لماذا استُبعد ذوو الإعاقة في الفلسفة؟

باسم سليمان 18 سبتمبر 2025 – ضفة ثالثة

لقد كان مفهوم الإعاقة طوال التاريخ الفلسفي مغفلًا أو مهملًا. وإذا أراد الفلاسفة تمثيل الإعاقة الجسدية أو العقلية، فغالبًا ما يستخدمون هذا التمثيل بشكل سلبي دعمًا للمفهوم المعياري للتجسيد البشري: “العقل السليم في الجسم السليم” في مقابل تلك الحالات التي لا تتوافق مع هذا التجسيد، فلم ينظر الفلاسفة إلى الأشخاص من ذوي الإعاقة إلّا من خلال عدسة الذات الفلسفية الكلاسيكية؛ أي أنّ الكائن البشري حتى يكون ملحوظًا ضمن إطار المفهوم الفلسفي يجب أن يملك قدرات عقلانية وجسدية متواشجة مع ما هو طبيعي وصحي، وأي تجسيد آخر يخالف هذه الافتراضات يعزل أو يبعد وحتى يقتل! هذا هو موقف الفلسفة الكلاسيكية -والتي تعني حبّ الحكمة- من ذوي الإعاقة في مقابل الأدب والأسطورة اللذين أفسحا حيزًا لها. وما دام موضوع المقال يتكلّم عن علاقة الفلسفة بالإعاقة والفلسفة ذات منشأ يوناني، فليس من ضير أن نذكر شيئًا عن الإعاقة في الأسطورة والأدب اليوناني. لقد كان الإله “هيفايستوس” من ذوي الإعاقة، أمّا على صعيد الأدب اليوناني، فقد كان أهم اثنين من مبدعيه من ذوي الإعاقة؛ بداية بهوميروس الأعمى وصولًا إلى إيسوب الحكيم الذي كان يعاني من إعاقات حركية. والأهم من ذلك يتجلّى في أنّ أهم شخصية أدبية في التراث اليوناني والعالم والتي مازال تأثيرها فاعلًا على الأدب حتى اليوم هي “أوديب: مسرحية لسوفوكليس” كانت الشخصية الرئيس فيها، من ذوي الإعاقة ، فكلمة “أوديب” تعني من له قدم عوجاء، فلماذا نبذت الفلسفة الإعاقة من مفاهيمها؟

بدأت الفلسفة تتحرّر من هذا الإرث مع بداية السبعينات من القرن العشرين مع ظهور الدراسات النسوية وما بعد الاستعمار والإعاقة وغير ذلك من دراسات حداثية وما بعد حداثية. لكن من أين أتى هذا التمثيل السلبي للإعاقة الذي حكم الفلسفة طويلًا؟ يعتبر أفلاطون الأب المؤسّس للفلسفة وهو صاحب أول تنظير فلسفي قصد منه وضع أسس نظرية وعملية للتمثيل المعياري للجسد البشري. في محاورة “تيماوس” أشار أفلاطون إلى ما يعدّه تجسيدًا للإنسان الذي يستحق التقدير، فإلى جانب الجمال الجسدي، اعتقد بأنّ الروح يجب أن تكون على الأقل بنفس الجمال الجسدي. فإذا كان هناك خلل بين جمال الجسد وجمال الروح، فوفقًا لأفلاطون: “الحياة في مجملها ليست جميلة”. وما يقصده أفلاطون بأنّ الجمال لا يكون دون التوازن المثالي بين الروح والجسد، فهو يرى بأنّ جمال الروح لا يرتبط بالضرورة بالذكاء فحسب، بل بالقيم الأخلاقية والجماليات الجسدية. هذا المعيار يستبعد أي شخص لا يحقق التوازن بين الروح والجسد، فحتى لو كان الشخص يتمتع بجمال روحي استثنائي، فهو لا يقدّر إذا كان يعاني من إعاقة جسدية، لعدم وجود التوازن. لقد أصبح المعيار الذي وضعه أفلاطون قانونًا فلسفيًا لاستبعاد الإعاقة، فأصبح حالها كقوله عن الطفل الذي يولد معوّقًا: “مُنْتَزَعًا عن الأنظار إلى مكان سرّي ومخفيّ”. هكذا غدت الفلسفة التي تُعنى بعلم الوجود تقصي الإعاقة إلى مكان سريّ ومخفيّ، مع أنّها إحدى حالات الوجود الإنساني. قد يقول قائل بأنّ أفلاطون لم يأت بجديد باستبعاده الإعاقة من الدرس الفلسفي، فبعض العادات والأعراف في ذلك الزمن كانت تنصّ على ذلك. وعلى سبيل المثال كانت مدينة إسبرطة عندما يولد طفل يُعرض على حكماء المدينة الذين يقرّرون فيما إذا كان صحيحًا أو معيبًا، وعلى أثر ذلك، إمّا يسمح له بالعيش أو يترك في العراء. وكانت القناعة التي تبرر ذلك، بأنّ ولادة طفل ضعيف يعدّ رسالة تحذيرية من الآلهة إلى عائلة أو مدينة عاصية؛ وهكذا كان يتم ردّ الرسالة إلى الآلهة عبر ترك الطفل في العراء أو رميه في هوّة، والتي تفسّر بأنّها ترك للمعاصي. لكن هذا لا يعني أنّ الأمر كان متبعًا كقانون، فالانتقادات التي طالت المؤرّخ بلوتارخ الذي نقل هذه القصة، بأنّه لم يكن معاصرًا لإسبرطة، ولم يوجد عظام أطفال في تلك الهوّة المقصودة، لكن مسرحية “أوديب” استندت لمفهوم النبذ للطفل الضعيف، مع أنّها بيّنت النتائج القاسية على هذه العادات. وعندما نعود إلى أفلاطون وتحليله الفلسفي لاستبعاد ذوي الإعاقة نجده لا يستند إلى تلك الأعراف، فهو لا يوافق على الأسطورة التي تقول بأنّ الطفل الضعيف هو رسالة من الآلهة، بل يقيم إقصاءه على بُنى عقلية ومنطقية، وهذا هو الفرق بين العادات والأعراف التي كانت سائدة في زمن أفلاطون ومنهجه الفلسفي للتجسيد المعياري للوجود البشري الذي أنتج إقصاء للأشخاص من ذوي الإعاقة.

“أدوناتوس”: 

لم تكن اليونان القديمة تمتلك تصنيفًا مشابهًا للمصطلح الذي تم التوافق عليه في زمننا: “الأشخاص من ذوي الإعاقة” بل لم يكونوا فئة محدّدة بشكل واضح، مع أنّه قد وجدت كلمة تعبّر عنهم، وهي “أدوناتوس” والتي تعني “غير قادر”. وقد تشمل من يولد بإعاقة أو من تصيبه أثناء حياته. وهذه الكلمة كان يقصد منها عدم قدرة الشخص على القيام بواجباته نحو المجتمع، فالمحدد لهذه الكلمة هي القدرة على العمل والانتظام في البناء الاجتماعي؛ لا الوضع الصحي، وقد قال أرسطو تلميذ أفلاطون، بأنّ الكائن الذي لا يستطيع الانسجام مع هيكلية المجتمع هو إمّا وحش أو إله! وبالتالي فقد عدّ المعوّق ككائن بريّ وحشي وعصيّ على التدجين الاجتماعي. وفي محاورات أفلاطون طرح على لسان سقراط فكرة: “المدينة الضرورة” والتي تعني أنّ لكل فرد فيها عمله المخصوص حتى يقع ضمن الحقوق والواجبات الاجتماعية، وقد تطورت هذه الفكرة مع كتاب “الجمهورية” وتصوّر المدينة الفاضلة. وإذا عدنا إلى إسبرطة، فعندما يقرّر حكماؤها بأنّ الطفل سليم تخصّص له أرض، وهذا يعني قبوله اجتماعيًا، لأنّه فاعل اقتصاديًا.

كانت فكرة المدينة الضرورة، بمكان ما، هي تمثيل لتقسيم أفلاطون الكينونة البشرية إلى ثنائيتين: الروح والجسد؛ وبما أنّ الروح  تعود إلى عالم المثل، والجسد إلى عالم المحاكاة الفاني والعابر، فإنّ الوظيفة المتاحة للجسد هو تمكينه الروح للالتحاق بعالمها المثالي، فالجسد المادي لا يمكن له أن يرتقي إلى ذلك العالم. إنّ الوجود البشري لا يقوم إلّا بالمجتمع، فالفرد عليه أن يمضي في حياته منسجمًا مع أصله المثالي وفي الوقت نفسه أن يقوم بواجبه نحو المجتمع إلى أن يتخلّص من قميصه البشري؛ ومن هذه الفكرة نفهم تضحية سقراط عندما حكمت عليه المدينة بالموت، فهو قد قام بواجبه نحوها، لكن عندما تم تهديده بالموت أي الفناء الجسدي، استهونه في مقابل الخلود الروحي. هذا التقسيم تطوّر مع أفلاطون في مدينته الفاضلة وأصبح ثلاثيًا: “النوس/ العقل، الروح- والثوموس/ النفس- والإبيثوميا/ الجسد،الشهوة” لكن لم يعد الهدف تطهير الروح من الجسد، بل سيطرة الروح على الجسد لإقامة المدينة الفاضلة أرضيًا. هذا التطور المفهومي هو الذي فتح باب البحث عن تجسيد معياري للجسد يخدم المدينة الفاضلة التي تصوّرها أفلاطون كحل لهزيمة أثينا أمام إسبرطة وسقوطها داخليًا أيضًا.

 وبهذا التصور، ينتقل أفلاطون من وصف الوجود البشري، بأنّه إعطاء الأولوية للملكة الفكرية للنفس على الجسد المادي، إلى مفهوم للنفس مكوَّن من قدرة عقلانية، بالإضافة إلى جوانب نفسية وجسدية. والفرق الجوهري بين مفهوم الثنائي للوجود البشري والمفهوم الثلاثي المقدم في الجمهورية، هو الادعاء بأنّ الغاية الطبيعية والحقيقية للروح العاقلة ليست تطهير الروح من الجسد كليًا، بل تنظيم الجوانب غير العقلانية للوجود البشري في كلٍّ متناغم. والأهم من ذلك أنّ المفهوم الثلاثي للروح يفتح الباب أمام الإدارة المباشرة والعقلانية للتجسيد البشري، حيث يمكن، بل ويجب، جعل الجسد المادي والعالم المادي متوافقين مع إملاءات العقل. يقول أرسطو تعبيرًا عن ذلك في كتابه “الأخلاق النيقوماخية”: “حتى لو لم يُلقِ أحدٌ منا باللوم على من وُلد مُعاقًا، فإنّنا مع ذلك نُلقي باللوم على أولئك الذين ينجم قبحهم عن الإهمال وقلة الحركة”. إنّ ضرورة استخدام العقل التي طرحها أفلاطون للتلاعب بالعالم الطبيعي تنبع من الاعتقاد بأنّ العقل نفسه يعمل كسمة مميزة للبشر، فالبشر نتاج نظام طبيعي مفهوم، ويجب الحفاظ عليه من خلال التطبيق السليم للمبادئ العقلانية استنادًا إلى مفهوم غائي وطبيعي للتجسيد البشري. لقد فهم أفلاطون الصحة الجسدية والنفسية ليس فقط كحالات طبية للجسم، بل كمؤشرات على الأداء السليم للطبيعة البشرية نفسها، حيث يتعلق الحفاظ على الصحة بالغاية الطبيعية للبشرية. لقد جادل سقراط بأنّ “قيام الصحة هو إرساء علاقة طبيعية بين عناصر الجسم، وهي السيطرة والتحكم، بينما التسبب في المرض هو جعل أحدهما يحكم الآخر أو  يخضع له خلافًا للطبيعة”. وبالتالي، لا تُوصف الصحة بأنّها حالة جسم فرد معين، إذا ما نُظر إليها بمعزل عن غيره، بل كخير موضوعي مرتبط بالنظام والجمال والأداء السليم كنوع من التناغم. على النقيض من ذلك، يرتبط المرض والخلل الوظيفي ارتباطًا مباشرًا بالاضطراب والقبح وسوء حالة النفس، والأهم من ذلك اعتبر المرض ظلمًا يجب اجتثاثه لأجل النظام.

المدينة الفاضلة:

لقد قسّم أفلاطون مدينته الفاضلة إلى ثلاثة أقسام تمثيلًا لتقسيمات الوجود البشري التي لحظناها أعلاه: (طبقة الأوصياء تعادل العقل – طبقة الجنود تعادل النفس- طبقة الصناع تعادل الجسد). إنّ مبدأ التخصّص، الذي اعتمده أفلاطون كمبدأ عقلاني، يحكم المدينة الفاضلة يقوم على الاعتقاد بأنّ ما هو عقلاني هو الأصلح. جادل أفلاطون بأنّ المبادئ العقلانية للتنظيم ينبغي أن تُملي السياسة الاجتماعية، وأنّ العقل يجب أن يُستخدم للتلاعب بعقول المواطنين وأرواحهم وأجسادهم لخلق نوع من الانسجام الفردي والاجتماعي المُتماهِي مع العدالة. والنتيجة النهائية لهذه الاعتبارات، هي أنّه، بما أنّ الانسجام يُمثل الغاية المثالية للبشرية الفردية والجماعية، فإن كون الإنسان إنسانًا بالمعنى المثالي والمعياري يفترض وجود القدرة الجسدية والعقلانية التي تحقق الانسجام المثالي، وأي شذوذ عن ذلك يجب رفضه. إذا كان التجسيد البشري السليم يتميّز بالقدرة الجسدية والعقلانية على تحقيق الانسجام الفعال بين أجزاء الروح والجسد المادي، فبقدر ما تعتبر الصحة خيرًا موضوعيًا، فإن غياب هذه القدرة يُمثل حالةً من اضطراب الغاية الطبيعية والمعيارية للطبيعة البشرية أو فشلها. وبالمقارنة، وبالنظر إلى هذا المفهوم الأفلاطوني للتجسيد الإنساني المعياري الذي ينشأ من خلال تطبيق قواعد أو معايير عقلانية، فمن الواضح أنّ الأفراد ذوي الإعاقة الفكرية أو الجسدية، لا يمكنهم تحقيق العدالة ودخول المدينة المثالية من خلال تشكيلهم عقلانيًا وجسديًا لتحقيق هذه الغاية، فهم غير قادرين على إزالة ما هو وحشي أو دون بشري منهم. لم يكن أفلاطون يرى بأن الإعاقة  هي خلل حيادي في القدرة، وبالتالي لا يمكن تعريف الإعاقة كحالة ذاتية، ولا من خلال التفاعل بين الفرد ذي الإعاقة والمجتمع، لأنّ المجتمع المثالي يرفض وجودهم، لأنّهم بنظره نوع من الشذوذ على النظام. تتبع هذه النتيجة منطقيًا، بأنّه يجب النظر إلى الأفراد الذين يفتقرون إلى هذه القدرات المثالية على أنّهم دون البشر أو أشبه بالحيوانات، وهو نوع معيب من التجسيد يُعرّف بـ”الظلم” الذي يجب تطهيره من أجل إحلال النظام.

قتل الأطفال من ذوي الإعاقة:

لم يقدّم أفلاطون مبدأ صريحًا للإعاقة الجسدية والعقلية، لكن تنظيره عن الجسد المعياري والقدرة العقلية سيؤدي مباشرة إلى مفهوم عقلاني للإعاقة يرفض التجسيد البشري المعيب. إنّ التنظير العقلاني والمنطقي الذي طرحه أفلاطون عن التجسيد المثالي سيقود إلى الاعتقاد بأنّ  وجود الأفراد ذوي الإعاقة في حد ذاته يصبح رمزًا أو تجسيدًا للاضطراب والاختلال الوظيفي والظلم الذي يجب تطهيره. لذلك يرتكز رفض الأفراد ذوي الإعاقة في الجمهورية على ثلاثة مزاعم رئيسية: أولاً، لا يتمتّع الأفراد من ذوي الإعاقة بجودة حياة تُلبي كرامة الإنسان. ثانياً، لا يستطيع الأفراد من ذوي الإعاقة الجسدية أداء أيّة وظيفة مجتمعية، وفقًا لمبدأ التخصص. ثالثاً، لا يستطيع الأفراد من ذوي الإعاقة الذهنية الاستجابة للتربية الأخلاقية لأنّهم غير قابلين للشفاء أخلاقيًا. إنّ رفض الأفراد من ذوي الإعاقات الجسدية ضمن البرنامج الذي اشترعه أفلاطون للمدينة الفاضلة يعود إلى مبدأ التخصّص في العمل. وكما ذكرنا تتميز المدينة الفاضلة بالضرورة المادية، حيث يتلقّى كل فرد ويقدّم فقط ما يحتاجه، وبالتالي لا يوجد ترف أو ندرة. وبالتالي يمكن لهذه المدينة التي تخيّلها أفلاطون أن توجد، لأنّ كل فرد يؤدي وظيفة متخصصة واحدة فقط. وهكذا، فإن الأفراد الذين لا يستطيعون أداء وظيفتهم المعينة بسبب الولادة أو بسبب حادث خلال الحياة، يقلِّلون من إنتاجيتهم، كما يُجسِّدون نوعًا من المقاومة الطبيعية للاتساق المنطقي الداخلي للمدينة المثالية، إذ يمثِّلون تهديدًا محتملًا يجب العمل على زواله.

يقترح أفلاطون أن تمارس المدينة الفاضلة القتل الفعّال، أي قتل الأطفال حديثي الولادة المعاقين أو غير القابلين للشفاء أخلاقيًا. لا يقوم تبرير أفلاطون للقتل الفعال لهؤلاء الأفراد إلى عدم مساهمتهم في المجتمع فحسب، بل إلى افتراض أنّ بعض الأفراد يفتقرون إلى القدرة الفكرية على الاستجابة للتربية الأخلاقية منذ الولادة. ويضرب سقراط مثلًا على ذلك، بأنّ الطبيب يجب أن يكون على دراية بالأمراض، ولكن إذا استحوذ عليه المرض، فإن أي تشخيص لاحق من قبله سيكون فاسدًا. ويتابع بالقول بأنّ القدرة على التمييز بين الخير والشرّ تُكتسب من خلال القدوة الحسنة والتربية الأخلاقية السليمة. ومع ذلك، فإنّ تنمية الشعور بالخير والشرّ تتطلّب بالضرورة قدرة فكرية أو عقلية سابقة تستجيب للتربية الأخلاقية حتى تكون التربية اللاحقة مؤثّرة. ونظرًا لأنّ هذه المتطلبات، يفتقر إليها الأشخاص من ذوي الإعاقة بنظر أفلاطون، فهم لا يستطيعون بلوغ الصلاح الأخلاقي، وبالتالي من الضرورة شطبهم من الوجود.

جرس الإنذار:

تتجلّى خطورة أفكار أفلاطون، بأنّها تصدر عن تطبيق المبادئ العقلانية على التجسيد البشري وتتجذّر فيه. لقد اعتقد أفلاطون بأنّ العالم الطبيعي مهنْدسٌ وفق نظام معقول يسمح للعقلانية البشرية أن تفهمه، لأنّ العقل نفسه نتاج لهذا النظام. لكن العقدة الكأداء تكمن في أنّ هذه المبادئ أو المعايير العقلانية المجردة تفشل في تقديم وصف كافٍ للتجسيد البشري. إنّ الرغبة في تحديد التجسيد المثالي أو المعياري للبشر تُنكر أنّ التجسيد البشري نفسه قائم على الاحتمالات لا اليقين، تمامًا كما هو الحال في كل شيء داخل عالم الوجود. ولا يمكن للمفاهيم المعيارية للتجسيد البشري أن تبدو كاملة، أو عقلانية إلّا بإخفاء هذه العقدة؛ لذلك سعى أفلاطون إلى وأد ذوي الإعاقة حتى يكتمل تصوره العقلي للتجسيد المثالي للإنسان. فالعقل يسعى إلى فهم العالم الطبيعي، لكن هذا الفهم يُشكك به بسبب وجود عناصر تقع خارج هذا النظام العقلاني الذي رسمه للكون الطبيعي، وهنا تظهر الضرورة وفق أفلاطون لاتخاذ إجراءات مثل القتل لذوي الإعاقة وتبريرها فلسفيًا، فالمبادئ العقلانية مُجرّدة وعامة، وإذا كانت مُتجذّرة في ضرورات منطقية أو طبيعية، فلا يُمكنها قبول أيّ استثناءات. لقد أدت هذه الرؤية الأفلاطونية لأن يتم استبعاد ذوي الإعاقة من الدرس الفلسفي. وإذا ما استحضروا، فلن يكونوا إلّا كتمثيل سلبي، كما قال عالم الإعاقة “لينارد ديفيس”. ولقد كانت هذه الرؤية وحججها المنطقية سببًا للكثير من المآسي التي تعرض لها ذوي الإعاقة، لم يكن آخرها، المجزرة التي ارتكبتها النازية بحقّ المرضى وذوي الإعاقة استنادًا للمنطق الأفلاطوني في المحاججة وبناء الأسباب الداعية لإبادة المعوقين.

 إنّ الاكتفاء برفض المنطق الأفلاطوني، كما فعلت الأديان، على سبيل المثال، وذلك بمنع قتل الأطفال مهما كان وضعهم الصحي، لا يكفي! لأنّ المنطق لا يدحض إلّا بالمنطق، لا بشيء آخر. لذلك نقول بأنّ الفشل متجذّر في جوهرالمبادئ العقلانية التي تدعو إلى التجسيد البشري المثالي، لأنّها تختصر البشر إلى معايير قابلة للتحديد، بشكل تعسفي. فهي تحوّل البشر إلى كائنات غير ملموسة، لأنّها تنمّطهم إلى سمات، أو ملكات، أو إمكانيات يمكن تحديدها عقلانيًا حتى تبدو صحيحة؛ لكن ستظلّ هذه المبادئ العقلانية دائمًا محدودة الرؤية، نظرًا لطبيعة التجسيد البشري المتنوّع والذي لا يقف عند حدّ. إنّ المنطق الذي يحاول إثبات عقلانيته بشطب ما يخالفها، هو منطق لا يختلف عمّا يراه بأنّه شذوذ. ولربما أفضل طريقة لدحض حجج أفلاطون الحاسمة، بأنّ نتذكر بأنّ سقراط كان يسلّي نفسه، قبل تنفيذ حكم الإعدام، بنظم قصص إيسوب المعاق بشكل شعري، وليس بأيّة مبادئ فلسفية عقلانية أو حجج منطقية أخرى.

باسم سليمان

https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/revisions/2025/9/18/%D9%D9%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D8%B0%D9%D9-%D8%A7%D9%D8%A5%D8%B9%D8%A7%D9%D8%A9-%D9%D9%8A-%D8%A7%D9%D9%D9%D8%B3%D9%D8%A9-خاص ضفة ثالثة

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 18, 2025 00:17
No comments have been added yet.


باسم سليمان's Blog

باسم سليمان
باسم سليمان isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow باسم سليمان's blog with rss.