عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الإسلامُ ثورةُ التجار

الإسلامُ ثورةُ التجار

لم يكن شيئاً عفوياً هذا الارتباط بين كونِ أغلب الصحابة من التجار والتوجه للحداثة في الإسلام.
كونُ الإسلامِ قوةٌ إجتماعيةٌ ثقافية لتجديدِ عالم العرب البدو لا أحد يجادل فيها، لكن غالباً ما يتم التغافل عن هذه الحيوية النضالية الداخلية لعملياتِ التجديد التي يقوم بها فقهاءٌ مؤثرون، وكيف يمشي خيطُ التغييرِ نحو المدينة، من مدينةِ مكةَ البسيطةِ لمدينةِ بغداد.
نرى كيف يعملُ فقيهٌ في الحجازِ بظروفِ الحجاز المحافظةِ لكي يجددَ، في حين يعملُ فقيهٌ آخر في الكوفة وفيما بعد بالعاصمة، لتحريكِ رأس المال من قيوده الاجتماعية الدينية الثقافية ليقوم بعملية التغيير الديمقراطي.
العقلُ التجاري الأول هو عقلُ المادةِ الفكرية والبضاعةِ السلعية المستفادتين من التجارة التي غدت مكة إحدى عواصمها، وكلا العقلين قاما بخلقِ فئةِ تجارٍ ضالعةٍ في التجارة العالمية، وفئةِ مثقين تجارٍ قائدةٍ لعملية التغيير، وهذا قادَ لتكون أكبر إمبراطورية للتجارة في العالم وقتذاك رغم أن التجارَ فقدوا السلطة بعد الخلفاء الراشدين، وواصلها ملاكُ الأراضي الزراعية البذخيين المسرفين.
تدفق التجارة وتحول الحياة ونمو الحرف كانت تعطيهم قوةً لإعادةِ النظر في الأحكام، لتصبحَ الفائدةُ مقبولةً في ظلِ شروطٍ معينة، وأعادوا النظر العقلي في العديد من ظواهر الحياة، لكن المعادنَ النفيسة كانت تخرجُ من بلاد المسلمين لغيرهم.
هذه المعادنُ كانت وماتزال ميزاناً دقيقاً لنمو قوة العمل وإتساع الإنتاج البضائعي، وعلو الفلسفة وبحثها عن إزاحة العوائق والمخلفات من مجرى نهر التطور للبلدان العربية الإسلامية.
كان الصرفُ والهدرُ في الثروة أكثر من تنامي قوة العمل، ونظريةُ الفقهِ لم تصلْ للربطِ بين الأحكامِ الفقهيةِ وتدهورِ حالةِ النقد وتسربِ الذهب.
الأحكامُ الشرعيةُ حول الزواج تبقى بدون تغيير رغم نضوبِ قوى العمل المنتج عند الفلاحين وهروبهم للمدن، وإمتلاء الأحياء بالشحاذين والصعاليك والمشردين والبدو الهاربين من المجاعات في الصحارى.
لم يكن بإمكان الفقهاء حسب مستوى المعرفة التقنية والشرعية أن يربطوا بين أحكام الأسرة وعلاقات الإنتاج.
تدهور التجارة يصاحبها تدهور الفقه، أي بقائه عند إحكامه القديمة، ولا يكتشف العلاقات بين ضمور الأسر الإسلامية وإختناقها بكثرة العيال والفقر والخرافة وبين العلاقات الاقتصادية في الأرض والحكم.
خفت التجارُ الأحرارُ الذين طلعوا في الحجاز قادةً للثورة، وأختنقوا بين الحكومات الاستبدادية والفقه النصوصي، حتى رفعوا رؤوسَهم ثانيةً في وقتِ النهضة الحديثة وجاءهم تجارُ الغربِ ببضاعةٍ فكرية سبقَ أن أنتجَ شيئاً منها أسلافُهم، لقد زادوا عليها كثيراً ولم يعدْ الأمرُ مقتصراً على التجار والتجارة، وجاءت التسميةُ العربية(أهلُ الأبراج) تحملُ رائحةَ نضالِهم القديم، أي جاءت البرجوازية الحديثة لتوسع من شرائح قوى المال والصناعة، حيث حمى التجار الغربيون الناشئون أنفسَهم وبضائعهم ورأسمالهم بمدن الأبراج، فيما لم يستطعْ التجارُ العربُ أن يحموا أنفسَهم بأبراج وهم محاصرون في الإمبراطوريات حيث السيف والمصادرة والفقه المحدود.
بعد أن صادر العسكرُ العرب والمسلمون لحظات الحرية الوامضة في تلك الليبرالية الخاطفة تهلُّ علينا لحظاتٌ أخرى، واعدةً بحرياتٍ جديدة، إذا أحسنتْ القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية قراءة الواقع إستناداً لتاريخٍ طويل من صنع البذور وضخامة فصول القحط.
إذا تخاصمت قوى التجديد حول الإيديولوجيات يعني هذا بداية البوار، حيث أن مستوى الإيديولوجيات مستوى محدود، وكلٌ له قراءةٌ مجردةٌ نصوصية، تفتقد إلى جداول من المشروعات التجارية والمصرفية والصناعية والزراعية، التي تملأ الأسواق بالذهب، لا أن تطرده كما فعل زمن الانهيار السابق.
منتجو النظريات المؤدلجة من دينيين وعلمانيين من البرجوازيات الصغيرة الطامحة في الرأسمال المادي المنير ذهباً، تقفزُ إليه مرة عبر الإقطاع الديني ومرة عبر الإقطاع السياسي، خير لهم أن يقرأوا هذا التاريخ العسير للأمة، وأن البلدان العربية بحاجة لصناعيين وتجار، بحاجة لمشروعات مادية هائلة تنقذ الشباب العاطل أو المهمش، بحاجة لمشروعات تزيح المدن العشوائية، بحاجة لاسترجاع الذهب من التكدس الخارجي، بحاجة لثورة زراعية، وثورة ثقافية، لا أن نبدأ من الصفر ونتصارع حول من هو الأصح، هذه تجربة الأمم الكبرى في الصناعة والمال تقود تشريعياً ديمقراطياً، فلا داعي للابتكار الزائف، والابتكار في ميادين الإنتاج حيث مجاعتنا الكبرى أما في الكلام فنحن نقود لكن للوراء دائماً.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 25, 2022 09:55
No comments have been added yet.