مسرحيّة الجثّة… فصل من روايتي: جريمة في مسرح القباني – باسم سليمان
الشّخصيات: الجثّة، أمّا بقيّة الشخصيات من الطفل إلى المرأة إلى العجوز…، فهي حالات تتلبّس الجثة في اعترافها الأخير. تغيّر الجثّة نبرة الصّوت وفق الشّخصية التي تتقمّصها: الطفل / المرأة/ العجوز، بالإضافة لتغيير حدّة الصّوت بين الأسئلة والأجوبة التي تعرضها على نفسها.
المكان: داخل القبر
الموسيقى: لا يوجد موسيقى! فالموسيقى، هي حركة الممثِّل، وصوته، وحفيف جسده، وهمهمات الجمهور أو سعالهم، أو رنين هواتفهم، أو صوت خروجهم نتيجة الملل من العرض، أو عدم فهمه. من الممكن الاستعاضة عن عدد من الجمهور بوضع “منكانات” لرجال، ونساء، وأولاد يظهرون بجسدهم البلاستيكي، بعضهم كامل الجسد، وبعضهم ممثَلاً بجذوع علوية، أو سفلية.
الفصل الأول والأخير/ المشهد الأول والأخير:
تظهر مساحة مضاءة وسط المسرح، الإضاءة من الأعلى، والجثّة ملفوفة بكفن كأنّها مومياء، وخلفها في آخر المسرح من الجهتين اليسرى واليمنى يقف الملاكان، منكر ونكير، وتسلّط عليهما إضاءة خافتة مائلة، وهما يضعان رمزي المسرح: الوجه الضاحك والوجه الباكي.
تبدأ الجثّة بفضّ الكفن؛ لتخرج منه كما تولد الفراشة من الشّرنقة. قماشة الكفن البيضاء ملصق عليها ورق أبيض. تخرج الجثة من الكفن تلبس لباساً أبيضَ، ووجهها مصبوغ باللون الأبيض، تلقي الكفن جانباَ وتحاول أن تبدأ بالكلام إلّا أنّ قلماً في فمها يمنعها من النطق، تبصقه وتبدأ بالثرثرة.
تسعل وتكحّ بشكل متكرّر، وتهرش جسدها بشكل ظاهر ومكثف.
الجثّة: الظّاهر أنّ رئتيّ مملوءتان بالغبار ككيس مكنسة كهربائية، حتماً هذا من عدم التنفّس لأنّه من النَفْسِ، ولقد غادرتني نفسي مع دمائي، فمن أنا؟ أنا الخزف الذي يعود تراباً والدليل الغبار الذي في رئتيّ! (تنفض جسدها من الغبار)، وما هذا القلم الذي كان في فمي؟ آه، إنّه حفنة التراب!
تصمت قليلاً وتدوّر رأسها في المكان، ومع الإضاءة السّاقطة من فوق تبدو حولها هالة من الغبار.
الجثّة: هذا القبرُ واسعٌ، فألٌ حسنٌ، فلو كان ضيقاً، ضاغطاً عليّ؛ لكنتُ في وضعٍ سيّئ. هل أستبشر خيراً لمرّة واحدة في حياتي؟! أوه، أنا ميّتُ، إذن لتكن الجملة: هل أستبشر خيراً لمرة واحدة في مماتي؟!
تنظر باتجاه الكفن، تقترب منه، تمسكه بيديها، وتبدأ بنزع الأوراق عنه وهي تهرش جسدها.
الجثّة: قلمٌ، أوراقٌ بيضاء للكتابة، بدأتُ أفهمُ، آه، أدركت المغزى تماماً، يجب أنْ أدوّن سيرة حياتي الذاتية هنا، فعلى ما يبدو أنّهم في الآخرة يحبون ذلك.
تنظر للخلف، فتجد الملاكين منكر ونكير.
الجثّة: الملاكان العظيمان، منكر ونكير، يا أهلاً وسهلاً، أفهم أنّكما غير مخوّلين بالكلام؛ لكي لا تؤثرا على شهادتي، يحيا العدل.
يتكلّم أحد الملاكين: وليكتب كاتبٌ بالعدل.
تجلس الجثّة على الأرض، تضع الأوراق أمامها وتجرّب أنْ تكتب.
الجثّة: هذا صحيح (تصمت قليلاً) لو كان هناك آلة تسجيل لكان الأمر أفضل (ثم تنظر إلى الأوراق وتصيح) إنّها مفاجأة سارة، فكلماتي قد كُتِبَت على الأوراق لوحدها (تضحك) أظنّ بيل غيتس لم يصل لهذه التقنية، وما دامت الكلمات تُكتب لوحدها، فهذا أمرٌ جيدٌ جداً؛ فلا يصاب القارئ بعدي بجلطة قلبية من كثرة الأخطاء الإملائية.
تعاود النّظر إلى الملاكين.
الجثّة: ألا تيْبس أجنحتكما من هذه الوقفة الطويلة؟ سأبدأ الآن، لا تقلقا، أعرف أنّ وراءكما أعمالاً كثيرةً، أعتذر أيّها المبجّلان.
تقف، تتمشّى حول كفنها والأوراق، تضع يدها على بطنها، تصرخ من الألم.
الجثّة: آه، أه، آخ … إنّها الطعنات التي متُّ بسببها، لكن أين الدماء؟ بالتأكيد نزفتُ حتى الموت، وإلّا لم أكنْ هنا وعلى ما أذكر قبل أن ينطفئ ضوء عينيّ، رأيتُ فيما يشبه الكابوس قطةً تلحس الدّماء المتجمّعة تحتي ثم هربتْ بعدما سمعتْ صوتَ كلبٍ في الجوار، للحقيقة لا أعرف إنْ لعق الكلبُ من دمائي، كنتُ قد متّ وقتها.
تصمت وتتحسّس مكان الطعنات، مع استمرارها بالهرش والحكّ.
الجثّة: هذا الغبار يسبّب الحكّة، إنّه أشبه بالقمل والبراغيث (تصمت فيما تهرش جسدها مع تأوهات تشي بالمتعة) هذه الطعنات تشبه الشفاه ينقصُها لسان وتتكلّم أو تُقبّل، آه، نسيتُ، اللسان قطعته السكين، سكين قاتلي كانت حادّة، دخلت بسلاسة كأنّ بطني قالب من الكاتو، لم أحتفل يوماً بعيد ميلادي.
الجثّة تغني: happy birthday to you ، happy birthday to you .
الجثّة: هذا لا يعني أنّني لم أولد، فموتي دليل على ولادتي، الأفضل أن أرنّم: happy death to me، happy death to me، اللعنة! هذه الترنيمة تحتاج لترجمة.
تنظر للصفحات الملقاة على الأرض، تبتسم.
الجثّة: هذا ما أسميه الترجمة الفورية (تقرأ): موتٌ سعيدٌ لي، موتٌ سعيدٌ لي.
تقف وتعاود المشي في المساحة المضاءة وهي تتلمّس بطنها.
الجثّة: يوم ولادتي كان تقديرياً، هكذا كتبوا ملاحظة في إضبارتي في الميتم، وتسميتي باليتيم تصحّ جوازاً في حالتي، فأنا لقيطٌ واللّقيط يعني أنّه ليس يتيماً وليس عجيّاً، المهم أنا يتيمٌ. هذا هو التوصيف القانوني، فالميتم بيت اليتامى.
توقفت في مكانها، وبدأت بتقليد صوت الطفل، تضع أصبعها في فمها.
الجثّة: لن ينجح الأمر، فلا ذاكرة شخصية لي من ذلك الزّمن والذّاكرة الورقية المسجلة في إضبارتي لا تذكر شيئاً عن طفولتي. يبدو عليها الشّرود والتحديق في نقطة ما خلف الجمهور.
الجثّة: كان عجوزاً، والعجوز يجب أن يكون جدّاً! يجلس على بوابة الميتم، واليتيم تستطيع أن تشتريه بقطعة حلوى، وما المانع أن يلعب العجوز قليلاً، فكما لعب العجوز قليلاً، لعبت أنا كثيراً عندما كبرت.
تجثو على الأرض.
الجثّة / الطّفل: (تغيّر صوتها كصوت الطفل) لا يا جدّي لا تفعل ذلك، أمّي ستضربني.
الجثّة / العجوز:( تغير صوتها كصوت عجوز) لن تعرف، اصمتْ، كُلْ الحلوى واخرس.
الجثّة: أوه، عليّ أن أنتبه من الرّقابة، فلن تجيز ذلك؛ سأتحول إلى التلميح، وهنا خطأ تسلسلي وغير منطقي، الأمّ غير موجودة، فكيف ذكرتها؟ أنا مجرد لقيط كنت أعيش في ميتم! إذن، واضحة جدّاً أيّها الأحمق (مخاطباً نفسه!) كلّ طفلٍ يفترض وجود أمّ له حتّى لو لم تكن موجودة، وكان يجب عليّ أنْ أخيف البوّاب العجوز/الجدّ بأحدٍ ما، والأمّ هي الأنسب.
تغيّر الجثّة نبرة الصّوت بما يتلاءم مع صيغة السّؤال والجواب.
تحرّك قسمها الأوسط بطريقة موحية جنسياً.
الجثّة:( تتكلّم بصيغة الحكواتي) كان طفلاً أسود الشَّعر، بني العينين، ضعيف البنية، يثير الشّفقة والشّهوة بآنٍ واحدٍ. للشّهوة جذر في الشّفقة. يشبهني عندما كنتُ في عمره، أجده دوماً على سلّم الدرج في انتظار أن تعود أمّه من العمل، فهي مطلّقة، هكذا أخبرني، وحدّثني أنّها تجلب رجالاً آخرين بدلاً من الــــ بابا إلى البيت، يعطونه الحلوى، ويغلقون عليه الباب، ويتركونه وحيداً، وسألني: لماذا لم تجلبكَ أمّي إلى البيت!؟ لم أجبه وقلت له: أنتَ الآن عندي ونستطيع أنْ نلعب دون أن يغلقوا عليك الباب.
تتلمس قفاها، وتبدو علامات الوجع على وجهها، وتستمر بهرش جسدها، وحكّه كالمصاب بالجرب.
الجثّة/ الطّفل: عمّاه، لا تفعلْ، توقفْ، هذا يؤلم آخ، آخ، هذا عيب، آخ!؟
تنهار على الأرض وتبدأ بالنشيج، ثمّ يرتفع صوتها ليصل حدّ الصراخ، فينتفض جسدها انتفاضات متتالية كأنّه يتلقى ضربات سكين.
الجثّة: توقّف عن الشّكوى أيّها الطفل، وإلا لن أكون لك عمّاً، ولن أجلب لك الحلوى ولن ألعب معك، لا تخف، سأعود معكَ إلى البيت عندما تأتي أمّكَ.
تستدير، تمثل أنّها تفتح باباً وتغلقه خلفها.
الجثّة: كلّنا نعرف ماذا تفعلين أيتها العا…!
الجثّة / المرأة: ماذا تريد وما شأنك أنتَ؟
الجثّة: أريد حصتي، وإلّا لن تجدي نفسكِ إلّا مطرودة من هذا البيت.
يحصل كلّ ذلك أمام الطفل، يظهر ذلك من نظرات الجثّة، وحركات يديها التي تبدو كأنّها تلعب بشعر طفل شبح.
الجثّة: ها قد جئتُ معكَ والآن أمّك لن تضربك! لن تفعلي، أليس كذلك؟
الجثّة / المرأة: (تغيّر نبرة الصّوت كأنّها امرأة) لا، لا، لن أفعل، ولكن دعني أدخله إلى الغرفة الثانية.
الجثّة / الطّفل: ألم تخبرني أنّكَ لن تدخلني إلى الغرفة!؟
الجثّة: نعم وعدتكَ بذلك ولكنّ أمور الكبار لا يجب أن يشاهدها الصّغار؛ عندما تكبر ستعرف! هيا إلى الداخل.
الجثّة / المرأة: هيا يا أمّي، ادخلْ إلى الغرفة.
الجثّة: هذه المرأة كالخرقة من كثرة ما عبثت بها الأصابع، إنّها لا تصلح لمسح بصاقٍ وما أنا إلا بصاق.
يبدو أنّ الجثّة تذكرت شيئاً.
الجثّة: لم يدفع العجوز ثمن المشروب منذ زمن، وعطشي يزداد. أنت أيّها العجوز، ياحارس الميتم، أمازلت تخبئ نقودك عنّي، أولادك تركوك هنا، وحيداً، أليس هذا صحيحاً؟ هم لم يتركوك (تضحك بسخرية) أنت لم تنجب، لذلك تبنّيت يتيماً، بالأحرى لقيطاً؛ هو أنا، لتقضي شهوتك به. زوجتك الشّمطاء لم تستطع تحمّل وسخك، فهربتْ! لكنّني من بقي، وتحمّل حقدكَ على الدنيا، هيا ادفعْ لابنكَ المُتبنى بعض النقود، هيا أيّها العجوز عندما تموت لن تأخذ معك إلّا عملكَ الصّالح (تقهقه) هيا، عليك اللّعنة.
تصفع الهواء أمامها بيدها وكأنّها تضرب العجوز.
الجثّة: اللعنة لقد متّ قبل هذا العجوز، أوه، وليس لدي أعمال صالحة.
تلتفت نحو الملاكين وتكلّمهما.
الجثّة: لن ألعن قاتلي، هو لم يكن يقصد ذلك، هو سارق وليس قاتلاً، لكنّه قتلني قبل أن أتمكّن من ممارسة التّوبة، آه، لقد حرمني من التّوبة وهذه أكبر جريمة، نعم! وهذا أشدّ من القتل، يجب أن يُشنق ويتدلّى كلسان القطّة التي لعقتْ دمي.
تبدو وكأنّها ترفع كأساً وتشرب.
الجثّة: أحتاج إلى كأسٍ من المشروب وسجائر لأنهي هذه الأوراق، لكن يبدو من عدم وجودها أنّ هناك مرسوماً يقضي بمنع التدخين وشرب الكحول في القبور، لكن ما ضرر التدخين والكحول؟ ما أنا إلا جثّة ستتفسخ بعد أن تنتهي من كتابة هذا التقرير.
تصمت وتهرش رأسها، فيتساقط الغبار.
الجثة: نعم، لقد فهمت، لا تبتئسا أيّها الملاكان الكريمان. إنّ منع التدخين والكحول وُضع بسبب الخوف على الديدان من القطران والكحول وهذا حقّ. لاريب أنّ أفكاري هذه نوع من التّوبة، أليست التّوبة هي المعرفة الحقّة؟
تقف منتصبة، تشدّ على رقبتها، تُخرج لسانها وترتفع على أصابع قدميها.
الجثّة: هكذا سيكون مصير السّارق، الشّنق. سارق وقاتل؛ نحن أمام عوامل مشدّدة اجتمعت مع بعضها البعض، لكنّ هناك أسبابٌ مخففةٌ تقديريةٌ تشبه يوم ولادتي. كنتُ سكراناً عندما هاجمني، أنا من تعلّق به معترضاً هروبه كي أدعوه إلى كأس، كنتُ أريد نديماً، فأنا أشعر بالوحدة، أمّا هو، فقد كان على عجلة من أمره، والمستعجل يهرب من المستوحِد. يا له من غبيّ، كنّا سنصبح صديقين، ولن أمانع أن يسرق العجوز الأخرق. كنت سأعرّفه على جارتي المطلّقة، أمّا ابنها فلي وحدي، ومن يقترب منه سأقطع رأسه. أيّها السّارق الأحمق لم أكن أبتغِ منك شيئاً، كنتُ سأموت من كثرة تناولي للكحول والآن أنتَ تتحمّل وزر قتلي، يا لِحظّك التّعس، ألم تكفك السّرقة حتّى خضت في القتل!؟
تتجشأ، ثم تسعل بسبب الغبار الذي خرج من معدتها مع هرش جسدها، تضرب جسدها بيدها فتتّسع هالة الغبار من حولها.
الجثّة: اللّعنة على الغبار أوه، يجب أنْ أنتبه وألّا ألعن بحضور الملاكين، لكن ما المانع!؟ هما يريدان الشفافية وكلمة الصّدق، وهذا ما جال في بالي. لم يعد يجول في بالي شيءٌ، فكلّ ما أفكّر فيه أنطقه، وينطبع على الورق.
تنظر إلى الأوراق، وتقلّبها.
الجثّة: ممتاز، حتى أنّ هناك رسوماً توضيحيةً وملاحظات وهوامش، لا شيء يفوت هذه الأوراق وإلّا لن يكون ما كتب عليها اعترافاً.
تعاود التجشؤ والسّعال والهرش.
الجثّة: ما من داعٍ للتأفّف لقد متّ وأنا سكران، وبطني ممتلئ، وهذا يجب أن يُذكر في إضبارة قاتلي، يجب أن يُذكر أيضاً، أنني من تعلّق به، وللأسف سيُفهم من تعلّقي به أنّني أحاول منعه من الهرب! لذلك كنتُ أقول دائماً: نصف المعرفة أقبح من الجهل.
تعاود النّظر إلى الأوراق.
الجثة: منذ متى وأنا أتكلّم بهذه الفصاحة، لم أكن أعرف أنّ الموت يجعل المرء أشدّ ذكاء وأكثر نباهة. وجدتها، فلكي تتحرّر البشرية من غبائها عليها أن تموت أولاً ثم تحيا من جديد.
صوتٌ يبدو أنّه من الملاكين: النّاس نيام إنْ ماتوا استفاقوا.
الجثة: هذا صحيح.
تصمت من جديد وعندما تتكلّم تُخرج صوتها كصوت طفل.
الجثّة / الطفل: يا عمي، هذا موجع، توقّف، أرجوك.
تعود لحالتها الطبيعيّة.
الجثّة: يا لسفالتي، كم أنا قذر وعديم الرّوح، الحمد لله لقد تركتني روحي عندما متّ، فكيف استطاعت أن تتحمّل كلّ قذارتي؟ لو كنت جيداً لما تركتني، لقد ذهبت مع آخر نفس، لذلك يمتلئ جسدي بالغبار. الغبار؛ لا حياة فيه، هو ليس طيناً. لقد فشلت حتّى في أن أكون طيناً، الغبار هو طين مَيْت.
تصمت وتبدأ بالبكاء والنّحيب، وحكّ جسدها، وهرشه كمن اشتعلت فيه النار؛ تتخبّط على أرض المسرح.
الجثّة: أيّها الطّفل الذي كنته، أيّها الطّفل الذي أذيته: لا تسامحاني، فأنا لا أستحقُّ إلّا لعناتكما، أنا أستحق القتل، شكراً لك أيّها السّارق، يا نديمي؛ مع أنّنا لم نشرب معًا، لكن ما فعلته لا يفعله إلّا نديم.
تتكلم بطريقة أقرب للابتهال. ثم تبدأ بالتقوّس ليشبه جسدها جسد العجوز.
الجثّة: أيّها العجوز النتن لو أحسنت لي لما فعلت بكَ هكذا، أنت تستحق ما كنتُ أفعله بكَ، آه، ها أنا أعود لتبرير أفعالي الشّنعاء، فبدلاً من أكون له الولد الصّالح، فعلتُ كما يفعل الأولاد بآبائهم، أيّة لعنة حلّت بأولاد هذا الزّمان اللّعين؟
تعود للسّعال وتتلمّس الطعنات في بطنها.
الجثّة: أيّها النّديم، أيّها السّارق كان يجب أن تسدّد طعناتك إلى هذا القلب المملوء بالغبار؛ أكنتَ تعرف أنّني لا أستحق رحمة كهذه، فأنتَ سارق بسيط تسرق النّاس في غيابها وتتركها للظنون، أمّا أنا فمسيء للأمانة ومن أسأتُ له يعرفني، والظّنون لا تحميني وتشفع لي من الحدود.
تعاود النّظر إلى الملاكين.
الجثّة: سأنتهي قريباً، لا تملّا، فحياتي قصيرة، وبالتأكيد ستكون اعترافاتي قصيرة؛ حياتي كانت كذبة، وحبل الكذب قصير، فجأةً يُقطع الحبل، أو يُطعن! أنا لست آسفاً على موتي، آه، ليس موتي، فأنا مقتول لذلك أنا جثّة، ولست جثماناً، وهناك قاتل طليق يهرب كالفأر، أتمنّى لو أستطيع أن أذهب إليه وأخفّف عنه وأقول له: لقد فعلتَ حسناً، طفلٌ عند حاوية زبالة، ماذا تتوقّع منه إلّا أنْ يكون زبالة، تتحدّد مصائرنا في اللّحظة التي نتكوّن فيها، طفل وُضع منذ ولادته عند حاوية الزّبالة، من المنطقي أنّ لحظة تكوّنه كانت اغتصاباً.
تتلمّس قفاها، وبطنها، وتتوجع، ويستمر الحكّ والهرش.
الجثّة: الاغتصاب سببُ وجودي الأوّل، والميتم، والبوّاب/أبي بالتبني، هما من علّماني أنْ أغتصب الصّغار، وأعتدي على الكبار، للحقيقة أنا لم أختر أفعالي كنت مدفوعاً إليها بحكم السّبب والنتيجة.
تعاود الجلوس على الأرض وتنظر إلى الأوراق.
الجثّة: يجب أنْ تتضمّن الأوراق أسبابَ وجودي آه، هذه هي، إنّها عن أمّي (تقرأ من الورقة بهدوء) كانت فتاة شابة عندما دخل مسلحون إلى بيتها، فقتلوا عائلتها واغتصبوها واحداً تلو الآخر، وبعدها هُجّرت إلى بلدٍ آخر، وهناك ولدتني ووضعتني قرب حاوية الزّبالة (تتوقف عن القراءة) اللعنة! وهذه أيضاً ليست بلدي، اللعنة! يتيم ومهجّر ومقتول، ماذا بعد!؟
تبحث في الأوراق، وتنظر فيها بجدية كبيرة.
الجثّة: وماذا عن أبي، آه، لقد كتبوا، أنّه /المسلّحون!؟ المسلّحون جمع، يجب أن أنتمي إلى مسلّح واحد، من هو؟ ما هي قصته؟ لا يوجد، إذن؛ أنا ابن المسلّحين ولكن فحص الـــــ DNA أصبح قادراً على تحديد من هو الأب، اللّعنة، لقد اختلطت الحيوانات المنوية، هذه تورية، أنا ابن الحرب، في الحرب تتشكّل العصابات وتغتصب الأرحام ويتحوّل الأبناء إلى لقطاء، وأيتام، وعجيان.
ترمي الأوراق جانباً، تقف، وتمشي بشكل دائرة حول الكفن، ثم تنظر إلى الملاكين.
الجثة: أيّها الملاكان يا صاحبيّ، أنا أعتذر لقد أرهقت سمعكما بقصة تافهة، مرّت عليكما الكثير من الجّثث التي روت نفس الأحداث، أنتما تعرفان أنّ من مساوئ العمل في القطاع العامّ هي الروتين، والبيروقراطيّة؛ لذلك أنصحكما بشركة خاصّة، فهناك يكون العمل مملوءاً بالحركة والدّهشة، والرواتب مغرية والحوافز أيضاً.
تصمت من جديد، تنظر إلى الأوراق، تأخذها بيدها.
الجثة: لا ريب أنّ الأوراق قد ذكرتْ شيئاً عن قاتلي (تتصفحها في عجالة) لا شيء مذكور. هل سُجلت جريمة قتلي ضد مجهول؟ حتّى هنا قاتلي لقيط، مجهول النّسب، اللعنة، كما أن الطيور على أشكالها تقع؛ كذلك اللُّقطاء على اللُّقطاء يقعون.
ترمي الأوراق على الأرض، وتكحّ وتسعل من جديد، وتهرش جسدها.
الجثة: اللّعنة على الغبار، اللّعنة على الحكّة، يجب أن أذكر شيئاً عن قاتلي. إنّه لقيط مثلي، وله قصة مشابهة لقصّتي، ويجب أن أدافع عنه لأسباب عديدة أهمّها: أنّه قد أوقف سيرة حياتي السّافلة، كنتُ مجهولاً، وأعادني للمجهول، وهذا الأمر يجب أنْ يُحسب له، فلو بقيتُ على قيد الحياة كنتُ سأستمر في تعريف مجهوليتي بالأسباب ذاتها التي جعلتني مجهولاً، بالاعتداء، والسّرقة، والاغتصاب، ولقد فعل حسناً بقتله لي، هي صدفة، لم يكن يقصد ذلك، لكن الأمور بخواتيمها؛ لذلك يجب ألّا تحاسبوه على قتلي، فقد رمى بنفسه في البحر؛ لينقذني من الغرق. إنّه سارق، لكنّه شهم، ويستحق كلّ الأسباب المخفّفة التي تمنع عنه العقوبة، أنا أتنازل عن الادعاء الشّخصيّ، والحقّ العام يجب أنْ يأخذ بالاعتبار الصّفح الذي قدمته لقاتلي.
أيّها القاضي في عالم الأحياء: إنّ قاتلي بريء لم يقصد ولم يتعمّد قتلي، كان قتله لي بسبب الخوف. أيّها القاضي، الخوف هو القاتل، ففي البدء كان الخوف لا الكلمة، الخوف يدفعنا لكي نقتل، كنتُ خائفاً منذ لحظة ولادتي لأنّ أمّي كانتْ خائفة ولأنّ المسلّحين كانوا خائفين، يقتلون ويغتصبون بسبب الخوف، والسلطة تقتل وتسجن بسبب الخوف؛ لذلك أطالب من جديد بتبرئة قاتلي، قاتلي هو أبي الذي بحثتُ عنه ولم أجده، قاتلي هو ابني الذي حلمتُ بأن يرعى شيخوختي، ولم أجده، وما سكين القتل إلّا حفيدتي، أليس الحفيد أعزّ من الولد؟
تجلس من جديد على الأرض تتلمّس الكفن وتنظر إلى الأوراق.
الجثّة: الكفن ناعم ككف أمّ لم أعرفها، وحنون كأب يحبّ السلام ويكره الأسلحة، وكولد يكون عكازك في شيخوختك، آه يا كفني، كم أنتَ كريم لتقبل أنْ تحتويني بعد كلّ ما ذكرت، وترحب بتفسخي، واهتراء جسدي، ورائحته الكريهة التي تشبه رائحة حاويات الزّبالة.
تصمت من جديد وكأنّها في لحظة تأمل فلا تحكّ أو تهرش جسدها.
الجثّة: الديدان النّهمة ستلتهمني، أرجو ألا يزعجها الغبار الكثيف الذي يحتويه جسدي، الديدان – كعمال النظافة الذين وجدوني- تستحقّ التكريم، لو كنتُ حيّاً؛ لطلبت أنْ يُوضع في ساحة المدينة نصبٌ ضخم لدودة؛ إجلالاً لكلّ تلك الأعمال التي تقوم بها.
تهيئ الكفن، وكأنّها تريد العودة إلى داخله.
الجثة: أيّها الملاكان لم يبقَ الكثير لأقوله، لكنّني أرجو أن تعملا جاهدين للتخفيف عن قاتلي، وأن تساعدا الطفل لكي ينسى ما كنت أفعله، وعندما يموت العجوز أخبراه أنّني أعتذر منه رغم قذارته، وأنّني كنت ولداً عَاقّاً، هو لم يرزق بأولاد، وأراد أن يفعل خيراً، والخير مفهوم ملتبس، لكنّني لم أعامله بالحسنى (وكأنّه نسي تحرّش العجوز به!؟). أعتذر أيّها العجوز، فأنا من نسل آباء كثر يُسمّون المسلّحين، والمسلّح حيوانه المنوي كالرصاصة تقتل ولو بعد حين، أمّا المرأة / الأم، فماذا أقول لها، آه، قلب الأم غفور، لكنّ قلب الأنثى، هل هو غفور؟ لتلعنّي قدر ما تشاء لربما يخفّف هذا من ألمها.
تبدأ بإدخال قدميها في الكفن وهي تنظر إلى الملاكين.
الجثة: أيّها الكفن، كنْ كالقماط لي، أعدْ إليّ طفولة لم أعرفها وأمّاً تهدهدني وتغنّي لي، أيّها الملاكان، أأستطيع أن أطلب منكما طلباً، أريد أن تغنيا لي عندما أنام، عفواً، عندما أعود للموت، الغناء يريح الأعصاب، ولا أريد للديدان أن يصيبها العسر وهي تهضم أعصابي، أعصابي متيبّسة وجسدي كقطعة من الخشب. أغنية واحدة وأنام، أنا لست طفلاً شقيّاً؛ اسألوا بوّاب الميتم/ العجوز/ والدي بالتبنّي؛ كنتُ هادئاً وطيّباً كالحلوى.
تبدأ بترنيم لحن غير معيّن.
الجثة: أوه، أيّها الملاكان، لا أتذكّر أيّة أغنية! أتمنّى منكما أن تساعدا ذاكرتي.
تعود للترنّم، محاولة أن تتذكر لحناً أو أغنية. تكمل سحب الكفن نحو صدرها، تتلمس مكان طعنات السكين لكنّها لا تتوجع.
الجثّة: لقد ذهب الألم، والطعنات ستترك أثراً وهي تلتئم، لربما ستجد الديدان في هذه الآثار نكهة جديدة. حتى الحكّ والهرش توقّف؛ للحقيقة لا أعرف إن كان قد انتهى، هو صامت الآن لربّما يدخل معي في الكفن.
تُكمل سحب الكفن، يصل الكفن إلى صدرها وتستعدّ لتدخل به كاملاً.
الجثّة: الكفن دافئ كحضن أمٍ، الكفن يطمئن كيد أبٍ، الكفن مريح كبيت العائلة. الكفن، الكفن، الكفن…
تغلق الكفن، ويعمّ الصمت، وفجأة تخرج منه من جديد.
الجثة: ما هي ماركة هذا الكفن؟ آه، إنّه كفن (“Versace) ماركة عالميّة جيّدة! أعتذر أيّها الملاكان يجب أن تكون النهاية عاطفيّة سأعيد الجملة الأخيرة: الكفن دافئ كحضن أمّ، الكفن يطمئن كيد أبّ، الكفن مريح كبيت العائلة، الكفن، الكفن، الكفن…
تُغلق عليها الكفن، وتمرّ لحظات صمت ويبدأ الكفن بالتحرك ثمّ تخرج منه يدّ الجثّة وبالتتابع تخرج الجثّة كاملة. تقف، والكفن يحيط بقدميها، تستدير، وتترك ظهرها للجمهور ليظهر على ظهرها جناحان، تمشي خارج الكفن باتجاه الملاكين؛ لتخرج من المسرح نهائياً. يسمع الجمهور صوتاً من داخل الكواليس:
الجثّة: اللعنة! قلتُ لكَ: اجلبْ بودرة أطفال لدي حساسية من الطحين.إنّه يسبب الشّري. اللعنة! أشبه الآن بالوناً أحمر، لقد انتفخ جسدي. اللعنة، أحتاج طبيباً.
ينطفئ الضوء في المسرح نهائياً ونسمع صوتاً يترنّم بأغنية:
يا الله ينام الجمهور، يا الله ينام، يا الله ينام الجمهور، يا الله ينام.
**** *****

باسم سليمان's Blog
- باسم سليمان's profile
- 24 followers
