أوبنهايمر في مرآة زوزيما: في ضرورة تقيّد العلم بالأخلاق – مقالي في ضفة ثالثة
يقول فرانسوا نودلمان في كتابه؛ عبقرية الكذب، بأنّ الحكم الأخلاقي يعطّل مقدرتنا النقدية الموضوعية في مقاربة موضوع ما. لا زالت الوصمة الأخلاقية تطارد مخترع البارود ألفرد نوبل، على الرغم من كل الجوائز التي مُنحت باسمه، للمبدعين ورجال السّلام في عصرنا الحديث، فكيف الحال مع والد القنبلة الذرية جي روبروت أوبنهايمر، الذي قال عن نفسه، مستلهمًا من أحد الكتب الهندوسية حوارية، دارت بين الإله فيشنو الذي حاول أن يقنع الملك الشاب كريشنا، بعدالة الحرب التي دعاه إليها، ضد أبناء عمومته، فأجابه الشاب: “الآن أصبحت الموت، مدمّر العوالم”؟ فهل أراد كريستوفر نولان من فيلمه: (أوبنهايمر) أن يكون أشبه بمرآة زوزيما التي صنعها الإسكندر ومن خلالها كان يعرف خفايا زواره عندما ينظرون إليها؟ واستخدمتها المذاهب الغنوصية للتطهير، فما إن يرى الشخص انعكاسه في المرآة حتى يرى عيوبه، فيعمل على التخلّص منها. ليست الإجابة معقّدة فقط، بل تناقض ذاتها بذاتها!
استند نولان في سرديته السينمائية إلى كتاب: (بروميثيوس الأمريكي: انتصار ومأساة جي روبرت أوبنهايمر) للكاتبين مارتن شيروين وكاي بيرد، اللذين اشتغلا على سيرة تأريخية ذاتية لِعالم فيزياء الكوانتا الألماني الأصل الأمريكي الجنسية جي روبرت أوبنهايمر، وكيف قاد فريقًا كبيرًا من العلماء، فيما عرف بمشروع مانهاتن السّرّي في منطقة لوس ألاموس الصحراوية لتصنيع القنبلة الذرية، التي ستنهي الحرب العالمية الثانية بالضربة القاضية. لكنّ هذا الاستناد أعاد تصنيعه نولان عبر سرده المتشظّي واللاخطي وتبادل أزمنة السرد بين المستقبل والماضي والحاضر؛ مستعرضًا المعضلة الأخلاقية وتعالقها بالعلمي والسياسي، والتي بموجبها أصبح أوبنهايمر بطلًا قوميًا ومن ثم خائنًا، إبّان المرحلة المكارثية التي طاردت كل الميول الماركسية والشيوعية لدى الأمريكيين.
دارت أحداث الفيلم، ما بين المحكمة، ومنطقة تصنيع القنبلة، ونشأة أوبنهايمر، الذي لعب دوره (كيليان مورفي) باقتدار كبير جدَا. لقد كان أوبنهايمر شابًا مفتونًا بالنجوم والثقوب السوداء، وعلم الفيزياء ما بعد النيوتونية الذي ابتدره أينشتاين بنظرية النسبية. لقد كان سعي أوبنهايمر لاكتساب المعرفة لا يوقفه شيء، فلقد عمد إلى تسميم تفاحة قد يأكلها أستاذه في الجامعة، لأنّه منعه من التواجد في محاضرة لعالم الفيزياء الشهير نيلز بور. ولكي نفهم شخصية أوبنهايمر أكثر، نذكر هذا المثال من حياته، فلقد تعلّم الهولندية خلال أسابيع فقط، لكي يلقي محاضرة بها. هذا الأوبنهايمر لم يجد الجنرال ليزلي غروفر( مات ديمون) صعوبة في إقناعه، عندما عرض عليه أن يترأس مشروع مانهاتن. وسريعًا لبس أوبنهايمر البدلة العسكرية مفتخرًا، لكنّ أحد أصدقائه العلماء أنّبه لذلك، فهو عالم وليس عسكريًّا.
في مشهد يجمع أوبنهايمر مع أينشتاين، يسأله عن الاحتمالات التي من الممكن أن تحدث بعد تفجير القنبلة الذرية، فهل سيؤدي ذلك إلى تفاعل متسلسل يسبّب احتراق الغلاف الجوي. أجابه أينشتاين بأنّ الجواب: “تقريبًا صفر!” ومع ذلك أقدم أوبنهايمر على تصنيع القنبلة الذرية. وعندما انهزمت ألمانيا بانتحار هتلر، وبدأت الأصوات المعارضة تقول، بأنّ العلة لاختراع القنبلة قد انتهت، فلماذا نُكمل صناعة هكذا سلاح مدمّر. كان جواب أوبنهايمر بأنّ اليابان وجنودها الأشبه بالروبوتات خطر داهم ويجب إيقافه. لقد كان أوبنهايمر يتوق للعلم بقدر ما يشتهي السلطة، ويرغب أن يكون دنجوانًا وخطيبًا في الوقت نفسه. وكأنّه ثقب أسود لا ينجو منه حتى الضوء، لكن عندما غمره ضوء القنبلة الذرية التجريبية المسماة: (ترينيتي) في صحراء نيومكسيكو بدأ بالنظر إلى نفسه في مرآة زوزيما.
الفارماكوس؛ السّم والترياق:
ليس أوبنهايمر بروميثيوس الذي جلب النار للبشر وعاقبه زيوس على فعلته، بأن قيّده وسلط عليه نسرًا ينهش كبده فقط، بل هو أشبه بأوديب في مسرحية سوفوكليس الذي أنقذ طيبة من الهولة بعد أن أجابها على سؤالها: “من يمشي في الصباح على أربعة قوائم، وفي الظهر على اثنتين وفي المساء على ثلاثة” بالقول، بأن هذا الكائن هو: “الإنسان”. كافأت مدينة طيبة أوديب، وأصبح ملكًا، وتزوّج الملكة التي كانت أمّه، ولم يكن يعرف بأنّها كذلك، وأنجب أختيه/ ابنتيه من أمّه، إلى أن كشف له الكاهن تريزياس الحقيقة، ففقأ عينيه وخرج من طيبة بعدما دمّر أخلاقياتها. هذه النقطة تشبه استيقاظ أوبنهايمر على السؤال الأخلاقي في العلم، وكيف انتهك كل المعايير، فاليابان كانت ذاهبة إلى الاستسلام. لقد تغيّر أوبنهايمر وحاول إقناع الرئيس الأمريكي ترومان بالكفّ عن إنتاج القنبلة الهيدروجينية، والتي تعتبر القنبلة الذرية مزحة تجاهها، وهو يشعر بأنّ دماء الضحايا على يديه. سخر منه ترومان، وطلب إبعاد هذا البكّاء. وكما حاسبت طيبة أوديب ولعنته، بدأت الحقبة المكارثية، وأعيد فتح الدفاتر القديمة، لتطارده لعنة الشيوعية. و قد قاد المعركة ضده صديقه لويس ستراوس(روبرت داوني جونيور- الرائع) الذي كان يحسده. تم تدمير أوبنهايمر وحرم من صلاحياته العلمية والأمنية، لكنّه أصبح مناضلًا من أجل منع انتشار الأسلحة النووية.
وهنا، هل كان قصد نولان تبييض صفحة أوبنهايمر، أم كان استحضاره من أجل التحذير من تبعات الذكاء الصنعي؟ لقد أشار نولان في إحدى اللقاءات بأنّ هذا المقصد كان حاضرًا، فعلى الرغم من أنّ فكرة الفيلم كانت موجودة في ذهنه، إلّا أنّ اختراع الذكاء الصنعي عجّل بولادة الفيلم. فمازال يذكر في فتوته بأنّه كان يعتقد هو ورفاقه، بأنّهم سيموتون في المحرقة النووية. وهو باستحضاره أوبنهايمر يقدّم السّم والترياق لمقاربة الذكاء الصنعي، وكأنّنا مع المصطلح اليوناني: الفارماكوس الذي يعيد تطهير المدينة من لعناتها.
لا يذهب نولان إلى إدانة العلم، بل إلى ضرورة تقيّده بالأخلاق. ولكي نفهم ذلك، فلنذكر ما طرحه أستاذ القانون روجر فيشر، والذي أثار زوبعة من الانتقاد، بعد قوله، يجب وضع الكودات السّرّية لإطلاق الصواريخ النووية ضمن كبسولة تُزرع في جسد متطوّع، والذي يجب أن يظلّ مع الرئيس الأمريكي، وعندما يريد إطلاقها يجب أن يقوم الرئيس بقتل هذا المتطوّع واستخراج الكبسولة من جسده. إنّ ما قصده فيشر بأن يشعر الرئيس بالتبعات الأخلاقية والإنسانية لفعلته، قبل أن يقدم على المحرقة التي ستبيد الإنسانية. لقد عمل نولان على تشريح أوبنهايمر أمام المشاهدين في المرحلة التي كان بها سمّا، وبلحظته الأخرى التي أصبح فيها ترياقًا، وبذلك استحضر مقولة رينيه جيرار في كتابه؛ العنف المقدس، بأنّ المسرح الإغريقي ومآسيه، كان الهدف منه تذكير اليونانيين بلحظة العنف الماضية وضرورة عدم إنتاجها من جديد، فالفعل التطهيري يحدث بإعادة التوازن لقطبي الوجود البشري العلم والأخلاق. هذا التوازن الاستراتيجي دفع علماء ممّن كانوا في مشروع مانهاتن لتسريب أسرار صناعة القنبلة الذرية إلى الإتحاد السوفييتي سابقًا وهما: كلاوس فوكس وتيودور هول، اللذان كان جوابهما عندما كشف أمرهما، وتم استجوابهما، بأنّهما فعلا ذلك، كي لا تنفرد دولة واحدة بهذا السلاح، فتعيد استنساخ تجربة ألمانيا النازية. وفي استتباع للمعضلة الأخلاقية التي ناقشها نولان في حيثيات فيلمه، لاريب بأنّ عالم الاجتماع الياباني ماساهيرو موريوكا كان حاضرًا في ذهنه. لقد طرح هذا العالم معضلة أخلاقية على عيّنات من الشعب الياباني، الذي كان ضحية للقنبلتين الذريتين، وما زالت آثارهما الجسدية والنفسية حاضرة، بأن دعاهم إلى ركوب قطار مفترض، وعليهم الاختيار بين سكتين، لا محيد عنهما، ولا يمكن إيقاف القطار عن مسيره. فإذا اختاروا السكة الأولى سيدهس القطار خمسة أشخاص، بينما لو سلكوا السكّة الثانية سيدهس القطارشخصًا واحدًا. كانت الإجابة بالأغلبية الساحقة، بأن يسلك القطار السكّة الثانية، وليضحّى بشخص واحد مقابل نجاة الخمسة الآخرين! وهنا، أجابهم عالم الاجتماع الياباني، بأنّهم اختاروا ما فعله الرئيس ترومان، الذي أمر بإلقاء القنبلتين على مدينتيهما العزيزتين!
في مفارقة ساخرة بين جدية الحرب القاتلة واختيار أي المدينتين اللتين ستقصفان؛ بالصبي الصغير والرجل السمين – أسماء القنابل الذرية- كانت مدينة كيوتو الجميلة والتراثية والتي احتضنت الحاضرة الإمبراطورية اليابانية ألف سنة، أحد الخيارات، لكنّها استبعدت، لأنّ أحد أعضاء اللجنة التي ستقرّر أي المدن ستقصف، كان قد زراها في ما مضى، ووصفها بأنّها مدينة جميلة، ومن السيئ تدميرها. ولو أنّ هذا العضو زار هيروشيما أو ناغازاكي، لكانت أسماء مدن أخرى هي التي اختيرت لتقصف. وبالأسلوب نفسه استبعدت مقاربة جماليات الفيلم الرائعة جدًا؛ من إخراج وتصوير وسيناريو وموسيقا، لأجل مقاربة الانعكاس الزوزيمي – نسبة إلى مرآة زوزيما- الأخلاقي الذي يجب أن ينعكس فينا، بعد مشاهدة الفيلم.
كان العالم الألماني فون براون رائد علم الصواريخ البالستية التي قصف بها هتلر لندن، وكان يعتبر شخصية دموية جدًا، لكن عندما وقع بيد الأمريكان تم تناسي ماضيه، لصالح قيادة ما يعرف الآن بوكالة: ناسا والتي لولاها لتأخرالأمريكان كثيرًا عن ريادة الفضاء. وهنا، كيف سيكون تقييمنا الأخلاقي بحقّه، هل سنتجه إلى الاختلاف بين الأبيض والأسود، وينتهي الأمر، أم سنرى أنّ الأخلاق والعلم منطقتان رماديتان علينا تعلّم استخلاص اللون الأبيض منهما. هذا التحليل هو ما ذهب إليه نولان في فيلمه عندما واجهنا بمرآة زوزيما.
لم يكن شكل السيرة الذاتية لفيلم أوبنهايمر، إلّا الذرة المتفجّرة، التي يجب إعادة تجميعها، حتى تحدث الاستضاءة الأخلاقية بكل تعقيداتها، فلم يكن هدف نولان، لا الإدانة ولا التبرئة، بل استجواب اكتشافاتنا العلمية أمام الأخلاق أو جواب أوديب: “الإنسان”. أشار نولان أنّ الذكاء الصنعي قد حفّزه لإنتاج الفيلم تحذيرًا من التبعات التي سيقود إليها، فكما أنّ القنبلة الذرية كانت ستقود إلى فناء البشرية لو صح الاحتمال الصغير عندما قال أينشتاين: “تقريبًا صفر”، سيكون للذكاء الصنعي ذات النتائج لو أسيئ استخدامه. في مشهد زوزيمي لأوبنهايمر، وهم يحتفلون به، تراءى له وجه فتاة يحترق باللهب، فيما علقت قدمه بجثّة محترقة. لقد كانت هذه الفتاة التي مثّلت المشهد، هي ابنة المخرج كريستوفر نولان!
من هنا عودة إلى تحذير نودلمان، بأنّ وصف أوبنهايمر بفرانكشتاين عصرنا أو بروميثيوس أمريكا، ماهو إلّا انسحاب من جدلية العلم الأخلاق، وقبولنا بقصف هيروشيما، فقط لأنّنا زرنا كيوتو!
أوبنهايمر/ oppenheimerفيلم لعام 2023، أخرجه وكتب السيناريو له كريستوفر نولان. كاميرا: هويت فان هويتما. موسيقى: لودفيغ غورانسون. يعرض الآن، و قد حقّق نجاحًا كبيرًا على صعيد النقّاد والجمهور، ويخطو حثيثًا لينال ترشيحات لجوائز عديدة ومن ضمنها الأوسكار.
باسم سليمان
خاص ضفة ثالثة

باسم سليمان's Blog
- باسم سليمان's profile
- 24 followers
