“ليس الباب حائطًا أبكم”.. عن الإنسانية والأبواب – مقالي في ضفة ثالثة – باسم سليمان

كما لا يُوجد حضارة من غير نار، كذلك لا إنسانية من دون أبواب. لقد عُبدت النار، وجُعلت للأبواب آلهة، من هرمس الإغريقي إلى يانوس الروماني، وذلك لعظمة الدور الذي تلعبه هذه الأبواب في حياة الإنسان. إنّ نظرة فاحصة إلى بوابة عشتار التي تزّين الآن إحدى قاعات متحف بيرغام في ألمانيا، تمنحنا الفرصة لإدراك أهمية الباب في الثقافة الإنسانية، أكان مجسدًا بشكل مادي أم رمزيّ. هكذا بنى نبوخذ نصر بوابة عشتار العابرة للأزمنة لتعبّر عن مناعة بابل وعظمتها. لقد شرعنت الأبواب برتوكولات الدخول والخروج في الحضارة الإنسانية التي تنمو باضطراد، والتي كثيرًا ما خُرقت بواباتها بأحصنة طروادة، وصولًا إلى جريمي بنتام ورؤاه حول السجون ذات الحيطان والأبواب الشفافة، حيث لا يبقى للسجين من إنسانية أبدًا.                                                                  نطرق على الأبواب، أو نغلقها خلفنا، نتلصّص من ثقوب مفاتيحها، نرقّمها في سعينا المعماري لضبط حركة الإنسان. نكرهها ونحبها، نفلسفها ونمثلها دينيًّا عبر سَمّ الخِياط الذي سيكون بابًا للجنّة يمنع الأغنياء من دخولها، لكنّ ابن القارح في رسالة الغفران للمعري، وجد ما يشبه صكوك الغفران التي كانت الكنيسة تمنحها كمفاتيح مدفوعة الثمن، حتى لا تغلق أبواب الجنّة في وجهه. صوّر دانتي في كوميدياه أبواب الجحيم بأنّها واسعة وكبيرة، لتستوعب أعداد الخطأة الذين أوردتهم أعمالهم السيئة إلى العذاب الأبدي، لذلك كان لا بد أن ينحت الفنان رودان بوابة الجحيم. هذه الأبواب على الرغم من وسعها لم تكن تسمح لأحد بالهرب من ويلات الجحيم، كذلك أقفلت أبواب الجنّة على من استحق ورودها خالدًا فيها.                                                           نأتي إلى هذه الدنيا عبر بوابة الجسد، ونخرج منها عبر بوابة الطين. أمّا أرواحنا، فنجد لها أبوابًا وهمية قد رُسمت على حيطان الأهرامات تمثّل عبور الروح إلى عالم الماوراء، كما تعبر الشمس ظلمة الليل إلى إشراقة جديدة.  فليس غريبًا أن يطلق عالم المصريات غاستون ماسبيرو على أحد الكتب التي وجدت في مقابر الفراعنة كتاب الأبواب، حيث كان الفراعنة أكثر من اعتنى ببوابات الحياة الآخرة.

لم تكن الفلسفة تعلي من حواس الإنسان إلّا العين والأذن/ البصر والسمع، وتعتبرهما الأبواب الحقّة للفكر الإنساني، فيما تزدري بقية الأبواب من شمّ وتذوق عبر آلتيهما الأنف والفم، أمّا أبوابنا الحميمة الخفيّة، فقد عدّتها من الأبواب الحيوانية. لم تختلف الأديان عن الفلسفة في هذا التقسيم، فقد ظلّ هذا التقسيم ساريًا بعنفه الظاهر وتسامحه الموارب مع أبواب الجسد السفلى، إلى أن جاء سيغموند فرويد، وفتح عالم اللاشعور الإنساني من خلال فتحات الجسد الحميمة المحروسة بمفاتيح الكبت الاجتماعي. هذا الضبط المنظّم لتلك الفتحات/ الأبواب، جذّر الإبداع الإنساني في تصعيد الدافع الجنسي المكبوت، عبر تحويل تلك الغرائز إلى نتاجات إنسانية مقبولة اجتماعيّا، خاصة في الجانب الفني والأدبي. وعليه لولا تلك الفتحات الحميمة لم نكن نستطيع أن نقف موقفًا نقديّا من تاريخنا الفكري، كي نفهم ما يخفيه لاشعورنا من ثقافة لم يُنطق بها، ولم تُكتب.

افتح يا سمسم:   

لم يخبرنا كتاب العين، أقدم معجم عربي عن أصل الباب، فكل ما قاله الخليل: بأنّه معروف! إنّ البحث عن جذور كلمة الباب يردنا إلى بابل/ باب إيل. ومهما يكن من شبهة عجمة كلمة الـ(باب) إلا أنّ رسمها الحروفي في اللغة العربية يؤشر تمامًا إلى رمزية الباب، من حيث هو حدّ بين حيّزين، يسمح بتبادل الدخول والخروج بينهما أو يمنع. فكلمة الــ(باب) تقرأ من اليمين ومن الشمال. هذا الإزدواج الدلالي للباب والعملي أيضًا، مكّنه من أن يكون حمّال أوجه؛ أسطورية، دينية، سياسية، اقتصادية، ثقافية.

استندت سوزان ستيتكيفيتش في دراستها للقصيدة العربية على دراسات الأنثروبولوجي       (فن جنب) عن طقوس العبور لدى الشعوب القديمة. وقد رأت بأنّ الوقوف على الأطلال وذكر الحبيبة والرحلة التي يقوم بها الشاعر، ومن ثم عودته إلى قبيلته، هو تعبير عن طقس العبور من خلال أبواب رمزية، والذي بموجبه يستحق الشاعر الانتماء إلى قبيلته بعد القيام بتلك الرحلة الشاقة. هذا العبور الرمزي الذي وجدناه عند الشعراء الجاهليين نما ليصبح بوابات تتحكّم من خلالها عواصم مثل دمشق وبغداد والقاهرة وغرناطة بحركة السياسة والاقتصاد في العالم. إنّ قصة علي بابا والأربعين حرامي ذات شهرة لن تخبو، فكيف تُنسى تلك الجملة السحرية: افتح ياسمسم، لكن تلك البوابات أصبحت في الزمن العباسي بعيدة عن الرعية، ألهذا وجدت تلك القصة لتخبرنا بأنّ بوابات القصور البغدادية أصبحت بعيدة المنال عن الشعوب، ولن تفتح إلّا بالسحر. ظهر أدبٌ في القرن الثالث والرابع هجري أشبه بحصان طروادة، حيث يفاجأ الخليفة بمجنون أو صاحب كرامة يحادثه، لا يمر عبر البوابات ولا يستوقفه البوابون والحجّاب. يقول محمد حيان السمان في كتابه؛ محكيات الباب العالي، بأنّ هدف هذه القصص كان كسر برتوكولات الدخول على الخلفاء، كي تصل كلمة الرعية نظيفة من رقابة الأبواب. ففي حكاية سعدون المجنون مع المتوكّل نرى خطابه التقريعي للخليفة، بأن حُجب الأبواب قد حالت بينه وبين الرعية، لذلك كان لا بد من تذكيره: “كأنّني بكَ، وقد أتاك فظّ غليظ، فجذبك عن سرير بهائك، وأخرجك عن مقاصير علائك، فلم يستأذن عليك حاجبًا ولا قهرمانًا، حتى أخرجك إلى ضيق اللحد وفراق الأهل والولد”.                                                                                        انتقل خيال الظل إلى تركيا بعدما مثّل المخايلون واقعة شنق طومان باي على باب زويلة، أحد أبواب القاهرة أمام السلطان سليم الأول الذي أعجب بذلك كثيرًا، فأخذ معه المخايلين إلى بلاده، لكنّه حمل معه، في الوقت نفسه، سلطة باب زويلة ونحلها إلى اسطنبول والباب العالي. إنّ الأبواب هي تاريخ السلطة، لذلك كان على النفري في مواقفه، أن يكرّس موقفًا للأبواب ليبيّن من خلاله، لمن تكون السلطة الحقّة: “والأبواب بينك وبيني. أنت لي، والأبواب لي. فأنت والأبواب بين يدي. أوقفك منها فيما أشاء”.

بوابات النسيان والذاكرة:

على الساحل الغربي لقارة أفريقيا بُنيت بوابات مفتوحة على أمواج المحيط الأطلسي تخليدًا للذكرى السيئة في تاريخ الإنسان، بأنّه كائن يستعبد أخاه الإنسان. لقد ازدهرت تجارة العبيد باتجاه أمريكا، فقد كانوا يدًا عاملة مجانية. مات الكثير منهم لكن الذكرى باقية. كان المستعبَدون قبل أن يرموا في قاع السفن التي ستنقلهم إلى العالم الجديد، يطوفون حول شجرة دُعيت بشجرة النسيان عدّة مرات كي ينسوا جذورهم. وبالمقابل كان هناك شجرة العودة التي إذا طافوا حولها لربما سيعودون. من هاتين الشجرتين استلهمت بوابات النسيان، والأولى أن نسميها بوابات الغفران تجاه التاريخ البشري. لقد بنى أحفاد هؤلاء العبيد تلك البوابات، ليذكّروا العالم كم هو سهل أن ينحدر الإنسان مجددًا إلى العبودية.

نستطيع أن نعتبر الإنسان الفلسطيني إله أبواب جديد، لم تكرسّه الأسطورة ولا الحكايات، بل هذا المفتاح الذي يحمله في عنقه، كي يجعل الحلم بباب بيته حقيقة، فمادام المفتاح موجودًا، فلا بدّ أنّ باب بيته ينتظره في فلسطين مهما طال النزوح. لا يمكن للنسيان أن يُصدئ مفاصل أبواب البيوت المشرعة على العودة، فالذاكرة باب بكلّ يد مضرجة يدق، وتغني مع فيروز: “لن يقفل باب مدينتنا فأنا ذاهبة لأصلي. سأدق على الأبواب وسأفتحها الأبواب”.

في أفلام الغرب الأمريكي صوّر باب الحانات، بلا أقفال ولا مفاتيح. باب أشبه بجناحين مفصولين يدخله رعاة الكاوبوي بعنف، ليطلقوا النار، أو ليرووا ظمأهم بالمشروبات. هذا الباب لا يحمي، لا يخفي سرّا، أشبه بأبواب جيرمي بنتام. إنّه رمز العولمة التي تريد أن تجعل من العالم قرية صغيرة من دون أصالة. كتب كافكا روايته المحاكمة مستبصرًا مآلات الإنسان في العصر الحديث، حيث سيقف الإنسان أمام باب القانون، وسيمنعه الحراس من دخول المحكمة. إنّ أغلاق أبواب العدالة سيفتح أبواب الاستبداد على مصراعيها.

يقول الفيلسوف الألماني جورج زيمّل: “ليس الباب حائطًا أبكم”، لكن قليلًا ما تكلمت الأبواب في المدونة الإنسانية عن ذاتها. إنّ السعي وراء حفريات الأبواب، لا يمكن أن يمنحنا بعض نتائجه إلّا اهتداء بما قاله غاستون باشلار عن الباب بأنّ: “الباب هو كون كامل للموارب”.  هذه المواربة لحظها الشاعر رينيه ريشار نقلًا عن أسطورة ألمانية تتحدث عن أنّ هناك طفلين توأمين، أحدهما يفتح الباب بلمسة من يده اليمنى، والآخر يغلقه بلمسة من يده اليسرى. إنّ ما تعنيه تلك الأسطورة، بأنّ الباب: هو كائنان، أو إله بوجهين، كالإله جانوس، إله الأبواب والبوابات والطرق عند الرومان الذين صوّروه بوجهين؛ أحدهما ينظر إلى الغد، والآخر يحدّق في الماضي، وكأنّ الباب هو لحظة الحاضر الآتية بسرعة من المستقبل، لتنغمس بسرعة أكبر في الماضي. هذا التصوّر المزدوج الذي لعبه الباب في تاريخ الإنسان تأتّى من أنّ الإنسان كائن الصِلات –من صلة- كما شرح جورج زميّل، فالإنسان لا يمكنه أن يربط من دون أن يفصل؛ يفتح ويغلق. هذه البرزخية التي تشكل علاقات الإنسان بالوجود، مثّلها الباب أفضل تمثيل، فهو عبر فعلي الفتح والغلق، يفصم الحيز الإنساني إلى قسمين: داخلي وخارجي، والإنسان بينهما كالشفرة، كما عبّر المسرحي صموئيل بيكيت. هكذا كان الباب، أول فعل مادي رمزي قام به الإنسان لتصور الوجود الذي يعيش فيه، بين داخل حميم وخارج عدائي، بين داخل مقيّد وخارج حرّ، بين الأنا والآخر، بين ما يملكه والمشاع. لقد صنع الإنسان الباب وفي الوقت نفسه أصبح بابًا، وكم هي قليلة أبواب الحرية وكثيرة أبواب الاستبداد.

باسم سليمانhttps://diffah.alaraby.co.uk/diffah/opinions/2022/11/2/%D9%D9%8A%D8%B3-%D8%A7%D9%D8%A8%D8%A7%D8%A8-%D8%AD%D8%A7%D8%A6%D8%B7%D8%A7-%D8%A3%D8%A8%D9%D9-%D8%B9%D9-%D8%A7%D9%D8%A5%D9%D8%B3%D8%A7%D9%D9%8A%D8%A9-%D9%D8%A7%D9%D8%A3%D8%A8%D9%D8%A7%D8%A8

خاص ضفة ثالثة

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 02, 2022 05:54
No comments have been added yet.


باسم سليمان's Blog

باسم سليمان
باسم سليمان isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow باسم سليمان's blog with rss.