكبش/ مبعوث ابن الدمار/ وتكون هناك علامة في السماء/ كما قال ربنا في أنجيله… ينتشر النهابون عبر الأرض/ يأخذون النساء والأطفال أسرى/ ينتزعون الرضيع من أمه/ ويدفعون الأم للسبي”. تضمن سفر إفرام الكثير من الأوصاف المخيفة للغزاة الجدد، لكنّهم كانوا ضمن أجندة الله ليوم الدينونة.
تتابع ظهور تلك الأسفار الرؤيوية مع توطّد حكم عبد الملك بن مروان بعد انتصاره على الزبير وبنائه قبّة الصخرة وتزينها بكتابات قرآنية تعارض العقيدة المسيحية، واعتماد اللغة العربية بدلاً من اللغات التي كانت سائدة قبلاً، وصكّ النقود ذات الشعارات الإسلامية. وتتنبأ هذه الأسفار بنهاية العالم، وأنّ فترة حكم المسلمين قصيرة، سيعود بعدها البيزنطيين للحكم، ومن ثم تظهر أقوام يأجوج ومأجوج، ومن ثم المسيح الدجال، وأخيراً يأتي المسيح. لكن في المقابل كتب يعقوب الرهاوي في سجله التاريخي، بصورة أكثر موضوعية عن العلاقات المسيحية والإسلامية وأظهر معرفة جيدة بالدين الجديد. وقد جاء هذا التغيّر في الكتابات على أثر استقرار الحكم للأمويين واستمراه زمنيّا، إضافة إلى التأكّد من أن أسفار الرؤى الأخروية لم تكن صحيحة كرؤيا يوحنا الصغير ورؤيا مثيوديوس، اللتين تنبأتا بالزوال السريع للمسلمين، لكن ذلك لم يحدث. أدّت هذه التطورات في الكتابات المسيحية الشرقية إلى ظهور أدب المحاورات، بين قائد عربي وأحد رجال الدين المسيحيين، كمناظرة يوحنا الصغير ومناظرة بيت حلي. وتقوم هذه المناظرات على أسلوب سؤال وجواب، كاشفة عن تعمّق المعرفة المسيحية بالدين الإسلامي بشكل أكبر. ففي مناقشة بيت حلي، تدور الأسئلة والأجوبة عن مدى انتشار الغزوات الإسلامية والختان، وتفسير التوراة والأنجيل، والتثليث عند المسيحيين، والرسول محمد والقرآن، وتختتم تلك المناقشة بإعلان القائد العربي المسلم، بأنّه لولا الخوف من العواقب لاعتنق الكثير من العرب المسيحية.
ما تم تقديمه، أعلاه، غيض من فيض تلك الوثائق، والتي يجب الرجوع إليها بشكل مباشر في الكتاب، ليس لأنّها كُتبت من داخل البلاد التي سيطر عليها الإسلام، بل لأنّها تفتح الباب على مصراعيه أمام علم التاريخ المقارن والدين أيضًا. فالقراءات السائدة لتلك الفترة كانت تتأرجح بين الوثائق والمرويّات الإسلامية في مقابل الوثائق والمرويّات المسيحية البيزنطية. ومع هذه الوثائق أصبح لدينا جسر تواصل بين قراءتين حكمتا الرؤية على التاريخ الإسلامي وعلاقة المسيحيين في المراحل الأولى بالمسلمين.
باسم سليمان
h

باسم سليمان's Blog
- باسم سليمان's profile
- 24 followers
