“العروس” في فرحها ومأتمها… تمثيلات وأقدار متشابكة – مقالي في رصيف22 – باسم سليمان

يُقال مصر هبة النيل. ويُقال بأنّ النيل لا يفيض ما لم تُقدم له عروس كأضحية. ويُقال بأنّ فيضان النيل متأتٍ عن دموع إيزيس التي سفحتها على جسد أوزيريس. ويُقال بأنّ سامية بنت المعلّم بشندي كانت قد خرجت في وقت سابق من بيت زوجها خالد عبد الباري في منطقة حدائق الأهرام مغضّبة قاصدة بيت أهلها في السيدة زينب، غايتها الطلاق. لا يختلف الخبر الأخير عن سامية بنت بشندي عن الأخبار الأسطورية التي ذكرت في مقدمة المقال من حيث الاقتضاب والترميز. تبدأ الرواية بتوصيف حركة سيارة سامية الدائرية حول تمثال طلعت حرب قبل أن تنحرف لتدخل شارع قصر النيل وتركن سيارتها أمام بناية العروس، حتى يفتح فعلها الحدث الروائي على أخبار وأخبار؛ فلقد مرّ إلى الآن عشر سنوات على زواجها من خالد عبد الباري. تعتبر بناية العروس معلماً خاصاً في مدينة القاهرة، فوصية الحاج مرزوق عشم الله إلى عمر عبد الظاهر أن يعطيها كامل اهتمامه، فهي جوهرة حياته. كانت العروس تتألّف من بناء بسبع طوابق، وضع حجر أساسه في الخمسينات من القرن العشرين، وإذا ماثلنا كل طابق بعقد من السنوات، سنصل في العدّ إلى عام 2022؛ إذن نحن أمام بناية تمثل تاريخ مصر الحديث، وما جرى فيه من أحداث.  

في روايته الجديدة المسماة : (العروس) الصادرة عن دار ديوان للنشر لعام 2023 يضعنا الروائي المصري حمدي الجزّار أمام أرضنة الأسطورة والتاريخ والحاضر، بل تشذيرهما في يوميات أناس تكاد من عفويتها أن تذهلك عن المقاصد. تشرع الرواية سردياتها من قرار سامية بالذهاب إلى المطعم الذي يعمل به زوجها خالد الذي يحتل الطابق الأول من بناية العروس، لتستخلصه من براثن الراقصة الجديدة سماهر، وفقاً لظنونها! ولأنّها إيزيس اللحظة الحاضرة تلتقي بالعم شاهين صديق أبيها ذلك الذي رأى معجزة النيل، حيث تتوقّف مياهه عن الجريان؛ ومن يشرب من مائه في تلك اللحظة يظل فيه عرق الصبا حتى الممات. فهل كان شاهين تمثيلًا للنيل؟ لكنّ شاهين لم ينجب، وانتهى به الحال بوابًا لبناية العروس، كما هو حال نهر النيل بعدما بنيت السدود على منابعه.

لم يكن اليوم الذي توجّهت فيه بنت المعلم بشندي الذي بنى قصر رئيس مجلس إدارة العروس؛ عمر عبد الظاهر، إلا يوم رأس السنة وكما هو معروف، فهذا اليوم يحمل دلالاته المثيولوجية، وأمّا في زمننا الحالي، ففي هذا اليوم تختم السنة المالية وتقام الاحتفالات، لكنّ الجزّار عبر توليفته حمّله كافة الدلالات، ليصبح جردة حساب لميزانية تاريخ مصر الحديث. تهبط سامية من سيارتها بفستانها الأسود، لتتخيّل خالد ببذلته البيضاء، ورويدًا تغمرها أضواء الاحتفالات بالسنة الجديدة ويختفي زمن الأبيض والأسود، وما يحمله من حنين وذكريات عن زمن البدايات في الخمسينات وما قبلها في القرن المنصرم، قبل أن تتكاثر الألوان وتفقد ثنائياتها ومعانيها.

هذه الحركة السردية التي افتتحتها سامية تدفع بتيار السرد للتدفّق ليطالعنا عمر عبد الظاهر من سكان حي السيدة زينب، الذي كان ذا منبت بائس، لم تجعله شهادتا الحقوق وإدارة الأعمال يطفو على السطح كزهرة لوتس، حتى جاءه الحاج مرزوق عشم الله، لينتشله من فقره ويسلمه رئاسة إدارة العروس، ناقلًا إياه من خط الفقر الأفقي إلى خط الغنى الرأسي. وتكرّ السنوات، ثم تهلّ هذه الليلة، ليلة رأس السنة، ليطلبه الحاج إلى قصره، ويسلّمه صندوقاً بما يحمله الصندوق من دلالات. احتوى الصندوق وثيقتي توزيع الأسهم على مجلس إدارة بنياية العروس، وتثبيته نهائياً على سدّة رئاستها. خان عمر الحاج مرزوق وزوّر وأعاد تقسيم الأسهم، لأن الحاج أعطاه صفرًا في عدّاد الأسهم، لكنّه منحه دفّة الإدارة. أمام هذه القسمة التي رأى فيها عمر هضماً لجهوده في العروس، فقام بالتلاعب وإنشاء وثيقة جديدة مهرها بختم الحاج وقلّد توقيعه، فكانت النسخة أصلاً جديداً يُبنى عليه. وحدث ذلك بموافقة المحامي باهر العقدة الذي صدّق بتوقيعه على الوثيقة التي أنشأها ابتداءً عمر عبد الظاهر، بدلًا ممّا أعطاه إياه الحاج مرزوق عشم الله. هكذا أخرج عمر بحركة كش ملك، عدوّه اللدود الحاج فتحي أبو درقة من كعكة الحاج مرزوق، ومنح نفسه حصة الواحد زائد خمسين سهمًا، ليكون له القول النهائي في المجلس الذي يتألّف بالإضافة إليه، من الحاج فتحي أبو درقة رجل الأعمال، وثروت رجل الإعلام، والموسيقية نانيس وريثة حصة والدها الموسيقار العظيم في إدارة العروس حيث تصدح ألحان أبيها مرافقة الراقصة سماهر وهي تتلوى كأفعى. هذه التوليفة لمجلس الإدارة بمكان ما، تمثل أهم الأطراف اللاعبة في تاريخ مصر!

كان الطابق السفلي للعروس تحت الأرض لا يدخله أحد إلا بإذن. وبينما تدور وقائع اجتماع مجلس الإدارة الذي سيتقرّر بموجبه مستقبل العروس بإبقائها كمطعم وعلامة فارقة في وسط القاهرة أو بتحويلها لكاباريه آخر، ممّا ينتشر في القاهرة، لا أصالة فيه ولا تاريخ، جرت الحياة في المطعم أعلاه صاخبة وذاهلة عمّا يحدث في الأسفل. تقاوم سامية إغواءات المذيعة هايدي التي تحاول إقناعها بأن تصاحب رجل الإعلام ثروت، متأملة أن يكافئها رجل الإعلام الغني ثروت، لو تمت هذه الصفقة بترويض سامية، وذلك بأن يمنحها برنامجها الخاص في محطته الإعلامية. فيما رضخ طلحة أبو درقة للتقسيمات الجديدة بعد أن ضبطه أسعد مدير الأمن في المطعم، وهو يتحرّش ببائعة الأزهار القاصر، فلم يدافع عن أبيه الذي تم تجريده من حصصه في العروس واستبعاده نهائياً. هذه التغييرات التي أقرّت في ليلة رأس السنة، لم تطل فقط مجلس إدارة العروس، بل امتدّت إلى مطبخها، حيث اسلتم حمّو الترسة الذواق الجديد لمطعم العروس بدلًا من العم برسوم رئيس الطباخين القديم على أيام الحاج، لتكون أول ولائمه للمجتمعين في الأسفل سلحفاة مطبوخة ليأكلوا لحمها ويشربوا دمها.

يعيش الحاج مرزوق عشم الله في قصره في جبل المقطم، بعيداً عن الناس وقريباً منهم، فهو الذي يموّل الصدقات الخارجة من مقام السيدة زينب، مهتمًا بمرضى الحي وفقرائه. وفي الوقت نفسه ينهمك في ملذّاته، لكنّه في المقابل يعيش برؤى المتصوّفة الزاهدين عن الدنيا. وعندما استدعى عمر كان قد قرّر الاستقالة من الدنيا والاستعداد للحاق بالحياة الآخرة. هل كان اختياره لعمر ليرثه في قيادة العروس اختباراً أم لتشابه ما بينهما؟ لم يكن للحاج مرزوق زوجة وأولاد، فقط خدم مخلصين جداً، ودوماً كان يترك مسافة بينه وبين زائره مهما كان قريباً. هذه الصيغة للحياة التي يعيشها الحاج مرزوق رغب عمر باستنساخها، فقد بنى على هضبة المقطم فيلته وظل أعزب، وفي باطنته رغبة استنساخ سيرة حياة الحاج مرزوق كاملة. وعندما انتهى الاجتماع خرج تاركاً أعضاء مجلس الإدارة في ذهول متأبطاً عصا تشبه عصا الحاج مرزوق.

هذا الخليط من البشر الذي يودّع السنة المنصرمة ويستقبل السنة الجديدة بالشرب والأكل والموسيقى في مطعم بناية العروس، غير منتبه لما جرى في الطابق التحت أرضي للعروس من إعادة توزيع الأسهم على ملّاك العروس وتنصيب عمر عبد الظاهر نفسه رئيسًا لمجلس إدارتها. ومن ثم طي حقبة الحاج مرزوق عشم الله وإخراج فتحي أبو درقة خال الوفاض، ممّا يعني أن عهداً جديداً قد بدأ ليس كسابقه، فالصندوق الذي يشبه الصندوق الذي وضعت فيه إيزيس أعضاء زوجها بعدما قتله إله الشر سيت، أو أنّه يماثل تابوت العهد لدى بني إسرائيل، أصبح كصندوق باندورا، ستخرج منه الشرور كلّها.

لقد تم الاستغناء عن الطباخ القبطي برسوم الذوّاق، الذي جعل من مأكولات العروسة، كأنّها من الجنة بالطباخ حمّو الترسة، الذي لا يتورّع عن ذبح رمز الحكمة وتقديمها طعاماً للمجتمعين في الطابق السفلي للعروس. كان للعم برسوم ابن، ربّاه بدموع العين، لكنّ الشاب ترك أباه وذهب إلى الصحراء للترهبن، بعدما اتهم أباه بأنّه يعمل في مطبخ الشيطان. هكذا فقد العم برسوم مستقبله في العروس وابنه أيضاً، فانطوى على نفسه يجتر ذكريات الماضي الجميل.

لم يكن النحّات إبراهيم مطر صديق خالد وحبيب الموسيقية نانيس، الذي كان من الشخصيات التي تشارك في احتفال رأس السنة في مطعم العروس، إلا مطروداً من رضى أبيه، الذي رأى في اشتغال ولده في الفن إعادة لزمن الأصنام. هذه التناقضات كانت ترقص عليها الراقصة الشابة سماهر الآتية من عزبة سوبك؛ إحدى العشوائيات التي تتكاثر حول القاهرة.

تتشابك أقدار الساهرين في العروس، فيما عمر عبد الظاهر يتوجّه إلى قصره في المقطم مطمئناً لما آل إليه حاله في السهرة الأخيرة للسنة المنصرمة، ولكي يختم الساعات الأخيرة قبل بزوغ الشمس من الشرق، طلب أن تُحضر إليه الراقصة سماهر التي اكتشفها كل من خالد وإبراهيم مطر، لكن خالد يهرّب سماهر من وجه عمر عبد الطاهر ويغادر هو ومطر المطعم، بعدما أوكل للعم شاهين متابعة وصول زوجته سامية إلى بيت الزوجية. أعجب خالد في مشغل النحات إبراهيم مطر بنحت لطائر، لربما كان نسراً، أو عقاباً، أو شاهيناً، أو الإله حورس الذي يمثّل عادة بصقر. وعندما أخبر صديقه برغبته في اقتنائه يطالبه أن يدفع ثمنه بكل البطاقات المالية التي يحملها! وكأنّه يقول له من يريد أن يشبه الإله حورس لا يجب أن يكون مالكًا لأن المال يفسد النفوس.

قد تكون سامية بنت بشندي، هي إيزيس بمفهوم وهموم هذا العصر! ولهذا يعهد خالد/ أوزيريس أمر حمايتها في طريق عودتها إلى البيت إلى العم شاهين الذي يتماثل مع النيل في ضعفه الحالي وعقمه. فيما يشبه عمر عبد الظاهر في خيانته للأمانة بآدم، أمّا الحاج مرزوق عشم الله فهو أشبه بالإله. لكلّ شخصية في الرواية إسقاطاتها الأسطورية، والدينية، والتاريخية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، واليومية. فالنحات إبراهيم مطر، هو المصري باني الأهرامات، والراقصة سماهر، هي تلك العروس التي سيتم التضحية بها، ليعود النيل للتدفّق والفيضان، أمّا الفلاحون أبناء النيل، فهم من ينقذون خالد/ أوزيريس. مهما تقنّعت الشخصيات التي أوردها الجزّار في روايته، كي لا نستشف تمثلاتها الأسطورية والواقعية، إلّا أنّ رمزيتها تحضر بقوة، لأنّها متغلغلة في الوجدان المصري. هكذا ينتصب تمثال طلعت حرب وبيده الرسالة أو المخطوطة، التي يجب قراءتها جيداً لاستبصار إلى أين مصر ذاهبة.

يموت الحاج مرزوق أخيراً، وعندما يعرف المدير عمر عبد الظاهر بذلك، يذهب إلى قصره، وهناك يتفاجأ بأنّ القصر عبارة عن خرابة، وكأنّ ما كان يراه في كل قدوم إليه، ليس إلّا خيالات! وفي رؤية أقرب للحلم يخبره فيها الحاج معنى الوثيقتين، بأن من يحكم لا يجب أن يملك. يحاول عمر حضور الجنازة لكن يُمنع. هكذا تبدأ العروس سنتها الجديدة برئيس مجلس إدارة خان الأمانة، بينما يقف تمثال طلعت شاهداً على ذلك.                                                                                                      يشبه الروائي حمدي الجزّار في سرديته هذه العم برسوم، وليس الطباخ حمّو الترسة ذابح السلحفاة رمز الحكمة. فهو يقدّم مصر على طاولة الرواية عبر أطباق من حيوات أشخاص متنوعين يدمج فيها ماضي وحاضر مصر ورائحة المستقبل، تاركاً للقارئ متعة تلمظ الرموز والإشارات واستنشاق الروائح والدلالات المتبخّرة من تلك الأطباق.

في نهاية الرواية يأخذ النحات إبراهيم مطر صديقه خالد إلى الجيزة لتصوير الأهرامات بعد تساقط المطر. وهناك يتركه من دون النقود، ليعود إلى القاهرة حاملاً النحت الذي أعجبه. وفي عزبة سوبك يطعن، لكن يتم إنقاذه من الفلاحين، لتنتهي الرواية بخروج الأطباء معلنين نجاته أمام كل من زوجته سامية وصديقه إبراهيم مطر. تقول الأسطورة بأنّ ما بقي في صندوق باندورا بعدما خرجت منه الشرور كلّها إلى العالم، هو الأمل فقط!

باسم سليمان

https://raseef22.net/article/1094080-%D8%A7%D9%D8%B9%D8%B1%D9%D8%B3-%D9%D9%8A-%D9%D8%B1%D8%AD%D9%D8%A7-%D9%D9%D8%A3%D8%AA%D9%D9%D8%A7-%D8%AA%D9%D8%AB%D9%8A%D9%D8%A7%D8%AA-%D9%D8%A3%D9%D8%AF%D8%A7%D8%B1-%D9%D8%AA%D8%B4%D8%A7%D8%A8%D9%D8%A9

خاص رصيف22

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 19, 2023 07:22
No comments have been added yet.


باسم سليمان's Blog

باسم سليمان
باسم سليمان isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow باسم سليمان's blog with rss.