عبـــــــدالله خلــــــــيفة's Blog: https://isaalbuflasablog.wordpress.com , page 63

June 29, 2022

عبـــــــدالله خلــــــــيفة: سبينوزا والعقل

عبـــــــدالله خلــــــــيفة: سبينوزا والعقل

أمثال ديكارت وسبينوزا وهيغل هم فلاسفةُ أوربا في مرحلةِ الانتقال من عصرِ التنوير إلى الحداثة، وقد برز بينهم سبينوزا في نقد التفكير الديني الخرافي خاصة لدى اليهود، فهو يهودي المولد والنشأة، ولكنه أستغل تربيته وثقافته من أجل الفلسفة والتنوير للبشر عامة وأعاد تفسير التوراة بشكل أغضب رجال الدين عليه كثيراً.
رسالته الأساسية كانت في نقد الوعي الديني اليهودي-المسيحي، المسماة(رسالة في اللاهوت والسياسة)، حيث نزعَ المظلةَ الدينية عن التدخل في السياسة، وناقش بدقة وبحثٍ إستقصائي الكتب المقدسة لدى اليهود والمسيحيين، فهو مع إعترافه بالذاتِ الإلهية لكنه لا يقبل بشيء آخر إستثنائي في الوجود، ويعتبر عمل الذات الإلهية شكل آخر لفعل الطبيعة. أي هو يرفض أي تدخل غيبي في سببيات الوجود طبيعةً أم مجتمعاً.
ولهذا فإن الأنبياءَ لديه شخصيات تتسمُ بالذكاء وحب الخير وهو ما جعلهم يمتحون من مظلةِ الوحي العام الذي يستطيع أن يأخذَ منه أي شخص طيب فاعل في عالم النبل.
لأن الذات الإلهية في رأيه تفيضُ بالخير على الناس عبر الوحي الفكري الذي تشتغلُ عليه عقولُهُم الباحثة عن المعرفة والسببيات والتغيير.
ولو أن عقولهم راكدة جافة وأعمالهم شريرة وسيئة وجامدة فإنها لا تستطيع أن تتصل بالوحي ذاك.
فالوحي كأنه يتولدُ من أفعالهِم المغيرة للحياة السيئة. وهذه الأفكار البسيطة لدى الفيلسوف الهولندي تبدأُ عصرَ الانتقال من هيمنة الدين السحري في العصر الوسيط الأوربي إلى الدين العقلاني، المعتمد على السببية. فتغدو رسالته هي تحليلٌ دقيقٌ وتاريخي ملموس للنصوص وتجريدي فلسفي لها معاً.
ولهذا فهو في رسالته المشار إليها لا يرى أن ثمة معجزات في التاريخ الديني اليهودي، وأن النبي موسى مثقف بارزٌ في عصره، وأن تلك الأمور الخارقة التي وقعت في بداية ظهور اليهود وحتى بعد تكونهم بحاجة لأدلة من الحفريات والشواهد.
يحيلُ الفيلسوفُ الأنبياءَ إلى مثقفين وحكماء لعصورهم.
ويرى أن ما يفعله الناس من عادات دينية لا يكسبهم خيراً وفضيلة، بل إن ما يقومون به من أعمالٍ خيرة هو الفضيلة فيستعين بالتوراة ليؤكد ذلك عبر قول لبولس الرسول:
(إن الختانَ ينفعُ لو عملتَ بالناموس ولكن إن كنتَ متعدياً للناموسِ فقد صارَ ختانكَ قَلفاً. فإذا كان الأقلفُ يحفظُ حقوقَ الناموس أفلا يعدُ قلفهُ ختاناً؟).
إن الاعتماد على الطبيعة وإكتشاف أسرارها والسيطرة عليها هو الإيمان الراسخ لدى الفيلسوف، أما الايمان بالمعجزات والصراخ لتغيير الحال بالكلام مهما كان مصدره وقيمة لغته لتبديل الطبيعة فلا جدوى منه، إذا لم تكن الكلمة كاشفة لأسرار الوجود والنفس والعقل وعاملة منتجة من خلالها.
(إن قوانين الطبيعة الشاملة التي يحدث كل شيء ويتحدد طبقاً لها ليست سوى أوامر الله الأزلية التي تنطوي على حقيقةٍ وضرورة أزلية. وإذا قلنا أن كلَ شيء يحدثُ طبقاً لقوانين الطبيعة أو ينتظمُ بحكمِ الله أو بأمرهِ فإننا نقولُ نفسَ الشيء)، الرسالة ص 173، دار الطليعة.
ولهذا فإن النبوات في رأيه لا تختلف عن الحكمة والبحوث فإذا ما توجهتْ لكشف أسرار الطبيعة وأوضاع الإنسان تداخلتْ مع العلم وغدت فاعلةً من أجل الخير والتقدم.
ومن هنا يخالف المفسرين في رؤية النبي سليمان الذي رأى إن لديه نوراً تفوّقَ بهِ على جميع حكماء عصره:
(أنا أعني بذلك سليمان الذي لا تكشفُ أسفاره المقدسة عن هبة النبوة والورع، بل عن الفطنة والحكمة. ففي سفر الأمثال يسمى سليمان الذهنَ الانساني نافورة الحياة الحقة، ويجعل الشقاء في ضياع العقل ويقول: العقل ينبوع الحياة لصاحبه وتأديب السفهاء).(طوبى للإنسان الذي وجد الحكمة).
ورغم أن سبينوزا يعلقُ التنويرَ في فضاءٍ مجرد عام ولم تصل فلسفة عصره لمراجعة الشروط الاقتصادية الاجتماعية للواقع، فإنه لا ينسى بحث حالات الناس الموضوعية وأفكارهم.
ويتصورُ الخرافةَ بشكلٍ مثالي فيقول إنها(لا تعتمدُ إلا على التمني والحقد والغضب والخداع لأنها لا تقوم على العقل بل تقوم على الانفعال وحده وعلى أقوى الانفعالات. ولما كان عامة الناس أشقياء دائماً فإنهم لا يصلون إلى حالة رضاء دائمة، ولا يجدون تخفيفاً لشقائهم إلا بأوهام جديدة).
ولهذا هم يحولون الدينَ إلى خرافة، وأن(الخرافة هي أكثر الوسائل فاعلية لحكم العامة).
وهو يكشف إن تنبؤات الأنبياء اليهود في الكتاب (المقدس)هي حالات نفسية وآراء متعددة تخضع كلها لفترتها وحالاتها ومدى قدرة كل شخص من هؤلاء على فهم الوضع وأسبابه، وخدمة العامة.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 29, 2022 07:36

عبـــــــدالله خلــــــــيفة: سبينوزا والعقل

عبـــــــدالله خلــــــــيفة: سبينوزا والعقل

أمثال ديكارت وسبينوزا وهيغل هم فلاسفةُ أوربا في مرحلةِ الانتقال من عصرِ التنوير إلى الحداثة، وقد برز بينهم سبينوزا في نقد التفكير الديني الخرافي خاصة لدى اليهود، فهو يهودي المولد والنشأة، ولكنه أستغل تربيته وثقافته من أجل الفلسفة والتنوير للبشر عامة وأعاد تفسير التوراة بشكل أغضب رجال الدين عليه كثيراً.
رسالته الأساسية كانت في نقد الوعي الديني اليهودي-المسيحي، المسماة(رسالة في اللاهوت والسياسة)، حيث نزعَ المظلةَ الدينية عن التدخل في السياسة، وناقش بدقة وبحثٍ إستقصائي الكتب المقدسة لدى اليهود والمسيحيين، فهو مع إعترافه بالذاتِ الإلهية لكنه لا يقبل بشيء آخر إستثنائي في الوجود، ويعتبر عمل الذات الإلهية شكل آخر لفعل الطبيعة. أي هو يرفض أي تدخل غيبي في سببيات الوجود طبيعةً أم مجتمعاً.
ولهذا فإن الأنبياءَ لديه شخصيات تتسمُ بالذكاء وحب الخير وهو ما جعلهم يمتحون من مظلةِ الوحي العام الذي يستطيع أن يأخذَ منه أي شخص طيب فاعل في عالم النبل.
لأن الذات الإلهية في رأيه تفيضُ بالخير على الناس عبر الوحي الفكري الذي تشتغلُ عليه عقولُهُم الباحثة عن المعرفة والسببيات والتغيير.
ولو أن عقولهم راكدة جافة وأعمالهم شريرة وسيئة وجامدة فإنها لا تستطيع أن تتصل بالوحي ذاك.
فالوحي كأنه يتولدُ من أفعالهِم المغيرة للحياة السيئة. وهذه الأفكار البسيطة لدى الفيلسوف الهولندي تبدأُ عصرَ الانتقال من هيمنة الدين السحري في العصر الوسيط الأوربي إلى الدين العقلاني، المعتمد على السببية. فتغدو رسالته هي تحليلٌ دقيقٌ وتاريخي ملموس للنصوص وتجريدي فلسفي لها معاً.
ولهذا فهو في رسالته المشار إليها لا يرى أن ثمة معجزات في التاريخ الديني اليهودي، وأن النبي موسى مثقف بارزٌ في عصره، وأن تلك الأمور الخارقة التي وقعت في بداية ظهور اليهود وحتى بعد تكونهم بحاجة لأدلة من الحفريات والشواهد.
يحيلُ الفيلسوفُ الأنبياءَ إلى مثقفين وحكماء لعصورهم.
ويرى أن ما يفعله الناس من عادات دينية لا يكسبهم خيراً وفضيلة، بل إن ما يقومون به من أعمالٍ خيرة هو الفضيلة فيستعين بالتوراة ليؤكد ذلك عبر قول لبولس الرسول:
(إن الختانَ ينفعُ لو عملتَ بالناموس ولكن إن كنتَ متعدياً للناموسِ فقد صارَ ختانكَ قَلفاً. فإذا كان الأقلفُ يحفظُ حقوقَ الناموس أفلا يعدُ قلفهُ ختاناً؟).
إن الاعتماد على الطبيعة وإكتشاف أسرارها والسيطرة عليها هو الإيمان الراسخ لدى الفيلسوف، أما الايمان بالمعجزات والصراخ لتغيير الحال بالكلام مهما كان مصدره وقيمة لغته لتبديل الطبيعة فلا جدوى منه، إذا لم تكن الكلمة كاشفة لأسرار الوجود والنفس والعقل وعاملة منتجة من خلالها.
(إن قوانين الطبيعة الشاملة التي يحدث كل شيء ويتحدد طبقاً لها ليست سوى أوامر الله الأزلية التي تنطوي على حقيقةٍ وضرورة أزلية. وإذا قلنا أن كلَ شيء يحدثُ طبقاً لقوانين الطبيعة أو ينتظمُ بحكمِ الله أو بأمرهِ فإننا نقولُ نفسَ الشيء)، الرسالة ص 173، دار الطليعة.
ولهذا فإن النبوات في رأيه لا تختلف عن الحكمة والبحوث فإذا ما توجهتْ لكشف أسرار الطبيعة وأوضاع الإنسان تداخلتْ مع العلم وغدت فاعلةً من أجل الخير والتقدم.
ومن هنا يخالف المفسرين في رؤية النبي سليمان الذي رأى إن لديه نوراً تفوّقَ بهِ على جميع حكماء عصره:
(أنا أعني بذلك سليمان الذي لا تكشفُ أسفاره المقدسة عن هبة النبوة والورع، بل عن الفطنة والحكمة. ففي سفر الأمثال يسمى سليمان الذهنَ الانساني نافورة الحياة الحقة، ويجعل الشقاء في ضياع العقل ويقول: العقل ينبوع الحياة لصاحبه وتأديب السفهاء).(طوبى للإنسان الذي وجد الحكمة).
ورغم أن سبينوزا يعلقُ التنويرَ في فضاءٍ مجرد عام ولم تصل فلسفة عصره لمراجعة الشروط الاقتصادية الاجتماعية للواقع، فإنه لا ينسى بحث حالات الناس الموضوعية وأفكارهم.
ويتصورُ الخرافةَ بشكلٍ مثالي فيقول إنها(لا تعتمدُ إلا على التمني والحقد والغضب والخداع لأنها لا تقوم على العقل بل تقوم على الانفعال وحده وعلى أقوى الانفعالات. ولما كان عامة الناس أشقياء دائماً فإنهم لا يصلون إلى حالة رضاء دائمة، ولا يجدون تخفيفاً لشقائهم إلا بأوهام جديدة).
ولهذا هم يحولون الدينَ إلى خرافة، وأن(الخرافة هي أكثر الوسائل فاعلية لحكم العامة).
وهو يكشف إن تنبؤات الأنبياء اليهود في الكتاب (المقدس)هي حالات نفسية وآراء متعددة تخضع كلها لفترتها وحالاتها ومدى قدرة كل شخص من هؤلاء على فهم الوضع وأسبابه، وخدمة العامة.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 29, 2022 07:36

عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تروتسكي والثورة الدائمة

عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تروتسكي والثورة الدائمة

لا يمكن قراءة دراما القرن العشرين من دون شخصيات كبيرة مثل لينين وتروتسكي وستالين وغيرهم، هؤلاء الذين انشغلوا بالمصير البشري، وأرادوا تغييرَ الأنظمة الاستغلالية، وإيجاد مستقبل جديد للإنسان.
ومنذ شبابه الأول انخرط تروتسكي في النشاط السياسي والأحزاب والثورات والسجون، وكان من مؤسسي الثورة الروسية سنة 1917 ومن بناة رأسمالية الدولة ومن ضحاياها كذلك.
هل هو المزاجُ الحاد الذي شكّل شخصيةَ تروتسكي أم حالات التقلب الدائمة أم التركيزُ على ثيمةٍ نظرية والتمسك بها وهي مُحاطة بتحليلاتٍ قاصرة وخاطئة؟
يجمعُ تروتسكي بين الرومانسية والثورة:
(ولكن مهما تكن ظروف موتي، فإني سوف أموت وانا متمسك بإيمان لا يتزعزع بالغد الشيوعي. إن هذا الإيمان بالإنسان وبغده يزوّدني، حتى في هذا الوقت، بقدرة على المقاومة لا يستطيع أي دين أن يوفرها إني أستطيع أن أرى شريطا من العشب الأخضر على حافة الجدار، والسماء الزرقاء الصافية فوقه، والشمس في كل مكان. إن الحياة لجميلة فلتطهرها الأجيال القادمة من كل شرّ واضطهاد وعنف، ولتتمتع بها إلى أقصى حد.
لغةُ التطهرِ وتحويل السياسة إلى رؤيةٍ أعلى من الدين، ومجيء القيامة القادمة الجميلة هي تعبيرٌ عن الحماس الداخلي المتوهج، وفرض الذات الفياضة المشاعر على الواقع المقروء بذاتٍ مركزية متضخمة.
إن صراعات القوى السياسية الروسية مهمة لمعرفة النسق الداخلي المتصاعد لرؤيةِ تروتسكي، ورؤية الايديولوجيات المختلفة المعبرة في بداية القرن العشرين سواءً في الغرب أم في روسيا.
البلشفية والمنشفية هما الحالتان السياستان اللتان استقل عنهما تروتسكي، فالحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي منقسمٌ حول طرق التطور السياسية، فهل يمشي في الطريق الغربي الديمقراطي الرأسمالي الحداثي أم يؤسس الطريق الاشتراكي؟
في البداية لم تكن الأسئلةُ والإجاباتُ والآراء واضحة، فالميراثُ الماركسي نفسهُ غامض، فهل هو رؤية ديمقراطية تتغلغلُ في المجتمعات وتغيرها عبر الأدوات الموجودة من دون قفزات، أم تؤسس دولة شمولية تفرض التحول (الاشتراكي) المفترض؟ وما هو حجم هذا التحول وهل يبقى في أطره القومية أم يتحول لتغيير عالمي؟
الفئاتُ البرجوازيةُ الصغيرة الروسية بخيارِها الاشتراكي عبرتْ عن طموحاتِها للاستيلاءِ على سلطةِ نظامٍ إقطاعي يتطورُ رأسمالياً، سواءً من خلال نمو تدريجي تحديثي ديمقراطي أم عبر الاستيلاء بالقوة وفرض تطور صارم من جهاز الدولة الذي سوف تقف فوقه.
إن هذه الفئات تصورتْ نفسَها معبرةً عن العمال، فهو حزب عمالي، أي يمثل العمال قواعده المفترضة، وهي القائدة بتياراتها المختلفة.
إذاً الرؤية النخبوية أتاحت لها أن تفرضَ الخيارَ الاشتراكي بشكل برامجي مسبق، فهي تعيش حالات دكتاتورية عبر إنزال نفوذها وشخوصها، وتتباين هي هنا عن المسيحية التي أرادت أن تغلغلَ نموذجَها الحلمي عبر التسامح والرحمة فما استطاعت، لكون المسيحية هي كذلك اندمجت في أنظمةٍ شموليةٍ وغدت جزءًا من بناها الاجتماعية.
فتلك الفئات الوسطى الصغيرة المثقفة السياسية الروسية في تناقضها بين التطور الاشتراكي الديمقراطي السلمي وبين التطور العنيف، هي كلها تعيشُ رؤى نخبوية، لكن ثمة فرقا كبيرا بين نمو الفكرة بالجدل والديمقراطية والاختلاف، وبين نموها بالقوة، وهذا يؤدي لأن يكون الحزب المنشفي مؤيداً للتعددية ونمو الديمقراطية فيما يعبرُ الحزبُ البلشفي عن القوةِ والدكتاتورية الحادة.
ولم تكن روسيا قادرةً على النمو عبر الديمقراطية، فميراثُها الإقطاعي الضخم والتخلف والأمية لم تُغيرْ بشكلٍ تدريجي خلال العقود السابقة، وقد تفجرتْ في لحظة الحرب العالمية الأولى حيث انفلتت هذه التناقضات دفعة واحدة على مسرح التاريخ الدامي وطلبتْ حلولاً سريعة.
تغدو رؤيةُ تروتسكي المضادةِ لكلا التوجهين البلشفي والمنشفي، نابعةً من قبول كلتا وجهتي النظر بالاشتراكية(الديمقراطية).
فعبرَ تروتسكي لن تكونَ الثورةُ سوى عنف وقوى(شعبية) متصاعدة تحطمُ النظامَ الروسي. فتغدو الديمقراطية هنا غريبةً بالنسبةِ إليه، ولكن ميراثَ الحركةِ السياسية الاشتراكية هذه يرتكز على الديمقراطية التي تعني تطوير النظام القيصري نحو الاشتراكية الديمقراطية.
لم يضعْ التياران المنقسمان هذه الاشتراكيةَ محلَ النقد والتحليل المعمق، ولم يريا نظراتهما كتعبيرٍ عن فئاتٍ برجوازية صغيرة تريد فرض نظام من فوق، فيما القوى الغربية الاشتراكية المماثلة غير قادرة على وضع الاشتراكية موضع التطبيق.
كان لينين أكثر مقاربةً إيديولوجية نفعيةً لهذا الخيار، فرؤيتُهُ لبناءِ الحزب البلشفي بطريقةٍ قوية دكتاتورية، كان يلغي هذه الديمقراطية عبر سنواتٍ متدرجة من عمله، ويؤدلج الوضع الروسي الذي كان يسير نحو الرأسمالية كما في جداله مع (الشعبيين) الذين رفضوا وجودَ تطورٍ رأسمالي حسب تصاعد دكتاتوريته الشخصية الحزبية العامة المتداخلة، وما كان يقيمهُ الحزبُ الآخر(المنشفي) من عملٍ ديمقراطي متدرج لم يكن يتماشى مع الظروف الشديدة التخلف، ومع ضعفِ القوى الليبرالية في النضال من أجل الديمقراطية، لهذا كان الحزب القوي هو الذي يصعد. والحزبُ القويلا يضمُ حوله بعض العمال ثم يوسعُ حضورَه، ويصبحُ آلةً كآلةِ الدولة.
اقترابُ تروتسكي من الحزب البلشفي في الحرب العالمية الأولى وانضمامه إليه يعودُ لكون هذا الحزب قد تصاعدت نزعة الدكتاتورية (الثورية) العنيفة فيه، وغدا معبراً كذلك عن ذات تروتسكي الذي لم يستطعْ إيجاد مؤيدين حوله، بسبب أن أفكاره لم تكن مجسَّدةً في شكلٍ تنظيمي مؤثر.
في هذه الفترة راحت أفكارُ تروتسكي حول الثورة الدائمة تتضح وتتبلور، ويكون جزءًا من البلاشفة
تعودُ أفكارُ تروتسكي عن الثورة الدائمة الى اضطرابِ أفكارِ الاشتراكية عن المستقبل البشري.
فالثورات الغربية التي ظهرت في أوروبا الغربية وشكلتْ عالمَ الحداثة المعاصر وقادت التحولات البشرية في هذا العصر لم تحل مشكلات الإنسانية، وجلبت استعماراً نهبَ الكرةَ الأرضية، وفجرتْ حروباً بين الدول الغربية المتصارعة حول الغنائم وكانت هي المستعمرات وشعوبها.
وبالتأكيد سوف تكون هذه التجربة مرفوضة، وكان الرفض يتجسد بكلمة الاشتراكية كما يتجسد بشكل الاسلام أو المسيحية عند شعوب أخرى، تعبرُ بأديانها عن رفضها الالتحاق بهذه التجربة القائدة غير مميزين بين التراث الديمقراطي الإنساني للغرب القائد لتجربة البشرية المعاصرة، وبين تجربةِ الغرب الاستعمارية.
ولهذا كانت الاشتراكية الديمقراطية في روسيا، لأن المسيحية لم تكن خياراً وهي معبرة عن القيصرية كذلك، ولم توجدْ تجاوزاً فكرياً.
هذه الاشتراكية كانت معبرة عن الفئات الصغيرة الاجتماعية التي وجدت في الغرب حضوراً وإمكانات متعددة رغم اختلافها فيه، لكن هذه الفئات كانت مخنوقةً في روسيا القيصرية.
في الغرب وجدت حضورَها وارتفاعها للسلطات وإمكانية التغيير المتدرج، فتداخلتْ مع الطبقاتِ الحاكمة، وتأثرتْ بها وصعدتْ في صفوفها عبر السياسة والاقتصاد والثقافة، ومن هنا فإن الاشتراكية لديها تدريجية إصلاحية بعيدة المدى، فيما لم تكن هذه الخياراتُ موجودةً لدى الفئات الوسطى الصغيرة الروسية، ذات القدرة على الصراع والتأليف والتضحية والقفز بين المعسكرات وركوب الموجات التي تعيش ظروفاً مأوساوية كذلك كما هي حال تروتسكي نفسه، وفي ذات الوقت تغدو إمكاناتُ العلومِ الاجتماعية وقدرات الناس العقلانية محدودة.
ويبدو تروتسكي نموذجياً في التعبير عن هذا الرفض للغرب، الذي يعني لديه الاستمرار في رفض الديمقراطية، وتفضيل الدكتاتورية كطريق ثوري، ولهذا فإن الثورات الرأسمالية الديمقراطية في الغرب يجب أن تواصل النمو لتكون ثورات اشتراكية في تحريضه، فيما الثورة الروسية يجب أن تتحول من ثورة رأسمالية في فبراير 1917 إلى ثورة اشتراكية في العام نفسه.
حرقُ المراحلِ التاريخيةِ هذه يتكونُ لدى تروتسكي كقوانين أزليةٍ للتاريخ البشري المعاصر، فالظروف الاقتصادية والقومية المختلفة لكل شعب، وظروف الشرق المتخلفة عن ظروف الغرب المتقدمة، لا تعني شيئاً له وسط الصراعات الاجتماعية المتماثلة والمتقاربة، فهي كلها تُحلُ بمفتاحٍ واحدٍ هو الثورة الدائمة.
عدم رؤية أن هذه الاشتراكية كما تبدت في الطفولة الروسية السياسية، عبر غياب التحليل بكونها نزعات مسقطة على الواقع، وكون التحول من ثورة رأسمالية قاصرة وعاجزة عن القيام بإصلاحاتٍ اقتصادية واجتماعية عميقة حين انفجرتْ بشكلٍ شعبي بسبب مجزرة الحرب العالمية ونقص المواد الغذائية وانفجار المجاعات، ثم تحولها لانقلاب عسكري في أكتوبر من ذلك العام التاريخي الكابوسي توجه لحل هذه المهام بأسلوب القوة الذي فُرخَ على مدى سنوات، هي كلها تدورُ في ذات الأسلوب الرأسمالي.
في الثورةِ الأولى قام التحولُ عبر فئات المناشفة والرأسماليين وقوى الفلاحين الأغنياء الذين لم يناضلوا عبر عقود لتصعيد هذا النموذج الديمقراطي، فخطفهُ منهم البلاشفةُ وحولوهُ إلى نظامٍ عسكري شمولي لرأسماليةِ دولةٍ منتجة موزعةٍ للأراضي على الفلاحين لكن لم تستطع توفير السلام بل انفجرت الحربُ الأهلية المروعة وذهب الملايين ضحايا لها.
لم يستطع تروتسكي أن يدرك قانونية التشكيلة الرأسمالية لكنه أحسّ بضرورة الثورة العالمية وأن تجاوز الرأسمالية لا يتم إلا بشكل بشري كوني، وأن أي ثورة في الشرق سوف تكون رأسمالية دولة وهو ما حدث في الاتحاد السوفيتي، لكنه لم يدرك أن ذلك بحاجةٍ الى وقتٍ طويل حتى تنتشر الرأسمالية المتطورة في كل بقاع الأرض، لكن الحل الذي طرحه هو انتحار، حيث اقترح نشر الثورة في كل مكان، وهو أمر يقود لسلسلة من الحروب الكارثية.
هذه التجربة مهمة لقوى النضال العربية خاصة وهي تواجه ذات الأسئلة والمصير الحائر للثورات، وحيث تلعب الرومانسية الدينية الدور الأكبر، إذا غابتْ قراءةُ قوانين التشكيلةِ الرأسمالية، كما غابتْ عن تروتسكي وراح يحولُ السياسةَ إلى مغامرات عسكرية ويصعد قوى الجيش والبيروقراطية ويضع مقدرات الشعوب في ايد قليلة في المكتب السياسي، حتى قامت الدكتاتورية الشخصية لستالين لتطرده ثم تقتله في نهاية المطاف.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 29, 2022 07:33

عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تروتسكي والثورة الدائمة

عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تروتسكي والثورة الدائمة

لا يمكن قراءة دراما القرن العشرين من دون شخصيات كبيرة مثل لينين وتروتسكي وستالين وغيرهم، هؤلاء الذين انشغلوا بالمصير البشري، وأرادوا تغييرَ الأنظمة الاستغلالية، وإيجاد مستقبل جديد للإنسان.
ومنذ شبابه الأول انخرط تروتسكي في النشاط السياسي والأحزاب والثورات والسجون، وكان من مؤسسي الثورة الروسية سنة 1917 ومن بناة رأسمالية الدولة ومن ضحاياها كذلك.
هل هو المزاجُ الحاد الذي شكّل شخصيةَ تروتسكي أم حالات التقلب الدائمة أم التركيزُ على ثيمةٍ نظرية والتمسك بها وهي مُحاطة بتحليلاتٍ قاصرة وخاطئة؟
يجمعُ تروتسكي بين الرومانسية والثورة:
(ولكن مهما تكن ظروف موتي، فإني سوف أموت وانا متمسك بإيمان لا يتزعزع بالغد الشيوعي. إن هذا الإيمان بالإنسان وبغده يزوّدني، حتى في هذا الوقت، بقدرة على المقاومة لا يستطيع أي دين أن يوفرها إني أستطيع أن أرى شريطا من العشب الأخضر على حافة الجدار، والسماء الزرقاء الصافية فوقه، والشمس في كل مكان. إن الحياة لجميلة فلتطهرها الأجيال القادمة من كل شرّ واضطهاد وعنف، ولتتمتع بها إلى أقصى حد.
لغةُ التطهرِ وتحويل السياسة إلى رؤيةٍ أعلى من الدين، ومجيء القيامة القادمة الجميلة هي تعبيرٌ عن الحماس الداخلي المتوهج، وفرض الذات الفياضة المشاعر على الواقع المقروء بذاتٍ مركزية متضخمة.
إن صراعات القوى السياسية الروسية مهمة لمعرفة النسق الداخلي المتصاعد لرؤيةِ تروتسكي، ورؤية الايديولوجيات المختلفة المعبرة في بداية القرن العشرين سواءً في الغرب أم في روسيا.
البلشفية والمنشفية هما الحالتان السياستان اللتان استقل عنهما تروتسكي، فالحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي منقسمٌ حول طرق التطور السياسية، فهل يمشي في الطريق الغربي الديمقراطي الرأسمالي الحداثي أم يؤسس الطريق الاشتراكي؟
في البداية لم تكن الأسئلةُ والإجاباتُ والآراء واضحة، فالميراثُ الماركسي نفسهُ غامض، فهل هو رؤية ديمقراطية تتغلغلُ في المجتمعات وتغيرها عبر الأدوات الموجودة من دون قفزات، أم تؤسس دولة شمولية تفرض التحول (الاشتراكي) المفترض؟ وما هو حجم هذا التحول وهل يبقى في أطره القومية أم يتحول لتغيير عالمي؟
الفئاتُ البرجوازيةُ الصغيرة الروسية بخيارِها الاشتراكي عبرتْ عن طموحاتِها للاستيلاءِ على سلطةِ نظامٍ إقطاعي يتطورُ رأسمالياً، سواءً من خلال نمو تدريجي تحديثي ديمقراطي أم عبر الاستيلاء بالقوة وفرض تطور صارم من جهاز الدولة الذي سوف تقف فوقه.
إن هذه الفئات تصورتْ نفسَها معبرةً عن العمال، فهو حزب عمالي، أي يمثل العمال قواعده المفترضة، وهي القائدة بتياراتها المختلفة.
إذاً الرؤية النخبوية أتاحت لها أن تفرضَ الخيارَ الاشتراكي بشكل برامجي مسبق، فهي تعيش حالات دكتاتورية عبر إنزال نفوذها وشخوصها، وتتباين هي هنا عن المسيحية التي أرادت أن تغلغلَ نموذجَها الحلمي عبر التسامح والرحمة فما استطاعت، لكون المسيحية هي كذلك اندمجت في أنظمةٍ شموليةٍ وغدت جزءًا من بناها الاجتماعية.
فتلك الفئات الوسطى الصغيرة المثقفة السياسية الروسية في تناقضها بين التطور الاشتراكي الديمقراطي السلمي وبين التطور العنيف، هي كلها تعيشُ رؤى نخبوية، لكن ثمة فرقا كبيرا بين نمو الفكرة بالجدل والديمقراطية والاختلاف، وبين نموها بالقوة، وهذا يؤدي لأن يكون الحزب المنشفي مؤيداً للتعددية ونمو الديمقراطية فيما يعبرُ الحزبُ البلشفي عن القوةِ والدكتاتورية الحادة.
ولم تكن روسيا قادرةً على النمو عبر الديمقراطية، فميراثُها الإقطاعي الضخم والتخلف والأمية لم تُغيرْ بشكلٍ تدريجي خلال العقود السابقة، وقد تفجرتْ في لحظة الحرب العالمية الأولى حيث انفلتت هذه التناقضات دفعة واحدة على مسرح التاريخ الدامي وطلبتْ حلولاً سريعة.
تغدو رؤيةُ تروتسكي المضادةِ لكلا التوجهين البلشفي والمنشفي، نابعةً من قبول كلتا وجهتي النظر بالاشتراكية(الديمقراطية).
فعبرَ تروتسكي لن تكونَ الثورةُ سوى عنف وقوى(شعبية) متصاعدة تحطمُ النظامَ الروسي. فتغدو الديمقراطية هنا غريبةً بالنسبةِ إليه، ولكن ميراثَ الحركةِ السياسية الاشتراكية هذه يرتكز على الديمقراطية التي تعني تطوير النظام القيصري نحو الاشتراكية الديمقراطية.
لم يضعْ التياران المنقسمان هذه الاشتراكيةَ محلَ النقد والتحليل المعمق، ولم يريا نظراتهما كتعبيرٍ عن فئاتٍ برجوازية صغيرة تريد فرض نظام من فوق، فيما القوى الغربية الاشتراكية المماثلة غير قادرة على وضع الاشتراكية موضع التطبيق.
كان لينين أكثر مقاربةً إيديولوجية نفعيةً لهذا الخيار، فرؤيتُهُ لبناءِ الحزب البلشفي بطريقةٍ قوية دكتاتورية، كان يلغي هذه الديمقراطية عبر سنواتٍ متدرجة من عمله، ويؤدلج الوضع الروسي الذي كان يسير نحو الرأسمالية كما في جداله مع (الشعبيين) الذين رفضوا وجودَ تطورٍ رأسمالي حسب تصاعد دكتاتوريته الشخصية الحزبية العامة المتداخلة، وما كان يقيمهُ الحزبُ الآخر(المنشفي) من عملٍ ديمقراطي متدرج لم يكن يتماشى مع الظروف الشديدة التخلف، ومع ضعفِ القوى الليبرالية في النضال من أجل الديمقراطية، لهذا كان الحزب القوي هو الذي يصعد. والحزبُ القويلا يضمُ حوله بعض العمال ثم يوسعُ حضورَه، ويصبحُ آلةً كآلةِ الدولة.
اقترابُ تروتسكي من الحزب البلشفي في الحرب العالمية الأولى وانضمامه إليه يعودُ لكون هذا الحزب قد تصاعدت نزعة الدكتاتورية (الثورية) العنيفة فيه، وغدا معبراً كذلك عن ذات تروتسكي الذي لم يستطعْ إيجاد مؤيدين حوله، بسبب أن أفكاره لم تكن مجسَّدةً في شكلٍ تنظيمي مؤثر.
في هذه الفترة راحت أفكارُ تروتسكي حول الثورة الدائمة تتضح وتتبلور، ويكون جزءًا من البلاشفة
تعودُ أفكارُ تروتسكي عن الثورة الدائمة الى اضطرابِ أفكارِ الاشتراكية عن المستقبل البشري.
فالثورات الغربية التي ظهرت في أوروبا الغربية وشكلتْ عالمَ الحداثة المعاصر وقادت التحولات البشرية في هذا العصر لم تحل مشكلات الإنسانية، وجلبت استعماراً نهبَ الكرةَ الأرضية، وفجرتْ حروباً بين الدول الغربية المتصارعة حول الغنائم وكانت هي المستعمرات وشعوبها.
وبالتأكيد سوف تكون هذه التجربة مرفوضة، وكان الرفض يتجسد بكلمة الاشتراكية كما يتجسد بشكل الاسلام أو المسيحية عند شعوب أخرى، تعبرُ بأديانها عن رفضها الالتحاق بهذه التجربة القائدة غير مميزين بين التراث الديمقراطي الإنساني للغرب القائد لتجربة البشرية المعاصرة، وبين تجربةِ الغرب الاستعمارية.
ولهذا كانت الاشتراكية الديمقراطية في روسيا، لأن المسيحية لم تكن خياراً وهي معبرة عن القيصرية كذلك، ولم توجدْ تجاوزاً فكرياً.
هذه الاشتراكية كانت معبرة عن الفئات الصغيرة الاجتماعية التي وجدت في الغرب حضوراً وإمكانات متعددة رغم اختلافها فيه، لكن هذه الفئات كانت مخنوقةً في روسيا القيصرية.
في الغرب وجدت حضورَها وارتفاعها للسلطات وإمكانية التغيير المتدرج، فتداخلتْ مع الطبقاتِ الحاكمة، وتأثرتْ بها وصعدتْ في صفوفها عبر السياسة والاقتصاد والثقافة، ومن هنا فإن الاشتراكية لديها تدريجية إصلاحية بعيدة المدى، فيما لم تكن هذه الخياراتُ موجودةً لدى الفئات الوسطى الصغيرة الروسية، ذات القدرة على الصراع والتأليف والتضحية والقفز بين المعسكرات وركوب الموجات التي تعيش ظروفاً مأوساوية كذلك كما هي حال تروتسكي نفسه، وفي ذات الوقت تغدو إمكاناتُ العلومِ الاجتماعية وقدرات الناس العقلانية محدودة.
ويبدو تروتسكي نموذجياً في التعبير عن هذا الرفض للغرب، الذي يعني لديه الاستمرار في رفض الديمقراطية، وتفضيل الدكتاتورية كطريق ثوري، ولهذا فإن الثورات الرأسمالية الديمقراطية في الغرب يجب أن تواصل النمو لتكون ثورات اشتراكية في تحريضه، فيما الثورة الروسية يجب أن تتحول من ثورة رأسمالية في فبراير 1917 إلى ثورة اشتراكية في العام نفسه.
حرقُ المراحلِ التاريخيةِ هذه يتكونُ لدى تروتسكي كقوانين أزليةٍ للتاريخ البشري المعاصر، فالظروف الاقتصادية والقومية المختلفة لكل شعب، وظروف الشرق المتخلفة عن ظروف الغرب المتقدمة، لا تعني شيئاً له وسط الصراعات الاجتماعية المتماثلة والمتقاربة، فهي كلها تُحلُ بمفتاحٍ واحدٍ هو الثورة الدائمة.
عدم رؤية أن هذه الاشتراكية كما تبدت في الطفولة الروسية السياسية، عبر غياب التحليل بكونها نزعات مسقطة على الواقع، وكون التحول من ثورة رأسمالية قاصرة وعاجزة عن القيام بإصلاحاتٍ اقتصادية واجتماعية عميقة حين انفجرتْ بشكلٍ شعبي بسبب مجزرة الحرب العالمية ونقص المواد الغذائية وانفجار المجاعات، ثم تحولها لانقلاب عسكري في أكتوبر من ذلك العام التاريخي الكابوسي توجه لحل هذه المهام بأسلوب القوة الذي فُرخَ على مدى سنوات، هي كلها تدورُ في ذات الأسلوب الرأسمالي.
في الثورةِ الأولى قام التحولُ عبر فئات المناشفة والرأسماليين وقوى الفلاحين الأغنياء الذين لم يناضلوا عبر عقود لتصعيد هذا النموذج الديمقراطي، فخطفهُ منهم البلاشفةُ وحولوهُ إلى نظامٍ عسكري شمولي لرأسماليةِ دولةٍ منتجة موزعةٍ للأراضي على الفلاحين لكن لم تستطع توفير السلام بل انفجرت الحربُ الأهلية المروعة وذهب الملايين ضحايا لها.
لم يستطع تروتسكي أن يدرك قانونية التشكيلة الرأسمالية لكنه أحسّ بضرورة الثورة العالمية وأن تجاوز الرأسمالية لا يتم إلا بشكل بشري كوني، وأن أي ثورة في الشرق سوف تكون رأسمالية دولة وهو ما حدث في الاتحاد السوفيتي، لكنه لم يدرك أن ذلك بحاجةٍ الى وقتٍ طويل حتى تنتشر الرأسمالية المتطورة في كل بقاع الأرض، لكن الحل الذي طرحه هو انتحار، حيث اقترح نشر الثورة في كل مكان، وهو أمر يقود لسلسلة من الحروب الكارثية.
هذه التجربة مهمة لقوى النضال العربية خاصة وهي تواجه ذات الأسئلة والمصير الحائر للثورات، وحيث تلعب الرومانسية الدينية الدور الأكبر، إذا غابتْ قراءةُ قوانين التشكيلةِ الرأسمالية، كما غابتْ عن تروتسكي وراح يحولُ السياسةَ إلى مغامرات عسكرية ويصعد قوى الجيش والبيروقراطية ويضع مقدرات الشعوب في ايد قليلة في المكتب السياسي، حتى قامت الدكتاتورية الشخصية لستالين لتطرده ثم تقتله في نهاية المطاف.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 29, 2022 07:33

June 25, 2022

فناتك الناقد ذو الرأس الفارغ

تجليات الناقد ذو الرأس الفارغ ، يقول في يقين مطلق أن الرويات التي صدرت بعد وفاة عبدالله خليفة هي روايات ( بروفة وليست للنشر ! ) ، كذا

رسائل جمال عبدالناصر السرية، 2015.
34 – ثمن الروح، 2016.
35 – ألماس والأبنوس، 2016.
36 – ابن السيد، 2016.
37 – الأرض تحت الأنقاض، 2017.
38 – حورية البحر، 2017.
39 – طريق اللؤلؤ، 2017.
40 – بورتريه قصاب، 2017.

مصر ُع أبي مسلم الخراساني، 2018.
42 – شا عر الضياء، 2018.
ِ 43َ – خليج الأرواح الضائعة ِ، 2019.
هدهد سـليمـان، 2019.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 25, 2022 20:26

فناتك الناقد ذو الرأس الفارغ

تجليات الناقد ذو الرأس الفارغ ، يقول في يقين مطلق أن الرويات التي صدرت بعد وفاة عبدالله خليفة هي روايات ( بروفة وليست للنشر ! ) ، كذا

رسائل جمال عبدالناصر السرية، 2015.
34 – ثمن الروح، 2016.
35 – ألماس والأبنوس، 2016.
36 – ابن السيد، 2016.
37 – الأرض تحت الأنقاض، 2017.
38 – حورية البحر، 2017.
39 – طريق اللؤلؤ، 2017.
40 – بورتريه قصاب، 2017.

مصر ُع أبي مسلم الخراساني، 2018.
42 – شا عر الضياء، 2018.
ِ 43َ – خليج الأرواح الضائعة ِ، 2019.
هدهد سـليمـان، 2019.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 25, 2022 20:26

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الإسلامُ ثورةُ التجار

الإسلامُ ثورةُ التجار

لم يكن شيئاً عفوياً هذا الارتباط بين كونِ أغلب الصحابة من التجار والتوجه للحداثة في الإسلام.
كونُ الإسلامِ قوةٌ إجتماعيةٌ ثقافية لتجديدِ عالم العرب البدو لا أحد يجادل فيها، لكن غالباً ما يتم التغافل عن هذه الحيوية النضالية الداخلية لعملياتِ التجديد التي يقوم بها فقهاءٌ مؤثرون، وكيف يمشي خيطُ التغييرِ نحو المدينة، من مدينةِ مكةَ البسيطةِ لمدينةِ بغداد.
نرى كيف يعملُ فقيهٌ في الحجازِ بظروفِ الحجاز المحافظةِ لكي يجددَ، في حين يعملُ فقيهٌ آخر في الكوفة وفيما بعد بالعاصمة، لتحريكِ رأس المال من قيوده الاجتماعية الدينية الثقافية ليقوم بعملية التغيير الديمقراطي.
العقلُ التجاري الأول هو عقلُ المادةِ الفكرية والبضاعةِ السلعية المستفادتين من التجارة التي غدت مكة إحدى عواصمها، وكلا العقلين قاما بخلقِ فئةِ تجارٍ ضالعةٍ في التجارة العالمية، وفئةِ مثقين تجارٍ قائدةٍ لعملية التغيير، وهذا قادَ لتكون أكبر إمبراطورية للتجارة في العالم وقتذاك رغم أن التجارَ فقدوا السلطة بعد الخلفاء الراشدين، وواصلها ملاكُ الأراضي الزراعية البذخيين المسرفين.
تدفق التجارة وتحول الحياة ونمو الحرف كانت تعطيهم قوةً لإعادةِ النظر في الأحكام، لتصبحَ الفائدةُ مقبولةً في ظلِ شروطٍ معينة، وأعادوا النظر العقلي في العديد من ظواهر الحياة، لكن المعادنَ النفيسة كانت تخرجُ من بلاد المسلمين لغيرهم.
هذه المعادنُ كانت وماتزال ميزاناً دقيقاً لنمو قوة العمل وإتساع الإنتاج البضائعي، وعلو الفلسفة وبحثها عن إزاحة العوائق والمخلفات من مجرى نهر التطور للبلدان العربية الإسلامية.
كان الصرفُ والهدرُ في الثروة أكثر من تنامي قوة العمل، ونظريةُ الفقهِ لم تصلْ للربطِ بين الأحكامِ الفقهيةِ وتدهورِ حالةِ النقد وتسربِ الذهب.
الأحكامُ الشرعيةُ حول الزواج تبقى بدون تغيير رغم نضوبِ قوى العمل المنتج عند الفلاحين وهروبهم للمدن، وإمتلاء الأحياء بالشحاذين والصعاليك والمشردين والبدو الهاربين من المجاعات في الصحارى.
لم يكن بإمكان الفقهاء حسب مستوى المعرفة التقنية والشرعية أن يربطوا بين أحكام الأسرة وعلاقات الإنتاج.
تدهور التجارة يصاحبها تدهور الفقه، أي بقائه عند إحكامه القديمة، ولا يكتشف العلاقات بين ضمور الأسر الإسلامية وإختناقها بكثرة العيال والفقر والخرافة وبين العلاقات الاقتصادية في الأرض والحكم.
خفت التجارُ الأحرارُ الذين طلعوا في الحجاز قادةً للثورة، وأختنقوا بين الحكومات الاستبدادية والفقه النصوصي، حتى رفعوا رؤوسَهم ثانيةً في وقتِ النهضة الحديثة وجاءهم تجارُ الغربِ ببضاعةٍ فكرية سبقَ أن أنتجَ شيئاً منها أسلافُهم، لقد زادوا عليها كثيراً ولم يعدْ الأمرُ مقتصراً على التجار والتجارة، وجاءت التسميةُ العربية(أهلُ الأبراج) تحملُ رائحةَ نضالِهم القديم، أي جاءت البرجوازية الحديثة لتوسع من شرائح قوى المال والصناعة، حيث حمى التجار الغربيون الناشئون أنفسَهم وبضائعهم ورأسمالهم بمدن الأبراج، فيما لم يستطعْ التجارُ العربُ أن يحموا أنفسَهم بأبراج وهم محاصرون في الإمبراطوريات حيث السيف والمصادرة والفقه المحدود.
بعد أن صادر العسكرُ العرب والمسلمون لحظات الحرية الوامضة في تلك الليبرالية الخاطفة تهلُّ علينا لحظاتٌ أخرى، واعدةً بحرياتٍ جديدة، إذا أحسنتْ القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية قراءة الواقع إستناداً لتاريخٍ طويل من صنع البذور وضخامة فصول القحط.
إذا تخاصمت قوى التجديد حول الإيديولوجيات يعني هذا بداية البوار، حيث أن مستوى الإيديولوجيات مستوى محدود، وكلٌ له قراءةٌ مجردةٌ نصوصية، تفتقد إلى جداول من المشروعات التجارية والمصرفية والصناعية والزراعية، التي تملأ الأسواق بالذهب، لا أن تطرده كما فعل زمن الانهيار السابق.
منتجو النظريات المؤدلجة من دينيين وعلمانيين من البرجوازيات الصغيرة الطامحة في الرأسمال المادي المنير ذهباً، تقفزُ إليه مرة عبر الإقطاع الديني ومرة عبر الإقطاع السياسي، خير لهم أن يقرأوا هذا التاريخ العسير للأمة، وأن البلدان العربية بحاجة لصناعيين وتجار، بحاجة لمشروعات مادية هائلة تنقذ الشباب العاطل أو المهمش، بحاجة لمشروعات تزيح المدن العشوائية، بحاجة لاسترجاع الذهب من التكدس الخارجي، بحاجة لثورة زراعية، وثورة ثقافية، لا أن نبدأ من الصفر ونتصارع حول من هو الأصح، هذه تجربة الأمم الكبرى في الصناعة والمال تقود تشريعياً ديمقراطياً، فلا داعي للابتكار الزائف، والابتكار في ميادين الإنتاج حيث مجاعتنا الكبرى أما في الكلام فنحن نقود لكن للوراء دائماً.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 25, 2022 09:55

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الرعب من الحب

الرعب من الحب

الاصطدامات بين طريقتي التفكير المحافظ والتفكير التقدمي حتمية وطبيعية، ويجب عدم الفزع منها.
وإذا كانت تدور حول العلاقات الأسرية وعمليات التحرر فهي تمثل منطقة الصدام التاريخية الاجتماعية الطويلة الأمد، فالمحافظون يعملون على استقرار العلاقات الاجتماعية الماضية في مجال الأسرة، ويكافحون بشدة أية قفزة نحو تفكيك وهدم هذه العلاقات المستقرة، ويعتقدون بأن الأسرة على النمط الغربي، وأن الحريات المفتوحة التي يدعو لها التقدميون، هي كلها دمار للمجتمع لأنها تقضي على خلية الصمود الإسلامي فيه وهي الأسرة المحافظة.
علينا أولاً أن نحترم هذا الفهم ونقدره، ففيه جانب هام لأن أسرة متماسكة متحابة، وكذلك تنامي علاقات صحية داخلها، هو كذلك هدف التحديثيين، فهم لا يريدون تخريب الأسرة وإشاعة قيم الأنحلال، لكنهم يرفضون عمليات التقييد الحادة والتربية السيئة المحابية لاستبداد الذكور وأضطهاد النساء، حيث يحدث انقسام أخلاقي أكبر هو نتاج مقولة أن الذكور يستطيعون فعل ما يشاؤون في حين أن الإناث لا يحق لهن أي نوع من الحرية، حتى لقد غدت الأسرة (المحافظة) وهي الهدف السامي لدى الجميع منخورة وتجري فيها عمليات خراب داخلية عميقة دون أن يتم ملاحظة ذلك!
وعلينا أن نعترف كذلك بأن (أغلب) التحديثيين هم محافظون، وإن قالوا بأنهم مع التحديث وحرية المرأة. ومصداق ذلك بأنهم يعاملون زوجاتهم وبناتهم بنفس أسلوب المحافظين الذين ينتقدونهم، فهم يقمعون نساءهم، ويظهرون في التجمعات العامة بدون زوجاتهم وبناتهم، وربما يمنعهونهن كذلك من التطور الخاص، ويفضلون إنزوائهن في البيوت!
فهناك في الواقع رعب عام من تحرر المرأة، وهي حالة موضوعية لها علاقة بتعقيد التطور، فالتطور الاقتصادي كبير في حين أن التطور الاجتماعي شديد البطء. وهذا التطور الاقتصادي يُحدث حالات حادة من التفكك ومن الأصطدام بين الشرائع والقيم، كما أنه يقود الكثير من القوى العاملة إلى الفقر وبالتالي إلى دفع بناتهم إلى العمل، مع الخوف من تلوثهن في هذه الأوساط الجديدة الغريبة غير المسيطر عليها وطنياً وأخلاقياً.
كما أن النساء يمتلكن فوق قوة عملهن قوى سحرية أخرى قادرة على القفز فوق قيم العمل والصبر والتضحية، ولكن هذا القفز لا يؤدي سوى إلى تفكك العائلات، وأستشراء الأنانية، وإلى قيم أخرى مبتذلة.
إن الذكور يلعبون من جهات متضادة دور تقييد الأسرة ودور تفسخها كذلك، فهم كآباء يتشددون لكنهم لايتشددون بنفس القوة إذا كان الأمر يتعلق بغير عوائلهم. وهذه الحالة الأخيرة تزداد مع عوالم الأغراء والحرية والاختلاط، وبالتالي تجد الذكور المحافظين والتحدثيين هم المتواجدون في التجمعات العامة، على تباين أصنافها، وهم كلهم يقلصون من تواجد النساء، ربما لوجود رؤية مشتركة لدى الجميع بأن الغريزة هي المسيطرة عليهم، أما القشور الدينية والتحديثية فهي طلاء خارجي.
إن هذا واقع موضوعي لا يمكن تجاوزه بسهولة، ويحتاج لسنوات طويلة من تأصل قيم اجتماعية مشتركة، تجمع بين الجذور الدينية الأخلاقية الرفيعة وقيم الحضارة الحديثة المساواتية والتحررية، وهو أمر يحتاج إلى مد الجسور بين هذه التيارات التي تسعى لتطور المجتمع، كل من زاويته.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 25, 2022 09:53

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : السحر والدين

السحر والدين

موضوعا السحر والدين واسعان جداً، ولكننا نقصد هنا الأسباب التي أدت إلى بقاء السحر بل وأنتشاره بقوةٍ في العقود الأخيرة، حتى صار للسحرة بدل البيوت المخفية محطات فضاء ذات تأثير شعبي واسع!
إن السحر والدين تربطهما وشائج وصلات قوية، فكلاهما يعتمدان على الغيبيات، فهما مرحلتان من التفكير البشري اللتان لهما أسباب موضوعية، وإذا كان السحر هو المرحلة البدائية من التفكير البشري في البحث عن الأسباب، فالدين مرحلة تالية وأعلى منه للبحث عن هذه الأسباب كذلك!
فالبشر لا يختلقون أسباب التفكير بل هي تكون نتاج تطورهم الصعب وسط ظروف الطبيعة القاسية ووسط صرعاتهم الضارية كذلك!
وما يحيط بهم من ظروف وأحداث فيها السيء وفيها المفرح لا يفهمونه كل الفهم، ولهذا يلجأون لقوى أخرى من خارج وسطهم البسيط لكي تعينهم على هذا الفهم وعلى التأثير فيها والتغلب عليها!
وتتباين استجاباتهم لهذه القوى حسب مداركهم وظروفهم العامة والشخصية، وحتى صاحب النفوذ والقدرة الهائلة يحتاج للسحرة لا لشيء سوى إنه فقد القدرة على السيطرة على الأوضاع والتنبؤ بالمصير، فيتوجه المعتصم الحكاكم ذو النفوذ الهائل للاستعانة بالمنجمين، في حين إن أخاه المأمون كرس حكم العقل الديني!
وحتى لو جاء العالم ذو الإمكانيات العلمية الكبيرة لا يستطيع أن يفهم كلَ شيء، وأن يتنبأ بالمصائر، وأن يعرف تطورات الدول والأحداث بدقة، فهو يمكن أن يعرض ملامح عامة، لكن التطورات والأحداث لا يحيط بها كل وعي مهما كانت سحريته أو تدينه أوعلميته!
والمجتمعات تتباين في تطورها فإذا حدثت الأزمات الحادة وكثرت الظروف السيئة عليهم أو داهمتهم أمراضٌ خطيرة لجؤا إلى نوع ما من التفكير بأنواعه الثلاثة السابقة الذكر، حسب مستوى معارفهم، وحسب تطور حياتهم، فالمتخلفون جداً والمأزومون يختارون السحر، مثل الذي يلجأ للفانوس السحري وبساط الريح والنفث في العقد والتمائم والأحجبة وغيرها، يستعين بها من أجل تجاوز الخطر وخلق الظرف الملائم له، وعادة يجري ذلك في المستويات الشعبية، التي لا حظ لها من دين عقلي أو من علوم، أو تكون الحالة قد وصلت في الإنسان أو المجتمع إلى درجة الإطاحة بكل ثوابت العقل!
إن الإنسان المأزوم جداً أو المجتمع شديد التخلف أو المأزوم جداً كذلك يلجأ للحل الأخير المتدني، وهو إزاحة العقل بشكليه الديني أو العلمي.
إن علينا أن نحترم هذه الأشكال الثلاثة الكبرى من التفكير البشري، فهي وليدة حالة الإنسان الموضوعية، فكم من مثقف حين يعجز عن حل تناقضاته الداخلية أو حين أستفحل به المرض الخطير، قد لجأ إلى مشعوذ أوساحر، وكم من عالمٍ راح يكلم قبور أهله!

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 25, 2022 09:50

June 13, 2022

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : جورج لوكاش وتحطيم العقل

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : جورج لوكاش وتحطيم العقل

هو من كبارِ المفكرين والنقاد الماركسيين خلال القرن العشرين (1885-1973)، وُلدَ في المجر وتنقلَ بين دول أوروبا، حاصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة واشتغل بالتدريس، وغدا عضواً بالحزب الشيوعي المجري منذ عشرينيات القرن العشرين، وألف الكثيرَ من الكتب التي غدت مراجعَ في الفلسفة والأدب والنقد في العالم.
أهم كتبه هي عن ألمانيا، نظراً لعيشه الطويل فيها فكتب عن غوته وهيجل، وقد عبرَ كتابهُ (تحطيم العقل) بثلاثة أجزاء عن دراسةٍ عميقة مطولة لكل شخصية فكرية في ألمانيا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، منطلقاً في الكتاب من رؤية عميقة حللت أسباب ظهور اللاعقلانية في الثقافة الألمانية وتجليات ذلك لدى الفلاسفة إلى أن ظهرت بشكل دموي لدى هتلر، يمكن رؤية بعض المشابهة بين التطور الألماني والعربي الإسلامي.
برغم هذه الثقافة فإن جورج لوكاش يحلل التحولات السياسية في روسيا والانقلاب الاجتماعي السياسي سنة 1917 بأشكال معينة لم تصمد لغربلة التاريخ، وفي كتابه السابق(تحطيم العقل) يحضرُ قادةُ البلشفية خلال أسطر سريعة جداً، وهو كتابٌ صدر سنة 1952، وهي مسافة زمنية كبيرة عن الحدث الروسي، لكي يراجع لكن المراجعة وقتذاك لم تحدث، وتحدث بشكل عاصف لاحقاً.
ساهم في كتابة تأبينية بشكل مقالة كتبها بعد وفاة لينين قائد التحول السياسي الروسي.
(يقولون إن لينين كان رجلا سياسياً روسيا كبيرا، ولكنه كان يفتقر، حتى يكون زعيم البروليتاريا العالمية، إلى حسِّ التمييزِ الذي كان سيتيحُ له أن يدركَ الفارقَ بين روسيا والبلدان الرأسمالية المتقدمة)، كتاب لينين، دار الحقيقة، تقديم جورج طرابيشي.
ويرد لوكاش بأن هذا النقد ينطبق على ماركس نفسه، الذي استخلص من تحليل المصانع في إنجلترا رؤية رأس المال التي عممها على العالم كله.
يعرض لوكاش هنا جانبين مختلفين فدراسةُ ماركس لرأس المال كانت بحثية طويلة لاستخلاص قوانين بنية رأس المال، في أكثر البلدان الرأسمالية تقدماً، وليس تطبيقاً لتجربة سياسية، في حين كان عمل لينين قيادة انقلاب لإنشاء نظام اشتراكي.
الأول اكتشف بمساعدة أبحاث علماء اقتصاديين سبقوه قوانينَ بُنية اقتصادية، ولكن لينين لم يكتشف قوانين بنية اقتصاد اشتراكي يريد تطبيقها، بل لجأ للتجريب عبر سنوات.
بين بحث الأول في الرأسمالية وتطورها، وبين نقض الثاني للرأسمالية التي لم تتطور في روسيا هوةٌ كبيرة.
ولو كانت قوانين البناء الاشتراكي موجودة واضحة لكان ماركس طبقها بنفسه، ولهذا فإن الاشتراكيين الغربيين بدءًا من الألمان كتبوا وتصارعوا فكرياً وسياسياً لمعرفة كيف يتم نفي الرأسمالية وتجاوزها من دون الاتفاق بينهم.
بعد وفاة ماركس ظل أنجلز يحدد كيفية تجاوز الرأسمالية من خلال النضال الديمقراطي الإصلاحي الطويل، بتغيير حياة العمال والحصول على مكاسب وتطور الحياة الثقافية والاجتماعية لمجموع الشعب، وهو الخيار الذي تكرس بعد ذلك في حزب الاشتراكية الديمقراطية الألماني المتواصل النمو، والذي حدثت له أزمةٌ في الحرب العالمية الأولى بسبب خسائر الحرب الكارثية وخيانة قادة من الحزب ووقوفهم مع الدولة والحرب.
وقد تعددت رؤى الماركسيين الألمان للاشتراكية ففي (البيان الشيوعي)دعوة لإسقاط الرأسمالية كلية، وفي برنامج الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني في السبعينيات من القرن التاسع عشر دعوة لبعض التأميمات والإصلاحات من خلال سيطرة الطبقة العاملة على الحكم، وهو البرنامج الذي ظل حتى رفضتهُ جماعةُ (سبارتاكوس) مطالبةً بالعودة للبيان الشيوعي وإسقاط الرأسمالية كلياً في ألمانيا بقيادة روزا لكسمبورغ سنة 1914، وبعد سنوات قامت الثورة في ألمانيا وهُزمت وقتلتْ روزا وكارل ليبنخت زعيما الثورة.
إن رؤية الاشتراكية لدى الماركسيين غير واضحة ومحددة، لأن الاشتراكية غير واضحة، وثمة فرق كبير بين تغيير نظام عبر الثورة أو الانقلاب والقيام بالتأميمات، وبين إزالة التشكيلة الرأسمالية وهو الأمر الذي لم يدرسوه. فتغيير نظام واحد أو عدة أنظمة بتلك الإجراءات لا يبني اشتراكية التي هي تشكيلةٌ بشرية، كإزالة العبودية وهي تشكيلةٌ عالمية لم تزل إلا عبر مئات السنين من خلال حراك الشعوب الطويل المتقطع المتواصل.
في معظم كتابات لوكاش يتوجه للغة ماركس الهيجلية، ويعتبر هيجل مصدراً أساسياً لماركس وللماركسية، كما في كتابه (التاريخ والوعي الطبقي)، وكذلك معظم كتاباته بما فيها مقالته عن لينين التي خلطت بين دراسة بنية وصناعة نظام عبر مفردات شعرية:
(استشفَ عالم الرأسمالية الأكبر من خلال العالم الأصغر وهو المصنع الإنجليزي ومسلماته وشروطه الاجتماعية وكذلك من خلال الميول التاريخية التي أفضت إلى ولادته وتلك التي تجعل وجوده أمراً غير مؤكد على الدوام).
هذه اللغة الاستشفافية وعبر قراءة الميول هي لغة رومانسية سوف يدمجها لوكاش مع وعي نظري هيجلي ماركسي مختلط، يصل فيه للذرى حيناً ويغمض فيه أحياناً عدة.
قرأ جورج لوكاش تجربةَ ألمانيا الاجتماعية السياسية بعمق خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، دارسا خيط الأفكار الدينية والقومية الشمولية والصوفية التي وَجهتْ النخبَ والكثير من أفراد الشعب نحو القبول بهتلر قائدا منتخبا، فكيف تدهور وعي الشعب كي ينتخب هتلر الذي قادهُ لمذابح الحروب العالمية وحطم البلاد؟
إن مسارات تحول النهضة في ألمانيا تختلف عن تحول النهضة في بريطانيا وهولندا، الرائدتين في الحداثة، فحسب طرح لوكاش ان حروب الإصلاح الديني التي وُجهت لهزيمةِ البابوية الرجعية ممثلة الإقطاع المركزي أدتْ إلى جانبين مختلفين؛ فقد تطور واتحد كلٌّ من بريطانيا وهولندا، وانفصلتا عن الإقطاع الديني وشكلتا التجربة الرأسمالية الجديدة، فيما تفتت ألمانيا لدويلاتٍ صغيرة ومقاطعات لا يربطها هيكلٌ اقتصادي.
استمرت ألمانيا مفككة وإقطاعية عامة ويجري فيها تصنيعٌ رأسمالي محدود حتى انفجار الثورة الفرنسية، وهجمة نابليون عليها وتغييره لها لكن عبر غزو وفرض إرادة أجنبية مكروهة.
وقد تعقدت مهمةُ القوى الديمقراطية الألمانية المحدودة ومواقف الكتاب الكبار تجاه التطوير الفرنسي الاحتلالي وتجاه النضال القومي التحريري، خاصة مع قيام القوى الإقطاعية القديمة بقيادة معركة التحرير والهجوم ضد الاشعاع الفرنسي الديمقراطي.
وتصاعد بعد ذلك دورُ النبلاء والضباط الكبار الألمان عبر بسمارك والعائلة الملكية في توحيد ألمانيا وتقدمها، ونشر ثقافة رجعية كذلك في صفوف الشعب.
وقد ظلت ألمانيا في القرن التاسع عشر حتى أوائل القرن العشرين متضادة التركيب، فهي تتقدم بصور سريعة في الصناعة حتى غدت هي الدولة الصناعية الأوروبية الأولى في بداية القرن العشرين متخطية الدول الصناعية الكبيرة متقاربة مع الولايات المتحدة.
في حين أنها في مسائل التطور الاجتماعي كانت متخلفة، فجسمُ الإداريين العسكريين الكبار كان لايزال مهيمنا على الحياة السياسية الاجتماعية، والمُلكيات الزراعية الكبيرة سائدة في الأرياف، وكان لاتزال ثمة أقاليم مفككة، وثقافةُ المسكنةِ وضيق الأفق وغياب المنظورات التنويرية والديمقراطية سائدة بين الجمهور.
أدى هذا إلى ضخامة القوى المالكة المحافظة وتغلبها على الطبقات البرجوازية والعاملة الليبرالية والمتنورة، وبهذا فإن المفكرين والكتاب والأدباء تأثروا بهذا المنحى المتناقض، وعبرَ الفلاسفة عن تدهور العقلانية كما لدى شيلنغ، ومحدودية العقلانية وفرديتها لدى الفيلسوف كانط، وتضخمتْ الفرديةُ لدى فيخته، ورغم الجدلية العظيمة لهيجل ففلسفته ذات بناء اسطوري، وكيريغارد أسس الوجودية الصوفية حيث الفرد محور الوجود ولكن عبر نقد الدين كهيمنة خارجية على الإنسان، وكان لاسال زعيم العمال (الاشتراكي) يعتبر الإمبراطور هو القائد النقابي للعمال.
ورغم هذا التخلف الثقافي فقد تعملقتْ ألمانيا صناعيا وبحثتْ بشهوةٍ عارمة عن الأسواق، وأصبح صناعيوها يفضلون الغزو ودعم الاستعمار ويفضلون الدكتاتور بدلا من تعزيز الديمقراطية.
ولم تكن الحركة الاشتراكية الديمقراطية حسب رأيي وليست حسب رأي لوكاش جدلية تركيبية في تصوراتها فكان ينبغي أن تطور الرأسمالية وتنقدها معا، وتركز في إزالة بقايا الإقطاع وتكون جبهة عريضة ضد التخلف ولثقافة قومية ديمقراطية. وقد أدى تطرف روزا لكسمبروغ بعكس ما يقول لوكاش في كتابه(التاريخ والوعي الطبقي) وتوجهها لأقصى اليسار إلى بتر التحالف الاشتراكي الديمقراطي وصعود الثقافة النازية وخداعها للجمهور عبر جمعها بين الاشتراكية الزائفة والهوس الوطني الديني، وبهذا فإن أقصى اليسار في روسيا وألمانيا صعّدا النازية من حيث لا يدريان.
ظل لوكاش عقودا في الاتحاد السوفيتي، ولم أقرأ له تحليلا نقديا عنه، وقد صار ضمن وزراء ثورة المجر ضد السيطرة الروسية عام 1956 وهو تحول مضاد وعظيم، خاصة لشخصية جورج لوكاش وبعد ذلك عاش في الغرب يثري الدراسات الفكرية والأدبية من خلال وجهة نظره.
هذه لمحاتٌ محدودة من عوالم جورج لوكاش الواسعة.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 13, 2022 06:21