باسم سليمان's Blog, page 22

January 14, 2022

من التدجين إلى الرثاء.. الحيوان في الشعر العربيّ – مقالي في ضفة ثالثة

مُلئت آداب العالم بأدبيات الرثاء، ولم يكن الأدب العربي في تراثه، أو في حاضره، شاذًا عن ذلك. وإذا انتخبنا الجانب الشعري من أدبنا العربي، نلحظ بأنّ الرثاء من أغراضه الأساسية، إلى جانب الوقوف على الأطلال، والنسيب، والمديح.

الرثاء يعني إقامة علاقة عاطفية وفكرية مع كائن، أو شيء، غيّبه الموت، أو الدمار. ولذلك، شمل الرثاء المدن التي دمرتها الحروب، أو الكوارث الطبيعية، ورثاء الملوك والشخصيات العظيمة والأبطال والشهداء، وصولًا إلى الدائرة الضيقة للراثي، كأفراد أسرته. لكن الاستثناء في الرثاء أن يتناول الحيوان! ولقد عرفنا في الشعر العربي مديح الحيوان، كالحصان عند امرئ القيس، وحتى إسقاط شخصية الشاعر على الحيوان، ليتاح له إقامة محاورة بين ذاتية، وهذا هو المثقب العبدي يقول على لسان ناقته:

أَكُلُّ الدَهرِ حَلٌّ وَاِرتِحالٌ/ أَما يُبقي عَلَيَّ وَما يَقيني.

لقد كان الحيوان للإنسان مطيّة فكرية ثقافية أثقلها بهواجسه الوجودية منذ أيام الحكيم بيدبا، والفيلسوف إيسوب. وقبل ذلك، ازدحمت الأساطير بالحيوانات الواقعية والخرافية التي جسدت أفكار الإنسان عن الكون. إنّ استخدام الحيوان كإسقاط تشخيصي لأفكار الإنسان وطبائعه، أو العكس، نتلمّسه في الديانات الطوطمية، وصولًا إلى علم الفراسة. لقد مدح علي بن الجهم الخليفة المتوكّل بأنّه كالكلب في حفظه للودّ، وكالثور في الصراع. إنّ هذا التبادل الطبائعي، أكان من الإنسان في اتجاه الحيوان، أو العكس، بحثه بشكل جدّيّ الإيطالي جيامباتيستا ديلا بورتا(1) في القرن السادس عشر ميلادي، مستخلصًا الطبائع البشرية من خلال الشبه بين الإنسان وحيوان ما. وهذا كان له دور كبير في نشر علم الفراسة في الغرب. تبعه في ذلك رسّام البلاط الفرنسي تشارلز لوبرون في القرن السابع عشر ميلادي، حيث أنجز نماذج كثيرة لوجوه حيوانات بملامح بشرية. وتجاوزت تلك البورتريهات 250 لوحة(2). كذلك لم يترك رائد الخيال العلمي هـ. ج. ويلز هذا الموضوع يمرّ مرور الكرام، فقد كتب رواية “د. مورو”، التي نجد فيها عالِمًا يغيّر من فيزيولوجيا الحيوانات لتصبح أشبه بالبشر جسديًا وفكريًا.

عرف العرب الأمثولة الحيوانية عبر أمثالهم وأشعارهم ونثرهم، وليست قصص “كليلة ودمنة” المترجمة من الهندية طارئة على ثقافتهم. قبل ذلك بكثير صرخ الشنفرى بأنّ الحيوانات عائلة له:

وَلي دونَكُم أَهلَونَ سيدٌ عَمَلَّسٌ/ وَأَرقَطُ زُهلولٌ وَعَرفاءُ جَيأَلُ

هُمُ الرَهطُ لا مُستَودَعُ السِرَّ ذائِعٌ/ لَدَيهِم وَلا الجاني بِما جَرَّ يُخذَلُ.

ومثله ذهب الأحيمر السعدي:

عوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئبِ إذ عوى/ وصوَتَ إنسانٌ فكدتُ أطيرُ.

فهل لنا بعد ذلك أن نجد في رثاء الحيوان ما يستغرب، فالحيوان ليس آلة ركوب، أو حراثة، أو مصدرًا للحم واللبن فقط، بل هو الأنيس والصاحب. ألم يقل المتنبي: أعَزُّ مَكانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سابحٍ. إنّ الموت وإنْ أدركه البشر وغفل عنه الحيوان إلّا أنّ كل الكائنات أمام الموت سواء.

ولرثاء الحيوان جذور عميقة في الشعر العربي، تبدأ من العصر الجاهلي، وتمتد إلى زمننا الحالي، لكن الرثاء لم يأخذ شكل قصيدة متكاملة إلّا ابتداء من العصر العباسي. أمّا قبل ذلك فقد كان يأتي في أبيات عديدة. ومن أول من رثى الحيوان كان الشاعر الصعلوك السُلَيْك بن السُلَكة(3)، الذي قال أبياتًا في حصانه النحام بعد موته، وقيل قد ذبحه، لأصحابه، بعد أن نفد زادهم:

وَما يُدريكَ ما فَقري إِلَيهِ/ إِذا مَا القَومُ وَلَّوا أَو أَغاروا.

تعدّدت الحيوانات التي رثاها الشعراء، من الحمار، إلى الهرّ، والقُمْرِيّ، والطاووس، والكلب. ولم تكن قصائدهم محاكاة ساخرة لقصائد الرثاء، بل حمّلوها عواطفهم وأشجانهم ورؤاهم الفكرية، ورمّزوا فيها عندما لم يكن متاحًا لهم التصريح. وسنبدأ بالشاعر ابن عنين، الذي رثى حماره بقصيدة رشيقة المعاني سلسة الأسلوب، ضمَّنها حزنه من الفاجعة التي نكبته، ومديحًا للحمار تغار منه الأحصنة، إلى جانب الحكمة والتصبّر. وسنختار بعض أبيات هذه القصيدة:

لَيلٌ بِأَوَّلِ يَومِ الحَشرِ مُتَّصِلُ/ وَمُقلَةٌ أَبدًا إِنسانُها خَضِلُ

وَهَل أُلامُ وَقَد لاقَيتُ داهِيَةً/ يَنهَدُّ لَو حَمَلَتها بَعضها الجبُلُ

لا تَبعُدَن تُربَةٌ ضَمَّت شَمائِلَهُ/ وَلا عَدا جانِبَيها العارِضُ الهَطِلُ

لَو كانَ يُفدى بِمالٍ ما ضَنَنتُ بِهِ/ وَلَم تُصَن دونَهُ خَيلٌ وَلا خَوَلُ

لكِنَّها خُطَّةٌ لا بُدَّ يَبلُغُها/ هَذا الوَرى كُلُّ مَخلوقٍ لَهُ أَجَلُ.

تستدرجنا أبيات ابن عنين، ليس فقط إلى الحزن على الحمار، من خلال تمثّل مصاب صاحبه، بل إلى التأمّل، بِمَا يكشف لنا الرثاء من سؤال عن الكيفية التي يجب أن تعاش بها الحياة، فلو كان هذا الحمار صاحب سيرة سيئة مع صاحبه، هل كنّا لنجد له هذا الرثاء الذي حفظته كتب التراث؟

إنّ أكثر ما يذكر به أبو النواس مجونه، إلّا أن موت كلبه جعله يستعير من الخنساء عبارتها المشهورة في بكائياتها على أخيها صخر: “يا عين جودي”. يعدّد أبو النواس مناقب كلبه، ومن ثم يصوّر موته بعد أن نهشته أفعى رقشاء في الغابة، وكم رفع عنه هذه الكلب ذلّ الحاجة، بما يجلبه له من صيد. وأمام ذلك، ألا يستحق أن يرثى ويخلّد مع صاحبه:

يا بُؤسَ كَلبي سَيِّدِ الكِلابِ/ قَد كانَ أَعناني عَنِ العُقابِ

وَكانَ قَد أَجزى عَنِ القَصّابِ/ وَعَن شِراءِ الجَلَبِ الجَلّابِ

يا عَينُ جودي لي عَلى حَلّابِ/ مَن لِلظِباءِ العُفرِ وَالذِئابِ. 

وإذا انتقلنا إلى عصرنا الحالي، نلقى العقاد يرثي كلبه (بيجو)، عبر قصيدة طويلة تفور بالكلمات الصادقة والحزن المرير، مسترجعًا ذكرياته معه:

حزنًا على بيجو تفيض الدموع/ حزنًا على بيجو تثور الضلوع

أبكيك أبكيك وقلَّ الجزاء/ يا واهب الودّ بمحض السخاء.

هذه العلاقة الجميلة التي تنشأ بين الإنسان والحيوان تظهر الأنسنة التي مكّنت ابن عنين أن يتأمّل مفهوم الصبر في حماره، وأن يلحظ أبو النواس الكرم في كلبه، وأن يرى العقّاد في كلبه بيجو الصاحب والأنيس. ولذلك جاء تعبير ابن العلّاف الضرير في رثائه لهره الذي مات، موجزًا لما ذكرناه عن علاقة الإنسان بالحيوان. وقد رثاه بقصيدة طويلة تأوّلها أهل زمانها لِما فيها من معان مضمرة. يقول ابن العلاف:

يا هرّ فارقتنا ولم تعد/ وكنتَ منا بمنزل الولدِ

وكيف ننفكّ عن هواك وقد/ كنتَ لنا عدّة من العدد.

وقد ذاعت هذه القصيدة واشتهرت واستحسن الناس معانيها، مما دفع ابن العميد إلى معارضتها.

توسعت دائرة الرثاء مع الشاعر كشاجم، الذي رثى المنديل، والإبريق، والعود(4)، بالإضافة إلى رثائه الحيوان، ومن رثائه للقُمريّ:

غَدَرَ الزَّمَانُ وَجَارَ فِي أَحْكَامِهِ/ والدَّهْرُ عَيْنُ الخَائِنِ الغَدَّارِ

وَفُجِعْتُ بِالْقُمْرِيِّ فَجْعَةَ ثَاكِلٍ/ فَفَقَدْتُ مِنْهُ أَصْنَعَ السُّمَّارِ

وَلَطَالَمَا اسْتَغْنَيْتُ فِي غَلَسِ الدُّجَى/ بِهَدِيْلِهِ عَنْ مُطْرِبِ الأَوْتَارِ.

أمّا أبو الفرج الأصفهاني فقد رثى ديكًا له بقصيدة قال عنها المؤرخ ابن شاكر الكتبي(5) بأنّها من أجود ما قيل في رثاء الحيوان:

خـطبٌ طرقتُ به أمرَّ طروق/ فظٌّ الحلول عليّ غيرُ شفيق

ذهبت بكل مصاحب ومناسب/ وموافق ومرافق وصديق

حتى بديكٍ كنت آلف قربَه/ حسن إلي من الديوك رشيق.

لقد عرضنا لبعض الشعراء الذين رثوا حيواناتهم، أمّا أبو عيسى ابن المنجم صاحب كتاب “تاريخ سني العالم”، فقد كان يملك برذونًا وقد طالت صحبته له. وعندما مات، أمر الصاحب بن عباد الشعراء أن يرثوا برذونه تخفيفًا عنه، وقد رثاه عشرة من الشعراء. اشتهرت هذه القصائد، وسمّيت البرذونيات، وذكرها الثعالبي في “يتيمة الدهر”.

إنّ تقاليد وآداب الرثاء في الثقافة الإنسانية فكرة أصيلة كأصالة الموت في الوجود الإنساني، لذلك نستطيع أن نضيف إلى تعاريف الإنسان بأنّه كائن رثّاء. لقد كان القبر مبتدأ الفنون عند ريجيس دوبريه لجسر الهوة بين الحياة والموت، كذلك تطّور الرثاء من العويل والبكاء على الميت إلى الإبداع الفنّي والتأمّل الفلسفي. إنّ النظر في مفهوم الرثاء يقودنا لأن نجد فيه أسلوبًا لأنسنة الموت، لأنّ الحياة الإنسانية ليست مجرد صيغة عضوية، بل كينونة من الصِلات على صعيد الذات والمجتمع والطبيعة وكائناتها، والموت يقطّع هذه العرى، فلا بدّ من ذكرى/ رثاء تقف في مواجهة عدمية الموت.

المصادر:

1- https://alchetron.com/Giambattista-della-Porta

2- https://www.amusingplanet.com/2016/07/17th-century-sketches-comparing-human.html

3- السليك بن السلكة، أخباره وأشعاره، دراسة وجمع وتحقيق؛ حميد آدم ثويني، وكامل سعيد عواد. مطبعة العاني ـ بغداد 1984.

4- ديوان كشاجم تحقيق وشرح خيرية محمد محفوظ ـ وزارة الإعلام  ـ بغداد 1970.

5- عيون التاريخ لابن شاكر الكتبي ـ دار الثقافة ـ بيروت.

https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/revisions/2022/1/14/%D9%D9-%D8%A7%D9%D8%AA%D8%AF%D8%AC%D9%8A%D9-%D8%A5%D9%D9-%D8%A7%D9%D8%B1%D8%AB%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%D8%AD%D9%8A%D9%D8%A7%D9-%D9%D9%8A-%D8%A7%D9%D8%B4%D8%B9%D8%B1-%D8%A7%D9%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/revisions/2022/1/14/%D9%D9-%D8%A7%D9%D8%AA%D8%AF%D8%AC%D9%8A%D9-%D8%A5%D9%D9-%D8%A7%D9%D8%B1%D8%AB%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%D8%AD%D9%8A%D9%D8%A7%D9-%D9%D9%8A-%D8%A7%D9%D8%B4%D8%B9%D8%B1-%D8%A7%D9%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 14, 2022 00:37

January 11, 2022

الكنغر

الكنغرُ جابي الضّرائب في الغابة                                                      يملكُ جراباً يغلّ فيه المكوس
لذا تراه يقفز بحماسٍ 
كعريس يوم الزّفاف
يقفُ على ساقيه كسنجاب
أو
يجلسُ على ذيله الكبير كالإنسان
مجادلاً ومشوّحاً بيديه
عندما تنقصه حيلة الكلام.
الكنغرُ جابي الضرائب في عالم الحيوان
ولولا سوء الحظّ 
لاتّخذه المسيح تلميذاً 
كما فعل مع متى العشّار[1].

[1] – أحد تلامذة المسيح.

من ديوان: الببغاء مهرج الغابة

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 11, 2022 11:05

صوتي يدْمع؛ عينٌ أصابها الرّمد…

ونخلتُ حنطةَ جسدكِ

فتساقط  زؤان الضّوء نجومًا.

****

كلّ شيء في مكانه

الفناجين البيضاء المتفتحة الشّفاه

تنتظر بُنّ ثديك

والأكواب المزيّنة بأشياء الأنثى

تحلم بحقيبة من الشّاي السّيلانيّ

آتِيةً عبر طريق الحرير.

صابون دوف  لم تحلّق فقاعات حماماته

منذ آخر طفل مشاكس بيننا.

بجامتكِ مطويّة كسكين لا تقرأ الأحلام

وأنا -طفلة يتيمة- ألبسها في الشّهر مرّة

عند اكتمال دمعة القمر.

كندرتكِ هنا

لم تُنسَ على درج البناية

لأنّني لستُ الأمير ولستِ السندريلا.

 قوس شعرك مستقيم كنصل

فالمطر لم يسقط بزاوية 30.

دبابيس الحجاب في الكرتونة المستديرة

كناعورة ترفع الرّمل إلى السّماء؛

لتسقيَ سرابي…

– ماذا بعد؟!-

كلّ شيء هنا إلّا الزّمن.

****

 قالت فراشة:

انظروا إلى الضّوء

قُدّ بشروق وغروب

إذ همّتْ به وهمّ بها

وغضّا النّظر

لا آلهة في الحبّ.

****

قلبي بيضةُ غيابكِ

كسرها الله

فبياضها القمر

صفارها الشّمس

والسّماء مقلاة زرقاء الحبّ.

****

صَدِئَت شفرةُ الحلاقة بيننا

فذقني طويلة، كذيل سنجاب

وساقكِ قماشُ كتّانٍ.

****

النّاي ترقيق النّأي

والشّجن ترقيق السّجن

وأنا ترقيق أنتِ

رقّقتني

حتّى دقّ مِنّي الظلّ

وفي غابة الحبّ

أصبحتُ أجمةَ القصبِ.                                                                                                                                                 أنا الحجرُ الغشيم

من احتضنَه نهرُكِ سبعًا

لسن بسمانٍ

لسن بعجافٍ

بل صابرات،

فولدتُ

أدورُ بفلكٍ يجري إلى غير مستقرٍّ

تذوب نبوءاتي

كما الشّمع،

فاستدرتُ رحى

هكذا

كلّ نسلِ آدم من رحمٍ

إلّا أنا

من حجر.

****

لم أكن أعرفُ

أنّ الحبّ يُولد كتوأم

حبّ لحضوركِ

وحبّ لغيابكِ.

10/9/2014

من ديوان مخلب الفراشة

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 11, 2022 10:50

January 2, 2022

البنفسجة الطموح* قصتي في القبس الكويتية

استعر الخلاف بين الفراشة والبنفسجات، ولم يبق للصلح باب إلّا وقد أغلق وكأنّ لم يكن بينهن رحيق وحبات طلع. صرخت الفراشة بالنفسجات: ألا توجد بينكن بنفسجة طموح؟

زمجرت البنفسجات الغضبات وتفوهّن بما لا يليق بالزهر أن ينطق به: اللعنة على شقائق النعمان، هنّ من أطلقن تلك الإشاعة البغيضة. اسمعي أيتها الفراشة، من لهن جذور، ومهما طالت سيقانهن، فلن يجديهن النظر إلى مالا تطاله أيديهن. إنّ الشقائق ذوات الأعناق الطويلة، يقتل منهن الكثير في كلّ عاصفة ربيعية. وعندما أبدينا تأسفنا وحزننا على ما يصيبهن، أطلقن تلك الإشاعة عن بنفسجة فاسقة شذّت عن السرب، واشرأبت بعنقها حتى ترى ما تراه الشقائق. فماذا كانت النهاية، لقد كسرت العاصفة عنق الملعونة. لذلك تتهمن المتبجّحات، بأنّنا متخلّفات، لا طموح لنا، ملتصقات بالأرض كالأعشاب، وبأن درهم القناعة ليس خيرًا من قنطار الطموح.

الفراشة وقد بدا عليها القنوط واليأس من هذا الجدال العقيم: يكفي الشقائق أنّهن يرين أكثر منكن، أنتن اللواتي لا تشاهدن من الدنيا، أبعد من أرنبة أنفكن.

كانت السلحفاة، قريبة تستمع إلى الجدال الدائر بين البنفسجات والفراشة، فصرخت: من منكن ذكر خرافة السباق بين السلحفاة والأرنب؟

الفراشة: أيتها السلحفاة لقد تكلّمت عن أرنبة الأنف، لا عن السباق!                            ردّت السلحفاة بحكمة وتبصّر على الفراشة: يا صديقتي الفراشة، هوّني عليك، ليس من منطق أبدًا فيما تقولين، لا يمكن حتى في الأحلام أن تسبق السلحفاة أرنبًا، لكن هلوسات البشروقصصهم قد بدأت تؤثر على سلامة عقولنا، ولكنّني أتفهّم منطق كلامك، فأنت تتكلّمين عن أثر الفراشة!

صمتت الفراشة متأمّلة هذا الاصطلاح الجديد ولربما اعتقدت أنّه نوع من الفراش لم تتعرّف عليه بعد، فيما بادرت البنفسجات بالردّ: أيّتها السلحفاة، إنّ الفراشة تريد أن تصبح عاملة إطفاء، ونحن من خوفنا عليها، حاولنا  ثنيها عن هذا القرار الأحمق، لكنّها تشبه ذاك التنين الذي أراد أن يعمل في إطفاء النار. تصوري تلك المهزلة، نافث للنار، سيطفئ النار!

السلحفاة: من حيث المنطق، يصحّ ذلك، فالحديد لا يفل إلّا بالحديد، والنار من حيث المنطق يجب أن تطفئ النار، لكنّني لم أر ذلك في الواقع.

خرجت الفراشة عن صمتها بعد أن تذكّرت بأنّها قرأت عن أثر الفراشة بإحدى وريقات الجرائد التي حملتها الريح من المدينة: لا، لست أتكلّم عن أثر الفراشة، فهو يحتاج إلى زمن طويل ليحدث، وإطفاء النار أي تباطؤ عنه، سيؤدي إلى احتراق الغابة. أيّتها السلحفاة، لقد كنتُ أعني منطق الحديد الذي ذكرته، وإلّا كيف أطفأ التنين النار بناره؟

أذهلت الفراشة البنفسات بعنادها الذي لم يعرفنه بأية فراشة زارتهن من قبل، طلبًا لحبات الطلع والرحيق: أنت فراشة، ولست حديدًا أو تنينًا. أيّتها الهشّة، الأفضل لك أن تبقي في فتنة الرقص الذي حبتك إياه الطبيعة كي تسعدي مخلوقاتها، ودعي إطفاء النار للفيل والدب.

السلحفاة: اسكتن أيّتها الثرثارات الملتصقات بالأرض، ولنسمح للفراشة أن تشرح لنا ماذا تقصد. وبينما كانت السلحفاة تنطق جملتها الأخيرة عبقت الأجواء برائحة الدخان. ومن ثمّ صرخت الشقائق: الغابة تشتعل!

طارت الفراشة مبتعدة عن الجميع، وتوجّهت إلى حيث تظهر ألسنة اللهب. وما إن اقتربت حتّى صرخ الفيل والدب: ابتعدي أيّتها الفراشة المجنونة، ستحرقك النار وأنت لا تستطعين مقاومة انجذابك إليها، هيا ابتعدي.

الفراشة: حتّى أنتما أيّها الدب والفيل! لن استمع إليكما، وسوف يشاهد الجميع ما سأفعله بالنار.

اقتربت الفراشة جدًا من ألسنة اللهب التي بدأت تأكل الشجيرات الصغيرة قرب مجرى النهر، حتى كاد أن يغيبها الدخان.

صرخت البنفسجات بشقائق النعمان: أيّتها الشقيقات، أخبرن عمّ تشاهدن.

الشقائق: الفراشة ترقص في مواجهة ألسنة اللهب.

وماذا بعد: إنّ ألسنة اللهب حائرة بين أن تلحق بالفراشة أو تتقدّم نحو قلب الغابة. لقد حسمت أمرها، وتبعت الفراشة التي تطير بمحازاة ضفة النهر

البنفسجات: بل الريح من غيرت اتجاهها، فدفعت النار إلى النهر.

السلحفاة: اسكتن أيتها المحبطات.

الشقائق: الفراشة ترقص كما لو أنّها ترقص رقصتها الأخيرة. كم رقصها جميل، نكاد نقطّع جذورنا ونلحق بها.

السلحفاة: كم أنا بطيئة، آه، لو كنت من نسل تلك السلحفاة التي سبقت الأرنب. البنفسجات: لقد أصابتك الفراشة بأثر الجنون الذي أصابها.

الشقائق: لقد رمت النار نفسها في الماء كي تلحق بالفراشة، وانطفأت أخيرًا.

النفسجات: اللعنة على سوقنا القصيرة!

السلحفاة: كما تغوي النار الفراشة، أغوت الفراشة النار.

الشقائق: يكمل الفيل والدب إطفاء الجمر الراقد تحت الرماد بعد أن رفعا قبعتا الإطفاء تقديرًا للفراشة التي احترقت أجنحتها، وسقطت على سطح الماء ميتة، وحملها النهر بعيدًا.

كانت هناك بنفسجة صامتة في تجمّع البنفسجات، لكنّها كانت تنظر من خلال دموعها، حزنًا على الفراشة، إلى الأعناق الطويلة لشقائق النعمان.

*قصة لجبران خليل جبران.

باسم سليمان

كاتب من سورية

جريدة القبس الكويتية

https://alqabas.com/article/5872379-%D8%A7%D9%D8%A8%D9%D9%D8%B3%D8%AC%D8%A9-%D8%A7%D9%D8%B7%D9%D9%D8%AD https://alqabas.com/article/5872379-%D8%A7%D9%D8%A8%D9%D9%D8%B3%D8%AC%D8%A9-%D8%A7%D9%D8%B7%D9%D9%D8%AD

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 02, 2022 12:37

December 27, 2021

متتالية العشق؛ من المجموعة القصصية: تمامًا قبلة

الأمير:            

   في البدء كانتْ قامتها، ومن ثمّ، هي التي عبرتِ في الحكاية، تتقافز من عين إلى أذن. وكوني من مرتزقة حروب العشق، انفجر لغم بصيرتي بين يديّ وأطاح بقلبي الذي راح ينطّ وراءها كضفدع محكوم بأملِ أن تقبّله من فمه.

 12\3\2006

الهبوط:

تقضم تفّاحتها قبالتي وتتضاحك مع صديقتها. فأقنص شفتيها بقبلة طائرة. تشهق بشدّة، يصفرّ وجهها، تسعل، تكحّ، تسقط أرضاً والزّبد يحوّط فمها، أهرع إليها، أجذبها إلى أعلى، مزنراً بيديّ بطنها، مكرراً ذلك عدة مرات، تبصق قطعة التّفاح التي كانت قد علقت في بلعومها وكادت تختنق بها. أسحبها نحو المقعد، بينما صديقتها تحضر الماء. تمسكني يدٌ من الخلف، ومن ثم لكمة قاسية توقعني أرضاً أمام قطعة التّفاح، فأتلمّس تفّاحة رقبتي.

13\3\2006

مثل: قد أفهمكِ، عندما أنتهي من حبّكِ، لأنّ بطّيختَي العقل والقلب، لا تُحملان بيد واحدة.

13\3\2006

الخندق:

تطوّقني بيديها وساقيها، عندما نمارس الحبّ، وفي الصّباح، أجدها تطوّقني من ظهري بيديها وساقيها، كجنديّ يحمل رفيق سلاحه المصاب.

14\3\2006

ورأى اللّه أنّ الحبّ جميل:

 وحدث أنّني احتلمتُ، فدفع الزّمنُ قلبي لي، كأنّني يتيم سُلّمت له أمواله ما إن نضج، وهكذا صرت تاجراً ببضاعة العشق، فرحت أصيح على قلبي:( تازا وكبير يا قلب، تازا وكبير يا قلب)، فتتجمهر حولي النّساء، يغدقن عليّ بتزاحمهن، فتلكزني تلك بنهدها، وأخرى بوركها، وهذه تقترب حتى تكاد توقعني أرضاً، وكل ذلك كي يتساءلن كم السّعر؟    – ثمنه غال، لكن نبضه فيه!

تأخذه واحدة منهنّ وتقول: إنّه ينفع كقرط، فتقاطعها أخرى: كليفة لفرك الجسم في الحمّام، لكنّهنّ في النّهاية يبتعدن، ويهززن أردافهن ساخرات من شاربي المخطوط بالشّحوار.

 15\3\2006

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 27, 2021 11:50

December 26, 2021

بيتُ القلب!قصتي في مجلة الرافدDEC 26 2021:

(قلبي على ابني، وقلب ابني عَ الحجر)؛ هذا ما كانت تردّده الأم بتواتر مجنون، عندما يتفجّر صديد ذاكرتها، مسترجعةً آخر كلامٍ جرى بينها وبين ابنها، قبل أن يلتقط بندقيّة أخيه الذي عاد شهيداً من غربة الحرب، ويهاجر إليها هو الآخر.

لم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتّى رجع ابنها الثاني شهيداً من غربة الحرب، فأزهر شتاء حزنها. لقد منحتها حربٌ قديمة نعت الأرملة، وها هي الحرب الجديدة تتوّجها بصفة الثكلى.

كانت تُرى مشبوحة بين قبريْ ابنيها من الصباح إلى المساء، كجسر على نهر جفّت ضفتاه، فنادراً ما تُلحظ في بيتها العتيق الذي أكله صدأ الحزن والقهر، ولم تزره الأفراح منذ زمن طويل، إلى أن بزغ صباح ليس له من شبيه، ظهرت فيه الأم، أمام بيتها العتيق، تعلّق ما يشبه قفصين للعصافير، ثم غابت بقية اليوم. وفي صباح اليوم الثاني كان هناك عصفوران من طيور الكنار يغردان على الشرفة.

استنكر أهلُ القرية تصرفاتها؛ لكنّهم تعلّلوا بمصابها الكبير، فأيُّ عقلٍ يحافظ على اتزانه بعد ما حدث لها! وأي قلب لا يتهدّم بعد ما جرى! لكنّ الفاجعة الكبرى كانت، عندما علموا، بأنّ قبري ولديها قد نُبشا! ومع ذلك لم تُظهِر أيّ هلعٍ، بل على الضدّ من ذلك، كانت قد ازدادت نشاطًا وعافية، وعادت الحياة إلى بيتها، وكأنّه مملوء بأحبّتها.

كان للأمّ الثكلى رفيقةُ عمرٍ ثكلى مثلها، فأتتها مستفسرة عن ما استجدّ من حالها! لم يرشح عن زيارة الجارة، ما يبدد حيرة أهل القرية، باستثناء الابتسامة التي علت وجه الجارة. وفي صباح اليوم الثاني للزيارة ظهر قفص للعصافير أمام بيت الجارة، يغرد فيه كنارٌ، عكّرت صفو صوته العذب أخبارٌ عن نبش قبر ثالث.

تكرّر نبش قبور الأبناء والأزواج الذين قتلتهم الحرب، وانتشرت أقفاص العصافير من كلّ الأنواع أمام البيوت؛ من أبي الحنّاء، والدوري، وبلبل العرب، حتّى الغربان والبوم وجدت لها مكاناً في تلك الأقفاص.

لم يرض الرجال أن تُنتهك حرمات موتاهم، وتراب مقبرتهم، فتناوبوا على حراستها في النهار والليل، إلى أن لحظوا شبحين في ضوء الفجر يجولان في المقبرة. هجموا عليهما وقيدوهما، وعندما كشفوا عن وجهيهما؛ أصابتهم الدهشة، وعقدت ألسنتهم الصدمة؛ كأنّهم رأوا منكراً ونكيراً. لم يكن الشبحان إلّا الأمّ التي ابتدأت قصّة وضع الطيور في أقفاص صدرية أمام بيتها، وأمّا الأخرى، فقد كانت أمّ ثكلى، لم يمضِ إلّا سنة ونهار واحد على موت ابنها في الحرب.

صرخت الأمّ بهم: وماذا تريدون من أمٍّ ثكلى، أيّها الرجال؟ إلّا أن تسمع دقات قلب ابنها الذي رافقها منذ لحظة تكوّنه في بطنها إلى أن أخرست هذه الحرب عصفور حياتها، فماذا بقي لها إلّا قفصه الصدري، لتضع عصفوراً يغرّد لها، فيؤنسها في حزنها، اذهبوا إلى الجحيم أيّها الرجال، لقد تركنا لكم الرؤوس والأرجل والأيدي، فادفنوها، لكن من حقّنا كأمهات أن نأخذ بيت القلب.

منع الرجالُ أن يُنبش قبر الابن، فعادت الأم بلا روح إلى بيتها، تمسح دموعها بأقفاص الطيور الموجودة على شرفات أمهات ثكلى مثلها، إلى أن استيقظت، فوجدت قفصاً صدريّاً، وكناراً يُغرد فيه، لقد فعلها زوجها، ونبش قبر ابنه، وأخذ حصّته من عظامه، وأعطاها حصّتها.

طار الخبر في بلاد الحرب، وامتلأت بيوت البلاد بالأقفاص الصّدرية للأبناء والأزواج والزوجات والبنات، الذين قتلوا في الحرب. وبدأ صوت زقزقة العصافير ينافس صوت الحرب حتى أسكتها. وفي يوم السّلام فتحت الأمهات والآباء والأبناء أبواب الأقفاص الصّدرية؛ كي تطير القلوب/ الطيور في سماء البلاد. رفرفت الأجنحة، وامتلأت السماء بطيور من كلّ الأنواع. حمل الآباء والأمهات والأبناء الأقفاص الصدرية وذهبوا بها إلى القبور. أعادوا الموت إلى المقبرة، وبعد أن انتهوا، راقبوا بشجن أقرب إلى الحبور، الطيور وهي تتفرّق في سماء البلاد.

https://arrafid.ae/Article-Preview?I=ij1LOYk2410%3d&m=5U3QQE93T%2f0%3d
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 26, 2021 13:38

December 24, 2021

December 23, 2021

December 20, 2021

في بعض الأصول الفكرية للعالم الافتراضي – مقالي في ضفة ثالثة – باسم سليمان

حلم الفيلسوف الصيني جوانغ زي بأنّه فراشة، وعندما استيقظ لم يعد يدري؛ هل هو صاحب الحلم أم أنّ فراشة حلمت بأنّها جوانغ زي؟ إنّ التشكيك بعيانية وحقيقة العالم الذي نحيا فيه، ليس وليد لحظتنا الحضارية الراهنة، التي تتسارع فيها الاختراعات، ومعها تختلط الحدود بين ما هو واقعي حقًا، وما هو تخييلي/ افتراضي، وليس الميتافيرس الذي أعلن عنه مؤخّرًا(1) إلّا خيط إريادن الذي سيقودنا عبر متاهة وجودنا، يقينًا وشكًّا.

تعود كلمة افتراضي/Virtual(2) إلى القرن الرابع عشر ميلادي، حيث تم استخدام الكلمة للإشارة إلى قدرة شيء ما لا يمتلك وجودًا فيزيائيًا حقيقيًا على تمثيل أمر واقعي وملموس. وقد بدأ استخدام هذا المصطلح في مجال البرمجيات من خمسينات القرن الماضي للدلالة على التقنيات غير المتواجدة بشكل فعلي ضمن أجهزة الحاسبات لكنّه موجود في البرمجيات، كالذاكرة الافتراضية للكومبيوتر. وبهذا المعنى تم إضفاء الافتراضي على الأشياء التي ليس لها وجود مادي، ولكنّها تُدرك كالتقنيات المعنية بإنشاء محاكاة للواقع الطبيعي بشكل جزئي أو كلّي، وذلك باصطناع واقع جديد، وغمر الفرد كليّة فيه عبر نظارات الواقع الافتراضي، وما يلحق بها من متمّمات تسمح بتفاعل الحواس الخمس مع هذا الواقع الجديد.

وقبل أن نخوض في الأصول الفكرية للواقع الافتراضي عبر تاريخ الثقافة الإنسانية، لا بدّ من التمييز بين أنماط ثلاثة للواقع بالاستناد إلى تعريف (الافتراضي) المذكور أعلاه، فالأول: هو الواقع الذي يملك وجودًا فيزيائيًّا ويمثل شيئًا محسوسًا ومُدركًا. والثاني: هو الواقع الافتراضي الذي ليس لو جود مادي، لكنّه مُدرك وله تأثير بالمحسوس. والثالث: الواقع المعزّز، وهو حدّ وسط  بين الواقعي والافتراضي، إذ يقوم على إضافة أشياء افتراضية على الواقع الطبيعي كما في لعبة بوكيمون غو(3) وفي مجالات الديكور، فالواقع المعزّز؛ هو واقع طبيعي مضاف إليه بعض الأجزاء الافتراضية غير المحسوسة لكن المُدركة.

تُثار الآن الكثير من الأسئلة عن المخاطر المترتّبة على الميتافيرس، ولربما أهمّها يكمن بأنّنا سنقطع علاقتنا مع الواقع الحقيقي، وسيتحكّم بنا العالم الافتراضي وفق رؤى ديستوبية، لكن هناك في المقابل نظريات وأطروحات فكرية سابقة على الميتافيرس، ترى في هذا العالم الواقعي الذي نحيا فيه مجرد محاكاة للعالم الحقيقي، أو أنّ الواقع الذي ندركه ليس إلّا خدعة من شيطان شرير! وهنا يأتي الميتافيرس -إلى جانب مخاطره- كإيماء متهكّم على صلابة اعتقادنا بعيانية الواقع الذي نحيا فيه، ويدعونا إلى إعادة التفكير بمسلّمات وجودنا. إنّ التأمّل في الشريحة التي ستزرع في أدمغة البشر من قبل شركة Neuralink المؤسّسة من قبل إيلون ماسك وآخرين، ستضع الحواس الخمس أمام منافسة صعبة، فلقد كانت الحواس الخمس، هي المدخلات الطبيعية التي يقوم عليها العقل البشري لإدراك واقعه. والآن سيرى من دون أعين ويسمع من دون آذان…، لذلك من سيتحكّم بمدخلات هذه الشريحة، سيحدّد الواقع الذي يريد، لا الشخص الذي يفكّر، أو يدرك هذا العالم. إنّ القلق الوجودي الذي عرضناه آنفًا، قد اعترى الإنسان منذ القدم، فقد لاحظ كيف تُخدع ملكة التفكير ببساطة! لذلك ليس الميتافيرس، ولا شريحة إيلون ماسك ديستوبيا محضة، بل السؤال الوجودي وقد ارتدى لبوسًا جديدًا.  

يقدّم لنا أفلاطون في أطروحة الكهف(4) تصوّرًا عن كيفية إدراكنا المغلوط للحقائق والواقع، عبر قصّة يعرض فيها أناسًا مقيدين منذ فترة طويلة في كهف، بحيث لا يستطيعون فكاكًا، أمامهم حائط تظهر عليه أخيلة أناس وحيوانات وأشياء تمرّ خلفهم. إنّ إدراك هؤلاء الأناس للحقائق مرتبط بما يرونه من ظلال، فهي بالنسبة لهم حقائق مطلقة، لكن لو تم تحرير أحدهم وسوقه إلى العالم الحقيقي، سيصدم بما سيشاهد، وسوف يأخذ وقتًا كي يدرك الفرق بين الواقع الحقيقي وعالم  الظلال الذي كان يحيا فيه. وإذا عاد إلى أصحابه المسجونين في الكهف لسوف يرفضون مقولته الجديدة عن الحقائق والوقائع ويتهمونه بالجنون. كانت قصة أفلاطون تعبيرًا عن عالم المثل والحقائق المطلقة مقابل عالم المحاكاة التي نعيش فيه، فالمحاكاة هي الظلال التي يشاهدها المسجونون، وعالم المُثل هو الذي عرفه السجين المحرّر. إذن نحن نعيش وفق أفلاطون في واقع مزيف علينا التحرّر منه بإدراك عالم المُثل. هذه الرؤية قد تم الاستناد إليها في سلسلة أفلام المصفوفة/ The Matrix من تأليف وإخراج الأختين وتشاوسكي، والذي تدور قصته عن الهكر “نيو” الذي يريد أن يعرف ما هي المصفوفة، ليكتشف أنّ عالمه مجرد محاكاة، فيما الواقع الحقيقي شيء آخر. تتقاطع رؤية أفلاطون مع الأختين وتشاوسكي ويطرحان أسئلة جوهرية عن الكينونة والوجود: ما هي الحقيقة وكيف أعيها؟ وما هو الوجود وكيف أعاينه؟ وكيف نعرف أنّنا لسنا في محاكاة، وأنّ ما نعرفه عن الواقع هو مجرد محاكاة لواقع آخر! إنّ الديستوبيا التي قدّمها أفلاطون ومن بعده الأختين وتشاوسكي تكمن بأنّ أناس عالم الكهف والماتريكس ليسوا في شكّ بواقعهم أبدًا، ولو لم يحدث أمر من خارج المحاكاة والماتريكس، لن يكون باستطاعة أحد ما أن يكتشف الخديعة المحاكاتية للواقع الذي يحيا فيه.

هذه الأسئلة  والهواجس قد طرحها ديكارت(5) وناقشها باستفاضة، فقد افترض أنّ هناك ربّا أو شيطانًا قد أوحى إلينا بكلّ أحاسيسنا وإدراكاتنا وتصوراتنا عن هذا العالم: “لنفترض أنّ هناك ربًّا، له مطلق القوة، وخلقني، كما أنا عليه، قد سيطر خلال وقت طويل على عقلي بشكل راسخ، فما يدريني، إذن، لعله قضى بألّا تكون هناك سماء أو أرض، أو أي شيء ممتدّ، أو شكل، أو مقدار، أو مكان، وقد هيأ في نفس الوقت، أن يظهر في داخلي إدراك هذه الأشياء، واقتناع بأنّها لا توجد بأي طريقة أخرى غير ما أدركه”. لم يبق أمام ديكارت كي يتيقن من العالم الذي يحيا فيه، إلّا أن يقول كوجيتوه المشهور: “أنا أفكر إذن أنا موجود” وكأنّه بمقولته هذه يضع إشارة استفهام كبيرة أمام كل معطيات الحواس والواقع. وكأنّ شكوك ديكارت تصبّ في تداعيات شريحة إيلون ماسك!

حلّل علماء النفس مفهوم الوهن؛ وهو شلل يصيب الجسد أثناء نوم حركة العين السريعة، ولكن لماذا نصاب به؟ لأنّه احتراز تطوري كي لا نؤذي أنفسنا خلال الأحلام، لكن قد يفشل هذا الاحتراز، ومن الأمثلة على ذلك المشي خلال النوم. لنتصوّر أنّ العالم الواقعي الذي نحيا فيه، هو حلم لا يوجد فيه تلك الاحترازات في نوم حركة العين السريعة، فما الذي سيحدث؟ عندها لن نميّز بين الحلم والواقع وكأنّنا أمام مقولة جوانغ زي.  قام عالم النفس الفرنسي ميشيل جوفيه(6) في خمسينات القرن الماضي بتجربة ذلك على مجموعة من القطط بعد أن قام بتدمير موانع نقل الإشارات الدماغية إلى الجسد، فلا يصيبها الوهن عندما تحلم. راقب جوفيه قططه التي كانت تتحرّك خلال أحلامها وتكمن لفرائسها وتقفز وتهجم وتعيش حلمها كأنّها مستيقظة. لم تستطع القطط إدراك الفارق بين الحلم واليقظة، وهذا هو حال بعض مرضى باركنسون الذين يتأثرون باضطراب سلوك نوم حركة العين السريعة، فينهضون من فراشهم وهم نيام ليمتثلوا لأحلامهم وكأنّهم مستيقظين. أليست أحلام قطط جوفيه واقعًا افتراضيًّا آخر، بل واقعًا حقيقيًّا، لولا الوهن الذي يصيبها في نوم حركة العين السريعة.

بعد أن قدّمنا ثلاثة نماذج تقودنا إلى التشكيك بالواقع العياني الذي نعيشه، فمن الطبيعي أن نتساءل عن الكينونة البشرية التي تسكن هذه العوالم. إنّ الولوج إلى العالم الافتراضي سيكون من خلال أفاتار/Avatar صورة ثلاثية الأبعاد عن الشخص تعبّر عن هويته وشخصيته الجسمية والنفسية، وبها سيتفاعل مع محيط عمله وأصدقائه وفضائه المكاني والزماني في الواقع الافتراضي، وليس للصدفة المحضة بأن تكون كلمة أفاتار(7) تعني تجسّد كائن علوي في العالم السفلي، فالأفاتار هو تجسد افتراضي للشخص أو محاكاة له في العالم الافتراضي.  إنّ الوالجين إلى الواقع الافتراضي سيكون لهم حرّية الاختيار –مبدئيّا – في الظهور بأي صورة بشرية يشتهون أن يكونوا فيها، إلّا أن الأسئلة حول هذا الأفاتار، وما سيرتبه من آثار نفسية على الشخص في الواقع الحقيقي بدأت بالظهور قبل أن يطرح زوكربيرغ فكرته. إنّ فكرة الأفاتار والآثار الجانبية التي ستترتب على التناقض بين صورة الشخص في العالم الافتراضي وصورته في العالم الواقعي، كان قد عالجها أوسكار وايلد(8)، من خلال قصة دوريان جراي الذي كان شابًا معجبًا جدًا بوسامته. وعندما رسم له صديقه لوحة، تمنّى أن تستقبل اللوحة عوامل الزمن بدلًا من وجهه؛ وحدث أن تحقّقت أمنيته. خبّأ دوريان اللوحة عن الأعين، وكان في كل يوم يطالع وجهه في المرآة، يرى نفسه شابًا جميلًا لم تغيّره السنون، إلى أن دخل بعد مدة طويلة من الزمن إلى المخبأ الذي أودع فيه اللوحة التي رسمها له صديقه. فكانت المفاجأة الصادمة بأنّ رسمه في اللوحة قد نالت منه السنون وعوادي الزمن، فيما ظلّ شابًا في الواقع وهكذا صدمته الحقيقة المرّة بأنّ شبابه هو مجرد خداع، فغضب من نفسه وكسر المرآة وطعن اللوحة. في الصباح وجد الخدم رجلًا عجوزًا مطعونًا ملقًى على الأرض، تعرّفوا فيه على سيدهم، وإلى جانبه لوحة رسمت له في شبابه، عندما كان في أجمل أيامه.

إنّ رواية وايلد التي صدرت 1891 قد أثارت بشكل مضمر ورؤيوي مستقبلي الأسئلة الأخلاقية والنفسية عن الهوية والشخصية البشرية التي سيثيرها الأفاتار في الواقع الافتراضي والواقع العياني، فأي من الشخصيات التي سيظهر بها الشخص في عوالمه الافتراضية ستكون هي المعتمدة في معاملاته الواقعية والافتراضية، وليس هذا فقط، فقد رتّبت المرشحات والفلاتر المستخدمة في الانستغرام -على سبيل المثال- والتي تعتبر من ضمن الواقع المعزّز آثارًا سلبية جدًا على المستخدمين، فالصورة الحقيقية قد توارت خلف الفلاتر، وعليه هل ستكون النتيجة بأن نصبح كدوريان جراي بعد العودة إلى الواقع نطعن واقعنا الذي لا يتوافق مع أفاتارنا؟

إنّ الأطروحات الفكرية التي عرضناها أعلاه، من كهف أفلاطون، كأمثولة تعلّمنا كيف نقارب القناعات القارة وكيف ننقضها، وشكوكية ديكارت التي تدفع بعقلنا إلى مساءلة معطيات الحواس والتشكيك بها، بالإضافة إلى قطط جوفيه التي رفع عنها وهن نوم حركة العين السريعة، وأفاتار أوسكار وايلد، ليست مجرد تخييل بشري واختبارات نفسية، بل كشقًا لمقدار الشكوك التي تعتري الإنسان تجاه وجوده وكينونته وسعيه الحثيث نحو يقين لا ينال منه الشكّ. لاريب أنّ الواقع الافتراضي سيفرض على الفكر البشري إعادة طرح الأسئلة الفلسفية والثقافية والقانونية والسياسية والعقائدية أيضًا، فنحن الآن أمام ماورائيات، الميتافيزيق والميتافيرس، وكلاهما يقدّمان للإنسان وجودًا لا فيزيائيّا، لكنّه مدرك على نحو خاص، أسواء كان على صعيد الإيمان أم على صعيد الافتراض، لكن هذا الواقع (الخاص) الذي نضعه بين مزدوجتين، سيلعب دورًا جذريّا في واقعه العياني. ومهما يكن ما سيقود إليه الميتافيرس، من تعاضد مع الواقع العياني أو تعارض، ستظل أمثولة كهف أفلاطون حاضرة في كلّ طرح علمي جديد بالسؤال التالي: ما الذي نعرفه حقًّا؟

المصادر:

https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%D9%8A%D8%AA%D8%A7%D9%D9%8A%D8%B1%D8%Bhttps://www.etymonline.com/search?q=virtualhttps://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A8%D9%D9%D9%8A%D9%D9%D9_%D8%BA%D9الجمهورية، المدينة الفاضلة للفيلسوف أفلاطون، صادرة عن دار الأهلية، عمّان 2009.التأملات في الفلسفة الأولى، ديكارت، إصدار مكتبة الأنجلو المصرية 2009الحيوان الحكّاء، جوناثان غوتشل، منشورات تكوين، 2018https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A3%D9%D8%A7%D8%AA%D8%A7%D8%B1صورة دوريان جراي، أوسكار وايلد، تعريب لويس عوض، التنوير 2014.

باسم سليمان

https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/herenow/2021/12/20/%D9%D9%8A-%D8%A8%D8%B9%D8%B6-%D8%A7%D9%D8%A3%D8%B5%D9%D9-%D8%A7%D9%D9%D9%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%D9%D8%B9%D8%A7%D9%D9-%D8%A7%D9%D8%A7%D9%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%B6%D9%8A

خاص ضفة ثالثة

[image error]
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 20, 2021 07:41

December 6, 2021

اليقين ضوءٌ متجمّد – باسم سليمان

زعموا
أنّ الدموع بلا لون 
وزعمتُ 
أنّ لها زمرًا كالدم
فالعين الزرقاء لا تبكي إلّا على خدِّها
والعين الخضراء تبكي على الذين 
عن يمينها ويسراها
والعين البنية، عين أم
والسوداء والبيضاء
تبكي على السّلم الموسيقي
وزعموا أنّي كاذب
ودمعي دمعُ التماسيح
وزعمت أنّني مسمول العينين.

****

زعموا أنّه في بدء الزمن
لم تكن من طيور تهاجر
كلّ طير يعيش ويموت
على مرمى رفّة جناح 
من مسقط ريشه
لكن
منذ أن اكتشف اﻹنسان الحرب
صارت الطيور سعاة بريد
بين الأرواح واﻷجساد
وزعمتُ أن اﻷمر معكوس
وأنّ اﻹنسان حاكى الطيور
لأنّ قصّة تقول:
إنّه في بدء الزمن
كان للإنسان أجنحة
استبدلها بيدين
تقصر عن الذي تراه العين.

****

زعموا 
أنّ السّراب الابن الضّال للماء
لا هو فرات
ولا هو أجاج
وزعموا أنّ الغرقى
يشربون منه قبل الغمام
لكن 
إنْ عاد أحدهم
كسروا له 
الفخّار المسمّن بالغياب
وزعمتُ أنّ السّراب 
نافذةٌ في المرآة.

***

زعموا 
إنْ متنا 
طار لقلقٌ ذكرٌ من قمصاننا
وزعموا أيضًا
أنّ لقلقًا أنثى 
تأتي بنا عندما نولد 
وزعموا 
أنّ الحياة تمضي بين لقلقين 
وزعمتُ، ليس من شيء، 
غير القلق.

12/10/2016

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 06, 2021 13:46

باسم سليمان's Blog

باسم سليمان
باسم سليمان isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow باسم سليمان's blog with rss.