عندما تحوّل الخليفة هارون الرشيد إلى شرلوك هولمز – مقالي في رصيف22 – باسم سليمان
عرفنا الرواية البوليسية وتأصيلها التاريخي من الغرب، فقد كانت رواية إدغار آلان بو؛ جريمة في شارع مورغ، الفاتحة لهذا الجنس الروائي. حيث تم استنباط الأسس الثلاثة منها والتي أقيمت عليها هيكلية هذا الجنس من السرد الأدبي، وتتجلّى هذه الأسس، أولًا بوجود جريمة قتل بالأعم الأغلب، وثانيّا، مرتكب الجريمة المجهول، وأمّا الركن الثالث فيظهر بالمحقّق الذي يفكّ شفرات غموض الجريمة، ويكشف عن مرتكبها بأسلوب مشوّق يتنامى تدريجيّا حتى لحظة انكشاف الحقيقة. وقد اعتبر التحرّي أوغست دوبان الي أبدع شخصيته إدغار آلان بو، الأب الشرعي لمن جاء بعده من شخصيات المحقّقين، كشرلوك هولمز مع المؤلف آرثر كونان دويل، وهيركل بوارو مع أغاثا كريستي، وروبرت لانغدون مع دان براون. وفيما بعد تم التنويع على هذه الأركان وعلائقها ببعضها البعض، فظهرت الرواية السوداء ورواية التشويق. عرفت الرواية البوليسية ازدهارًا كبيرًا في القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، ومن ثمّ تراجع الاهتمام بها بعد ذلك، لكن مع رواية وشم الوردة لأمبرتو إيكو، وشيفرة دافنشي لدان بروان، وآخرين غيرهم عادت الرواية البوليسية للتربّع على عرش اهتمامات القراء. لحظ النقّاد وعلماء النفس أهميّة الرواية البوليسية، حيث نجد جاك لاكان يحلّل قصة الرسالة المسروقة لإدغار آلان بو، ويكشف من خلال الغوص في تفاصيلها ما يحمله هذا اللون من الأدب من خصائص قادرة على الغوص في النفس البشرية. تعمّق الاهتمام بالسرد البوليسي وتتبّعها كبار النقّاد كتزفيتان تودوروف، لكنّ المفكّر الفرنسي بيير بيّار خطا خطوة جبارة في الكشف عن مضمرات هذا السرد، فلقد ذهب عكس المتوقّع، فبدلًا من تحليل الأدب وفق مذهب التحليل النفسي طفق يحلّل علم النفس بموجب الأدب مستندًا إلى قصص وروايات أغاثا كريستي، فقد بيّن أنّ النص الأدبي يسمح بفهم أكبر لبعض المفاهيم في منهج علم النفس التحليلي، بل وإغنائها.
وكما عرفنا الرواية البوليسية من الغرب، فقد تبنّينا أيضًا الموقف النقدي السلبي الغربي منها، ووقفنا عند لحظة تاريخية وصمت بها هذه الرواية بالسلب، وبأنّها أدب رديء. وعندما غادر النقد الغربي تعنّته تجاه هذا الجنس الأدبي، ظلّ أدباؤنا عند تلك النظرة الدونية للرواية البوليسية، فعفّوا عن كتابتها مع أنّهم حاموا حولها كنجيب محفوظ في رواية اللص والكلاب، وغسان كنفاني في رواية من قتل ليلى الحايك وآخرين غيرهم. أمّا النقّاد العرب الذين صدمهم قلّة النتاج في هذا الجنس، فقد ذهبوا إلى تفسير ذلك بالواقع العربي، وأنّ المدينة العربية مختلفة عن المدينة الغربية، كذلك الأنظمة العربية السياسية تحتكر آلية التحقيق وتحضّ على سريّته. ومهما يكن من أسباب نقدية تبدو من الوجاهة بمكان في تحليلها لواقع الرواية والقصة البوليسية، لكنّها تسقط عندما يكشف لنا تراثنا العربي الإرهاصات الأولى لما عدّه الغرب الجذور العميقة لهذا النوع الروائي في الأدب العالمي، وعلى الرغم من ذلك تنكرنا له.
قلنا بأنّ الأدب البوليسي قد كانت بدايته مع بو، لكنّ الناقد فرانسيس لوكسان قال بأنّ بو استلهم روايته من مؤلف لفولتير بعنوان؛ زاديك، حيث نجد أنّ الفراسة والفطنة التي اتسم بهما المحقّق دوبان عند بو مستنسخة من شخصية البطل في زاديك. ويتابع لوكسان بأنّ فولتير استند في قصته إلى مؤلف بعنوان الأمراء الثلاثة لسرنديب الذين يكتشفون صفات جمل من آثاره، مع أنّهم لم يروه، فهو أعور لأنّه يرعى في جهة واحدة من الحقل، أي من جهة العين السليمة، وأنّه أبتر الذيل لأنّ بعره كان مجتمعًا، والجمل يوزّع بعره يمنة ويسرة بتحريك ذيله. وبأنّ إحدى رجليه زوراء لأن آثار رجليه في الأرض مختلفة. وهو شرود لأنّه يتجاوز عشبًا طريّا إلى آخر، فهذا دليل على أنّه قد نفر عن قطيعه. هذه الطريقة بالفراسة سميت السرنديبية، وأول من وضع المصطلح لها كان هوراس والبول مستندًا إلى قصة الأمراء الثلاثة الذين اكتشفوا أمورًا لم يبحثوا عنها في الأصل، لكن عبر المنطق والحدس ربطوا السبب بالنتيجة. وأصبح هذا المصطلح يستخدم للاكتشافات العلمية غير المقصودة كما جاء في كتاب فنّ التحقيق العلمي للبريطاني ويليام أيان. هذه الميزة في الكشف عن الأشياء الغامضة اعتبرت من أهم خصائص المحقّقين، لكنّ تلك القصة موجودة في تراثنا العربي، فنجدها مع الأبناء المؤسسين للقبائل العربية العدنانية: إياد وأنمار وربيعة ومضر. يرتحل أبناء نزار بن معد إلى الحكيم الأفعى الجرهمي ليفسر لهم وصية أبيهم. وبينما هم في الطريق على بُعد يوم وليلة من نجران، إذ رأوا أثر بعير، فقال إياد :إنّ هذا البعير الذي ترون أثره أعور. ثم قال أنمار: إنّه لأبتر. وقال ربيعة :إنّه لأزور. وقال مضر: إنّه لشرود.
ثم جاء رجل يبحث عن بعيره، فحدثوه بأوصافه. فطلب منهم أن يخبروه بمكان البعير، فقالوا إنّهم لم يروا بعيره، ولكنّه لم يصدّقهم، لأنّهم وصفوا بعيره بشكل دقيق، فكيف يزعمون أنّهم لم يروه! فظل يتبعهم حتى وصلوا عند الأفعى الجرهمي، وهناك اتهمهم بأنّهم قد أخذوا بعيره. فسألهم الأفعى عن ذلك، فقالوا له: إنّهم رأوا أثر البعير وليس البعير نفسه. وتتكرّر التفاسير ذاتها التي اشتهر بها أمراء سرنديب مع أبناء نزار، وهذه الطريقة في التفسير المستندة على الحدس والتفكير المنطقي، اعتبرت أسًا من أسس الرواية البوليسية وخاصة في شخصية المحقّق.
القصة الثانية في التراث العربي للسرد البوليسي نلقاه في ألف ليلة وليلة. وقد أشار بيار براهام في مجلة أوروب الأدبية إلى شهرزاد التي تؤجّل حكم موتها يوميّا عبر قصة ترويها. هذا النمط من التشويق البوليسي يقول عنه براهام، بأنّه لا يوجد ما يضاهيه في الروايات المسلسلة الحديثة، لكن ماذا عن قصة التفاحات الثلاث في ألف ليلة وليلة التي تملك من ميزات السردية البوليسية الكثير. خرج الرشيد ووزيره جعفر البرمكي، لتفقّد أحوال الرعية، فمرّا بصياد سمك يندب حظّه، فسأله الخليفة عن السبب، فأخبره بأنّه لم يصطد شيئًا، فطلب الخليفة منه أن يرمي شبكته وسيأخذ ما تحتويه من صيد البحر بمائة دينار وكان ذلك. وعندما سحب الصياد شبكته وجد فيها صندوقًا وبعد أن فُتح وُجدت فيه صبية مقتولة. يطلب الخليفة من وزيره أن يكتشف القاتل خلال ثلاثة أيام وإلّا سيعاقبه بالصلب. تتكشّف القصة رويدًا رويدًا عن أنّ زوجة أحد التجار قد اشتهت التفاح وكان قد عزّ وجوده في الأسواق، لكنّ الرجل استطاع أن يحضر ثلاث تفاحات لزوجته. وبعد ذلك مرّ به عبد يحمل تفاحة، فسأله الرجل عنها، فأخبره بأنّ امرأة تخون زوجها معه قد أعطته إياها، فغضب الرجل وقتل زوجته ووضعها في سلّة ورماها في دجلة. لكن بعد عودته إلى البيت يكتشف أن عبدًا كان قد سرق التفاحة من ابنه ولم تعطها زوجته له، وأنّها لم تخنه بالمطلق، فيندم أشدّ الندم. يسمع التاجر بأنّ الخليفة سيصلب جعفر البرمكي، لأنّه لم يجد القاتل، فيهرع إلى جعفر البرمكي قبل أن يصلبه الخليفة ليعترف له بالحقيقة. وتتتابع الأحداث حتى يكتشف جعفر البرمكي بأنّ عبده هو من سرق التفاحة، وتسبّب بكل تلك الأحداث السيئة.
لدينا هنا قصة جريمة قتل، ولكنّ تحقيق جعفر البرمكي، لا يشبه المحقّقين الذين نعرفهم بشيء، فالصدف والأقدار هي من رتبت كشف الحقيقة، لكنّ الناقد تزفيتان تودوروف يخبرنا عن نوع من السرد كان متبعًا في القصص القديمة، أسماه السرد القدري، ومثّل له بقصة الكأس المقدّس، حيث الأبطال يتبعون ما رتّبه القدر لهم والذي نعرفه بداية من السطور الأولى للقصة. هذه النقطة تبيّن اختلاف الطرائق حسب الأزمنة، فالمنطق السببي وما يترتب عليه من نتائج كما في قصة الأمراء الثلاثة، كان هناك إلى جانبه المنطق القدري، حيث تكتشف الجرائم بمعونة السماء، ولم يكن ذلك يدحض منطقية الكشف عن القاتل.
أمّا القصة الثالثة، فقد جاء في كتاب أخبار الأذكياء لابن الجوزي، بأنّ أحد خدّام الخليفة المعتضد بالله، قد رأى صيادًا طرح شبكته في النهر، فوجد جرابًا فيها، وعندما فتحه عثر فيه على يد مقطوعة، فأعلم المعتضد بذلك، فقال قولته المشهورة: “معي في البلد من يقتل إنسانًا ويقطع أعضاءه ويفرِّقه ولا أعرف به، ما هذا مُلك”. يكلّف الخليفة أحد ثقاته بأن يذهب إلى السوق حيث تباع أمثال ذلك الجراب، ويسأل عن من اشتراه. وهكذا حتى يصل المعتضد إلى القاتل. في هذه القصة تظهر شخصية المحقّق كما عهدناه عبر تتبع الأسباب وصولًا إلى النتائج.
وإذا أطلعنا على القصة الرابعة؛ حكاية اللص والتاجر، التي وردت في نسخة ريتشارد بريتون الجزء الخامس من ألف ليلة وليلة، نلقى بأن التاجر علي كوجيا قد اعتزم السفر، ونوى أن يخبئ دنانبره الألف عند صديق له بصفة أمانة قد كانت عبارة عن جرّة من الزيتون، فقبل معه صديقه التاجر حسن، وتم وضع الجرّة التي فيها الدنانير المغطاة بحبات الزيتون في أحد مخازن التاجر حسن. وهكذا يغيب علي كوجيا سنوات عديدة، وعندما يعود يطالب صديقه بالأمانة، فلا يتخلف التاجر حسن عن أداء الآمانة، لكن علي كوجيا يكتشف أن صديقه التاجر قد خان الأمانة وسرق الذهب، ووضع بدلًا من الذهب زيتونًا. اتهم علي التاجر حسن بخيانة الأمانة، لكنه أنكر ذلك، فترفع القضية إلى هارون الرشيد. وفي إحدى الليالي وكعادة هارون الرشيد في التنكر لمعرفة أحوال الرعية يشاهد مجموعة من الأولاد يلعبون، وذلك بأن أقاموا تمثيلية استحضروا فيها ما حدث مع علي كوجيا والتاجر حسن، بعدما شاعت قصتهما في بغداد. قام أحد الأولاد بلعب دور القاضي وطلب فحص الزيتون الذي في الجرّة، فإن كان كله قديمًا، فإن التاجر حسن لم يخن الأمانة، لكن إن كان بعضه قديمًا، والآخر حديث العهد، فقد خان الآمانة. وهنا يتفطن الخليفة هارون الرشيد ويطلب التحقّق من الزيتون الموجود في الجرّة، فيكشف له الخبراء، بأنه زيتون حديث العهد من ثمار هذه السنة، وليس قديمًا أبدًا. بهذه الطريقة في التحليل تظهر الحقيقة وتكشف إساءة الائتمان من التاجر حسن. إن إسلوب التحقيق الذي اتبعها هارون الرشيد يذكرنا بأساليب المحقيقن الذين اشتهروا في الروايات البوليسية.
وبعد أن قدّمنا أربعة أصول تراثية من لدن أدبنا العربي، ألا يحقّ لنا أن نستغرب كيف ارتهنّا إلى مقولة تبخيس الرواية البوليسية والتي تجاوزها الغرب سريعًا، مع أن تراثنا قدم لنا شواهد عديدة عن دورنا في بناء هذا الجنس الأدبي! إنّ وجود إرهاصات أولى للسرد البوليسي في تراثنا يدحض الكثير من التعلّلات التي منعت ازدهار هذا الجنس الأدبي لدينا، وفي الوقت نفسه يجب أن يعتبر دافعًا يحرّرنا من مقولة الارتهان للأدب الغربي. لكن لا بدّ من القول: إنّ الرواية البوليسية فيها الجيد والسيئ، ولا تختلف في ذلك عن أي نتاج أدبي آخر. ويكفي أن نذكر كيف أنّ وشم الوردة استطاعت أن تحمل مضامين معرفية كبيرة إلى جانب جرائم القتل. إنّ نظرة حالية على نتاجنا الروائي والقصصي والنقدي تظهر لنا تناميًا في السرد البوليسي ونقده وهذه دلالة خير نتمنّى أن تتوسّع سريعًا.
باسم سليمان

باسم سليمان's Blog
- باسم سليمان's profile
- 24 followers
