عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تروتسكي والثورة الدائمة
 عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تروتسكي والثورة الدائمة
عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تروتسكي والثورة الدائمةلا يمكن قراءة دراما القرن العشرين من دون شخصيات كبيرة مثل لينين وتروتسكي وستالين وغيرهم، هؤلاء الذين انشغلوا بالمصير البشري، وأرادوا تغييرَ الأنظمة الاستغلالية، وإيجاد مستقبل جديد للإنسان.
ومنذ شبابه الأول انخرط تروتسكي في النشاط السياسي والأحزاب والثورات والسجون، وكان من مؤسسي الثورة الروسية سنة 1917 ومن بناة رأسمالية الدولة ومن ضحاياها كذلك.
هل هو المزاجُ الحاد الذي شكّل شخصيةَ تروتسكي أم حالات التقلب الدائمة أم التركيزُ على ثيمةٍ نظرية والتمسك بها وهي مُحاطة بتحليلاتٍ قاصرة وخاطئة؟
يجمعُ تروتسكي بين الرومانسية والثورة:
(ولكن مهما تكن ظروف موتي، فإني سوف أموت وانا متمسك بإيمان لا يتزعزع بالغد الشيوعي. إن هذا الإيمان بالإنسان وبغده يزوّدني، حتى في هذا الوقت، بقدرة على المقاومة لا يستطيع أي دين أن يوفرها إني أستطيع أن أرى شريطا من العشب الأخضر على حافة الجدار، والسماء الزرقاء الصافية فوقه، والشمس في كل مكان. إن الحياة لجميلة فلتطهرها الأجيال القادمة من كل شرّ واضطهاد وعنف، ولتتمتع بها إلى أقصى حد.
لغةُ التطهرِ وتحويل السياسة إلى رؤيةٍ أعلى من الدين، ومجيء القيامة القادمة الجميلة هي تعبيرٌ عن الحماس الداخلي المتوهج، وفرض الذات الفياضة المشاعر على الواقع المقروء بذاتٍ مركزية متضخمة.
إن صراعات القوى السياسية الروسية مهمة لمعرفة النسق الداخلي المتصاعد لرؤيةِ تروتسكي، ورؤية الايديولوجيات المختلفة المعبرة في بداية القرن العشرين سواءً في الغرب أم في روسيا.
البلشفية والمنشفية هما الحالتان السياستان اللتان استقل عنهما تروتسكي، فالحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي منقسمٌ حول طرق التطور السياسية، فهل يمشي في الطريق الغربي الديمقراطي الرأسمالي الحداثي أم يؤسس الطريق الاشتراكي؟
في البداية لم تكن الأسئلةُ والإجاباتُ والآراء واضحة، فالميراثُ الماركسي نفسهُ غامض، فهل هو رؤية ديمقراطية تتغلغلُ في المجتمعات وتغيرها عبر الأدوات الموجودة من دون قفزات، أم تؤسس دولة شمولية تفرض التحول (الاشتراكي) المفترض؟ وما هو حجم هذا التحول وهل يبقى في أطره القومية أم يتحول لتغيير عالمي؟
الفئاتُ البرجوازيةُ الصغيرة الروسية بخيارِها الاشتراكي عبرتْ عن طموحاتِها للاستيلاءِ على سلطةِ نظامٍ إقطاعي يتطورُ رأسمالياً، سواءً من خلال نمو تدريجي تحديثي ديمقراطي أم عبر الاستيلاء بالقوة وفرض تطور صارم من جهاز الدولة الذي سوف تقف فوقه.
إن هذه الفئات تصورتْ نفسَها معبرةً عن العمال، فهو حزب عمالي، أي يمثل العمال قواعده المفترضة، وهي القائدة بتياراتها المختلفة.
إذاً الرؤية النخبوية أتاحت لها أن تفرضَ الخيارَ الاشتراكي بشكل برامجي مسبق، فهي تعيش حالات دكتاتورية عبر إنزال نفوذها وشخوصها، وتتباين هي هنا عن المسيحية التي أرادت أن تغلغلَ نموذجَها الحلمي عبر التسامح والرحمة فما استطاعت، لكون المسيحية هي كذلك اندمجت في أنظمةٍ شموليةٍ وغدت جزءًا من بناها الاجتماعية.
فتلك الفئات الوسطى الصغيرة المثقفة السياسية الروسية في تناقضها بين التطور الاشتراكي الديمقراطي السلمي وبين التطور العنيف، هي كلها تعيشُ رؤى نخبوية، لكن ثمة فرقا كبيرا بين نمو الفكرة بالجدل والديمقراطية والاختلاف، وبين نموها بالقوة، وهذا يؤدي لأن يكون الحزب المنشفي مؤيداً للتعددية ونمو الديمقراطية فيما يعبرُ الحزبُ البلشفي عن القوةِ والدكتاتورية الحادة.
ولم تكن روسيا قادرةً على النمو عبر الديمقراطية، فميراثُها الإقطاعي الضخم والتخلف والأمية لم تُغيرْ بشكلٍ تدريجي خلال العقود السابقة، وقد تفجرتْ في لحظة الحرب العالمية الأولى حيث انفلتت هذه التناقضات دفعة واحدة على مسرح التاريخ الدامي وطلبتْ حلولاً سريعة.
تغدو رؤيةُ تروتسكي المضادةِ لكلا التوجهين البلشفي والمنشفي، نابعةً من قبول كلتا وجهتي النظر بالاشتراكية(الديمقراطية).
فعبرَ تروتسكي لن تكونَ الثورةُ سوى عنف وقوى(شعبية) متصاعدة تحطمُ النظامَ الروسي. فتغدو الديمقراطية هنا غريبةً بالنسبةِ إليه، ولكن ميراثَ الحركةِ السياسية الاشتراكية هذه يرتكز على الديمقراطية التي تعني تطوير النظام القيصري نحو الاشتراكية الديمقراطية.
لم يضعْ التياران المنقسمان هذه الاشتراكيةَ محلَ النقد والتحليل المعمق، ولم يريا نظراتهما كتعبيرٍ عن فئاتٍ برجوازية صغيرة تريد فرض نظام من فوق، فيما القوى الغربية الاشتراكية المماثلة غير قادرة على وضع الاشتراكية موضع التطبيق.
كان لينين أكثر مقاربةً إيديولوجية نفعيةً لهذا الخيار، فرؤيتُهُ لبناءِ الحزب البلشفي بطريقةٍ قوية دكتاتورية، كان يلغي هذه الديمقراطية عبر سنواتٍ متدرجة من عمله، ويؤدلج الوضع الروسي الذي كان يسير نحو الرأسمالية كما في جداله مع (الشعبيين) الذين رفضوا وجودَ تطورٍ رأسمالي حسب تصاعد دكتاتوريته الشخصية الحزبية العامة المتداخلة، وما كان يقيمهُ الحزبُ الآخر(المنشفي) من عملٍ ديمقراطي متدرج لم يكن يتماشى مع الظروف الشديدة التخلف، ومع ضعفِ القوى الليبرالية في النضال من أجل الديمقراطية، لهذا كان الحزب القوي هو الذي يصعد. والحزبُ القويلا يضمُ حوله بعض العمال ثم يوسعُ حضورَه، ويصبحُ آلةً كآلةِ الدولة.
اقترابُ تروتسكي من الحزب البلشفي في الحرب العالمية الأولى وانضمامه إليه يعودُ لكون هذا الحزب قد تصاعدت نزعة الدكتاتورية (الثورية) العنيفة فيه، وغدا معبراً كذلك عن ذات تروتسكي الذي لم يستطعْ إيجاد مؤيدين حوله، بسبب أن أفكاره لم تكن مجسَّدةً في شكلٍ تنظيمي مؤثر.
في هذه الفترة راحت أفكارُ تروتسكي حول الثورة الدائمة تتضح وتتبلور، ويكون جزءًا من البلاشفة
تعودُ أفكارُ تروتسكي عن الثورة الدائمة الى اضطرابِ أفكارِ الاشتراكية عن المستقبل البشري.
فالثورات الغربية التي ظهرت في أوروبا الغربية وشكلتْ عالمَ الحداثة المعاصر وقادت التحولات البشرية في هذا العصر لم تحل مشكلات الإنسانية، وجلبت استعماراً نهبَ الكرةَ الأرضية، وفجرتْ حروباً بين الدول الغربية المتصارعة حول الغنائم وكانت هي المستعمرات وشعوبها.
وبالتأكيد سوف تكون هذه التجربة مرفوضة، وكان الرفض يتجسد بكلمة الاشتراكية كما يتجسد بشكل الاسلام أو المسيحية عند شعوب أخرى، تعبرُ بأديانها عن رفضها الالتحاق بهذه التجربة القائدة غير مميزين بين التراث الديمقراطي الإنساني للغرب القائد لتجربة البشرية المعاصرة، وبين تجربةِ الغرب الاستعمارية.
ولهذا كانت الاشتراكية الديمقراطية في روسيا، لأن المسيحية لم تكن خياراً وهي معبرة عن القيصرية كذلك، ولم توجدْ تجاوزاً فكرياً.
هذه الاشتراكية كانت معبرة عن الفئات الصغيرة الاجتماعية التي وجدت في الغرب حضوراً وإمكانات متعددة رغم اختلافها فيه، لكن هذه الفئات كانت مخنوقةً في روسيا القيصرية.
في الغرب وجدت حضورَها وارتفاعها للسلطات وإمكانية التغيير المتدرج، فتداخلتْ مع الطبقاتِ الحاكمة، وتأثرتْ بها وصعدتْ في صفوفها عبر السياسة والاقتصاد والثقافة، ومن هنا فإن الاشتراكية لديها تدريجية إصلاحية بعيدة المدى، فيما لم تكن هذه الخياراتُ موجودةً لدى الفئات الوسطى الصغيرة الروسية، ذات القدرة على الصراع والتأليف والتضحية والقفز بين المعسكرات وركوب الموجات التي تعيش ظروفاً مأوساوية كذلك كما هي حال تروتسكي نفسه، وفي ذات الوقت تغدو إمكاناتُ العلومِ الاجتماعية وقدرات الناس العقلانية محدودة.
ويبدو تروتسكي نموذجياً في التعبير عن هذا الرفض للغرب، الذي يعني لديه الاستمرار في رفض الديمقراطية، وتفضيل الدكتاتورية كطريق ثوري، ولهذا فإن الثورات الرأسمالية الديمقراطية في الغرب يجب أن تواصل النمو لتكون ثورات اشتراكية في تحريضه، فيما الثورة الروسية يجب أن تتحول من ثورة رأسمالية في فبراير 1917 إلى ثورة اشتراكية في العام نفسه.
حرقُ المراحلِ التاريخيةِ هذه يتكونُ لدى تروتسكي كقوانين أزليةٍ للتاريخ البشري المعاصر، فالظروف الاقتصادية والقومية المختلفة لكل شعب، وظروف الشرق المتخلفة عن ظروف الغرب المتقدمة، لا تعني شيئاً له وسط الصراعات الاجتماعية المتماثلة والمتقاربة، فهي كلها تُحلُ بمفتاحٍ واحدٍ هو الثورة الدائمة.
عدم رؤية أن هذه الاشتراكية كما تبدت في الطفولة الروسية السياسية، عبر غياب التحليل بكونها نزعات مسقطة على الواقع، وكون التحول من ثورة رأسمالية قاصرة وعاجزة عن القيام بإصلاحاتٍ اقتصادية واجتماعية عميقة حين انفجرتْ بشكلٍ شعبي بسبب مجزرة الحرب العالمية ونقص المواد الغذائية وانفجار المجاعات، ثم تحولها لانقلاب عسكري في أكتوبر من ذلك العام التاريخي الكابوسي توجه لحل هذه المهام بأسلوب القوة الذي فُرخَ على مدى سنوات، هي كلها تدورُ في ذات الأسلوب الرأسمالي.
في الثورةِ الأولى قام التحولُ عبر فئات المناشفة والرأسماليين وقوى الفلاحين الأغنياء الذين لم يناضلوا عبر عقود لتصعيد هذا النموذج الديمقراطي، فخطفهُ منهم البلاشفةُ وحولوهُ إلى نظامٍ عسكري شمولي لرأسماليةِ دولةٍ منتجة موزعةٍ للأراضي على الفلاحين لكن لم تستطع توفير السلام بل انفجرت الحربُ الأهلية المروعة وذهب الملايين ضحايا لها.
لم يستطع تروتسكي أن يدرك قانونية التشكيلة الرأسمالية لكنه أحسّ بضرورة الثورة العالمية وأن تجاوز الرأسمالية لا يتم إلا بشكل بشري كوني، وأن أي ثورة في الشرق سوف تكون رأسمالية دولة وهو ما حدث في الاتحاد السوفيتي، لكنه لم يدرك أن ذلك بحاجةٍ الى وقتٍ طويل حتى تنتشر الرأسمالية المتطورة في كل بقاع الأرض، لكن الحل الذي طرحه هو انتحار، حيث اقترح نشر الثورة في كل مكان، وهو أمر يقود لسلسلة من الحروب الكارثية.
هذه التجربة مهمة لقوى النضال العربية خاصة وهي تواجه ذات الأسئلة والمصير الحائر للثورات، وحيث تلعب الرومانسية الدينية الدور الأكبر، إذا غابتْ قراءةُ قوانين التشكيلةِ الرأسمالية، كما غابتْ عن تروتسكي وراح يحولُ السياسةَ إلى مغامرات عسكرية ويصعد قوى الجيش والبيروقراطية ويضع مقدرات الشعوب في ايد قليلة في المكتب السياسي، حتى قامت الدكتاتورية الشخصية لستالين لتطرده ثم تقتله في نهاية المطاف.



