عبـــــــدالله خلــــــــيفة: سبينوزا والعقل

عبـــــــدالله خلــــــــيفة: سبينوزا والعقل

أمثال ديكارت وسبينوزا وهيغل هم فلاسفةُ أوربا في مرحلةِ الانتقال من عصرِ التنوير إلى الحداثة، وقد برز بينهم سبينوزا في نقد التفكير الديني الخرافي خاصة لدى اليهود، فهو يهودي المولد والنشأة، ولكنه أستغل تربيته وثقافته من أجل الفلسفة والتنوير للبشر عامة وأعاد تفسير التوراة بشكل أغضب رجال الدين عليه كثيراً.
رسالته الأساسية كانت في نقد الوعي الديني اليهودي-المسيحي، المسماة(رسالة في اللاهوت والسياسة)، حيث نزعَ المظلةَ الدينية عن التدخل في السياسة، وناقش بدقة وبحثٍ إستقصائي الكتب المقدسة لدى اليهود والمسيحيين، فهو مع إعترافه بالذاتِ الإلهية لكنه لا يقبل بشيء آخر إستثنائي في الوجود، ويعتبر عمل الذات الإلهية شكل آخر لفعل الطبيعة. أي هو يرفض أي تدخل غيبي في سببيات الوجود طبيعةً أم مجتمعاً.
ولهذا فإن الأنبياءَ لديه شخصيات تتسمُ بالذكاء وحب الخير وهو ما جعلهم يمتحون من مظلةِ الوحي العام الذي يستطيع أن يأخذَ منه أي شخص طيب فاعل في عالم النبل.
لأن الذات الإلهية في رأيه تفيضُ بالخير على الناس عبر الوحي الفكري الذي تشتغلُ عليه عقولُهُم الباحثة عن المعرفة والسببيات والتغيير.
ولو أن عقولهم راكدة جافة وأعمالهم شريرة وسيئة وجامدة فإنها لا تستطيع أن تتصل بالوحي ذاك.
فالوحي كأنه يتولدُ من أفعالهِم المغيرة للحياة السيئة. وهذه الأفكار البسيطة لدى الفيلسوف الهولندي تبدأُ عصرَ الانتقال من هيمنة الدين السحري في العصر الوسيط الأوربي إلى الدين العقلاني، المعتمد على السببية. فتغدو رسالته هي تحليلٌ دقيقٌ وتاريخي ملموس للنصوص وتجريدي فلسفي لها معاً.
ولهذا فهو في رسالته المشار إليها لا يرى أن ثمة معجزات في التاريخ الديني اليهودي، وأن النبي موسى مثقف بارزٌ في عصره، وأن تلك الأمور الخارقة التي وقعت في بداية ظهور اليهود وحتى بعد تكونهم بحاجة لأدلة من الحفريات والشواهد.
يحيلُ الفيلسوفُ الأنبياءَ إلى مثقفين وحكماء لعصورهم.
ويرى أن ما يفعله الناس من عادات دينية لا يكسبهم خيراً وفضيلة، بل إن ما يقومون به من أعمالٍ خيرة هو الفضيلة فيستعين بالتوراة ليؤكد ذلك عبر قول لبولس الرسول:
(إن الختانَ ينفعُ لو عملتَ بالناموس ولكن إن كنتَ متعدياً للناموسِ فقد صارَ ختانكَ قَلفاً. فإذا كان الأقلفُ يحفظُ حقوقَ الناموس أفلا يعدُ قلفهُ ختاناً؟).
إن الاعتماد على الطبيعة وإكتشاف أسرارها والسيطرة عليها هو الإيمان الراسخ لدى الفيلسوف، أما الايمان بالمعجزات والصراخ لتغيير الحال بالكلام مهما كان مصدره وقيمة لغته لتبديل الطبيعة فلا جدوى منه، إذا لم تكن الكلمة كاشفة لأسرار الوجود والنفس والعقل وعاملة منتجة من خلالها.
(إن قوانين الطبيعة الشاملة التي يحدث كل شيء ويتحدد طبقاً لها ليست سوى أوامر الله الأزلية التي تنطوي على حقيقةٍ وضرورة أزلية. وإذا قلنا أن كلَ شيء يحدثُ طبقاً لقوانين الطبيعة أو ينتظمُ بحكمِ الله أو بأمرهِ فإننا نقولُ نفسَ الشيء)، الرسالة ص 173، دار الطليعة.
ولهذا فإن النبوات في رأيه لا تختلف عن الحكمة والبحوث فإذا ما توجهتْ لكشف أسرار الطبيعة وأوضاع الإنسان تداخلتْ مع العلم وغدت فاعلةً من أجل الخير والتقدم.
ومن هنا يخالف المفسرين في رؤية النبي سليمان الذي رأى إن لديه نوراً تفوّقَ بهِ على جميع حكماء عصره:
(أنا أعني بذلك سليمان الذي لا تكشفُ أسفاره المقدسة عن هبة النبوة والورع، بل عن الفطنة والحكمة. ففي سفر الأمثال يسمى سليمان الذهنَ الانساني نافورة الحياة الحقة، ويجعل الشقاء في ضياع العقل ويقول: العقل ينبوع الحياة لصاحبه وتأديب السفهاء).(طوبى للإنسان الذي وجد الحكمة).
ورغم أن سبينوزا يعلقُ التنويرَ في فضاءٍ مجرد عام ولم تصل فلسفة عصره لمراجعة الشروط الاقتصادية الاجتماعية للواقع، فإنه لا ينسى بحث حالات الناس الموضوعية وأفكارهم.
ويتصورُ الخرافةَ بشكلٍ مثالي فيقول إنها(لا تعتمدُ إلا على التمني والحقد والغضب والخداع لأنها لا تقوم على العقل بل تقوم على الانفعال وحده وعلى أقوى الانفعالات. ولما كان عامة الناس أشقياء دائماً فإنهم لا يصلون إلى حالة رضاء دائمة، ولا يجدون تخفيفاً لشقائهم إلا بأوهام جديدة).
ولهذا هم يحولون الدينَ إلى خرافة، وأن(الخرافة هي أكثر الوسائل فاعلية لحكم العامة).
وهو يكشف إن تنبؤات الأنبياء اليهود في الكتاب (المقدس)هي حالات نفسية وآراء متعددة تخضع كلها لفترتها وحالاتها ومدى قدرة كل شخص من هؤلاء على فهم الوضع وأسبابه، وخدمة العامة.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 29, 2022 07:36
No comments have been added yet.