عبـــــــدالله خلــــــــيفة's Blog: https://isaalbuflasablog.wordpress.com , page 105
June 9, 2019
عبـــــــدالله خلــــــــيفة: البنية العربية التقليدية تكونها وسيرورتها
[image error] على مدى قرن التنوير العربي الأول المتشكل من أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وحتى جهود التنوير الراهنة التي تشكل المحاولة العربية الثانية للخروج من الحياة المتخلفة التقليدية، لم يعرف الباحثون والمناضلون ما هو الوضع الأساسي الذي يريدون إخراج الأمم الإسلامية والشعوب العربية منه.
لقد وُضعت مصطلحات محددة عديدة لتحديد البنى الاجتماعية العربية فى الزمن الأخير للوعي العربي النهضوي، حيث إن زمن النهضة الأول لم يبلور مصطلحاً محدداً للماضي الحاضر الذي يريد تجاوزه، وفي هذا اللاتحديد ضباب نظري واجتماعي، يعكس رؤى طلائع الفئات الوسطى العربية حينذاك وهي تتصور إمكانية التطابق البسيط مع الغرب من جهة ومع التراث من جهة أخرى.
أي أن وعي هذه الطلائع كان يأخذ الأفكار التجديدية والنهضوية كتكوينات فكرية واجتماعية خارج التشكيلات الاقتصادية/ الاجتماعية؛ باعتبارها عناصر مستقلة محايدة يمكن استخراجها من الأنظمة الاجتماعية المعاصرة أو الماضية، وزرعها في التاريخ العربي الراهن وقتذاك. ولهذا كانت التعبيرات المتداولة في هذا الوعي كقولهم: نأخذ من الغرب ومن التراث ما هو مفيد، أو كعملهم لفكرة الأحياء، فكل تيار يركز على إحياء أو الدعوة والدعاية للفصيل أو للتيارات (القريبة) منه.
ولم تختلف ممارسات طلائع الفئات الوسطى في الزمن (القومي) و(الاشتراكى)، لكن مناطق الاستيراد الفكري والاجتماعي اتجهت إلى مناطق وبلدان أخرى، تشكلت فيها رأسماليات الدولة القومية بأشكال متعددة (تجربة الاتحاد السوفيتي والتجارب الفاشية)، ولهذا فإن هذه الممارسات لم تتجه إلى التوصيف الموضوعي للبُنى الاجتماعية العربية.
ولكن فى هذا الزمن بدأت مفردة البناء التقليدي الماضوي تُطرح بصورة أكبر من الفترة التنويرية الأولى، واقترب مثقفو الفئات الوسطى لليبرالية من توصيف ماهية البناء التقليدي الموروث، لكن اسرار هذه التقليدية لم تحل.
لقد طرح الدكتور شاكر مصطفى مسألة البناء (التقليدي) الذي بدا قريباً من نظام اجتماعي وسياسي متداخل، فهو يحيل المنظومة التقليدية إلى عناصر هي الباقية من سيرورة التراث وهذه العناصر الأساسية الباقية تتجسد فى أربعة جوانب:
أ – طرق الإنتاح المادي ب – تكوين نظام السلطة ج – طبيعة العلاقات الاجتماعية د – قيم الفكر التراثية.
لكن هذه العناصر تبقى عناصر وبقايا لتاريخ، كما أنها غير مترابطة فى تكوين، أي لا تمثل بُنى اجماعية يتم تتجاوزها عبر بُنى مختلفة مغايرة، أي أن المسألة ليست مسألة تشكيلة اقتصادية اجتماعية، فيمكن الانتقال منها إلى البناء الحديث دون عملية قطع بنيوي. أي دون الحاجة إلى ثورة. ونجد استخدام مفردة أو مصطلح (تقليدي) بوفرة في قاموس النهضويين والليبراليين العرب والإسلاميين المتأخرين، لكن هذا المصطلح يُوضع فى إطار مجرد, وبدون قراءة لسيرورته التاريخية والاجتماعية.
ولهذا صار الوعي الطليعى لمثقفي الفئات الوسطى العربية هو المجابهة بين الحديث والتقليدي، وهذا في حد ذاته يعبر عن محاولة هذه القوى وتوحدها فى رفض الكابوس المتزايد لسيطرة البُنى التقليدية.
لكن هذا الصراع احتد في العقود الأخيرة من القرن العشرين، ولم تعد البُنى التقليدية مجرد قراءة للماضي أو محاولة لتأبيده، بل غدت كتلاً بشرية ضخمة تهدر في الشوارع ومعارك دموية وانقلابات؛ وهنا أخذت المصطلحات تضطرب، فمصطلح (تقليدي) لم يعد كافياً لتوصيف مثل هذه الحركات السياسية الماضوية، فظهر تصطلح (الأصولية) المنقول من الصحافة الغربية غير الدقيقة، أي باعتبار هذه الحركات السياسية التقليدية تمثل الأصول الإسلامية، وباعتباره مصطلحاً تبخيسياً، في حين إنه يعتبر مدحاً من وجهة نظر التاريخ الديني.
وقام الوعى اليساري للفئات الوسطى العربية بطرح مصطلحات مختلفة، مثل (حركات الإسلام السياسي)؛ وهو اصطلاح يمكن أن يضم حركات الخوارج والقرامطة وإرهابيي الجزائر، والمتصوفة الذين قاتلوا الصليبين دفاعاً عن الأرض العربية، كما أنه يمثل نظرة قاصرة لمستويات البنية المتداخلة التقليدية حيث الحدود ذائبة بين السياسي والاجتماعي والإيديولوجى!
وتم طرح تسميات أخرى كالحركات الإرهابية الدينية وهذا المصطلح يمكن أن يضم السيخ والهندوس والبوذيين المتطرفين كذلك!
إذن كان عجز الوعي العربي بأشكاله المختلفة عن الوصول إلى توصيف للبناء التقليدي العربى، يتمظهر في اضطراب المصطلحات، وهى العملية التي راحت تغلي مع اشتداد الصراعات السياسية حين عبرت البُنى التقليدية بأنها ليست ماضية فحسب بل حاضرا مهاجما ومسلحا بأقوى الأسلحة.
لقد عبرت آراء الأحزاب الاشتراكية والشيوعية العربية وهي تعكس وعي الفئات الوسطى ذات التوجهات اليسارية، عن اقتراب من البنية التقليدية، عبر توصيفها بـ(الإقطاع)، ولكن الإقطاع لديها هو إقطاع اقتصادي يتمظهر في الملكية الزراعية الكبيرة خاصة، ولم تقم بقراءة الإقطاع كتشكيلة اقتصادية اجتماعية، ويكمن في هذا التحاقها الثقافي والسياسي بـ(رأسمالية الدولة القومية) الروسية أو الصينية اللتين خرقتا مسألة التشكيلات وتطورها الموضوعي، وبالتالي عجزت عن إنتاج وعي تقدمي عربي، أي أنها قامت باستعارة طرق قومية مختلفة عن ظروفها الحاصة. (راجع تحليلاتنا لمواقف
هادي العلوي ومهدي عامل وغيرهما في مقالات سابقة).
وبطبيعة الحال فإن الأمر ليس رفض مصطلحاتٍ مجردة، بل هو رفض يتأسس من تكوينات سياسية اجتماعية شمولية تقليدية، لديها يافطات (تقدمية) غير أن البناء الفكري والاجتماعي شيء مختلف.
ولكن أيضاً حين نقول إن البنية العربية السابقة والراهنة بنية إقطاعية فهذا لا يكفى، أي أنه ينبغي علينا أن نرى السيرورة الخاصة لـ(إقطاعنا).
ولهذا عندما نقوم بتوصيف البنى الإقطاعية العربية، لن ننسى بأنها وريثة الأنظمة العبودية المعممة في المشرق (الرافدية، المصرية، الفينيقية الخ)، وهي نقطة عجز الوعي العربي التقدمي عن حلها، فهو لا يرى جذور هذه البُنى الإقطاعية العربية، في الزمن السابق البعيد كذلك، مثلما يجهل سيرورتها في الماضى القريب والحاضر، لأن تكون البُنى متداخلا ومركبا.
وإذا كانت جذور تكون البُنى الإقطاعية يتشكل مع الإسلام في الجزيرة العربية فهذا سيعطي لهذه البنى مستوى اجتماعياً وثقافياً معيناً، وبدون ظروف الجزيرة العربية الصحراوية المنعزلة عن أنظمة العبودية العامة في المشرق حينذاك، ما كان بإمكان هؤلاء الرعاة النمو والتحشد، وما كان بإمكانهم رفد المشرق العجوز بعلاقات إنتاج جديدة.
ولهذا كان نمو الإسلام مرتكزاً على إرث الرعاة، مع تشذيب المناطق المتطرفة منه؛ وإنهاضه، وفي مناخ التكون الاجتماعي التأسيسي ذاك كانت مسألة التشكيلة الاقتصادية / الاجتماعية مفتوحة، بين الماضي المشاعي المنهار، وعبودية خاصة، أي عبودية قائمة على استخدام العبيد الخاص، وليس العبودية الفرعونية القائمة على عبودية شعب باسره، لأن ظروف العرب الرحل رفضت ذلك.
وفي الإسلام الأول حدثت عمليات إقطاع، أي توزيع ملكيات أرض على المقاتلين المسلمين بعد انتصاراتهم على الوثنيين، ولكن هذا الإقطاع ليس هو الإقطاع المقصود لاحقاً، فهو إقطاع خاص، وهو أشبه بتبديل ملكيات خاصة.
ومن هنا تشكل التوزيع الإسلامي الأول للثروة، والذي يمكن أن نسميه التوزيع القرآني للثروة المُصادرة، حسب الآية من سورة الأنفال، ورغم ان الدولة الإسلامية الناشئة هي التي تقوم به، إلا أن الدولة ذاتها لا تملك ملكية عامة. كما أن أكبر أجهزة الدولة وهو الجيش قائم على التطوع، والأجرة ليست سوى الغنيمة التي تُؤخذ بعد الانتصار في المعارك، أما بقية أجهزة الدولة: السجون، والشرطة، المراكز الإقليمية للأجهزة فلم تر النور بعد.
لهذا فإن الدولة لم تتكون إلا بشكل جنيني، وأدت عمليات إعادة توزيع الثروات، وارتفاع مكانة الصحابة الفقراء والقبائل المسلمة المعدمة إلى مخاض اجتماعي مفتوح لعدة احتمالات تاريخية.
ومع عمليات الفتوح والانتقال إلى المناطق الزراعية الشمالية وانهيار الأنظمة العبودية الُمعمّمة، وصعود مكانة القبائل الرعوية العربية، أخذت قوى الأشراف الحجازية في الصعود الاجتماعي والسياسي مجدداً بعد سقوطها كملأ مهيمن فى نهاية المرحلة الوثنية.
ونستطيع أن نعتبر حروب الردة الحادة التي شُنت على القبائل المرتدة، وتدفق خيرات البلدان المغزوة، ونمو آلة دولة الخلافة، خاصة قوى الجيش، وتشكل الاستخبارات التي عملت في هذه المرحلة لمراقبة الولاة، وفيما بعد لمراقبة الناس، إن كل هذا قد جعل أفكار المساواة والكفاح الاجتماعي لدى نفر من الصحابة غير قادرة على التجذر في الحياة الاجتماعية التي انقلبت تمام الانقلاب بعد مرحلة الشظف والفقر السابقة.
بل إن هذا النفر لم يكن قادراً على تشكيل آليات سياسية لمجابهة صعود قوى الأشراف المتسلطة، والتي كانت ذات خبرات كبيرة في معرفة الأمم المجاورة وطرق التعامل معها، وقد كانت متمرسة في أساليب الحياة السياسية والعسكرية المسيطرة، في حين كان ذلك النفر من الصحابة يشكل طرقه (الشعبية) في التعامل مع شعوب البلدان المفتوحة.
وقد تشكلت أغلب المميزات السابقة المذكورة فى عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، ولكن أهم ما تكون مع ذلك الصعود لقوى الأشراف في الحياة السياسية، هو ظهور الملكية العامة لوسائل الإنتاج تحت الإدارة الإسلامية العربية.
ومن المعروف كيف كانت سمات عدالة التوزيع للثروة المصادرة في عهد عمر بين العرب، وهو أمر بدا له غير متناقض مع تقريبه لمن يسمون بدهاة العرب، وأبناء الأشراف المحنكين، حيث كان يرى الاستفادة منهم فى حكم البلدان المفتوحة، ولكن ذلك ترافق وتشكل مع تكون الملكية العامة للدولة فى القطاع الزراعي، الذي وُضع الأساس للاقطاع.
ان هذه السمات المتضادة، بين عدالة توزيع ثروة للعرب وتشكيل دولة مركزية قوية، كانتا تكملان بعضهما في عهده، أي أن التوزيع على العرب فقط، يفترض مصادرتها من الاقوام الاخرى، وبالتالي كان لا بد من وجود دولة قوية، ولكن وجود الدولة القوية لا بد أن يرتد على العرب أنفسهم فيما بعد. في حين كان ذلك النفر من الصحابة يريد إضعاف الدولة لصالح الناس، وهما نهجان غامضان في هذه المرحلة وسيتبلوران لاحقاً.
إن عمر بن الخطاب وقف طويلاً أمام تشكل القطاع العام الإسلامي في الأرض الزراعية، وتحويل الأراضى الصوافي إلى ملكية عامة للمسلمين، فهذا يخالف التوزيع القرآني للثروة كما بينا سابقا. فالتوزيع القرآني يعتمد على نشر الملكيات الخاصة، ولا يُلحق هذه الأملاك بجهاز الدولة، كما سيفعل عمر فى هذه اللحظة التاريخية الفاصلة والخطيرة، وهذا الأمر يتضح في هذا ألماثور الإسلامى: (روى أبوعبيدة القاسم بن سلام بسنده إلى ابراهيم التيمي وابن الماجشون قال: لما أفتتح المسلمون السواد قالوا لعمر(بن الخطاب): أقسمه بيننا فإنا فتحناه عنوة! فأبى وقال: فما لمن جاء بعدكم من المسلمين؟ وأخاف ان قسمته أن تفاسدوا بينكم فى المياه.. ولكنني أحبسه لله وللمسلمين. قال أبوعبيدة: أراه أراد أن تكون فيئاً للمسلمين ما تناسلوا يرثه قرن بعد قرن..).
ان هذه المخاطبة الجماهيرية من المقاتلين لعمر بضرورة توزيع الأرض العامة على المقاتلين، كانت تؤكد وجود تغيير جوهري فى طبيعة العلاقات الاقتصادية من قبل الخليفة، الذي أراد أن تكون الأرض الزراعية (الصوافى) ملكاً عاماً، وليس للمقاتلين فحسب، وهذا ما سيسمى لاحقاً بالفيء الإسلامى.
لقد تكون هنا المستوى الاقتصادي العام للاقطاع، أي تمت استعادة طريقة الدول المشرقية القدمة فى وضع الأملاك الزراعية الكبرى فى يد الدولة، التي هى ملكية خاصة للأسر الأرستقراطية، ولكن عمر أخضع التوزيع لحاجات الجمهور العربي. ومن جهة أخرى حين قرّب أفراد النخبة الحجازية التى كانت تدير الدول بكفاءة، خوفاً من عمر وتحسباً للمسقبل،
فقد تم وضع الأساس لتشكل الإقطاع الاقتصادي العام.
اذن ظهرت أملاكٌ كبرى عامة تخضع للدولة الإسلامية وإدارتها، ولنطالع هنا ما هو مضمروليس ظاهرا فحسب، أي أن الإقطاع الاقتصادي العام الموجه لصالح العرب المسلمين عامة، كان يشكل بداية لنقيضه، وهو الإقطاع الموجه لفائدة الأسر الخاصة. من حيث ان توزيع الفائض الاقتصادي الموضوع في يد الدولة وإدارتها، يظل توزيعاً، وليس إنتاجاً، أي أن الأرض الزراعية والعلاقات الإنتاجية فيها، ستبقى كما كانت سابقاً، من حيث وجود دولة متعالية مستغلة تجبي الخراج أو الفائض لمصلحة أسر عليا، وإذا كان التوزيع يجري الأن فى عهد عمر وعلي بن أبي طالب لاحقاً بشكل عادل للعرب، فهو يتعلق فقط بالفائض وتوزيعه وليس في اعادة تشكيل علاقات الإنتاج.
أي أن عمر لو قام بتوزيع الأرض على المقاتلين وتحولت إلى ملكيات خاصة، فسيكون التغيير قد وصل إلى علاقات الإنتاج، وبالتالي ستبقى الدولة إدارة سياسية وليس ادارة اقتصادية كذلك. أي سوف يتكسر طابعها الشمولي.
ان وضع الأساس الاقتصادي للدولة الإقطاعية الشمولية سيزداد درجة أخرى فى عهد عثمان بن عفان الخليفة الراشد الثالث، فالمضمون الاقتصادي العميق للدولة المسيطرة والذي بدأ سابقاً، أخذ يكتسب فى عهد هذا الخليفة مضموناً سياسياً كذلك، فإدارة الدولة انتقلت تدريجياً من إدارة عامة تشاورية، إلى إدارة أسرية، فآل مروان هيمنوا على بيت مال المسلمين، وبنى سفيان أصبحت لديهم أقوى الاقاليم الإسلامية المفتوحة.
لكن عامة العرب المسلمين لم تزل لديها بعدُ قوىً عسكرية وسياسية مؤثرة، وهو أمر تجلى فيما سُمى بـ(الفتنة الكبرى). حيث حاول العامةُ إعادة تشكيل الدولة الإسلامية الوليدة لصاحهم، لكن عوائل الأشراف الحجازيين انتفضت بأشكال مختلفة ضد هذه العملية السياسية والاجتماعية الخطيرة.
ولم تستطع الفئة التجارية الوسطى المتحالفة مع الفقراء الثائرين فى هذه المرحلة ان تستوعب البرنامج النبوي الذي تشكل فى المرحلة التأسيسية الأولى للإسلام، وتطوره، خاصة في مسألة التوزيع القرآني للثروة، وكان عدم الاستيعاب هذا والتردد، كفيلاً بتفكك أولاً جبهة الحكم ثم تفجر حروبها التي سهلت للأرستقراطية الأموية هذه المرة، العودة ثانية للسلطة وقد اكتملت دوائرها.
مع سيطرة الأمويين على مقاليد السلطة السياسية أمكنهم أن يضعوا أيديهم على الثروة الاقتصادية العامة، أي أن الإقطاع العام صار إقطاعاً أسرياً خاصاً . ولم يحدث ذلك دون مقاومة ضارية من عامة المسلمين، الذين صار ينضم إليهم الموالي والذميون، أي شعوب الإمم المحكومه من قبل العرب.
وتعتبر انتفاضات الخوارج والإمام الحسين بن علي والتوابين وأهل الكوفة جزءا من عمليات الاحتجاج الواسعة على تغيير طابع التوزيع للثروة واحتكار السلطة، لكن الطابع الإقطاعي للملكية العامة والسلطه قد ترسخ في هذا العصر.
وأدى رسوخ هذا الطابع في الميدان الاقتصادي والسياسي إلى انتقاله إلى الميدان الاجتماعي والثقافي.
فعبر سيطرة الأشراف على الثروة العامة، وهو ما كان يناقض الأحلام الشعبية بالمساواة، والإرث النبوي والراشدي، أخذ الأمويون يرتكزون على الإرث الرعوي الأرستقراطي وتكريسه, فاحيوا المظاهر القبلية المتعصبة بشكل شديد، وروجوا لشعر العداوات القبلية بين الفروع العربية المختلفة، وخاصة بين المضريين واليمانيين الخ..
كان الارتكاز على الإرث الرعوي وإفراغ الدورة الإسلامية التأسيسية من مضمونها النهضوي يجريان معاً، لتشكيل بنية
اجتماعية ثقافية اقطاعية، ومن هنا كان استنادهم على النصوصية الدينية الُمفرغّة من تلك المضامين النهضوية التحولية.
ونظراً لتنامي الثروات لدى هذه القوى الأرستقراطية، من جلب هائل للرقيق والجواري وسرقة واسعة للأمم، فقد تم التركيز في الآلة الدينية المسيطرة على الأشكال، والعبادات، والوحدة الظاهرية المجردة للمؤمنين والإعلاء التعصبي للقبائل، وغُيبت أساسيات الثورة. لكن الوعي الديني المعارض استمر في الوجود وإبراز جوانب مضمونية جوهرية في الإسلام، ووضع بعض الأئمه أساسيات للاحتهاد والقياس لتطوير النصوص الدينية، وابعادها عن السيطرة الإيديولوجية المطلقة للأمويين.
أي أن الوعي الديني راح ينقسم في هذه المرحلة بشكل فرق وأسر متتفذة، إلا أن الوعي المعارض هذا قبل بالأساسيات العامة لنظام الإقطاع المتكون، حيث لم تقم الفرق المعارضة وهي القدرية والمعتزلة والزيدية في هذه الحقبة، حين وصلت إلى السلطة أو إلى التأثير الثوري الواسع، بتفكيك ملكية الدولة العامة ووقف العبودية الخاصة المتنامية باتساع هائل ووضع حد لعبودية النساء التي تنامت مع تدفق الثروات على الرجال العرب وأرستقراطيات الموالي.
فعلى الرغم من المعارضة الواسعة والضارية أحياناً إلا أن الفرق غدت جزءا من تكوين الإقطاع.
ولدينا هنا شكلان من المعارضة وهي معارضة أسر الأشراف وأهمها المعارضة الشيعية، وتنويعاتها والتي هي بداهة مع نظام إقطاعي بديل عن الراهن تكون هي على رأسه، وكذلك الخوارج الذين قادتهم نصوصيتهم الحرفية إلى إقطاع آخر، في المناطق الصحراوية التي خضعت لحكمهم.
وهناك المعارضة التى تشكلت من الفئات الوسطى المدنية التي قامت على القبول بالنظام الإقطاعي وسلطته، نظراً لالتحاقها بخدمته أو تشكلت بفيض تدفق ماله، وهذه هي المعارضة التي ستشكل الأنواع الأدبية والفكرية المتعددة، التي ستعيش في الفضاء السياسي والفكري للنظام الإقطاعي، وستمتد من المطابقة التامة مع النظام الاجتماعي إلى طرح أشكال الإصلاح المحدودة داخله. وسواء كان ذلك من المذاهب السنية القياسية الاجتهادية أو من المذاهب غير الاجتهادية، إلى
التيارات الصوفية المضادة للعقل، إلى التيارات الفكرية (العقلية) الخ..
إن كل التشكيلات الفكرية والأدبية هي خاضعة للمدينة التي يحكمها الإقطاع السياسي العربي ثم اللاعربي.
إذا كان الإقطاع قد تمكن من المستوى السياسي للنظام الاجتماعي بعد أن سيطر على البناء الاقتصادي، فلا بد أن نعرف كيف سيطر في المستوى الاجتماعى. لقد قامت حركة العرب التاريخية على نشاط القبائل، والجانب المفيد أن هذه القبائل الحرة قد تمكنت من دك أنظمة العبودية العامة المتكلسة القديمة، إلا أن الجانب السلبي أنها نقلت تراثها الرعوي الاجتماعى والثقافى وقامت بجعله مطلقاً. وهذا قد بدأ بالأشكال الاجتماعية الأسرية؛ عبر جعل القبيلة هي أساس التكوين المدني، حيث تقسم الأحياء السكنية حسب أفخاذ القبائل، وتتشكل السلطة المدنية من زعماء الشيوخ القبليين، وهوالأمر الذي قاد إلى هيمنتهم على أجواء المدن الإسلامية المبكرة. ويقوم شيوخ القبائل المدنيين بنقل السلطة الإقطاعية من مستواها السياسي إلى مستواها الاجتماعي، عبر منع أي مظاهر للحرية الاجتماعية، وعبر الولاء للخلفاء، وإلحاق المدن بسلطتهم المطلقة، سواء كانت سياسية أو دينية أو إيديولوجية. هكذا تغدو المدن والأحياء جزءا من النسيج الإقطاعي، إلا أن المدن قابلة للتطور التحديثي النسبي، عبر انتشار التجارة والحرف والثقافة والاجتماع، ولهذا فإن القبيلة كتكوين اسري واسع لا تصمد للزمن، بل هي تتفكك، وتقترب من التحول إلى طبقات، حيث يحدث الفرز الاجتماعي بين الشيوخ المهيمنين على القبيلة والمرتبطين بالسلطة، وبين جمهورها الواسع. ولكن ذوبان القبيلة المطلق لا يتحقق لكون المدينة تعيش دائماً على السلطة الإقطاعية المهيمنة وعلى الرفد الصحراوي والرعوي المستمر عبر الزمن، إلا أن الجانب الأكبر
من نفوذ الإقطاع القبلي الاجتماعي، يتحقق عبر الأسرة الأبوية، فهذه الخلية الدنيا من القبيلة تقوم بالاحتفاظ بموروثاتها القرابية والاجتماعية والفكرية، عبر هيمنة الأب الذي يغدو وجهاً للسلطة النكورية المطلقة، وعبر تنحية النساء من النشاط الاجتماعي والسياسي، وعبر إعادة ضخ الوعي الديني المشكل حسب هيمنة السلطة. تغدوالمدينة الإسلامية المشكلة بسيطرة القوة السياسية والعسكرية، تعيد إنتاج ذاتها عبر التاريخ، سواء عبر الرفد المستمر من القوى الرعوية: الأتراك، والأكراد، وعرب الجزيرة، والأمازيغ (البربر) والألبان الخ..، وفي العصر الحديث عبر الجيوش والقوى العسكرية البدوية والقروية، أي أن القوة العسكرية السياسية تتحكم في الإنتهاج العام الزراعي، الذي يغدو في العصر الراهن الملكية
العامة للمعادن والبترول والفوسفات الخ..، وهكذا فإن الفرق المعارضة للعصرين الأموي والعباسي تقوم على معارضة الأسر والجماعات المتحكمة في النظام الإقطاعي لا معارضة النظام الإقطاعي نفسه، فهي جزء من نسيج هذا النظام وهي تقوم بإعادة إنتاج له، من مواقعها الجغرافية والسكانية والفقهية المختلفة، فتضخ الحياة المؤقتة في عظامه المتيبسان بشكل متلاحق، فالإسماعيليون والمعتزلة والإثناعشرية والقرامطة الخ..
يعيدون تشكيل الأنظمة الإقطاعية في عملهم ومناطقهم وإرثهم. إن القوى المعارضة تغدورقوى سياسية إقطاعية، لكونها لا تعمل لتغيير النظام الإقطاعي، بل على الوصول للسلطة فيه، وبالتالي تقوم باستثمار آلياته لمصالح لأسر المسيطرة. وحين كان الإقطاع العام مركزياً اي موجهاً من قبل عاصمة ما، المدينة، الكوفة، بغداد، قرطبة، كان الوعي الديني عاماً، ومع دخول الذميين في الإسلام وتحولهم إلى معارضات وطنية و(قومية) مضمرة، راح الوعي الديني الإقطاعي ينمو في اتجاهين، اتجاه مع السلطة العامة المسيطرة، واتجاه مع المعارضات الإقليمية المتعددة.
في الاتجاه الأول العروبى الُمضمر والقبلي وذي الإرث الصحراوي الأكبر، والذي أخذ يرتبط أكثر فأكثر مع الدولة المركزية أولاً ثم الدول الإقليمية، التي قمعت أشكاله القياسية المتحررة والناقدة، وحولته إلى أشكال دينية تابعة لها، وهو ما مثل المذاهب السنية المختلفة، وغدا مضمونه في الحفاظ على النصوصية على درجات دون إنجازات الثورات المتحققة. والاتجاه الثاني الأممي المضمر، والذي تداخل والإرث الديني القديم لشعوب المشرق الزراعي، ومثلته الإماميات المختلفة، والمسيحية العربية. ولكن كافة الاتجاهات لم تتجذر في البادية أو الزراعة، لأنها عكست القوى السياسية المسيطرة في هذه التكوينات الاجتماعية والبشرية، ولهذا ليس ثمة سوى خلافات نصوصية وحفريات قديمة، حيث إن كافة القوى السياسية المذهبية لم تنسلخ من النظام الإقطاعي.
لقد شكل الإقطاع العام المركزي لامذهبية، ولكن الإقطاع اللامركزي والمتفتت، شكل الإقطاع المذهبي الذي نعيشه حتى اليوم.
إن الأمر يعود لأسلوب الأنتاج الذي تحكم في حركة التاريخ العربية حين خرج العرب من صحرائهم ليس لديهم تشكيلة اقتصادية واجتماعية محددة، وكان التاريخ العالمي يتوجه نحو المنظومة الإقطاعية، كما فعل أقران العرب القبليين في جرمانيا والذين غزوا روما العبودية ونقلوا القسم الغربي من الإمبراطورية الرومانية إلى عصر الإقطاع. وتكفل العربُ
بنقل القسم الشرقي منها إلى ذات المنظومة.
إن أساليب الإنتاج في العالم الشرقي عامة والوطن العربي خاصة تنمو بشكل خاص، ولم تنفع أساليب المطابقة التي حاول
البعض إجراءها مع أوربا في الحصول على نتائج فكرية وسياسيه خصبة.
وهذا لا يتعلق بالتشكيلات الكبرى للبشرية فهي واحدة، ولكن أشكال التطبيق القارية والقومية هي أشكال خاصة، والخصوصية تتعلق بالسمات الأولى المترسخة والتي تتمظهر بعدئذٍ في الأشكال الإنتاجية البشرية المشتركة.
وأهم خصوصية هي تدخل الدولة وتناسجها مع أسلوب الإنتاج؛ سواء كان في العبودية أم الإقطاع. ويبدو إن الرأسمالية
العربية لن تكون بعيدة عن ذلك.
إلا أن ملكية الدولة العامة غالباً ما شكلت ضباباً فكرياً للباحثين، ولهذا فإن ملكية الدولة في عهد الخلفاء الراشدين اعتبرها بعض الكتاب [اشتراكية] أو كما فعل آخرون تجاه الملكية العامة للقرامطة فاعتبروها (شيوعية!)، وهكذا فإن ملكية الدولة العامة الراهنة في الدول العربية اعتبرها البعض تحولاً إلى الرأسمالية.
ولكن أثبتت الملكية العامة للدول العربية بأنها لا تشكل رأسمالية، بل تعيد إنتاج العلاقات الإقطاعية، ورأسمالية الدولة كما
جرت في الاتحاد السوفيتي وكما تجري في الصين حاليا ليست لتحقيق الاشتراكية بل لتجاوز الإقطاع، ولكن لأنها دول شرقية، والدولة المالكة للإنتاج هي إرث تاريخي فيها، فقد التبس المضمون التاريخي التحولي فيها، حتى على المشاركين في التجربة، لكن التغيرات العاصفة فيها بينت المضمون الحقيقي للتحول.
لكن رأسمالية الدولة القومية في الصين وروسيا تمكنتا من إنجازمهام التحول من الإقطاع، وهذا بخلاف العالم العربي. فرأسمالية الدولة الوطنية هنا لديمومة الإقطاع وليس لتجاوزه. وهذا هو الالتباس الفكري التاريخي لدى العرب كما حدث
للالتباس الروسي بشان تحولهم إلى الاشتراكية، في حين كانوا يحققون انتقالاً للرأسمالية بشروط هيمنة الدولة البيروقراطية.
إذن نحن في سيرورة الإقطاع المذهبي كما تشكل تاريخياً، أي أن الأقاليم العربية التي تتفتت تحولت إلى دول إقطاعية مذهبية، وإقطاعية مذهبية بمعنى أنها عاجزة عن أن تكون إسلامية عامة، مما يولد الصراعات المذهبية وعنفها. وهي لن تتحول إلى إسلامية عامة إلا بالعلمانية وهذه شروطها الديمقراطية. أي يعني بأن تخرج من أسلوب الإنتاج الإقطاعي، وتفكك العلاقة بين الحكم والثروة، بين المذهب والسيطرة السياسية والاقتصادية.
أما رأسمالية الدولة فتحددها هنا كيفية إدارة الدولة، أي كيف يتوجه الخراج الجديد، لإعادة إنتاج بسيطة وتجديديه محدودة أم للخروج من أسلوب الإنتاج العتيق؟
ولكن الذي يحدث حاليا ان الخراج الجديد يتوجه لإعادة إنتاج النظام الإقطاعي المذهبي، مما يعني المزيد من النمو والصراع بين الحركات الإقطاعية المذهبية المختلفة، وهي التي لها بنية ايديولوجية لها مقاييسها المضادة للعصر والحداثة. فمسألة الاعتدال والتطرف هنا نسبية، فهي تنطلق من معايير ناتجة من القرون الوسطى، من عصر الإقطاع الديني التي لا تعرف مسائل القانون الدولي وحقوق الإنسان الحديثة، ولا الوطن والدولة الحديثة اللادينية، التي هي تابعة لمعايير العصر البرجوازي الحديث. ولهذا فإن الفروق بين الدول والحركات والتصورات الإقطاعية المذهبية هي كمية وليست نوعية.
أي أن الأمر يتطلب التحول إلى تشكيلة جديدة هي تشكيلة العصر الرأسمالي بكافة معاييرها، وهو أمر يتطلب نضالاً سياسياً و فكرياً قوياً تحديثياً شاملاً لفك الارتباط مع النظام الإقطاعي المذهبي وحركاته وتصوراته.
عبـــــــدالله خلــــــــيفة البنية العربية التقليدية تكونها وسيرورتها
لقد وُضعت مصطلحات محددة عديدة لتحديد البنى الاجتماعية العربية فى الزمن الأخير للوعي العربي النهضوي، حيث إن زمن النهضة الأول لم يبلور مصطلحاً محدداً للماضي الحاضر الذي يريد تجاوزه، وفي هذا اللاتحديد ضباب نظري واجتماعي، يعكس رؤى طلائع الفئات الوسطى العربية حينذاك وهي تتصور إمكانية التطابق البسيط مع الغرب من جهة ومع التراث من جهة أخرى.
أي أن وعي هذه الطلائع كان يأخذ الأفكار التجديدية والنهضوية كتكوينات فكرية واجتماعية خارج التشكيلات الاقتصادية/ الاجتماعية؛ باعتبارها عناصر مستقلة محايدة يمكن استخراجها من الأنظمة الاجتماعية المعاصرة أو الماضية، وزرعها في التاريخ العربي الراهن وقتذاك. ولهذا كانت التعبيرات المتداولة في هذا الوعي كقولهم: نأخذ من الغرب ومن التراث ما هو مفيد، أو كعملهم لفكرة الأحياء، فكل تيار يركز على إحياء أو الدعوة والدعاية للفصيل أو للتيارات (القريبة) منه.
ولم تختلف ممارسات طلائع الفئات الوسطى في الزمن (القومي) و(الاشتراكى)، لكن مناطق الاستيراد الفكري والاجتماعي اتجهت إلى مناطق وبلدان أخرى، تشكلت فيها رأسماليات الدولة القومية بأشكال متعددة (تجربة الاتحاد السوفيتي والتجارب الفاشية)، ولهذا فإن هذه الممارسات لم تتجه إلى التوصيف الموضوعي للبُنى الاجتماعية العربية.
ولكن فى هذا الزمن بدأت مفردة البناء التقليدي الماضوي تُطرح بصورة أكبر من الفترة التنويرية الأولى، واقترب مثقفو الفئات الوسطى لليبرالية من توصيف ماهية البناء التقليدي الموروث، لكن اسرار هذه التقليدية لم تحل.
لقد طرح الدكتور شاكر مصطفى مسألة البناء (التقليدي) الذي بدا قريباً من نظام اجتماعي وسياسي متداخل، فهو يحيل المنظومة التقليدية إلى عناصر هي الباقية من سيرورة التراث وهذه العناصر الأساسية الباقية تتجسد فى أربعة جوانب:
أ – طرق الإنتاح المادي ب – تكوين نظام السلطة ج – طبيعة العلاقات الاجتماعية د – قيم الفكر التراثية.
لكن هذه العناصر تبقى عناصر وبقايا لتاريخ، كما أنها غير مترابطة فى تكوين، أي لا تمثل بُنى اجماعية يتم تتجاوزها عبر بُنى مختلفة مغايرة، أي أن المسألة ليست مسألة تشكيلة اقتصادية اجتماعية، فيمكن الانتقال منها إلى البناء الحديث دون عملية قطع بنيوي. أي دون الحاجة إلى ثورة. ونجد استخدام مفردة أو مصطلح (تقليدي) بوفرة في قاموس النهضويين والليبراليين العرب والإسلاميين المتأخرين، لكن هذا المصطلح يُوضع فى إطار مجرد, وبدون قراءة لسيرورته التاريخية والاجتماعية.
ولهذا صار الوعي الطليعى لمثقفي الفئات الوسطى العربية هو المجابهة بين الحديث والتقليدي، وهذا في حد ذاته يعبر عن محاولة هذه القوى وتوحدها فى رفض الكابوس المتزايد لسيطرة البُنى التقليدية.
لكن هذا الصراع احتد في العقود الأخيرة من القرن العشرين، ولم تعد البُنى التقليدية مجرد قراءة للماضي أو محاولة لتأبيده، بل غدت كتلاً بشرية ضخمة تهدر في الشوارع ومعارك دموية وانقلابات؛ وهنا أخذت المصطلحات تضطرب، فمصطلح (تقليدي) لم يعد كافياً لتوصيف مثل هذه الحركات السياسية الماضوية، فظهر تصطلح (الأصولية) المنقول من الصحافة الغربية غير الدقيقة، أي باعتبار هذه الحركات السياسية التقليدية تمثل الأصول الإسلامية، وباعتباره مصطلحاً تبخيسياً، في حين إنه يعتبر مدحاً من وجهة نظر التاريخ الديني.
وقام الوعى اليساري للفئات الوسطى العربية بطرح مصطلحات مختلفة، مثل (حركات الإسلام السياسي)؛ وهو اصطلاح يمكن أن يضم حركات الخوارج والقرامطة وإرهابيي الجزائر، والمتصوفة الذين قاتلوا الصليبين دفاعاً عن الأرض العربية، كما أنه يمثل نظرة قاصرة لمستويات البنية المتداخلة التقليدية حيث الحدود ذائبة بين السياسي والاجتماعي والإيديولوجى!
وتم طرح تسميات أخرى كالحركات الإرهابية الدينية وهذا المصطلح يمكن أن يضم السيخ والهندوس والبوذيين المتطرفين كذلك!
إذن كان عجز الوعي العربي بأشكاله المختلفة عن الوصول إلى توصيف للبناء التقليدي العربى، يتمظهر في اضطراب المصطلحات، وهى العملية التي راحت تغلي مع اشتداد الصراعات السياسية حين عبرت البُنى التقليدية بأنها ليست ماضية فحسب بل حاضرا مهاجما ومسلحا بأقوى الأسلحة.
لقد عبرت آراء الأحزاب الاشتراكية والشيوعية العربية وهي تعكس وعي الفئات الوسطى ذات التوجهات اليسارية، عن اقتراب من البنية التقليدية، عبر توصيفها بـ(الإقطاع)، ولكن الإقطاع لديها هو إقطاع اقتصادي يتمظهر في الملكية الزراعية الكبيرة خاصة، ولم تقم بقراءة الإقطاع كتشكيلة اقتصادية اجتماعية، ويكمن في هذا التحاقها الثقافي والسياسي بـ(رأسمالية الدولة القومية) الروسية أو الصينية اللتين خرقتا مسألة التشكيلات وتطورها الموضوعي، وبالتالي عجزت عن إنتاج وعي تقدمي عربي، أي أنها قامت باستعارة طرق قومية مختلفة عن ظروفها الحاصة. (راجع تحليلاتنا لمواقف
هادي العلوي ومهدي عامل وغيرهما في مقالات سابقة).
وبطبيعة الحال فإن الأمر ليس رفض مصطلحاتٍ مجردة، بل هو رفض يتأسس من تكوينات سياسية اجتماعية شمولية تقليدية، لديها يافطات (تقدمية) غير أن البناء الفكري والاجتماعي شيء مختلف.
ولكن أيضاً حين نقول إن البنية العربية السابقة والراهنة بنية إقطاعية فهذا لا يكفى، أي أنه ينبغي علينا أن نرى السيرورة الخاصة لـ(إقطاعنا).
ولهذا عندما نقوم بتوصيف البنى الإقطاعية العربية، لن ننسى بأنها وريثة الأنظمة العبودية المعممة في المشرق (الرافدية، المصرية، الفينيقية الخ)، وهي نقطة عجز الوعي العربي التقدمي عن حلها، فهو لا يرى جذور هذه البُنى الإقطاعية العربية، في الزمن السابق البعيد كذلك، مثلما يجهل سيرورتها في الماضى القريب والحاضر، لأن تكون البُنى متداخلا ومركبا.
وإذا كانت جذور تكون البُنى الإقطاعية يتشكل مع الإسلام في الجزيرة العربية فهذا سيعطي لهذه البنى مستوى اجتماعياً وثقافياً معيناً، وبدون ظروف الجزيرة العربية الصحراوية المنعزلة عن أنظمة العبودية العامة في المشرق حينذاك، ما كان بإمكان هؤلاء الرعاة النمو والتحشد، وما كان بإمكانهم رفد المشرق العجوز بعلاقات إنتاج جديدة.
ولهذا كان نمو الإسلام مرتكزاً على إرث الرعاة، مع تشذيب المناطق المتطرفة منه؛ وإنهاضه، وفي مناخ التكون الاجتماعي التأسيسي ذاك كانت مسألة التشكيلة الاقتصادية / الاجتماعية مفتوحة، بين الماضي المشاعي المنهار، وعبودية خاصة، أي عبودية قائمة على استخدام العبيد الخاص، وليس العبودية الفرعونية القائمة على عبودية شعب باسره، لأن ظروف العرب الرحل رفضت ذلك.
وفي الإسلام الأول حدثت عمليات إقطاع، أي توزيع ملكيات أرض على المقاتلين المسلمين بعد انتصاراتهم على الوثنيين، ولكن هذا الإقطاع ليس هو الإقطاع المقصود لاحقاً، فهو إقطاع خاص، وهو أشبه بتبديل ملكيات خاصة.
ومن هنا تشكل التوزيع الإسلامي الأول للثروة، والذي يمكن أن نسميه التوزيع القرآني للثروة المُصادرة، حسب الآية من سورة الأنفال، ورغم ان الدولة الإسلامية الناشئة هي التي تقوم به، إلا أن الدولة ذاتها لا تملك ملكية عامة. كما أن أكبر أجهزة الدولة وهو الجيش قائم على التطوع، والأجرة ليست سوى الغنيمة التي تُؤخذ بعد الانتصار في المعارك، أما بقية أجهزة الدولة: السجون، والشرطة، المراكز الإقليمية للأجهزة فلم تر النور بعد.
لهذا فإن الدولة لم تتكون إلا بشكل جنيني، وأدت عمليات إعادة توزيع الثروات، وارتفاع مكانة الصحابة الفقراء والقبائل المسلمة المعدمة إلى مخاض اجتماعي مفتوح لعدة احتمالات تاريخية.
ومع عمليات الفتوح والانتقال إلى المناطق الزراعية الشمالية وانهيار الأنظمة العبودية الُمعمّمة، وصعود مكانة القبائل الرعوية العربية، أخذت قوى الأشراف الحجازية في الصعود الاجتماعي والسياسي مجدداً بعد سقوطها كملأ مهيمن فى نهاية المرحلة الوثنية.
ونستطيع أن نعتبر حروب الردة الحادة التي شُنت على القبائل المرتدة، وتدفق خيرات البلدان المغزوة، ونمو آلة دولة الخلافة، خاصة قوى الجيش، وتشكل الاستخبارات التي عملت في هذه المرحلة لمراقبة الولاة، وفيما بعد لمراقبة الناس، إن كل هذا قد جعل أفكار المساواة والكفاح الاجتماعي لدى نفر من الصحابة غير قادرة على التجذر في الحياة الاجتماعية التي انقلبت تمام الانقلاب بعد مرحلة الشظف والفقر السابقة.
بل إن هذا النفر لم يكن قادراً على تشكيل آليات سياسية لمجابهة صعود قوى الأشراف المتسلطة، والتي كانت ذات خبرات كبيرة في معرفة الأمم المجاورة وطرق التعامل معها، وقد كانت متمرسة في أساليب الحياة السياسية والعسكرية المسيطرة، في حين كان ذلك النفر من الصحابة يشكل طرقه (الشعبية) في التعامل مع شعوب البلدان المفتوحة.
وقد تشكلت أغلب المميزات السابقة المذكورة فى عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، ولكن أهم ما تكون مع ذلك الصعود لقوى الأشراف في الحياة السياسية، هو ظهور الملكية العامة لوسائل الإنتاج تحت الإدارة الإسلامية العربية.
ومن المعروف كيف كانت سمات عدالة التوزيع للثروة المصادرة في عهد عمر بين العرب، وهو أمر بدا له غير متناقض مع تقريبه لمن يسمون بدهاة العرب، وأبناء الأشراف المحنكين، حيث كان يرى الاستفادة منهم فى حكم البلدان المفتوحة، ولكن ذلك ترافق وتشكل مع تكون الملكية العامة للدولة فى القطاع الزراعي، الذي وُضع الأساس للاقطاع.
ان هذه السمات المتضادة، بين عدالة توزيع ثروة للعرب وتشكيل دولة مركزية قوية، كانتا تكملان بعضهما في عهده، أي أن التوزيع على العرب فقط، يفترض مصادرتها من الاقوام الاخرى، وبالتالي كان لا بد من وجود دولة قوية، ولكن وجود الدولة القوية لا بد أن يرتد على العرب أنفسهم فيما بعد. في حين كان ذلك النفر من الصحابة يريد إضعاف الدولة لصالح الناس، وهما نهجان غامضان في هذه المرحلة وسيتبلوران لاحقاً.
إن عمر بن الخطاب وقف طويلاً أمام تشكل القطاع العام الإسلامي في الأرض الزراعية، وتحويل الأراضى الصوافي إلى ملكية عامة للمسلمين، فهذا يخالف التوزيع القرآني للثروة كما بينا سابقا. فالتوزيع القرآني يعتمد على نشر الملكيات الخاصة، ولا يُلحق هذه الأملاك بجهاز الدولة، كما سيفعل عمر فى هذه اللحظة التاريخية الفاصلة والخطيرة، وهذا الأمر يتضح في هذا ألماثور الإسلامى: (روى أبوعبيدة القاسم بن سلام بسنده إلى ابراهيم التيمي وابن الماجشون قال: لما أفتتح المسلمون السواد قالوا لعمر(بن الخطاب): أقسمه بيننا فإنا فتحناه عنوة! فأبى وقال: فما لمن جاء بعدكم من المسلمين؟ وأخاف ان قسمته أن تفاسدوا بينكم فى المياه.. ولكنني أحبسه لله وللمسلمين. قال أبوعبيدة: أراه أراد أن تكون فيئاً للمسلمين ما تناسلوا يرثه قرن بعد قرن..).
ان هذه المخاطبة الجماهيرية من المقاتلين لعمر بضرورة توزيع الأرض العامة على المقاتلين، كانت تؤكد وجود تغيير جوهري فى طبيعة العلاقات الاقتصادية من قبل الخليفة، الذي أراد أن تكون الأرض الزراعية (الصوافى) ملكاً عاماً، وليس للمقاتلين فحسب، وهذا ما سيسمى لاحقاً بالفيء الإسلامى.
لقد تكون هنا المستوى الاقتصادي العام للاقطاع، أي تمت استعادة طريقة الدول المشرقية القدمة فى وضع الأملاك الزراعية الكبرى فى يد الدولة، التي هى ملكية خاصة للأسر الأرستقراطية، ولكن عمر أخضع التوزيع لحاجات الجمهور العربي. ومن جهة أخرى حين قرّب أفراد النخبة الحجازية التى كانت تدير الدول بكفاءة، خوفاً من عمر وتحسباً للمسقبل،
فقد تم وضع الأساس لتشكل الإقطاع الاقتصادي العام.
اذن ظهرت أملاكٌ كبرى عامة تخضع للدولة الإسلامية وإدارتها، ولنطالع هنا ما هو مضمروليس ظاهرا فحسب، أي أن الإقطاع الاقتصادي العام الموجه لصالح العرب المسلمين عامة، كان يشكل بداية لنقيضه، وهو الإقطاع الموجه لفائدة الأسر الخاصة. من حيث ان توزيع الفائض الاقتصادي الموضوع في يد الدولة وإدارتها، يظل توزيعاً، وليس إنتاجاً، أي أن الأرض الزراعية والعلاقات الإنتاجية فيها، ستبقى كما كانت سابقاً، من حيث وجود دولة متعالية مستغلة تجبي الخراج أو الفائض لمصلحة أسر عليا، وإذا كان التوزيع يجري الأن فى عهد عمر وعلي بن أبي طالب لاحقاً بشكل عادل للعرب، فهو يتعلق فقط بالفائض وتوزيعه وليس في اعادة تشكيل علاقات الإنتاج.
أي أن عمر لو قام بتوزيع الأرض على المقاتلين وتحولت إلى ملكيات خاصة، فسيكون التغيير قد وصل إلى علاقات الإنتاج، وبالتالي ستبقى الدولة إدارة سياسية وليس ادارة اقتصادية كذلك. أي سوف يتكسر طابعها الشمولي.
ان وضع الأساس الاقتصادي للدولة الإقطاعية الشمولية سيزداد درجة أخرى فى عهد عثمان بن عفان الخليفة الراشد الثالث، فالمضمون الاقتصادي العميق للدولة المسيطرة والذي بدأ سابقاً، أخذ يكتسب فى عهد هذا الخليفة مضموناً سياسياً كذلك، فإدارة الدولة انتقلت تدريجياً من إدارة عامة تشاورية، إلى إدارة أسرية، فآل مروان هيمنوا على بيت مال المسلمين، وبنى سفيان أصبحت لديهم أقوى الاقاليم الإسلامية المفتوحة.
لكن عامة العرب المسلمين لم تزل لديها بعدُ قوىً عسكرية وسياسية مؤثرة، وهو أمر تجلى فيما سُمى بـ(الفتنة الكبرى). حيث حاول العامةُ إعادة تشكيل الدولة الإسلامية الوليدة لصاحهم، لكن عوائل الأشراف الحجازيين انتفضت بأشكال مختلفة ضد هذه العملية السياسية والاجتماعية الخطيرة.
ولم تستطع الفئة التجارية الوسطى المتحالفة مع الفقراء الثائرين فى هذه المرحلة ان تستوعب البرنامج النبوي الذي تشكل فى المرحلة التأسيسية الأولى للإسلام، وتطوره، خاصة في مسألة التوزيع القرآني للثروة، وكان عدم الاستيعاب هذا والتردد، كفيلاً بتفكك أولاً جبهة الحكم ثم تفجر حروبها التي سهلت للأرستقراطية الأموية هذه المرة، العودة ثانية للسلطة وقد اكتملت دوائرها.
مع سيطرة الأمويين على مقاليد السلطة السياسية أمكنهم أن يضعوا أيديهم على الثروة الاقتصادية العامة، أي أن الإقطاع العام صار إقطاعاً أسرياً خاصاً . ولم يحدث ذلك دون مقاومة ضارية من عامة المسلمين، الذين صار ينضم إليهم الموالي والذميون، أي شعوب الإمم المحكومه من قبل العرب.
وتعتبر انتفاضات الخوارج والإمام الحسين بن علي والتوابين وأهل الكوفة جزءا من عمليات الاحتجاج الواسعة على تغيير طابع التوزيع للثروة واحتكار السلطة، لكن الطابع الإقطاعي للملكية العامة والسلطه قد ترسخ في هذا العصر.
وأدى رسوخ هذا الطابع في الميدان الاقتصادي والسياسي إلى انتقاله إلى الميدان الاجتماعي والثقافي.
فعبر سيطرة الأشراف على الثروة العامة، وهو ما كان يناقض الأحلام الشعبية بالمساواة، والإرث النبوي والراشدي، أخذ الأمويون يرتكزون على الإرث الرعوي الأرستقراطي وتكريسه, فاحيوا المظاهر القبلية المتعصبة بشكل شديد، وروجوا لشعر العداوات القبلية بين الفروع العربية المختلفة، وخاصة بين المضريين واليمانيين الخ..
كان الارتكاز على الإرث الرعوي وإفراغ الدورة الإسلامية التأسيسية من مضمونها النهضوي يجريان معاً، لتشكيل بنية
اجتماعية ثقافية اقطاعية، ومن هنا كان استنادهم على النصوصية الدينية الُمفرغّة من تلك المضامين النهضوية التحولية.
ونظراً لتنامي الثروات لدى هذه القوى الأرستقراطية، من جلب هائل للرقيق والجواري وسرقة واسعة للأمم، فقد تم التركيز في الآلة الدينية المسيطرة على الأشكال، والعبادات، والوحدة الظاهرية المجردة للمؤمنين والإعلاء التعصبي للقبائل، وغُيبت أساسيات الثورة. لكن الوعي الديني المعارض استمر في الوجود وإبراز جوانب مضمونية جوهرية في الإسلام، ووضع بعض الأئمه أساسيات للاحتهاد والقياس لتطوير النصوص الدينية، وابعادها عن السيطرة الإيديولوجية المطلقة للأمويين.
أي أن الوعي الديني راح ينقسم في هذه المرحلة بشكل فرق وأسر متتفذة، إلا أن الوعي المعارض هذا قبل بالأساسيات العامة لنظام الإقطاع المتكون، حيث لم تقم الفرق المعارضة وهي القدرية والمعتزلة والزيدية في هذه الحقبة، حين وصلت إلى السلطة أو إلى التأثير الثوري الواسع، بتفكيك ملكية الدولة العامة ووقف العبودية الخاصة المتنامية باتساع هائل ووضع حد لعبودية النساء التي تنامت مع تدفق الثروات على الرجال العرب وأرستقراطيات الموالي.
فعلى الرغم من المعارضة الواسعة والضارية أحياناً إلا أن الفرق غدت جزءا من تكوين الإقطاع.
ولدينا هنا شكلان من المعارضة وهي معارضة أسر الأشراف وأهمها المعارضة الشيعية، وتنويعاتها والتي هي بداهة مع نظام إقطاعي بديل عن الراهن تكون هي على رأسه، وكذلك الخوارج الذين قادتهم نصوصيتهم الحرفية إلى إقطاع آخر، في المناطق الصحراوية التي خضعت لحكمهم.
وهناك المعارضة التى تشكلت من الفئات الوسطى المدنية التي قامت على القبول بالنظام الإقطاعي وسلطته، نظراً لالتحاقها بخدمته أو تشكلت بفيض تدفق ماله، وهذه هي المعارضة التي ستشكل الأنواع الأدبية والفكرية المتعددة، التي ستعيش في الفضاء السياسي والفكري للنظام الإقطاعي، وستمتد من المطابقة التامة مع النظام الاجتماعي إلى طرح أشكال الإصلاح المحدودة داخله. وسواء كان ذلك من المذاهب السنية القياسية الاجتهادية أو من المذاهب غير الاجتهادية، إلى
التيارات الصوفية المضادة للعقل، إلى التيارات الفكرية (العقلية) الخ..
إن كل التشكيلات الفكرية والأدبية هي خاضعة للمدينة التي يحكمها الإقطاع السياسي العربي ثم اللاعربي.
إذا كان الإقطاع قد تمكن من المستوى السياسي للنظام الاجتماعي بعد أن سيطر على البناء الاقتصادي، فلا بد أن نعرف كيف سيطر في المستوى الاجتماعى. لقد قامت حركة العرب التاريخية على نشاط القبائل، والجانب المفيد أن هذه القبائل الحرة قد تمكنت من دك أنظمة العبودية العامة المتكلسة القديمة، إلا أن الجانب السلبي أنها نقلت تراثها الرعوي الاجتماعى والثقافى وقامت بجعله مطلقاً. وهذا قد بدأ بالأشكال الاجتماعية الأسرية؛ عبر جعل القبيلة هي أساس التكوين المدني، حيث تقسم الأحياء السكنية حسب أفخاذ القبائل، وتتشكل السلطة المدنية من زعماء الشيوخ القبليين، وهوالأمر الذي قاد إلى هيمنتهم على أجواء المدن الإسلامية المبكرة. ويقوم شيوخ القبائل المدنيين بنقل السلطة الإقطاعية من مستواها السياسي إلى مستواها الاجتماعي، عبر منع أي مظاهر للحرية الاجتماعية، وعبر الولاء للخلفاء، وإلحاق المدن بسلطتهم المطلقة، سواء كانت سياسية أو دينية أو إيديولوجية. هكذا تغدو المدن والأحياء جزءا من النسيج الإقطاعي، إلا أن المدن قابلة للتطور التحديثي النسبي، عبر انتشار التجارة والحرف والثقافة والاجتماع، ولهذا فإن القبيلة كتكوين اسري واسع لا تصمد للزمن، بل هي تتفكك، وتقترب من التحول إلى طبقات، حيث يحدث الفرز الاجتماعي بين الشيوخ المهيمنين على القبيلة والمرتبطين بالسلطة، وبين جمهورها الواسع. ولكن ذوبان القبيلة المطلق لا يتحقق لكون المدينة تعيش دائماً على السلطة الإقطاعية المهيمنة وعلى الرفد الصحراوي والرعوي المستمر عبر الزمن، إلا أن الجانب الأكبر
من نفوذ الإقطاع القبلي الاجتماعي، يتحقق عبر الأسرة الأبوية، فهذه الخلية الدنيا من القبيلة تقوم بالاحتفاظ بموروثاتها القرابية والاجتماعية والفكرية، عبر هيمنة الأب الذي يغدو وجهاً للسلطة النكورية المطلقة، وعبر تنحية النساء من النشاط الاجتماعي والسياسي، وعبر إعادة ضخ الوعي الديني المشكل حسب هيمنة السلطة. تغدوالمدينة الإسلامية المشكلة بسيطرة القوة السياسية والعسكرية، تعيد إنتاج ذاتها عبر التاريخ، سواء عبر الرفد المستمر من القوى الرعوية: الأتراك، والأكراد، وعرب الجزيرة، والأمازيغ (البربر) والألبان الخ..، وفي العصر الحديث عبر الجيوش والقوى العسكرية البدوية والقروية، أي أن القوة العسكرية السياسية تتحكم في الإنتهاج العام الزراعي، الذي يغدو في العصر الراهن الملكية
العامة للمعادن والبترول والفوسفات الخ..، وهكذا فإن الفرق المعارضة للعصرين الأموي والعباسي تقوم على معارضة الأسر والجماعات المتحكمة في النظام الإقطاعي لا معارضة النظام الإقطاعي نفسه، فهي جزء من نسيج هذا النظام وهي تقوم بإعادة إنتاج له، من مواقعها الجغرافية والسكانية والفقهية المختلفة، فتضخ الحياة المؤقتة في عظامه المتيبسان بشكل متلاحق، فالإسماعيليون والمعتزلة والإثناعشرية والقرامطة الخ..
يعيدون تشكيل الأنظمة الإقطاعية في عملهم ومناطقهم وإرثهم. إن القوى المعارضة تغدورقوى سياسية إقطاعية، لكونها لا تعمل لتغيير النظام الإقطاعي، بل على الوصول للسلطة فيه، وبالتالي تقوم باستثمار آلياته لمصالح لأسر المسيطرة. وحين كان الإقطاع العام مركزياً اي موجهاً من قبل عاصمة ما، المدينة، الكوفة، بغداد، قرطبة، كان الوعي الديني عاماً، ومع دخول الذميين في الإسلام وتحولهم إلى معارضات وطنية و(قومية) مضمرة، راح الوعي الديني الإقطاعي ينمو في اتجاهين، اتجاه مع السلطة العامة المسيطرة، واتجاه مع المعارضات الإقليمية المتعددة.
في الاتجاه الأول العروبى الُمضمر والقبلي وذي الإرث الصحراوي الأكبر، والذي أخذ يرتبط أكثر فأكثر مع الدولة المركزية أولاً ثم الدول الإقليمية، التي قمعت أشكاله القياسية المتحررة والناقدة، وحولته إلى أشكال دينية تابعة لها، وهو ما مثل المذاهب السنية المختلفة، وغدا مضمونه في الحفاظ على النصوصية على درجات دون إنجازات الثورات المتحققة. والاتجاه الثاني الأممي المضمر، والذي تداخل والإرث الديني القديم لشعوب المشرق الزراعي، ومثلته الإماميات المختلفة، والمسيحية العربية. ولكن كافة الاتجاهات لم تتجذر في البادية أو الزراعة، لأنها عكست القوى السياسية المسيطرة في هذه التكوينات الاجتماعية والبشرية، ولهذا ليس ثمة سوى خلافات نصوصية وحفريات قديمة، حيث إن كافة القوى السياسية المذهبية لم تنسلخ من النظام الإقطاعي.
لقد شكل الإقطاع العام المركزي لامذهبية، ولكن الإقطاع اللامركزي والمتفتت، شكل الإقطاع المذهبي الذي نعيشه حتى اليوم.
إن الأمر يعود لأسلوب الأنتاج الذي تحكم في حركة التاريخ العربية حين خرج العرب من صحرائهم ليس لديهم تشكيلة اقتصادية واجتماعية محددة، وكان التاريخ العالمي يتوجه نحو المنظومة الإقطاعية، كما فعل أقران العرب القبليين في جرمانيا والذين غزوا روما العبودية ونقلوا القسم الغربي من الإمبراطورية الرومانية إلى عصر الإقطاع. وتكفل العربُ
بنقل القسم الشرقي منها إلى ذات المنظومة.
إن أساليب الإنتاج في العالم الشرقي عامة والوطن العربي خاصة تنمو بشكل خاص، ولم تنفع أساليب المطابقة التي حاول
البعض إجراءها مع أوربا في الحصول على نتائج فكرية وسياسيه خصبة.
وهذا لا يتعلق بالتشكيلات الكبرى للبشرية فهي واحدة، ولكن أشكال التطبيق القارية والقومية هي أشكال خاصة، والخصوصية تتعلق بالسمات الأولى المترسخة والتي تتمظهر بعدئذٍ في الأشكال الإنتاجية البشرية المشتركة.
وأهم خصوصية هي تدخل الدولة وتناسجها مع أسلوب الإنتاج؛ سواء كان في العبودية أم الإقطاع. ويبدو إن الرأسمالية
العربية لن تكون بعيدة عن ذلك.
إلا أن ملكية الدولة العامة غالباً ما شكلت ضباباً فكرياً للباحثين، ولهذا فإن ملكية الدولة في عهد الخلفاء الراشدين اعتبرها بعض الكتاب [اشتراكية] أو كما فعل آخرون تجاه الملكية العامة للقرامطة فاعتبروها (شيوعية!)، وهكذا فإن ملكية الدولة العامة الراهنة في الدول العربية اعتبرها البعض تحولاً إلى الرأسمالية.
ولكن أثبتت الملكية العامة للدول العربية بأنها لا تشكل رأسمالية، بل تعيد إنتاج العلاقات الإقطاعية، ورأسمالية الدولة كما
جرت في الاتحاد السوفيتي وكما تجري في الصين حاليا ليست لتحقيق الاشتراكية بل لتجاوز الإقطاع، ولكن لأنها دول شرقية، والدولة المالكة للإنتاج هي إرث تاريخي فيها، فقد التبس المضمون التاريخي التحولي فيها، حتى على المشاركين في التجربة، لكن التغيرات العاصفة فيها بينت المضمون الحقيقي للتحول.
لكن رأسمالية الدولة القومية في الصين وروسيا تمكنتا من إنجازمهام التحول من الإقطاع، وهذا بخلاف العالم العربي. فرأسمالية الدولة الوطنية هنا لديمومة الإقطاع وليس لتجاوزه. وهذا هو الالتباس الفكري التاريخي لدى العرب كما حدث
للالتباس الروسي بشان تحولهم إلى الاشتراكية، في حين كانوا يحققون انتقالاً للرأسمالية بشروط هيمنة الدولة البيروقراطية.
إذن نحن في سيرورة الإقطاع المذهبي كما تشكل تاريخياً، أي أن الأقاليم العربية التي تتفتت تحولت إلى دول إقطاعية مذهبية، وإقطاعية مذهبية بمعنى أنها عاجزة عن أن تكون إسلامية عامة، مما يولد الصراعات المذهبية وعنفها. وهي لن تتحول إلى إسلامية عامة إلا بالعلمانية وهذه شروطها الديمقراطية. أي يعني بأن تخرج من أسلوب الإنتاج الإقطاعي، وتفكك العلاقة بين الحكم والثروة، بين المذهب والسيطرة السياسية والاقتصادية.
أما رأسمالية الدولة فتحددها هنا كيفية إدارة الدولة، أي كيف يتوجه الخراج الجديد، لإعادة إنتاج بسيطة وتجديديه محدودة أم للخروج من أسلوب الإنتاج العتيق؟
ولكن الذي يحدث حاليا ان الخراج الجديد يتوجه لإعادة إنتاج النظام الإقطاعي المذهبي، مما يعني المزيد من النمو والصراع بين الحركات الإقطاعية المذهبية المختلفة، وهي التي لها بنية ايديولوجية لها مقاييسها المضادة للعصر والحداثة. فمسألة الاعتدال والتطرف هنا نسبية، فهي تنطلق من معايير ناتجة من القرون الوسطى، من عصر الإقطاع الديني التي لا تعرف مسائل القانون الدولي وحقوق الإنسان الحديثة، ولا الوطن والدولة الحديثة اللادينية، التي هي تابعة لمعايير العصر البرجوازي الحديث. ولهذا فإن الفروق بين الدول والحركات والتصورات الإقطاعية المذهبية هي كمية وليست نوعية.
أي أن الأمر يتطلب التحول إلى تشكيلة جديدة هي تشكيلة العصر الرأسمالي بكافة معاييرها، وهو أمر يتطلب نضالاً سياسياً و فكرياً قوياً تحديثياً شاملاً لفك الارتباط مع النظام الإقطاعي المذهبي وحركاته وتصوراته.
عبـــــــدالله خلــــــــيفة البنية العربية التقليدية تكونها وسيرورتها
Published on June 09, 2019 12:32
June 3, 2019
نظريةُ التطورِ مثبتةٌ علمياً
إن نظرية التطور لصاحبها تشارلس دارون نظرية مثبتة علمياً، وليس ثمة مجال لأي جعجعة مضرة بالعلم والدين معاً.
ليس هذا ما نقوله بل هو أمرٌ صار من شؤون معاهد الأبحاث والجامعات.
فالوليدُ في بطنِ أمه تم تصوير تحولاته وكيف يعيش دورة الكائنات من كونهِ سمكةً حتى يمر بدور الحيوانات التي لها ذيول حتى يستوي إنساناً متجاوزاً لهذه المواضي الحيوانية. صورةٌ تختصرُ تاريخاً طويلاً وغنيةٌ عن أي بيان!
أنها أشكالٌ مصورة لا تقبل الدحض وصار الذيلُ الذي يبرز في لحظات من تطور الجنين مادةً للضحك على أصل الإنسان!
يمكن لنا في مقالات أخرى أن نوضح ضخامة دور نظرية التطور في العلوم وفي التطورات البشرية الثورية المعاصرة. ويكفي هنا القول بأن الغربيين وهم يستعدون لسكن الكواكب القصية جداً، يستعينون بنظرية التطور.
فكيف تدخل مثل هذه النظرية في مسألة غزو الفضاء؟!
أنهم يقومون بقراءة كيفية نشؤ الكوكب الأرضي ومراحله، ويبحثون عن الكواكب المشابهة له في العمر والظروف، وقد وجدوا قمراً في مجموعة (شمسية) مقارب لنشأة الأرض، ويعيش ظروف مشابهة.
ويحدث هنا درس لنباتاته وكائناته المحتملة وكيف يؤثر اتساع الأوكسجين على أشكال هذه الكائنات، وقد عرض هذا في الأفلام العلمية في الفضائيات حتى صار عادياً. والعلماء الغربيون يتجهزون فعلاً ليكونوا شركاء في مثل هذا التطور، وفي استعمار الكون وتفيدهم النظريات العلمية في هذا التوسع، الذي هو بالنسبة لهم حالة يومية قابلة للتنفيذ بسبب الميزانيات الضخمة المبذولة على العلم وعلى اكتشاف الكواكب والفضاء عامةً.
أنها نظرية تفتح آفاقاً خطيرة على تاريخ الإنسان وتطوراته. وليس ممكناً لعاقل على هذه الأرض اليوم أن تجرأ بالقول بضلال غزو الفضاء وبطلان نظريات نشؤ الكون التي تغدو مسائل يُبرهن عليها في المعامل المكلفة.
وفي الطب لنظرية التطورِ تطبيقاتٌ هائلة، وقد أدت المقارباتُ في دراسة الإنسان والقرد إلى العثور العلمي، وليس التهويمي والخيالي، إلى وجود نسبة عالية من التشابه البيولوجي (الجسدي) بين هذين الكائنين، ويصل إلى 95% من كيانيهما. وهذا تحديدٌ علميٌّ أرجو أن يتفضل أحدٌ من الأطباء والمختصين بالبيولوجيا من تفنيده إذا كان خاطئاً.
وأن يكون للسمكة عينان وللأسد عينان وللإنسان عينان فهذا ليس كذلك مصادفة. هذا سجلٌ لتطور الكائنات، وتاريخٌ طويلٌ جرى في المحيطات، حتى أعطاك التطورُ أكملَ منجزاته!
ويتم في الطب خاصة الاستفادة من هذه المقاربات، وصار العلاج يجري بعد سلاسل من التجريب في الحيوانات، ولو كانت غير مقاربة لنا، ونائية عنا، ما قاموا بمثل هذه التجارب!
وقد حدثت ثورات في مجال البيولوجيا والكيمياء الحيوية بسبب ذلك.
ولكن هذا كله لا يعني خدش معتقدات الناس الدينية، وتحقيرها، وكذلك لا يعني التجمد عند نصوصها، ولنا في الغربيين أسوةً حسنة، فقد قاوموا طويلاً النظريات العلمية وحرقوا أصحابها، وأبعدوها عن مجال الدرس والتربية، فما أفادهم ذلك شيئاً، بل أضر بهم. فكان أن أقبلوا عليها واستفادوا منها إستفادةً عظيمة، دون أن تزول المسيحية أو يخبو شأنها.
والتجربة يجب أن نسفتيد منها لا أن نعيد تكرار أخطاءها، فنظراً لتأخرنا علينا أن لا نقاوم العلوم المجربة والتحقيقات المغيرة للعالم، والتي مُحصت وجُربت وأفادت، وهذا لا يعني كذلك إلغاءنا لتاريخنا وتراثنا، فهو ركيزةُ عالمنا، ولنا وحدنا أن نكيفه مع حداثة العالم.
وقد عملَ أجدادُنا في ظروف بسيطة وقاسية وفي محدودية علمية ثم تطوروا وابتكروا، وفسروا الماضي وتأولوا وفتحوا الآفاق.
وحتى إننا نجد بذورَ نظرية التطور لدى ابن خلدون وفي التراث الإسماعيلي، وقد وصولوا بالحدس إلى كون الكائنات من شجرة واحدة. وقد قال بعضُ الهندوس إنني اتألم حينما أقطعُ شجرةً!
وكم قام أطباؤنا وعلماؤنا بتشريح الحيوانات، والاستفادة من نسيجها المشابه للبشر، وابتكروا الأدوية المفيدة بناءً على ذلك.
ولكن هذا لا يعني المطابقة المعنوية والأخلاقية والفكرية بين عالم الإنسان وعالم الحيوان!
فاللإنسان تاريخهُ الطويل الغني الحضاري المختلف، وقد تكون قد حدثت مقاربات للأجساد أما الثقافة والعقول والأخلاق فهي مكونات الإنسان والحضارات.
وقد تجمدت الكائناتُ الأخرى في مستويات دنيا، لأسرار وعوالم وأسباب لا تزال تخضع للدرس، ولا نزال نجهل كيفية نشؤ الإنسان تماماً، ولانزال لم نفك أسرار الكتب الدينية كلياً.
ولكن الذي لا يقبل الدحض هو وجود العائلات الكبرى في عالم الطبيعة، التي سُميت الأنواع، التي تكونت في جغرافيا مشتركة.
ولا يجب أن ندخل في معركة مجانية ضد العلوم، ونحجر النظريات الحديثة في المدارس والجامعات، مثلما أن علينا أن نؤصل جذور طلبتنا وشبابنا في تراثهم، غير صانعين تضادات بين الجانبين، وغير موجهين الأجيال الجديدة للصراع ضد العلوم والنظريات الحديثة، فهذه الصراعات تضرنا، وتعطلنا.
ولا شك أن ذلك سوف يؤدي إلى صراعات في العقول والمستويات، وإلى عدم قبول من الفريقين المتضادين المتطرفين الذين دينوا العلوم، والذين أنكروها أو أنكروا ما إعتقدوا أنه مضاد مع الأديان.
ولكن الموقف العقلاني المنفتح سوف يوجد حلولاً لهذه الصراعات والتناقضات المعرفية، على مستوى الممارسة الطويلة التاريخية، حين نعمق العلوم في حياتنا، وحين نقدر على قراءة النصوص الدينية بانفتاح ونضج.
نظريةُ التطورِ وإكتشاف جديد
تعرضتْ نظريةُ التطور لداروين إلى هجومٍ عربي إعلامي في الآونة الأخيرة من قبل بعض رجال الدين بسببِ نشر أبحاث في مجلة ساينس الأمريكية عن إكتشافِ هيكلٍ عظمي للإنسانِ يَجعلُ عمرَ البشرية يتوغلُ لأكثر من ثلاثة ملايين سنة فيصل حسب إجتهادهم إلى 4.4 مليون سنة وهي عمرُ (احفورة أردي)، وأكد الإكتشافُ إن الإنسان الحالي (ربما) تطور من سلفٍ آخر ليس هو القرد والشمبانزي بل هو أقرب لصورة الإنسان الحالي، فهو إكتشافٌ يضيفُ مليوناً أخرى من عمر جذور الإنسان القديمة المفترضة كما يزحزحهُ عن موقعهِ المقارب للقرود!
لكن الأصوات الحادة في رفض العلوم حولت وأدلجت الإكتشاف من أجل الإطاحة بهذه النظرية التي أكدتها أدلةٌ كثيرة، والتي وضعتْ التاريخَ الإنسانيَّ على أساسٍ علمي فيما يتعلق بنشؤ أشكال الحياة من أساسٍ واحد، أما مسألةُ الأدلةِ القاطعةِ في تكوين الإنسان وأصله التام المنجز فهذا لم يَحدثْ ولم يُطرح.
فهناك رؤيةٌ عامة عن تكون الأحياء وقد قُدمت عليها أدلةٌ وفيرة، وفي زمن دارون كانت الأدلة أقل وتتعلق بالأنواع العامة.
(يقول العلماءُ أن التطورَ قد خلفَ وراءه العديدَ من السجلات التي تروي تاريخَ الأنواع المختلفة وزمن نشوئها. الأحافير بمجموعها مع التشريح المقارن للنباتات والحيوانات الموجودة حالياً، تشكلُ سجلاً تشريحياً ومورفولوجياً. وبالمقارنة التشريحية والشكلية بين الأنواع الحالية والأنواع المنقرضة يمكن لعلماء المستحاثات أن يقوموا بمعرفة الارتباطات والأصول المشتركة بين هذه الأنواع. تقوم بعض المستحثات المهمة بإثبات الصلة بين أنواع منقرضة وأنواع موجودة حالياً عن طريق ما يدعى أنواع "انتقالية"، مثال هذه الأنواع الانتقالية أرخأيوبتركس الذي أثبت العلاقة بين الديناصورات والطيور) ، موسوعة ويكيبيديا. وتعطي الموسسوعةُ العديدَ من هذه الأدلة الملموسة عن كيفيةِ نمو الأحياء وتداخلها وتطورها، وتضيف:
(جميع هذه الإثباتات من علم الإحاثة، التشريح، علم الوراثة، والجغرافيا، إضافة لمعلومات أخرى حول تاريخ الأرض قامَ العلماءُ بربطِها سوية ضمن إطار تقدم نظرية التطور من خلالها وتجعلها نظريةً علميةً متماسكة. فمثلاً علم المناخ الإحاثي paleoclimatology يشيرُ إلى العصر الجليدي الدوري الذي كان فيه مناخ الأرض أكثرُ برودةً، مما أدى لنشوءِ وانتشارِ أنواعٍ حية قادرةٍ على تحملِ البرد القارس وأهم هذه الأنواع الماموث woolly mammoth.، (السابق)
لكن هذه الأدلة لم تكن حاسمة كلياً حتى جاءتْ علومُ الأحياءِ لتقدمَ أدلةً غير قابلة للنقض،(ففي عام 1953 توصل جيمس واطسون وزميله فرانسيس كريك الى إكتشافِ الحمض النووي الذي يُثبتُ صحةَ أغلب أفكار داروين، فقد عثرا على تركيبةِ الحمضِ النووي DNA الذي يبينُ الصفات الوراثية للكائن الحي. وقد حصلَ الباحثان بفضل هذا الإكتشاف على جائزة نوبل للطب عام 1962. ويرى إدوارد أوسبورن ويلسون، وهو أحدُ أشهر علماء التطور البيولوجي المعاصرين أن لعلم الأحياء الحديث علامتين بارزتين، الأولى في عام 1859 عندما نُشر كتاب أصل الأنواع، والثانية في عام 1953 عندما نُشرت تركيبة الحمض النووي.)، (موقع: علوم وتكنولوجيا).
لقد غدتْ الشفرة السرية الغامضة للكائنات الحية مكتشفة فحدثت بعدها ثورات تقنية في الزراعة والطب والفضاء وغيرها من المجالات! أي أن الصناعيين والمزارعين في الغرب قدموا سلعاً متطورة في عيش الإنسان وأكله ورقيه.
إن الضجيجَ المُضاد الذي يصدرُ في العالم العربي غير مفهوم وغير مفيد معاً، وفي هذا الضجيج يتم حشر الأديان في سياقات العلوم وإكتشافاتها، وتتصاعدُ دعواتٌ حماسية للصراع معها!
لا بد لنا من قراءة هذا الضجيج وجذوره وأهدافه، فجماعاتُ قراءات النصوص الدينية عبر التسطيح يقومون بحشرِها في الصراع مع النظريات العلمية، ويوصلون إنجازات هذه العلوم وإكتشافاتها بأشكالٍ كاريكاتيرية تصَّعدُ في المؤمنين نزعات التطرفِ والهجوم على العلماء والاكتشافات ومقاومة الحداثة والديمقراطية وإعطاء الجماهير العاملة حقوقها، وهي أدواتهم للرقي والتحرر وتطوير حضارتهم الإسلامية!
يقتبسون من كل هذه الثورة العلمية والتقنية الهائلة خيوطاً هزيلة فيقولون:(إنهم يهدمون الأديان. إنهم يصورون الإنسان بأنه من أصل القرود!)(الحضارة الغربية الكافرة تريد القضاء على دينكم يا مسلمين!).
مثلما فعلَ شيخٌ يمني (أجهز) على نظرية التطور ومنعَ قوانينَ تحدُ من الزواج بالفتيات الصغيرات القاصرات، معتبراً ذلك كله دفاعاً عن الإسلام!
هناك مسارٌ علمي صناعي مفجر للتحولات، ومن أهمها صناعة الطب وعلاج الإنسان فلولا فهم جسد الإنسان وعلاقاته بالمخلوقات الأخرى ما كان من الممكن أن تظهر وتتطور علوم الطب، ولولا دراسة الجينات الموحَّدة عددياً حتى بين الإنسان والفأر، ما ظهرتْ علومُ العلاج!
إن مسار الأديان وكتبها المقدسة مسار مخلتف عن مسارات العلوم الطبيعية، فتلك لها أبحاثها وعلماؤها المختصون، وهم يدرسونها بإستقلال عن إنجازات وتقلبات وإفتراضات العلوم الطبيعية.
قام رجالُ الكنائس بالصراع ضد نظرية التطور وفي سنة 1925 توقفت معاهدٌ ومدارسٌ في الولايات المتحدة فيما يسمى بـ(قضية القرد!) فماذا إستفادوا غير توقف التعليم؟
علينا أن نستثمر نظرية التطور وإنجازاتها في العلوم التطبيقية خاصة، فيما يكون للدين إستقلاله ودوره. وحين يقوم رجلُ الدين اليمني بتأجيج العداء للنظريات العلمية في وقت تتدهور زراعة الفلاح تتدهور ووضعه السياسي، فلا يعرف أسباب أمراض المنتوجات الزراعية ولا مشاكل المواليد البشرية، والفتيات الصغيرات يمنعن من الدراسة، فمن يستفيد من كل هذا التخلف الذي يُربط زعماً بالإسلام؟
دارون... ونظرية التطور
ليس هذا ما نقوله بل هو أمرٌ صار من شؤون معاهد الأبحاث والجامعات.
فالوليدُ في بطنِ أمه تم تصوير تحولاته وكيف يعيش دورة الكائنات من كونهِ سمكةً حتى يمر بدور الحيوانات التي لها ذيول حتى يستوي إنساناً متجاوزاً لهذه المواضي الحيوانية. صورةٌ تختصرُ تاريخاً طويلاً وغنيةٌ عن أي بيان!
أنها أشكالٌ مصورة لا تقبل الدحض وصار الذيلُ الذي يبرز في لحظات من تطور الجنين مادةً للضحك على أصل الإنسان!
يمكن لنا في مقالات أخرى أن نوضح ضخامة دور نظرية التطور في العلوم وفي التطورات البشرية الثورية المعاصرة. ويكفي هنا القول بأن الغربيين وهم يستعدون لسكن الكواكب القصية جداً، يستعينون بنظرية التطور.
فكيف تدخل مثل هذه النظرية في مسألة غزو الفضاء؟!
أنهم يقومون بقراءة كيفية نشؤ الكوكب الأرضي ومراحله، ويبحثون عن الكواكب المشابهة له في العمر والظروف، وقد وجدوا قمراً في مجموعة (شمسية) مقارب لنشأة الأرض، ويعيش ظروف مشابهة.
ويحدث هنا درس لنباتاته وكائناته المحتملة وكيف يؤثر اتساع الأوكسجين على أشكال هذه الكائنات، وقد عرض هذا في الأفلام العلمية في الفضائيات حتى صار عادياً. والعلماء الغربيون يتجهزون فعلاً ليكونوا شركاء في مثل هذا التطور، وفي استعمار الكون وتفيدهم النظريات العلمية في هذا التوسع، الذي هو بالنسبة لهم حالة يومية قابلة للتنفيذ بسبب الميزانيات الضخمة المبذولة على العلم وعلى اكتشاف الكواكب والفضاء عامةً.
أنها نظرية تفتح آفاقاً خطيرة على تاريخ الإنسان وتطوراته. وليس ممكناً لعاقل على هذه الأرض اليوم أن تجرأ بالقول بضلال غزو الفضاء وبطلان نظريات نشؤ الكون التي تغدو مسائل يُبرهن عليها في المعامل المكلفة.
وفي الطب لنظرية التطورِ تطبيقاتٌ هائلة، وقد أدت المقارباتُ في دراسة الإنسان والقرد إلى العثور العلمي، وليس التهويمي والخيالي، إلى وجود نسبة عالية من التشابه البيولوجي (الجسدي) بين هذين الكائنين، ويصل إلى 95% من كيانيهما. وهذا تحديدٌ علميٌّ أرجو أن يتفضل أحدٌ من الأطباء والمختصين بالبيولوجيا من تفنيده إذا كان خاطئاً.
وأن يكون للسمكة عينان وللأسد عينان وللإنسان عينان فهذا ليس كذلك مصادفة. هذا سجلٌ لتطور الكائنات، وتاريخٌ طويلٌ جرى في المحيطات، حتى أعطاك التطورُ أكملَ منجزاته!
ويتم في الطب خاصة الاستفادة من هذه المقاربات، وصار العلاج يجري بعد سلاسل من التجريب في الحيوانات، ولو كانت غير مقاربة لنا، ونائية عنا، ما قاموا بمثل هذه التجارب!
وقد حدثت ثورات في مجال البيولوجيا والكيمياء الحيوية بسبب ذلك.
ولكن هذا كله لا يعني خدش معتقدات الناس الدينية، وتحقيرها، وكذلك لا يعني التجمد عند نصوصها، ولنا في الغربيين أسوةً حسنة، فقد قاوموا طويلاً النظريات العلمية وحرقوا أصحابها، وأبعدوها عن مجال الدرس والتربية، فما أفادهم ذلك شيئاً، بل أضر بهم. فكان أن أقبلوا عليها واستفادوا منها إستفادةً عظيمة، دون أن تزول المسيحية أو يخبو شأنها.
والتجربة يجب أن نسفتيد منها لا أن نعيد تكرار أخطاءها، فنظراً لتأخرنا علينا أن لا نقاوم العلوم المجربة والتحقيقات المغيرة للعالم، والتي مُحصت وجُربت وأفادت، وهذا لا يعني كذلك إلغاءنا لتاريخنا وتراثنا، فهو ركيزةُ عالمنا، ولنا وحدنا أن نكيفه مع حداثة العالم.
وقد عملَ أجدادُنا في ظروف بسيطة وقاسية وفي محدودية علمية ثم تطوروا وابتكروا، وفسروا الماضي وتأولوا وفتحوا الآفاق.
وحتى إننا نجد بذورَ نظرية التطور لدى ابن خلدون وفي التراث الإسماعيلي، وقد وصولوا بالحدس إلى كون الكائنات من شجرة واحدة. وقد قال بعضُ الهندوس إنني اتألم حينما أقطعُ شجرةً!
وكم قام أطباؤنا وعلماؤنا بتشريح الحيوانات، والاستفادة من نسيجها المشابه للبشر، وابتكروا الأدوية المفيدة بناءً على ذلك.
ولكن هذا لا يعني المطابقة المعنوية والأخلاقية والفكرية بين عالم الإنسان وعالم الحيوان!
فاللإنسان تاريخهُ الطويل الغني الحضاري المختلف، وقد تكون قد حدثت مقاربات للأجساد أما الثقافة والعقول والأخلاق فهي مكونات الإنسان والحضارات.
وقد تجمدت الكائناتُ الأخرى في مستويات دنيا، لأسرار وعوالم وأسباب لا تزال تخضع للدرس، ولا نزال نجهل كيفية نشؤ الإنسان تماماً، ولانزال لم نفك أسرار الكتب الدينية كلياً.
ولكن الذي لا يقبل الدحض هو وجود العائلات الكبرى في عالم الطبيعة، التي سُميت الأنواع، التي تكونت في جغرافيا مشتركة.
ولا يجب أن ندخل في معركة مجانية ضد العلوم، ونحجر النظريات الحديثة في المدارس والجامعات، مثلما أن علينا أن نؤصل جذور طلبتنا وشبابنا في تراثهم، غير صانعين تضادات بين الجانبين، وغير موجهين الأجيال الجديدة للصراع ضد العلوم والنظريات الحديثة، فهذه الصراعات تضرنا، وتعطلنا.
ولا شك أن ذلك سوف يؤدي إلى صراعات في العقول والمستويات، وإلى عدم قبول من الفريقين المتضادين المتطرفين الذين دينوا العلوم، والذين أنكروها أو أنكروا ما إعتقدوا أنه مضاد مع الأديان.
ولكن الموقف العقلاني المنفتح سوف يوجد حلولاً لهذه الصراعات والتناقضات المعرفية، على مستوى الممارسة الطويلة التاريخية، حين نعمق العلوم في حياتنا، وحين نقدر على قراءة النصوص الدينية بانفتاح ونضج.
نظريةُ التطورِ وإكتشاف جديد
تعرضتْ نظريةُ التطور لداروين إلى هجومٍ عربي إعلامي في الآونة الأخيرة من قبل بعض رجال الدين بسببِ نشر أبحاث في مجلة ساينس الأمريكية عن إكتشافِ هيكلٍ عظمي للإنسانِ يَجعلُ عمرَ البشرية يتوغلُ لأكثر من ثلاثة ملايين سنة فيصل حسب إجتهادهم إلى 4.4 مليون سنة وهي عمرُ (احفورة أردي)، وأكد الإكتشافُ إن الإنسان الحالي (ربما) تطور من سلفٍ آخر ليس هو القرد والشمبانزي بل هو أقرب لصورة الإنسان الحالي، فهو إكتشافٌ يضيفُ مليوناً أخرى من عمر جذور الإنسان القديمة المفترضة كما يزحزحهُ عن موقعهِ المقارب للقرود!
لكن الأصوات الحادة في رفض العلوم حولت وأدلجت الإكتشاف من أجل الإطاحة بهذه النظرية التي أكدتها أدلةٌ كثيرة، والتي وضعتْ التاريخَ الإنسانيَّ على أساسٍ علمي فيما يتعلق بنشؤ أشكال الحياة من أساسٍ واحد، أما مسألةُ الأدلةِ القاطعةِ في تكوين الإنسان وأصله التام المنجز فهذا لم يَحدثْ ولم يُطرح.
فهناك رؤيةٌ عامة عن تكون الأحياء وقد قُدمت عليها أدلةٌ وفيرة، وفي زمن دارون كانت الأدلة أقل وتتعلق بالأنواع العامة.
(يقول العلماءُ أن التطورَ قد خلفَ وراءه العديدَ من السجلات التي تروي تاريخَ الأنواع المختلفة وزمن نشوئها. الأحافير بمجموعها مع التشريح المقارن للنباتات والحيوانات الموجودة حالياً، تشكلُ سجلاً تشريحياً ومورفولوجياً. وبالمقارنة التشريحية والشكلية بين الأنواع الحالية والأنواع المنقرضة يمكن لعلماء المستحاثات أن يقوموا بمعرفة الارتباطات والأصول المشتركة بين هذه الأنواع. تقوم بعض المستحثات المهمة بإثبات الصلة بين أنواع منقرضة وأنواع موجودة حالياً عن طريق ما يدعى أنواع "انتقالية"، مثال هذه الأنواع الانتقالية أرخأيوبتركس الذي أثبت العلاقة بين الديناصورات والطيور) ، موسوعة ويكيبيديا. وتعطي الموسسوعةُ العديدَ من هذه الأدلة الملموسة عن كيفيةِ نمو الأحياء وتداخلها وتطورها، وتضيف:
(جميع هذه الإثباتات من علم الإحاثة، التشريح، علم الوراثة، والجغرافيا، إضافة لمعلومات أخرى حول تاريخ الأرض قامَ العلماءُ بربطِها سوية ضمن إطار تقدم نظرية التطور من خلالها وتجعلها نظريةً علميةً متماسكة. فمثلاً علم المناخ الإحاثي paleoclimatology يشيرُ إلى العصر الجليدي الدوري الذي كان فيه مناخ الأرض أكثرُ برودةً، مما أدى لنشوءِ وانتشارِ أنواعٍ حية قادرةٍ على تحملِ البرد القارس وأهم هذه الأنواع الماموث woolly mammoth.، (السابق)
لكن هذه الأدلة لم تكن حاسمة كلياً حتى جاءتْ علومُ الأحياءِ لتقدمَ أدلةً غير قابلة للنقض،(ففي عام 1953 توصل جيمس واطسون وزميله فرانسيس كريك الى إكتشافِ الحمض النووي الذي يُثبتُ صحةَ أغلب أفكار داروين، فقد عثرا على تركيبةِ الحمضِ النووي DNA الذي يبينُ الصفات الوراثية للكائن الحي. وقد حصلَ الباحثان بفضل هذا الإكتشاف على جائزة نوبل للطب عام 1962. ويرى إدوارد أوسبورن ويلسون، وهو أحدُ أشهر علماء التطور البيولوجي المعاصرين أن لعلم الأحياء الحديث علامتين بارزتين، الأولى في عام 1859 عندما نُشر كتاب أصل الأنواع، والثانية في عام 1953 عندما نُشرت تركيبة الحمض النووي.)، (موقع: علوم وتكنولوجيا).
لقد غدتْ الشفرة السرية الغامضة للكائنات الحية مكتشفة فحدثت بعدها ثورات تقنية في الزراعة والطب والفضاء وغيرها من المجالات! أي أن الصناعيين والمزارعين في الغرب قدموا سلعاً متطورة في عيش الإنسان وأكله ورقيه.
إن الضجيجَ المُضاد الذي يصدرُ في العالم العربي غير مفهوم وغير مفيد معاً، وفي هذا الضجيج يتم حشر الأديان في سياقات العلوم وإكتشافاتها، وتتصاعدُ دعواتٌ حماسية للصراع معها!
لا بد لنا من قراءة هذا الضجيج وجذوره وأهدافه، فجماعاتُ قراءات النصوص الدينية عبر التسطيح يقومون بحشرِها في الصراع مع النظريات العلمية، ويوصلون إنجازات هذه العلوم وإكتشافاتها بأشكالٍ كاريكاتيرية تصَّعدُ في المؤمنين نزعات التطرفِ والهجوم على العلماء والاكتشافات ومقاومة الحداثة والديمقراطية وإعطاء الجماهير العاملة حقوقها، وهي أدواتهم للرقي والتحرر وتطوير حضارتهم الإسلامية!
يقتبسون من كل هذه الثورة العلمية والتقنية الهائلة خيوطاً هزيلة فيقولون:(إنهم يهدمون الأديان. إنهم يصورون الإنسان بأنه من أصل القرود!)(الحضارة الغربية الكافرة تريد القضاء على دينكم يا مسلمين!).
مثلما فعلَ شيخٌ يمني (أجهز) على نظرية التطور ومنعَ قوانينَ تحدُ من الزواج بالفتيات الصغيرات القاصرات، معتبراً ذلك كله دفاعاً عن الإسلام!
هناك مسارٌ علمي صناعي مفجر للتحولات، ومن أهمها صناعة الطب وعلاج الإنسان فلولا فهم جسد الإنسان وعلاقاته بالمخلوقات الأخرى ما كان من الممكن أن تظهر وتتطور علوم الطب، ولولا دراسة الجينات الموحَّدة عددياً حتى بين الإنسان والفأر، ما ظهرتْ علومُ العلاج!
إن مسار الأديان وكتبها المقدسة مسار مخلتف عن مسارات العلوم الطبيعية، فتلك لها أبحاثها وعلماؤها المختصون، وهم يدرسونها بإستقلال عن إنجازات وتقلبات وإفتراضات العلوم الطبيعية.
قام رجالُ الكنائس بالصراع ضد نظرية التطور وفي سنة 1925 توقفت معاهدٌ ومدارسٌ في الولايات المتحدة فيما يسمى بـ(قضية القرد!) فماذا إستفادوا غير توقف التعليم؟
علينا أن نستثمر نظرية التطور وإنجازاتها في العلوم التطبيقية خاصة، فيما يكون للدين إستقلاله ودوره. وحين يقوم رجلُ الدين اليمني بتأجيج العداء للنظريات العلمية في وقت تتدهور زراعة الفلاح تتدهور ووضعه السياسي، فلا يعرف أسباب أمراض المنتوجات الزراعية ولا مشاكل المواليد البشرية، والفتيات الصغيرات يمنعن من الدراسة، فمن يستفيد من كل هذا التخلف الذي يُربط زعماً بالإسلام؟
دارون... ونظرية التطور
Published on June 03, 2019 12:50
•
Tags:
نظرية-التطور-مثبتة-علميا
فقه الحرية
أُقيمت المدارسُ الدينية على أساسٍ آخر غير الذي نشأ فيه الدين. كانت البدايات الدينية مرتكزة على حرية وديمقراطية مباشرة مع الجمهور ومنافع عامة متاحة للأغلبية. لكن فيما بعد تشكل الفقه على أوامر الدول ومن خلال ماكيناتها السياسية التي راحت تقضم ما هو تحرري، وتكرس ما هو إستغلالي وتحكمي في الجهمور.
هناك شيءٌ مشترك بين الفترتين هو السيطرة الذكورية داخل الأسرة، حيث حاول الدين التأسيسي أن يخفف من الهيمنة الذكورية، لكن الظروف الصحراوية والقبلية والأمية الثقافية كانت تعوقُ ذلك.
لا يوجد القانونُ المطلقُ المجردُ من الملابسات التاريخية، فقد كانت القوانينُ الدينية جدلٌ إجتماعي بين المشرع والناس، ووُضعت – تلك القوانين - في فضاء الدولة الشعبية ذات الديمقراطية المباشرة، أعطاها الدينُ السلطة والثروة، ولم تتشكل هيئاتٌ شعبية منظمة تجعل تلك القوانين محل نظر ومراجعة دائمة، إلا بشكلِ تشاور أهل الحل والعقد، وكان ذاك مجلساً تشريعياً، غيرَ محددِ الأعضاء بصورةٍ رسمية وقد قررَ قرارات خطيرة فقهية لم تكن موجودة في القرآن، كمسألةِ تملك أراضي الفتوح للدولة.
أما قضايا أخرى كالحدود فهي مرتبطة بغياب الإرث القانوني للقبائل، وكذلك بإتاحة الدولة الناشئة الخيرات للأغلبية.
فيما بعد ومع سيطرة الدول الإستغلالية تم الحفاظ على العقوبات والموانع والقيود، وألغي الجوهرَ الاجتماعيَّ لتلك الفترة!
سُرقت الأراضي العامة وتم تجاهل أحكام الملكية العامة في الإرث الصحابي، لكن تم التحجر بقوة في أحكام كثيرة أخرى!
ولم يقبل الناسُ قرارات الدول فكيف بإعادة النظر في الأحكام بل انقسموا وتصارعوا.
ولم يكن للمدارس الفقهية قراءات تاريخية تضعُ الأحكامَ في سياقِها الحقيقي، ولعبَ التقربُ للسلاطين والسلطات دوره في قلب الأوضاع التشريعية.
فما كان سرقة فردية عُوقب صاحبها بقسوة وما كان سرقة عامة بُجل حراميها ومُدح!
انقلبت الأحكامُ رأساً على عقب، وصار القانونُ الديني العام يمشي على رأسه. وحاول تابعون كثيرون تعديل الجسم المنقلب فحصورا وسجنوا وعذبوا ثم سكت التالون.
وبين فقه الحرية وفقه العبودية مسافاتٌ طويلة، كيفت الدولُ والجماعاتُ الاستغلالية المهيمنة التشريعَ لصالحها، فتغيرتْ الأمور وتم غسل أدمغة الشعوب، ووضعوا في خطوط ضيقة لا يتحركون عنها يمنة أو يسرة، وينشأ الناشيءُ فيهم على ما علمه أبوه، وصار فقه العبودية هو المناخ الذي يتنفسون فيه.
في الدول الضيقة الأحكام المتشددة، التي تقول بأنها جنة التشريع الأصيل الأبدي، يكثرُ خرقُ الشرع، ويغدو البشر مختنقين بملابسهم المشدودة على أرواحهم، وتكمنُ وراءها كل النوايا الخطرة المتوارية، ظاهرٌ صارمٌ وباطنٌ منفلت، يسعى لأي فرصة كي ينفجر مندفعاً في كل الجهات!
الأب القوي الصارم يتحكم في كل شاردة وواردة في البيت، ابناؤه يمشون على سكك دقيقة، إذا انحرفوا جاءهم العقاب، لا يعرفون سوى الطاعة، خائفون من أي خطأ، تحولت لهم المدراس إلى سجون أخرى، وإذا حصلوا فرصة لقفز جدرانها قفزوا، لكنهم يقفزون جدران هذه السجون البيتية والفقهية الأبوية بقوة حين يتسنى لهم بعض الحرية، متوجهين لحرية فوضوية، تكسر كل ذلك الماضي العفن في رأيهم!
تصبح الحرية موسيقى زاعقة مصدعة محطمة للرؤوس والآذان، تغدو مخدرات، وجرائما، وسرقات من المالين العام والخاص.
تتحول الهيئات المختلفة إلى مؤسسات عقاب، تحمي هذه الخيرات المحبوسة عن الأغلبية، تتركز الأحكام على العقاب، ولا توجد قوانين للثواب، والحد من هيمنة بطش أبوي.
إن فقه الحرية يساعد على نمو الصوت المختلف في البيت، على تنامي الشخصية المسئولة، ليبرز الإنسان دواخله الحقيقية ، ليكشف باطنه المتواري، ولينفس عن غرائزه في ظل القانون، ولتتم مراقبة هذه الغرائز بدلاً من تنمو في الظلام وتتحول إلى كائنات خرافية مسيطرة.
يركز فقه العبودية على المحرمات، يكبت، يصادر، يقمع، كل شيء مشبوه، يحاول جعل الظاهر مستقيماً نظيفاً بالعصا والجدران، لكنه لا يقدر، الغرائز تتفجر، الشخصيات مثل قطرات المحيطات، تظهر ألوانها المختلفة، والقمع يفجرها، والعصا تنكسر، والقوى الباطنة التي نمت في الظلام تصير وحوشاً!
نرى كل الدول والأسر - الزنزانات تتصدع، وتخرج الوحوش في ساعة إنطفاء عام للكهرباء التنويرية، يتحول الأولاد إلى مشوهين ومجرمين، وقوى الحارات المعدمة تصير ناراً، وعصاباتٍ تسرقُ كلَ شيء متاح، وما بني في سنوات يزول في لحظات.
فقه الحرية على صعوبته ودقة مسئوليته لا بد أن يترابط مع مؤسسات القطاع العام، التي يجب أن تقدم الأجر الجيد للمواطنين ولمستقبلهم، ومع مؤسسات التعليم والثقافة، لكي لا تتحول المدارس إلى أدوات لإنتاج المعقدين والمرضى.
فقه العبودية سهل لا يحتاج سوى توزيع القيود والكلبشات على الأيدي والعقول والخيارات، وتوسيع أوامر المنع، والرجم، والحجر والحجز لتنمو الجراثيم في السر.
يقود القطاعُ العامُ الديمقراطي والملكية الخاصة المنتجة والثقافة الوطنية إلى إعادة الوحدة المفقودة للناس بعد قرون من النزاع، إلى بداية أن يمشي المجتمع على قدميه المعلقتين في فضائي الإحتجاز والإستغلال، وهي مسيرة طويلة لا تتحقق بسهولة، فوراءها وأمامها ميراث من القهر ومن النفسية الاجتماعية الهائلة المعقدة التي عاشت في تلك الكهوف وحين تخرج لبعض النور تضطرب، وتتطرف، وتقوي حجج أهل العصا، لكن هذه المسيرة ليس ثمة طريق آخر غيرها.
في السجون تتركز مسألة العقاب ويدمغ الإنسان بالأجرام ويظل مشبوهاً طوال عمره لينتج مجرمين آخرين، مثلما أن ينابيع الأجرام مفتوحة في أماكن أخرى.
يحتاج فقه الحرية إلى قرون ليصحح ما أفسده الزمن الطويل.
هناك شيءٌ مشترك بين الفترتين هو السيطرة الذكورية داخل الأسرة، حيث حاول الدين التأسيسي أن يخفف من الهيمنة الذكورية، لكن الظروف الصحراوية والقبلية والأمية الثقافية كانت تعوقُ ذلك.
لا يوجد القانونُ المطلقُ المجردُ من الملابسات التاريخية، فقد كانت القوانينُ الدينية جدلٌ إجتماعي بين المشرع والناس، ووُضعت – تلك القوانين - في فضاء الدولة الشعبية ذات الديمقراطية المباشرة، أعطاها الدينُ السلطة والثروة، ولم تتشكل هيئاتٌ شعبية منظمة تجعل تلك القوانين محل نظر ومراجعة دائمة، إلا بشكلِ تشاور أهل الحل والعقد، وكان ذاك مجلساً تشريعياً، غيرَ محددِ الأعضاء بصورةٍ رسمية وقد قررَ قرارات خطيرة فقهية لم تكن موجودة في القرآن، كمسألةِ تملك أراضي الفتوح للدولة.
أما قضايا أخرى كالحدود فهي مرتبطة بغياب الإرث القانوني للقبائل، وكذلك بإتاحة الدولة الناشئة الخيرات للأغلبية.
فيما بعد ومع سيطرة الدول الإستغلالية تم الحفاظ على العقوبات والموانع والقيود، وألغي الجوهرَ الاجتماعيَّ لتلك الفترة!
سُرقت الأراضي العامة وتم تجاهل أحكام الملكية العامة في الإرث الصحابي، لكن تم التحجر بقوة في أحكام كثيرة أخرى!
ولم يقبل الناسُ قرارات الدول فكيف بإعادة النظر في الأحكام بل انقسموا وتصارعوا.
ولم يكن للمدارس الفقهية قراءات تاريخية تضعُ الأحكامَ في سياقِها الحقيقي، ولعبَ التقربُ للسلاطين والسلطات دوره في قلب الأوضاع التشريعية.
فما كان سرقة فردية عُوقب صاحبها بقسوة وما كان سرقة عامة بُجل حراميها ومُدح!
انقلبت الأحكامُ رأساً على عقب، وصار القانونُ الديني العام يمشي على رأسه. وحاول تابعون كثيرون تعديل الجسم المنقلب فحصورا وسجنوا وعذبوا ثم سكت التالون.
وبين فقه الحرية وفقه العبودية مسافاتٌ طويلة، كيفت الدولُ والجماعاتُ الاستغلالية المهيمنة التشريعَ لصالحها، فتغيرتْ الأمور وتم غسل أدمغة الشعوب، ووضعوا في خطوط ضيقة لا يتحركون عنها يمنة أو يسرة، وينشأ الناشيءُ فيهم على ما علمه أبوه، وصار فقه العبودية هو المناخ الذي يتنفسون فيه.
في الدول الضيقة الأحكام المتشددة، التي تقول بأنها جنة التشريع الأصيل الأبدي، يكثرُ خرقُ الشرع، ويغدو البشر مختنقين بملابسهم المشدودة على أرواحهم، وتكمنُ وراءها كل النوايا الخطرة المتوارية، ظاهرٌ صارمٌ وباطنٌ منفلت، يسعى لأي فرصة كي ينفجر مندفعاً في كل الجهات!
الأب القوي الصارم يتحكم في كل شاردة وواردة في البيت، ابناؤه يمشون على سكك دقيقة، إذا انحرفوا جاءهم العقاب، لا يعرفون سوى الطاعة، خائفون من أي خطأ، تحولت لهم المدراس إلى سجون أخرى، وإذا حصلوا فرصة لقفز جدرانها قفزوا، لكنهم يقفزون جدران هذه السجون البيتية والفقهية الأبوية بقوة حين يتسنى لهم بعض الحرية، متوجهين لحرية فوضوية، تكسر كل ذلك الماضي العفن في رأيهم!
تصبح الحرية موسيقى زاعقة مصدعة محطمة للرؤوس والآذان، تغدو مخدرات، وجرائما، وسرقات من المالين العام والخاص.
تتحول الهيئات المختلفة إلى مؤسسات عقاب، تحمي هذه الخيرات المحبوسة عن الأغلبية، تتركز الأحكام على العقاب، ولا توجد قوانين للثواب، والحد من هيمنة بطش أبوي.
إن فقه الحرية يساعد على نمو الصوت المختلف في البيت، على تنامي الشخصية المسئولة، ليبرز الإنسان دواخله الحقيقية ، ليكشف باطنه المتواري، ولينفس عن غرائزه في ظل القانون، ولتتم مراقبة هذه الغرائز بدلاً من تنمو في الظلام وتتحول إلى كائنات خرافية مسيطرة.
يركز فقه العبودية على المحرمات، يكبت، يصادر، يقمع، كل شيء مشبوه، يحاول جعل الظاهر مستقيماً نظيفاً بالعصا والجدران، لكنه لا يقدر، الغرائز تتفجر، الشخصيات مثل قطرات المحيطات، تظهر ألوانها المختلفة، والقمع يفجرها، والعصا تنكسر، والقوى الباطنة التي نمت في الظلام تصير وحوشاً!
نرى كل الدول والأسر - الزنزانات تتصدع، وتخرج الوحوش في ساعة إنطفاء عام للكهرباء التنويرية، يتحول الأولاد إلى مشوهين ومجرمين، وقوى الحارات المعدمة تصير ناراً، وعصاباتٍ تسرقُ كلَ شيء متاح، وما بني في سنوات يزول في لحظات.
فقه الحرية على صعوبته ودقة مسئوليته لا بد أن يترابط مع مؤسسات القطاع العام، التي يجب أن تقدم الأجر الجيد للمواطنين ولمستقبلهم، ومع مؤسسات التعليم والثقافة، لكي لا تتحول المدارس إلى أدوات لإنتاج المعقدين والمرضى.
فقه العبودية سهل لا يحتاج سوى توزيع القيود والكلبشات على الأيدي والعقول والخيارات، وتوسيع أوامر المنع، والرجم، والحجر والحجز لتنمو الجراثيم في السر.
يقود القطاعُ العامُ الديمقراطي والملكية الخاصة المنتجة والثقافة الوطنية إلى إعادة الوحدة المفقودة للناس بعد قرون من النزاع، إلى بداية أن يمشي المجتمع على قدميه المعلقتين في فضائي الإحتجاز والإستغلال، وهي مسيرة طويلة لا تتحقق بسهولة، فوراءها وأمامها ميراث من القهر ومن النفسية الاجتماعية الهائلة المعقدة التي عاشت في تلك الكهوف وحين تخرج لبعض النور تضطرب، وتتطرف، وتقوي حجج أهل العصا، لكن هذه المسيرة ليس ثمة طريق آخر غيرها.
في السجون تتركز مسألة العقاب ويدمغ الإنسان بالأجرام ويظل مشبوهاً طوال عمره لينتج مجرمين آخرين، مثلما أن ينابيع الأجرام مفتوحة في أماكن أخرى.
يحتاج فقه الحرية إلى قرون ليصحح ما أفسده الزمن الطويل.
Published on June 03, 2019 12:39
•
Tags:
فقه-الحرية
May 29, 2019
عبـــــــدالله خلــــــــيفة: دوستويفسكي: الروايةُ والاضطهادُ
فيدور ميخايلوفيتش [image error] (1821-1881) من مشاهير الكتاب الروس العالميين، ابنُ فئةٍ متوسطة، تمكنَّ من التحصيل العلمي الجيد، (كانت المنطقة التي يعمل فيها والده الطبيب شديدة الفقر والتأثير على وعيه كصبي: كانت المستشفى مقامة في أحد أسوأ أحياء موسكو. حيث كان يحتوي هذا الحي على مقبرة للمجرمين، ومحمية للمجانين، ودار ايتام للأطفال المتخلى عنهم من قبل أهاليهم)، موسوعة ويكيبيديا.
كان ارتباطهُ بحركةٍ اشتراكية خيالية قفزةً كبيرة في حياته مثلّت أقصى اليسار الذي وصل إليه، وفي هذه الفترة كانت ثوراتُ العمال في أوروبا (1848)، فقامت الشرطةُ القيصرية بإلقاء القبض على المجموعة، وجاءت معاناةُ دوستويفسكي المريرة في السجن والتي تركت بصماتها الساحقة على رؤيته.
لقد تدلى حبلُ المشنقةِ حول رأسه وحُوصر في السجن ومنطقة سيبيريا، وسُمح له بعد سنوات بالاستقرار في المدن. هذه الحياةُ في الزنزانةُ تركت آثارَها العميقةَ على كتاباته وكوت روحَهُ بمطلب الحرية لشعبه.
في بداياتهِ التأليفية توجه إلى الأعمال التاريخية الكبيرة، مقتدياً بشكسبير وشيلر وفيكتور هوجو، واتخذت هذه الأعمالُ غيرُ المنشورةِ طابعاً رومانسياً، معبرةً عن توجهه نحو قضايا كبرى تعيشها شخصياتُ الملوك ورجالُ الدين وغيرهم، متحدثاً في رسائله لأخيه عن أعمال مليئة بالشخصيات العملاقة والتصادمات الكونية، لكن هذه الأعمال تناقضتْ ورؤيته المدفونة تحت اللا وعي، فتحدث عن أهميةِ قراءة الصحف ودورها في إشعال الكتابة، وأهمية التفاصيل والأحداث اليومية، ولهذا حين ظهرت روايةُ غوغول (المعطف) قال كلنا خرجنا من تحت معطف غوغول.
الاتجاه نحو الحياة الواقعية بحسب هذه الرؤية المتشكلة خلال سنوات التجريب التاريخي المسرحي ومعاناة السجن وذكريات الأسرة والحي والوعي الإيديولوجي توجهتْ به نحو كائناتٍ بشرية معينة، فمعطفُ غوغول يشيرُ إلى المسكين العاجز عن شراء المعطف وهو يتخيلُهُ حتى يتقصمه ويلبسه ويحلق به، إن المسكنةَ والفقر والانسحاق هي علاماتُ الشعب الروسي في الحكم القيصري القاسي، وهي المسيحيةُ التقليدية، وإذ يحاول دوستويفسكي الطيرانَ بالفكر الاشتراكي الخيالي ويتحطم تحت صخرة النظام في شتاءات سيبيريا وعزلتها وشظفها وحرمانها من الفرح، وينتزعُ فكرةَ الثورة من نفسه ويعيش ذل الفقراء ويتعمدُ روحياً بالمسيحية تتالى رواياتُهُ في كلِ حياته عن هذه الثيمة المريرة: ذكرياتٌ من بيت الموتى، ومذكراتٌ من أعماق الأرض (الإنسان الصرصار)، ومذلون مهانون، والزوج الأبدي الخ.
العلاقاتُ الرومانسية بينه وبين شكسبير وشيلر وفيكتور هوجو التي تحددُ أفقَهُ العامَ المثالي الواقعي، الجامع بين المحبة المسيحية والاشتراكية العاطفية، ستغدو منحى متوارياً يكشف صراعات عميقة روحية غير محلولة في عالم بلا صراع طبقي، لكن ما هي القسمات الفنية الفكرية الداخلية لعالمه؟
إن روسيا الإقطاعيةَ التي تجرجرُ علاقاتٍ عبوديةً ما تزالُ مثقلةً بالتخلف ولم تزلْ العلاقاتُ الرأسمالية المتغلغلةُ حديثاً لا تمثللا نقيضاً ذا أهمية.
في هذا المحتوى الاجتماعي التاريخي الأساسي حيث التخلف وشكل الانتاجِ الفظ الرثِ ليس ثمة قوة تغيير نضالية مؤثرة، وبين الاشتراكيةِ الخيالية والإرهاب الشعبي صلاتٌ خفية يربطها غيابُ طبقاتٍ مدنية مهمة مؤثرة، فتغدو الأحلامُ وأشكال الإرهاب الفردية أساس المعارضة.
هذا المحتوى الاجتماعي التاريخي تعكسه رواياتُ دوستويفسكي بشكل عام، ففي تحوله عن الجماعاتِ المعارضة العنفية تغدو الثورةُ وتحليلُ الصراع الطبقي فنياً مَنفيين من عالمه، ونقد وتعرية الرأسمالية غير ممكنين، وقد كان عالمه الفلاحي مغيّباً، فانقطع عن صراعاتِ البنية الاجتماعية الأساسية.
لكنه فنانٌ مهتم بنمو الرأسمالية بشكل خاص، فقد كانت علاقته ببلزاك ناقد الرأسمالية الأكبر بذلك المستوى التحليلي الجزئي، وطيدةً، فقد ترجم روايةً له، وغدت أعماله متأثرة بقوة ببلزاك حيث اقتبس العديد من الموتيفات الفنية منه.
(لقد تم أكثر من مرة، الكشف عن كل الأعمال الأدبية التي استطاع أن يأخذ منها دوستييفسكي خطة عمله. إن بإمكاننا أن نعثر في كتب لـ.كروسمان على تحليل مفصل لهذه المنابع. لقد اعتقد لـ. كروسمان إن رواية بلزاك تستطيع أن تشكل هذا النبع!)، نظرية الأدب، تأليف عدد من الباحثين السوفييت المختصين بنظرية الأدب والأدب العالمي، وزارة الثقافة العراقية، 1980، ص 360.
إن بلزاك المفعم بتحليلِ الرأسمالية لن يعطي دوستويفسكي هنا شيئاً، فالرأسماليةُ الروسيةُ ضئيلة، و الأشكالِ المالية الواسعة كافةُ في فرنسا ليست بذات الحضور في روسيا الإقطاعية- العبودية التي تتحرك حينئذ ببطء في الرأسمالية، ولهذا كانت استفادة دوستويفسكي من بلزاك استفادة اجتماعية شخوصية، ولكن الرأسمالية المبكرة هذه، الصقر الذي يحوم على جثة روسيا الإقطاعية، ستتجلى في أعماله كذلك بحجمها المقّزم، ولهذا سنجد العناوين ذات دلالة أولى: في رواية (الجريمة والعقاب): تدور الحبكةُ حول قتل مرابية، حيث يعني ذلك الاعتداء على رأس المال المُضمَّر، المهاجَّم، وحيث البطل يبحثُ عن رأس المال ليقوم بتغيير اجتماعي ضيق كما يدعي. وفي رواية (المراهق) يحلمُ البطلُ أن يكون روتشيلد المليونير، هذه هي (فكرته) المحورية كما يعيش ويفكر. وفي رواية (المقامر) يبحث البطل عن الثروة من خلال القمار. هذه روايات القمة حيث أخذت العلاقات المالية تلح بقوة على الوعي الفني للمؤلف.
لكن أغلبية الجمهور لا تعيش في علاقات رأسمالية، إنه جمهور ينهار في القمة الارستقراطية وسيكون حشدُ الشخصيات من هذا التحلل العلوي، فيما الطبقاتُ الشعبية تخرج من القنانة، ولم تعش بعد أعماق الرأسمالية، ويصطدم هذان المستويان بأشكال شتى.
ولغياب هذا الصراع الطبقي الحديث، فإن الصراعات تبرز في المستوى الاجتماعي، وخاصةً في بؤرته بؤرة العائلة.
في بؤرة العائلة تتكشف صراعاتُ المجتمع وتحلله، وعجزه عن التقدم المتطور، وهي صراعاتٌ تعبر عن رؤية المؤلف المنسحب من تحليل الطبقات وصراعها، حيث تغدو له هذه المواد العائلية المضطربة في أوار التحول الهائل لروسيا مادةً تحتية لأبنيةٍ فنيةٍ تحليلية روحية ونفسية وفكرية ذات ظلال متوارية بعيدة. ولهذا فإن هذه التحليلات تغدو معلقةً في فضاءٍ مجرد، لا تُرى في سيرورة النظام الإقطاعي المتحلل، ولا تتغلغلُ فيه لرؤية العلاقات الرأسمالية الجديدة النافية له، ولهذا فإن آراء الكاتب الإيديولوجية المضطربة لا تسيطر على التحليلات الاجتماعية الروحية، حيث يتم التغلغل في الشخوص والعلاقات والاضطرابات في مستواها الفردي الجماعي.
إن الماضي والمستقبل لا يظهران، والواقع لا سيرورة تاريخية له، وهناك التحليل المَوضعي للحدث، وللشخصية، والذي يقود إلى شبكةٍ واسعة من الأحداث والشخصيات، تبين ذلك التحلل الإقطاعي، في غياب الأفق المستقبلي، وفي غياب منظومة اجتماعية أخرى صاعدة.
يعيشُ دوستويفسكي في زنزانةٍ بعد أن سُجنَ وتنحى عن الوعي الاشتراكي. إن سردَهُ يتجنبُ التحليلَ الاجتماعي السياسي والتحليل التاريخي، فيغدو خالياً من الجذور الروائية لكنه عوّض عن قراءةِ الجذور الصراعية الطبقية والتاريخية التي تخرجُهُ من الزنزانة التي يعيشُ فيها، أو تدخلهُ إليها مرة أخرى، بأدواتٍ غيرِ مسبوقةٍ في العروض الروائية لأجلِ كشفِ السجن الروسي الكبير.
إن خلق الشخصيات الدرامية المتوترة النارية هي بدايةُ الشكل، وبأن تُوضع هذه الشخصيات في حبكةٍ اصطدامية واسعة، فتتتفجرُ الحواراتُ والشرارات منها، فتتعرى، وتفضحُ نفسَها وتفضحُ الشخصيات الأخرى، في مساراتِ عذابٍ مشتركة، لكي يتجلى ما هو إنساني فيها، في ظلِ أيديولوجيا مسيحية قومية روسية، غارفةٍ من كل ما في التراث الغربي المسيحي الإنساني عبر ومضاتٍ مشعة مسلطة على تلك الصراعات الراهنة.
إن صراعات الشخصيات تُوضعُ في مشهدياتٍ مكانية محددة لأجل تفجر تلك الومضات النفسية الفكرية، ولهذا فمشاهدُ الطرق العامةِ والساحاتِ مشاهدٌ تمهيدية موصلةٌ للداخل، حيث الغرف المنزلية والممرات وشقق الفنادق والصالات البيتية مواقع الصراعات تلك. إن تناقضَ الشخصياتِ الرئيسية التي تشكلُ محور الرواية تتجلى في دهاليز تلك الأمكنة، فهي تقربُها وجهاً لوجه وتتكشف تناقضاتها المشتركة، وتُحدثُ نتائجَ وموجات تأثير متعددة راهنة وتالية.
إن غيابَ الجذورِ الطبقية والتاريخية التحليلية التي يؤدي حضورها للتحليل المواجهِ للنظام القيصري، يُستعاضلا عنها بتلك الفنيةِ التي تكشفُ القشرةَ الشخوصية السائدة الأيديولوجية سواءً لزيفها أم لقصورها، بإعتبارها هي بؤرة التغيير المنتظر.
ولهذا فإن تلك القشرة الشخوصية تُؤخذ من الأنماطِ السائدة، وهي تلك الحاضرة بقوةٍ في الزمن الأيديولوجي الاجتماعي، عبر كشفِ تناقضاتها، وحيث يظهر الممكن النضالي المتراكم القادر على تجاوز البنية الاجتماعية السياسية القيصرية والبشرية السيئة عامة.
الشخصياتُ الأيديولوجية المركزيةُ هي أجنةُ ظرفها التاريخي، فهي عند لحظةٍ معينة من سيرورةِ روسيا والبشرية، تُؤخذ بشكلٍ تجريدي تاريخي عام، فالمؤلفُ يجردُ التاريخَ من تشكيلاته، ومن الصراعات الطبقية الموضوعية، ويجعلها في صراعٍ مجرد عام بين المستغلِّين والناس العاملين، ويُجري الصدامات بينها لكشف المحتوى الأيديولوجي السلبي السيء، المعرقل للتطور.
وهذا الكشف يجري في خطةٍ واسعة، مليئة بالتداخلات، والمفاجآت الميلودرامية والدرامية، وتُستخدم فيها أشكالُ الاعتراف والرسائل والمنولوجات والأحلام والحوارات المباشرة والخطب الدينية والفكرية.
إن دور الهيكل الحدثي الشخوصي هو عَصرُ ما في لحمِ وعظم هذه الشخصيات من مشاعر ووعي مباشر، وتقطيره عبر الفصول.
وهو هيكلٌ ليس مكثفاً مختزلاً إلا في الأعمال الأولى حيث الفكرة لم تتوسع وتتعمقْ بعد، بل هو هيكلٌ يحوطُهُ الكثير من القصص الجانبية وتخترقه مشهدياتٌ كثيرة عابرة.
إن «جرجرة» هذه الشخصيات لمعامل التحليل النفسية الفكرية، تجري داخل تلك الزنزانة الكبرى حيث يجري التعذيبُ العام المتعدد الأشكال والدرجات، من الإلقاءِ الطويل في الزنزانات الحقيقية كما في (ذكريات من بيت الموتى)، إلى المطاردة والتجسس وضرب الأطفال بقسوة وجرائم القتل المُعدّة بتخطيط ماهر في ظل كوابيس، والانتحارات الرهيبة التي تجري كفواصل بين مشاهد العذاب، إلى الاعترافات المذهلة المُعرِّية، التي تنقلُ الأحداثَ والشخصيات لمستوى جديد، إلى الحواراتِ العادية المبتذلة لبعض العامة المعبرة عن مستوى مضاد مستنقعي راكد للوعي أو رمزي، ويظهر ذلك في تضاد مع حرقةِ النخبة وصراعاتها المريرة، إلى انفجارات بعض الشخصيات العامية واحتراقها السريع، إلى هذيانات وأحلام المشوشين والسكارى والمومسات والمرضى الخ..
إن هذه وغيرها من الوسائل التعبيرية لا تُعوضُ عن التحليلات الفنية الطبقية والتاريخية العميقة التي تأتي لدى مؤلفين كبار آخرين مغنية للشخوص والمشاهد عبر تقارير مكثفة وافتتاحيات، لكن دوستويفسكي يعوضُ ذلك أيضاً بحواراتٍ مقتضبة في السياسة والأيديولوجيا تتخللُ تلك المشاهد وعروض الشخوص المسيطرة فيقومُ بربطٍ محدود وامض متروك للقارئ.
إن الشكل يترابط والمضمون، والبنيةُ التعبيريةُ تتطورُ مع الرؤية التي تتعمق لديه، ولهذا فإن حجمَ الروايات يتبدل من الحجم الصغير والمتوسط إلى الحجم الكبير، مثل الانتقال من حجم (الإنسان الصرصار) و(الزوج الأبدي) إلى (الجريمة والعقاب) و(الأخوة كرامازوف).
تطورُ الحجم يعبرُ عن توسع المشاهد وإغناء الشخصيات، ورؤية التعدد في الرؤى والاختلافات في تبصر الواقع والتاريخ.
إن الروايات القصيرة تنتقلُ من العروض الجانبية للواقع الأيديولوجي المركزي، إلى قلبِ هذا الواقع المتخيّل المؤدلج من قبل المؤلف.
إن حشودَ المشهديات والشخوص المتكاثرة تتم السيطرة عليها بتخطيطات مدهشة، تعبرُ عن رؤيةٍ قومية دينية تسامحية، عبر تصعيدِ نموذج البرجوازية الضبابي، الجامع بين رب العمل والكادح في أخوةٍ غير متبلورة في وعي المؤلف فكرياً، وسياسياً، وتتشكلُ من خلال روسنة المسيحية، وعدمِ تكرارِ علمنة الغرب في تلك اللحظة التاريخية من القرن التاسع عشر، عبر هذا الصليب الروائي الكبير الذي يصنعهُ دوستويفسكي. إن هذه الروايات عبارةٌ عن صُلبان إبداعيةٍ تطهيرية يَتملا فيها الجَلدُ والامتاع، الفهمُ والتعذيب، الحفرُ في الجلْدِ والسمو في الروح.
مع تغييبِ دوستويفسكي للصراع الطبقي كمحركٍ موضوعي للمجتمع ما هو البديل الذي يتشكل من خلال وعيه الإيديولوجي المثالي المسيحي؟
إن التماثلَ الجوهري بين أقانيم المسيحية؛ الأب والابن والروح القدس في السماء، يستحيلُ صراعاً بين قوى الحياة الجوهرية اللاتاريخية، وهي قوى العائلة على الأرض.
إن الإيمان بالأب، بالإله، هو شرطُ هذا الوجود من خلال عدسة دوستويفسكي، فبدونه تنفصم عراه، وتنهد أركانه.
إن هذا يتحول لديه إلى رؤية مثالية غيبية قومية، مؤسسِّةً للطبيعة ووجود الإنسان، وهذا الإسقاطُ غيرُ فلسفي سببي، ولهذا تنقطعُ العلاقاتُ بين الإله والطبيعة من خلال العلوم، وتنقطع حسب وعي دوستويفسكي العلاقةُ بين الطبيعة والمجتمع والإنسان حسب قوانين الصراع الطبقي، وسيطرح داخل هذه الرواية ضرورة الإيمان بالله بشكل فلسفي وهو أمرٌ متطور عن الرؤية التقليدية للدين غير أنه غير كاف، (المراهق الجزء الثاني، ص 349، طبعة دار رادوغا، موسكو).
سيرورةُ المجتمع الروسي منتفيةٌ، غيرُ مدروسةٍ وغيرُ معروضةٍ في سياقِ جذورِ الشخوص والبُنى الفنية، وتنحصر السيرورةُ في العائلة، حيث الأب من جهة، وكائناته المخلوقة منه من جهة أخرى.
إن العائلة بشكلها الأبوي السائد روسياً ترتكزُ إيديولوجياً على وعي ديني محافظ، وعلى مذهبية دينية متزمتة معبرة عن قسم من المسيحية لا يزالُ إقطاعياً، ولهذا تظهر السطوةُ بشكليها العلوي والأبوي الأرضي، وهذا الإيمان الذي يكرسُهُ المؤلفُ ينقدهُ ويحلله على مستوى الحياة الأرضية الواقعية عبر وعي تجريبي مثالي، ولا يكشف جذروه في الأرض.
إن سطوة الآباء تتجسد في الأبناء، وإن مسلسل التعذيب والاضطهاد الاجتماعي العام يتأسسُ في هذه العلاقة الأساسية، بخلاف المصدر العلوي حيث الحب، كما يُفهم ذلك بحسب هذا الوعي المثالي.
إن عالمَ الزنزانة هو عالمُ الاضطهاد والمضطَهدين، وهو عالم الشعب الروسي في الراهن الروائي، ولهذا فإن كل كائن محكوم منه بثنائية أن يُعذِّب أو يُعذَّب. إن أسواط العذاب تُسمعُ في كل مكان. وأساسُ تكونِها هو في العائلة.
في الروايات الأولى القصيرة والمتوسطة يظهر موتيف الأب والابن بسيطاً وربما لا يوجد وربما غير شامل ومهيمن كلياً، لكنه يتصاعد في الظهور والسيطرة على البنية الفنية الفكرية.
ففي رواية (الزوج الأبدي) يجيء البطل (فالتشانينوف) إلى مدينة بطرسبرج من أجل قضيةِ ورثٍ في المحكمة ويتعب في دهاليز المحاكم، ولكن فجأة تنمو أعراضُ مرض نفسي غريب به، بدأ بالارهاق والتعب ثم صار استعادة لذكريات مقبضةٍ مريرة في حياته حتى سيطرت عليه سوداوية حادة!
تنمو الحبكةُ وهو في هذا المزاج القاتم ثم تتكرسلا من وجود شخص ما يلاحقهُ ويلبس قبعةً سوداء دليل حزنه على ميتٍ ما. وهذا الشخص الذي يدور حوله يظهر بقوة ويقتحم حياته بفظاظة، ويسببلا له قلقا وعذاباً مضنياً، ثم يتسرب إلى منزله ثقيلاً متعباً، ويتعرف فيه على صديق قديم كان التقى معه في سنوات خلت.
إن تعذيبه الأولي لنفسه عبر الاسترجاع لأعماله السلبية لم يصل الى المحطة الرئيسية فيها حين كان يغوي الزوجات ويهدم البيوت! وهذا الشبح الذي يطاردُهُ ذو القبعة ذات الشريط الأسود هو رجلٌ ليس حزيناً على زوجته المتوفية قبل فترة قصيرة بل هو رجلٌ يريد استثمار هذه الوفاة من أحد عشاق زوجته المتوفاة! وخاصة أنه يحمل ثمرةً آدمية من جراء تلك العلاقة الآثمة!
إن (فالتشانينوف) لا يعرف ما جرى للزوجة بعد أن هجرها وخاصة ولادة الطفلة، وحين يقتحم الزوجُ الأبدي حياتَهُ لا يذكره بكل ذلك الماضي المشين لهما معاً، فهو يطمع في ابتزازه بدهاء!
إن هذا التعذيب المتبادل ليس شاملاً، عاصفاً، فأبوةُ (فالتشانينوف) لم تكن موجودة، فهي أبوةٌ مضمرة، والبطل رجل ذاتي أناني كرس نفسه للملذات، وإذا عاش لحظة سوداوية الآن لم تصل للكوابيس المروعة، إلا في جزء ضئيل حين قام الزوج الأبدي بتعذيب الطفلة ومحاولة استغلالها تجاه أبيها المفترض، لكن الأب لم يكن أباً، ولهذا فإن العلاقةَ بين الأب والابن لم تتشكل هنا بقوة وعمق.
تتبدى هذه السيرورةُ الروائيةُ على هيئةِ مفاجآت، وهي تتحول لرحلات عذاب متعددة، للزوج الأبدي المتذكر علاقته بزوجته الميتة، ورحلة عذاب للابنة الصغيرة المريضة المضطَهدة، وللسارد المركزي الذي يُطارد وتُقتحمُ حياته ويَكتشف ان له ابنة متأخراً لكنها تُعذب وتموت!
مجموعة من المفاجآت الميلودرامية تتغلغلُ في السرد تتبادل فيها الشخصيتان الذكوريتان استغلالَ النساء واضطهادهن، وتنهيان القصة عند نفس الموقعين البرجوازيين الصغيرين، أحدهما يبحثُ عن نساء ليكون زوجاً أبدياً لهن، والآخر يعيش حياته الخاصة المرفهة.
فبعد أن حصل البطلُ الساردُ على تركته التي كان قد جاء من أجلها في المدينة والتقى فيها ببافل الزوج الأبدي هدأت أعصابه واستقر: فيقول «لا مانع أن ينهار نظامهم الاجتماعي، ولا مانع أن ينفخوا في آذاننا مايشاءون» «أما أنا فسأظل واثقاً من هذا الطعام اللذيذ» ص 155، طبعة دار الهلال، مصر.
الشخصية الذليلة تقوم بإذلال غيرها، والعقد النفسية المتراكمة تتحول إلى اضطهاد آخرين ضعفاء، والشخصيات المأزومة تعجز عن تغيير الواقع، فتعيش في شبكة من العقد، أو تنسحب إلى قوقعتها المرفهة.
إضافة إلى محدودية رمزية الأب هنا فإن الابنةَ لا تقيمُ علاقةً عميقة معه، فهي لا تتطور نفسياً وروائياً، كما يظل الأب في عيش جسدي تلذذي محدود سطحي، ولا تؤدي به هذه الفاجعة المستجدة بموت الطفلة على هذا الشكل إلى أي انتفاضةٍ في نفسه، ولهذا تتجمدُ الروايةُ ولا تستطيع أن تتمدد في الروحية الأبوية والعلاقة الأرضية الصراعية العميقة.
حين يكونُ الأبُ موجوداً تتشكلُ علاقةٌ خيرة أو شريرة مع العائلة والواقع، فالأبُ انعكاسٌ للإلهِ على الأرض، وأولاده هم (الرعية)، وكثيراً ما يكون الراعي غائباً، والولد الحساس مُلقى في ميتم أو مشرد!
هذا هو حالُ الابنِ في رواية (المراهق)، فالأب الغني يمخر الريفَ الفقير ويقتطفُ امرأةَ فلاح جميلة، ويدخل عليها، ويحوزها دون الزوج الحقيقي، ويدفعُ له بدلاً مالياً، ولا يستطيع الفلاح الفقير الكهل أن يصمد للغني المتحكم، وهو رجلٌ عملي وجد أن الفتاة قبلت بالمالك فيتركها له، ويأخذُ تعويضاً يصمد به في الحياة ويقوي عائلته الباقية، وهو رجلٌ جواب آفاق يترحل ويكتسب خبرةً وثقافةً شعبيةً متنورة دينية مبهرة، كما سوف يظهرُ مرة أخرى في الجزء الثاني من الرواية، وهو في حالةِ مرض وشيخوخة ويستقبله نفسُ النبيل و(زوجته) السابقة، مع الأولاد الذين ظهروا من هذه العلاقة الزوجية غير الشرعية، لكنهم بعد المشكلات والأعاصير يقتربون من بعض، وحين يموت الفلاحُ تظهر إمكانية الزواج وانصهار العائلة.
ذلك الاضطهادُ المزدوج نتاجُ غيابِ الريف عن الإصلاح، وعن المجتمع ويغدو البطل (المراهق) الذي وُلد في هذه الفوضى، يسمعُ عن أبيه وأمه المسَافرين عبر الأخبار، وحين يبدأ البطل الشاب بروي قصته يبدأها بالتعريف بنفسه باعتباره (ابن زنا)! فهو مزودوجُ الوجود بين أب حقيقي ينكره، وأب زائف تخلى عنه لكنه يحملُ اسمَه، وبينما اسم الأب الحقيقي نبيل، اسم الآخر وضيع فلاح! ولهذا كان دائم التعريف بنفسه بهذا الشكل المخزي المضحك، طريقةً لنفسيةٍ عصبية مراهقة.
هذا التكوين المشكل من خلال رواية الابن العدو اللدود للأب يصورُ الأبَ شريراً، منتقلاً في أنحاء أوروبا متابعاً لملذاته، وإذا جاء إلى روسيا لم يسأل عنه وواصل غزواته الغرامية!
هذه الفوضى العائلية الاجتماعية حيث الابن منفي في الوجود والأب مشبع في غواياته ولهوه، تصورُ ما هو عام سلبي، حيث القوى العليا السياسية والاجتماعية لاهية والأبناءُ سوادُ الناس في ضنكٍ وعذاب.
لكن هذه الصورة العامة ليست صحيحةً تجاه هذه الحالة الخاصة، فالعائلة أجتمع شملها أخيراً وهي مفتتة، بعد أن كبر الابنُ وصار مراهقاً جاوز الثانوية، وامتلأ بنثار العلوم، فأصطخب، وهاجم الأب الشرير الأناني، الذي تركه في عهدة الغرباء، واستغل أمه وحولها لجارية تجري وراءه من بلد إلى آخر، وهذه الهجماتُ العاصفةُ التي يقوم بها الابنُ ضد أبيه، كثيرة تفصيلية مقامة على حجج قطعية لديه، لكن الأب يتكشف بشكل آخر مناقض تماماً!
تحوي ثيمةُ الأبِ هنا فكرةَ التنوير والتقدمية، فالرجل كان من دعاة التجديد، وإذ بدا من خلال خطاباتِ الابن ملعوناً، لكنه حين يتقدم للمسرح ويتكلم يظهر كشخص ذي عقلانيةٍ ودماثة ويقوم بتضحيات في حين تُصور هذه كمؤامراتٍ خسيسة من قبل الابن! لكنه لا يعني ذلك إنه اكتمل فهو يعجُ بالتناقضات لا يزال!
وحين يكتشف المراهق طبيعةَ أبيه، نقرأ فكرةً قومية روسية تحديثية فيه يحاول أن يزرعها حوله، ورؤية تجريدية لتقدم روسيا المنتظر، تعكسُ فهماً معيناً عند المؤلف لعمليات التحول التاريخية لروسيا.
إن الأب المتنور يصف نفسه بأنه جزء من ثلة صغيرة تقوم بقيادة روسيا روحياً، يقول في نهاية الجزء الثاني، بعد المعاناة والتجارب مقارناً بين مصير روسيا وأوروبا، حين تتقدم أوروبا الغربية على خريطة الصراع الطبقي الدامي، ويُحرق قصرٌ في باريس أبان كومونة باريس، فإن روسيا لها طريق آخر، طريق مسيحي خلاصي! يقول: (إن روسيا منذ قرابة قرن لا تحيا من أجل نفسها بل من أجل أوروبا فقط! أما هم، فقد قُدرت لهم آلام رهيبة قبل أن يصلوا إلى ملكوت الرب)، ج 2، ص 345 .
ورغم أن الأب يتصور أن الدين سوف يتغير وأن فكرة الإله القديمة سوف تزول فإنه يتنبأ بمستقبل رومانسي تجريدي: (سوف يستيقظون فيسارع بعضهم إلى بعض وسيُعطي كلٌ منهم كل شيء لكل الناس)، السابق، ص 348 .
إن تغلغل الرأسمالية في روسيا بهذا الشكل التجريدي الرومانسي يتضمن عدم حدوث الصراعات الطبقية الرهيبة، وإن المسيح سيظهر (إنني لم أستطع إلا أن أراه أخيراً بين البشر الذين أصبحوا يتامى، يجيء إليهم، ويمد ذراعيه ويقول (كيف نسيتموني؟)، ص 349 .
لعدم التغلغل التحليلي في ظاهرات الصراع الاجتماعي، وبروز ذلك عبر العائلة، فإن العائلةَ تأخذُ طابعاً رمزياً قومياً، فالعائلة التي عاشت متغربة مفككة، كالمجتمع، ونخرتها الأنانية والصراعات المادية الوضيعة، تعود للم الشمل، وهذه التجريدية تتيح للمؤلف أن يعطي التطور القومي طابع التآلف والوحدة رغم وجود الأشرار، فلعدم رؤيته للسكان كقوى اجتماعية طبقية متصارعة بحدة، وبدون إمكانية تلاق رومانسية، فإنه يُضفي عليها إمكانية القبول بالمشروع المسيحي الإنساني الذي سوف يتغلب على الصراع الاجتماعي (العابر).
هذا يؤدي فنياً إلى صراع الأخيار الطيبين المرضى المعقدين المتحولين للخير مع الأشرار المعبرين عن قوى الأرض الوضيعة عبرَ حملِ الصلبان، فيما التحالف بين الفلاح الشعبي المتنور والنبيل سينمو ويصل للذروة، كما جرى لشخصية الفلاح المتغرب المترحل، وزوجته، ومثلما جرى للنبيل الذي رأى مصيرَ أوروبا المخيف، وراح يتغير ويكشطُ الجوانبَ غير الإنسانية من شخصيته بالسكين، وهذه العلاقاتُ الإيديولوجية الفنية المترابطة والمتناقضة ستظل معبرة عن رؤية دوستويفسكي بظروفِ وعيه وشخصيته وحدود أسلوبه!
ثمة علاقاتٌ متداخلة خفية بين مستوى التطور الاجتماعي والرواية، تلعبُ فيها إيديولوجيةُ الكاتبِ دوراً محورياً، فهي الفكرةُ المعتنقة في عملية الانصهار الاجتماعي الشخصي في زمن التحول الموضوعي. إن دوستويفسكي في فقرات من رواياته يستشهد بشكسبير وغوته وشيلر وبوشكين حيث قارب هؤلاء المبدعون الواقع بأشكال عامة، فظهرتْ له قضايا الانسانية في تجريد تاريخي، له أسسٌ مشتركة، من المعاناة العائلية والعواطف البشرية (الخالدة) التي رصدها الكتاب السابقون.
روايته عامة، ورواية (المراهق) خاصة تعيش في زمنية بدء ظهور البرجوازية الصناعية وهيمنة النبلاء، والرواية تعطينا حيثيات ملموسة عن تلك البرجوازية، ومساحات كبيرة جداً عن النبلاء. عن بذخ هذه الطبقة الأخيرة والديون التي تتراكم على بعض أفرادها وكيف أن رأس المال الاجتماعي يضيع، فيما أن نموذج الرأسمالي الصناعي هو شخصٌ أبله إن لم يكن مجنوناً!
إن الأب الاسمي لبطل رواية (المراهق) ذلك الذي سلم زوجته للنبيل يظل محتفظاً بشهامة وثقافة بحث تجعل الراوي المراهق يستمع إليه ويسمع أحاديثه، فيروي بشكل شعبي عن تاجر تحول لصاحب مصنع ولكن كان سكيراً ذا تصرفات عدوانية وبخل شديد، أدت تصرفاته لموت صبي بريء ثم موت أبناء الأم الأربعة، فيتحول الصبي إلى ملاك ضائع في السماء لا يصل لسكينة، ويأتي للأم وللصناعي في أحلامهما، فيقوم الصناعي بأعمال عديدة من أجل أن تسكن هذه الروح! فيتغير ويقوم بأعمال طيبة مما يهدئ الملاك، ولكن الصناعي يعود لسكره وتبذيره وتضييعه للمال!
أمثولة الرأسمالي الفاشل مثل أمثولة الراوي المراهق الذي حدثنا في بدء الرواية عن فكرته بأن يصبح مثل روتشيلد، فيما ظل في الرواية في صدامات عصبية لا تتوقف، يحاول أن يغير النبلاء المتذبذبين بين البخل والإسراف، بين الصراعات الزوجية والعاطفية والبحث عن أفق أخلاقي، بين قضايا الفساد والجريمة وبين احترام القانون إلخ.
إن الطبقة الوسطى غير المتشكلة، المتناثرة في فئات مرتبطة بمستوى متخلف من تطور أسلوب الانتاج، ليس لديها مشروع فكري سياسي، وعلى مستوى الرواية هي تطرحُ حلمَ هذه الفئات الوسطى في تكوين مجتمع الحداثة الديمقراطي غير الموجود.
على مستوى تشكيل رأس المال تبدو في الرواية صور البرجوازية كفتاتٍ ضائع، وليس ثمة بالتالي حتى فئات وسطى قوية صاعدة. ولهذا على مستوى الرواية لن نقرأ (الرواية كملحمةٍ برجوازية). بل كحرقة شخصية معذبة متناثرة بين الإقطاعيين الديني والسياسي، وفيما يتوارى الإقطاع السياسي غير المُحلل، يتعالى الإقطاع الديني بصفة إنسانية مجردة مثالية.
لهذا فإن رواية دوستويفسكي هنا في (المراهق) تظلُ على مستوى الأحداث الشخصية الصراعية المتوترة عبر الحيل الفنية: ابنٌ يبحثُ عن أبيه كارهاً إياه وهو يعبدُهُ، ومجموعةٌ من الشخصيات النبيلة المتصارعة على الثروة وتلجأ لأساليب شريرة، مثلما تفعل (كاترينا نيقولايفنا) تجاه أبيها المبذر فتكتبُ رسالةً تدعو أحداً من أقربائها إلى الحجر على أبيها ووضعه في مستشفى المجانين، وتقع هذه الرسالة العجيبة المتنقلة أخيراً في يد الراوي المراهق، الذي يخيطها في جيبه، وتلعب (الرسالة) دوراً فنياً إشكالياً مليودرامياً في تنامي الصراعات وتحولها لمغامرات تنتهي بضرب وإطلاق نار!
الصداماتُ وتحولاتُ الأبوة والأبناء، واصطدام السادة والبرجوازيين الصغار بالحثالة الصاعدة بقوة بسبب هذا التفسخ الاجتماعي من خلال شروخ الصراع بين النبلاء والفئات الصغيرة تلك، تعبرُ عن مجتمع إقطاعي في حالةِ انهيار ولم يظهر جنينُهُ البرجوازي البديل بعد.
إن هذا كله يجعلُ الصراعَ الاجتماعي في مستوى التجريد، وتغيبُ عنه الارتباطاتُ والوشائج بصراعات القوى الحقيقية على الأرض، نظراً لأن الصراع بين النبلاء والبرجوازية كان خافتاً مضمراً، مع رفض المؤلف للاستعانة بالمستوى العالمي الذي وصل إليه هذا الصراع في الغرب بل هو يرفضه، ولهذا فإن المؤلف في زمنية عصره يدعو إلى العمل الصبور الشاق لأنه أفضل (إن التعطش إلى «المأثرة السريع ) والمعادي للكد الطويل من أجل الاستعداد لهو محفوف بالمخاطر.. بل بمخاطر ارتكاب الجرائم)، فقرةٌ منقولةٌ من المراهق، ص .513 وعلى المستوى الفكري الأخلاقي يدعو للمسيحية والتسامح.
إن الراوي في (المراهق) لم يُوضع في تجربة المعمل والانتاج والسوق، هنا كنا سنعرفُ بعضَ آفاق التطور الاجتماعي، لكن طريقة المؤلف تضعُ الشخصيةَ في الصراعات المنزلية، وهذه تؤدي لأساليب معينة لا تغوص في صراع الطبقات. وهكذا فحين يظهر جوركي تكون هذه القضية قد وُضعت في عوالمها الاجتماعية التاريخية لكن دون خصب دوستويفسكي النفسي الفني، وقد بلغت روسيا حينئذٍ مرحلة مهمة من تطور الصراع بين النبالة والبرجوازية، كما أن سياقات الإيديولوجيات غدت مختلفة. إنه زمنُ الخروج من الزنزانةِ وتحول الرحالة الشعبي الأمي الاسطوري إلى مثقف إجتماعي، وتبدل ثقافة العذاب والصليب إلى ثقافة النقد الاجتماعي السياسي.
يغدو الأسلوب الروائي الفني لمرحلة (المراهق) عبر شخصية مؤلف ذي حساسية خاصة مثرياً لأدوات الحفر النفسي الداخلي، ولخلق التناقضات الشخصية الفكرية والاصطدامات الروحية في عالم المُثُل والتاريخ المجرد، متحسِّساً الآفاق البعيدة مُطلقاً شعارات عامة عن البناء الروحي الأخلاقي الداخلي الرصين، وتمجيد العمل الخلاق.
على المستويين الروائي والفكري تتداخل بنيةُ الرواية التجريدية الأخلاقية لدى دوستويفسكي بهيمنةِ الخطاب الديني بغياب البرجوازية الحديثة في روسيا وقتذاك.
حين يقتل راسكولينكوف المرابيةَ العجوز في الجريمة والعقاب، لا يأتي ذلك لغياب الأب، لغياب السلطة الأخلاقية الروحية فقط، بل لغيابِ الطبقة الوسطى القائدة للتحول الحديث، فيدهسُ البطلُ العجوزَ مثلما يدهسُ قملةً، مؤكداً علوّ إرادته الفردية المطلقة، خارج الدين الإنساني الذي هو المسيحية هنا، فتعيدُهُ الأحداثُ الروائية والانقلابات الروحيةُ إلى الكنيسة، إلى الأب الروحي الشخصي المفقود هنا، والذي يتجسدُ بالانجيل.
هكذا تغدو البرجوازيةُ والقوى الشعبية كائناتٍ هامشيةً، أو طفيلية، وخارج التاريخ الروائي، وهي كائناتُ المجتمع الضروري الحتمي الموضوعي. وخارج هذا المسار يغدو العالمُ الروائي أيديولوجياً وفضفاضاً متجهاً للتضخم الذاتي.
الإرادة الفردية في تشكلها الإجرامي تغدو غير منتجة، ولكونها إرادة مسيحية فإن ضميرَها ينمو روائياً، وهي عمليةٌ متعددة كثيرة لدى المؤلف، لنتذكر بشكل هنا مدونة التسامح الكبيرة عند الأب زوسيما في رواية (الأخوة كرامازوف)، وهي الرافعة الأساسية لديه للتجديد الروحي الاجتماعي، وهي في المطلق مهمةٌ لكن في التاريخ النسبي غير متحققة والعكس هو الذي يجري، لكن العكس غير المرصود فنياً، فالكراهيةُ بين الطبقات هي التي تسود.
إن التراكم المالي التحولي غير مرئي وغير معروض، فيصور المؤلفُ حدث القتل بلا سببيات مرتبطة بالصراع الاجتماعي، وفيما بعد سيطبقُ ستالين هذا التراكمَ المالي الرأسمالي الحكومي الموسّع، عبر الدهس لـ (القمل الريفي).
يعرض دوستويفسكي النماذج المتوازية، فالسكير (مارميلادوف) يقوم بسرقة خزانةَ سيدةٍ لكي يواصل سكره وعربدته، فيما عائلته تشقى، وتقوم ابنته (سونيا) ببيع نفسها لكي تُطعم الصغار.
هذه سونيا الساقطة تمثل الانبعاث الروحي، وهي تقيمُ علاقةً مع البطل راسكولنيكوف، وتجذبه للاعتراف بجريمته في قتل المرابية العجوز وبالتالي في تطهره.
مثلما تقوم أخت راسكولنيكوف بالقبول بالزواج من شخصية رديئة من أجل أن تُنقذ العائلة.
وقد استقطبت الروايةُ أبحاثاً واهتمامات بشرية كبيرة، وخاصة لهذا البطل القاتل الإشكالي.
لقد كتبَ دوستويفسكي نفسه عن البطل قائلاً:
(إن القاتل يجد نفسه أمام مسائل لا يمكن حلها، وأن أحاسيس ومشاعر مفاجئة لا يمكن الشك بوجودها تعذب قلبه. إن الإحساس بالانفتاح على البشرية أو الانفصال عنها، هذا الاحساس الذي شعر به في الحال بمجرد اقتراف الجريمة، كان يعذبه)، نظرية الأدب تأليف عددٌ من الباحثين السوفييت، مرجع سابق، ص 332 .
إن المسائل التي لا يمكن حلها هي مسائل التطور الاجتماعي السياسي لروسيا، وإن هذه الجريمة الفردية لا علاقة لها مباشرة بهذه التحولات، فالطالبُ الفقير والمرابيةُ على السواء لم يرمزا لقوة اجتماعية ما، والطالب فرضية فكرية يشكلها المؤلفُ للابتعاد عن طريق العنف، وعن الأنانية وبضرورة سلوك سبيل التضحية، ولا تدعو الأفكار الحديثة المجلوبة من الغرب لهذا الطريق، خاصة النزعة العدمية المنتشرة حينذاك، التي تطرحُ نماذجَ الأبطال المفارقين والذين يدوسون عقائدَ الشعوب،
وبهذا فإن فرضيةَ المؤلف لمواجهة العنف واعتماد المسيحية والتسامح تعبيرٌ عن نزعةٍ برجوازية دينية متداخلة، في هذا الزمن الذي تتحول فيه روسيا من الإقطاع للرأسمالية، فالبطلُ حين يضع قدميه في العدمية وسحق الآخرِ يعبرُ عن نزعةٍ فردية متطرفة لم تتشكل في مجتمع طبقة وسطى حضارية، ولم تقم علاقة ديمقراطية مع العاملين، ويتملا طرحُ مشروعاتِ التحول بالخيال الحاد والمغامرة، ولكن المؤلف من جهةٍ أخرى لا يقوم بالتحليل للعلاقات الطبقية الصراعية واكتشاف مساراتها من خلال الواقع، بل يعبرُ عن تجريديها وعموميتها وضبابيتها من خلال النماذج المفعمة بالحدة والتطرف: سكيرٌ ضد زوجة مجنونة، طالبٌ مثقف قاتل ضد مومس طيبة، ابنة مضحية ضد خطيب سافل، فهذه النماذج تقع على ضفاف الواقع، بين البياض الشديد والعتمة الحادة، وفي حالات تعذيب الذات والآخر، وانقلاب هذه الحالات النفسية المروعة، بين أساليب واقعية وميلودرامية فاقعة، بين شاعرية تحليلية عميقة وبين تجريد عام.
المسار الروسي والأيديولوجية الفنية لدستويفسكي يحددان هذه النماذج، والمسار نجده موجوداً كذلك لدى تولستوي فهو تعبيرٌ عن فئة، ولكن من خلال رؤية فنية مختلفة، فالفئاتُ المثقفةُ الإنسانية في ذلك الزمن الموضوعي حيث بعد لم تنتشر وتتعمق العلاقات الرأسمالية لم تجد حلولاً لأفق التطور التاريخي سوى بالابتعاد عن النموذج الغربي الرأسمالي الديمقراطي، عبر الروح القومية المتقوقعة في نفسها وتاريخها، والتي تريدُ تقديمَ الأصيل المختلف، وتجدُهُ عبر الدين، وهذا هو مسار العديد من الأمم الشرقية الأخرى التالية، ولهذا بدلاً من قراءة الواقع تأتي النماذج المستوحاة من التضادات المطلقة التي تتيح للوعي المثالي الديني أن يسرب أخلاقيته المبدئية عبر تناقضات من الواقع الحقيقي، وتبقى هذه النماذج رمزية قومية دينية لوعي أمة لم تتبلور في الصراع الاجتماعي.
المسيحيةُ حسب وعي دوستويفسكي هي الأبوة، أبوةُ الإلهِ الحاني للعالم، لكن الأبوةَ الأرضية الحسية الأنانية هي شكلٌ مضاد.
وليس في رواية أخرى كما في رواية (الأخوة كرامازوف) يتفجر التضاد بين هذين النمطين من الأبوة، إن أب أسرة كرامازوف (فيدور فيدروفتش) هو النقيض للأب الراهب زوسيما. ومن هذين الخطين تنبعُ التضاداتُ الشخصية الروحية في مجمل الرواية.
إن الأب فيدور فيدروفتش، رجلٌ فقدَ كل معاني الأبوة الإنسانية، فهو شبق وأناني وبخيل وثرثار ومهرج. كونَّ عائلته بخداعِ امرأتين سرق ثروتيهما، وأعتصرهما عصراً، حتى انهارت الزوجتان، ورحلتا واحدةً بعد الأخرى. وتشكل من هاتين الزوجتين أولادٌ نبتوا هنا وهناك بالصدفة والفوضى، في المرافق الدنيا الحقيرة للمنزل، وتربوا في حضانات مختلفة، أنقذتهم بمعجزة.
وفي غمرة تتويج حالاته الزوجية الحيوانية، فإنه يغتصب امرأةً معتوهةً، بسبب رهان مجنون جنسي بشع لاغتصاب تلك المرأة، وينتجُ منها الخاتمة النهائية لأبوته الشريرة (سمردياكوف)، (وإيحاءات الكلمة بالروسية تعني النتن، النتانة! مثلما تعني الفقرة الأولى من اسم العائلة كراما (مازوف): الأسود!).
إن حالاته الشبقية والتهريجية السابقة تقودُ إلى ذروة أعماله وهي عشق المرأة الجميلة (جروشنكا) والتي هو مستعدٌ لإعطائها كلَ ثروته، حسب ما زعم أبطالٌ آخرون، في نظير أن تقبل بالزواج منه، وهو العجوز الدميم الآن، وهي قمةُ الفتنة في المدينة.
إن الأب هو المحور، هو المرتكز الأساسي للحدث وللعائلة ولتكوين هذا العالم الاجتماعي المريض. حيث الأب هنا، خلافاً لفكرة العالم الأبوي المسيحي المثالي، هو أساسُ الخراب والعذاب في العائلة، أي في المجتمع، لا مؤسس الحب والعدل فيه.
ويعطي دوستويفسكي تمثلات تجسدية حادة، ملموسة، مطلقة، للأب الأرضي الدنس، فهو كريه في شكله، في وجهه الشهواني العنيف، وبغيض في لغته التهريجية التي يتصنعُ فيها ويغدو مهرجاً يحتقر ذاته، ويسخر من مشاعره وأفكاره، لينقلب إلى ساخر من الآخرين، كاره لهم، عدواني. ولا يكاد أن يوجد جانبٌ جميلٌ في هذا الإنسان.
فهو من الجهة الحسية-الجسدية-العاطفية، حيوانٌ كامل. إنه يجسدُ كل نظام الملكية الخاصة ؟ الإنانية، وذروته المعاصرة، ورمز السلطة الأبوية الاستغلالية: والصاعد بالتجارة عبر الربا والاحتيال، فهو ليس إلا الحيوان القديم، الشرس، الأناني، الذي يلبس لباساً حديثاً، وهو قد فصل حيوانيته هذه ببدلةٍ فكرية أيضاً، هي الأفكار الغربية العصرية (حينذاك) مثل إنكار الإله والخلود. فإلحادُ الأب هو الإيمان الكامل بعالم الغابة، حيث الذات هي الوحيدةُ في الكون، ولا يوجد أمامها سوى اللذة والمنفعة.
إن الإيمان بالإله والخلود حسب دوستويفسكي يعني عبر ثيمات الرواية – الرؤية، أن يتأنسن الحيوان في الأب، أن يتراجع عن إباحيته ولا أخلاقيته، أن يخاف من عقاب الإله، وأن يحب الناس.
إن الإيمان في اللغة الدوستويفسكية هو معادلٌ للأخلاقية، وللتضحية، وللنقاء. أما الفكر العدمي فهو على الضد، استباحة كل شيء، وعدم الخوف من الآخرة، وبالتالي إعطاء (الحيوان) فرصةَ البروز الكامل والمطلق. فالخيرُ قادم من المطلق الديني وليس متشكلاً حسب صراع القوى الاجتماعية.
إن الإله هو الذي يحملُ الأنسنةَ للإنسان، والنبل، والطهر، ولكنه حملها مرةً واحدة، وضحى بذاته، حسب الرؤية المسيحية الأرذوكسية، فإذن مطلوب من الإنسان، هنا الصعود نحو الإله والتماثل به، وصناعة هذه التضحية، وهذا الكف للحيوان الشرس الكامل.
لكن الأب فيدور فيدروفتش هو الممثل الكامل، الحي، البسيط، المتجوهر فردانياً، لإنكار الإلوهية، للعدمية الروحية، للإلحاد على الطريقة المشكلة دستوويفسكياً، أي لإطلاق الحيوان البهيمي الذي يبيح كلَ شيء لنفسه.
يُقال أن دوستويفسكي من الرجعيين المتزمتين استناداً إلى مشاعره لقتل أبيه. يقول فرويد:
(وإن هذه المشاعر قد قامت أيضاً بتحديد اتجاهه في مجالين آخرين كانت فيهما العلاقة بالوالد واضحة، هي سلطة الدولة وأيضاً اتجاهه نحو الاعتقاد في الله. وبالنسبة للاتجاه الأول فقد انتهى به الأمرُ إلى الخضوع التام لأبيه الصغير: القيصر..)، راجع مجلة (إبداع)، دستويفسكي وجريمة قتل الأب، سيجموند فرويد، ص 31 . 46.
لكن دوستويفسكي ليس خاضعاً لسلطة الدولة الرجعية بل هو يخاف التعبير عن نقده بعد سنوات السجن والنفي المريعة لمجردِ دعوته لبعض الأفكار النضالية، ولهذا تغدو المسيحية هي فكرته التي يشكل عبرها نقده، فيجسد قوى الأب الأرضي الشرير والأب السماوي الخير، فيدور فيدروتش من جهة والراهب زوسيما من جهة أخرى. الرواية تغدو ذروة أعماله حيث وصل الصراع بين الأب الفاسد والخلاق، المسيح والعدمي، أمثولةً لكل الحياة، وهذا ما يجعل قراءته الدينية تجريدية لم تتغلغل في الصراع الاجتماعي واحتمالاته.
لم يقم دوستويفسكي بربط اجتماعي ترميزي بين الأب الشهواني الأناني والنظام الاجتماعي، فالأب هنا لا يمثل القيصر، مثلما أن الأب زويما ليس هو المسيح، بل مؤمن به وتلميذه المخلص.
إن الأب الدكتاتور الشهواني المهمل فيدور، والذي بعثر أولاده وشتتهم، والذي هو في قرارة نفسه (ملحد)، أي أنه ألغى اليوم الآخر حيث الحساب. إن هذا الدكتاتور الشهواني الأناني، ألغى البشر: أولاده، وألغى حساب الله حسب رؤية المؤلف.
وهذا الحساب هو السلطة الأخيرة العادلة عند المؤمنين، حيث السلطات الدنيوية غير حاسمة في تحديد الثواب والعقاب.
وفي مقابل هذا الأب الشرير، يشكلُ دوستويفسكي، أباً آخر، هو زوسيما الراهب. حيث تقود زوسيما المعاناةُ إلى أن يكون معلماً مضحياً للبشر، إن كونه عسكرياً اعتاد على العنف يصطدم بحادثة تغير مجرى حياته، حيث ضرب بقسوة مرافقه العسكري فاشتعلت الحادثة في نفسه وقادته إلى أن يرفض المبارزة مع خصم له، تاركاً الخصم يطلقُ عليه النار وهو يتوقف عن إطلاق النار ملقياً المسدس على الأرض.
إن زوسيما إنسان بلا معجزات، سوى أعماله الإنسانية التي تحرك مشاعر الخير في قاصديه. إنه يشكل أبوته بالامتداد الروحي في ألكسي كرامازوف، أصغر الأبناء، والذي تقمص هذه الأبوة حناناً وحباً ومساعدةً للغير.
ولكن هذه الأبوة لا تخلو من المشكلات، فهي تعيشُ في عزلة عن الناس، فلا تقود عملياتهم الروحية والتغييرية. لهذا فإن زوسيما يدعو ألكسي للابتعاد عن الرهبنة والانطلاق نحو المجتمع والمشاركة في تغييره الأخلاقي. إن جثته تتعفن في الساعات الأولى من موته، وهو أمر معاكس لما كان ينتظره الناس من معجزات من وفاته! لكن أعمال زوسيما هي أعمال واقعية وحدس ذكي بالبشر وتوجيه لأعمال الخير، ورغم ضخامة الخلفية الغيبية التي يرتكز عليها فإنها تنقطع مع ملامستها الواقع.
إن ألكسي كرامازوف نبت هكذا فجأة في عالم أخلاقي باهر، رغم بيئته المضادة، وإحاطته بالشر من كل جانب، وهي عملية بدت ميتافزيقية، فيغدو هو الخيط الممتد من زوسيما إلى المجتمع، هي رسالةُ المؤلف المسيحية التي تنزل من الأب إلى الابن إلى البشر. هي قراءةٌ وتجسيد للروح القدس.
إن الأبوة الرهبانية تعطي مساحة كبيرة في الرواية حيث قصة حياة زوسيا وخطاباته تشكل تتويجاً مجسداً لرؤية المؤلف في تضاد المسيحية مع الشر وكونها البديل عن الآراء العصرية العنيفة، حيث يطرح التسامح كشكلٍ أخلاقي واسع لإنهاء تناقضات المجتمع.
ويحمل ألكسي مشعل هذه المحبة ويغمر الشخصيات الأخرى بها، فتتكشف جوانبُهم الخيرة. ويحس حتى الشرير كالأب فيدور بنسمة رقيقة تمر عليه.
وسنجد هذه الأبوة الإنسانية تتشكلُ في محورٍ آخر من محاور الرواية، هو قصة (النقيب سينجريف) وابنه الصغير. فقد جرّ ديمتري كرامازوف، أخو ألكسي هذا النقيبَ من لحيتهِ وأهانه في الخمارة، فما كان من ابنه الصغير سوى أن اندفع نحو ديمتري يرجوه أن (لا يهين أباه).
إن قصة هذا الصغير هي المعادل للقصة المحورية، قصة قتل الأب. إنها قصة التضحية بالنفس في سبيل الأب. فهذا الصغير يعضلا يدَ ألكسي أخي ديمتري ويدافع عن أبيه بالحصى والضرب إلى أن يمرض ويموت ويشكلُ له الصغارُ جنازةً هي من المراثي المؤلمة جداً في الرواية، ورغم المأساة تتحرك علاقاتٌ وعلامات روحية طيبة في هؤلاء الأولاد.
إنه معمارٌ كبيرٌ وخاص لمسألة الأب، يُــدمج فيها بين الفلسفي الديني، والسياسي والشخصي، وتتشكلُ ثنائياتٌ متضادةٌ، منسقة، تخلق أبنيتها التعبيرية الأخاذة.
التناقض الأبرز كما هو في رواية (الجريمة والعقاب)، هو التناقض بين المسيحي المضحي والمثقف العدمي، الذي يرتكز على مصلحته ويعتبر كل شيء مباحاً ما دام فيها منفعته بما في ذلك القتل.
هذا التناقض يعبر عن مُثُل العصور الوسطى الدينية كما تتجلى في المسيحية الخيرة، والعدمية التي هي بداية الأفكار الحديثة التي جاءت من الغرب لروسيا.
يخلق دوستويفسكي تناقضاً مطلقاً مجرداً بين الاتجاهين باعتباره يمثل وضع روسيا الثقافي ومستقبلها، فيما أن الاتجاهات التحديثية الغربية أعمق وأوسع من ذلك. لكن هذا التكوين للتناقض المطلق هو بسبب غياب مشرط التحليل الاجتماعي الفكري للصراع الطبقي لديه.
ولهذا فإن رمزَ العدمية في الرواية وهو إيفان ابن فيدور يحرضُ على قتل أبيه مع الخادم سفردياكوف. وهو لم يدعُ مباشرة للقتل، لكنه لمحّ لذلك عبر أفكاره الفلسفية، ومن هنا نجد تداخل شخصيته مع شخصية الشيطان الرمزية، الذي يزوره ويعيش داخله بشكل كابوسي.
وهو بأحاديثه مع سفردياكوف الأخ والخادم المُلقى في العدم الاجتماعي، والذي وصل للعدمية بتلك الحوارات، يرفضُ جريمةَ قتل الأب ويعتبر نفسه غير محرض عليها. إن العامةَ بتقلبهم الأفكار العدمية العُنفية من قبل المثقفين الأنانيين يغدون أكبر خطراً منهم! وفيما يقبع المثقفون في مصالحهم وقواقعهم يدفع العامةُ ثمناً فادحاً لهذا التأثير.
يلاحظُ هنا إرهاف دوستويفسكي التاريخي لمسألة العنف وتسويقه من قبل الإيديولوجيات الشمولية، معتبراً إياه الخطر الأكبر على مستقبل روسيا، ولم يكن مخطئاً في هذا. ولكن لم يكن بإمكانه حسب وعيه الديني المثالي وزمنيته أن يقرأ العنف كظاهرات متبادلة بين الطبقات في عالم مصالح ضيقة عنيفة.
http://www.ahewar.org/debat/show.art.
كان ارتباطهُ بحركةٍ اشتراكية خيالية قفزةً كبيرة في حياته مثلّت أقصى اليسار الذي وصل إليه، وفي هذه الفترة كانت ثوراتُ العمال في أوروبا (1848)، فقامت الشرطةُ القيصرية بإلقاء القبض على المجموعة، وجاءت معاناةُ دوستويفسكي المريرة في السجن والتي تركت بصماتها الساحقة على رؤيته.
لقد تدلى حبلُ المشنقةِ حول رأسه وحُوصر في السجن ومنطقة سيبيريا، وسُمح له بعد سنوات بالاستقرار في المدن. هذه الحياةُ في الزنزانةُ تركت آثارَها العميقةَ على كتاباته وكوت روحَهُ بمطلب الحرية لشعبه.
في بداياتهِ التأليفية توجه إلى الأعمال التاريخية الكبيرة، مقتدياً بشكسبير وشيلر وفيكتور هوجو، واتخذت هذه الأعمالُ غيرُ المنشورةِ طابعاً رومانسياً، معبرةً عن توجهه نحو قضايا كبرى تعيشها شخصياتُ الملوك ورجالُ الدين وغيرهم، متحدثاً في رسائله لأخيه عن أعمال مليئة بالشخصيات العملاقة والتصادمات الكونية، لكن هذه الأعمال تناقضتْ ورؤيته المدفونة تحت اللا وعي، فتحدث عن أهميةِ قراءة الصحف ودورها في إشعال الكتابة، وأهمية التفاصيل والأحداث اليومية، ولهذا حين ظهرت روايةُ غوغول (المعطف) قال كلنا خرجنا من تحت معطف غوغول.
الاتجاه نحو الحياة الواقعية بحسب هذه الرؤية المتشكلة خلال سنوات التجريب التاريخي المسرحي ومعاناة السجن وذكريات الأسرة والحي والوعي الإيديولوجي توجهتْ به نحو كائناتٍ بشرية معينة، فمعطفُ غوغول يشيرُ إلى المسكين العاجز عن شراء المعطف وهو يتخيلُهُ حتى يتقصمه ويلبسه ويحلق به، إن المسكنةَ والفقر والانسحاق هي علاماتُ الشعب الروسي في الحكم القيصري القاسي، وهي المسيحيةُ التقليدية، وإذ يحاول دوستويفسكي الطيرانَ بالفكر الاشتراكي الخيالي ويتحطم تحت صخرة النظام في شتاءات سيبيريا وعزلتها وشظفها وحرمانها من الفرح، وينتزعُ فكرةَ الثورة من نفسه ويعيش ذل الفقراء ويتعمدُ روحياً بالمسيحية تتالى رواياتُهُ في كلِ حياته عن هذه الثيمة المريرة: ذكرياتٌ من بيت الموتى، ومذكراتٌ من أعماق الأرض (الإنسان الصرصار)، ومذلون مهانون، والزوج الأبدي الخ.
العلاقاتُ الرومانسية بينه وبين شكسبير وشيلر وفيكتور هوجو التي تحددُ أفقَهُ العامَ المثالي الواقعي، الجامع بين المحبة المسيحية والاشتراكية العاطفية، ستغدو منحى متوارياً يكشف صراعات عميقة روحية غير محلولة في عالم بلا صراع طبقي، لكن ما هي القسمات الفنية الفكرية الداخلية لعالمه؟
إن روسيا الإقطاعيةَ التي تجرجرُ علاقاتٍ عبوديةً ما تزالُ مثقلةً بالتخلف ولم تزلْ العلاقاتُ الرأسمالية المتغلغلةُ حديثاً لا تمثللا نقيضاً ذا أهمية.
في هذا المحتوى الاجتماعي التاريخي الأساسي حيث التخلف وشكل الانتاجِ الفظ الرثِ ليس ثمة قوة تغيير نضالية مؤثرة، وبين الاشتراكيةِ الخيالية والإرهاب الشعبي صلاتٌ خفية يربطها غيابُ طبقاتٍ مدنية مهمة مؤثرة، فتغدو الأحلامُ وأشكال الإرهاب الفردية أساس المعارضة.
هذا المحتوى الاجتماعي التاريخي تعكسه رواياتُ دوستويفسكي بشكل عام، ففي تحوله عن الجماعاتِ المعارضة العنفية تغدو الثورةُ وتحليلُ الصراع الطبقي فنياً مَنفيين من عالمه، ونقد وتعرية الرأسمالية غير ممكنين، وقد كان عالمه الفلاحي مغيّباً، فانقطع عن صراعاتِ البنية الاجتماعية الأساسية.
لكنه فنانٌ مهتم بنمو الرأسمالية بشكل خاص، فقد كانت علاقته ببلزاك ناقد الرأسمالية الأكبر بذلك المستوى التحليلي الجزئي، وطيدةً، فقد ترجم روايةً له، وغدت أعماله متأثرة بقوة ببلزاك حيث اقتبس العديد من الموتيفات الفنية منه.
(لقد تم أكثر من مرة، الكشف عن كل الأعمال الأدبية التي استطاع أن يأخذ منها دوستييفسكي خطة عمله. إن بإمكاننا أن نعثر في كتب لـ.كروسمان على تحليل مفصل لهذه المنابع. لقد اعتقد لـ. كروسمان إن رواية بلزاك تستطيع أن تشكل هذا النبع!)، نظرية الأدب، تأليف عدد من الباحثين السوفييت المختصين بنظرية الأدب والأدب العالمي، وزارة الثقافة العراقية، 1980، ص 360.
إن بلزاك المفعم بتحليلِ الرأسمالية لن يعطي دوستويفسكي هنا شيئاً، فالرأسماليةُ الروسيةُ ضئيلة، و الأشكالِ المالية الواسعة كافةُ في فرنسا ليست بذات الحضور في روسيا الإقطاعية- العبودية التي تتحرك حينئذ ببطء في الرأسمالية، ولهذا كانت استفادة دوستويفسكي من بلزاك استفادة اجتماعية شخوصية، ولكن الرأسمالية المبكرة هذه، الصقر الذي يحوم على جثة روسيا الإقطاعية، ستتجلى في أعماله كذلك بحجمها المقّزم، ولهذا سنجد العناوين ذات دلالة أولى: في رواية (الجريمة والعقاب): تدور الحبكةُ حول قتل مرابية، حيث يعني ذلك الاعتداء على رأس المال المُضمَّر، المهاجَّم، وحيث البطل يبحثُ عن رأس المال ليقوم بتغيير اجتماعي ضيق كما يدعي. وفي رواية (المراهق) يحلمُ البطلُ أن يكون روتشيلد المليونير، هذه هي (فكرته) المحورية كما يعيش ويفكر. وفي رواية (المقامر) يبحث البطل عن الثروة من خلال القمار. هذه روايات القمة حيث أخذت العلاقات المالية تلح بقوة على الوعي الفني للمؤلف.
لكن أغلبية الجمهور لا تعيش في علاقات رأسمالية، إنه جمهور ينهار في القمة الارستقراطية وسيكون حشدُ الشخصيات من هذا التحلل العلوي، فيما الطبقاتُ الشعبية تخرج من القنانة، ولم تعش بعد أعماق الرأسمالية، ويصطدم هذان المستويان بأشكال شتى.
ولغياب هذا الصراع الطبقي الحديث، فإن الصراعات تبرز في المستوى الاجتماعي، وخاصةً في بؤرته بؤرة العائلة.
في بؤرة العائلة تتكشف صراعاتُ المجتمع وتحلله، وعجزه عن التقدم المتطور، وهي صراعاتٌ تعبر عن رؤية المؤلف المنسحب من تحليل الطبقات وصراعها، حيث تغدو له هذه المواد العائلية المضطربة في أوار التحول الهائل لروسيا مادةً تحتية لأبنيةٍ فنيةٍ تحليلية روحية ونفسية وفكرية ذات ظلال متوارية بعيدة. ولهذا فإن هذه التحليلات تغدو معلقةً في فضاءٍ مجرد، لا تُرى في سيرورة النظام الإقطاعي المتحلل، ولا تتغلغلُ فيه لرؤية العلاقات الرأسمالية الجديدة النافية له، ولهذا فإن آراء الكاتب الإيديولوجية المضطربة لا تسيطر على التحليلات الاجتماعية الروحية، حيث يتم التغلغل في الشخوص والعلاقات والاضطرابات في مستواها الفردي الجماعي.
إن الماضي والمستقبل لا يظهران، والواقع لا سيرورة تاريخية له، وهناك التحليل المَوضعي للحدث، وللشخصية، والذي يقود إلى شبكةٍ واسعة من الأحداث والشخصيات، تبين ذلك التحلل الإقطاعي، في غياب الأفق المستقبلي، وفي غياب منظومة اجتماعية أخرى صاعدة.
يعيشُ دوستويفسكي في زنزانةٍ بعد أن سُجنَ وتنحى عن الوعي الاشتراكي. إن سردَهُ يتجنبُ التحليلَ الاجتماعي السياسي والتحليل التاريخي، فيغدو خالياً من الجذور الروائية لكنه عوّض عن قراءةِ الجذور الصراعية الطبقية والتاريخية التي تخرجُهُ من الزنزانة التي يعيشُ فيها، أو تدخلهُ إليها مرة أخرى، بأدواتٍ غيرِ مسبوقةٍ في العروض الروائية لأجلِ كشفِ السجن الروسي الكبير.
إن خلق الشخصيات الدرامية المتوترة النارية هي بدايةُ الشكل، وبأن تُوضع هذه الشخصيات في حبكةٍ اصطدامية واسعة، فتتتفجرُ الحواراتُ والشرارات منها، فتتعرى، وتفضحُ نفسَها وتفضحُ الشخصيات الأخرى، في مساراتِ عذابٍ مشتركة، لكي يتجلى ما هو إنساني فيها، في ظلِ أيديولوجيا مسيحية قومية روسية، غارفةٍ من كل ما في التراث الغربي المسيحي الإنساني عبر ومضاتٍ مشعة مسلطة على تلك الصراعات الراهنة.
إن صراعات الشخصيات تُوضعُ في مشهدياتٍ مكانية محددة لأجل تفجر تلك الومضات النفسية الفكرية، ولهذا فمشاهدُ الطرق العامةِ والساحاتِ مشاهدٌ تمهيدية موصلةٌ للداخل، حيث الغرف المنزلية والممرات وشقق الفنادق والصالات البيتية مواقع الصراعات تلك. إن تناقضَ الشخصياتِ الرئيسية التي تشكلُ محور الرواية تتجلى في دهاليز تلك الأمكنة، فهي تقربُها وجهاً لوجه وتتكشف تناقضاتها المشتركة، وتُحدثُ نتائجَ وموجات تأثير متعددة راهنة وتالية.
إن غيابَ الجذورِ الطبقية والتاريخية التحليلية التي يؤدي حضورها للتحليل المواجهِ للنظام القيصري، يُستعاضلا عنها بتلك الفنيةِ التي تكشفُ القشرةَ الشخوصية السائدة الأيديولوجية سواءً لزيفها أم لقصورها، بإعتبارها هي بؤرة التغيير المنتظر.
ولهذا فإن تلك القشرة الشخوصية تُؤخذ من الأنماطِ السائدة، وهي تلك الحاضرة بقوةٍ في الزمن الأيديولوجي الاجتماعي، عبر كشفِ تناقضاتها، وحيث يظهر الممكن النضالي المتراكم القادر على تجاوز البنية الاجتماعية السياسية القيصرية والبشرية السيئة عامة.
الشخصياتُ الأيديولوجية المركزيةُ هي أجنةُ ظرفها التاريخي، فهي عند لحظةٍ معينة من سيرورةِ روسيا والبشرية، تُؤخذ بشكلٍ تجريدي تاريخي عام، فالمؤلفُ يجردُ التاريخَ من تشكيلاته، ومن الصراعات الطبقية الموضوعية، ويجعلها في صراعٍ مجرد عام بين المستغلِّين والناس العاملين، ويُجري الصدامات بينها لكشف المحتوى الأيديولوجي السلبي السيء، المعرقل للتطور.
وهذا الكشف يجري في خطةٍ واسعة، مليئة بالتداخلات، والمفاجآت الميلودرامية والدرامية، وتُستخدم فيها أشكالُ الاعتراف والرسائل والمنولوجات والأحلام والحوارات المباشرة والخطب الدينية والفكرية.
إن دور الهيكل الحدثي الشخوصي هو عَصرُ ما في لحمِ وعظم هذه الشخصيات من مشاعر ووعي مباشر، وتقطيره عبر الفصول.
وهو هيكلٌ ليس مكثفاً مختزلاً إلا في الأعمال الأولى حيث الفكرة لم تتوسع وتتعمقْ بعد، بل هو هيكلٌ يحوطُهُ الكثير من القصص الجانبية وتخترقه مشهدياتٌ كثيرة عابرة.
إن «جرجرة» هذه الشخصيات لمعامل التحليل النفسية الفكرية، تجري داخل تلك الزنزانة الكبرى حيث يجري التعذيبُ العام المتعدد الأشكال والدرجات، من الإلقاءِ الطويل في الزنزانات الحقيقية كما في (ذكريات من بيت الموتى)، إلى المطاردة والتجسس وضرب الأطفال بقسوة وجرائم القتل المُعدّة بتخطيط ماهر في ظل كوابيس، والانتحارات الرهيبة التي تجري كفواصل بين مشاهد العذاب، إلى الاعترافات المذهلة المُعرِّية، التي تنقلُ الأحداثَ والشخصيات لمستوى جديد، إلى الحواراتِ العادية المبتذلة لبعض العامة المعبرة عن مستوى مضاد مستنقعي راكد للوعي أو رمزي، ويظهر ذلك في تضاد مع حرقةِ النخبة وصراعاتها المريرة، إلى انفجارات بعض الشخصيات العامية واحتراقها السريع، إلى هذيانات وأحلام المشوشين والسكارى والمومسات والمرضى الخ..
إن هذه وغيرها من الوسائل التعبيرية لا تُعوضُ عن التحليلات الفنية الطبقية والتاريخية العميقة التي تأتي لدى مؤلفين كبار آخرين مغنية للشخوص والمشاهد عبر تقارير مكثفة وافتتاحيات، لكن دوستويفسكي يعوضُ ذلك أيضاً بحواراتٍ مقتضبة في السياسة والأيديولوجيا تتخللُ تلك المشاهد وعروض الشخوص المسيطرة فيقومُ بربطٍ محدود وامض متروك للقارئ.
إن الشكل يترابط والمضمون، والبنيةُ التعبيريةُ تتطورُ مع الرؤية التي تتعمق لديه، ولهذا فإن حجمَ الروايات يتبدل من الحجم الصغير والمتوسط إلى الحجم الكبير، مثل الانتقال من حجم (الإنسان الصرصار) و(الزوج الأبدي) إلى (الجريمة والعقاب) و(الأخوة كرامازوف).
تطورُ الحجم يعبرُ عن توسع المشاهد وإغناء الشخصيات، ورؤية التعدد في الرؤى والاختلافات في تبصر الواقع والتاريخ.
إن الروايات القصيرة تنتقلُ من العروض الجانبية للواقع الأيديولوجي المركزي، إلى قلبِ هذا الواقع المتخيّل المؤدلج من قبل المؤلف.
إن حشودَ المشهديات والشخوص المتكاثرة تتم السيطرة عليها بتخطيطات مدهشة، تعبرُ عن رؤيةٍ قومية دينية تسامحية، عبر تصعيدِ نموذج البرجوازية الضبابي، الجامع بين رب العمل والكادح في أخوةٍ غير متبلورة في وعي المؤلف فكرياً، وسياسياً، وتتشكلُ من خلال روسنة المسيحية، وعدمِ تكرارِ علمنة الغرب في تلك اللحظة التاريخية من القرن التاسع عشر، عبر هذا الصليب الروائي الكبير الذي يصنعهُ دوستويفسكي. إن هذه الروايات عبارةٌ عن صُلبان إبداعيةٍ تطهيرية يَتملا فيها الجَلدُ والامتاع، الفهمُ والتعذيب، الحفرُ في الجلْدِ والسمو في الروح.
مع تغييبِ دوستويفسكي للصراع الطبقي كمحركٍ موضوعي للمجتمع ما هو البديل الذي يتشكل من خلال وعيه الإيديولوجي المثالي المسيحي؟
إن التماثلَ الجوهري بين أقانيم المسيحية؛ الأب والابن والروح القدس في السماء، يستحيلُ صراعاً بين قوى الحياة الجوهرية اللاتاريخية، وهي قوى العائلة على الأرض.
إن الإيمان بالأب، بالإله، هو شرطُ هذا الوجود من خلال عدسة دوستويفسكي، فبدونه تنفصم عراه، وتنهد أركانه.
إن هذا يتحول لديه إلى رؤية مثالية غيبية قومية، مؤسسِّةً للطبيعة ووجود الإنسان، وهذا الإسقاطُ غيرُ فلسفي سببي، ولهذا تنقطعُ العلاقاتُ بين الإله والطبيعة من خلال العلوم، وتنقطع حسب وعي دوستويفسكي العلاقةُ بين الطبيعة والمجتمع والإنسان حسب قوانين الصراع الطبقي، وسيطرح داخل هذه الرواية ضرورة الإيمان بالله بشكل فلسفي وهو أمرٌ متطور عن الرؤية التقليدية للدين غير أنه غير كاف، (المراهق الجزء الثاني، ص 349، طبعة دار رادوغا، موسكو).
سيرورةُ المجتمع الروسي منتفيةٌ، غيرُ مدروسةٍ وغيرُ معروضةٍ في سياقِ جذورِ الشخوص والبُنى الفنية، وتنحصر السيرورةُ في العائلة، حيث الأب من جهة، وكائناته المخلوقة منه من جهة أخرى.
إن العائلة بشكلها الأبوي السائد روسياً ترتكزُ إيديولوجياً على وعي ديني محافظ، وعلى مذهبية دينية متزمتة معبرة عن قسم من المسيحية لا يزالُ إقطاعياً، ولهذا تظهر السطوةُ بشكليها العلوي والأبوي الأرضي، وهذا الإيمان الذي يكرسُهُ المؤلفُ ينقدهُ ويحلله على مستوى الحياة الأرضية الواقعية عبر وعي تجريبي مثالي، ولا يكشف جذروه في الأرض.
إن سطوة الآباء تتجسد في الأبناء، وإن مسلسل التعذيب والاضطهاد الاجتماعي العام يتأسسُ في هذه العلاقة الأساسية، بخلاف المصدر العلوي حيث الحب، كما يُفهم ذلك بحسب هذا الوعي المثالي.
إن عالمَ الزنزانة هو عالمُ الاضطهاد والمضطَهدين، وهو عالم الشعب الروسي في الراهن الروائي، ولهذا فإن كل كائن محكوم منه بثنائية أن يُعذِّب أو يُعذَّب. إن أسواط العذاب تُسمعُ في كل مكان. وأساسُ تكونِها هو في العائلة.
في الروايات الأولى القصيرة والمتوسطة يظهر موتيف الأب والابن بسيطاً وربما لا يوجد وربما غير شامل ومهيمن كلياً، لكنه يتصاعد في الظهور والسيطرة على البنية الفنية الفكرية.
ففي رواية (الزوج الأبدي) يجيء البطل (فالتشانينوف) إلى مدينة بطرسبرج من أجل قضيةِ ورثٍ في المحكمة ويتعب في دهاليز المحاكم، ولكن فجأة تنمو أعراضُ مرض نفسي غريب به، بدأ بالارهاق والتعب ثم صار استعادة لذكريات مقبضةٍ مريرة في حياته حتى سيطرت عليه سوداوية حادة!
تنمو الحبكةُ وهو في هذا المزاج القاتم ثم تتكرسلا من وجود شخص ما يلاحقهُ ويلبس قبعةً سوداء دليل حزنه على ميتٍ ما. وهذا الشخص الذي يدور حوله يظهر بقوة ويقتحم حياته بفظاظة، ويسببلا له قلقا وعذاباً مضنياً، ثم يتسرب إلى منزله ثقيلاً متعباً، ويتعرف فيه على صديق قديم كان التقى معه في سنوات خلت.
إن تعذيبه الأولي لنفسه عبر الاسترجاع لأعماله السلبية لم يصل الى المحطة الرئيسية فيها حين كان يغوي الزوجات ويهدم البيوت! وهذا الشبح الذي يطاردُهُ ذو القبعة ذات الشريط الأسود هو رجلٌ ليس حزيناً على زوجته المتوفية قبل فترة قصيرة بل هو رجلٌ يريد استثمار هذه الوفاة من أحد عشاق زوجته المتوفاة! وخاصة أنه يحمل ثمرةً آدمية من جراء تلك العلاقة الآثمة!
إن (فالتشانينوف) لا يعرف ما جرى للزوجة بعد أن هجرها وخاصة ولادة الطفلة، وحين يقتحم الزوجُ الأبدي حياتَهُ لا يذكره بكل ذلك الماضي المشين لهما معاً، فهو يطمع في ابتزازه بدهاء!
إن هذا التعذيب المتبادل ليس شاملاً، عاصفاً، فأبوةُ (فالتشانينوف) لم تكن موجودة، فهي أبوةٌ مضمرة، والبطل رجل ذاتي أناني كرس نفسه للملذات، وإذا عاش لحظة سوداوية الآن لم تصل للكوابيس المروعة، إلا في جزء ضئيل حين قام الزوج الأبدي بتعذيب الطفلة ومحاولة استغلالها تجاه أبيها المفترض، لكن الأب لم يكن أباً، ولهذا فإن العلاقةَ بين الأب والابن لم تتشكل هنا بقوة وعمق.
تتبدى هذه السيرورةُ الروائيةُ على هيئةِ مفاجآت، وهي تتحول لرحلات عذاب متعددة، للزوج الأبدي المتذكر علاقته بزوجته الميتة، ورحلة عذاب للابنة الصغيرة المريضة المضطَهدة، وللسارد المركزي الذي يُطارد وتُقتحمُ حياته ويَكتشف ان له ابنة متأخراً لكنها تُعذب وتموت!
مجموعة من المفاجآت الميلودرامية تتغلغلُ في السرد تتبادل فيها الشخصيتان الذكوريتان استغلالَ النساء واضطهادهن، وتنهيان القصة عند نفس الموقعين البرجوازيين الصغيرين، أحدهما يبحثُ عن نساء ليكون زوجاً أبدياً لهن، والآخر يعيش حياته الخاصة المرفهة.
فبعد أن حصل البطلُ الساردُ على تركته التي كان قد جاء من أجلها في المدينة والتقى فيها ببافل الزوج الأبدي هدأت أعصابه واستقر: فيقول «لا مانع أن ينهار نظامهم الاجتماعي، ولا مانع أن ينفخوا في آذاننا مايشاءون» «أما أنا فسأظل واثقاً من هذا الطعام اللذيذ» ص 155، طبعة دار الهلال، مصر.
الشخصية الذليلة تقوم بإذلال غيرها، والعقد النفسية المتراكمة تتحول إلى اضطهاد آخرين ضعفاء، والشخصيات المأزومة تعجز عن تغيير الواقع، فتعيش في شبكة من العقد، أو تنسحب إلى قوقعتها المرفهة.
إضافة إلى محدودية رمزية الأب هنا فإن الابنةَ لا تقيمُ علاقةً عميقة معه، فهي لا تتطور نفسياً وروائياً، كما يظل الأب في عيش جسدي تلذذي محدود سطحي، ولا تؤدي به هذه الفاجعة المستجدة بموت الطفلة على هذا الشكل إلى أي انتفاضةٍ في نفسه، ولهذا تتجمدُ الروايةُ ولا تستطيع أن تتمدد في الروحية الأبوية والعلاقة الأرضية الصراعية العميقة.
حين يكونُ الأبُ موجوداً تتشكلُ علاقةٌ خيرة أو شريرة مع العائلة والواقع، فالأبُ انعكاسٌ للإلهِ على الأرض، وأولاده هم (الرعية)، وكثيراً ما يكون الراعي غائباً، والولد الحساس مُلقى في ميتم أو مشرد!
هذا هو حالُ الابنِ في رواية (المراهق)، فالأب الغني يمخر الريفَ الفقير ويقتطفُ امرأةَ فلاح جميلة، ويدخل عليها، ويحوزها دون الزوج الحقيقي، ويدفعُ له بدلاً مالياً، ولا يستطيع الفلاح الفقير الكهل أن يصمد للغني المتحكم، وهو رجلٌ عملي وجد أن الفتاة قبلت بالمالك فيتركها له، ويأخذُ تعويضاً يصمد به في الحياة ويقوي عائلته الباقية، وهو رجلٌ جواب آفاق يترحل ويكتسب خبرةً وثقافةً شعبيةً متنورة دينية مبهرة، كما سوف يظهرُ مرة أخرى في الجزء الثاني من الرواية، وهو في حالةِ مرض وشيخوخة ويستقبله نفسُ النبيل و(زوجته) السابقة، مع الأولاد الذين ظهروا من هذه العلاقة الزوجية غير الشرعية، لكنهم بعد المشكلات والأعاصير يقتربون من بعض، وحين يموت الفلاحُ تظهر إمكانية الزواج وانصهار العائلة.
ذلك الاضطهادُ المزدوج نتاجُ غيابِ الريف عن الإصلاح، وعن المجتمع ويغدو البطل (المراهق) الذي وُلد في هذه الفوضى، يسمعُ عن أبيه وأمه المسَافرين عبر الأخبار، وحين يبدأ البطل الشاب بروي قصته يبدأها بالتعريف بنفسه باعتباره (ابن زنا)! فهو مزودوجُ الوجود بين أب حقيقي ينكره، وأب زائف تخلى عنه لكنه يحملُ اسمَه، وبينما اسم الأب الحقيقي نبيل، اسم الآخر وضيع فلاح! ولهذا كان دائم التعريف بنفسه بهذا الشكل المخزي المضحك، طريقةً لنفسيةٍ عصبية مراهقة.
هذا التكوين المشكل من خلال رواية الابن العدو اللدود للأب يصورُ الأبَ شريراً، منتقلاً في أنحاء أوروبا متابعاً لملذاته، وإذا جاء إلى روسيا لم يسأل عنه وواصل غزواته الغرامية!
هذه الفوضى العائلية الاجتماعية حيث الابن منفي في الوجود والأب مشبع في غواياته ولهوه، تصورُ ما هو عام سلبي، حيث القوى العليا السياسية والاجتماعية لاهية والأبناءُ سوادُ الناس في ضنكٍ وعذاب.
لكن هذه الصورة العامة ليست صحيحةً تجاه هذه الحالة الخاصة، فالعائلة أجتمع شملها أخيراً وهي مفتتة، بعد أن كبر الابنُ وصار مراهقاً جاوز الثانوية، وامتلأ بنثار العلوم، فأصطخب، وهاجم الأب الشرير الأناني، الذي تركه في عهدة الغرباء، واستغل أمه وحولها لجارية تجري وراءه من بلد إلى آخر، وهذه الهجماتُ العاصفةُ التي يقوم بها الابنُ ضد أبيه، كثيرة تفصيلية مقامة على حجج قطعية لديه، لكن الأب يتكشف بشكل آخر مناقض تماماً!
تحوي ثيمةُ الأبِ هنا فكرةَ التنوير والتقدمية، فالرجل كان من دعاة التجديد، وإذ بدا من خلال خطاباتِ الابن ملعوناً، لكنه حين يتقدم للمسرح ويتكلم يظهر كشخص ذي عقلانيةٍ ودماثة ويقوم بتضحيات في حين تُصور هذه كمؤامراتٍ خسيسة من قبل الابن! لكنه لا يعني ذلك إنه اكتمل فهو يعجُ بالتناقضات لا يزال!
وحين يكتشف المراهق طبيعةَ أبيه، نقرأ فكرةً قومية روسية تحديثية فيه يحاول أن يزرعها حوله، ورؤية تجريدية لتقدم روسيا المنتظر، تعكسُ فهماً معيناً عند المؤلف لعمليات التحول التاريخية لروسيا.
إن الأب المتنور يصف نفسه بأنه جزء من ثلة صغيرة تقوم بقيادة روسيا روحياً، يقول في نهاية الجزء الثاني، بعد المعاناة والتجارب مقارناً بين مصير روسيا وأوروبا، حين تتقدم أوروبا الغربية على خريطة الصراع الطبقي الدامي، ويُحرق قصرٌ في باريس أبان كومونة باريس، فإن روسيا لها طريق آخر، طريق مسيحي خلاصي! يقول: (إن روسيا منذ قرابة قرن لا تحيا من أجل نفسها بل من أجل أوروبا فقط! أما هم، فقد قُدرت لهم آلام رهيبة قبل أن يصلوا إلى ملكوت الرب)، ج 2، ص 345 .
ورغم أن الأب يتصور أن الدين سوف يتغير وأن فكرة الإله القديمة سوف تزول فإنه يتنبأ بمستقبل رومانسي تجريدي: (سوف يستيقظون فيسارع بعضهم إلى بعض وسيُعطي كلٌ منهم كل شيء لكل الناس)، السابق، ص 348 .
إن تغلغل الرأسمالية في روسيا بهذا الشكل التجريدي الرومانسي يتضمن عدم حدوث الصراعات الطبقية الرهيبة، وإن المسيح سيظهر (إنني لم أستطع إلا أن أراه أخيراً بين البشر الذين أصبحوا يتامى، يجيء إليهم، ويمد ذراعيه ويقول (كيف نسيتموني؟)، ص 349 .
لعدم التغلغل التحليلي في ظاهرات الصراع الاجتماعي، وبروز ذلك عبر العائلة، فإن العائلةَ تأخذُ طابعاً رمزياً قومياً، فالعائلة التي عاشت متغربة مفككة، كالمجتمع، ونخرتها الأنانية والصراعات المادية الوضيعة، تعود للم الشمل، وهذه التجريدية تتيح للمؤلف أن يعطي التطور القومي طابع التآلف والوحدة رغم وجود الأشرار، فلعدم رؤيته للسكان كقوى اجتماعية طبقية متصارعة بحدة، وبدون إمكانية تلاق رومانسية، فإنه يُضفي عليها إمكانية القبول بالمشروع المسيحي الإنساني الذي سوف يتغلب على الصراع الاجتماعي (العابر).
هذا يؤدي فنياً إلى صراع الأخيار الطيبين المرضى المعقدين المتحولين للخير مع الأشرار المعبرين عن قوى الأرض الوضيعة عبرَ حملِ الصلبان، فيما التحالف بين الفلاح الشعبي المتنور والنبيل سينمو ويصل للذروة، كما جرى لشخصية الفلاح المتغرب المترحل، وزوجته، ومثلما جرى للنبيل الذي رأى مصيرَ أوروبا المخيف، وراح يتغير ويكشطُ الجوانبَ غير الإنسانية من شخصيته بالسكين، وهذه العلاقاتُ الإيديولوجية الفنية المترابطة والمتناقضة ستظل معبرة عن رؤية دوستويفسكي بظروفِ وعيه وشخصيته وحدود أسلوبه!
ثمة علاقاتٌ متداخلة خفية بين مستوى التطور الاجتماعي والرواية، تلعبُ فيها إيديولوجيةُ الكاتبِ دوراً محورياً، فهي الفكرةُ المعتنقة في عملية الانصهار الاجتماعي الشخصي في زمن التحول الموضوعي. إن دوستويفسكي في فقرات من رواياته يستشهد بشكسبير وغوته وشيلر وبوشكين حيث قارب هؤلاء المبدعون الواقع بأشكال عامة، فظهرتْ له قضايا الانسانية في تجريد تاريخي، له أسسٌ مشتركة، من المعاناة العائلية والعواطف البشرية (الخالدة) التي رصدها الكتاب السابقون.
روايته عامة، ورواية (المراهق) خاصة تعيش في زمنية بدء ظهور البرجوازية الصناعية وهيمنة النبلاء، والرواية تعطينا حيثيات ملموسة عن تلك البرجوازية، ومساحات كبيرة جداً عن النبلاء. عن بذخ هذه الطبقة الأخيرة والديون التي تتراكم على بعض أفرادها وكيف أن رأس المال الاجتماعي يضيع، فيما أن نموذج الرأسمالي الصناعي هو شخصٌ أبله إن لم يكن مجنوناً!
إن الأب الاسمي لبطل رواية (المراهق) ذلك الذي سلم زوجته للنبيل يظل محتفظاً بشهامة وثقافة بحث تجعل الراوي المراهق يستمع إليه ويسمع أحاديثه، فيروي بشكل شعبي عن تاجر تحول لصاحب مصنع ولكن كان سكيراً ذا تصرفات عدوانية وبخل شديد، أدت تصرفاته لموت صبي بريء ثم موت أبناء الأم الأربعة، فيتحول الصبي إلى ملاك ضائع في السماء لا يصل لسكينة، ويأتي للأم وللصناعي في أحلامهما، فيقوم الصناعي بأعمال عديدة من أجل أن تسكن هذه الروح! فيتغير ويقوم بأعمال طيبة مما يهدئ الملاك، ولكن الصناعي يعود لسكره وتبذيره وتضييعه للمال!
أمثولة الرأسمالي الفاشل مثل أمثولة الراوي المراهق الذي حدثنا في بدء الرواية عن فكرته بأن يصبح مثل روتشيلد، فيما ظل في الرواية في صدامات عصبية لا تتوقف، يحاول أن يغير النبلاء المتذبذبين بين البخل والإسراف، بين الصراعات الزوجية والعاطفية والبحث عن أفق أخلاقي، بين قضايا الفساد والجريمة وبين احترام القانون إلخ.
إن الطبقة الوسطى غير المتشكلة، المتناثرة في فئات مرتبطة بمستوى متخلف من تطور أسلوب الانتاج، ليس لديها مشروع فكري سياسي، وعلى مستوى الرواية هي تطرحُ حلمَ هذه الفئات الوسطى في تكوين مجتمع الحداثة الديمقراطي غير الموجود.
على مستوى تشكيل رأس المال تبدو في الرواية صور البرجوازية كفتاتٍ ضائع، وليس ثمة بالتالي حتى فئات وسطى قوية صاعدة. ولهذا على مستوى الرواية لن نقرأ (الرواية كملحمةٍ برجوازية). بل كحرقة شخصية معذبة متناثرة بين الإقطاعيين الديني والسياسي، وفيما يتوارى الإقطاع السياسي غير المُحلل، يتعالى الإقطاع الديني بصفة إنسانية مجردة مثالية.
لهذا فإن رواية دوستويفسكي هنا في (المراهق) تظلُ على مستوى الأحداث الشخصية الصراعية المتوترة عبر الحيل الفنية: ابنٌ يبحثُ عن أبيه كارهاً إياه وهو يعبدُهُ، ومجموعةٌ من الشخصيات النبيلة المتصارعة على الثروة وتلجأ لأساليب شريرة، مثلما تفعل (كاترينا نيقولايفنا) تجاه أبيها المبذر فتكتبُ رسالةً تدعو أحداً من أقربائها إلى الحجر على أبيها ووضعه في مستشفى المجانين، وتقع هذه الرسالة العجيبة المتنقلة أخيراً في يد الراوي المراهق، الذي يخيطها في جيبه، وتلعب (الرسالة) دوراً فنياً إشكالياً مليودرامياً في تنامي الصراعات وتحولها لمغامرات تنتهي بضرب وإطلاق نار!
الصداماتُ وتحولاتُ الأبوة والأبناء، واصطدام السادة والبرجوازيين الصغار بالحثالة الصاعدة بقوة بسبب هذا التفسخ الاجتماعي من خلال شروخ الصراع بين النبلاء والفئات الصغيرة تلك، تعبرُ عن مجتمع إقطاعي في حالةِ انهيار ولم يظهر جنينُهُ البرجوازي البديل بعد.
إن هذا كله يجعلُ الصراعَ الاجتماعي في مستوى التجريد، وتغيبُ عنه الارتباطاتُ والوشائج بصراعات القوى الحقيقية على الأرض، نظراً لأن الصراع بين النبلاء والبرجوازية كان خافتاً مضمراً، مع رفض المؤلف للاستعانة بالمستوى العالمي الذي وصل إليه هذا الصراع في الغرب بل هو يرفضه، ولهذا فإن المؤلف في زمنية عصره يدعو إلى العمل الصبور الشاق لأنه أفضل (إن التعطش إلى «المأثرة السريع ) والمعادي للكد الطويل من أجل الاستعداد لهو محفوف بالمخاطر.. بل بمخاطر ارتكاب الجرائم)، فقرةٌ منقولةٌ من المراهق، ص .513 وعلى المستوى الفكري الأخلاقي يدعو للمسيحية والتسامح.
إن الراوي في (المراهق) لم يُوضع في تجربة المعمل والانتاج والسوق، هنا كنا سنعرفُ بعضَ آفاق التطور الاجتماعي، لكن طريقة المؤلف تضعُ الشخصيةَ في الصراعات المنزلية، وهذه تؤدي لأساليب معينة لا تغوص في صراع الطبقات. وهكذا فحين يظهر جوركي تكون هذه القضية قد وُضعت في عوالمها الاجتماعية التاريخية لكن دون خصب دوستويفسكي النفسي الفني، وقد بلغت روسيا حينئذٍ مرحلة مهمة من تطور الصراع بين النبالة والبرجوازية، كما أن سياقات الإيديولوجيات غدت مختلفة. إنه زمنُ الخروج من الزنزانةِ وتحول الرحالة الشعبي الأمي الاسطوري إلى مثقف إجتماعي، وتبدل ثقافة العذاب والصليب إلى ثقافة النقد الاجتماعي السياسي.
يغدو الأسلوب الروائي الفني لمرحلة (المراهق) عبر شخصية مؤلف ذي حساسية خاصة مثرياً لأدوات الحفر النفسي الداخلي، ولخلق التناقضات الشخصية الفكرية والاصطدامات الروحية في عالم المُثُل والتاريخ المجرد، متحسِّساً الآفاق البعيدة مُطلقاً شعارات عامة عن البناء الروحي الأخلاقي الداخلي الرصين، وتمجيد العمل الخلاق.
على المستويين الروائي والفكري تتداخل بنيةُ الرواية التجريدية الأخلاقية لدى دوستويفسكي بهيمنةِ الخطاب الديني بغياب البرجوازية الحديثة في روسيا وقتذاك.
حين يقتل راسكولينكوف المرابيةَ العجوز في الجريمة والعقاب، لا يأتي ذلك لغياب الأب، لغياب السلطة الأخلاقية الروحية فقط، بل لغيابِ الطبقة الوسطى القائدة للتحول الحديث، فيدهسُ البطلُ العجوزَ مثلما يدهسُ قملةً، مؤكداً علوّ إرادته الفردية المطلقة، خارج الدين الإنساني الذي هو المسيحية هنا، فتعيدُهُ الأحداثُ الروائية والانقلابات الروحيةُ إلى الكنيسة، إلى الأب الروحي الشخصي المفقود هنا، والذي يتجسدُ بالانجيل.
هكذا تغدو البرجوازيةُ والقوى الشعبية كائناتٍ هامشيةً، أو طفيلية، وخارج التاريخ الروائي، وهي كائناتُ المجتمع الضروري الحتمي الموضوعي. وخارج هذا المسار يغدو العالمُ الروائي أيديولوجياً وفضفاضاً متجهاً للتضخم الذاتي.
الإرادة الفردية في تشكلها الإجرامي تغدو غير منتجة، ولكونها إرادة مسيحية فإن ضميرَها ينمو روائياً، وهي عمليةٌ متعددة كثيرة لدى المؤلف، لنتذكر بشكل هنا مدونة التسامح الكبيرة عند الأب زوسيما في رواية (الأخوة كرامازوف)، وهي الرافعة الأساسية لديه للتجديد الروحي الاجتماعي، وهي في المطلق مهمةٌ لكن في التاريخ النسبي غير متحققة والعكس هو الذي يجري، لكن العكس غير المرصود فنياً، فالكراهيةُ بين الطبقات هي التي تسود.
إن التراكم المالي التحولي غير مرئي وغير معروض، فيصور المؤلفُ حدث القتل بلا سببيات مرتبطة بالصراع الاجتماعي، وفيما بعد سيطبقُ ستالين هذا التراكمَ المالي الرأسمالي الحكومي الموسّع، عبر الدهس لـ (القمل الريفي).
يعرض دوستويفسكي النماذج المتوازية، فالسكير (مارميلادوف) يقوم بسرقة خزانةَ سيدةٍ لكي يواصل سكره وعربدته، فيما عائلته تشقى، وتقوم ابنته (سونيا) ببيع نفسها لكي تُطعم الصغار.
هذه سونيا الساقطة تمثل الانبعاث الروحي، وهي تقيمُ علاقةً مع البطل راسكولنيكوف، وتجذبه للاعتراف بجريمته في قتل المرابية العجوز وبالتالي في تطهره.
مثلما تقوم أخت راسكولنيكوف بالقبول بالزواج من شخصية رديئة من أجل أن تُنقذ العائلة.
وقد استقطبت الروايةُ أبحاثاً واهتمامات بشرية كبيرة، وخاصة لهذا البطل القاتل الإشكالي.
لقد كتبَ دوستويفسكي نفسه عن البطل قائلاً:
(إن القاتل يجد نفسه أمام مسائل لا يمكن حلها، وأن أحاسيس ومشاعر مفاجئة لا يمكن الشك بوجودها تعذب قلبه. إن الإحساس بالانفتاح على البشرية أو الانفصال عنها، هذا الاحساس الذي شعر به في الحال بمجرد اقتراف الجريمة، كان يعذبه)، نظرية الأدب تأليف عددٌ من الباحثين السوفييت، مرجع سابق، ص 332 .
إن المسائل التي لا يمكن حلها هي مسائل التطور الاجتماعي السياسي لروسيا، وإن هذه الجريمة الفردية لا علاقة لها مباشرة بهذه التحولات، فالطالبُ الفقير والمرابيةُ على السواء لم يرمزا لقوة اجتماعية ما، والطالب فرضية فكرية يشكلها المؤلفُ للابتعاد عن طريق العنف، وعن الأنانية وبضرورة سلوك سبيل التضحية، ولا تدعو الأفكار الحديثة المجلوبة من الغرب لهذا الطريق، خاصة النزعة العدمية المنتشرة حينذاك، التي تطرحُ نماذجَ الأبطال المفارقين والذين يدوسون عقائدَ الشعوب،
وبهذا فإن فرضيةَ المؤلف لمواجهة العنف واعتماد المسيحية والتسامح تعبيرٌ عن نزعةٍ برجوازية دينية متداخلة، في هذا الزمن الذي تتحول فيه روسيا من الإقطاع للرأسمالية، فالبطلُ حين يضع قدميه في العدمية وسحق الآخرِ يعبرُ عن نزعةٍ فردية متطرفة لم تتشكل في مجتمع طبقة وسطى حضارية، ولم تقم علاقة ديمقراطية مع العاملين، ويتملا طرحُ مشروعاتِ التحول بالخيال الحاد والمغامرة، ولكن المؤلف من جهةٍ أخرى لا يقوم بالتحليل للعلاقات الطبقية الصراعية واكتشاف مساراتها من خلال الواقع، بل يعبرُ عن تجريديها وعموميتها وضبابيتها من خلال النماذج المفعمة بالحدة والتطرف: سكيرٌ ضد زوجة مجنونة، طالبٌ مثقف قاتل ضد مومس طيبة، ابنة مضحية ضد خطيب سافل، فهذه النماذج تقع على ضفاف الواقع، بين البياض الشديد والعتمة الحادة، وفي حالات تعذيب الذات والآخر، وانقلاب هذه الحالات النفسية المروعة، بين أساليب واقعية وميلودرامية فاقعة، بين شاعرية تحليلية عميقة وبين تجريد عام.
المسار الروسي والأيديولوجية الفنية لدستويفسكي يحددان هذه النماذج، والمسار نجده موجوداً كذلك لدى تولستوي فهو تعبيرٌ عن فئة، ولكن من خلال رؤية فنية مختلفة، فالفئاتُ المثقفةُ الإنسانية في ذلك الزمن الموضوعي حيث بعد لم تنتشر وتتعمق العلاقات الرأسمالية لم تجد حلولاً لأفق التطور التاريخي سوى بالابتعاد عن النموذج الغربي الرأسمالي الديمقراطي، عبر الروح القومية المتقوقعة في نفسها وتاريخها، والتي تريدُ تقديمَ الأصيل المختلف، وتجدُهُ عبر الدين، وهذا هو مسار العديد من الأمم الشرقية الأخرى التالية، ولهذا بدلاً من قراءة الواقع تأتي النماذج المستوحاة من التضادات المطلقة التي تتيح للوعي المثالي الديني أن يسرب أخلاقيته المبدئية عبر تناقضات من الواقع الحقيقي، وتبقى هذه النماذج رمزية قومية دينية لوعي أمة لم تتبلور في الصراع الاجتماعي.
المسيحيةُ حسب وعي دوستويفسكي هي الأبوة، أبوةُ الإلهِ الحاني للعالم، لكن الأبوةَ الأرضية الحسية الأنانية هي شكلٌ مضاد.
وليس في رواية أخرى كما في رواية (الأخوة كرامازوف) يتفجر التضاد بين هذين النمطين من الأبوة، إن أب أسرة كرامازوف (فيدور فيدروفتش) هو النقيض للأب الراهب زوسيما. ومن هذين الخطين تنبعُ التضاداتُ الشخصية الروحية في مجمل الرواية.
إن الأب فيدور فيدروفتش، رجلٌ فقدَ كل معاني الأبوة الإنسانية، فهو شبق وأناني وبخيل وثرثار ومهرج. كونَّ عائلته بخداعِ امرأتين سرق ثروتيهما، وأعتصرهما عصراً، حتى انهارت الزوجتان، ورحلتا واحدةً بعد الأخرى. وتشكل من هاتين الزوجتين أولادٌ نبتوا هنا وهناك بالصدفة والفوضى، في المرافق الدنيا الحقيرة للمنزل، وتربوا في حضانات مختلفة، أنقذتهم بمعجزة.
وفي غمرة تتويج حالاته الزوجية الحيوانية، فإنه يغتصب امرأةً معتوهةً، بسبب رهان مجنون جنسي بشع لاغتصاب تلك المرأة، وينتجُ منها الخاتمة النهائية لأبوته الشريرة (سمردياكوف)، (وإيحاءات الكلمة بالروسية تعني النتن، النتانة! مثلما تعني الفقرة الأولى من اسم العائلة كراما (مازوف): الأسود!).
إن حالاته الشبقية والتهريجية السابقة تقودُ إلى ذروة أعماله وهي عشق المرأة الجميلة (جروشنكا) والتي هو مستعدٌ لإعطائها كلَ ثروته، حسب ما زعم أبطالٌ آخرون، في نظير أن تقبل بالزواج منه، وهو العجوز الدميم الآن، وهي قمةُ الفتنة في المدينة.
إن الأب هو المحور، هو المرتكز الأساسي للحدث وللعائلة ولتكوين هذا العالم الاجتماعي المريض. حيث الأب هنا، خلافاً لفكرة العالم الأبوي المسيحي المثالي، هو أساسُ الخراب والعذاب في العائلة، أي في المجتمع، لا مؤسس الحب والعدل فيه.
ويعطي دوستويفسكي تمثلات تجسدية حادة، ملموسة، مطلقة، للأب الأرضي الدنس، فهو كريه في شكله، في وجهه الشهواني العنيف، وبغيض في لغته التهريجية التي يتصنعُ فيها ويغدو مهرجاً يحتقر ذاته، ويسخر من مشاعره وأفكاره، لينقلب إلى ساخر من الآخرين، كاره لهم، عدواني. ولا يكاد أن يوجد جانبٌ جميلٌ في هذا الإنسان.
فهو من الجهة الحسية-الجسدية-العاطفية، حيوانٌ كامل. إنه يجسدُ كل نظام الملكية الخاصة ؟ الإنانية، وذروته المعاصرة، ورمز السلطة الأبوية الاستغلالية: والصاعد بالتجارة عبر الربا والاحتيال، فهو ليس إلا الحيوان القديم، الشرس، الأناني، الذي يلبس لباساً حديثاً، وهو قد فصل حيوانيته هذه ببدلةٍ فكرية أيضاً، هي الأفكار الغربية العصرية (حينذاك) مثل إنكار الإله والخلود. فإلحادُ الأب هو الإيمان الكامل بعالم الغابة، حيث الذات هي الوحيدةُ في الكون، ولا يوجد أمامها سوى اللذة والمنفعة.
إن الإيمان بالإله والخلود حسب دوستويفسكي يعني عبر ثيمات الرواية – الرؤية، أن يتأنسن الحيوان في الأب، أن يتراجع عن إباحيته ولا أخلاقيته، أن يخاف من عقاب الإله، وأن يحب الناس.
إن الإيمان في اللغة الدوستويفسكية هو معادلٌ للأخلاقية، وللتضحية، وللنقاء. أما الفكر العدمي فهو على الضد، استباحة كل شيء، وعدم الخوف من الآخرة، وبالتالي إعطاء (الحيوان) فرصةَ البروز الكامل والمطلق. فالخيرُ قادم من المطلق الديني وليس متشكلاً حسب صراع القوى الاجتماعية.
إن الإله هو الذي يحملُ الأنسنةَ للإنسان، والنبل، والطهر، ولكنه حملها مرةً واحدة، وضحى بذاته، حسب الرؤية المسيحية الأرذوكسية، فإذن مطلوب من الإنسان، هنا الصعود نحو الإله والتماثل به، وصناعة هذه التضحية، وهذا الكف للحيوان الشرس الكامل.
لكن الأب فيدور فيدروفتش هو الممثل الكامل، الحي، البسيط، المتجوهر فردانياً، لإنكار الإلوهية، للعدمية الروحية، للإلحاد على الطريقة المشكلة دستوويفسكياً، أي لإطلاق الحيوان البهيمي الذي يبيح كلَ شيء لنفسه.
يُقال أن دوستويفسكي من الرجعيين المتزمتين استناداً إلى مشاعره لقتل أبيه. يقول فرويد:
(وإن هذه المشاعر قد قامت أيضاً بتحديد اتجاهه في مجالين آخرين كانت فيهما العلاقة بالوالد واضحة، هي سلطة الدولة وأيضاً اتجاهه نحو الاعتقاد في الله. وبالنسبة للاتجاه الأول فقد انتهى به الأمرُ إلى الخضوع التام لأبيه الصغير: القيصر..)، راجع مجلة (إبداع)، دستويفسكي وجريمة قتل الأب، سيجموند فرويد، ص 31 . 46.
لكن دوستويفسكي ليس خاضعاً لسلطة الدولة الرجعية بل هو يخاف التعبير عن نقده بعد سنوات السجن والنفي المريعة لمجردِ دعوته لبعض الأفكار النضالية، ولهذا تغدو المسيحية هي فكرته التي يشكل عبرها نقده، فيجسد قوى الأب الأرضي الشرير والأب السماوي الخير، فيدور فيدروتش من جهة والراهب زوسيما من جهة أخرى. الرواية تغدو ذروة أعماله حيث وصل الصراع بين الأب الفاسد والخلاق، المسيح والعدمي، أمثولةً لكل الحياة، وهذا ما يجعل قراءته الدينية تجريدية لم تتغلغل في الصراع الاجتماعي واحتمالاته.
لم يقم دوستويفسكي بربط اجتماعي ترميزي بين الأب الشهواني الأناني والنظام الاجتماعي، فالأب هنا لا يمثل القيصر، مثلما أن الأب زويما ليس هو المسيح، بل مؤمن به وتلميذه المخلص.
إن الأب الدكتاتور الشهواني المهمل فيدور، والذي بعثر أولاده وشتتهم، والذي هو في قرارة نفسه (ملحد)، أي أنه ألغى اليوم الآخر حيث الحساب. إن هذا الدكتاتور الشهواني الأناني، ألغى البشر: أولاده، وألغى حساب الله حسب رؤية المؤلف.
وهذا الحساب هو السلطة الأخيرة العادلة عند المؤمنين، حيث السلطات الدنيوية غير حاسمة في تحديد الثواب والعقاب.
وفي مقابل هذا الأب الشرير، يشكلُ دوستويفسكي، أباً آخر، هو زوسيما الراهب. حيث تقود زوسيما المعاناةُ إلى أن يكون معلماً مضحياً للبشر، إن كونه عسكرياً اعتاد على العنف يصطدم بحادثة تغير مجرى حياته، حيث ضرب بقسوة مرافقه العسكري فاشتعلت الحادثة في نفسه وقادته إلى أن يرفض المبارزة مع خصم له، تاركاً الخصم يطلقُ عليه النار وهو يتوقف عن إطلاق النار ملقياً المسدس على الأرض.
إن زوسيما إنسان بلا معجزات، سوى أعماله الإنسانية التي تحرك مشاعر الخير في قاصديه. إنه يشكل أبوته بالامتداد الروحي في ألكسي كرامازوف، أصغر الأبناء، والذي تقمص هذه الأبوة حناناً وحباً ومساعدةً للغير.
ولكن هذه الأبوة لا تخلو من المشكلات، فهي تعيشُ في عزلة عن الناس، فلا تقود عملياتهم الروحية والتغييرية. لهذا فإن زوسيما يدعو ألكسي للابتعاد عن الرهبنة والانطلاق نحو المجتمع والمشاركة في تغييره الأخلاقي. إن جثته تتعفن في الساعات الأولى من موته، وهو أمر معاكس لما كان ينتظره الناس من معجزات من وفاته! لكن أعمال زوسيما هي أعمال واقعية وحدس ذكي بالبشر وتوجيه لأعمال الخير، ورغم ضخامة الخلفية الغيبية التي يرتكز عليها فإنها تنقطع مع ملامستها الواقع.
إن ألكسي كرامازوف نبت هكذا فجأة في عالم أخلاقي باهر، رغم بيئته المضادة، وإحاطته بالشر من كل جانب، وهي عملية بدت ميتافزيقية، فيغدو هو الخيط الممتد من زوسيما إلى المجتمع، هي رسالةُ المؤلف المسيحية التي تنزل من الأب إلى الابن إلى البشر. هي قراءةٌ وتجسيد للروح القدس.
إن الأبوة الرهبانية تعطي مساحة كبيرة في الرواية حيث قصة حياة زوسيا وخطاباته تشكل تتويجاً مجسداً لرؤية المؤلف في تضاد المسيحية مع الشر وكونها البديل عن الآراء العصرية العنيفة، حيث يطرح التسامح كشكلٍ أخلاقي واسع لإنهاء تناقضات المجتمع.
ويحمل ألكسي مشعل هذه المحبة ويغمر الشخصيات الأخرى بها، فتتكشف جوانبُهم الخيرة. ويحس حتى الشرير كالأب فيدور بنسمة رقيقة تمر عليه.
وسنجد هذه الأبوة الإنسانية تتشكلُ في محورٍ آخر من محاور الرواية، هو قصة (النقيب سينجريف) وابنه الصغير. فقد جرّ ديمتري كرامازوف، أخو ألكسي هذا النقيبَ من لحيتهِ وأهانه في الخمارة، فما كان من ابنه الصغير سوى أن اندفع نحو ديمتري يرجوه أن (لا يهين أباه).
إن قصة هذا الصغير هي المعادل للقصة المحورية، قصة قتل الأب. إنها قصة التضحية بالنفس في سبيل الأب. فهذا الصغير يعضلا يدَ ألكسي أخي ديمتري ويدافع عن أبيه بالحصى والضرب إلى أن يمرض ويموت ويشكلُ له الصغارُ جنازةً هي من المراثي المؤلمة جداً في الرواية، ورغم المأساة تتحرك علاقاتٌ وعلامات روحية طيبة في هؤلاء الأولاد.
إنه معمارٌ كبيرٌ وخاص لمسألة الأب، يُــدمج فيها بين الفلسفي الديني، والسياسي والشخصي، وتتشكلُ ثنائياتٌ متضادةٌ، منسقة، تخلق أبنيتها التعبيرية الأخاذة.
التناقض الأبرز كما هو في رواية (الجريمة والعقاب)، هو التناقض بين المسيحي المضحي والمثقف العدمي، الذي يرتكز على مصلحته ويعتبر كل شيء مباحاً ما دام فيها منفعته بما في ذلك القتل.
هذا التناقض يعبر عن مُثُل العصور الوسطى الدينية كما تتجلى في المسيحية الخيرة، والعدمية التي هي بداية الأفكار الحديثة التي جاءت من الغرب لروسيا.
يخلق دوستويفسكي تناقضاً مطلقاً مجرداً بين الاتجاهين باعتباره يمثل وضع روسيا الثقافي ومستقبلها، فيما أن الاتجاهات التحديثية الغربية أعمق وأوسع من ذلك. لكن هذا التكوين للتناقض المطلق هو بسبب غياب مشرط التحليل الاجتماعي الفكري للصراع الطبقي لديه.
ولهذا فإن رمزَ العدمية في الرواية وهو إيفان ابن فيدور يحرضُ على قتل أبيه مع الخادم سفردياكوف. وهو لم يدعُ مباشرة للقتل، لكنه لمحّ لذلك عبر أفكاره الفلسفية، ومن هنا نجد تداخل شخصيته مع شخصية الشيطان الرمزية، الذي يزوره ويعيش داخله بشكل كابوسي.
وهو بأحاديثه مع سفردياكوف الأخ والخادم المُلقى في العدم الاجتماعي، والذي وصل للعدمية بتلك الحوارات، يرفضُ جريمةَ قتل الأب ويعتبر نفسه غير محرض عليها. إن العامةَ بتقلبهم الأفكار العدمية العُنفية من قبل المثقفين الأنانيين يغدون أكبر خطراً منهم! وفيما يقبع المثقفون في مصالحهم وقواقعهم يدفع العامةُ ثمناً فادحاً لهذا التأثير.
يلاحظُ هنا إرهاف دوستويفسكي التاريخي لمسألة العنف وتسويقه من قبل الإيديولوجيات الشمولية، معتبراً إياه الخطر الأكبر على مستقبل روسيا، ولم يكن مخطئاً في هذا. ولكن لم يكن بإمكانه حسب وعيه الديني المثالي وزمنيته أن يقرأ العنف كظاهرات متبادلة بين الطبقات في عالم مصالح ضيقة عنيفة.
http://www.ahewar.org/debat/show.art.
Published on May 29, 2019 12:43
May 25, 2019
عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تنوير وتحديث نجيب محفوظ
[image error]
الكاتب والروائي العربي نجيب محفوظ من رواد التنوير القلائل الذين اتخذوا شكل الرواية وسيلة للتفكير العميق في شئون الحياة الاجتماعية المصرية والعربية، وإذا كان قد بدأ في الثلاثينيات كتاباته الفلسفية فسرعان ما تركها مركزاً على العمل الإبداعي؛ بادئاً هذه الحياة بمجموعة من القصص القصيرة (همس الجنون) ثم رواياته التاريخية الثلاث: عبث الأقدار – رادوبيس – كفاح طيبة.
اتخذت الروايات الثلاث تاريخ مصر القديم الفرعوني مادة لها، وكان هذا تعييراً عن المنحى الليبرالي المتجاوز للفترة العربية الإسلامية، باعتبارها فترة التخلف حسب رؤية المنحى الليبرالي التنويري الذي شكله سلامة موسى ولويس عوض، والذي كان نجيب محفوظ قريباً من نفسه الفكري، فيلاحظ في الثلاثية، الرواية الكبرى في عمل محفوظ، تخصيصه لسلامة موسى فصلاً، وذلك حين يلتقي كمال عبدالجواد، بطل الرواية المثقف والباحث عن الحقيقة، رئيس تحرير مجلة كانت تعني إحدى المطبوعات التي أصدرها سلامة موسى.
وكان صوت التنويرية العلمانية (المتغربة) قد تردد بشكل متقطع في العديد من الشخصيات الثانوية، على سبيل المثال في (خان الخليلي) حيث المثقف الذي يردد أسماء ماركس وفرويد ودارون..
كانت هذه التنويرية الليبرالية تنمو في أعمال نجيب محفوظ بصورة دائبة، وتعبر الروايات التاريخية الثلاث سابقة الذكر، عن المنحى الوطني المصري الذي تشكل في بدء القرن، حيث مصر هي شخصية تاريخية قائمة بذاتها، وليس جزءاً من المحيط العربي، وهي تطمح عبر فئاتها الوسطى النامية إلى الالتحاق بالضفاف الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، ومغادرة عالم التخلف بتاريخها الثر، وقد ربطت الفئات الوسطى هذه العملية الانتقالية بالتحرر من الاستعمار البريطاني والسراي الملكي التركي، والعائلات التركية والشركسية الإقطاعية.
لكن القوى الإقطاعية المختلفة: السلطة البريطانية والملكية والإقطاع الديني، قاومت الفئات الوسطى الليبرالية وحزب الوفد
وتجليات الحداثة المتنوعة. وروايات نجيب محفوظ هي لوحة واسعة لهذا الصراع الذي خاضته هذه الفئات من أجل التحديث والوصول للسلطة وبرجزة المجتمع المصري التقليدي.
ولهذا نستطيع أن نقسم أدب محفوظ إلى ثلاث مراحل، المرحلة الأولى هي مرحلة الثورة والصعود، والمرحلة الثانية هي مرحلة الهزيمة والانكفاء، التي ترافقت مع مجيء ثورة 23 يوليو، والمرحلة الثالثة هي مرحلة العودة للحلم.
ومن هنا كانت الروايات التاريخية هي بداية هذا الصعود لصوت الفئات الوسطى المصرية لتشكيل عالمها، ولكن نجيب محفوظ باتخاذه مادة تاريخية من التاريخ القديم، كان يشكل تضاد؛ مع حلمه وتجسيداته، فهذا التاريخ الفرعوني يكاد يخلو من وجود فئات وسطى مستقلة عن الهيمنة الفرعونية الاستبدادية، ولهذا فإن محفوظ أضفى صفات وطنية وإنسانية على الحكام الفراعنة.
أن إضفاء نجيب محفوظ صفات الوحدة الوطنية الصلبة على جسم المجتمع المصري القديم, وجعل الحكام الفراعنة ملتحمين بالناس, وبتصويره عدم وجود تناقضات داخلية في جسم هذا المجتمع, كان يضفى طابعاً رومانسياً على التاريخ الوطنى, كصدى للعملية السياسية الجارية في وقته.
كذلك كان يقوم بعملية نقد للجسم الإقطاعى الذي تكدس فوق الجسد الوطنى المصري على مر التاريخ, سواء بتجاهله للتاريخ العربى, أم بنقده للسيطرة البريطانية التركية على مصر.
ولكن هذا النقد تم بلبس الملابس التاريخية, وهنا كانت الأدوات الفنية تنمو بالتداخل والصراع والتعاون مع الرؤية التي كانت في غبش الظهور والتشكل.
ولهذا جاءت مرحلة الرواية الاجتماعية المعاصرة، أي حين تم ترك الموضوعات التاريخية القديمة، وبدأ بتحليل المجتمع المعاصر. وهذه المرحلة هى التى استمرت طوال تاريخه الفنى إلا من عودة وامضة للتاريخ الفرعوني مرة أخرى.
وقد بدأت المرحلة الاجتماعية بشخصيات مركزية من الفئات الوسطى، وهى بؤرة الفاعلية الكفاحية لهذا المجتمع وللطبقة الوسطى التى هى في سيرورة الممكن، وليس التشكل الناجز, وإلا ما كان هذا الأدب.
ومن هنا كانت عمليات تحليل هذه الفئات ونقدها لتقوم مهمتها التاريخية في تشكيل مجتمع الحداثة, لتكون (طبقة) طليعية, فإذا تتبعنا روايات مثل: القاهرة الجديدة، وزقاق المدق، وبداية ونهاية، فسنجد عرض الشخوص السلبية والإيجابية بين هذه الفئات المضطربة في توجهاتها, التى تقع الشخصية السلبية في بؤرة العرض الفنى فيها , وهى التى يتوجه العرض لتحليلها وتبيان فشل طريقها, كما حدث لمحجوب عبدالدايم في القاهرة الجديدة الذي كان تجسيداً للانتهازية الفاقعة في بيع ذاته
للوصول إلى الثروة والمناصب, والذي أسس لنفسه مبادئ عدمية هى تعبير عن الالتحاق بالإقطاع الحاكم المخرب للذمم والنفوس, وعدم شق طريق نهضوي تترافق فيه الكرامة بالحرية والديمقراطية.
وإذ يُعطى نجيب محفوظ أطيافاً من شخصيات مرافقة للبطل المركزي, غالباً ما تعكس أطياف التيارات في الفئات الوسطى, فإنه لا يقوم بتحليلها, بل يجعلها كمرايا تبين الجوانب المضادة عند الشخصية الرئيسية.
فحميدة في زقاق المدق هي الانتهازية والذاتية المريضة التى تبيع جسمها هذه المرة للوصول إلى حياة مرفهة, حتى لو كانت بين أحضان الجنود الإنجليز وقواديهم.
لكن الطريق الكفاحى الشعبى يتجسد فى عباس الحلو, الحلاق البسيط الذي يريد ان يتزوج حميدة, ورغم سطحية الترميز هنا بين حميدة ومصر, وعباس والمستقبل, فإن محفوظا لا يقوم بالتحليلات المعمقة في الصراع الاجتماعى, أي لا يرينا كيف يمكن أن يتطور عباس هذه الشخصية الشعبية ليصبح رمزاً نضالياً, فيعتمد هنا على الخطوط الاجتماعية العامة المنمطة والشخوص.
وهذه العملية تعبر عن نظرة محفوظ المنبثقة من الفئات الوسطى التى ترى ذاتها مركز الفعل, في حين أن الشعب والقوى الفقيرة تظل مادة للفعل القادم من الخارج.
وهذا ما نراه أيضاً في (بداية ونهاية) حيث العائلة التى مثل الفئات الوسطى, واتجاهاتها الاجتماعية المحدودة هذه المرة, ولكن الفئات الوسطى هنا تدخل طور أزمة شديدة, حيث موت الأب يعنى شبه انهيار للعائلة, التي تجد نفسها أمام سبل الخيارات الاجتماعية, بين موقف انتهازي تسلقى يمثله الأخ الأصغر الذي يصبح ضابطا, وبين موقف الأخ الأوسط الذي يواصل سيرة عباس الحلو وسيرة الكدح الصابر المتواضع النبيل.
لكن اتجاه الانتهازية والرخص والغرور المتمثل في الأخ الضابط وأخته نفيسة التى تبيع جسمها, يقوم بتدمير العائلة مجدداً.
أن هذه الروايات المتعددة التى استغرق نجيب محفوظ في كتابتها عشرين سنة تبين عملية التفكير الفنى المتواصل في مادة الحياة, الذي بدأ بنسج العلاقة بين فكر التنوير والناس, حيث لا يصبح الشعب مادة مجردة بل شخصيات حية, وصراعات اجتماعية, فكيف يحدث التقدم وكيف تنتصر إرادة التغيير لديه؟
يُلاحظ في هذه المادة الروائية الاجتماعية التصاقها بمادة ملموسة وبحيثيات حياتية اجتماعية, أكثر منها مادةً سياسية وفكرية, فالاتجاهات السياسية والفكرية لا تظهر, إلا كأصداء بعيدة خافتة.
لكنننا نستطيع أن نرى مادة الوعى المتنور في تصوير العلاقات المتضادة بين الشخوص, و في الانهيارات المستمرة في الوعى الانتهازي, وفي تصعيد نماذج الإنسان البسيط من هذه الفئات الوسطى كنموذج للعمل والتضحية والصمود.
أن محفوظا لا يحشر الأسئلة الكبرى الفكرية والفلسفية في هذه النماذج, ولكن هذه الأسئلة غائرة في عملها وموقفها المجسد, كذلك فإن التيارات تحصل على رموزها من الشخوص العرضية غالباً, فالرمزان الدينى والتقدمى باطيافهما, هما منتشران دون أن يكون لهما حضور حقيقى. فقط النموذج المركزي القادم من الفئات الوسطى وهو أمل تكون الحداثة, هو الذي يحاور الشعب سلباً أم إيجاباً, ويحاوره عبر الأمثولة التي يقدمها وليس بالعلاقة النضالية معه.
عبرت ثلاثية نجيب محفوظ وهي (بين القصرين؛ وقصر الشوق، والسكرية)، عن التطبيق الملحمي الواسع للعناصر الفنية والفكرية السابقة الذكر.
فمحفوظ يعرض الفئات الوسطى، بل يختار عائلة كاملة هي عائلة تاجر متوسط، ليعرض نماذجها وعلاقاتها الاجتماعية والسياسية والفكرية. وهناك التمثل الرمزي الذي غالباً ما يشكله الكاتب بين مادته الفنية، والتطورين الاجتماعي والسياسي، فهذه العائلة تعبر عن حالة البلد في خلال نصف قرن من التطور، وكما تتعرض السلطة الدكتاتورية للاهتزاز والضعف الشديد، كذلك فإن سلطة احمد عبدالجواد الأب في هذه العائلة، تتعرض هي الأخرى للضعف وبداية الهزيمة.
إن محفوظ هنا استطاع أن يجسد النظام الإقطاعي بمستوياته المتعددة، السياسية في النظام الملكي وفي الأرستقراطية، وفي الهيمنة الذكورية الاستبدادية المتجسدة في تسلط الأب، وتدهور أوضاع المرأة، وهيمنة المفاهيم الفكرية المتخلفة.
إذن فإن الإقطاع بمستوييه السياسي والاجتماعي في طريق الأفول.
يقيّم محفوظ الشخصيات والأحداث التاريخية ليس من خلال عرضها والدخول فيها، بل من خلال انعكاساتها على العائلة المحورية، فهكذا يظهر التاريخ دائماً خارج العائلة، لكنها تتأثر بأحداثه، وإذا كان فهمي الابن المسيس للأب، يغدو شهيداً
ورمزاً للكفاح الوطني، فإن العائلة لا تشارك في صنع التاريخ، وهنا فنحن أمام عائلة من الفئات الوسطى، يغمرها التاريخ شيئاً فشيئاً، حيث تتفكك علاقاتها الإقطاعية وتتسرب إليها المفاهيم والعلاقات الحديثة. لكن العلاقات القديمة لا تزول، والعلاقات الحديثة لا تنتصر كلياً. فالمسألة ماخوذة على أساس النضال الوطني الديمقراطي العام الذي نسمع به أو نراه أحياناً، ولكنه ليس سوى أحد روافد الرواية.
ومحفوظ في هذه الرواية متفائل بفاعلية العلاقات الحديثة المتوغلة بقوة في البناء الاجتماعي، ويتضح هذا من تغير ظروف المرأة ومواقفها، وبروز نموذج. تقدمي فيها، لكنه أيضاً لا يغفل صعود التيارات الدينية كذلك.
أما ما يمثل بؤرة الرواية فهو الشخصية المثقفة المتنورة المحورية: كمال عبدالجواد، هذه الشخصية التي هي ابن الدكتاتور العائلي، أحمد عبدالجواد، ولكنها هي النقيض الذي ينمو، وهي رمز الفئات الوسطى الحائرة المتذبذبة في تشكيل مجتمع الحداثة.
إننا نشهد في الرواية تتبع طفولة هذه الشخصية، وشبابها وبدء كهولتها، وكيف تتزعزع عملية اعتقادها بالأطر الدينية التقليدية، مشرئبة إلى الأفكار والنظريات الحديثة، ودون معالجة نقدية وجدلية بالإرث الإسلامي المسيحي، بل عبر الانقطاع عنهما، ولكن عبر حيرة طويلة.
ويتوجه كمال عبدالجواد لحب عايدة، النموذج الأرستقراطي، وهي العلاقة الرمزية المباشرة، للعلاقة بين الفئات الوسطى والأرستقراطية، والتطلع إلى الذوبان فيها، واعتبارها هي الحل بديلاً عن تكوين الفئات الوسطى شخصيتها المستقلة وتحولها إلى قوة اجتماعية مهيمنة، ولكن هذا التطلع يفشل لأن عايدة تتوجه لابن طبقتها.
وبعد سنوات يشارك كمال في جنازة دون أن يعرف الميت، فيتضح أن الميت هو عايدة نفسها. لقد ماتت الأرستقراطية كأفق
شخصي لكمال وللفئات الوسطى. وهي نبوءة متسرعة من نجيب محفوظ .
وتتحول أخت عايدة الصغيرة بعد أن تهاوت مكانة أسرة عايدة الاجتماعية، وصارت جزءاً من الفئات الوسطى، إلى مهوى جديد لعاطفة كمال ولكن فرق السن يحول دون ذلك.
ويتضح في كمال الجانب الفكري والرمزي لمخاض الطبقة الوسطى كحاملة للنظام الجديد، ولكن هذا المخاض لا يبدو داخلياً إلا على شكل فكري بعيد الصلة عن تحليل الواقع والإرث الفكري والاجتماعي الديني، حيث إن الكاتب نفسه لا تتمثل لديه الحداثة إلا عبر (التغرب) أي باستيراد الموديل الغربي الجاهز، وليس من خلال إنتاج الحداثة بالصراع في بنية اجتماعية مصرية، لها مستوياتها الاقتصادية والاجتماعية والإيديولوجية.
كذلك يغدو مخاض كمال التأملي والنخبوي، وهو منهج نجيب محفوظ نفسه، نائياً عن تحليل الصراعات الاجتماعية والمشاركة بها، مما يقود على مستوى مصائر البنية الاجتماعية إلى التفاؤل بالتقدم الحثيث للفئات الوسطى لاستلام زمام
التاريخ المصري.
إن أسرة أحمد عبدالجواد التي تتسع بالمصاهرة تنتج شخصيات تنتمي إلى تيارات دينية (الإخوان) وتيارات تقدمية (الماركسيون)، ومن الملاحظ ان محفوظ يجعل هذين التيارين ينبثقان من العائلة، التي تشير رمزياً للمجتمع والناس
عموماً، ولكنها تشير كذلك إلى الطبقة الوسطى. والرؤية المحفوظية تطابق بينهما.
وقيام عائلة أحمد عبدالجواد بإفراز هذين التيارين الشموليين من داخلها الواعد بالديمقراطية والحداثة، بدلاً من أن يصبح كمال عبدالجواد هو النموذج، مما يعبر عن الأزمة الاجتماعية المتصاعدة، وعدم قدرة تيار الفئات الوسطى الليبرالى على تقديم المظلة الفكرية التي تستظل التيارات الأخرى تحتها، فلا يملك تصوراً ديمقراطياً عن الإسلام يسحب البساط من تحت أقدام التيار الديني الشمولي، ولا يستطيع تقديم الإصلاحات الواسعة لجذب الفلاحين والعمال إلى صفوفه.
وهذا يتبلور في نهج حزب الوفد وتأملية كمال عبدالجواد سواء بسواء.
تنويرية نجيب محفوظ الديمقراطية الحداثية تتحول على مستوى الفن إلى ترميز فكري – اجتماعي، وهذا الترميز يتحول في نهاية المرحلة إلى قالب. وبين حيوية الترميز وامتلائه بالمادة الحياتية، وبين تيبسه وتحوله إلى هيكل عظمي، يقع مشوار محفوظ الأكثر خصوبة .
ونحن إن نركز هنا على التنوير وجذوره ودلالاته السياسية، لا بد لنا من رؤية الترميز وخطوطه العريضة. فكما رأينا صاغ محفوظ بنيته الفنية على أساس تطوير فاعلية الفئات الوسطى للتحول إلى قوة تغيير للمجتمع التقليدي، وعبر شخوص تصارع قيماً متضادة، فهناك الوطن أوالاحتلال، الحداثة أو التخلف، العلم أو الدين، الحرية أو الاستبداد.. الخ.
وقد شكل الوعي العربي التحديثي بناءه على شكل متضادات شبه مطلقة كالسابقة، أي عدم قدرته على التضفير العميق بينها، وهذا الوعي الذي استظلت به بنية محفوظ الفنية، ولكن هذه الرموز لم تنفصل عن البناء الاجتماعي، فكمال الذي يرمز للوطن الحديث المتشكل تقابله عايدة التي ترمز للأرستقراطية الآفلة، ولكن الترميز لا يخلو هنا من شحنات شخصية واجتماعية ملموسة تكاد تغيب الرمز.
وهكذا يؤسس محفوظ رؤيته للتيارات ونموها وصراعها على شكل شخوص متضادة، وكانت لديه مشروعات روائية قبل ثورة 23 يوليو 41952 لكنه توقف عنها وبدأ مسيرة فنية مختلفة.
إن انتكاسة مشروع محفوظ هنا يعود لأن التحليل الذي اعتمد عليه في رؤية تطور المجتمع المصري من خلال الثلاثية، والتي كانت آخر عمل في السلسلة السابقة، ثبت خطأه، وأن انتصار الطريق الليبرالي الديمقراطي، وصعود البرجوازية كطبقة تعيد تشكيل النظام التقليدي، لم يتحقق بل لقد وثبت التيارات الشمولية من الفئات الوسطى نفسها الى السلطة وشكلت مساراً شمولياً ووطنياً وأطاحت بالتراكم الليبرالي والديمقراطي السابق.
هذا ما يمكن أن يبعث على الحيرة و الاضطراب الفكري والفني عبر المسار التفاؤلى المحفوظي السابق ذكره. إن تناقضات الفئات الوسطى برزت على السطح التاريخي، وانفجرت التناقضات الداخلية في عائلة السيد أحمد عبدالجواد. وكانت أزمة مارس 1954 هي ذروة الصراع, وحسم فريق العسكر الوطني الشمولي المعركة لصالحه.
فماذا يفعل الروائى الليبرالى النهضوي من الرعيل الأول، هل يتخلى عن مساره وينضم للطبالين الكثيرين أم يواصل الحفر لرؤيته بأدوات تعبيرية مختلفة؟
إن تطابق سنوات أزمة الخيار السياسي لمصر وتوقف محفوظ عن الكتابة يشير إلى البحث عن اًسلوب جديد لتجسيد المعاني القديمة، ولهذا فإن الأسلوب الملحمي النقدي الواسع للثلاثية، الذي يظفر بين التشخيص الكبير والترميز، والذي يحوي صراع الطبقات بشكل مكشوف، هذا الأسلوب لا بد أن يتبدل علي ضوء المرحلة العسكرية التي لم تكتف ببوليسها الواسع ورقابتها بل بجمهورها العاطفي الهائج.
فإذن كان الاختمار المحفوظي من أجل إذكاء الأدوات التعبيرية الديمقراطية في زمن دكتاتوري، ولهذا تبدل التحليل الواسع والنفس الملحمي، نحو ضمور الروح الملحمية والتحليلية الواسعة، إلي الكثافة التعبيرية واتساع الرمز، ومع تبدل الموضوعات وبقاء البنية الترمزية الاجتماعية السابقة، بنية التحديث والديمقراطية.
يواصل نجيب محفوظ نقد النظام الوطني الاستبدادي عبر طرق فنية طورت أسلوبه التعبيري.
في روايات مثل (اللص والكلاب) و(السمان والخريف) و(الطريق).. الخ. نجد هذه الكثافة والرموز المتغلغلة في بنية الحدث وفي الشخوص. ففي اللص والكلاب, نرى سعيد مهران اللص يهاجم معلمه المثقف السابق رؤوف علوان الذي صار قطباً في القوى الصاعدة, وكما رأينا فالبنية الرمزية الاجتماعية هنا تشير إلى كون الطبقات الفقيرة التي زعم رؤوف علوان النضال من أجلها, لا تزال مضطهدة ومسروقة, ولكنها الآن تُسرق من قبل رؤوف علوان, وبقية (الكلاب).
وكل الرواية الخادعة للبوليس الشمولي تتركز في الصراع بين سعيد مهران ورؤوف علوان في الحقيقة, والذي موهه محفوظ بأشكال عدة من الكلاب, ولكن الصراع بين اللص الشريف والحرامية الجدد غير الشرفاء هو لب الرواية.
ففي الوقت الذي تحاول الطبقات الفقيرة فيه الحصول على الثروة بنفس الأسلوب الذي اتبعته تلك القوى التي وثبت إلى السلطة, فإنها تُسجن وتقتل.
ولهذا فإن الذين وثبوا للسلطة بأساليب العنف والتضليل الإعلامي يقاومون سعيد مهران الذي يلجأ إلى أساليب العنف أيضاً ولكن من أجل الحق.
أن محفوط هنا في سبيل انتقاد السلطة الشمولية يلجأ إلى حيثية حقيقية متمثلة في قصة السفاح الشهيرة, ويقود منولوج البطل سعيد مهران في كشف تختلف أنواع الكلاب, الذين خانوا صيغة التعايش الزوجية السابقة, ( عليش ونبوية), والجدد.
وتعبر رواية (السمان والخريف) عن هذه الثيمة الرمزية بشكل أوضح وأكثر اتساقاً, فبطل الرواية تحيله حكومة الثورة العسكرية إلى التقاعد السياسي, مثلما تحل حزبه الوفد.
وتكشف فصول الرواية كيف ان الفئات الوسطى تتصارع على السلطة بشكل محموم, والتي يعبر عنها محفوظ عادة بالترميز فخطيبة عيسى البطل الوفدي, تتخلى عنه وترتبط بنافسه العائلي الذي يصعد في السلطة الجديدة.
ويتشرد عيسى ويحل زمن الخريف عليه ويذهب إلى الاسكندرية حيث يلتقي امرأة بسيطة ويعاشرها وحين تحمل منه يطردها. وفيما بعد يكتشف ان طفلتها تحمل ملامحه الجسدية بشكل مدهش.
وقـد عبر ت هـذه العلاقة عن العلاقة الترميزية بين قوى الليبرالية الديمقراطية والناس, حيث التخاطب غير قانوني والثمرة محرمة, والرمز الطليعى يعيش زمن الخريف بين التحلل والنضال.
تكشف هذه الرواية استمرار البنية الرمزية الاجتماعية وقد ضمر جانبها التحليلي الاجتماعي, وتمركُز الطليعية في نموذج وحيد مفصول عن الجماهير, ومتقوقع في ذاته, مما يؤثر في بنية السرد والشخوص, فتلجأ إلى الشعرية اللغوية والتأملات الداخلية المفصولة عن وهج الصراع الاجتماعي.
وهذا ما يمكن متابعته في (الشحاذ) ايضاً, حيث عمر الحمزاوي يكتشف أن استمراره في وظيفة المحاماة الناجحة التي أغنته مالياً, قد أفقرته روحياً, لغياب أي قضية عنده, ولا يوضح محفوظ الأسباب المباشرة لغياب الانتماء والخصوبة الداخلية, بل يدع بطله يهجر هذه الحياة البرجوازية غير المشكّلة للطبقة الطليعية لمجتمع الحداثة, و في غيابات وهجرات معاكسة لما ينبغي أن يكون, كالاتجاه نحو اللذائذ الجنسية المتنوعة والواسعة, والتي تتكشف عن خواء, وكذلك الاتجاه المعاكس أي الاتجاه نحو التصوف وترك اللذة والحس كلياً, مما يقوده إلى الغيبوبة والهذيان وشبه الجنون.
في حين ان زميله النضالي الذي خرج من سجن النظام العسكري يواصل الكفاح ويتزوج ابنة عمر, في تعبير تزاوجي آخر عن الخصوبة السياسية والفكرية, ولكن في النهاية يتم مهاجمة هذا المناضل الذي لجأ إلى قريبه عمر في عزلته, تعبيراً عن كون النظام الشمولي تتوحد مصائر الهاربين والمنتمين في قبضته.
في رواية (الطريق) يواصل نفس الرؤية بثيمات أخرى, ولكنه في رواية (ميرامار) التي تدور في بنسيون صغير, يواجه مباشرة النظام عبر تناقضات اجتماعية صارخة من شخوص تمثل عمليات التفسخ التي تنتهي إلى الجريمة.
ويُلاحظ أن محفوظ لم يصور النظام الوطني بأي إيجابية لافتة, فلم تعبر ريشته عمليات البناء الضخمة الجارية, مركزاً على غياب الحرية السياسية, وهذا يعود لمنهجه الفني الفكري ذي التضادات المطلقة والذي لا يظفر بينها بتكوين اجتماعي حقيقي.
تحتاج هذه الحلقات التي تدخل ربما في لب عمل نجيب محفوظ المتواري كثيراً عن النقاد الذين يسحبونه نحو ايديولوجياتهم أكثر مما يفسرون نصوصه, إلى وقفة أخرى.
تحديث نجيب محفوظ
يرى نجيب محفوظ التيارات الفكرية وتاريخ المنطقة الديني من خلال الحارة المصرية، فهي المستودع الذي تعيش فيه تمثلات الفلسفة العالمية وانعكاساتها وحكايات الأنبياء وأصداء صراعات العالم.
ولهذا فتاريخ العرب وحضارتهم لا تتشكل عبر أعمال خاصة، بل هى موجودة كأصداء فى شخوص الحارة حين تظهر نماذج الدينيين. وقد سبق لمحفوظ أن ساير السينما المصرية في تصور العرب باعتبارهم البدو الذين يعيشون في صحراء سيناء، كما فعل في الفيلم الشهير الذي أعده كسيناريو للسينما باسم (عنترة وعبلة) في أواخر الأربعينيات، وهكذا كانت قبائل الجاهلية تتكلم باللهجة البدوية لعرب سيناء!
ومن هنا كانت رموز التراث التي تظهر لأبطال الحارة أثناء صراعاتهم الداخلية والعامة كما جرى الأمر في رواية (ثرثرة فوق النيل)، فهي رموز من التراث الفرعوني، الذي هو باعث للهمة وللنهوض (القومي). وفي الوعي المصري الليبرالي كان التفريق بين الوطني والقومي غير واضح.
إن رواية (ثرثرة..) تواصل خط الرواية الفلسفية الذي اتبعه محفوظ، وبطلها الرئيسي هو إنسان مسطول (أنيس زكي)، ويعيش مع شلته فوق ظهر عوامة على النيل، وهي رموز واضحة لمصر أو للقاهرة على وجه الخصوص، ولكن اختيار بطل مسطول ولديه ماض وطني مقموع أو مغيب، هو شكل التجلي للرؤية الليبرالية المقموعة في العهد الناصري، والتي تبحث عن انثيالاتها وتداعياتها من خلال مونولوج البطل المسطول وجماعته من المدمنين السكارى
الغارقين في المتع والنشوات و(الأنس).
وفى حين كان الخارج يتحدث عن معارك ( الاشتراكية) والتأميم، وإزالة الطبقات وضرورة تطوير الوعي، كان الأمر في العوامة يجري على نقيض ذلك، حيث كان تغييب الوعي وسحقه، والانقطاع عن معارك الخارج كليةً.
بل إن الخارج نفسه كان متناقضاً ففي حين يتم الحديث عن فوارق الطبقات كانت الطرقات تكتظ بالسيارات الخاصة، ص72.
فلماذا كان هذا التباين الشديد بين الخارج والداخل، بين ما يجري في الدولة وما يجري في العوامة (مصر) ؟ ما الذي يوحد (الاشتراكية) بالحشيش ؟!
ان البطل المركزي الذي تجري الرواية حول تداعياته هو موظف عتيق، يشبه فى عمره ووظيفته الكاتب محفوظ نفسه، ولكنه لا يكاد يفيق من إدمانة سواء في العوامة أم خارجها، وتجري الانثيالات في أحيان عديدة حول الماضي وأمجاده، في حين ان الحاضر هو كابوس!
كابوسية الحاضر تتجلى في الشخوص التي تحضر العوامة وتمارس طقوس الغياب والفرح الفارغ، وهي شخصيات طفح بها واقع العوامة المصرية في ظل الدكتاتورية الوطنية العسكرية، فهي نماذج من الكتاب والصحفيين والفنانين والفنانات المتسلقين والانتهازيين، الذين خلوا من أي فكر أو فن عميق، حيث يمارسون ترديد الشعارات عن الاشتراكية والتقدم في الخارج، ويمارسون تذويب ما بقي من شخصياتهم في دخان الحشيش، وقد غدت العوامة غرزة من الغرز؛ وكأن مصر قد منع فيها التفكير وانطفأت جذوة الوعي والحوار.
إن النقد العميق للشمولية، والذي يجري من جهة السلب فقط؛ والذي يقارن بعهد الحريات الفكرية السابق الغائب في ومضات لا تكاد تُسمع في هذيان البطل، أو بعهد النهضة الفرعونية، ان هذا التقد يتخفى ويتوارى كثيراً، فهو الصوت الديمقراطي الروائي شبه الوحيد في علم الصحافة الرسمية الجماهيرية (حيث تُنشر الرواية على حلقات في جريدة الأهرام: المتحدث الرسمي بلسان الانقلابيين العسكريين).
إن عدم رؤية نجيب محفوظ أي جانب إيجابي في ثورة يوليو52؛ هو بطبيعة الحال عملية ناتجة من المنهج الفني التجريدي العام، الذي يقولب التجربة الإنسانية في قوالب رمزية متضادة، أي ليس هو منهج تحليلي فني يغوص في تضادات التجربة الملموسة، بل هو يسقط عليها آليات وعيه الليبرالية في تضاداتها المطلقة فهناك: اما حرية وإما استبداد، اما ديمقراطية وإما دكتاتورية، اما تقدم وإما تخلف الخ، أي لا يرى ان هذه التضادات ليست مطلقة، بل متداخلة، وان الإيجابي والسلبي في كيان واحد متصارع، وان مصر ليست عوامة فقط بل مصنع وسد ومعارك، تقدم وفساد… الخ.
ولهذا نرى البطل المحوري ذا الماضي الوطني، وهو صدى سوف يتكرر بشكل عام، ينسحب كلية من الصراع، ويتلاشى وعيه في سحابة كثيفة من المخدر.
لكن ليس هذا التصوير السلبي مطلقاً، فشخصية صحفية شابة ناقدة وواعية ( سمارة بهجت )، تتغلغل في هذه العوامة وتفضح رموزها، ولكن الفضح يتجه لكي يستعيدوا وعيهم ويناضلوا، ولكن بأي اتجاه؟
بالضد من هذه الشخصيات السلبية والفاقدة للوعي، هناك حارس العوامة (عم عبدة)، تلك الشخصية الشعبية المتوارية واللغز، التي تمسك بيديها حبال هذه العوامة وتستطيع أن تدعها تغرق في النيل، وهى رمز لشخصية الشعب، وجذوره المصرية القديمة، ولتنوع هذا الشعب وعمره المديد وتضاداته الأخلاقية وصبره ونضاله اليومي الصبور الدؤوب، بعكس فئات وسطى عديدة ثقافية غارقة في التفاهة.
وفي هذه الرواية الساخرة الناقدة هناك عشرات من الموتيفات التي ترجع لتاريخ مصر القديمة، وكلها تنثال من خلال لا وعي الحشاش الأكبر أنيس زكي، فيجمع محفوظ النقد المرير بالضحك
والفرجة، وهي تقنية شديدة المكر.
لهذا فإن شخصية الدكتاتور هي الحاضرة كثيراً في تداعيات أنيس زكي، وهو شخصية مثقفة مولعة بالتاريخ، ولهذا فلا تناقض بين عمليات استرجاعها لشخصيات وكلمات مثل نيرون والفاشية والفرعون الطاغية.
يقول فى أحد السطور: إنه لم يكن عجيباً أن يعبد المصريون فرعون ولكن العجيب أن فرعون آمن بأنه اله، ص23 .
ويواصل نقد التجربة:
(كل قلم يكتب عن الاشتراكية على حين تحلم أكثرية الكاتبين بالاقتناء والإثراء وليالي الأنس في المعمورة. .)،56.
ويبكي فرعون وهو في أسر قمبيز الفارسي الغازي قائلاً عن أحد جنوده: هذا الرجل! طالما شهدته وهو في أوج أبهته فعز عليّ أن أراه وهو يرسف في الأغلال!
وياتى البديل على شكل ساخر بأن يقوم هؤلاء الحشاشون بتنظيم أنفسهم وكيف يحققون الاشتراكية على أسس شعبية ديمقراطية لا زيف فيها ولا قهر..، ص 100.
ويوجه محفوظ خطاباً غير مباشر في الرواية إلى جمال عبدالناصر حيث يقول على لسان حكيم مصري قديم:
(ما هذا الذي حدث في مصر/ إن النيل لا يزال يأتي بفيضانه / إن من كان يملك أضحى الآن من الأثرياء) ثم تأتي الرسالة:
(لديك الحكمة والبصيرة والعدالة/ ولكنك تترك الفساد ينهش البلاد/ انظر كيف تمتهن أوامرك / وهل لك أن تأمر حتى يأتيك من يحدثك بالحقيقة ؟) ص 126.
ويتضح المنهج الترميزي التجريدي في تصويره للشعب من خلال نموذج بواب العوامة، فوضع الشعب داخل قالب شخصية متفردة، مهما كانت عملقتها، لا يستطيع أن يكشف دورها الحقيقي وتناقضاتها وتراكم الوعي والمواقف فيها.
ولكن هكذا كان الشعب لدى محفوظ خلفية لمواقف الفئات الوسطى، حيث تكمن القيادة لديها.
إن الرواية التي انعكس فيها تاريخ المنطقة الديني هي رواية (أولاد حارتنا)، وهي الرواية التي أثارت الضجة، وكما نرى فإن وجود كلمة حارتنا، يشير إلى أن هذا التمثُل المستمر للواقع أو للتاريخ الديني والفكري، عبر الحارة وموتيفاتها وأجوائها. وهو أمر سيكرره محفوظ أيضاً في روايته (الحرافيش).
وموتيفات الحارة الشعبية كمهنها وأوقافها ومقابرها… الخ، هي عملية تحليل طبقية أخذ محفوظ يشكلها بدءاً من رواية (زقاق المدق)، ونظراً لتركيزه على الفئات الوسطى، التي لها دور محوري قيادي يعكس الرؤية الليبرالية التى يؤمن بها، فقد جعل هذه الفئات فى مقدمة المشهد الروائي، وتمثل خياراتها الأخلاقية والفكرية جوهر الصراع الروائي.
لكن العملية الروائية بتوسعها المستمر لتحليل أزمة هذه الفئات الوسطى، وعجزها عن إعادة تشكيل المجتمع المتخلف باتجاه الحداثة والتقدم، كان لا بد للكاتب من البحث عن سر فشلها، وهنا لا بد من بحث علاقاتها مع الشعب العامل، مادة هذه الفئات الوسطى البشرية، في إعادة تشكيل الحارة المتخلفة، أو عوامة الغياب.
لكن محفوظ نفسه لا يمتلك تجربة في التعامل مع العمال والفلاحين، فى مصانعهم وحقولهم، ولهذا فقد راح يحللهم من خلال شخوصهم التي دخلت الحارة. ولهذا فإن المادة البشرية المتنامية عنهم تأخذ في التوسع والتبدل، لكنهم يظلون كجمهور خلفي، أو كرمز للشعب أو التاريخ القديم، فلا يتدخلون كقوة اجتماعية فاعلة مغيرة لنماذج الفئات الوسطى الحائرة والمتصارعة.
إن اتساع وجودهم نلحظه في الثلاثية بدلاً من الروايات التاريخية التي كان فيها الشعب أشبه بالعدم، ثم يتنامى هذا الحضور في الروايات الكبيرة (الملحمية): أولاد حارتنا، والحرافيش.
ولكن تظهر موتيفات الحارة هنا لكى تعوض غياب التحليل الاجتماعي والاقتصادي في الأعمال السابقة، فتركيز محفوظ على مسألة (الوقف) فى هاتين الروايتين الملحميتين، لا يشير فقط إلى الجذور الاقتصادية للصراع الطبقي، بل أيضاً إلى عملية التضفير بين نضال الفئات الوسطى والجمهور الشعبى، الذي سرقت منه هذه الأوقاف ووضعت في خدمة الأقليات المستمرة في إنتاج وجودها عبر التاريخ.
وتطرح هذه الرواية معضلات التطور في المنطقة بشكل رمزي، وهنا نرى خروج محفوظ من المادة المصرية المحضة، ولكنه جعل تطور الوعي الدينى يمر من خلال عدسة هذه الحارة المصرية، وهكذا فإن المثقفين الذين يظهرون تباعاً: أدهم، وجبل، ورفاعة، وقاسم، وعرفه، يشكلون علاقة نضالية مع سكان الحارة الفقراء، ويقيمون تصحيحاً لوضع (الوقف) الذي احتكرته القلة الظالمة.
ولكن العلاقة التي يقيمونها مع الجمهور هي التي تتيح لبعضهم أن ينتصر، ويسحق (الفتوات)، ولا نعرف أسباب هذه التكرارية في البعث، أي في تكرار ظهور الشخصيات الفاعلة، وفي غياب الإرادة والفعل لدى الجمهور الذي يظل مادةً للفعل التاريخي لشخصيات الفئات الوسطى.
نقول الفئات الوسطى، على الرغم من كون الرواية تقوم بإعادة إنتاج للتاريخ الديني من خلال التمثل المجازي، والقناعي، والرمزي، فهي لا تناقشن فقط التاريخ الديني، بل أيضاً وجود الأديان في الحارة المصرية كذلك.
إن وجود الشخصيات المثقفة الفاعلة يجري في مشهدية الحارة، وبالتالي من أجل تغيير السلطة والإنتاج، الذي يأخذ سمة مجردة هي (الوقف).
والوقف والأحباس هي الأملاك التي تُوضع من قبل السابقين للصرف على الفقراء والمحتاجين، وهي بالتالي لا ترقى كرمز إلى مسألة قوى الأنتاج، بل هي ذاتها ملكيات تشير إلى عالم الملكية الإقطاعية الدينية، الذي هو عقبة أمام تطور العلاقات الاقتصادية الحديثة.
ولكن الرمز هنا يشير إلى الملكية العامة، بشكل مجرد، أي بشكل مُنتزع منه الجذور التاريخية، ليوضع في دورات تاريخية مجردة هي الأخرى، وإن أُلصق بها بعض السمات التاريخية الملموسة، لتعطي الشخصية الفنية مماثلةً خارجية ترميزية للشخصية الحقيقية التاريخية.
وهذه المماثلة الخارجية الترميزية أفقرت الشخصية الفنية، كما قامت بتكرارها، عبر تكرار أنماطها ومعاركها من أجل الوقف نفسه.
إن الوسط وهو الحارة لا يتغير، كما أن أهل الحارة، أي الشعب الذي كان يُفترض فيه تراكم هذه التجربة التاريخية الثرة، لا يتغير ويظل في موقعه التحتي، كمادة طينية تنتظر المثقف الفاعل.
وهكذا فإن هذه الرواية القائمة على التخطيطات الترميزية فقدت المادة الحية، ولعلها أظهرت إشكالية المنهج الفني القائم على التجريدات المطلقة الُمعممّة.
لدينا مجموعة مركبة من الملاحظات حول رواية «أولاد حارتنا»، فهنا لأول مرة في سياق الوعي الليبرالي المصري، المتحدر من سلامة موسى ولويس عوض، نجد عمليات التحليل للتاريخ الديني في المنطقة؛ وتاريخ الإسلام بصفة خاصة، ولأول مرة يجري اعتبار الإسلام ثورة تمثل استمرارية للنضال الثوري الذي قام به الأنبياء، وبالتالي حدثت انعطافة عن التفكير الليبرالي السابق، الذي وضع الميراث النضالي الديني في سلة التخلف.
لا شك أن هذه الانعطافة المحفوظية تشير إلى الريادة والطليعية اللتين قامت بهما الرواية الواقعية عند محفوظ في الحفر تحت أساسيات الحارة المصرية، ورؤية أنها جزء من تاريخ المنطقة.
كذلك فإن هذه الرؤية استطاعت النفاذ إلى عملية الصراع الاجتماعي الذي خاضته الأديان في بواكيرها ضد الاستغلال، ثم تمكن القوى المستغلة من إعادة الأمور إلى سابق عهدها .
لكن الرواية تعجز عن الإجابة عن أسئلة جوهرية في رؤية مسار هذه الأديان، وتلاوينها وتياراتها وتعبيرها عن مناطق وقوى معقدة، فتقوم بنسخها في «موتيفات» عامة، تجعلها هياكل شاحبة أمام الأصل الحي والغني بالألوان.
وهنا تكشفت طريقة محفوظ الروائية الترميزية التي تضع الأفكار فوق هياكل عظمية من الشخوص، حيث يقوم وعي |لقارىء بالمقارنة المستمرة بين الأصل والنسخة المحفوظية لتاريخ الأديان.
من جهة أخرى، تبين هذه الرواية دور المرجعية الغربية التحديثية ودورها المركزي في وعي نجيب محفوظ، فسلسلة الأديان تنتهي بـ«عرفة» الذي يرمز لدور العلم وتغلبه على دور الأديان، واعتباره البديل الحديث عنها، ولكنه لا يقوم بتغيير الحارة عبر الكفاح السلمي بل عبر العنف والديناميت، وهو ما يشير كذلك إلى ارتباط عرفة بالماركسية، وقيامها بالتغيير عبر الصراع المسلح ضد الأنظمة القديمة، لكن عرفة يخلي السبيل إلى رمز علمي وثوري آخر يعقد التصالح مع الميراث الديني ويقوم بالنضال السلمي؛ وهو ما يشير إلى نزعة الديمقراطية الاشتراكية التي انتهى إليها نجيب محفوظ وتياره الفكري التنويري في مصر، أي تيار سلامة موسى ولويس عوض. وهو تيار بقي ثقافياً نادراً في وسط تيارات الشمولية الاستبدادية العنيفة المنتشرة.
ولكن محفوظا تجاوز التيار «الفرعوني» العازل لتاريخ مصر عن المنطقة، رابطاً الأخيرة بتطور الفكر في العالم، مما يشير إلى تجاوز الرواية الواقعية المحفوظية الدوائر المغلقة الوطنية والإقليمية الضيقة، وإذا كان ذلك قد جرى بتخطيطية روائية ترميزية، إلا أن أسلوب الرواية النوعي، القائم على العرض المشوق، ولغة البساطة، قد جعل من التجاوز المحفوظي الفكري حدثاً واسع النطاق، مما فتح للوعي التنويري والنهضوي إمكانيات تجاوز التناقضات الفكرية المطلقة القائمة بين الأديان والحداثة، بين الماضي والمستقبل.
وهكذا فإن هذا التجاوز الذي تم بادوات الرواية، سوف يتشكل فى دوائر الوعي الأخرى عبر أدواتها الخاصة، وسيقوم مفكرون آخرون بوضع الحارة ليس كجسم جغرافي فقط، بل ايضاً كجسم تاريخي مركب، متعدد الحارات عبر المناطق والمراحل والقوى الاجتماعية، وعبر التراكم والتقاطع الفكريين، أي سيتحول إلى بحث اجتماعي وثقافي ولغوي واسع الاجتهادات.
لكن تبقى الخلاصة المحفوظية، هذا الحدس الفني العميق، عملية رائدة في تاريخ الوعي في المنطقة، وقد حاول عبر «أولاد حارتنا» أن يستعيد بساطة وحيوية وعظمة الكتب الدينية؛ التي يتجلى فيها الأسلوب السهل والعميق وذو الآثار التاريخية الكبرى.
إن المثقف التنويري عبر نجيب محفوظ وصل إلى الخلاصات الكبرى، ونستطيع أن نعده أحد «أولاد حارتنا» الذي واصل فعل الرسالات العظيمة بنكرانها لذاتها وتضحيتها ودفاعها عن الوقف المسروق ونضالها لتطوير حياة العاملين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انظر للكاتب عبـــــدالله خلــــــــيفة: نجيب محفوظ من الرواية التاريخية إلى الرواية الفلسفية ، 2007
عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تنوير وتحديث نجيب محفوظ
الكاتب والروائي العربي نجيب محفوظ من رواد التنوير القلائل الذين اتخذوا شكل الرواية وسيلة للتفكير العميق في شئون الحياة الاجتماعية المصرية والعربية، وإذا كان قد بدأ في الثلاثينيات كتاباته الفلسفية فسرعان ما تركها مركزاً على العمل الإبداعي؛ بادئاً هذه الحياة بمجموعة من القصص القصيرة (همس الجنون) ثم رواياته التاريخية الثلاث: عبث الأقدار – رادوبيس – كفاح طيبة.
اتخذت الروايات الثلاث تاريخ مصر القديم الفرعوني مادة لها، وكان هذا تعييراً عن المنحى الليبرالي المتجاوز للفترة العربية الإسلامية، باعتبارها فترة التخلف حسب رؤية المنحى الليبرالي التنويري الذي شكله سلامة موسى ولويس عوض، والذي كان نجيب محفوظ قريباً من نفسه الفكري، فيلاحظ في الثلاثية، الرواية الكبرى في عمل محفوظ، تخصيصه لسلامة موسى فصلاً، وذلك حين يلتقي كمال عبدالجواد، بطل الرواية المثقف والباحث عن الحقيقة، رئيس تحرير مجلة كانت تعني إحدى المطبوعات التي أصدرها سلامة موسى.
وكان صوت التنويرية العلمانية (المتغربة) قد تردد بشكل متقطع في العديد من الشخصيات الثانوية، على سبيل المثال في (خان الخليلي) حيث المثقف الذي يردد أسماء ماركس وفرويد ودارون..
كانت هذه التنويرية الليبرالية تنمو في أعمال نجيب محفوظ بصورة دائبة، وتعبر الروايات التاريخية الثلاث سابقة الذكر، عن المنحى الوطني المصري الذي تشكل في بدء القرن، حيث مصر هي شخصية تاريخية قائمة بذاتها، وليس جزءاً من المحيط العربي، وهي تطمح عبر فئاتها الوسطى النامية إلى الالتحاق بالضفاف الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، ومغادرة عالم التخلف بتاريخها الثر، وقد ربطت الفئات الوسطى هذه العملية الانتقالية بالتحرر من الاستعمار البريطاني والسراي الملكي التركي، والعائلات التركية والشركسية الإقطاعية.
لكن القوى الإقطاعية المختلفة: السلطة البريطانية والملكية والإقطاع الديني، قاومت الفئات الوسطى الليبرالية وحزب الوفد
وتجليات الحداثة المتنوعة. وروايات نجيب محفوظ هي لوحة واسعة لهذا الصراع الذي خاضته هذه الفئات من أجل التحديث والوصول للسلطة وبرجزة المجتمع المصري التقليدي.
ولهذا نستطيع أن نقسم أدب محفوظ إلى ثلاث مراحل، المرحلة الأولى هي مرحلة الثورة والصعود، والمرحلة الثانية هي مرحلة الهزيمة والانكفاء، التي ترافقت مع مجيء ثورة 23 يوليو، والمرحلة الثالثة هي مرحلة العودة للحلم.
ومن هنا كانت الروايات التاريخية هي بداية هذا الصعود لصوت الفئات الوسطى المصرية لتشكيل عالمها، ولكن نجيب محفوظ باتخاذه مادة تاريخية من التاريخ القديم، كان يشكل تضاد؛ مع حلمه وتجسيداته، فهذا التاريخ الفرعوني يكاد يخلو من وجود فئات وسطى مستقلة عن الهيمنة الفرعونية الاستبدادية، ولهذا فإن محفوظ أضفى صفات وطنية وإنسانية على الحكام الفراعنة.
أن إضفاء نجيب محفوظ صفات الوحدة الوطنية الصلبة على جسم المجتمع المصري القديم, وجعل الحكام الفراعنة ملتحمين بالناس, وبتصويره عدم وجود تناقضات داخلية في جسم هذا المجتمع, كان يضفى طابعاً رومانسياً على التاريخ الوطنى, كصدى للعملية السياسية الجارية في وقته.
كذلك كان يقوم بعملية نقد للجسم الإقطاعى الذي تكدس فوق الجسد الوطنى المصري على مر التاريخ, سواء بتجاهله للتاريخ العربى, أم بنقده للسيطرة البريطانية التركية على مصر.
ولكن هذا النقد تم بلبس الملابس التاريخية, وهنا كانت الأدوات الفنية تنمو بالتداخل والصراع والتعاون مع الرؤية التي كانت في غبش الظهور والتشكل.
ولهذا جاءت مرحلة الرواية الاجتماعية المعاصرة، أي حين تم ترك الموضوعات التاريخية القديمة، وبدأ بتحليل المجتمع المعاصر. وهذه المرحلة هى التى استمرت طوال تاريخه الفنى إلا من عودة وامضة للتاريخ الفرعوني مرة أخرى.
وقد بدأت المرحلة الاجتماعية بشخصيات مركزية من الفئات الوسطى، وهى بؤرة الفاعلية الكفاحية لهذا المجتمع وللطبقة الوسطى التى هى في سيرورة الممكن، وليس التشكل الناجز, وإلا ما كان هذا الأدب.
ومن هنا كانت عمليات تحليل هذه الفئات ونقدها لتقوم مهمتها التاريخية في تشكيل مجتمع الحداثة, لتكون (طبقة) طليعية, فإذا تتبعنا روايات مثل: القاهرة الجديدة، وزقاق المدق، وبداية ونهاية، فسنجد عرض الشخوص السلبية والإيجابية بين هذه الفئات المضطربة في توجهاتها, التى تقع الشخصية السلبية في بؤرة العرض الفنى فيها , وهى التى يتوجه العرض لتحليلها وتبيان فشل طريقها, كما حدث لمحجوب عبدالدايم في القاهرة الجديدة الذي كان تجسيداً للانتهازية الفاقعة في بيع ذاته
للوصول إلى الثروة والمناصب, والذي أسس لنفسه مبادئ عدمية هى تعبير عن الالتحاق بالإقطاع الحاكم المخرب للذمم والنفوس, وعدم شق طريق نهضوي تترافق فيه الكرامة بالحرية والديمقراطية.
وإذ يُعطى نجيب محفوظ أطيافاً من شخصيات مرافقة للبطل المركزي, غالباً ما تعكس أطياف التيارات في الفئات الوسطى, فإنه لا يقوم بتحليلها, بل يجعلها كمرايا تبين الجوانب المضادة عند الشخصية الرئيسية.
فحميدة في زقاق المدق هي الانتهازية والذاتية المريضة التى تبيع جسمها هذه المرة للوصول إلى حياة مرفهة, حتى لو كانت بين أحضان الجنود الإنجليز وقواديهم.
لكن الطريق الكفاحى الشعبى يتجسد فى عباس الحلو, الحلاق البسيط الذي يريد ان يتزوج حميدة, ورغم سطحية الترميز هنا بين حميدة ومصر, وعباس والمستقبل, فإن محفوظا لا يقوم بالتحليلات المعمقة في الصراع الاجتماعى, أي لا يرينا كيف يمكن أن يتطور عباس هذه الشخصية الشعبية ليصبح رمزاً نضالياً, فيعتمد هنا على الخطوط الاجتماعية العامة المنمطة والشخوص.
وهذه العملية تعبر عن نظرة محفوظ المنبثقة من الفئات الوسطى التى ترى ذاتها مركز الفعل, في حين أن الشعب والقوى الفقيرة تظل مادة للفعل القادم من الخارج.
وهذا ما نراه أيضاً في (بداية ونهاية) حيث العائلة التى مثل الفئات الوسطى, واتجاهاتها الاجتماعية المحدودة هذه المرة, ولكن الفئات الوسطى هنا تدخل طور أزمة شديدة, حيث موت الأب يعنى شبه انهيار للعائلة, التي تجد نفسها أمام سبل الخيارات الاجتماعية, بين موقف انتهازي تسلقى يمثله الأخ الأصغر الذي يصبح ضابطا, وبين موقف الأخ الأوسط الذي يواصل سيرة عباس الحلو وسيرة الكدح الصابر المتواضع النبيل.
لكن اتجاه الانتهازية والرخص والغرور المتمثل في الأخ الضابط وأخته نفيسة التى تبيع جسمها, يقوم بتدمير العائلة مجدداً.
أن هذه الروايات المتعددة التى استغرق نجيب محفوظ في كتابتها عشرين سنة تبين عملية التفكير الفنى المتواصل في مادة الحياة, الذي بدأ بنسج العلاقة بين فكر التنوير والناس, حيث لا يصبح الشعب مادة مجردة بل شخصيات حية, وصراعات اجتماعية, فكيف يحدث التقدم وكيف تنتصر إرادة التغيير لديه؟
يُلاحظ في هذه المادة الروائية الاجتماعية التصاقها بمادة ملموسة وبحيثيات حياتية اجتماعية, أكثر منها مادةً سياسية وفكرية, فالاتجاهات السياسية والفكرية لا تظهر, إلا كأصداء بعيدة خافتة.
لكنننا نستطيع أن نرى مادة الوعى المتنور في تصوير العلاقات المتضادة بين الشخوص, و في الانهيارات المستمرة في الوعى الانتهازي, وفي تصعيد نماذج الإنسان البسيط من هذه الفئات الوسطى كنموذج للعمل والتضحية والصمود.
أن محفوظا لا يحشر الأسئلة الكبرى الفكرية والفلسفية في هذه النماذج, ولكن هذه الأسئلة غائرة في عملها وموقفها المجسد, كذلك فإن التيارات تحصل على رموزها من الشخوص العرضية غالباً, فالرمزان الدينى والتقدمى باطيافهما, هما منتشران دون أن يكون لهما حضور حقيقى. فقط النموذج المركزي القادم من الفئات الوسطى وهو أمل تكون الحداثة, هو الذي يحاور الشعب سلباً أم إيجاباً, ويحاوره عبر الأمثولة التي يقدمها وليس بالعلاقة النضالية معه.
عبرت ثلاثية نجيب محفوظ وهي (بين القصرين؛ وقصر الشوق، والسكرية)، عن التطبيق الملحمي الواسع للعناصر الفنية والفكرية السابقة الذكر.
فمحفوظ يعرض الفئات الوسطى، بل يختار عائلة كاملة هي عائلة تاجر متوسط، ليعرض نماذجها وعلاقاتها الاجتماعية والسياسية والفكرية. وهناك التمثل الرمزي الذي غالباً ما يشكله الكاتب بين مادته الفنية، والتطورين الاجتماعي والسياسي، فهذه العائلة تعبر عن حالة البلد في خلال نصف قرن من التطور، وكما تتعرض السلطة الدكتاتورية للاهتزاز والضعف الشديد، كذلك فإن سلطة احمد عبدالجواد الأب في هذه العائلة، تتعرض هي الأخرى للضعف وبداية الهزيمة.
إن محفوظ هنا استطاع أن يجسد النظام الإقطاعي بمستوياته المتعددة، السياسية في النظام الملكي وفي الأرستقراطية، وفي الهيمنة الذكورية الاستبدادية المتجسدة في تسلط الأب، وتدهور أوضاع المرأة، وهيمنة المفاهيم الفكرية المتخلفة.
إذن فإن الإقطاع بمستوييه السياسي والاجتماعي في طريق الأفول.
يقيّم محفوظ الشخصيات والأحداث التاريخية ليس من خلال عرضها والدخول فيها، بل من خلال انعكاساتها على العائلة المحورية، فهكذا يظهر التاريخ دائماً خارج العائلة، لكنها تتأثر بأحداثه، وإذا كان فهمي الابن المسيس للأب، يغدو شهيداً
ورمزاً للكفاح الوطني، فإن العائلة لا تشارك في صنع التاريخ، وهنا فنحن أمام عائلة من الفئات الوسطى، يغمرها التاريخ شيئاً فشيئاً، حيث تتفكك علاقاتها الإقطاعية وتتسرب إليها المفاهيم والعلاقات الحديثة. لكن العلاقات القديمة لا تزول، والعلاقات الحديثة لا تنتصر كلياً. فالمسألة ماخوذة على أساس النضال الوطني الديمقراطي العام الذي نسمع به أو نراه أحياناً، ولكنه ليس سوى أحد روافد الرواية.
ومحفوظ في هذه الرواية متفائل بفاعلية العلاقات الحديثة المتوغلة بقوة في البناء الاجتماعي، ويتضح هذا من تغير ظروف المرأة ومواقفها، وبروز نموذج. تقدمي فيها، لكنه أيضاً لا يغفل صعود التيارات الدينية كذلك.
أما ما يمثل بؤرة الرواية فهو الشخصية المثقفة المتنورة المحورية: كمال عبدالجواد، هذه الشخصية التي هي ابن الدكتاتور العائلي، أحمد عبدالجواد، ولكنها هي النقيض الذي ينمو، وهي رمز الفئات الوسطى الحائرة المتذبذبة في تشكيل مجتمع الحداثة.
إننا نشهد في الرواية تتبع طفولة هذه الشخصية، وشبابها وبدء كهولتها، وكيف تتزعزع عملية اعتقادها بالأطر الدينية التقليدية، مشرئبة إلى الأفكار والنظريات الحديثة، ودون معالجة نقدية وجدلية بالإرث الإسلامي المسيحي، بل عبر الانقطاع عنهما، ولكن عبر حيرة طويلة.
ويتوجه كمال عبدالجواد لحب عايدة، النموذج الأرستقراطي، وهي العلاقة الرمزية المباشرة، للعلاقة بين الفئات الوسطى والأرستقراطية، والتطلع إلى الذوبان فيها، واعتبارها هي الحل بديلاً عن تكوين الفئات الوسطى شخصيتها المستقلة وتحولها إلى قوة اجتماعية مهيمنة، ولكن هذا التطلع يفشل لأن عايدة تتوجه لابن طبقتها.
وبعد سنوات يشارك كمال في جنازة دون أن يعرف الميت، فيتضح أن الميت هو عايدة نفسها. لقد ماتت الأرستقراطية كأفق
شخصي لكمال وللفئات الوسطى. وهي نبوءة متسرعة من نجيب محفوظ .
وتتحول أخت عايدة الصغيرة بعد أن تهاوت مكانة أسرة عايدة الاجتماعية، وصارت جزءاً من الفئات الوسطى، إلى مهوى جديد لعاطفة كمال ولكن فرق السن يحول دون ذلك.
ويتضح في كمال الجانب الفكري والرمزي لمخاض الطبقة الوسطى كحاملة للنظام الجديد، ولكن هذا المخاض لا يبدو داخلياً إلا على شكل فكري بعيد الصلة عن تحليل الواقع والإرث الفكري والاجتماعي الديني، حيث إن الكاتب نفسه لا تتمثل لديه الحداثة إلا عبر (التغرب) أي باستيراد الموديل الغربي الجاهز، وليس من خلال إنتاج الحداثة بالصراع في بنية اجتماعية مصرية، لها مستوياتها الاقتصادية والاجتماعية والإيديولوجية.
كذلك يغدو مخاض كمال التأملي والنخبوي، وهو منهج نجيب محفوظ نفسه، نائياً عن تحليل الصراعات الاجتماعية والمشاركة بها، مما يقود على مستوى مصائر البنية الاجتماعية إلى التفاؤل بالتقدم الحثيث للفئات الوسطى لاستلام زمام
التاريخ المصري.
إن أسرة أحمد عبدالجواد التي تتسع بالمصاهرة تنتج شخصيات تنتمي إلى تيارات دينية (الإخوان) وتيارات تقدمية (الماركسيون)، ومن الملاحظ ان محفوظ يجعل هذين التيارين ينبثقان من العائلة، التي تشير رمزياً للمجتمع والناس
عموماً، ولكنها تشير كذلك إلى الطبقة الوسطى. والرؤية المحفوظية تطابق بينهما.
وقيام عائلة أحمد عبدالجواد بإفراز هذين التيارين الشموليين من داخلها الواعد بالديمقراطية والحداثة، بدلاً من أن يصبح كمال عبدالجواد هو النموذج، مما يعبر عن الأزمة الاجتماعية المتصاعدة، وعدم قدرة تيار الفئات الوسطى الليبرالى على تقديم المظلة الفكرية التي تستظل التيارات الأخرى تحتها، فلا يملك تصوراً ديمقراطياً عن الإسلام يسحب البساط من تحت أقدام التيار الديني الشمولي، ولا يستطيع تقديم الإصلاحات الواسعة لجذب الفلاحين والعمال إلى صفوفه.
وهذا يتبلور في نهج حزب الوفد وتأملية كمال عبدالجواد سواء بسواء.
تنويرية نجيب محفوظ الديمقراطية الحداثية تتحول على مستوى الفن إلى ترميز فكري – اجتماعي، وهذا الترميز يتحول في نهاية المرحلة إلى قالب. وبين حيوية الترميز وامتلائه بالمادة الحياتية، وبين تيبسه وتحوله إلى هيكل عظمي، يقع مشوار محفوظ الأكثر خصوبة .
ونحن إن نركز هنا على التنوير وجذوره ودلالاته السياسية، لا بد لنا من رؤية الترميز وخطوطه العريضة. فكما رأينا صاغ محفوظ بنيته الفنية على أساس تطوير فاعلية الفئات الوسطى للتحول إلى قوة تغيير للمجتمع التقليدي، وعبر شخوص تصارع قيماً متضادة، فهناك الوطن أوالاحتلال، الحداثة أو التخلف، العلم أو الدين، الحرية أو الاستبداد.. الخ.
وقد شكل الوعي العربي التحديثي بناءه على شكل متضادات شبه مطلقة كالسابقة، أي عدم قدرته على التضفير العميق بينها، وهذا الوعي الذي استظلت به بنية محفوظ الفنية، ولكن هذه الرموز لم تنفصل عن البناء الاجتماعي، فكمال الذي يرمز للوطن الحديث المتشكل تقابله عايدة التي ترمز للأرستقراطية الآفلة، ولكن الترميز لا يخلو هنا من شحنات شخصية واجتماعية ملموسة تكاد تغيب الرمز.
وهكذا يؤسس محفوظ رؤيته للتيارات ونموها وصراعها على شكل شخوص متضادة، وكانت لديه مشروعات روائية قبل ثورة 23 يوليو 41952 لكنه توقف عنها وبدأ مسيرة فنية مختلفة.
إن انتكاسة مشروع محفوظ هنا يعود لأن التحليل الذي اعتمد عليه في رؤية تطور المجتمع المصري من خلال الثلاثية، والتي كانت آخر عمل في السلسلة السابقة، ثبت خطأه، وأن انتصار الطريق الليبرالي الديمقراطي، وصعود البرجوازية كطبقة تعيد تشكيل النظام التقليدي، لم يتحقق بل لقد وثبت التيارات الشمولية من الفئات الوسطى نفسها الى السلطة وشكلت مساراً شمولياً ووطنياً وأطاحت بالتراكم الليبرالي والديمقراطي السابق.
هذا ما يمكن أن يبعث على الحيرة و الاضطراب الفكري والفني عبر المسار التفاؤلى المحفوظي السابق ذكره. إن تناقضات الفئات الوسطى برزت على السطح التاريخي، وانفجرت التناقضات الداخلية في عائلة السيد أحمد عبدالجواد. وكانت أزمة مارس 1954 هي ذروة الصراع, وحسم فريق العسكر الوطني الشمولي المعركة لصالحه.
فماذا يفعل الروائى الليبرالى النهضوي من الرعيل الأول، هل يتخلى عن مساره وينضم للطبالين الكثيرين أم يواصل الحفر لرؤيته بأدوات تعبيرية مختلفة؟
إن تطابق سنوات أزمة الخيار السياسي لمصر وتوقف محفوظ عن الكتابة يشير إلى البحث عن اًسلوب جديد لتجسيد المعاني القديمة، ولهذا فإن الأسلوب الملحمي النقدي الواسع للثلاثية، الذي يظفر بين التشخيص الكبير والترميز، والذي يحوي صراع الطبقات بشكل مكشوف، هذا الأسلوب لا بد أن يتبدل علي ضوء المرحلة العسكرية التي لم تكتف ببوليسها الواسع ورقابتها بل بجمهورها العاطفي الهائج.
فإذن كان الاختمار المحفوظي من أجل إذكاء الأدوات التعبيرية الديمقراطية في زمن دكتاتوري، ولهذا تبدل التحليل الواسع والنفس الملحمي، نحو ضمور الروح الملحمية والتحليلية الواسعة، إلي الكثافة التعبيرية واتساع الرمز، ومع تبدل الموضوعات وبقاء البنية الترمزية الاجتماعية السابقة، بنية التحديث والديمقراطية.
يواصل نجيب محفوظ نقد النظام الوطني الاستبدادي عبر طرق فنية طورت أسلوبه التعبيري.
في روايات مثل (اللص والكلاب) و(السمان والخريف) و(الطريق).. الخ. نجد هذه الكثافة والرموز المتغلغلة في بنية الحدث وفي الشخوص. ففي اللص والكلاب, نرى سعيد مهران اللص يهاجم معلمه المثقف السابق رؤوف علوان الذي صار قطباً في القوى الصاعدة, وكما رأينا فالبنية الرمزية الاجتماعية هنا تشير إلى كون الطبقات الفقيرة التي زعم رؤوف علوان النضال من أجلها, لا تزال مضطهدة ومسروقة, ولكنها الآن تُسرق من قبل رؤوف علوان, وبقية (الكلاب).
وكل الرواية الخادعة للبوليس الشمولي تتركز في الصراع بين سعيد مهران ورؤوف علوان في الحقيقة, والذي موهه محفوظ بأشكال عدة من الكلاب, ولكن الصراع بين اللص الشريف والحرامية الجدد غير الشرفاء هو لب الرواية.
ففي الوقت الذي تحاول الطبقات الفقيرة فيه الحصول على الثروة بنفس الأسلوب الذي اتبعته تلك القوى التي وثبت إلى السلطة, فإنها تُسجن وتقتل.
ولهذا فإن الذين وثبوا للسلطة بأساليب العنف والتضليل الإعلامي يقاومون سعيد مهران الذي يلجأ إلى أساليب العنف أيضاً ولكن من أجل الحق.
أن محفوط هنا في سبيل انتقاد السلطة الشمولية يلجأ إلى حيثية حقيقية متمثلة في قصة السفاح الشهيرة, ويقود منولوج البطل سعيد مهران في كشف تختلف أنواع الكلاب, الذين خانوا صيغة التعايش الزوجية السابقة, ( عليش ونبوية), والجدد.
وتعبر رواية (السمان والخريف) عن هذه الثيمة الرمزية بشكل أوضح وأكثر اتساقاً, فبطل الرواية تحيله حكومة الثورة العسكرية إلى التقاعد السياسي, مثلما تحل حزبه الوفد.
وتكشف فصول الرواية كيف ان الفئات الوسطى تتصارع على السلطة بشكل محموم, والتي يعبر عنها محفوظ عادة بالترميز فخطيبة عيسى البطل الوفدي, تتخلى عنه وترتبط بنافسه العائلي الذي يصعد في السلطة الجديدة.
ويتشرد عيسى ويحل زمن الخريف عليه ويذهب إلى الاسكندرية حيث يلتقي امرأة بسيطة ويعاشرها وحين تحمل منه يطردها. وفيما بعد يكتشف ان طفلتها تحمل ملامحه الجسدية بشكل مدهش.
وقـد عبر ت هـذه العلاقة عن العلاقة الترميزية بين قوى الليبرالية الديمقراطية والناس, حيث التخاطب غير قانوني والثمرة محرمة, والرمز الطليعى يعيش زمن الخريف بين التحلل والنضال.
تكشف هذه الرواية استمرار البنية الرمزية الاجتماعية وقد ضمر جانبها التحليلي الاجتماعي, وتمركُز الطليعية في نموذج وحيد مفصول عن الجماهير, ومتقوقع في ذاته, مما يؤثر في بنية السرد والشخوص, فتلجأ إلى الشعرية اللغوية والتأملات الداخلية المفصولة عن وهج الصراع الاجتماعي.
وهذا ما يمكن متابعته في (الشحاذ) ايضاً, حيث عمر الحمزاوي يكتشف أن استمراره في وظيفة المحاماة الناجحة التي أغنته مالياً, قد أفقرته روحياً, لغياب أي قضية عنده, ولا يوضح محفوظ الأسباب المباشرة لغياب الانتماء والخصوبة الداخلية, بل يدع بطله يهجر هذه الحياة البرجوازية غير المشكّلة للطبقة الطليعية لمجتمع الحداثة, و في غيابات وهجرات معاكسة لما ينبغي أن يكون, كالاتجاه نحو اللذائذ الجنسية المتنوعة والواسعة, والتي تتكشف عن خواء, وكذلك الاتجاه المعاكس أي الاتجاه نحو التصوف وترك اللذة والحس كلياً, مما يقوده إلى الغيبوبة والهذيان وشبه الجنون.
في حين ان زميله النضالي الذي خرج من سجن النظام العسكري يواصل الكفاح ويتزوج ابنة عمر, في تعبير تزاوجي آخر عن الخصوبة السياسية والفكرية, ولكن في النهاية يتم مهاجمة هذا المناضل الذي لجأ إلى قريبه عمر في عزلته, تعبيراً عن كون النظام الشمولي تتوحد مصائر الهاربين والمنتمين في قبضته.
في رواية (الطريق) يواصل نفس الرؤية بثيمات أخرى, ولكنه في رواية (ميرامار) التي تدور في بنسيون صغير, يواجه مباشرة النظام عبر تناقضات اجتماعية صارخة من شخوص تمثل عمليات التفسخ التي تنتهي إلى الجريمة.
ويُلاحظ أن محفوظ لم يصور النظام الوطني بأي إيجابية لافتة, فلم تعبر ريشته عمليات البناء الضخمة الجارية, مركزاً على غياب الحرية السياسية, وهذا يعود لمنهجه الفني الفكري ذي التضادات المطلقة والذي لا يظفر بينها بتكوين اجتماعي حقيقي.
تحتاج هذه الحلقات التي تدخل ربما في لب عمل نجيب محفوظ المتواري كثيراً عن النقاد الذين يسحبونه نحو ايديولوجياتهم أكثر مما يفسرون نصوصه, إلى وقفة أخرى.
تحديث نجيب محفوظ
يرى نجيب محفوظ التيارات الفكرية وتاريخ المنطقة الديني من خلال الحارة المصرية، فهي المستودع الذي تعيش فيه تمثلات الفلسفة العالمية وانعكاساتها وحكايات الأنبياء وأصداء صراعات العالم.
ولهذا فتاريخ العرب وحضارتهم لا تتشكل عبر أعمال خاصة، بل هى موجودة كأصداء فى شخوص الحارة حين تظهر نماذج الدينيين. وقد سبق لمحفوظ أن ساير السينما المصرية في تصور العرب باعتبارهم البدو الذين يعيشون في صحراء سيناء، كما فعل في الفيلم الشهير الذي أعده كسيناريو للسينما باسم (عنترة وعبلة) في أواخر الأربعينيات، وهكذا كانت قبائل الجاهلية تتكلم باللهجة البدوية لعرب سيناء!
ومن هنا كانت رموز التراث التي تظهر لأبطال الحارة أثناء صراعاتهم الداخلية والعامة كما جرى الأمر في رواية (ثرثرة فوق النيل)، فهي رموز من التراث الفرعوني، الذي هو باعث للهمة وللنهوض (القومي). وفي الوعي المصري الليبرالي كان التفريق بين الوطني والقومي غير واضح.
إن رواية (ثرثرة..) تواصل خط الرواية الفلسفية الذي اتبعه محفوظ، وبطلها الرئيسي هو إنسان مسطول (أنيس زكي)، ويعيش مع شلته فوق ظهر عوامة على النيل، وهي رموز واضحة لمصر أو للقاهرة على وجه الخصوص، ولكن اختيار بطل مسطول ولديه ماض وطني مقموع أو مغيب، هو شكل التجلي للرؤية الليبرالية المقموعة في العهد الناصري، والتي تبحث عن انثيالاتها وتداعياتها من خلال مونولوج البطل المسطول وجماعته من المدمنين السكارى
الغارقين في المتع والنشوات و(الأنس).
وفى حين كان الخارج يتحدث عن معارك ( الاشتراكية) والتأميم، وإزالة الطبقات وضرورة تطوير الوعي، كان الأمر في العوامة يجري على نقيض ذلك، حيث كان تغييب الوعي وسحقه، والانقطاع عن معارك الخارج كليةً.
بل إن الخارج نفسه كان متناقضاً ففي حين يتم الحديث عن فوارق الطبقات كانت الطرقات تكتظ بالسيارات الخاصة، ص72.
فلماذا كان هذا التباين الشديد بين الخارج والداخل، بين ما يجري في الدولة وما يجري في العوامة (مصر) ؟ ما الذي يوحد (الاشتراكية) بالحشيش ؟!
ان البطل المركزي الذي تجري الرواية حول تداعياته هو موظف عتيق، يشبه فى عمره ووظيفته الكاتب محفوظ نفسه، ولكنه لا يكاد يفيق من إدمانة سواء في العوامة أم خارجها، وتجري الانثيالات في أحيان عديدة حول الماضي وأمجاده، في حين ان الحاضر هو كابوس!
كابوسية الحاضر تتجلى في الشخوص التي تحضر العوامة وتمارس طقوس الغياب والفرح الفارغ، وهي شخصيات طفح بها واقع العوامة المصرية في ظل الدكتاتورية الوطنية العسكرية، فهي نماذج من الكتاب والصحفيين والفنانين والفنانات المتسلقين والانتهازيين، الذين خلوا من أي فكر أو فن عميق، حيث يمارسون ترديد الشعارات عن الاشتراكية والتقدم في الخارج، ويمارسون تذويب ما بقي من شخصياتهم في دخان الحشيش، وقد غدت العوامة غرزة من الغرز؛ وكأن مصر قد منع فيها التفكير وانطفأت جذوة الوعي والحوار.
إن النقد العميق للشمولية، والذي يجري من جهة السلب فقط؛ والذي يقارن بعهد الحريات الفكرية السابق الغائب في ومضات لا تكاد تُسمع في هذيان البطل، أو بعهد النهضة الفرعونية، ان هذا التقد يتخفى ويتوارى كثيراً، فهو الصوت الديمقراطي الروائي شبه الوحيد في علم الصحافة الرسمية الجماهيرية (حيث تُنشر الرواية على حلقات في جريدة الأهرام: المتحدث الرسمي بلسان الانقلابيين العسكريين).
إن عدم رؤية نجيب محفوظ أي جانب إيجابي في ثورة يوليو52؛ هو بطبيعة الحال عملية ناتجة من المنهج الفني التجريدي العام، الذي يقولب التجربة الإنسانية في قوالب رمزية متضادة، أي ليس هو منهج تحليلي فني يغوص في تضادات التجربة الملموسة، بل هو يسقط عليها آليات وعيه الليبرالية في تضاداتها المطلقة فهناك: اما حرية وإما استبداد، اما ديمقراطية وإما دكتاتورية، اما تقدم وإما تخلف الخ، أي لا يرى ان هذه التضادات ليست مطلقة، بل متداخلة، وان الإيجابي والسلبي في كيان واحد متصارع، وان مصر ليست عوامة فقط بل مصنع وسد ومعارك، تقدم وفساد… الخ.
ولهذا نرى البطل المحوري ذا الماضي الوطني، وهو صدى سوف يتكرر بشكل عام، ينسحب كلية من الصراع، ويتلاشى وعيه في سحابة كثيفة من المخدر.
لكن ليس هذا التصوير السلبي مطلقاً، فشخصية صحفية شابة ناقدة وواعية ( سمارة بهجت )، تتغلغل في هذه العوامة وتفضح رموزها، ولكن الفضح يتجه لكي يستعيدوا وعيهم ويناضلوا، ولكن بأي اتجاه؟
بالضد من هذه الشخصيات السلبية والفاقدة للوعي، هناك حارس العوامة (عم عبدة)، تلك الشخصية الشعبية المتوارية واللغز، التي تمسك بيديها حبال هذه العوامة وتستطيع أن تدعها تغرق في النيل، وهى رمز لشخصية الشعب، وجذوره المصرية القديمة، ولتنوع هذا الشعب وعمره المديد وتضاداته الأخلاقية وصبره ونضاله اليومي الصبور الدؤوب، بعكس فئات وسطى عديدة ثقافية غارقة في التفاهة.
وفي هذه الرواية الساخرة الناقدة هناك عشرات من الموتيفات التي ترجع لتاريخ مصر القديمة، وكلها تنثال من خلال لا وعي الحشاش الأكبر أنيس زكي، فيجمع محفوظ النقد المرير بالضحك
والفرجة، وهي تقنية شديدة المكر.
لهذا فإن شخصية الدكتاتور هي الحاضرة كثيراً في تداعيات أنيس زكي، وهو شخصية مثقفة مولعة بالتاريخ، ولهذا فلا تناقض بين عمليات استرجاعها لشخصيات وكلمات مثل نيرون والفاشية والفرعون الطاغية.
يقول فى أحد السطور: إنه لم يكن عجيباً أن يعبد المصريون فرعون ولكن العجيب أن فرعون آمن بأنه اله، ص23 .
ويواصل نقد التجربة:
(كل قلم يكتب عن الاشتراكية على حين تحلم أكثرية الكاتبين بالاقتناء والإثراء وليالي الأنس في المعمورة. .)،56.
ويبكي فرعون وهو في أسر قمبيز الفارسي الغازي قائلاً عن أحد جنوده: هذا الرجل! طالما شهدته وهو في أوج أبهته فعز عليّ أن أراه وهو يرسف في الأغلال!
وياتى البديل على شكل ساخر بأن يقوم هؤلاء الحشاشون بتنظيم أنفسهم وكيف يحققون الاشتراكية على أسس شعبية ديمقراطية لا زيف فيها ولا قهر..، ص 100.
ويوجه محفوظ خطاباً غير مباشر في الرواية إلى جمال عبدالناصر حيث يقول على لسان حكيم مصري قديم:
(ما هذا الذي حدث في مصر/ إن النيل لا يزال يأتي بفيضانه / إن من كان يملك أضحى الآن من الأثرياء) ثم تأتي الرسالة:
(لديك الحكمة والبصيرة والعدالة/ ولكنك تترك الفساد ينهش البلاد/ انظر كيف تمتهن أوامرك / وهل لك أن تأمر حتى يأتيك من يحدثك بالحقيقة ؟) ص 126.
ويتضح المنهج الترميزي التجريدي في تصويره للشعب من خلال نموذج بواب العوامة، فوضع الشعب داخل قالب شخصية متفردة، مهما كانت عملقتها، لا يستطيع أن يكشف دورها الحقيقي وتناقضاتها وتراكم الوعي والمواقف فيها.
ولكن هكذا كان الشعب لدى محفوظ خلفية لمواقف الفئات الوسطى، حيث تكمن القيادة لديها.
إن الرواية التي انعكس فيها تاريخ المنطقة الديني هي رواية (أولاد حارتنا)، وهي الرواية التي أثارت الضجة، وكما نرى فإن وجود كلمة حارتنا، يشير إلى أن هذا التمثُل المستمر للواقع أو للتاريخ الديني والفكري، عبر الحارة وموتيفاتها وأجوائها. وهو أمر سيكرره محفوظ أيضاً في روايته (الحرافيش).
وموتيفات الحارة الشعبية كمهنها وأوقافها ومقابرها… الخ، هي عملية تحليل طبقية أخذ محفوظ يشكلها بدءاً من رواية (زقاق المدق)، ونظراً لتركيزه على الفئات الوسطى، التي لها دور محوري قيادي يعكس الرؤية الليبرالية التى يؤمن بها، فقد جعل هذه الفئات فى مقدمة المشهد الروائي، وتمثل خياراتها الأخلاقية والفكرية جوهر الصراع الروائي.
لكن العملية الروائية بتوسعها المستمر لتحليل أزمة هذه الفئات الوسطى، وعجزها عن إعادة تشكيل المجتمع المتخلف باتجاه الحداثة والتقدم، كان لا بد للكاتب من البحث عن سر فشلها، وهنا لا بد من بحث علاقاتها مع الشعب العامل، مادة هذه الفئات الوسطى البشرية، في إعادة تشكيل الحارة المتخلفة، أو عوامة الغياب.
لكن محفوظ نفسه لا يمتلك تجربة في التعامل مع العمال والفلاحين، فى مصانعهم وحقولهم، ولهذا فقد راح يحللهم من خلال شخوصهم التي دخلت الحارة. ولهذا فإن المادة البشرية المتنامية عنهم تأخذ في التوسع والتبدل، لكنهم يظلون كجمهور خلفي، أو كرمز للشعب أو التاريخ القديم، فلا يتدخلون كقوة اجتماعية فاعلة مغيرة لنماذج الفئات الوسطى الحائرة والمتصارعة.
إن اتساع وجودهم نلحظه في الثلاثية بدلاً من الروايات التاريخية التي كان فيها الشعب أشبه بالعدم، ثم يتنامى هذا الحضور في الروايات الكبيرة (الملحمية): أولاد حارتنا، والحرافيش.
ولكن تظهر موتيفات الحارة هنا لكى تعوض غياب التحليل الاجتماعي والاقتصادي في الأعمال السابقة، فتركيز محفوظ على مسألة (الوقف) فى هاتين الروايتين الملحميتين، لا يشير فقط إلى الجذور الاقتصادية للصراع الطبقي، بل أيضاً إلى عملية التضفير بين نضال الفئات الوسطى والجمهور الشعبى، الذي سرقت منه هذه الأوقاف ووضعت في خدمة الأقليات المستمرة في إنتاج وجودها عبر التاريخ.
وتطرح هذه الرواية معضلات التطور في المنطقة بشكل رمزي، وهنا نرى خروج محفوظ من المادة المصرية المحضة، ولكنه جعل تطور الوعي الدينى يمر من خلال عدسة هذه الحارة المصرية، وهكذا فإن المثقفين الذين يظهرون تباعاً: أدهم، وجبل، ورفاعة، وقاسم، وعرفه، يشكلون علاقة نضالية مع سكان الحارة الفقراء، ويقيمون تصحيحاً لوضع (الوقف) الذي احتكرته القلة الظالمة.
ولكن العلاقة التي يقيمونها مع الجمهور هي التي تتيح لبعضهم أن ينتصر، ويسحق (الفتوات)، ولا نعرف أسباب هذه التكرارية في البعث، أي في تكرار ظهور الشخصيات الفاعلة، وفي غياب الإرادة والفعل لدى الجمهور الذي يظل مادةً للفعل التاريخي لشخصيات الفئات الوسطى.
نقول الفئات الوسطى، على الرغم من كون الرواية تقوم بإعادة إنتاج للتاريخ الديني من خلال التمثل المجازي، والقناعي، والرمزي، فهي لا تناقشن فقط التاريخ الديني، بل أيضاً وجود الأديان في الحارة المصرية كذلك.
إن وجود الشخصيات المثقفة الفاعلة يجري في مشهدية الحارة، وبالتالي من أجل تغيير السلطة والإنتاج، الذي يأخذ سمة مجردة هي (الوقف).
والوقف والأحباس هي الأملاك التي تُوضع من قبل السابقين للصرف على الفقراء والمحتاجين، وهي بالتالي لا ترقى كرمز إلى مسألة قوى الأنتاج، بل هي ذاتها ملكيات تشير إلى عالم الملكية الإقطاعية الدينية، الذي هو عقبة أمام تطور العلاقات الاقتصادية الحديثة.
ولكن الرمز هنا يشير إلى الملكية العامة، بشكل مجرد، أي بشكل مُنتزع منه الجذور التاريخية، ليوضع في دورات تاريخية مجردة هي الأخرى، وإن أُلصق بها بعض السمات التاريخية الملموسة، لتعطي الشخصية الفنية مماثلةً خارجية ترميزية للشخصية الحقيقية التاريخية.
وهذه المماثلة الخارجية الترميزية أفقرت الشخصية الفنية، كما قامت بتكرارها، عبر تكرار أنماطها ومعاركها من أجل الوقف نفسه.
إن الوسط وهو الحارة لا يتغير، كما أن أهل الحارة، أي الشعب الذي كان يُفترض فيه تراكم هذه التجربة التاريخية الثرة، لا يتغير ويظل في موقعه التحتي، كمادة طينية تنتظر المثقف الفاعل.
وهكذا فإن هذه الرواية القائمة على التخطيطات الترميزية فقدت المادة الحية، ولعلها أظهرت إشكالية المنهج الفني القائم على التجريدات المطلقة الُمعممّة.
لدينا مجموعة مركبة من الملاحظات حول رواية «أولاد حارتنا»، فهنا لأول مرة في سياق الوعي الليبرالي المصري، المتحدر من سلامة موسى ولويس عوض، نجد عمليات التحليل للتاريخ الديني في المنطقة؛ وتاريخ الإسلام بصفة خاصة، ولأول مرة يجري اعتبار الإسلام ثورة تمثل استمرارية للنضال الثوري الذي قام به الأنبياء، وبالتالي حدثت انعطافة عن التفكير الليبرالي السابق، الذي وضع الميراث النضالي الديني في سلة التخلف.
لا شك أن هذه الانعطافة المحفوظية تشير إلى الريادة والطليعية اللتين قامت بهما الرواية الواقعية عند محفوظ في الحفر تحت أساسيات الحارة المصرية، ورؤية أنها جزء من تاريخ المنطقة.
كذلك فإن هذه الرؤية استطاعت النفاذ إلى عملية الصراع الاجتماعي الذي خاضته الأديان في بواكيرها ضد الاستغلال، ثم تمكن القوى المستغلة من إعادة الأمور إلى سابق عهدها .
لكن الرواية تعجز عن الإجابة عن أسئلة جوهرية في رؤية مسار هذه الأديان، وتلاوينها وتياراتها وتعبيرها عن مناطق وقوى معقدة، فتقوم بنسخها في «موتيفات» عامة، تجعلها هياكل شاحبة أمام الأصل الحي والغني بالألوان.
وهنا تكشفت طريقة محفوظ الروائية الترميزية التي تضع الأفكار فوق هياكل عظمية من الشخوص، حيث يقوم وعي |لقارىء بالمقارنة المستمرة بين الأصل والنسخة المحفوظية لتاريخ الأديان.
من جهة أخرى، تبين هذه الرواية دور المرجعية الغربية التحديثية ودورها المركزي في وعي نجيب محفوظ، فسلسلة الأديان تنتهي بـ«عرفة» الذي يرمز لدور العلم وتغلبه على دور الأديان، واعتباره البديل الحديث عنها، ولكنه لا يقوم بتغيير الحارة عبر الكفاح السلمي بل عبر العنف والديناميت، وهو ما يشير كذلك إلى ارتباط عرفة بالماركسية، وقيامها بالتغيير عبر الصراع المسلح ضد الأنظمة القديمة، لكن عرفة يخلي السبيل إلى رمز علمي وثوري آخر يعقد التصالح مع الميراث الديني ويقوم بالنضال السلمي؛ وهو ما يشير إلى نزعة الديمقراطية الاشتراكية التي انتهى إليها نجيب محفوظ وتياره الفكري التنويري في مصر، أي تيار سلامة موسى ولويس عوض. وهو تيار بقي ثقافياً نادراً في وسط تيارات الشمولية الاستبدادية العنيفة المنتشرة.
ولكن محفوظا تجاوز التيار «الفرعوني» العازل لتاريخ مصر عن المنطقة، رابطاً الأخيرة بتطور الفكر في العالم، مما يشير إلى تجاوز الرواية الواقعية المحفوظية الدوائر المغلقة الوطنية والإقليمية الضيقة، وإذا كان ذلك قد جرى بتخطيطية روائية ترميزية، إلا أن أسلوب الرواية النوعي، القائم على العرض المشوق، ولغة البساطة، قد جعل من التجاوز المحفوظي الفكري حدثاً واسع النطاق، مما فتح للوعي التنويري والنهضوي إمكانيات تجاوز التناقضات الفكرية المطلقة القائمة بين الأديان والحداثة، بين الماضي والمستقبل.
وهكذا فإن هذا التجاوز الذي تم بادوات الرواية، سوف يتشكل فى دوائر الوعي الأخرى عبر أدواتها الخاصة، وسيقوم مفكرون آخرون بوضع الحارة ليس كجسم جغرافي فقط، بل ايضاً كجسم تاريخي مركب، متعدد الحارات عبر المناطق والمراحل والقوى الاجتماعية، وعبر التراكم والتقاطع الفكريين، أي سيتحول إلى بحث اجتماعي وثقافي ولغوي واسع الاجتهادات.
لكن تبقى الخلاصة المحفوظية، هذا الحدس الفني العميق، عملية رائدة في تاريخ الوعي في المنطقة، وقد حاول عبر «أولاد حارتنا» أن يستعيد بساطة وحيوية وعظمة الكتب الدينية؛ التي يتجلى فيها الأسلوب السهل والعميق وذو الآثار التاريخية الكبرى.
إن المثقف التنويري عبر نجيب محفوظ وصل إلى الخلاصات الكبرى، ونستطيع أن نعده أحد «أولاد حارتنا» الذي واصل فعل الرسالات العظيمة بنكرانها لذاتها وتضحيتها ودفاعها عن الوقف المسروق ونضالها لتطوير حياة العاملين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انظر للكاتب عبـــــدالله خلــــــــيفة: نجيب محفوظ من الرواية التاريخية إلى الرواية الفلسفية ، 2007
عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تنوير وتحديث نجيب محفوظ
Published on May 25, 2019 12:51
May 24, 2019
عبـــــــدالله خلــــــــيفة: صاحب مغني الماء والنار
[image error]
صدر أول أعمال الكاتب البحريني عبـــــــدالله خلــــــــيفة في عام 1975 تحت عنوان «لحن الشتاء» ، وهكذا، فهو يدخل الآن عقده الثالث على ذمة الكتابة، رواية وقصة قصيرة.. ثلاثون عاماً من المكابدة والصبر والاسترسال في تأليف الحياة دائماً من جديد، يتميز بجلد (فتح الجيم واللام) مكين على مواصلة مشروعه الابداعي الغني بالصفاء والأمين لروح المكان.
يخبىء عبـــــــدالله خلــــــــيفة تحت ثيابه شاعراً هو بالنسبة إليه «قرين» ، ولكنه لا يستسلم لإملاءات هذا القرين، فالقص والاستطراد في الحكي والسرد والوصف وربما «الغناء» هو مبتدأ عبـــــــدالله خلــــــــيفة وخبره.. فلا جمل اعتراضية ولا تيه ولا «غياب لغوي» يمكنه أن يكسر قاعدته الفنية ليشكل بذلك صورة مكتملة لكاتب مستقل بكل معنى الكلمة، والاستقلالية هنا، تأتي بمعنى إلحاح خلــــــــيفة على تكوينات روائية وقصصية نابعة أولاً وأخيراً من ذاته ومن أدواته الخصوصية جداً، وكأنه بذلك، يستغني عن أية مؤثرات أو أية مرجعيات تحيله إلى سوى سخصيته الروائية أو القصصية.
زوج عبـــــــدالله خلــــــــيفة القصة القصيرة للرواية، وزوج الرواية للقصة، وحافظ على هذين الخطين على نحو متواز، فلم تغب الرواية في مشروعه الأدبي كما لم تغب القصة، وأقول ذلك، لأن الكثير من الروائيين العرب بدأوا قاصين، وعندما تمكنوا من الرواية أو تمكنت منهم الرواية تخلوا شيئاً فشيئاً عن البذرة الأولى.. القصة القصيرة وهجروها هجرة بلا رجعة.
ولا أخفي أمراً هنا، إذ أقرأ عبـــــــدالله خلــــــــيفة بصعوبة في بعض الأحيان، وهو كما انه يكتب بنوع من الصبر المتعب، يحتاج في المقابل إلى قارىء صبور يتحمل صعوبته وشخصيته، وهي ليست صعوبة «جيمس جويس» أو صعوبة «فرانز كافكا» على سبيل المثال، وانما هي صعوبة كاتب شديد الاعتداد بالأشياء والخصوصيات التي هي من شأنه هو، وليست تابعة إلى أرشيف أي أحد من الكتاب، وان كان هو ككاتب يبني دوماً علاقة «ارتباط» بالكاتب الآخر، ولكنها علاقة من بعيد. الاستقلالية عنوانها الدائم.
على نحو شخصي كثيراً ما التقيته في الإمارات، وفي مكتبتي غالبية أعماله الروائية والقصصية، وأكثر من ذلك، أحن إليه، فكلما التقيته كأنما ألتقي البحرين كلها، هذا البلد الكثير والكبير بشعرائه وروائييه وقصاصيه الذين يشتغلون في الكتابة من باب المسؤولية قبل وبعد كل شيء.
المرأة حاضرة في معظم أعمال عبـــــــدالله خلــــــــيفة بما هي عليه من كائن إنساني، ويمكن أن يكون هذا الكائن ملاكاً أو شيطاناً، نجساً أو طاهراً، جميلاً أو قبيحاً، وهذه سنة من سنن الحياة والوجود، والمرأة لديه هي النسخة الثانية من الحياة في شبابها وشيخوختها، وفي الحالين تظل حالة انسانية ليست قابلة للإلغاء:
[image error]
في روايته «نشيد البحر» تقرأ: {.. وترى مثلما يرى النائم المرأة الشقراء تناديك، غرفة العرس الواسعة والياسمين والمرايا تدجن خوفك واغترابك، وتمتصك المرأة الشقراء، العجوز، التي تنتزع باروكتها الذهبية، وتعطيك جلدها المتغضن، فتحس بالأفاعي..}.
وفي مجموعته القصصية «سهرة» تعاودنا صورة المرأة العجوز مرة ثانية، فإذا كانت هذه العجوز في رواية «نشيد البحر» ذات باروكة ذهبية فإنها في قصة «سهرة» ذات أسنان ذهبية وجسد هرته الشيخوخة، وبالمناسبة، فإن صورة المرأة العجوز تتكرر كثيراً في قصص عبـــــــدالله خلــــــــيفة، وربما كنت موفقاً، إذا اعتبرت هذه المرأة لدى الكاتب رمزاً للحياة التي تعجزها الأيام.
[image error]في قصة «سهرة» يقع بطل القصة المفلس والعاطل في براثن هذه العجوز التي تستدرجه إلى ما يشبه «الموت».
ذكرت قبل قليل ان عبـــــــدالله خلــــــــيفة له «قرين شاعر» يميل عليه إذا اقتضى الأمر على نحو شعائري هذه المرة في رواية «نشيد البحر».. أحد أبطال هذه الرواية هنا يخاطب البحر:
{.. أيها المجد المائي، يا سليل ملوك التحول، أيها الأزل، والأمل، خذني إلى ذاكرتك، ودهشتك، اصهرني، لأكن سمكة في لونك، وعشقاً أبدياً في خمرك، لا أريد أن أكون وتداً في الأرض، أو لافتة صدئة تشير إلى طريق، لأكن ذراتك، نداءك، صوتك الهادر في سكون الأشياء..}.
مناخ البحر هذا ومناجاته الصافية الشعائرية هذه لا نجدها في رواية «أغنية الماء والنار».. عبـــــــدالله خلــــــــيفة في هذه الرواية يتخلى عن قرينه الشاعر الذي تظهر صورته في قصة «سهرة»، وهو في رواية «أغنية الماء والنار»، التي صدرت عام 1988 عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق كما جاء في التعريف النقدي بالرواية:{.. تصوير معبر للصراع الاجتماعي على أطراف مدينة في بيئة شعبية}.
«جابر» في هذه الرواية مطارد بالخيبة والحزن، وذلك مثال فقط من مناخ الرواية، إلى جانب شخصيات أخرى «راشد» سقاء الماء، و«غلوم» رجل زجاجات الليل، إضافة إلى نساء الرواية «زهرة» وسواها، من نماذج تدنو إلى حياة كريمة ونبذ التسلط.
في رواية «أغنية الماء والنار»، يحضر البحر أيضاً، ولكن هذه المرة من دون «نجوى شعرية»، إذ ان «قوام» الرواية هو قوام أشخاص فقراء إذا غنوا فإن أغنيتهم هي أغنية الماء والنار بكل واقعية الفقر وبساطة الروح الانسانية.
يلح عبـــــــدالله خلــــــــيفة في معظم قصصه ورواياته على ما يسمى «المونولوج» أي الصوت الداخلي لأشخاص القصة أو الرواية، الأمر الذي يدفع به إلى اقتراح كتابة «جريانية» إن جازت العبارة.. إخاله في مثل هذه الحالة يكتب سريعاً، الصور متدفقة، والجمل قصيرة ومتلاحقة، التداعيات تستولد تداعيات أخرى، ومع كل ذلك، فإن قارئاً متمرساً لن يلمح أي لهاث في الكتابة، لأن لهاث الكاتب يفضحه القارىء، فإن كانت القراءة لاهثة فإن الكاتب كان يلهث لحظة الكتابة. هذه النقطة لم أجدها عند عبـــــــدالله خلــــــــيفة الذي يحرص دوماً على نصوص متماسكة، قوية البناء مشدودة إلى علاقات سردية يكمل بعضها بعضاً.[image error]
في روايته «الضباب» نأخذ على ذلك تمثيلاً هذا الأنموذج:
{.. يغفو، يرى نفسه في ممر طويل، وثمة منصة بعيدة متوارية وراء دخان بركاني شفاف، يحس بأسواط تلسعه، وهو يجري بسرعة. وأنفاسه تشتعل، ويبحث عن فتحة في الممر، والممر طويل، ومغلق، ويركض، ثمة تماثيل رومانية كثيرة تحدق فيه بأجسادها الفارهة..}.
لى أن أشير إلى أن عبـــــــدالله خلــــــــيفة يمتلك من الذكاء الفني بحيث انه يحرص على أن يكون مختلفاً في حالة النصين.. نص التداعيات والاستطراد والاسترسال، ونص «الشعائرية»، أو «الشعرية» وهو ان جنح إلى الاستعانة بروح الشاعر «قرينه» أو «ايقونته» فهو يستعين بالقليل من ملح الشاعر، ليعود بعد ذلك إلى ذاته الروائية أو القصصية.
شخصيات عبـــــــدالله خلــــــــيفة تراوح بين نماذج محبطة متعبة كما في بعض قصص مجموعته «سهرة»، وبعضها نماذج تعاني الفقر بالقرب من بحر فقير أيضاً كما في روايته «أغنية الماء والنار»، وإن لم أكن مخطئاً فإن شخصية الضباب شخصية مثقفة، وفي رواية «نشيد البحر»، يلمح إلى انقراض انموذج «المناضل».
ومثالاً على هذا التلميح تقرأ هذا الحوار المقتضب في رواية «نشيد البحر»:
{ــ كم ضيعنا من أوقات جميلة، وتركنا تلك الفتيات الجميلات بخدودهن الوردية، يفلتن من أيادينا، تصوفنا ولبسنا الخيش وأدمنا العرق والروائح الكريهة وأطلقنا اللحى.. فيا لها من أوقات عصيبة.
ــ إذن لا تلم أخي.
ــ لكنه حيوان انقرضت فصيلته.}.
يكتب عبـــــــدالله خلــــــــيفة بالكثير من الاطمئنان إلى نفسه وإلى شخوصه، ويخيل إلي أنه يعرف شخوص أعماله معرفة جيدة قبل الشروع في الكتابة، وان كان لا يعرفهم فهو يصنعهم من تراب الواقع، وحتى لو كانوا مصنوعين أو مولودين من «رحم المخيلة» ، فهم أيضاً مبعث اطمئنان بالنسبة إليه.. إن مثل هذه الطمأنينة تؤدي بالضرورة إلى ثقة الكاتب بنفسه، والأهم من ذلك ثقته بهذه «النفوس» الحائرة والمتعبة.. ثقته بالناس فقط الناس.. فهم الماء والنار، وهم الضباب، وهم النشيد وهم اللآلىء والرمل والياسمين، وهي ذاتها العناوين التي اقترحها عبـــــــدالله خلــــــــيفة لقصصه ورواياته.
عالم عبـــــــدالله خلــــــــيفة عالم متنوع وواسع، ويصعب اختزاله في قراءة انطباعية لا تزعم النقد على الاطلاق، فهو غزير الكتابة، ضد الانقطاع والغياب، أحسه مسكوناً دوماً بشخصية روائية أو بمكان روائي مرشح في أية لحظة لأن يصاغ أو يكتب في كتاب. إ ن هذه الكتابة الاستعادية عن خلــــــــيفة تريد خلاصة واحدة.. وهي ذلك الأمل الذي يمكن أن يعول عليه من «النظام النقدي الأدبي أو الثقافي» إن كان هناك وجود لمثل هذا النظام، وضرورة استعادته هو.. استعادة نقدية مسؤولة ومتخصصة لأعمال شعرية وروائية وقصصية في منطقة الخليج العربي، وتجربة عبـــــــدالله خلــــــــيفة مثال واضح وممكن لحقل النقد.
❖ يوسف أبولوز
شاعر فلسطيني
عبـــــــدالله خلــــــــيفة: صاحب مغني الماء والنار
Published on May 24, 2019 15:10
May 11, 2019
عبـــــــدالله خلــــــــيفة: قراءة جديدة لظاهرات الوعي العربي
[image error]
الاتجاهات المثالية في الفلسفية العربية الإسلامية
1 ₪ قراءة جديدة لظاهرات الوعي العربي
توطئة
يتناول هذا الكتاب ظاهرات الوعي العربي ـ الإسلامي بجانبيه الأساسيين : الدين والفلسفة، و بجذور هذا الوعي الأولى ، وهو يتشكل وينمو من المرحلة الجاهلية فظهور الإسلام وتشكل الدولة الإسلامية وحتى نهاية الدولة الأموية. إن هذا يمثل الجزء الأول من البحث المطول ، حيث أن ثمة أجزاء أخرى تعالج المراحل التالية .
وهذا موضوع ليس جديداً ، فهو كان ولا يزال مركزاً لدراسات لا تتوقف ، فلا بد أن يحمل هذا الجهد الجديد شيئاً مختلفاً ، يضيف إلى هذا الكم والنوع الكبير ، مساحة مختلفة من الرؤية.
وبطبيعة الحال فإن الباحث تجشم هذا العناء من أجل أن يطرح وجهة نظر مختلفة ، فالعمل هو رؤية جديدة إلى الوعي العربي ، تجعله كائناً تاريخياً مركباً ، فالوعي العربي ـ الإسلامي الذي تشكل في الجزيرة العربية ، لم ُتبحث جذوره التاريخية الممتدة إلى التاريخ القديم في المنطقة ، وإلى تضاريسها الجغرافية / الاقتصادية ، وإلى كونه مستوى في بنية اجتماعية متضادة متغيرة دوماً.
فإن يظهر الوعي العربي ، بصفة وثنية ، ثم ينعطف إلى الطبيعة الدينية التوحيدية ، فإن ذلك لا يتم في إطاره التاريخي المعزول عن الطبقات التاريخية السابقة ، ولا عن التطورات الفكرية في منطقته المشرقية ، التي غدت بعدئذٍ عربية ، ولا عن بنيته الاجتماعية الخاصة التي يقوم بتكوينها ، جدلاً مع التاريخ ، وحفراً في الحاضر.
إن بحث الطبقات التاريخية القديمة في المشرق ، عبر رؤية الأنظمة الاجتماعية المتشكلة ، وخاصة جوانبها الفكرية ، يقود إلى تحديد أنماط هذه الحضارات ، وأسباب تحجرها في نمط إنتاجي معين ، ليرى المحطة التي دخل فيها العرب ، والظاهرات المختلفة ، التي جعلت الإسلام يظهر بتلك الصورة التحويلية لهذا العالم المتجمد عند تشكيلته الاقتصادية ـ الاجتماعية.
إن قراءة التاريخ العربي / الإسلامي عبر تحليله من خلال جذوره في الماضي ، هو أمر سيفتح مستويات وعي البنية العربية / الإسلامية ، فهذا الوعي العربي المتنامي أخذ عناصر فكرية من الماضي كفكرة الآلهة أو الإله الواحد أو دور السماء كمركز لإنتاج الوعي المطلق وبعض أسماء الأنبياء وبعض الأفكار الدينية الخ..
ونحن نقوم بدراسة البنية الأولى ، بنية العصر القديم عبر هياكلها الإنتاجية ومستوياتها الفكرية ، ونقوم بالربط بين خيوط المرحلتين ، أي نرى كيف تواجدت تلك العناصر الفكرية في بنية الوعي العربي وأسباب تطورها بهذا الاتجاه داخله.
وقد ركزنا خاصة على بنية المجتمع العراقي الجنوبي ، وعلى الخطوط العريضة لتطور الإنتاج والوعي فيها ، وعلى الخطوط العريضة لتطور الوعي الديني في مصر ، بحيث نكتشف طبيعة النظام الاجتماعي المشترك ، ودور هذا النظام الاجتماعي المشترك في تجمد التطور التاريخي ، أي في البقاء ضمن تشكيلة اقتصادية ـ اجتماعية واحدة.
فالوعي العربي ، ومن ثم تطوره اللاحق ، الوعي الإسلامي ، وهو ينمو داخل بنيته الاجتماعية يقوم باستعادة تلك العناصر من العصر القديم ، سواء عبر علاقته المباشرة ، أو من خلال التأثيرات الفكرية التي تأطرت من خلال الأديان : الوثني ، واليهودي ، و المسيحي.
أننا سنقوم برؤية علاقة التداخل هذه ، سواء بالاستفادة من المؤثرات أم بتجاوزها ، وبناء منظومة جديدة . ولكن علاقة التداخل هذه ستكون معقدة وذات مستويات ، ففي المرحلة الجاهلية تكون العلاقة مختلفة عن المراحل التالية ، بحيث إن العلاقة تحكمها تطورات البنية الاجتماعية الداخلية، فاسترجاع الماضي ، أو الاستفادة من المؤثرات القادمة من الخارج ستخضع لهذه البنية الداخلية وصراعاتها.
إن هذا يقودنا إلى تحديد نمط وتطور البنية الاجتماعية العربية، أي دراسة الخطوط الرئيسية لإنتاجها ، وأشكال الوعي السائدة فيها ، حيث سندرس طبيعة البنية ” الرعوية ” وتأثيراتها الكبيرة على الوعي والتطورات الاجتماعية والفكرية والسياسية.
ولكن دراسة البنية الاجتماعية لا يجعلنا مأسورين في طابعها التـقني ، أي أن نعتبر الرعي اتجاهات فكرية وسياسية ، بل نحن نعتبره علاقات اجتماعية واقتصادية معينة ، في حين إن الاتجاهات الفكرية والسياسية تعود إلى مستوى آخر ، لكنها ترتبط كذلك بالظروف الاجتماعية السائدة.
فإذا كان الإسلام ظاهرة نمت بين الرعاة وفي هذا المجتمع العربي الرعوي فلا بد أن تكون جذوره مربوطة بمستويات هذا المجتمع ، ولكنه من حيث الإتجاه هو تحول حضاري يتجاوز مجتمع الرعاة هذا ، ويستهدف تخطيه وتمدينه. وهنا تتشكل علاقة الدرس والتحليل للعلاقة بين المدينة [ مكة ] كقائدة حضارية لهؤلاء الرعاة . وبين القيادة الطليعية والجسم الاجتماعي تتكون علاقات معقدة من التداخل والتجاوز.
إن سيادة الجسم الرعوي تعبر في حد ذاتها عن مستوى البنية ، وبالتالي فإن الاتجاهات الحضرية فيها لم تقم بحسم عملية التطور الاجتماعي ، والدخول في بنية اجتماعية ذات نظام سياسي محدد، وكان الرعاة ( الساميون ) لهم تجارب في هذا القفز التاريخي، وعبر ذلك كانت العلاقات الاجتماعية العليا تحمل العلاقات الاجتماعية الدنيا، في مركب غير متناسق،(1).
والإسلام نفسه هو العملية الحضارية الهادفة إلى تغيير هذه البنية الرعوية السائدة ، وهو يظهر من خلال موقع اجتماعي وفكري محدد ، حيث برز كثورة ، أي أنه صعد من خلال تحالف اجتماعي طليعي مقاتل ، وإن هذا التحالف هو الذي جعله يرتبط بأغلبية السكان ، وبالتالي يعيد تشكيل الجزيرة والمشرق والعالم المحيط من خلالها.
لكن هذا الاتجاه يخضع لعملية التطور والصراع بين الجماعات الاجتماعية ولمستويات تطورها وفاعلياتها ، وبهذا فإن البنية الاجتماعية الرعوية أساساً خاضعة للصراعات الداخلية وللمؤثرات الخارجية ، خاصة عملية الفتوح التي سادتها القبائل الرعوية ومستوياتها الاجتماعية والفكرية ، وقادها المركز القرشي.
وبهذا فإن البنية الاجتماعية للعهد النبوي تختلف عن البنية الاجتماعية للعهد الراشدي ، من حيث كون الأولى عربية ـ جزيرية بدرجة أساسية ، وكون طبيعة حركتها الاجتماعية وطريقة تقسيمها وتوزيعها للملكية ، وبسبب غياب الدولة وملكيتها ولبداية تشكل أجهزتها ، في حين إن بنية العهد الراشدي اعتمدت على حركة الفتوح وهجرة السكان المقاتلين وعوائلهم إلى الأمصار وبدء تشكل الدولة العربية الواسعة التي تضم المشرق العربي والإسلامي ، الذي لم يصر عربياً وإسلامياً بعد حينذاك.
إن بنية العهد الراشدي تعتمد على ظهور ملكية الدولة للأراضي العامة [ الصوافي ] ، وظهور نمط جديد من الإنتاج والتوزيع ، وهذا ما أدى إلى سلسلة من التغيرات الاجتماعية والفكرية ، ومع ترسخ هذه البنية واستعادت الهياكل الاقتصادية العائدة للعصر القديم ، تبدأ صراعات اجتماعية وسياسية عميقة في هذه البنية ، تفضي إلى النظام السياسي الأموي.
وتتوغل الدراسةُ في بنية النظام الأموي وتناقضاتها وسيرورة الصراعات داخلها وسببيتها ، بحيث نقوم بوضع الخطوط العريضة لتطور المجتمع العربي / الإسلامي في هذه المراحل الاجتماعية والسياسية المتعددة ، أي نقرأ عملية انتقاله من البداوة إلى الحضارة ، و طبيعة الصراعات وأشكالها ومضامينها ، بحيث نصل إلى دراسة التشكيلة الاقتصادية / الاجتماعية التي أستقر عليها.
2 ₪ موقع الاتجاهات المثالية من التطور الاجتماعي
إن قراءة هذه الخطوط العريضة والتفصيلية للتطور الاجتماعي لا تفصلنا عن دراسة بؤرة الموضوع ، وهي مسألة الاتجاهات الفكرية المثالية.
إن المثالية عموماً هي وجهات النظر التي ترى أسبقية الوعي على الوجود ، وهذه الأسبقية قد تكون من خلال أسبقية الألوهية أو الأفكار أو الماهيات والجواهر في صنع العالم ، أو أسبقية الوعي الفردي ، (2) .
وقد أعطى الإنسان قديماً الأرواح المختلفة القدرة على التحكم في الوجود المادي والمصير الإنساني ، وكان الإنسان ـ الحيوان جزءً مادياً ملتصقاً بالطبيعة عبر مئات الآلاف من السنين ، وحين بدأ الانفصال البطيء الطويل المحدود عنها ، عبر العمل كانت تبعيته مع ذلك للطبيعة عميقة وغائرة في هياكله الاجتماعية والفكرية ، سواء عبر المنظومة العشائرية ، أم عبر سيطرة الأرواح وأرواح الأجداد والطواطم وعبادة الأمهات والكواكب والنجوم ، على وعيه وتنظيم حياته.
إن انقسام الأرواح إلى خيرة وشريرة كانت تعبر عن الطابع المتناقض للظاهرات الكونية والمادية والبشرية ، وهي تنمو عبر التمحور في كائنات ما ورائية مطلقة ، هي الأرواح والآلهة والشياطين والمسوخ المختلفة الخ..
إن تبعية الإنسان للطبيعة هنا ، وعدم وجود قدرات إنتاجية تحويلية لديه ، كانت تقود إلى سيطرة القوى الما ورائية المختلفة ، تعبيراً عن الجوانب والقوى المادية في الكون والحياة التي تهيمن عليه.
وهكذا فإنه أوجد الرؤى والشخوص المتخصصة في التحكم في هذا الإنتاج الروحي ، كشكل أولي سحري من المثالية ، أي عبر هذا الوعي الذي يعطي الخارج الميتافيزيقي القدرة على السيطرة على الداخل الإنساني ، سواء كان هذا الداخل تنظيماً اجتماعياً أم أفكاراً ومشاعر.
هذه الطبقة من الرؤى السحرية والطقوسية هي الجذور الأولى للوعي الإنساني ، وهي التي تواجدت مع تشكل الحضارة البشرية في منطقة المشرق ، وبدء تحول القرى إلى مدن وظهور الدولة والطبقات الخ..
لا بد أن نلاحظ التمايزات التي تشكلت في المشرق [ العربي ] منذ البدء عن المناطق الاجتماعية ـ الفكرية الأخرى ، كالمنطقة الهندية ، والصينية وغيرهما ، حيث لعبت العناصر الطبيعية [ السماوية ] خاصة من نجوم وكواكب ومطر وشمس وأنهار دورها في الانقسامية الكبرى للأرواح الخيرة والشريرة ، ثم في التشكل الثنائي المتضاد لها ، حيث للأولى الجوانب العليا المهيمنة الطيبة الخيرة، وللثانية المستويات الدنيا وحدوث الانفصال الكلي المطلق بينهما .
كانت هذه تركيبة متداخلة مع العصر الأمومي ، وكانت هذه الأخيرة تشكل آلهة أنثوية إنتاجية ومسالمة ، ولكن مع تشكل الحضارة في جنوب العراق وصعود المدن من قرى المستنقعات ، وظهور السلطات والطبقات ، فإن تلك التركيبة السماوية الشاملة ، سوف تصعد الأرواح والآلهة الصغيرة والقبائل الإلهية لتحكم السماء وتسيطر على تنظيم الكون والحياة الإنسانية ، بشكل شرس وعنيف ومتفرد . كذلك فإن هذا يترافق مع انتقال الحضارة من المجموعات السومرية الزراعية المسالمة إلى القبائل السامية الرعوية العنيفة.
إن تبلور الأرواح على شكل آلهة عليا ترافق وانقسام العمل إلى عمل يدوي وذهني ، وحصول السحرة والكهنة والملوك على موقع أعلى من المنتجين ، فأخذ الأولون عبر الرموز السماوية كالكواكب والنجوم في تجسيد السلطة المتعالية.
لقد أخذت المثالية صيغتها الأولى من السحر والطقوس والأديان البدائية ، حيث القوى الغيبية المختلفة تسيطر على بناء الطبيعة ، فتنهدس الكون وتشكله من خلال المواد الطبيعية والاجتماعية المتاحة لها، سواء كانت عبر المعارك مع الحيوانات الخرافية أم مع قوى الطبيعة الملتحمة بها كالبحر والسماء والنجوم والعواصف والطوفان الخ..
ثم هي لا تكتفي بتشكيل الطبيعة في المدة الزمنية القصيرة الممدة على أيام الأسبوع ، بل أيضاً تقوم بتنظيم الحياة الاجتماعية بالصورة التي ترتئيها ، فتضع الرجل والمرأة في الأمكنة التي تريد ، وتصنع الإنسان من طين أو من بقايا إله قتيل ، وتعلن الوصايا الاجتماعية والسياسية التي لا تُخرق أبداً .
هكذا غدت الغيبية الدينية الأم الأولى للمثالية ، المدرسة الفلسفية الكبرى فيما بعد ، التي ترى أسبقية الفكرة في صنع الوجود ، وهذه الأفكار الغيبية نقول إنها نظرات وأفكار مثالية ، من حيث إعطائها القوى الفكرية والتصورات العقلية السحرية والأسطورية ، الدور الأول في صياغة العالم ، لكن الفلسفات المثالية ستتشكل فيما بعد ، معتمدة على هذه الجذور الدينية والأسطورية حين تتراكم المعارف ويُكتشف التجريد والتعميم النظري ، ويلتحم بالمنجزات العلمية المختلفة.
إن الجانبين يتفقان في أسبقية الوعي وتشكيله للعالم ، والجانب الأول يشكله عبر المواد السحرية والقوى الخارقة المختلفة ، والجانب الثاني يشكله عبر الآلهة والأفكار المطلقة والقوى المجردة والرموز المختلفة.
والجانبان يعبران عن مرحلتين تاريخيتين ومستويين فكريين / اجتماعيين ، مختلفين ومتداخلين ، فالأول يعبر عن المناطق التي سادت فيها الأديان حيث هي الأفكار التي تتعاضد فيها العمليات العقلية التصويرية والتجريدية.
ويلعب التصوير دوره الأساسي ، ويتمظهر عبر القصص والملاحم والأناشيد والأساطير الخ .. فيجسد الآلهة والقوى الغيبية المتحكمة في الوجود ، وحينئذٍ تكون العلاقة بين الجمهور المنتج والسحرة والكهنة والملوك علاقة هيمنة مطلقة من قبل الأخيرين ، وتتمظهر عملياً عبر المعابد والطقوس ، فيسود فيها الانفعال وتغييب عقل الجمهور ، ومن الممكن أن نجد هنا عناصر مادية كالهواء والماء والنور وغير ذلك ، ولكنها مجرد عناصر مسيطر عليها وذائبة في القدرات الخارقة للآلهة والشياطين التي أخذت تهيمن بشكل أساسي ، على الوجود السياسي / الإيديولوجي ، حيث إن الآلهة معبرة عن الخير وقوى النظام والصحة والحساب الخ .. ، والقوة الثانية أي الشياطين معبرة عن قوى الشر والرفض والمرض الخ..
إن قوى الطبقات المسيطرة المتجسدة في المشرق ، ثم في امتداداته المناطقية والعالمية ، تحيل عناصر المادة إلى عناصر مهيمن عليها وذائبة ، مثلما تفعل في العناصر المادية الاجتماعية كالمدن الحرة والصناعة والتجارة ، فهي تُلحقها بالطبقة المهيمنة بفرعيها الملكي / الديني.
ولهذا فإن العناصر الميتافيزيقية شديدة الغيبية تظل الأقوى في الحضور الفكري ، في حين إن الفلسفة المثالية الموضوعية لا تكاد أن تخرج إلا فيما بعد ، وبعد عدة قرون من ظهور الإسلام في المجتمع العربي.
إن التحام العناصر السحرية والدينية بالنظام السياسي العبودي المُعمّم ، حيث السلطة السياسية معبودة وملتحمة بالآلهة ، يجعل هذا النمط من المثالية الفكرية ، ينيخ على الفضاء الفكري للناس ، جاعلاً إياهم جزءً من حيوانات الإنتاج ، فلا تعطى مفردات العالم الموضوعي : الطبيعة ، المجتمع ، الوعي ، استقلالياتها وتفرداتها ، وتغدو كلها تابعة للآلهة والكائنات الغيبية المطلقة.
لهذا تغدو الأديان مهيمنة على الوعي على مدى آلاف السنين ، مع نمط الإنتاج العبودي العام ، وبنائه التقني وهو الزراعة ، ولكن تشكل الدول الكبيرة ونمو المدن واتساع التجارة والحرف ، يشكل نمواً مختلفاً للوعي ، وفي الدول العبودية المعممة القديمة المشرقية ، لم تتشكل الفلسفة ، أي هذا الوعي المتميز النوعي المستقل عن الدين ، كبنية فكرية تنظيمية ، وليس كاتجاه ، أي إن الدول المشرقية العبودية منعت حتى انبثاق هذا الوعي ذي الصفة الاستقلالية عن الغيبيات الدينية ، والذي يغدو إنتاجاً فردياً مميزاً ، في إطار تذويبها للأفراد وللعقل المستقل والنقدي. لكن الوعي المعارض والثوري يتمظهر عبر الدين نفسه في صراعات متعددة ومتداخلة، تشكل مسار التطور الاجتماعي والفكري المتضافر.
في المدن الحرة اليونانية الديمقراطية التي تحميها الموانع الطبيعية والعسكرية الشعبية ، عن هيمنة الدول العبودية المعممة المشرقية ، أمكن لهذا الوعي المستقل أن يتشكل بصفة نسبية هامة عبر صعود دور التجارة و [ الصناعة ] ، دون أن يتحرر كلياً من الغيب الديني والأساطير، ومستفيداً من الثروة العلمية والأدبية الكبيرة التي تشكلت في المشرق.
ولهذا حدث التمايز بين الشكلين من الوعي المثالي ، الأديان /الأساطير ، والفلسفة ، وحين ذهبت الأخيرة للمشرق ، فقد كان بانتظارها تلك الأديان والأساطير في مرحلة جديدة من تطورها ، فتقوم الأديان والأساطير باستيعاب الفلسفة اليونانية في عباءتها الغيبية ، مثلما تقوم الفلسفة بالصراع ضد الأشكال الغيبية المطلقة.
إن الشكلين من الدين والفلسفة ، هما الشكلان المتميزان الرئيسيان من الوعي المثالي ، في المشرق ، ويعتبر الدين حجر الزاوية في البناء الفكري ، نظراً لارتباطه بالعمليات السحرية في الوعي والبناء الاجتماعي ، وبأشكال جماعية طقوسية ، مؤد لجة لحماية الأنظمة العبودية المعممة ، والإقطاعية فيما بعد ، وحيث تجد القوى الشعبية المعارضة أصواتها الجماهيرية كذلك ، في حين إن الفلسفة هي نتاج ثـقافي فردي وجماعي لم يظهر في عمليات الطقوس والشعائر السحرية والغيبية ، بل عبر الوعي ” العقلي ” للأفراد والنخب الثـقافية والفكرية ، ولهذا فهو كنوع نتاج الاستقلال عن البنية الأسطورية والدينية ، المعبرتين عن الدولة ، بجناحيها السياسي ـ الديني ، المفارقة والمطلقة ، والمتحكمة كلياً ونهائياً في البشر، وكذلك عن التمردات والثورات ضد هذه الدولة بمستوييها السياسي والديني.
فالآلهة والشياطين الخ ليست في النهاية سوى تمثلات للسلطات والاتجاهات المختلفة ولقوانين التطور الطبيعية والاجتماعية المُغيبّة ، وعمليات تبدلها المستمر عبر العصور ، ولكن من حيث إفقادها الطبيعة والمجتمع والوعي كياناتها المستقلة وتطوراتها الموضوعية.
إن هذه الأنظمة العبودية والإقطاعية التي ألغت الوجود البشري ، وألحقت المنتجين بالتالي بحيوانات الحقول ، عبر جعل كائنات الأديان والأساطير تهيمن بشكل مطلق على الوجود ، ستناوئ الفلسفة كقوة فكرية للمثـقفين المستقلين والأحرار ، ولكنها أيضاً ستتدخل في هذا الشكل الجديد من الوعي القادم من بلاد اليونان .
3 ₪ الدين والفلسفة كشكلين متميزين للوعي :
في كلا الجانبين الدين والفلسفة ، تكمن النظرة الشاملة للوجود. فالدين يقوم بتنظيم الحياة والكون عبر ترتيب قصصي أو ملحمي ، أي معتمداً على المادة التصويرية ، لإنتاج منظومة فكرية تهيمن على السلطة ومن ثم المجتمع والبشر وتحاول تأبيد وديمومة وجودها إلى الأبد.
ورغم إن الدين هو من تبليغ أو تشكيل أو بناء شخوص محددة هي الأنبياء أو القادة ، فإن المصدر الفردي لا يعتبر جوهرياً، فالفرد ذاته هو صوت للغيب ، أو للأرواح ، فهو رسول القوى ألما ورائية ، مما يعبر عن قوى غير فردية، ولهذا يكون عادة جزءً من المرحلة القبلية البطولية ، فيتداخل النسيج الغيبي والأسطوري بالدين ، متجسداً عبر مادة تصويرية غالباً ، ويكون بناؤه أقرب للشعر منه للنثر.
وليس في هذه المادة التصويرية برهان أو تسلسل منطقي ، وإنما هي مادة موروثة التحمت بالطقوس والعبادات. وإذا أخذت بنموها الفكري والاجتماعي في البنية التي ظهرت فيها ، يمكن رؤية تطورها السببي ، ولكن باعتبارها مادة منزلة من السماء ، أو باعتبارها نتاج القوى الخفية ، فليس هنا أية سببية برهانية متسقة لها.
ولهذا يحدث التمايز هنا بينها وبين الفلسفة ، التي تعتبر نتاجاً فردياً عقلياً محضاً ، فتتشكل على أساس المنطق والحجج والبرهان ، وهذا بحد ذاته يؤدي إلى الصدام بين هذين الشكلين من الوعي ، فالدين الجماهيري السلطوي الغيبي أو الجماهيري التمردي يتشكل بلا برهان ، ومن مجموعة من القصص والحكم والمواعظ ، في حين إن الفلسفة المكونة من خلال الأفراد والمعتمدة على أبنية فكرية متسقة ، تبدو أعلى في كيانها ومرتبتها من الدين ، نظراً لتشكلها عبر العلل واعتمادها على ثمار العلوم المختلفة ، وهي بهذا العلاقة المتوارية الضمنية ، تقوم بالهجوم على الدين ، أو على الأقل بالاختلاف والتمايز معه ، وتغدو كبناء فكري نتاج مرحلة بشرية أكثر تقدماً.
ويغدو نموها في الطبقة الوسطى ، أي في شرائح المتعلمين والمثقفين والتجار ، عاملاً آخر في تناقضها مع الدين الذي يلتحم مع المؤسستين السياسية والدينية. أي مع الطبقة الحاكمة بفرعيها الأساسيين.أي أن كافة الاتجاهات الدينية تقوم بالتوغل في الفلسفة ، وهذا يرتبط بمستوى التطور ومدى فاعليات الطبقات الوسطى والشعبية.
والعلاقة بين الدين والفلسفة لا تعتمد على تضادهما الفكري ، باعتبارهما مستويين مختلفين من التشكيل المعرفي ، بل أيضاً على الصراع الاجتماعي أو التعاون أو الإلحاق القائم بين الأشراف والطبقة الوسطى ، أي أن التضاد بين الدين والفلسفة قد يصل إلى المضامين العميقة المشكلة لهما . ولهذا فقد غلب على الفلسفات اليونانية في مرحلتها الأول الاتصاف بالمادية حين كانت مستقلة ومعبرة عن اتجاهات الطبقة الوسطى في مدن حرة ، ولكن الاتجاهات المثالية نمت وتطورت وسادت فيها بعد ضمور الطبقة الوسطى وإلحاقها بالدولة و صعود طبقة ملاك العبيد .
إن عمليات التعاون أو الصراع تعتمد على الظروف السائدة في البنية الاجتماعية واتجاهات التطور فيها ، وعلاقات التداخل والتباين بين مستوياتها وأشكال الوعي فيها ، ولهذا فليس من الممكن المعرفة المسبقة بعلاقات الدين والفلسفة ، وهما كشكلين من الممكن أن يحدث تعاون وتداخل بينهما ، حسب رؤية المفكر ، فيحدث توظيف كل منهما للآخر ، ومن الممكن أن يحدث الصراع .
إن الاتجاهات السائدة في البنية هي التي تلعب دوراً كبيراً في علاقة الدين بالفلسفة في المشرق ، نظراً لأن الفلسفة تالية والدين قديم وراسخ ، فهذه الاتجاهات السحرية والأسطورية والدينية نظراً لخمسة آلاف من الحضارة العبودية المعممة الاستبدادية هي التي كونت القواعد العقلية الجماهيرية ، في مناطقها الزراعية المنعزلة ، وتغدو المدن مكان إدارة الطبقة الحاكمة بمؤسساتها السياسية والدينية ، وتصير فئات التجار والمثـقفين والإداريين الخ ، ذات علاقة تابعة بالطبقة الحاكمة ، ومن ثم تصير الفلسفة تابعة للدين .
ولكن أيضاً من الممكن مع اتساع الدولة والتجارة والحرف ، أن تظهر فئات إنتاجية وتجارية ومالية غير تابعة للدولة ، أو أنها ُترهق وتعاني من استغلال الحكام ، فتقوم بإنتاج وعي مختلف ، نقدي ، أو تشككي ، أو معارض بصورة مبطنة دينية أو صوفية أو عقلانية الخ ..
ومن المؤكد إن حجم ونوع هذا الاختلاف يعتمد على مدى تطور الفلسفة باتجاه القراءة الموضوعية للطبيعة والمجتمع والوعي ، ومدى شمولية الدين وتداخله مع السلطة أو السلطات ، واتساع أو ضمور المواد العلمية الناتجة من الأبحاث وتطور التقنية والترجمة ، ومدى دور وأهمية النزعات المادية في داخل الأبنية المثالية أو خارجها الخ..
وتقود الصراعات في البنية الاجتماعية إلى تفكك المنظومة الدينية الشاملة الوحيدة إلى مذاهب متعددة ، تعبر عن النزاعات الاجتماعية والقومية غير المعبر عنها سياسياً ، وتتخلق بشكل مذاهب وربما أديان الأقليات المختلفة ، وهذا كله يتغلغل في الفلسفات ، لتغدو اتجاهات متعددة ، وللجسم الإمبراطوري شكله التطوري الخاص ، بخلاف زمنية التفكك والدويلات ، بحيث إن التعميمات الفكرية والاستخلاصات المجردة المتعالية فوق البُنى التاريخية المحددة ، تقود إلى استنتاجات غير دقيقة.
فحين نناقش ـ على سبيل المثال ـ تيار المعتزلة ينبغي أن لا يُؤخذ فوق البُنى التي تتشكل وتتنامى داخل تضاريسها ، ففي عصر الدولة الأموية كان الاعتزال يتطور بشكل ، هو بمثابة المرحلة التأسيسية له ، ولكن هذا الطور الأول ليس متماثلاً مع الطور الثاني ، رغم وحدة المفاهيم الأساسية ، لأن البنية الاجتماعية الجديدة قامت بإعادة تشكيل الاتجاه ، فقد كان في الطور الأول قيادياً طليعياً ، أما في الطور الثاني فكان تابعاً للدولة ، وهذا مرتبط بعملية الصراع الاجتماعية ـ الفكرية ، ولهذا سوف نقرأ التباينات الاتجاهية والمعرفية في الطورين ، وسنرى علاقة ذلك الوثيقة بالبُنى ومدى هيمنة الدولة ـ الدين فيها، والفروق بين الطورين والجوانب المتضادة فيهما .
أي أن اتجاه المعتزلة سيُؤخذ ليس كاتجاه فكري له جذوره الموضوعية فحسب ، بل كفاعلية فكرية وسياسية داخلة في البنية ومراحلها المختلفة مؤثرة ومتأثرة بها، ومن هنا ستتضح الفوارق الدقيقة بين كل مرحلة ، والعمليات التي تؤسس الوعي ، وعمليات الوعي في الحياة.
وسندرس كل اتجاه حسب هذه الطريقة ، وتفاعل الاتجاهات المختلفة ، داخل البنية الإمبراطورية ثم في البنى الإقليمية ، وسنقرأها في ضؤ التفاعلات بينها ، مستعيدين جذورها وجذور المنطقة والأقاليم المختلفة ، لتتشكل لوحات مركبة للدين ، وللاتجاهات الفكرية ـ الدينية وللمذاهب والعلوم والفلسفات.
ولهذا فإن هذا الجزء من البحث سيقوم بقراءة الجذور القديمة والمعاصرة لتشكل الوعي العربي بين مرحلتيه الوثنية والإسلامية، وحيث لا يوجد هنا سوى وعي ديني بمرحلتين وببنيتين، وهي المرحلة التي ستضع القواعد الأساسية للمرحلة التالية للعصر العباسي الأول .
في حين سيبحث الجزء الثاني الأبنية الفكرية التي تشكل على أساسها الوعي الفلسفي المكتمل في العصر العباسي الثاني .
أما الجزء الثالث فهو يختص ببحث أبنية الفلسفة المختلفة .
وهذا التقسيم سوف يضعنا على التشكلات المعقدة لبنية الوعي المتطورة، والملتحمة بالتطورات الاجتماعية والفكرية المختلفة، بحيث نكتشف ظاهرات الوعي المتعددة، في نوعيها الرئيسين: الدين والفلسفة، ومن بذورها الصغيرة وكيف تتنامى في أشجار كبيرة .
أننا حين نبحث في المذاهب الدينية سنرى أسباب انقساماتها وتدرجاتها ، حسب الوعي والجغرافيا، وعلاقاتها بالصراعات الاجتماعية و [ القومية ] والمستويات الفكرية للمناطق ، وعلاقاتها بالعصر القديم والمادة الإسلامية.
أو حين نتتبع تياراً فكريا سنقرأه عبر مراحل تطور البنية الاجتماعية العربية / الإسلامية ، حيث سيبدو مضمراً وصغيراً في مرحلة ، كما يحدث للصوفية على سبيل المثال ، حيث ستبدو اتجاهاً زهدياً في المراحل الإسلامية الأولى ، ونقرأ أسباب التشكل بهذا المستوى ، ثم سنرى الصوفية في مرحلة أخرى وقد أعطاها التطور الاجتماعي والفكري القواعد الأساسية لتغدو اتجاهات مستقلة عن البنية ، وكظاهرات وعي متميزة.
إن التداخل المعقد بين ما هو اجتماعي وفكري سوف يتيح لنا تفكيك هذه الاتجاهات والفلسفات بصورة جديدة في القراءة المعاصرة .
إن مصادرنا القديمة والمعاصرة تحفر بدرجات متفاوتة في هذه المادة ، فالمصادر القديمة تقدم المادة بصورتها الخام بهذه الدرجة أو تلك من الأمانة والعرض ، وبدرجة محدودة من العرض التاريخي والقولي ، لكن تغيب عنها البنى المركبة الاجتماعية والفكرية لكل مرحلة ، وفي العصر الحديث تم التوجه إلى التوغل في التسلسل التاريخي وبعض سببياته المحددة و المباشرة كموسوعة أحمد أمين الهامة ، أو رؤيته من خلال البنية الصراعية للعصر دون الجذور التاريخية المركبة للمنطقة ومراحلها المختلفة ، أي دون التضفير بين الصراعات الاجتماعية والتضادات الإنتاجية البارزة للأقسام الرعوية والزراعية ، كما كتب الباحث حسين مروة في النزعات المادية ، إلى الكثير من المساهمات المفيدة والعظيمة، والتي تحتاج في الآونة الراهنة إلى التغلغل الأعمق إلى تضاداتها العميقة والمركبة .
لو أخذنا الأستاذ أحمد أمين كنموذج لقراءة الوعي الديني والفلسفي فما سنجد؟
يعتبر الأستاذ أحمد أمين من كبار الباحثين العرب الذين أعطوا الكثير للبحث العلمي في مجال التاريخ الفكري والفلسفي العربي، فقد غربل هذا الرجل لوحده مئات المجلدات العربية القديمة، وفحصها أيضاً على ضؤ الدراسات الأوربية في عصره ومن خلال شخصيته المنفتحة ، وليقدمها مشروحة مكثفة منتقاة، باحثاً عن خيوط النور والوعي فيها، غير متجاهل لأثر البيئة والوسط والأحوال المادية والفكرية وتلاقح الأجيال والعصور والأفكار.
جهدٌ كبيٌر وعملٌ عظيم ، فأياديه بيضاء على الباحثين ممن جاءوا بعده ، فتلمسوا الأرض الممهدة والجهد الخلاق ، فأضافوا وحفروا وشقوا دروباً جديدة.
استطاع أحمد أمين أن يرى تداخل العصور الفكرية ، فهو لا يصور المنتجات الفكرية وكأنها منقطعة السُبل عن بعضها البعض ، بل يراها كمعاناة اجتماعية بشرية لإنتاج وعي جديد ، وتمثل موسوعته : فجر الإسلام، ضحى الإسلام ، ظهر الإسلام ، ذروة عمله العلمي الذي عكف عليه طوال حياته ليضع التاريخ الفكري للأمم الإسلامية رهن المادة المتداولة المدروسة .
في استعماله لألفاظ : الفجر، الضحى، الظهيرة ، تعبير زمني عن جدلية التطور ، فهو يدرس تطور الوعي وكأنه في لحظة نمو نهاري ومتوقف عند سمت الشمس العمودية وليس الغاربة ، وفي هذا حدس بالصيرورة الاجتماعية وقد اتخذت صفة اليوم، ومن هنا تراه يعكف على بلورة التطور العام للفكر ، مموضعاً إياه في ظاهراته المختلفة ، مقسماً إياه في شرائحه الفكرية والاجتماعية المختلفة الكثيرة، فهو يدرس الأدب والفلسفة والدين والحياة الاجتماعية الخ..، بحيث يقود هذا التشريح الموضعي إلى فهم الصفات المشتركة .
ومن هنا لن تجد لديه التعميمات والصفات العامة، فكلمة [ عربي ] لن تُؤخذ بإطلاق، بل في مكانها الاجتماعي والتاريخي ، ولهذا يقول عن أبن خلدون :
[ فترى من هذا أن أبن خلدون في حكمه على العرب خلط بين العربي في عصوره المختلفة ، وأصدر عليه أحكاماً عامة ، مع أنه هو نفسه القائل بأن العربي يتغير بتغير البيئة.]، (3).
إن أحمد أمين وهو يقوم بقراءة التاريخ المحدد، أي المُنتَّج في فترة تاريخية ما، سيبحث عن العوامل البشرية المؤدية إلى تشكيله، ولن يعطي لأحد العوامل أهمية استثنائية، ولهذا فهو يعرض العوامل والظواهر جنباً إلى جنب بموسوعية، وحتى الظواهر الغيبية سيضعها داخل صيرورتها الإنسانية، دون أن يغفل الطابع المركب لهذه الظواهر، حيث سنرى جذور الماضي تتدلى قرب رؤوس الحاضر، والحاضر بدوره يحمل مواليد الغد، وهذه الجدلية المركبة ، لن تعترف بالمطلقات كالقول بالعقل اليوناني والعقل العربي والهندي وكأنها براميل مستقلة ، تحمل موادها الكيميائية الخاصة المتجوهرة على ذواتها ، وسيجد إن العقل العربي في مرحلة البادية مختلف عن عصر المدن ، دارساً الظاهرات المتحدة والمتنوعة له ، وهو يلاحظ هنا عمليات معقدة تجري للوعي العربي، فحين يتناول أبا ذر الغفاري كشخصية داعية للمساواة، يتتبع أثر الأفكار المنتشرة والقديمة والمتداخلة بين الشعوب فيقول : [ونلمح وجه شبه بين رأي أبي ذر الغفاري وبين رأي مزدك في الناحية المالية فقط ]، (4).
ومهما كانت صحة آرائه هنا، أو كذلك تحامله على عبدالله بن سبأ، فنحن يهمنا هذا الالتقاط للشعيرات الفكرية والاجتماعية المتداخلة.
ويعبر كل هذا عن قراءة التداخل بين الوسط والوعي بشكل زمني متصاعد، يرجع للوراء قليلاً ، لكنه ينمو دوماً إلى الأمام، وليس هذا الوسط إلا حدود الجغرافيا الطبيعية والاقتصادية والفكرية ، متقطعة في المراحل السياسية المعهودة في التأريخ: العصر الجاهلي ، فالإسلامي، فالأموي الخ..
وهنا تلعب المرجعيات الفكرية الليبرالية لعصر أمين دورها ، فمفاهيم الوسط والبيئة والعوامل المختلفة المؤثرة، هي التي تقوم بالتحليل المتضافر المنساب عبر الزمن، أما مفاهيم البنية الاجتماعية وقوانينها ، فهي مرحلة لم تصل لها هذه المنهجية بطبيعة الحال ، (5).
والفارق بين المنهجيتين ، أي بين منهجيتي البيئة والبنية ، يعبر عن أدوات التحليل بين زمنين ، فمفهوم الوسط البيئي لدى أمين لا يعبر عن صراعات القوى الاجتماعية في ظل بنية محددة، يقوم العلم بدراستها ، ثم يتتبع البُنى التالية وأسباب ظهورها وتشكيلاتها، فلا يغدو التاريخ الفكري مجرد مؤثرات على وسط غامض الملامح ، بل تأثيرات على بنية أو بُنى تزداد تناقضاً ثم انفجاراً متيحة الدرب التاريخي لبنية أخرى.
فنظرة أحمد أمين لا تستطيع أن تفسر بعض القضايا المركبة ، كالقول بأن الإمامية هي ذات جذور فارسية ، وأن [ ثانوية الفرس كانوا منبعاً يستقي منه رافضة الإسلام ]، (6) ، فمسائل التيارات الفكرية أعقد من ذلك، وظروف الصراعات العربية الداخلية كانت هي الأساس في إنتاج مثل هذه التيارات ، مع أهمية المؤثرات الخارجية.
إن فترات العصر النبوي والراشدي ، والفترة الأموية ، والعصر العباسي الأول ، والعصر العباسي الثاني، التي يتخذها أمين كفترات معروضة في أجزائه، هي بحد ذاتها بُنى اجتماعية لها قوانين تطورية مختلفة عن المراحل الأخرى، وميزته إنه يقوم بعرض ظاهراتها المختلفة ، بدون التوصل لقوانين الصراعات الاجتماعية فيها ، فليس لديه مفهوم البنية وترابطها، لأن هذه البنية هي التي تحدد تشكل الظاهرات الفكرية التي يدرسها، ولكنه يأخذها مستقلة عنها غير متضافرة بسبب علل جوهرية، مع أهمية المعلومات والمواد التي يقدمها عنها.
ومثال آخر نقرأه لدى الأستاذ الدكتور محمود إسماعيل، فالباحث الدكتور محمود إسماعيل هو من القلائل في مصر الذين اعتنوا طويلاً بالبحث في التاريخ والفلسفة العربيين ـ الإسلاميين ، وكان أول كتاب له عن [ الحركات السرية في الإسلام] وهو الكتاب الذي صدر في بداية السبعينيات ، وقد افتتح فيه تحليل التاريخ الإسلامي من وجهة نظر كشف تطور الصراع الاجتماعي ، ثم تتالت كتبه عن ظاهرات الفرق والاتجاهات خاصة في شمال أفريقيا التي درّس فيها حقبة هناك ، ثم أصدر كتابه الأساسي [ سيوسيولوجيا الفكر الإسلامي ] وهو أربعة أجزاء يتناول فيها تطور الوعي في التاريخ العربي الإسلامي وكيفية نشأة الفرق والاتجاهات الفكرية والفلسفية المختلفة ، مستخدماً أسلوباً سهلاً في العرض ، معززاً إياه بمئات المراجع والنصوص ، مما يعتبر مرجعاً لأي دارس لهذه الظواهر .
وإذا كان أسلوبه يمتاز بسلاسة العرض وبساطته نظراً لاستمراره في العملية التدريسية وثورية أفكاره ، إلا أن التبسيطية في النظرة إلى التاريخ الفكري تنتشر لديه في الخطوط العريضة لرؤية هذا التاريخ.
فهو يقسم التاريخ الاجتماعي إلى قوتين متصارعتين هما البرجوازية والإقطاع ، والتطور والحداثة والعلم تأتي من الأولى ، أما القوة الثانية فهي قوة تخلف وارتداد ، وهو حكم صحيح في عموميته الواسعة ، ولكن إلى أي مدى كانت البرجوازية تستند إلى أسلوب إنتاج بضاعي وصناعي ، وما هي تداخلاتها مع التيارات الفكرية والفلسفية ، فإن هذه مسائل مركبة يبسطها الدكتور محمود إسماعيل ، فلا يقوم بتوصيفها التوصيف الدقيق المتداخل ، لأنه يلجأ عادة إلى التعميم.
في الجزء الثالث ، على سبيل المثال ، وهو المختص بدارسة أفكار الفلاسفة والفرق الفلسفية ، يتعرض لمدرسة [ أخوان الصفا ] ، وهي المدرسة الفكرية السرية التي ذاعت أفكارها في العالم الإسلامي عبر التاريخ.
وحول الاختلافات في تاريخ ظهور هذه المدرسة وعن صحته يقول الباحث : [ وعندنا أن ظهور المعلومات الأولى هذه عام 360 هـ لا يخلو من دلالة على ارتباط هذا الظهور بعصر الصحوة البورجوازية الثانية ـ من حول منتصف القرن الرابع إلى منتصف القرن الخامس الهجري ـ وهو عصر المد الليبرالي الذي شهد ظهور كيانات سياسية كبرى تمثل في الدولة البويهية والدولة الفاطمية والخلافة الأموية بالأندلس ، وهي كيانات ذات طابع بورجوازي حققت الكثير من طموحات إخوان الصفا ]، (7).
إن هذه الكلمات العامة عن الصحوة البرجوازية والمد الليبرالي، يجب أخذها بحيطة موضوعية وتدقيق بالغ ، فهل يمكن اعتبار عصر الدولة البويهية عصر [ صحوة ] ، وما معنى الصحوة في سياقات البحث الاجتماعي ، وهل الدولة البويهية دولة بورجوازية؟ إن كلمة [ صحوة ] تقابل النوم ، فكأن العلم الاجتماعي يتحول هنا إلى استخدام التعبيرات الفضفاضة المتعلقة بنوم واستيقاظ الفرد ، وليس بقراءة تشكل الفئات والطبقات الاجتماعية.فمن المعروف إن الدولة البويهية كونها أمراءٌ فرسٌ زيديون تلاعبوا بالخلفاء العباسيين وحولهم إلى دمى، وقد عاثوا بميزانية الخلافة على بذخهم ولهوهم ، وانحصرت الخلافة حول بغداد ثم بضع دويلات فارسية ، وعموماً تحول الأمراء البويهيون إلى إقطاع متحكم في الثروة.
وإذا أردنا قراءة الوضع البويهي على حقيقته فلنستمع إلى باحث ثقة في هذا المجال وهو عبدالعزيز الدوري ، فحول وضع الفلاحين نقرأ: [ فمن آثار سياسة معز الدولة تجاه الأراضي أن ” فسدت المشارب ، وبطلت المصالح ، وأتت الجوائح على التناء {الفلاحون} ورقت أحوالهم ] في حين أرتفع دخل أفراد الجيش البويهي المسيطر ، [ والخلاصة، فإن عصر العصر البويهي كان خالياً من الخدمات الاجتماعية باستثناء الفترة بين 369 ـ 372] ، [ وكان الفقراء يأكلون الجراد أيضاً، وخاصة في السنين العجاف] ، [ وكانت معيشة البدو صعبة] ، [ ورأى بعض الوزراء في المصادرة مورداً أساسياً للخزينة وتصرفوا بموجب ذلك ] ، (8).
هكذا غدا هؤلاء الأمراء البويهيون الغزاة إقطاع عسكري ، ينتزع الفوائض عبر الجيش ، وهو ــ أي الإقطاع ــ لا يعرف كيفية توسيع الإنتاج وتحديثه، ولكن ما هي علاقة أخوان الصفا الذين ظهروا في هذه الفترة بالبويهيين وهل كانوا من تأثيراتهم؟
إن أخوان الصفا تجمع ثقافي سري ليس له صلة بالحكام ، وهو يتشكل من شرائح الفئات الوسطى المعارضة للاستغلال الإقطاعي السياسي والديني والعسكري ، وقد أمكن لهذه الجماعة أن تكتب وتدس كتبها في غيبة من أعين السلطات ، واستفادت من صراعاتها الفوقية وغياب ملاحقاتها ، ولهذا فإن كلمة [ الصحوة ] تبدو بلا معنى هنا ، ففعل أخوان الصفا فعل كفاحي استمر في فترات طويلة ولا علاقة مباشرة له بنظم الحكم الراهنة، فالمستوى الفكري ليس انعكاساً مباشراً للحظة السياسية، بل له صيرورته الخاصة ، فهو إجابة على الأسئلة التي طرحها الإسلام عبر حركاته المختلفة ، خاصة حركة الاعتزال ، وحركة أخوان الصفا مرتبطة بالتقاليد الكفاحية الفكرية للمناطق العراقية الجنوبية القديمة وهي محاولة لتجاوز عقلانية الاعتزال بصورة مختلفة . أما إلى أي مدى هي بورجوازية فإن ذلك لا بد أن يقوم على دراسة دقيقة في مدى تعبيرهم عن ذلك. وعادة كانت الشرائح الوسطى والصغيرة غير ذات استقلال عن الإقطاع الديني والسياسي ، ولهذا لا نستطيع أن نتحدث عن فكر بورجوازي مستقل وبشكل واسع لديهم.
لكن الدكتور محمود إسماعيل بعد هذه الملاحظات العامة يسوق الكثير من الأفكار المتغلغلة في تحليل فكر أخوان الصفا ، بصورة دقيقة متتبعاً تجليات وعيهم في مختلف الظاهرات السياسية والعلمية والفلسفية ، بحيث جاءت هذه الملاحظات بغنى مختلف عن التعميمات التي لم ترتبط بها.
4 ₪ خاصية هذا الجزء وموقعه:
يتناول هذا الجزء الجذور الاجتماعية البعيدة والقريبة لتشكل الفلسفة العربية ـ الإسلامية. فالجذور البعيدة تعني الأسس التي أقيمت عليها الأديان في منطقة المشرق العربي، فهذه المنطقة التي عرفت الحضارة مبكراً، كانت لها أسسها الخاصة في تكوين الوجود الاجتماعي والفكري، نظراً لقيامها على دول استبدادية شاملة بسبب عمليات الري الحكومية المبكرة ، فظهرت فيها الآلهة الشاملة المسيطرة على الوجود كليا ً، وقد تنامت هذه السيطرة من الجزئي إلى الكلي، من الطبيعي حتى الروحي، وقد تمثل ذلك في وعي المشرق وأوربا بخلاف البشرية الأخرى ، أي غدا ذلك متجذراً في الوعي الأسطوري المشرقي القديم ثم في الديانات : اليهودية، والمسيحية ، والإسلام.
ولن يكون تناولنا لهذه الجذور البعيدة إلا لوضع بعض الأسس الموضوعية لظهور عمليات التدين، حيث ستقوم الأديان السماوية بوراثتها وتجاوزها . فهنا تقع التخوم بين العصر القديم والعصر الوسيط ، وتجري عمليات التوارث والتداخل والتجاوز ، ويقوم الوعي باستعادة الموروث القديم حسب المواقع الاجتماعية والجغرافية المختلفة ، أي حسب لحظات تطور الشعوب في كل بقعة ، وعمليات الصراع الداخلية التي تجري فيها.
فيحدث التأثر والتجاوز حسب مهمات التطور لكل شعب ، فالتراث السابق يقع في لحظات الغربلة المستمرة والتجميد المقصود واللامقصود ، ومن هنا سنأخذ التاريخ العربي باعتباره يتشكل في حضن القديم ويقوم بتجاوزه ، ويقوم هذا الجزء بتحليل كيفية تشكل ذلك ، فهنا توجد الجذور الاجتماعية والفكرية الأولى ، فهي المرحلة التأسيسية القاعدية للتطور التالي ، ولا بد من رؤية قوانين تشكلها ، حيث ستقوم بإعادة إنتاج نفسها في المناطق الأخرى ، ليس بشكل مجرد ولكن من خلال سيرورتها الاجتماعية المفروضة على تلك المناطق ، ثم عبر تفاعل تلك المناطق ومقاومتها وإعادة تشكيل نفسها.
ولهذا يتصف الوعي هنا بخضوعه لعمليات الصراع السياسية والاجتماعية المباشرة ، ويؤدي تكون الإسلام في الجزيرة العربية ومحاولة مدنها للتقدم ، إلى التصاق هذه المرحلة بالعمليات المختلفة القادمة ، فتغدو المرحلة بمثابة الجذور الفكرية ـ الاجتماعية الأساسية لهذا الوعي الديني ، وتغدو تطوراته التالية مرتبطة بإنتاج هذه المرحلة وإعادة النظر فيها ، أو على العكس بتجميدها في المناطق واللحظات التاريخية الأخرى ، تبعاً لكيفية القراءات ومواقعها. وهنا يقف هذا الجزء الأول فيما سيتابع الجزء التالي ، الثاني ، المرحلة التالية والتي نعرض الآن خطوطها العريضة.
فإذا كانت المرحلة الإسلامية والأموية قد حددت جسم الظاهرة وأبرزت مضامينه الاجتماعية الأساسية المتضادة ، حيث ستغدو المرحلة التالية هي بمثابة النمو الكمي في التطور الاجتماعي ـ الاقتصادي ، فلن يكون العصر التالي : العصر العباسي الأول ، سوى امتداد واسع وتثبيت له ، ولكن دوره ينتقل إلى المستوى الفكري ، فهو يتجاوز النمو الفكري السابق ويشكل ظاهرات فكرية عميقة واسعة ، تغدو تحولاً نوعياً في مسار الوعي ، ولكن هذا المسار النوعي للوعي يستند على التطور الاجتماعي السابق وعمليات الانتشار والتعميق له.
وفي هذه المرحلة تبدو عمليات التضاد بين المرحلتين ؛ المرحلة التأسيسية برؤاها البسيطة ، ذات النسيج الديني والسحري والأسطوري والواقعي ، وبين المرحلة الراهنة حينذاك ذات البنية الثـقافية المتطورة التي تقوم بتسجيل الإرث السابق وحفظه ، أو تقنينه وعقلنته ونقده ، لكن عملية الاستعادة والتجاوز المتصارعتين ، تعتمدان على مجمل الصراعات في البنية الواسعة التركيبية ، فالطبقة المسيطرة ، بفرعيها السياسي والديني في العصر العباسي الأول تقوم بحفظ التراث السابق بشكل حرفي ، كجزء من الحفاظ على النظام السياسي / الاجتماعي الذي يضمن لها الحياة الرغدة ، ويمنع القوى الاجتماعية المستَّغلة من الانفصال ، ولهذا يغدو الإسلام الرسمي في هذه المرحلة عامل وحدة للأمم الإسلامية المتكونة تدريجياً ، فيشكل العمود الفقري لعالمها القادم .
وتتراوح عمليات الحفاظ على الموروث السابق بين الشكلانية شبه الكاملة وتوجهات التجديد التي لا تشكل إعادة نظر جذرية لأسباب تتعلق بمواقف هذه القوى السياسية والدينية الحاكمة ، وهي التي غدت الآن تكرس نظاماً شمولياً يستعيد النظم الاستبدادية القديمة في المنطقة .
ومن هنا تغدو عملية الحفظ [ الشكلية ] لمرحلة التأسيس الإسلامية مرفوضة من قبل الشعوب المستَّغلة من تلك الطبقة الحاكمة ، وهي تحاول الدخول إلى العمليات المضمونية العميقة للنصوص الإسلامية الأولى ، ونزع قشرتها الشكلانية التي فرضتها القوى المهيمنة على الدولة والمجتمع .
لكن عمليات التأصيل الجديدة حينذاك تقوم على استعادة الموروث القديم لمنطقة المشرق ، وليس على العمليات التحليلية الموضوعية للإرث القديم بشكليه الإسلامي أو الديني القديم ، فالتناقض بين المستوى الحضاري للمرحلة الرعوية الدينية والسياسية السابقة ، و المستوى الحضاري للمرحلة الزراعية الراهنة يتمظهر بشكل صراع مذهبي إسلامي ، أو بصراع ديني بين الإسلام وبين المانوية والمسيحية واليهودية.
فالرعاة العرب الذين فرضوا تراثهم على المنطقة الشمالية الزراعية ، واصلوا استعادة تاريخهم السابق في جميع أشكاله ، وتغدو النواة الصلبة لعملية هذه الاستعادة والتثبيت جزءً من رفض سيطرة البنية الزراعية الراهنة وقتذاك بظلالها الفكرية والسياسية.
والأمر ليس تناقضاً تقنياً بل هو أيضاً صراع مصالح بين الجمهور الذي استفاد من الفتوح والجمهور الذي واصل الإنتاج والعذاب . وحين تثبتت تلك المصالح في طبقة حاكمة بفرعيها السياسي والديني ، فأخذ الوعي القديم ما قبل الإسلامي باستعادة دوره الكفاحي ، في ظل معطيات جديدة ، حيث صار الدين الجديد مقبولاً ، خاصة لتأثيرات دعوته وممارسته الكفاحية الأولى .
ولكن هناك من ورثة هذا التاريخ الرعوي / التجاري من أقترب من فعل الإسلام الحضاري ، ومضمونه الثوري الأولي ، عبر التركيز على عناصر توحيدية وعقلانية دينية ماضوية وحديثة ، ولكن هذا يعتمد على إنتاج حرفي لم يتطور بشكل صناعي وعلمي شامل.
إن اتجاهات هذه المرحلة وتراكماتها المعرفية هي التي تضع الأسس لمرحلة التطور الفلسفية التالية ، التي هي تتويج للتطور الفكري في ظل الإسلام ، والمسيحية واليهودية ، والنزعات الدهرية المختلفة ، فهنا ستصل الصراعات الاجتما
الاتجاهات المثالية في الفلسفية العربية الإسلامية
1 ₪ قراءة جديدة لظاهرات الوعي العربي
توطئة
يتناول هذا الكتاب ظاهرات الوعي العربي ـ الإسلامي بجانبيه الأساسيين : الدين والفلسفة، و بجذور هذا الوعي الأولى ، وهو يتشكل وينمو من المرحلة الجاهلية فظهور الإسلام وتشكل الدولة الإسلامية وحتى نهاية الدولة الأموية. إن هذا يمثل الجزء الأول من البحث المطول ، حيث أن ثمة أجزاء أخرى تعالج المراحل التالية .
وهذا موضوع ليس جديداً ، فهو كان ولا يزال مركزاً لدراسات لا تتوقف ، فلا بد أن يحمل هذا الجهد الجديد شيئاً مختلفاً ، يضيف إلى هذا الكم والنوع الكبير ، مساحة مختلفة من الرؤية.
وبطبيعة الحال فإن الباحث تجشم هذا العناء من أجل أن يطرح وجهة نظر مختلفة ، فالعمل هو رؤية جديدة إلى الوعي العربي ، تجعله كائناً تاريخياً مركباً ، فالوعي العربي ـ الإسلامي الذي تشكل في الجزيرة العربية ، لم ُتبحث جذوره التاريخية الممتدة إلى التاريخ القديم في المنطقة ، وإلى تضاريسها الجغرافية / الاقتصادية ، وإلى كونه مستوى في بنية اجتماعية متضادة متغيرة دوماً.
فإن يظهر الوعي العربي ، بصفة وثنية ، ثم ينعطف إلى الطبيعة الدينية التوحيدية ، فإن ذلك لا يتم في إطاره التاريخي المعزول عن الطبقات التاريخية السابقة ، ولا عن التطورات الفكرية في منطقته المشرقية ، التي غدت بعدئذٍ عربية ، ولا عن بنيته الاجتماعية الخاصة التي يقوم بتكوينها ، جدلاً مع التاريخ ، وحفراً في الحاضر.
إن بحث الطبقات التاريخية القديمة في المشرق ، عبر رؤية الأنظمة الاجتماعية المتشكلة ، وخاصة جوانبها الفكرية ، يقود إلى تحديد أنماط هذه الحضارات ، وأسباب تحجرها في نمط إنتاجي معين ، ليرى المحطة التي دخل فيها العرب ، والظاهرات المختلفة ، التي جعلت الإسلام يظهر بتلك الصورة التحويلية لهذا العالم المتجمد عند تشكيلته الاقتصادية ـ الاجتماعية.
إن قراءة التاريخ العربي / الإسلامي عبر تحليله من خلال جذوره في الماضي ، هو أمر سيفتح مستويات وعي البنية العربية / الإسلامية ، فهذا الوعي العربي المتنامي أخذ عناصر فكرية من الماضي كفكرة الآلهة أو الإله الواحد أو دور السماء كمركز لإنتاج الوعي المطلق وبعض أسماء الأنبياء وبعض الأفكار الدينية الخ..
ونحن نقوم بدراسة البنية الأولى ، بنية العصر القديم عبر هياكلها الإنتاجية ومستوياتها الفكرية ، ونقوم بالربط بين خيوط المرحلتين ، أي نرى كيف تواجدت تلك العناصر الفكرية في بنية الوعي العربي وأسباب تطورها بهذا الاتجاه داخله.
وقد ركزنا خاصة على بنية المجتمع العراقي الجنوبي ، وعلى الخطوط العريضة لتطور الإنتاج والوعي فيها ، وعلى الخطوط العريضة لتطور الوعي الديني في مصر ، بحيث نكتشف طبيعة النظام الاجتماعي المشترك ، ودور هذا النظام الاجتماعي المشترك في تجمد التطور التاريخي ، أي في البقاء ضمن تشكيلة اقتصادية ـ اجتماعية واحدة.
فالوعي العربي ، ومن ثم تطوره اللاحق ، الوعي الإسلامي ، وهو ينمو داخل بنيته الاجتماعية يقوم باستعادة تلك العناصر من العصر القديم ، سواء عبر علاقته المباشرة ، أو من خلال التأثيرات الفكرية التي تأطرت من خلال الأديان : الوثني ، واليهودي ، و المسيحي.
أننا سنقوم برؤية علاقة التداخل هذه ، سواء بالاستفادة من المؤثرات أم بتجاوزها ، وبناء منظومة جديدة . ولكن علاقة التداخل هذه ستكون معقدة وذات مستويات ، ففي المرحلة الجاهلية تكون العلاقة مختلفة عن المراحل التالية ، بحيث إن العلاقة تحكمها تطورات البنية الاجتماعية الداخلية، فاسترجاع الماضي ، أو الاستفادة من المؤثرات القادمة من الخارج ستخضع لهذه البنية الداخلية وصراعاتها.
إن هذا يقودنا إلى تحديد نمط وتطور البنية الاجتماعية العربية، أي دراسة الخطوط الرئيسية لإنتاجها ، وأشكال الوعي السائدة فيها ، حيث سندرس طبيعة البنية ” الرعوية ” وتأثيراتها الكبيرة على الوعي والتطورات الاجتماعية والفكرية والسياسية.
ولكن دراسة البنية الاجتماعية لا يجعلنا مأسورين في طابعها التـقني ، أي أن نعتبر الرعي اتجاهات فكرية وسياسية ، بل نحن نعتبره علاقات اجتماعية واقتصادية معينة ، في حين إن الاتجاهات الفكرية والسياسية تعود إلى مستوى آخر ، لكنها ترتبط كذلك بالظروف الاجتماعية السائدة.
فإذا كان الإسلام ظاهرة نمت بين الرعاة وفي هذا المجتمع العربي الرعوي فلا بد أن تكون جذوره مربوطة بمستويات هذا المجتمع ، ولكنه من حيث الإتجاه هو تحول حضاري يتجاوز مجتمع الرعاة هذا ، ويستهدف تخطيه وتمدينه. وهنا تتشكل علاقة الدرس والتحليل للعلاقة بين المدينة [ مكة ] كقائدة حضارية لهؤلاء الرعاة . وبين القيادة الطليعية والجسم الاجتماعي تتكون علاقات معقدة من التداخل والتجاوز.
إن سيادة الجسم الرعوي تعبر في حد ذاتها عن مستوى البنية ، وبالتالي فإن الاتجاهات الحضرية فيها لم تقم بحسم عملية التطور الاجتماعي ، والدخول في بنية اجتماعية ذات نظام سياسي محدد، وكان الرعاة ( الساميون ) لهم تجارب في هذا القفز التاريخي، وعبر ذلك كانت العلاقات الاجتماعية العليا تحمل العلاقات الاجتماعية الدنيا، في مركب غير متناسق،(1).
والإسلام نفسه هو العملية الحضارية الهادفة إلى تغيير هذه البنية الرعوية السائدة ، وهو يظهر من خلال موقع اجتماعي وفكري محدد ، حيث برز كثورة ، أي أنه صعد من خلال تحالف اجتماعي طليعي مقاتل ، وإن هذا التحالف هو الذي جعله يرتبط بأغلبية السكان ، وبالتالي يعيد تشكيل الجزيرة والمشرق والعالم المحيط من خلالها.
لكن هذا الاتجاه يخضع لعملية التطور والصراع بين الجماعات الاجتماعية ولمستويات تطورها وفاعلياتها ، وبهذا فإن البنية الاجتماعية الرعوية أساساً خاضعة للصراعات الداخلية وللمؤثرات الخارجية ، خاصة عملية الفتوح التي سادتها القبائل الرعوية ومستوياتها الاجتماعية والفكرية ، وقادها المركز القرشي.
وبهذا فإن البنية الاجتماعية للعهد النبوي تختلف عن البنية الاجتماعية للعهد الراشدي ، من حيث كون الأولى عربية ـ جزيرية بدرجة أساسية ، وكون طبيعة حركتها الاجتماعية وطريقة تقسيمها وتوزيعها للملكية ، وبسبب غياب الدولة وملكيتها ولبداية تشكل أجهزتها ، في حين إن بنية العهد الراشدي اعتمدت على حركة الفتوح وهجرة السكان المقاتلين وعوائلهم إلى الأمصار وبدء تشكل الدولة العربية الواسعة التي تضم المشرق العربي والإسلامي ، الذي لم يصر عربياً وإسلامياً بعد حينذاك.
إن بنية العهد الراشدي تعتمد على ظهور ملكية الدولة للأراضي العامة [ الصوافي ] ، وظهور نمط جديد من الإنتاج والتوزيع ، وهذا ما أدى إلى سلسلة من التغيرات الاجتماعية والفكرية ، ومع ترسخ هذه البنية واستعادت الهياكل الاقتصادية العائدة للعصر القديم ، تبدأ صراعات اجتماعية وسياسية عميقة في هذه البنية ، تفضي إلى النظام السياسي الأموي.
وتتوغل الدراسةُ في بنية النظام الأموي وتناقضاتها وسيرورة الصراعات داخلها وسببيتها ، بحيث نقوم بوضع الخطوط العريضة لتطور المجتمع العربي / الإسلامي في هذه المراحل الاجتماعية والسياسية المتعددة ، أي نقرأ عملية انتقاله من البداوة إلى الحضارة ، و طبيعة الصراعات وأشكالها ومضامينها ، بحيث نصل إلى دراسة التشكيلة الاقتصادية / الاجتماعية التي أستقر عليها.
2 ₪ موقع الاتجاهات المثالية من التطور الاجتماعي
إن قراءة هذه الخطوط العريضة والتفصيلية للتطور الاجتماعي لا تفصلنا عن دراسة بؤرة الموضوع ، وهي مسألة الاتجاهات الفكرية المثالية.
إن المثالية عموماً هي وجهات النظر التي ترى أسبقية الوعي على الوجود ، وهذه الأسبقية قد تكون من خلال أسبقية الألوهية أو الأفكار أو الماهيات والجواهر في صنع العالم ، أو أسبقية الوعي الفردي ، (2) .
وقد أعطى الإنسان قديماً الأرواح المختلفة القدرة على التحكم في الوجود المادي والمصير الإنساني ، وكان الإنسان ـ الحيوان جزءً مادياً ملتصقاً بالطبيعة عبر مئات الآلاف من السنين ، وحين بدأ الانفصال البطيء الطويل المحدود عنها ، عبر العمل كانت تبعيته مع ذلك للطبيعة عميقة وغائرة في هياكله الاجتماعية والفكرية ، سواء عبر المنظومة العشائرية ، أم عبر سيطرة الأرواح وأرواح الأجداد والطواطم وعبادة الأمهات والكواكب والنجوم ، على وعيه وتنظيم حياته.
إن انقسام الأرواح إلى خيرة وشريرة كانت تعبر عن الطابع المتناقض للظاهرات الكونية والمادية والبشرية ، وهي تنمو عبر التمحور في كائنات ما ورائية مطلقة ، هي الأرواح والآلهة والشياطين والمسوخ المختلفة الخ..
إن تبعية الإنسان للطبيعة هنا ، وعدم وجود قدرات إنتاجية تحويلية لديه ، كانت تقود إلى سيطرة القوى الما ورائية المختلفة ، تعبيراً عن الجوانب والقوى المادية في الكون والحياة التي تهيمن عليه.
وهكذا فإنه أوجد الرؤى والشخوص المتخصصة في التحكم في هذا الإنتاج الروحي ، كشكل أولي سحري من المثالية ، أي عبر هذا الوعي الذي يعطي الخارج الميتافيزيقي القدرة على السيطرة على الداخل الإنساني ، سواء كان هذا الداخل تنظيماً اجتماعياً أم أفكاراً ومشاعر.
هذه الطبقة من الرؤى السحرية والطقوسية هي الجذور الأولى للوعي الإنساني ، وهي التي تواجدت مع تشكل الحضارة البشرية في منطقة المشرق ، وبدء تحول القرى إلى مدن وظهور الدولة والطبقات الخ..
لا بد أن نلاحظ التمايزات التي تشكلت في المشرق [ العربي ] منذ البدء عن المناطق الاجتماعية ـ الفكرية الأخرى ، كالمنطقة الهندية ، والصينية وغيرهما ، حيث لعبت العناصر الطبيعية [ السماوية ] خاصة من نجوم وكواكب ومطر وشمس وأنهار دورها في الانقسامية الكبرى للأرواح الخيرة والشريرة ، ثم في التشكل الثنائي المتضاد لها ، حيث للأولى الجوانب العليا المهيمنة الطيبة الخيرة، وللثانية المستويات الدنيا وحدوث الانفصال الكلي المطلق بينهما .
كانت هذه تركيبة متداخلة مع العصر الأمومي ، وكانت هذه الأخيرة تشكل آلهة أنثوية إنتاجية ومسالمة ، ولكن مع تشكل الحضارة في جنوب العراق وصعود المدن من قرى المستنقعات ، وظهور السلطات والطبقات ، فإن تلك التركيبة السماوية الشاملة ، سوف تصعد الأرواح والآلهة الصغيرة والقبائل الإلهية لتحكم السماء وتسيطر على تنظيم الكون والحياة الإنسانية ، بشكل شرس وعنيف ومتفرد . كذلك فإن هذا يترافق مع انتقال الحضارة من المجموعات السومرية الزراعية المسالمة إلى القبائل السامية الرعوية العنيفة.
إن تبلور الأرواح على شكل آلهة عليا ترافق وانقسام العمل إلى عمل يدوي وذهني ، وحصول السحرة والكهنة والملوك على موقع أعلى من المنتجين ، فأخذ الأولون عبر الرموز السماوية كالكواكب والنجوم في تجسيد السلطة المتعالية.
لقد أخذت المثالية صيغتها الأولى من السحر والطقوس والأديان البدائية ، حيث القوى الغيبية المختلفة تسيطر على بناء الطبيعة ، فتنهدس الكون وتشكله من خلال المواد الطبيعية والاجتماعية المتاحة لها، سواء كانت عبر المعارك مع الحيوانات الخرافية أم مع قوى الطبيعة الملتحمة بها كالبحر والسماء والنجوم والعواصف والطوفان الخ..
ثم هي لا تكتفي بتشكيل الطبيعة في المدة الزمنية القصيرة الممدة على أيام الأسبوع ، بل أيضاً تقوم بتنظيم الحياة الاجتماعية بالصورة التي ترتئيها ، فتضع الرجل والمرأة في الأمكنة التي تريد ، وتصنع الإنسان من طين أو من بقايا إله قتيل ، وتعلن الوصايا الاجتماعية والسياسية التي لا تُخرق أبداً .
هكذا غدت الغيبية الدينية الأم الأولى للمثالية ، المدرسة الفلسفية الكبرى فيما بعد ، التي ترى أسبقية الفكرة في صنع الوجود ، وهذه الأفكار الغيبية نقول إنها نظرات وأفكار مثالية ، من حيث إعطائها القوى الفكرية والتصورات العقلية السحرية والأسطورية ، الدور الأول في صياغة العالم ، لكن الفلسفات المثالية ستتشكل فيما بعد ، معتمدة على هذه الجذور الدينية والأسطورية حين تتراكم المعارف ويُكتشف التجريد والتعميم النظري ، ويلتحم بالمنجزات العلمية المختلفة.
إن الجانبين يتفقان في أسبقية الوعي وتشكيله للعالم ، والجانب الأول يشكله عبر المواد السحرية والقوى الخارقة المختلفة ، والجانب الثاني يشكله عبر الآلهة والأفكار المطلقة والقوى المجردة والرموز المختلفة.
والجانبان يعبران عن مرحلتين تاريخيتين ومستويين فكريين / اجتماعيين ، مختلفين ومتداخلين ، فالأول يعبر عن المناطق التي سادت فيها الأديان حيث هي الأفكار التي تتعاضد فيها العمليات العقلية التصويرية والتجريدية.
ويلعب التصوير دوره الأساسي ، ويتمظهر عبر القصص والملاحم والأناشيد والأساطير الخ .. فيجسد الآلهة والقوى الغيبية المتحكمة في الوجود ، وحينئذٍ تكون العلاقة بين الجمهور المنتج والسحرة والكهنة والملوك علاقة هيمنة مطلقة من قبل الأخيرين ، وتتمظهر عملياً عبر المعابد والطقوس ، فيسود فيها الانفعال وتغييب عقل الجمهور ، ومن الممكن أن نجد هنا عناصر مادية كالهواء والماء والنور وغير ذلك ، ولكنها مجرد عناصر مسيطر عليها وذائبة في القدرات الخارقة للآلهة والشياطين التي أخذت تهيمن بشكل أساسي ، على الوجود السياسي / الإيديولوجي ، حيث إن الآلهة معبرة عن الخير وقوى النظام والصحة والحساب الخ .. ، والقوة الثانية أي الشياطين معبرة عن قوى الشر والرفض والمرض الخ..
إن قوى الطبقات المسيطرة المتجسدة في المشرق ، ثم في امتداداته المناطقية والعالمية ، تحيل عناصر المادة إلى عناصر مهيمن عليها وذائبة ، مثلما تفعل في العناصر المادية الاجتماعية كالمدن الحرة والصناعة والتجارة ، فهي تُلحقها بالطبقة المهيمنة بفرعيها الملكي / الديني.
ولهذا فإن العناصر الميتافيزيقية شديدة الغيبية تظل الأقوى في الحضور الفكري ، في حين إن الفلسفة المثالية الموضوعية لا تكاد أن تخرج إلا فيما بعد ، وبعد عدة قرون من ظهور الإسلام في المجتمع العربي.
إن التحام العناصر السحرية والدينية بالنظام السياسي العبودي المُعمّم ، حيث السلطة السياسية معبودة وملتحمة بالآلهة ، يجعل هذا النمط من المثالية الفكرية ، ينيخ على الفضاء الفكري للناس ، جاعلاً إياهم جزءً من حيوانات الإنتاج ، فلا تعطى مفردات العالم الموضوعي : الطبيعة ، المجتمع ، الوعي ، استقلالياتها وتفرداتها ، وتغدو كلها تابعة للآلهة والكائنات الغيبية المطلقة.
لهذا تغدو الأديان مهيمنة على الوعي على مدى آلاف السنين ، مع نمط الإنتاج العبودي العام ، وبنائه التقني وهو الزراعة ، ولكن تشكل الدول الكبيرة ونمو المدن واتساع التجارة والحرف ، يشكل نمواً مختلفاً للوعي ، وفي الدول العبودية المعممة القديمة المشرقية ، لم تتشكل الفلسفة ، أي هذا الوعي المتميز النوعي المستقل عن الدين ، كبنية فكرية تنظيمية ، وليس كاتجاه ، أي إن الدول المشرقية العبودية منعت حتى انبثاق هذا الوعي ذي الصفة الاستقلالية عن الغيبيات الدينية ، والذي يغدو إنتاجاً فردياً مميزاً ، في إطار تذويبها للأفراد وللعقل المستقل والنقدي. لكن الوعي المعارض والثوري يتمظهر عبر الدين نفسه في صراعات متعددة ومتداخلة، تشكل مسار التطور الاجتماعي والفكري المتضافر.
في المدن الحرة اليونانية الديمقراطية التي تحميها الموانع الطبيعية والعسكرية الشعبية ، عن هيمنة الدول العبودية المعممة المشرقية ، أمكن لهذا الوعي المستقل أن يتشكل بصفة نسبية هامة عبر صعود دور التجارة و [ الصناعة ] ، دون أن يتحرر كلياً من الغيب الديني والأساطير، ومستفيداً من الثروة العلمية والأدبية الكبيرة التي تشكلت في المشرق.
ولهذا حدث التمايز بين الشكلين من الوعي المثالي ، الأديان /الأساطير ، والفلسفة ، وحين ذهبت الأخيرة للمشرق ، فقد كان بانتظارها تلك الأديان والأساطير في مرحلة جديدة من تطورها ، فتقوم الأديان والأساطير باستيعاب الفلسفة اليونانية في عباءتها الغيبية ، مثلما تقوم الفلسفة بالصراع ضد الأشكال الغيبية المطلقة.
إن الشكلين من الدين والفلسفة ، هما الشكلان المتميزان الرئيسيان من الوعي المثالي ، في المشرق ، ويعتبر الدين حجر الزاوية في البناء الفكري ، نظراً لارتباطه بالعمليات السحرية في الوعي والبناء الاجتماعي ، وبأشكال جماعية طقوسية ، مؤد لجة لحماية الأنظمة العبودية المعممة ، والإقطاعية فيما بعد ، وحيث تجد القوى الشعبية المعارضة أصواتها الجماهيرية كذلك ، في حين إن الفلسفة هي نتاج ثـقافي فردي وجماعي لم يظهر في عمليات الطقوس والشعائر السحرية والغيبية ، بل عبر الوعي ” العقلي ” للأفراد والنخب الثـقافية والفكرية ، ولهذا فهو كنوع نتاج الاستقلال عن البنية الأسطورية والدينية ، المعبرتين عن الدولة ، بجناحيها السياسي ـ الديني ، المفارقة والمطلقة ، والمتحكمة كلياً ونهائياً في البشر، وكذلك عن التمردات والثورات ضد هذه الدولة بمستوييها السياسي والديني.
فالآلهة والشياطين الخ ليست في النهاية سوى تمثلات للسلطات والاتجاهات المختلفة ولقوانين التطور الطبيعية والاجتماعية المُغيبّة ، وعمليات تبدلها المستمر عبر العصور ، ولكن من حيث إفقادها الطبيعة والمجتمع والوعي كياناتها المستقلة وتطوراتها الموضوعية.
إن هذه الأنظمة العبودية والإقطاعية التي ألغت الوجود البشري ، وألحقت المنتجين بالتالي بحيوانات الحقول ، عبر جعل كائنات الأديان والأساطير تهيمن بشكل مطلق على الوجود ، ستناوئ الفلسفة كقوة فكرية للمثـقفين المستقلين والأحرار ، ولكنها أيضاً ستتدخل في هذا الشكل الجديد من الوعي القادم من بلاد اليونان .
3 ₪ الدين والفلسفة كشكلين متميزين للوعي :
في كلا الجانبين الدين والفلسفة ، تكمن النظرة الشاملة للوجود. فالدين يقوم بتنظيم الحياة والكون عبر ترتيب قصصي أو ملحمي ، أي معتمداً على المادة التصويرية ، لإنتاج منظومة فكرية تهيمن على السلطة ومن ثم المجتمع والبشر وتحاول تأبيد وديمومة وجودها إلى الأبد.
ورغم إن الدين هو من تبليغ أو تشكيل أو بناء شخوص محددة هي الأنبياء أو القادة ، فإن المصدر الفردي لا يعتبر جوهرياً، فالفرد ذاته هو صوت للغيب ، أو للأرواح ، فهو رسول القوى ألما ورائية ، مما يعبر عن قوى غير فردية، ولهذا يكون عادة جزءً من المرحلة القبلية البطولية ، فيتداخل النسيج الغيبي والأسطوري بالدين ، متجسداً عبر مادة تصويرية غالباً ، ويكون بناؤه أقرب للشعر منه للنثر.
وليس في هذه المادة التصويرية برهان أو تسلسل منطقي ، وإنما هي مادة موروثة التحمت بالطقوس والعبادات. وإذا أخذت بنموها الفكري والاجتماعي في البنية التي ظهرت فيها ، يمكن رؤية تطورها السببي ، ولكن باعتبارها مادة منزلة من السماء ، أو باعتبارها نتاج القوى الخفية ، فليس هنا أية سببية برهانية متسقة لها.
ولهذا يحدث التمايز هنا بينها وبين الفلسفة ، التي تعتبر نتاجاً فردياً عقلياً محضاً ، فتتشكل على أساس المنطق والحجج والبرهان ، وهذا بحد ذاته يؤدي إلى الصدام بين هذين الشكلين من الوعي ، فالدين الجماهيري السلطوي الغيبي أو الجماهيري التمردي يتشكل بلا برهان ، ومن مجموعة من القصص والحكم والمواعظ ، في حين إن الفلسفة المكونة من خلال الأفراد والمعتمدة على أبنية فكرية متسقة ، تبدو أعلى في كيانها ومرتبتها من الدين ، نظراً لتشكلها عبر العلل واعتمادها على ثمار العلوم المختلفة ، وهي بهذا العلاقة المتوارية الضمنية ، تقوم بالهجوم على الدين ، أو على الأقل بالاختلاف والتمايز معه ، وتغدو كبناء فكري نتاج مرحلة بشرية أكثر تقدماً.
ويغدو نموها في الطبقة الوسطى ، أي في شرائح المتعلمين والمثقفين والتجار ، عاملاً آخر في تناقضها مع الدين الذي يلتحم مع المؤسستين السياسية والدينية. أي مع الطبقة الحاكمة بفرعيها الأساسيين.أي أن كافة الاتجاهات الدينية تقوم بالتوغل في الفلسفة ، وهذا يرتبط بمستوى التطور ومدى فاعليات الطبقات الوسطى والشعبية.
والعلاقة بين الدين والفلسفة لا تعتمد على تضادهما الفكري ، باعتبارهما مستويين مختلفين من التشكيل المعرفي ، بل أيضاً على الصراع الاجتماعي أو التعاون أو الإلحاق القائم بين الأشراف والطبقة الوسطى ، أي أن التضاد بين الدين والفلسفة قد يصل إلى المضامين العميقة المشكلة لهما . ولهذا فقد غلب على الفلسفات اليونانية في مرحلتها الأول الاتصاف بالمادية حين كانت مستقلة ومعبرة عن اتجاهات الطبقة الوسطى في مدن حرة ، ولكن الاتجاهات المثالية نمت وتطورت وسادت فيها بعد ضمور الطبقة الوسطى وإلحاقها بالدولة و صعود طبقة ملاك العبيد .
إن عمليات التعاون أو الصراع تعتمد على الظروف السائدة في البنية الاجتماعية واتجاهات التطور فيها ، وعلاقات التداخل والتباين بين مستوياتها وأشكال الوعي فيها ، ولهذا فليس من الممكن المعرفة المسبقة بعلاقات الدين والفلسفة ، وهما كشكلين من الممكن أن يحدث تعاون وتداخل بينهما ، حسب رؤية المفكر ، فيحدث توظيف كل منهما للآخر ، ومن الممكن أن يحدث الصراع .
إن الاتجاهات السائدة في البنية هي التي تلعب دوراً كبيراً في علاقة الدين بالفلسفة في المشرق ، نظراً لأن الفلسفة تالية والدين قديم وراسخ ، فهذه الاتجاهات السحرية والأسطورية والدينية نظراً لخمسة آلاف من الحضارة العبودية المعممة الاستبدادية هي التي كونت القواعد العقلية الجماهيرية ، في مناطقها الزراعية المنعزلة ، وتغدو المدن مكان إدارة الطبقة الحاكمة بمؤسساتها السياسية والدينية ، وتصير فئات التجار والمثـقفين والإداريين الخ ، ذات علاقة تابعة بالطبقة الحاكمة ، ومن ثم تصير الفلسفة تابعة للدين .
ولكن أيضاً من الممكن مع اتساع الدولة والتجارة والحرف ، أن تظهر فئات إنتاجية وتجارية ومالية غير تابعة للدولة ، أو أنها ُترهق وتعاني من استغلال الحكام ، فتقوم بإنتاج وعي مختلف ، نقدي ، أو تشككي ، أو معارض بصورة مبطنة دينية أو صوفية أو عقلانية الخ ..
ومن المؤكد إن حجم ونوع هذا الاختلاف يعتمد على مدى تطور الفلسفة باتجاه القراءة الموضوعية للطبيعة والمجتمع والوعي ، ومدى شمولية الدين وتداخله مع السلطة أو السلطات ، واتساع أو ضمور المواد العلمية الناتجة من الأبحاث وتطور التقنية والترجمة ، ومدى دور وأهمية النزعات المادية في داخل الأبنية المثالية أو خارجها الخ..
وتقود الصراعات في البنية الاجتماعية إلى تفكك المنظومة الدينية الشاملة الوحيدة إلى مذاهب متعددة ، تعبر عن النزاعات الاجتماعية والقومية غير المعبر عنها سياسياً ، وتتخلق بشكل مذاهب وربما أديان الأقليات المختلفة ، وهذا كله يتغلغل في الفلسفات ، لتغدو اتجاهات متعددة ، وللجسم الإمبراطوري شكله التطوري الخاص ، بخلاف زمنية التفكك والدويلات ، بحيث إن التعميمات الفكرية والاستخلاصات المجردة المتعالية فوق البُنى التاريخية المحددة ، تقود إلى استنتاجات غير دقيقة.
فحين نناقش ـ على سبيل المثال ـ تيار المعتزلة ينبغي أن لا يُؤخذ فوق البُنى التي تتشكل وتتنامى داخل تضاريسها ، ففي عصر الدولة الأموية كان الاعتزال يتطور بشكل ، هو بمثابة المرحلة التأسيسية له ، ولكن هذا الطور الأول ليس متماثلاً مع الطور الثاني ، رغم وحدة المفاهيم الأساسية ، لأن البنية الاجتماعية الجديدة قامت بإعادة تشكيل الاتجاه ، فقد كان في الطور الأول قيادياً طليعياً ، أما في الطور الثاني فكان تابعاً للدولة ، وهذا مرتبط بعملية الصراع الاجتماعية ـ الفكرية ، ولهذا سوف نقرأ التباينات الاتجاهية والمعرفية في الطورين ، وسنرى علاقة ذلك الوثيقة بالبُنى ومدى هيمنة الدولة ـ الدين فيها، والفروق بين الطورين والجوانب المتضادة فيهما .
أي أن اتجاه المعتزلة سيُؤخذ ليس كاتجاه فكري له جذوره الموضوعية فحسب ، بل كفاعلية فكرية وسياسية داخلة في البنية ومراحلها المختلفة مؤثرة ومتأثرة بها، ومن هنا ستتضح الفوارق الدقيقة بين كل مرحلة ، والعمليات التي تؤسس الوعي ، وعمليات الوعي في الحياة.
وسندرس كل اتجاه حسب هذه الطريقة ، وتفاعل الاتجاهات المختلفة ، داخل البنية الإمبراطورية ثم في البنى الإقليمية ، وسنقرأها في ضؤ التفاعلات بينها ، مستعيدين جذورها وجذور المنطقة والأقاليم المختلفة ، لتتشكل لوحات مركبة للدين ، وللاتجاهات الفكرية ـ الدينية وللمذاهب والعلوم والفلسفات.
ولهذا فإن هذا الجزء من البحث سيقوم بقراءة الجذور القديمة والمعاصرة لتشكل الوعي العربي بين مرحلتيه الوثنية والإسلامية، وحيث لا يوجد هنا سوى وعي ديني بمرحلتين وببنيتين، وهي المرحلة التي ستضع القواعد الأساسية للمرحلة التالية للعصر العباسي الأول .
في حين سيبحث الجزء الثاني الأبنية الفكرية التي تشكل على أساسها الوعي الفلسفي المكتمل في العصر العباسي الثاني .
أما الجزء الثالث فهو يختص ببحث أبنية الفلسفة المختلفة .
وهذا التقسيم سوف يضعنا على التشكلات المعقدة لبنية الوعي المتطورة، والملتحمة بالتطورات الاجتماعية والفكرية المختلفة، بحيث نكتشف ظاهرات الوعي المتعددة، في نوعيها الرئيسين: الدين والفلسفة، ومن بذورها الصغيرة وكيف تتنامى في أشجار كبيرة .
أننا حين نبحث في المذاهب الدينية سنرى أسباب انقساماتها وتدرجاتها ، حسب الوعي والجغرافيا، وعلاقاتها بالصراعات الاجتماعية و [ القومية ] والمستويات الفكرية للمناطق ، وعلاقاتها بالعصر القديم والمادة الإسلامية.
أو حين نتتبع تياراً فكريا سنقرأه عبر مراحل تطور البنية الاجتماعية العربية / الإسلامية ، حيث سيبدو مضمراً وصغيراً في مرحلة ، كما يحدث للصوفية على سبيل المثال ، حيث ستبدو اتجاهاً زهدياً في المراحل الإسلامية الأولى ، ونقرأ أسباب التشكل بهذا المستوى ، ثم سنرى الصوفية في مرحلة أخرى وقد أعطاها التطور الاجتماعي والفكري القواعد الأساسية لتغدو اتجاهات مستقلة عن البنية ، وكظاهرات وعي متميزة.
إن التداخل المعقد بين ما هو اجتماعي وفكري سوف يتيح لنا تفكيك هذه الاتجاهات والفلسفات بصورة جديدة في القراءة المعاصرة .
إن مصادرنا القديمة والمعاصرة تحفر بدرجات متفاوتة في هذه المادة ، فالمصادر القديمة تقدم المادة بصورتها الخام بهذه الدرجة أو تلك من الأمانة والعرض ، وبدرجة محدودة من العرض التاريخي والقولي ، لكن تغيب عنها البنى المركبة الاجتماعية والفكرية لكل مرحلة ، وفي العصر الحديث تم التوجه إلى التوغل في التسلسل التاريخي وبعض سببياته المحددة و المباشرة كموسوعة أحمد أمين الهامة ، أو رؤيته من خلال البنية الصراعية للعصر دون الجذور التاريخية المركبة للمنطقة ومراحلها المختلفة ، أي دون التضفير بين الصراعات الاجتماعية والتضادات الإنتاجية البارزة للأقسام الرعوية والزراعية ، كما كتب الباحث حسين مروة في النزعات المادية ، إلى الكثير من المساهمات المفيدة والعظيمة، والتي تحتاج في الآونة الراهنة إلى التغلغل الأعمق إلى تضاداتها العميقة والمركبة .
لو أخذنا الأستاذ أحمد أمين كنموذج لقراءة الوعي الديني والفلسفي فما سنجد؟
يعتبر الأستاذ أحمد أمين من كبار الباحثين العرب الذين أعطوا الكثير للبحث العلمي في مجال التاريخ الفكري والفلسفي العربي، فقد غربل هذا الرجل لوحده مئات المجلدات العربية القديمة، وفحصها أيضاً على ضؤ الدراسات الأوربية في عصره ومن خلال شخصيته المنفتحة ، وليقدمها مشروحة مكثفة منتقاة، باحثاً عن خيوط النور والوعي فيها، غير متجاهل لأثر البيئة والوسط والأحوال المادية والفكرية وتلاقح الأجيال والعصور والأفكار.
جهدٌ كبيٌر وعملٌ عظيم ، فأياديه بيضاء على الباحثين ممن جاءوا بعده ، فتلمسوا الأرض الممهدة والجهد الخلاق ، فأضافوا وحفروا وشقوا دروباً جديدة.
استطاع أحمد أمين أن يرى تداخل العصور الفكرية ، فهو لا يصور المنتجات الفكرية وكأنها منقطعة السُبل عن بعضها البعض ، بل يراها كمعاناة اجتماعية بشرية لإنتاج وعي جديد ، وتمثل موسوعته : فجر الإسلام، ضحى الإسلام ، ظهر الإسلام ، ذروة عمله العلمي الذي عكف عليه طوال حياته ليضع التاريخ الفكري للأمم الإسلامية رهن المادة المتداولة المدروسة .
في استعماله لألفاظ : الفجر، الضحى، الظهيرة ، تعبير زمني عن جدلية التطور ، فهو يدرس تطور الوعي وكأنه في لحظة نمو نهاري ومتوقف عند سمت الشمس العمودية وليس الغاربة ، وفي هذا حدس بالصيرورة الاجتماعية وقد اتخذت صفة اليوم، ومن هنا تراه يعكف على بلورة التطور العام للفكر ، مموضعاً إياه في ظاهراته المختلفة ، مقسماً إياه في شرائحه الفكرية والاجتماعية المختلفة الكثيرة، فهو يدرس الأدب والفلسفة والدين والحياة الاجتماعية الخ..، بحيث يقود هذا التشريح الموضعي إلى فهم الصفات المشتركة .
ومن هنا لن تجد لديه التعميمات والصفات العامة، فكلمة [ عربي ] لن تُؤخذ بإطلاق، بل في مكانها الاجتماعي والتاريخي ، ولهذا يقول عن أبن خلدون :
[ فترى من هذا أن أبن خلدون في حكمه على العرب خلط بين العربي في عصوره المختلفة ، وأصدر عليه أحكاماً عامة ، مع أنه هو نفسه القائل بأن العربي يتغير بتغير البيئة.]، (3).
إن أحمد أمين وهو يقوم بقراءة التاريخ المحدد، أي المُنتَّج في فترة تاريخية ما، سيبحث عن العوامل البشرية المؤدية إلى تشكيله، ولن يعطي لأحد العوامل أهمية استثنائية، ولهذا فهو يعرض العوامل والظواهر جنباً إلى جنب بموسوعية، وحتى الظواهر الغيبية سيضعها داخل صيرورتها الإنسانية، دون أن يغفل الطابع المركب لهذه الظواهر، حيث سنرى جذور الماضي تتدلى قرب رؤوس الحاضر، والحاضر بدوره يحمل مواليد الغد، وهذه الجدلية المركبة ، لن تعترف بالمطلقات كالقول بالعقل اليوناني والعقل العربي والهندي وكأنها براميل مستقلة ، تحمل موادها الكيميائية الخاصة المتجوهرة على ذواتها ، وسيجد إن العقل العربي في مرحلة البادية مختلف عن عصر المدن ، دارساً الظاهرات المتحدة والمتنوعة له ، وهو يلاحظ هنا عمليات معقدة تجري للوعي العربي، فحين يتناول أبا ذر الغفاري كشخصية داعية للمساواة، يتتبع أثر الأفكار المنتشرة والقديمة والمتداخلة بين الشعوب فيقول : [ونلمح وجه شبه بين رأي أبي ذر الغفاري وبين رأي مزدك في الناحية المالية فقط ]، (4).
ومهما كانت صحة آرائه هنا، أو كذلك تحامله على عبدالله بن سبأ، فنحن يهمنا هذا الالتقاط للشعيرات الفكرية والاجتماعية المتداخلة.
ويعبر كل هذا عن قراءة التداخل بين الوسط والوعي بشكل زمني متصاعد، يرجع للوراء قليلاً ، لكنه ينمو دوماً إلى الأمام، وليس هذا الوسط إلا حدود الجغرافيا الطبيعية والاقتصادية والفكرية ، متقطعة في المراحل السياسية المعهودة في التأريخ: العصر الجاهلي ، فالإسلامي، فالأموي الخ..
وهنا تلعب المرجعيات الفكرية الليبرالية لعصر أمين دورها ، فمفاهيم الوسط والبيئة والعوامل المختلفة المؤثرة، هي التي تقوم بالتحليل المتضافر المنساب عبر الزمن، أما مفاهيم البنية الاجتماعية وقوانينها ، فهي مرحلة لم تصل لها هذه المنهجية بطبيعة الحال ، (5).
والفارق بين المنهجيتين ، أي بين منهجيتي البيئة والبنية ، يعبر عن أدوات التحليل بين زمنين ، فمفهوم الوسط البيئي لدى أمين لا يعبر عن صراعات القوى الاجتماعية في ظل بنية محددة، يقوم العلم بدراستها ، ثم يتتبع البُنى التالية وأسباب ظهورها وتشكيلاتها، فلا يغدو التاريخ الفكري مجرد مؤثرات على وسط غامض الملامح ، بل تأثيرات على بنية أو بُنى تزداد تناقضاً ثم انفجاراً متيحة الدرب التاريخي لبنية أخرى.
فنظرة أحمد أمين لا تستطيع أن تفسر بعض القضايا المركبة ، كالقول بأن الإمامية هي ذات جذور فارسية ، وأن [ ثانوية الفرس كانوا منبعاً يستقي منه رافضة الإسلام ]، (6) ، فمسائل التيارات الفكرية أعقد من ذلك، وظروف الصراعات العربية الداخلية كانت هي الأساس في إنتاج مثل هذه التيارات ، مع أهمية المؤثرات الخارجية.
إن فترات العصر النبوي والراشدي ، والفترة الأموية ، والعصر العباسي الأول ، والعصر العباسي الثاني، التي يتخذها أمين كفترات معروضة في أجزائه، هي بحد ذاتها بُنى اجتماعية لها قوانين تطورية مختلفة عن المراحل الأخرى، وميزته إنه يقوم بعرض ظاهراتها المختلفة ، بدون التوصل لقوانين الصراعات الاجتماعية فيها ، فليس لديه مفهوم البنية وترابطها، لأن هذه البنية هي التي تحدد تشكل الظاهرات الفكرية التي يدرسها، ولكنه يأخذها مستقلة عنها غير متضافرة بسبب علل جوهرية، مع أهمية المعلومات والمواد التي يقدمها عنها.
ومثال آخر نقرأه لدى الأستاذ الدكتور محمود إسماعيل، فالباحث الدكتور محمود إسماعيل هو من القلائل في مصر الذين اعتنوا طويلاً بالبحث في التاريخ والفلسفة العربيين ـ الإسلاميين ، وكان أول كتاب له عن [ الحركات السرية في الإسلام] وهو الكتاب الذي صدر في بداية السبعينيات ، وقد افتتح فيه تحليل التاريخ الإسلامي من وجهة نظر كشف تطور الصراع الاجتماعي ، ثم تتالت كتبه عن ظاهرات الفرق والاتجاهات خاصة في شمال أفريقيا التي درّس فيها حقبة هناك ، ثم أصدر كتابه الأساسي [ سيوسيولوجيا الفكر الإسلامي ] وهو أربعة أجزاء يتناول فيها تطور الوعي في التاريخ العربي الإسلامي وكيفية نشأة الفرق والاتجاهات الفكرية والفلسفية المختلفة ، مستخدماً أسلوباً سهلاً في العرض ، معززاً إياه بمئات المراجع والنصوص ، مما يعتبر مرجعاً لأي دارس لهذه الظواهر .
وإذا كان أسلوبه يمتاز بسلاسة العرض وبساطته نظراً لاستمراره في العملية التدريسية وثورية أفكاره ، إلا أن التبسيطية في النظرة إلى التاريخ الفكري تنتشر لديه في الخطوط العريضة لرؤية هذا التاريخ.
فهو يقسم التاريخ الاجتماعي إلى قوتين متصارعتين هما البرجوازية والإقطاع ، والتطور والحداثة والعلم تأتي من الأولى ، أما القوة الثانية فهي قوة تخلف وارتداد ، وهو حكم صحيح في عموميته الواسعة ، ولكن إلى أي مدى كانت البرجوازية تستند إلى أسلوب إنتاج بضاعي وصناعي ، وما هي تداخلاتها مع التيارات الفكرية والفلسفية ، فإن هذه مسائل مركبة يبسطها الدكتور محمود إسماعيل ، فلا يقوم بتوصيفها التوصيف الدقيق المتداخل ، لأنه يلجأ عادة إلى التعميم.
في الجزء الثالث ، على سبيل المثال ، وهو المختص بدارسة أفكار الفلاسفة والفرق الفلسفية ، يتعرض لمدرسة [ أخوان الصفا ] ، وهي المدرسة الفكرية السرية التي ذاعت أفكارها في العالم الإسلامي عبر التاريخ.
وحول الاختلافات في تاريخ ظهور هذه المدرسة وعن صحته يقول الباحث : [ وعندنا أن ظهور المعلومات الأولى هذه عام 360 هـ لا يخلو من دلالة على ارتباط هذا الظهور بعصر الصحوة البورجوازية الثانية ـ من حول منتصف القرن الرابع إلى منتصف القرن الخامس الهجري ـ وهو عصر المد الليبرالي الذي شهد ظهور كيانات سياسية كبرى تمثل في الدولة البويهية والدولة الفاطمية والخلافة الأموية بالأندلس ، وهي كيانات ذات طابع بورجوازي حققت الكثير من طموحات إخوان الصفا ]، (7).
إن هذه الكلمات العامة عن الصحوة البرجوازية والمد الليبرالي، يجب أخذها بحيطة موضوعية وتدقيق بالغ ، فهل يمكن اعتبار عصر الدولة البويهية عصر [ صحوة ] ، وما معنى الصحوة في سياقات البحث الاجتماعي ، وهل الدولة البويهية دولة بورجوازية؟ إن كلمة [ صحوة ] تقابل النوم ، فكأن العلم الاجتماعي يتحول هنا إلى استخدام التعبيرات الفضفاضة المتعلقة بنوم واستيقاظ الفرد ، وليس بقراءة تشكل الفئات والطبقات الاجتماعية.فمن المعروف إن الدولة البويهية كونها أمراءٌ فرسٌ زيديون تلاعبوا بالخلفاء العباسيين وحولهم إلى دمى، وقد عاثوا بميزانية الخلافة على بذخهم ولهوهم ، وانحصرت الخلافة حول بغداد ثم بضع دويلات فارسية ، وعموماً تحول الأمراء البويهيون إلى إقطاع متحكم في الثروة.
وإذا أردنا قراءة الوضع البويهي على حقيقته فلنستمع إلى باحث ثقة في هذا المجال وهو عبدالعزيز الدوري ، فحول وضع الفلاحين نقرأ: [ فمن آثار سياسة معز الدولة تجاه الأراضي أن ” فسدت المشارب ، وبطلت المصالح ، وأتت الجوائح على التناء {الفلاحون} ورقت أحوالهم ] في حين أرتفع دخل أفراد الجيش البويهي المسيطر ، [ والخلاصة، فإن عصر العصر البويهي كان خالياً من الخدمات الاجتماعية باستثناء الفترة بين 369 ـ 372] ، [ وكان الفقراء يأكلون الجراد أيضاً، وخاصة في السنين العجاف] ، [ وكانت معيشة البدو صعبة] ، [ ورأى بعض الوزراء في المصادرة مورداً أساسياً للخزينة وتصرفوا بموجب ذلك ] ، (8).
هكذا غدا هؤلاء الأمراء البويهيون الغزاة إقطاع عسكري ، ينتزع الفوائض عبر الجيش ، وهو ــ أي الإقطاع ــ لا يعرف كيفية توسيع الإنتاج وتحديثه، ولكن ما هي علاقة أخوان الصفا الذين ظهروا في هذه الفترة بالبويهيين وهل كانوا من تأثيراتهم؟
إن أخوان الصفا تجمع ثقافي سري ليس له صلة بالحكام ، وهو يتشكل من شرائح الفئات الوسطى المعارضة للاستغلال الإقطاعي السياسي والديني والعسكري ، وقد أمكن لهذه الجماعة أن تكتب وتدس كتبها في غيبة من أعين السلطات ، واستفادت من صراعاتها الفوقية وغياب ملاحقاتها ، ولهذا فإن كلمة [ الصحوة ] تبدو بلا معنى هنا ، ففعل أخوان الصفا فعل كفاحي استمر في فترات طويلة ولا علاقة مباشرة له بنظم الحكم الراهنة، فالمستوى الفكري ليس انعكاساً مباشراً للحظة السياسية، بل له صيرورته الخاصة ، فهو إجابة على الأسئلة التي طرحها الإسلام عبر حركاته المختلفة ، خاصة حركة الاعتزال ، وحركة أخوان الصفا مرتبطة بالتقاليد الكفاحية الفكرية للمناطق العراقية الجنوبية القديمة وهي محاولة لتجاوز عقلانية الاعتزال بصورة مختلفة . أما إلى أي مدى هي بورجوازية فإن ذلك لا بد أن يقوم على دراسة دقيقة في مدى تعبيرهم عن ذلك. وعادة كانت الشرائح الوسطى والصغيرة غير ذات استقلال عن الإقطاع الديني والسياسي ، ولهذا لا نستطيع أن نتحدث عن فكر بورجوازي مستقل وبشكل واسع لديهم.
لكن الدكتور محمود إسماعيل بعد هذه الملاحظات العامة يسوق الكثير من الأفكار المتغلغلة في تحليل فكر أخوان الصفا ، بصورة دقيقة متتبعاً تجليات وعيهم في مختلف الظاهرات السياسية والعلمية والفلسفية ، بحيث جاءت هذه الملاحظات بغنى مختلف عن التعميمات التي لم ترتبط بها.
4 ₪ خاصية هذا الجزء وموقعه:
يتناول هذا الجزء الجذور الاجتماعية البعيدة والقريبة لتشكل الفلسفة العربية ـ الإسلامية. فالجذور البعيدة تعني الأسس التي أقيمت عليها الأديان في منطقة المشرق العربي، فهذه المنطقة التي عرفت الحضارة مبكراً، كانت لها أسسها الخاصة في تكوين الوجود الاجتماعي والفكري، نظراً لقيامها على دول استبدادية شاملة بسبب عمليات الري الحكومية المبكرة ، فظهرت فيها الآلهة الشاملة المسيطرة على الوجود كليا ً، وقد تنامت هذه السيطرة من الجزئي إلى الكلي، من الطبيعي حتى الروحي، وقد تمثل ذلك في وعي المشرق وأوربا بخلاف البشرية الأخرى ، أي غدا ذلك متجذراً في الوعي الأسطوري المشرقي القديم ثم في الديانات : اليهودية، والمسيحية ، والإسلام.
ولن يكون تناولنا لهذه الجذور البعيدة إلا لوضع بعض الأسس الموضوعية لظهور عمليات التدين، حيث ستقوم الأديان السماوية بوراثتها وتجاوزها . فهنا تقع التخوم بين العصر القديم والعصر الوسيط ، وتجري عمليات التوارث والتداخل والتجاوز ، ويقوم الوعي باستعادة الموروث القديم حسب المواقع الاجتماعية والجغرافية المختلفة ، أي حسب لحظات تطور الشعوب في كل بقعة ، وعمليات الصراع الداخلية التي تجري فيها.
فيحدث التأثر والتجاوز حسب مهمات التطور لكل شعب ، فالتراث السابق يقع في لحظات الغربلة المستمرة والتجميد المقصود واللامقصود ، ومن هنا سنأخذ التاريخ العربي باعتباره يتشكل في حضن القديم ويقوم بتجاوزه ، ويقوم هذا الجزء بتحليل كيفية تشكل ذلك ، فهنا توجد الجذور الاجتماعية والفكرية الأولى ، فهي المرحلة التأسيسية القاعدية للتطور التالي ، ولا بد من رؤية قوانين تشكلها ، حيث ستقوم بإعادة إنتاج نفسها في المناطق الأخرى ، ليس بشكل مجرد ولكن من خلال سيرورتها الاجتماعية المفروضة على تلك المناطق ، ثم عبر تفاعل تلك المناطق ومقاومتها وإعادة تشكيل نفسها.
ولهذا يتصف الوعي هنا بخضوعه لعمليات الصراع السياسية والاجتماعية المباشرة ، ويؤدي تكون الإسلام في الجزيرة العربية ومحاولة مدنها للتقدم ، إلى التصاق هذه المرحلة بالعمليات المختلفة القادمة ، فتغدو المرحلة بمثابة الجذور الفكرية ـ الاجتماعية الأساسية لهذا الوعي الديني ، وتغدو تطوراته التالية مرتبطة بإنتاج هذه المرحلة وإعادة النظر فيها ، أو على العكس بتجميدها في المناطق واللحظات التاريخية الأخرى ، تبعاً لكيفية القراءات ومواقعها. وهنا يقف هذا الجزء الأول فيما سيتابع الجزء التالي ، الثاني ، المرحلة التالية والتي نعرض الآن خطوطها العريضة.
فإذا كانت المرحلة الإسلامية والأموية قد حددت جسم الظاهرة وأبرزت مضامينه الاجتماعية الأساسية المتضادة ، حيث ستغدو المرحلة التالية هي بمثابة النمو الكمي في التطور الاجتماعي ـ الاقتصادي ، فلن يكون العصر التالي : العصر العباسي الأول ، سوى امتداد واسع وتثبيت له ، ولكن دوره ينتقل إلى المستوى الفكري ، فهو يتجاوز النمو الفكري السابق ويشكل ظاهرات فكرية عميقة واسعة ، تغدو تحولاً نوعياً في مسار الوعي ، ولكن هذا المسار النوعي للوعي يستند على التطور الاجتماعي السابق وعمليات الانتشار والتعميق له.
وفي هذه المرحلة تبدو عمليات التضاد بين المرحلتين ؛ المرحلة التأسيسية برؤاها البسيطة ، ذات النسيج الديني والسحري والأسطوري والواقعي ، وبين المرحلة الراهنة حينذاك ذات البنية الثـقافية المتطورة التي تقوم بتسجيل الإرث السابق وحفظه ، أو تقنينه وعقلنته ونقده ، لكن عملية الاستعادة والتجاوز المتصارعتين ، تعتمدان على مجمل الصراعات في البنية الواسعة التركيبية ، فالطبقة المسيطرة ، بفرعيها السياسي والديني في العصر العباسي الأول تقوم بحفظ التراث السابق بشكل حرفي ، كجزء من الحفاظ على النظام السياسي / الاجتماعي الذي يضمن لها الحياة الرغدة ، ويمنع القوى الاجتماعية المستَّغلة من الانفصال ، ولهذا يغدو الإسلام الرسمي في هذه المرحلة عامل وحدة للأمم الإسلامية المتكونة تدريجياً ، فيشكل العمود الفقري لعالمها القادم .
وتتراوح عمليات الحفاظ على الموروث السابق بين الشكلانية شبه الكاملة وتوجهات التجديد التي لا تشكل إعادة نظر جذرية لأسباب تتعلق بمواقف هذه القوى السياسية والدينية الحاكمة ، وهي التي غدت الآن تكرس نظاماً شمولياً يستعيد النظم الاستبدادية القديمة في المنطقة .
ومن هنا تغدو عملية الحفظ [ الشكلية ] لمرحلة التأسيس الإسلامية مرفوضة من قبل الشعوب المستَّغلة من تلك الطبقة الحاكمة ، وهي تحاول الدخول إلى العمليات المضمونية العميقة للنصوص الإسلامية الأولى ، ونزع قشرتها الشكلانية التي فرضتها القوى المهيمنة على الدولة والمجتمع .
لكن عمليات التأصيل الجديدة حينذاك تقوم على استعادة الموروث القديم لمنطقة المشرق ، وليس على العمليات التحليلية الموضوعية للإرث القديم بشكليه الإسلامي أو الديني القديم ، فالتناقض بين المستوى الحضاري للمرحلة الرعوية الدينية والسياسية السابقة ، و المستوى الحضاري للمرحلة الزراعية الراهنة يتمظهر بشكل صراع مذهبي إسلامي ، أو بصراع ديني بين الإسلام وبين المانوية والمسيحية واليهودية.
فالرعاة العرب الذين فرضوا تراثهم على المنطقة الشمالية الزراعية ، واصلوا استعادة تاريخهم السابق في جميع أشكاله ، وتغدو النواة الصلبة لعملية هذه الاستعادة والتثبيت جزءً من رفض سيطرة البنية الزراعية الراهنة وقتذاك بظلالها الفكرية والسياسية.
والأمر ليس تناقضاً تقنياً بل هو أيضاً صراع مصالح بين الجمهور الذي استفاد من الفتوح والجمهور الذي واصل الإنتاج والعذاب . وحين تثبتت تلك المصالح في طبقة حاكمة بفرعيها السياسي والديني ، فأخذ الوعي القديم ما قبل الإسلامي باستعادة دوره الكفاحي ، في ظل معطيات جديدة ، حيث صار الدين الجديد مقبولاً ، خاصة لتأثيرات دعوته وممارسته الكفاحية الأولى .
ولكن هناك من ورثة هذا التاريخ الرعوي / التجاري من أقترب من فعل الإسلام الحضاري ، ومضمونه الثوري الأولي ، عبر التركيز على عناصر توحيدية وعقلانية دينية ماضوية وحديثة ، ولكن هذا يعتمد على إنتاج حرفي لم يتطور بشكل صناعي وعلمي شامل.
إن اتجاهات هذه المرحلة وتراكماتها المعرفية هي التي تضع الأسس لمرحلة التطور الفلسفية التالية ، التي هي تتويج للتطور الفكري في ظل الإسلام ، والمسيحية واليهودية ، والنزعات الدهرية المختلفة ، فهنا ستصل الصراعات الاجتما
Published on May 11, 2019 16:59
May 8, 2019
عبـــــــدالله خلــــــــيفة: صراع الطوائف أم صراع الطبقات؟
[image error]
ليس للعصر الحديث الا منطق واحد في الحياة السياسية الاجتماعية هو منطق الصراع الطبقي.
وقد حاولت الأنظمة والتيارات التقليدية لزمن طويل أن ترفض مقولة الصراع الطبقي، وقد استخدمت كل أسلحتها العنيفة والدعائية من أجل الغاء هذه المقولة، التي هي حقيقة راسخة في علم الاجتماع والتاريخ الحديثين، وليس مقولة إيديولوجية كما تزعم المناهج الجامعية العربية المعادية للعلوم.
لقد حاولت الحكومات العربية ومن ورائها الإمبريالية الغربية ومن ثم الجماعات الطائفية أن تلغي جميعها فكرة الصراع الطبقي، وكل هذه الوحدة الفكرية بين هذه الأطياف المختلفة ترينا المدى الاجتماعي الواسع لضرب فكرة معينة، حيث تشعر هذه القوى كلها بأن هذه الفكرة تشكلُ لها هاجساً كبيراً لا تتحمل تداعياته الحضارية والأخلاقية!
هكذا ناور الاستعمار الثقافي في العالم العربي طويلاً من أجل نفي فكرة الصراع الطبقي، وهو أمر يشير إلى تخلي الاستعمار عن جذوره الثقافية الحضارية في الغرب، واعتماده على لصوصية الشركات والحكومات والموظفين الاستعماريين التي تقطع جميعها العلاقات بالإرث الديمقراطي والإنساني في الغرب، إرث جان جاك روسو وفولتير وماركس وهيجل وكتاب التاريخ الفرنسي الموضوعيين، وإنها مجردُ محصلةِ إتاواتٍ وجامعة خراج جديدة.
وهكذا فحين قامت هذه القوى الطفيلية بسرقة العالم المسَّتعمر رفضت استخدام قوانين الصراع السياسي والاجتماعي التي تجري فى الغرب الذي جاءت منه، فظهر لديها نموذجان للإنسان؛ نموذج الإنسان المتقدم الذي يُعامل بقوانين الصراع الاجتماعي في أطر سياسية وبرلمانية وهو الإنسان المتحضر المثقف المتميز.
أما النموذج الثاني وهو نموذج العالم المستعمَر فهو النموذج المتخلف الحيواني الذي لا يجب ان تنطبق عليه قوانين الصراع الاجتماعي المتحضر!
ولكن الإنسان المتحضر نفسه دخل في أتون حروب عالمية ومناطقية كثيرة لسرقة المستعمرات وتقسيم أعداد الخدم والمواد الأولية ومن يسرق النفط ومن يسرق القمح ومن يسرق البشر، بحيث إن كتل اللحم المطحونة من هذه الحروب تكفي لدفن بحار
كاملة، مما أغرق لعقود الميراث الديمقراطي في الغرب نفسه!
لم تقنع كلُ هذه الكوارث صناع الفقر والاستغلال والمجازر في الغرب واليابان أن الإنسانية واحدة تنطبق عليها قوانين اجتماعية وسياسية متماثلة، حتى استمر الصراع الاجتماعي على نطاق عالمي في حقبة الحرب الباردة، والتي اخذت فيها كتلة الفقراء والعمال طابع المجابهة العسكرية مع كتلة الرأسماليين الكبار، وكانت كتلة العمال هي الأخرى تعتقد بانتهاء الصراع الطبقي، في حين كان الصراع مستمراً ومدمراً فيها نتيجة لعدم الاعتراف به!
وقد انتهى الصراع بين الكتلتين باعتراف الجميع في الكتلة الغربية والشرقية السوفيتية على السواء، بأهمية وجود الصراع الطبقي ولكن على ان يجري بشكل سلمي سواء على المستوى الوطني أو العالمي.
وبطبيعة الحال اتخذ الصراع الاجتماعي أشكالاً جديدة متدهورة مفككة لهذه الكيانات السياسية الدولتية القومية المركبة، نظراً لعدم الاعتراف الطويل به فى الكتلة الشرقية والتي زعمت أنها حلت إلى الأبد مشكلة الصراع الطبقي، سواء على المستوى الوطني أوعلى المستوى القومي، ونتيجة في الطرف الآخر، لاحتكار السلطة في الغرب للقوى المالية الكبرى!
والآن يجري الصراع الطبقي على النطاق الإقليمي أو العالمي باشكال تضمن سيطرة القوى المتنفذة الكبيرة بحيث أن لا يؤدي مثل هذا الصراع إلى تغييرات كبيرة في الموازين السياسية العالمية، وأن لا يحل التناقضات الكبرى العنيفة للإنسانية، وان يجعل القوى القومية الكبيرة المتمثلة في الدول الصناعية السبع وروسيا والصين والهند والبرازيل مهيمنة على مناطقها ومستعمراتها ومناطق نفوذها بشكل لا يخل بالتوازن بين الراسماليات القومية الكبرى!
قام الاستعمارالثقافي للعالم الإسلامي على إنكار مقولات الحداثة، ومن ضمنها مقولة الصراع الطبقي، مثلما شجع السقف الفكري للمرحلة الإقطاعية الطائفية التفكيكية المتخلفة الممتدة من انهيار الحضارة العربية حتى تقطيع أوصال الإمبراطورية العثمانية ونشوء حركة النهضة العربية الأولى.
ان تشجيع الاستعمار للمنظمات الثقافية/الاجتماعية، الأبوية والعشائرية والطائفية، هو من أجل أن يبقى مضمون الفكر العربي عاجزاً عن النقد والتحليل الاجتماعيين، ومرتبطاً بتكوينات ما قبل رأسمالية، بكل ما فيها من سحرية غيبية، ورغم حدوث تطورات اقتصادية وسياسية رأسمالية إلا أن هذه التطورات لم تتبور فكرياً تحديثياً على صعيد الوعي الشعبي خاصةً، في حين ان بعض الأفكار تسربت إلى النخب التي ظلت عاجزة عن توسيع أفق الحداثة الفكري داخل الجمهور.
كذلك فان المؤسسات السياسية التي أقامها الاستعمار أثناء وبعد رحيله اعتمدت على مظلة الأفكار الأبوية والطائفية، فقد عمل الاستعمار وورثته على الإبقاء على البنية التقليدية بكل هياكلها الأساسية، ولاستمرار الثقافة الخرافية السحرية، والطائفية والأمية والذكورية سائدة بين الشعوب.
وحتى حين نشأت الحركات القومية والدينية المختلفة، فإن هذه الحركات واصلت إعادة إنتاج ثقافة الطوائف والتخلف، حيث أضفت على (العرب) طابعاً سحرياً كأمة غير مقسمة طبقياً، ومتحدة في جوهر غيبي خارج تحليل التاريخ.
وهكذا تأسس القوميون والبعثيون والجماعات المذهبية المختلفة على أساس إنكار الصراع الطبقي داخل الأمة، وداخل الطوائف المختلفة، وداخل الأوطان، وداخل القبائل، وكان هذا الإنكار يعبر عن الطابع الدكتاتوري العميق داخل هذه الحركات، والذي تجسد عملياً في قمع عنيف ومتنوع لكل من يطرح تقسيم الأمة والطائفة والوطن والقبيلة والمذهب!
وترافق هذا القمع مع تأجيج مشاعر حادة ضد كل من يطرح الانقسام الاجتماعي، وحتى فى دراسة التاريخ اعتبرت الإشارات إلى انقسام الأمة العربية و(الامة) الإسلامية كارثة فكرية وخطراً يهدد سلامة الفكر العربي!
وأخذت تسميات تاريخية قديمة تسعتيد نفسها كتسمية (الشعوبية) وأُعتبر الباحثون الاجتماعيون المدققون والأحزاب اليسارية كشعوبيين جدد، وهراطقة وملحدين وشيوعيين خونة!
ولم تستطع هذه الأفكار أن تتصدى للمد الفكري التقدمي العالمي الجارف، وتحولات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وإذا كان الوعي الطائفي لم ضعف بسبب هذا المد فذلك يعود إلى أن التغيرات التي جرت فى الخمسينيات كانت مداً وطنياً هادراً أسكت القوى الطائفية مؤقتاً بحكم هديره الانفعالي، وليس بقدرته على التحليل والنقد والتجاوز.
كذلك فإن التسييس التحديثي العلماني اقتصر على النخب المضحية، وبقيت الجماهير في أشكال سياسية هلامية وفي شعارات حماسية، وليس في تنظيمات وحقول إنتاج تعيد تشكيل مهن ووعي هذه القوى العاملة، فقد ظل الهيكل الاقتصادي العتيق مع بعض التطورات الحديثة الصغيرة التي لا تقوم بإعادة تشكيل البناء الاقتصادي عامة، ولا على التثوير التقني والعلمي لهذه القوى.
كذلك فإن تحديث القوى العلمانية والديمقراطية كان شكلياً نخبوياً فهو لم يقم على حرث الأرض الاجتماعية بالتحليل العميق، وبقراءة المذهبية السياسية كتدهور في حركة الإسلام الديمقراطية والثورية، وبعجز النظام الإقطاعي/الطائفي الذي شكلته القوى الحاكمة المتعددة، عن إنتاج الحداثة وفهم الإسلام معاً.
وهذا قد جعل الحركات العلمانية واليسارية العربية نفسها لا تخلو من جذور غائرة للطائفية، وهكذا تم فهم الصراع الطبقي في التاريخ الإسلامي بأنه صراع الأماميات المذهبية المتعددة ضد السنة، وإن الأماميات هي التي تحمل النضال الثوري للكادحين في حين كان السنة ممثلين للقوى الاستغلالية.
وهكذا حدث التباس عميق فى الوعي، مما عبرعن إسقاط صراعات معاصرة على فهم التاريخ، وعن قصور في أدوات التحليل، وعجز عن فهم أسلوب الإنتاج الماضوي/الراهن وتناقضاته العميقة.
ولكن كان لهذا القصور انكاساته على تطور الصراع السياسي الحديث!
إن عجز اليسار العربي عن فهم مسار الصراع الطبقي في الماضي والحاضر، كان أكبر ثغرة فكرية في فهمه وفي قدرته على اتخاذ مواقف سياسية مؤثرة ومتنامية.
إن عدم القراءة الموضوعية العميقة للصراع الطبقي قد أدى إلى تداخله والصراع الطائفي، واتخاذ الأخير بديلا عن الأول، لقصور في الرؤية والفعل السياسي معاً.
لقد تمت قراءة الصراع الطبقي فى التاريخ الإسلامي بوصفه صراعاً بين الطوائف، فثمة طائفة ثورية وطائفة محافظة، وهذا التعميم حدث الالتباسُ فيه لكون الطوائف الكبيرة التي حازت على السلطة وثروات الفتوح وحكمت الأمم الأخرى، شكلت وعياً إيديولوجياً معبراً عن سيطرتها، في مجموعة من المذاهب التي عرفت مذاهب السنة الأربعة الرئيسية، والتي أخذت تتمظهُر فقهياً وفكرياً وسياسياً على مدى قرون فيما عرف باسم أهل السنة، ولكن هذا التمظهر شكلته الدولُ المسيطرةُ وأجهزتها، فهي تقوم بإزاحة العناصر المعارضة والنقدية فى فقه المذاهب الأربعة، وتشكلنها، أي تجعلها شكلية ومُسيسّة لسيطرتها، والأمر لم يجر فى المذاهب الفقهية فقط بل فى المذاهب الفلسفية والتيارات الاجتماعية، كتيار الاعتزال الذي قُمع وأُفرغ من نضاله الدمقراطي!
والامر لا ينطبق على مذاهب السنة بل أيضاً ينطبق علي المذاهب الإمامية المتعددة، بدءاً بالزيدية التي تحولت من حركة معارضة إلى جماعة إقطاعية عبر بني بويه وفي اليمن، وكانت منفتحة في المغرب، والإسماعيلية التي كانت حركة اغتيالات وتمرد فصارت عبر الحكم والهيمنة على الجمهور جماعة قصور ونحلة
سرية وهيمن عليها الإقطاع كذلك، وأصبح آغا خان زعيمها الروحي يوزن بالذهب في الزمن المعاصر! ولا تشذ الإثناعشرية من هذا التاريخ حيث كانت معارضة أسرية منذ البداية، أي تريد الحكم لآل البيت العلوي ثم انتقلت إلى هيمنة رجال الدين الكبار الذين تداخلوا مع السلطات في إيران وبعض المناطق، أما الجمهور الشعبي المستقل فعجز عن تشكيل صوته الخاص!
وهكذا فإن المعارضات المذهبية اكتسبت طابعاً تقليدياً غير قادر أن يصوغ وعي الحداثة والديمقراطية، بعد أن تشبعت بالهيمنة الطبقية العليا.
ومن هنا قامت هذه الهيمنة الطبقية المذهبية العليا، وفي مختلف المذاهب، بمعارضة كافة أشكال الوحدة بين المسلمين وهذه الوحدة تفترض مبدأ الصراع الطبقي بداهةً وضرورةً، حيث لا توجد وحدة قوية دون صراع!
ولم تعارض أي سياسة استعمارية أو وطنية إلا حين تتعرض لسيطرتها الخاصة، وحين تقوم بالتحديث الذي تعتبرهُ قضاءً على تلك السيطرة المطلقة على الطوائف. لكن الجتمع الإسلامي الحديث لا يمكن أن يتقدم إلا على ضوء الحداثة، وعلى تفكيك الطوائف وتحويلها إلى شعب موحد منصهر فى بوتقة وطنية، وبوتقة الوطنية تفترض انقسامه الحديث إلى طبقات لا إلى طوائف، حيث تتصارع الطبقات على توزيع الثروة وتطوير البنية الاجتماعية المتخلفة، وصراع الطبقات إذا تم بشكل حضاري سلمي يقوي الأوطان أما الصراع الطائفي فهو يقوضها، ولا بديل عن أحدهما، فإما تطوير وأما هلاك!
إن الصراع الطبقي يتماشى مع آليات الحداثة، ولا يتعارض مع الانتماءات المذهبية والعقائد الدينية، ولكن الصراع الطبقي يفكك الهيمنة التقليدية للقبيلة والطائفة والأمة، فلا يصبح لزعماء الطوائف سيطرة على الجمهور، بل يتوجه الجمهور لمصالحه الطبقية في النقابات والأحزاب.
وإذا كان أعضاء الطائفة ينقسمون إلى عمال ورأسماليين وتجار ومزارعين، فمن المستحيل تشكل وحدة سياسية واقتصادية بينهم، بسبب تعارض المصالح، فهذا في نقابة عمالية وذاك في منظمة لأرباب العمل، ويقوم زعيم الطائفة بتشكيل وحدة خيالية للطائفة المنقسمة المتصارعة، والتي تجد أقسام وحدتها النضالية ليس في كتل من طائفتها بل في كتل من طوائف أخرى أقرب إلى شقائها أو أرباحها او مصاحها!
وهكذا يصبحُ الشكل الطائفي السياسي عائقاً امام تطور الوعي الطبقي للقوى الشعبية المختلفة، والتي هي بحاجة إلى مثل هذا الوعي لوحدتها ودفاعها عن مصاحها وتصعيد رموز سياسية إلى النقابات والبرلمان يعبرون عن هذا الوعي ويجسدون تلك المصالح!
ويحتاج الفقراء والعمال أكثر من غيرهم إلى مثل ذلك لأن القوى الأخرى تجد السبيل لتحقيق مصاحها عبر ثروتها وصوتها المسموع.
وكما قلنا فإن قوى اليسار التي وهنت قواها في بعض المناطق العربية فقدت القدرة على تصعيد مثل هذا الوعي الطبقي، نظراً لانقطاعها عن الجمهور لشتى الأسباب، وحيث وجدت ان الطوائف ذات الظروف الصعبة تطرح مسائل العدالة الاجتماعية فقد اعتقدت بأن هذا هو الوعي الطبقي ولكنه تشكل عبر الشعار الطائفي!
هنا يتضافر الوعي الانتهازي والفرصة السياسية، فمع انقطاع أدوات التحليل الموضوعية، يقوم بعض ممثلي الفئات الوسطى الذين وهنت قواهم الفكرية والسياسية المدافعة عن العاملين، باقتناص الفرصة واستغلال الحركات الطائفية من أجل مصاحهم الشخصبة وليس من أجل مصالح الحركتين السياسية والاجتماعية.
وهنا تأتي مفاهيم السنة والشيعة والمسيحيين وتحويلها إلى مفاهيم كاريكاتيرية، (حيث يوجد الفقراء المسلمون تكون القضية والكفاح والتضحية، وحيث يوجد الأغنياء المسيحيون أو السنة توجد الكوارث!).
هكذا تم التعامل مع القضايا المعقدة للتركيبة الطبقية والثقافية اللبنانية مثلاً !
ولكنها لا تقتصر على الانتهازية السياسية بل تجمعها مع الانتهازية الفكرية فتقوم بالتنظير لمثل هذا السقوط، لأنها هنا تخدع فقراء وعمال الطوائف المختلفة، وتسلم قيادتهم لقوى استغلالية متخلفة، وتجعل العاملين يتذابحون، فيتم منع تطور وعي العمال الطبقي المستقل ويتحولون إلى أدوات في يد قوى توظفهم من أجل مصاحها وارتفاعها السياسي الخاص.
وهكذا راينا بعض الحركات القومية والدينية واليسارية تصعد رموزاً وقيادات سياسية شمولية طائفية تقوم بذبحها واستغلال الثروات وتخريب التطور عامة.
علينا أن نقول: إن الطوائف يعاد تشكيلها مع النظام الاقتصادي الحديث، فهي تصطف فى طبقات مختلفة، ولكن ذلك يتعلق مدى تطور النظام الرأسمالي في البلد المعني، أي مدى تحوله من نظام إقطاعي مذهبي تشكل على مدى القرون السابقة، إلى نظام غير طائفي وحديث، أي ألا تكون لافتة الطبقة المسيطرة على النظام السياسي لافتة مذهب ديني معين، بل أن تكون خارج المذاهب، وأن تتشكل بفكر الحداثة، أي لا تنتمي لطائفة معينة، بل تنتمي لكل الطوائف، لأنها تعبر عن طبقة ولا تعبر عن طائفة أو عن عائلة أو قبيلة أو عن وطن أو عن أمة!
هكذا ينزاح الفكر القبلي والطائفي والوطني والقومي بمعنى أن الطبقة الحاكمة لا تزعم أنها معبرة عن الشعب كله أو الأمة كلها أوعن الطائفة كلها، فهذه تعميمات خادعة، وغير ممكنة سياسياً واجتماعياً، فهي تعبر عن شريحة من طبقة أو عن طبقة كلها أو عن مجموعة من الطبقات، بحسب تحديدها لأهدافها السياسية والاقتصادية الانتخابية وتصويت الجمهور لها، الذي من الممكن أن ينحسر فى انتخابات أخرى، وتجد أن تعبيرها الطبفى تقلص أو زال!
ومن هنا تبدأ القوى السياسية بإدراك تمثلها الاجتماعي الطبقي الحقيقي، وليس الموهوم الذي افترضته مسبقاً، بحسب وعيها الذات بأيديولوجيتها غير الموضوعية وغير الدقيقة!
إن للتعبير الطبقي هو تمُثل انتخابي، لأنه لا يوجد حزب يستطيع أن يعبرعن طبقة بشكل كلي، وأبدي، بل قدرته تتمثل في دمج أهدافها الاقتصادية والاجتماعية فى برنامجه، ولهذا فإن الجماعات الطائفية ليس لديها برنامج طبقي، فلا تستطيع أن تعبر عن طبقة، ولهذا تعيش الجماعات الطائفية في مخاض سياسي لا تعرف كيف تخرج منه، وفي بلبلة فكرية واجتماعية، وهي لا تستطيع ذلك سوى عبر الخروج من تشكيلتها الطائفية، أي عبر اتحادها الفكري مع جماعات من خارج طائفتها والخروج من تسييس المذهب.
ومن هنا يغدو تفكيك الإقطاع الديني والإقطاع السياسي، وتكوين الطبقات والوعي الطبقي الحديث عمليات متداخلة، لأن الوعي الطائفي يعجز بشكل مستمر عن تمثل تطور العملية الاجتماعية الديمقراطية، كما أن آليات السيطرة الحكومية الشاملة تفتقد مبرراتها وتتشكل حالات استقطاب بين المجموعات المتحدة المصالح.
ومن هنا ضرورة أن تلعب العناصر الديمقراطية داخل الطوائف حراكاً سياسياً لتكوين حركات سياسياً مؤثرة تنسلخ من التكوينات الطائفية/السياسية، نحو التكوينات السياسية الوطنية.
ومن هنا ضرورة ألا يرتبط ممثلو القوى الدينية أنفسهم بجماعة طائفية معينة وأن يطرحوا الخيارات السياسية المتعددة أمام المنتمين إلى الطائفة الواحدة حسب مواقعهم الاجتماعية وخياراتهم الفكرية، كذلك أن تتحول الدولة من آلة فكرية دينية إلى دولة خدمات متداولة بين القوى السياسية الفائزة في العملية الانتخابية، لا شأن لها بتمثيل مذهب معين.
عبر هذا يمكن الحديث عن تجاوز مسأة الطائفة الحاكمة والطائفة المحكومة، وهذا سوف يطرح قضايا عديدة متعلقة بالتعليم والثقافة وتطور الفقه المشترك وبقاء خصوصيات الطوائف العبادية.
وفي هذه العملية المخاضية الديمقراطية ستواجه التجارب بطبيعة الحال المتطرفين والمتعصبين من كل الطوائف الذين سيرفضون التزحزح عن الأشكال الطائفية السياسية، باعتبارها الممثلة للطائفة، وسيكون هؤلاء متعاونين مع القوى القومية
والحكومية الرافضة وفي تباين في جسم الأمة والشعب والطائفة!
وهذا يعبر عن احتكار سلطوي داخل الطوائف والدول، وزعامات تقيم سيطرتها على سلطة اصبحت متجاوزة من قبل التطور السياسي.
وهذا الاحتكار السلطوي الاقتصادي هو العقبة الأساسية أمام الديمقراطية الحقيقية، وأمام أن تكون الدولة والمجتمع في صراع اجتماعي وليس في صراع طائفي.
ومن هنا تترافق الإصلاحات السياسية مع الإصلاحات الاقتصادية : تفكيك القطاع العام من سيطرة الدولة، ومراقبة ثروة البلد من قبل المجالس والقوى السياسية، وتطوير أوضاع الفقراء والنساء من التخلف والأمية والفقر .. الخ.
عبـــــــدالله خلــــــــيفة: صراع الطوائف أم صراع الطبقات؟
ليس للعصر الحديث الا منطق واحد في الحياة السياسية الاجتماعية هو منطق الصراع الطبقي.
وقد حاولت الأنظمة والتيارات التقليدية لزمن طويل أن ترفض مقولة الصراع الطبقي، وقد استخدمت كل أسلحتها العنيفة والدعائية من أجل الغاء هذه المقولة، التي هي حقيقة راسخة في علم الاجتماع والتاريخ الحديثين، وليس مقولة إيديولوجية كما تزعم المناهج الجامعية العربية المعادية للعلوم.
لقد حاولت الحكومات العربية ومن ورائها الإمبريالية الغربية ومن ثم الجماعات الطائفية أن تلغي جميعها فكرة الصراع الطبقي، وكل هذه الوحدة الفكرية بين هذه الأطياف المختلفة ترينا المدى الاجتماعي الواسع لضرب فكرة معينة، حيث تشعر هذه القوى كلها بأن هذه الفكرة تشكلُ لها هاجساً كبيراً لا تتحمل تداعياته الحضارية والأخلاقية!
هكذا ناور الاستعمار الثقافي في العالم العربي طويلاً من أجل نفي فكرة الصراع الطبقي، وهو أمر يشير إلى تخلي الاستعمار عن جذوره الثقافية الحضارية في الغرب، واعتماده على لصوصية الشركات والحكومات والموظفين الاستعماريين التي تقطع جميعها العلاقات بالإرث الديمقراطي والإنساني في الغرب، إرث جان جاك روسو وفولتير وماركس وهيجل وكتاب التاريخ الفرنسي الموضوعيين، وإنها مجردُ محصلةِ إتاواتٍ وجامعة خراج جديدة.
وهكذا فحين قامت هذه القوى الطفيلية بسرقة العالم المسَّتعمر رفضت استخدام قوانين الصراع السياسي والاجتماعي التي تجري فى الغرب الذي جاءت منه، فظهر لديها نموذجان للإنسان؛ نموذج الإنسان المتقدم الذي يُعامل بقوانين الصراع الاجتماعي في أطر سياسية وبرلمانية وهو الإنسان المتحضر المثقف المتميز.
أما النموذج الثاني وهو نموذج العالم المستعمَر فهو النموذج المتخلف الحيواني الذي لا يجب ان تنطبق عليه قوانين الصراع الاجتماعي المتحضر!
ولكن الإنسان المتحضر نفسه دخل في أتون حروب عالمية ومناطقية كثيرة لسرقة المستعمرات وتقسيم أعداد الخدم والمواد الأولية ومن يسرق النفط ومن يسرق القمح ومن يسرق البشر، بحيث إن كتل اللحم المطحونة من هذه الحروب تكفي لدفن بحار
كاملة، مما أغرق لعقود الميراث الديمقراطي في الغرب نفسه!
لم تقنع كلُ هذه الكوارث صناع الفقر والاستغلال والمجازر في الغرب واليابان أن الإنسانية واحدة تنطبق عليها قوانين اجتماعية وسياسية متماثلة، حتى استمر الصراع الاجتماعي على نطاق عالمي في حقبة الحرب الباردة، والتي اخذت فيها كتلة الفقراء والعمال طابع المجابهة العسكرية مع كتلة الرأسماليين الكبار، وكانت كتلة العمال هي الأخرى تعتقد بانتهاء الصراع الطبقي، في حين كان الصراع مستمراً ومدمراً فيها نتيجة لعدم الاعتراف به!
وقد انتهى الصراع بين الكتلتين باعتراف الجميع في الكتلة الغربية والشرقية السوفيتية على السواء، بأهمية وجود الصراع الطبقي ولكن على ان يجري بشكل سلمي سواء على المستوى الوطني أو العالمي.
وبطبيعة الحال اتخذ الصراع الاجتماعي أشكالاً جديدة متدهورة مفككة لهذه الكيانات السياسية الدولتية القومية المركبة، نظراً لعدم الاعتراف الطويل به فى الكتلة الشرقية والتي زعمت أنها حلت إلى الأبد مشكلة الصراع الطبقي، سواء على المستوى الوطني أوعلى المستوى القومي، ونتيجة في الطرف الآخر، لاحتكار السلطة في الغرب للقوى المالية الكبرى!
والآن يجري الصراع الطبقي على النطاق الإقليمي أو العالمي باشكال تضمن سيطرة القوى المتنفذة الكبيرة بحيث أن لا يؤدي مثل هذا الصراع إلى تغييرات كبيرة في الموازين السياسية العالمية، وأن لا يحل التناقضات الكبرى العنيفة للإنسانية، وان يجعل القوى القومية الكبيرة المتمثلة في الدول الصناعية السبع وروسيا والصين والهند والبرازيل مهيمنة على مناطقها ومستعمراتها ومناطق نفوذها بشكل لا يخل بالتوازن بين الراسماليات القومية الكبرى!
قام الاستعمارالثقافي للعالم الإسلامي على إنكار مقولات الحداثة، ومن ضمنها مقولة الصراع الطبقي، مثلما شجع السقف الفكري للمرحلة الإقطاعية الطائفية التفكيكية المتخلفة الممتدة من انهيار الحضارة العربية حتى تقطيع أوصال الإمبراطورية العثمانية ونشوء حركة النهضة العربية الأولى.
ان تشجيع الاستعمار للمنظمات الثقافية/الاجتماعية، الأبوية والعشائرية والطائفية، هو من أجل أن يبقى مضمون الفكر العربي عاجزاً عن النقد والتحليل الاجتماعيين، ومرتبطاً بتكوينات ما قبل رأسمالية، بكل ما فيها من سحرية غيبية، ورغم حدوث تطورات اقتصادية وسياسية رأسمالية إلا أن هذه التطورات لم تتبور فكرياً تحديثياً على صعيد الوعي الشعبي خاصةً، في حين ان بعض الأفكار تسربت إلى النخب التي ظلت عاجزة عن توسيع أفق الحداثة الفكري داخل الجمهور.
كذلك فان المؤسسات السياسية التي أقامها الاستعمار أثناء وبعد رحيله اعتمدت على مظلة الأفكار الأبوية والطائفية، فقد عمل الاستعمار وورثته على الإبقاء على البنية التقليدية بكل هياكلها الأساسية، ولاستمرار الثقافة الخرافية السحرية، والطائفية والأمية والذكورية سائدة بين الشعوب.
وحتى حين نشأت الحركات القومية والدينية المختلفة، فإن هذه الحركات واصلت إعادة إنتاج ثقافة الطوائف والتخلف، حيث أضفت على (العرب) طابعاً سحرياً كأمة غير مقسمة طبقياً، ومتحدة في جوهر غيبي خارج تحليل التاريخ.
وهكذا تأسس القوميون والبعثيون والجماعات المذهبية المختلفة على أساس إنكار الصراع الطبقي داخل الأمة، وداخل الطوائف المختلفة، وداخل الأوطان، وداخل القبائل، وكان هذا الإنكار يعبر عن الطابع الدكتاتوري العميق داخل هذه الحركات، والذي تجسد عملياً في قمع عنيف ومتنوع لكل من يطرح تقسيم الأمة والطائفة والوطن والقبيلة والمذهب!
وترافق هذا القمع مع تأجيج مشاعر حادة ضد كل من يطرح الانقسام الاجتماعي، وحتى فى دراسة التاريخ اعتبرت الإشارات إلى انقسام الأمة العربية و(الامة) الإسلامية كارثة فكرية وخطراً يهدد سلامة الفكر العربي!
وأخذت تسميات تاريخية قديمة تسعتيد نفسها كتسمية (الشعوبية) وأُعتبر الباحثون الاجتماعيون المدققون والأحزاب اليسارية كشعوبيين جدد، وهراطقة وملحدين وشيوعيين خونة!
ولم تستطع هذه الأفكار أن تتصدى للمد الفكري التقدمي العالمي الجارف، وتحولات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وإذا كان الوعي الطائفي لم ضعف بسبب هذا المد فذلك يعود إلى أن التغيرات التي جرت فى الخمسينيات كانت مداً وطنياً هادراً أسكت القوى الطائفية مؤقتاً بحكم هديره الانفعالي، وليس بقدرته على التحليل والنقد والتجاوز.
كذلك فإن التسييس التحديثي العلماني اقتصر على النخب المضحية، وبقيت الجماهير في أشكال سياسية هلامية وفي شعارات حماسية، وليس في تنظيمات وحقول إنتاج تعيد تشكيل مهن ووعي هذه القوى العاملة، فقد ظل الهيكل الاقتصادي العتيق مع بعض التطورات الحديثة الصغيرة التي لا تقوم بإعادة تشكيل البناء الاقتصادي عامة، ولا على التثوير التقني والعلمي لهذه القوى.
كذلك فإن تحديث القوى العلمانية والديمقراطية كان شكلياً نخبوياً فهو لم يقم على حرث الأرض الاجتماعية بالتحليل العميق، وبقراءة المذهبية السياسية كتدهور في حركة الإسلام الديمقراطية والثورية، وبعجز النظام الإقطاعي/الطائفي الذي شكلته القوى الحاكمة المتعددة، عن إنتاج الحداثة وفهم الإسلام معاً.
وهذا قد جعل الحركات العلمانية واليسارية العربية نفسها لا تخلو من جذور غائرة للطائفية، وهكذا تم فهم الصراع الطبقي في التاريخ الإسلامي بأنه صراع الأماميات المذهبية المتعددة ضد السنة، وإن الأماميات هي التي تحمل النضال الثوري للكادحين في حين كان السنة ممثلين للقوى الاستغلالية.
وهكذا حدث التباس عميق فى الوعي، مما عبرعن إسقاط صراعات معاصرة على فهم التاريخ، وعن قصور في أدوات التحليل، وعجز عن فهم أسلوب الإنتاج الماضوي/الراهن وتناقضاته العميقة.
ولكن كان لهذا القصور انكاساته على تطور الصراع السياسي الحديث!
إن عجز اليسار العربي عن فهم مسار الصراع الطبقي في الماضي والحاضر، كان أكبر ثغرة فكرية في فهمه وفي قدرته على اتخاذ مواقف سياسية مؤثرة ومتنامية.
إن عدم القراءة الموضوعية العميقة للصراع الطبقي قد أدى إلى تداخله والصراع الطائفي، واتخاذ الأخير بديلا عن الأول، لقصور في الرؤية والفعل السياسي معاً.
لقد تمت قراءة الصراع الطبقي فى التاريخ الإسلامي بوصفه صراعاً بين الطوائف، فثمة طائفة ثورية وطائفة محافظة، وهذا التعميم حدث الالتباسُ فيه لكون الطوائف الكبيرة التي حازت على السلطة وثروات الفتوح وحكمت الأمم الأخرى، شكلت وعياً إيديولوجياً معبراً عن سيطرتها، في مجموعة من المذاهب التي عرفت مذاهب السنة الأربعة الرئيسية، والتي أخذت تتمظهُر فقهياً وفكرياً وسياسياً على مدى قرون فيما عرف باسم أهل السنة، ولكن هذا التمظهر شكلته الدولُ المسيطرةُ وأجهزتها، فهي تقوم بإزاحة العناصر المعارضة والنقدية فى فقه المذاهب الأربعة، وتشكلنها، أي تجعلها شكلية ومُسيسّة لسيطرتها، والأمر لم يجر فى المذاهب الفقهية فقط بل فى المذاهب الفلسفية والتيارات الاجتماعية، كتيار الاعتزال الذي قُمع وأُفرغ من نضاله الدمقراطي!
والامر لا ينطبق على مذاهب السنة بل أيضاً ينطبق علي المذاهب الإمامية المتعددة، بدءاً بالزيدية التي تحولت من حركة معارضة إلى جماعة إقطاعية عبر بني بويه وفي اليمن، وكانت منفتحة في المغرب، والإسماعيلية التي كانت حركة اغتيالات وتمرد فصارت عبر الحكم والهيمنة على الجمهور جماعة قصور ونحلة
سرية وهيمن عليها الإقطاع كذلك، وأصبح آغا خان زعيمها الروحي يوزن بالذهب في الزمن المعاصر! ولا تشذ الإثناعشرية من هذا التاريخ حيث كانت معارضة أسرية منذ البداية، أي تريد الحكم لآل البيت العلوي ثم انتقلت إلى هيمنة رجال الدين الكبار الذين تداخلوا مع السلطات في إيران وبعض المناطق، أما الجمهور الشعبي المستقل فعجز عن تشكيل صوته الخاص!
وهكذا فإن المعارضات المذهبية اكتسبت طابعاً تقليدياً غير قادر أن يصوغ وعي الحداثة والديمقراطية، بعد أن تشبعت بالهيمنة الطبقية العليا.
ومن هنا قامت هذه الهيمنة الطبقية المذهبية العليا، وفي مختلف المذاهب، بمعارضة كافة أشكال الوحدة بين المسلمين وهذه الوحدة تفترض مبدأ الصراع الطبقي بداهةً وضرورةً، حيث لا توجد وحدة قوية دون صراع!
ولم تعارض أي سياسة استعمارية أو وطنية إلا حين تتعرض لسيطرتها الخاصة، وحين تقوم بالتحديث الذي تعتبرهُ قضاءً على تلك السيطرة المطلقة على الطوائف. لكن الجتمع الإسلامي الحديث لا يمكن أن يتقدم إلا على ضوء الحداثة، وعلى تفكيك الطوائف وتحويلها إلى شعب موحد منصهر فى بوتقة وطنية، وبوتقة الوطنية تفترض انقسامه الحديث إلى طبقات لا إلى طوائف، حيث تتصارع الطبقات على توزيع الثروة وتطوير البنية الاجتماعية المتخلفة، وصراع الطبقات إذا تم بشكل حضاري سلمي يقوي الأوطان أما الصراع الطائفي فهو يقوضها، ولا بديل عن أحدهما، فإما تطوير وأما هلاك!
إن الصراع الطبقي يتماشى مع آليات الحداثة، ولا يتعارض مع الانتماءات المذهبية والعقائد الدينية، ولكن الصراع الطبقي يفكك الهيمنة التقليدية للقبيلة والطائفة والأمة، فلا يصبح لزعماء الطوائف سيطرة على الجمهور، بل يتوجه الجمهور لمصالحه الطبقية في النقابات والأحزاب.
وإذا كان أعضاء الطائفة ينقسمون إلى عمال ورأسماليين وتجار ومزارعين، فمن المستحيل تشكل وحدة سياسية واقتصادية بينهم، بسبب تعارض المصالح، فهذا في نقابة عمالية وذاك في منظمة لأرباب العمل، ويقوم زعيم الطائفة بتشكيل وحدة خيالية للطائفة المنقسمة المتصارعة، والتي تجد أقسام وحدتها النضالية ليس في كتل من طائفتها بل في كتل من طوائف أخرى أقرب إلى شقائها أو أرباحها او مصاحها!
وهكذا يصبحُ الشكل الطائفي السياسي عائقاً امام تطور الوعي الطبقي للقوى الشعبية المختلفة، والتي هي بحاجة إلى مثل هذا الوعي لوحدتها ودفاعها عن مصاحها وتصعيد رموز سياسية إلى النقابات والبرلمان يعبرون عن هذا الوعي ويجسدون تلك المصالح!
ويحتاج الفقراء والعمال أكثر من غيرهم إلى مثل ذلك لأن القوى الأخرى تجد السبيل لتحقيق مصاحها عبر ثروتها وصوتها المسموع.
وكما قلنا فإن قوى اليسار التي وهنت قواها في بعض المناطق العربية فقدت القدرة على تصعيد مثل هذا الوعي الطبقي، نظراً لانقطاعها عن الجمهور لشتى الأسباب، وحيث وجدت ان الطوائف ذات الظروف الصعبة تطرح مسائل العدالة الاجتماعية فقد اعتقدت بأن هذا هو الوعي الطبقي ولكنه تشكل عبر الشعار الطائفي!
هنا يتضافر الوعي الانتهازي والفرصة السياسية، فمع انقطاع أدوات التحليل الموضوعية، يقوم بعض ممثلي الفئات الوسطى الذين وهنت قواهم الفكرية والسياسية المدافعة عن العاملين، باقتناص الفرصة واستغلال الحركات الطائفية من أجل مصاحهم الشخصبة وليس من أجل مصالح الحركتين السياسية والاجتماعية.
وهنا تأتي مفاهيم السنة والشيعة والمسيحيين وتحويلها إلى مفاهيم كاريكاتيرية، (حيث يوجد الفقراء المسلمون تكون القضية والكفاح والتضحية، وحيث يوجد الأغنياء المسيحيون أو السنة توجد الكوارث!).
هكذا تم التعامل مع القضايا المعقدة للتركيبة الطبقية والثقافية اللبنانية مثلاً !
ولكنها لا تقتصر على الانتهازية السياسية بل تجمعها مع الانتهازية الفكرية فتقوم بالتنظير لمثل هذا السقوط، لأنها هنا تخدع فقراء وعمال الطوائف المختلفة، وتسلم قيادتهم لقوى استغلالية متخلفة، وتجعل العاملين يتذابحون، فيتم منع تطور وعي العمال الطبقي المستقل ويتحولون إلى أدوات في يد قوى توظفهم من أجل مصاحها وارتفاعها السياسي الخاص.
وهكذا راينا بعض الحركات القومية والدينية واليسارية تصعد رموزاً وقيادات سياسية شمولية طائفية تقوم بذبحها واستغلال الثروات وتخريب التطور عامة.
علينا أن نقول: إن الطوائف يعاد تشكيلها مع النظام الاقتصادي الحديث، فهي تصطف فى طبقات مختلفة، ولكن ذلك يتعلق مدى تطور النظام الرأسمالي في البلد المعني، أي مدى تحوله من نظام إقطاعي مذهبي تشكل على مدى القرون السابقة، إلى نظام غير طائفي وحديث، أي ألا تكون لافتة الطبقة المسيطرة على النظام السياسي لافتة مذهب ديني معين، بل أن تكون خارج المذاهب، وأن تتشكل بفكر الحداثة، أي لا تنتمي لطائفة معينة، بل تنتمي لكل الطوائف، لأنها تعبر عن طبقة ولا تعبر عن طائفة أو عن عائلة أو قبيلة أو عن وطن أو عن أمة!
هكذا ينزاح الفكر القبلي والطائفي والوطني والقومي بمعنى أن الطبقة الحاكمة لا تزعم أنها معبرة عن الشعب كله أو الأمة كلها أوعن الطائفة كلها، فهذه تعميمات خادعة، وغير ممكنة سياسياً واجتماعياً، فهي تعبر عن شريحة من طبقة أو عن طبقة كلها أو عن مجموعة من الطبقات، بحسب تحديدها لأهدافها السياسية والاقتصادية الانتخابية وتصويت الجمهور لها، الذي من الممكن أن ينحسر فى انتخابات أخرى، وتجد أن تعبيرها الطبفى تقلص أو زال!
ومن هنا تبدأ القوى السياسية بإدراك تمثلها الاجتماعي الطبقي الحقيقي، وليس الموهوم الذي افترضته مسبقاً، بحسب وعيها الذات بأيديولوجيتها غير الموضوعية وغير الدقيقة!
إن للتعبير الطبقي هو تمُثل انتخابي، لأنه لا يوجد حزب يستطيع أن يعبرعن طبقة بشكل كلي، وأبدي، بل قدرته تتمثل في دمج أهدافها الاقتصادية والاجتماعية فى برنامجه، ولهذا فإن الجماعات الطائفية ليس لديها برنامج طبقي، فلا تستطيع أن تعبر عن طبقة، ولهذا تعيش الجماعات الطائفية في مخاض سياسي لا تعرف كيف تخرج منه، وفي بلبلة فكرية واجتماعية، وهي لا تستطيع ذلك سوى عبر الخروج من تشكيلتها الطائفية، أي عبر اتحادها الفكري مع جماعات من خارج طائفتها والخروج من تسييس المذهب.
ومن هنا يغدو تفكيك الإقطاع الديني والإقطاع السياسي، وتكوين الطبقات والوعي الطبقي الحديث عمليات متداخلة، لأن الوعي الطائفي يعجز بشكل مستمر عن تمثل تطور العملية الاجتماعية الديمقراطية، كما أن آليات السيطرة الحكومية الشاملة تفتقد مبرراتها وتتشكل حالات استقطاب بين المجموعات المتحدة المصالح.
ومن هنا ضرورة أن تلعب العناصر الديمقراطية داخل الطوائف حراكاً سياسياً لتكوين حركات سياسياً مؤثرة تنسلخ من التكوينات الطائفية/السياسية، نحو التكوينات السياسية الوطنية.
ومن هنا ضرورة ألا يرتبط ممثلو القوى الدينية أنفسهم بجماعة طائفية معينة وأن يطرحوا الخيارات السياسية المتعددة أمام المنتمين إلى الطائفة الواحدة حسب مواقعهم الاجتماعية وخياراتهم الفكرية، كذلك أن تتحول الدولة من آلة فكرية دينية إلى دولة خدمات متداولة بين القوى السياسية الفائزة في العملية الانتخابية، لا شأن لها بتمثيل مذهب معين.
عبر هذا يمكن الحديث عن تجاوز مسأة الطائفة الحاكمة والطائفة المحكومة، وهذا سوف يطرح قضايا عديدة متعلقة بالتعليم والثقافة وتطور الفقه المشترك وبقاء خصوصيات الطوائف العبادية.
وفي هذه العملية المخاضية الديمقراطية ستواجه التجارب بطبيعة الحال المتطرفين والمتعصبين من كل الطوائف الذين سيرفضون التزحزح عن الأشكال الطائفية السياسية، باعتبارها الممثلة للطائفة، وسيكون هؤلاء متعاونين مع القوى القومية
والحكومية الرافضة وفي تباين في جسم الأمة والشعب والطائفة!
وهذا يعبر عن احتكار سلطوي داخل الطوائف والدول، وزعامات تقيم سيطرتها على سلطة اصبحت متجاوزة من قبل التطور السياسي.
وهذا الاحتكار السلطوي الاقتصادي هو العقبة الأساسية أمام الديمقراطية الحقيقية، وأمام أن تكون الدولة والمجتمع في صراع اجتماعي وليس في صراع طائفي.
ومن هنا تترافق الإصلاحات السياسية مع الإصلاحات الاقتصادية : تفكيك القطاع العام من سيطرة الدولة، ومراقبة ثروة البلد من قبل المجالس والقوى السياسية، وتطوير أوضاع الفقراء والنساء من التخلف والأمية والفقر .. الخ.
عبـــــــدالله خلــــــــيفة: صراع الطوائف أم صراع الطبقات؟
Published on May 08, 2019 17:09
May 3, 2019
عبـــــــدالله خلــــــــيفة : مبدعٌ يستحقّ التكريم
[image error]
حسين السماهيجي
يعمل الروائي البحريني الكبير الأستاذ عبدالله خليفة، بدأب وصبر، على ترسيخ تجربته الكتابية والإبداعية عموماً، بما يشكّل حالاً متميزة قلّ نظيرُها من الإخلاص والتفاني، من دون النظر إلى المكاسب الآنية والعاجلة، وبما يحافظ على ذاته المبدعة من الوقوع رهينةً لواقع كان – ولايزال – شديد القسوة تجاه المبدعين الذين يحملون على كهولهم عبئًا شديدًا في خلق حال من التواصل بين المبدع من جانب ومجتمعه من جانبٍ ثانٍ.
هذا المبدع الذي تكرّس في أعماله على قراءة نماذج وشخوص من قاع المجتمع، ينتمي هو – بهمومه وأحلامه الإنسانية تجاه الآخرين – إلى الطبقات الاجتماعية المسحوقة نفسها التي عانت شظف العيش، وأحلام الأفكار. ودفع ضريبة ذلك كله سنواتٍ من عمره في المعتقل، دفاعًا عن آرائه وحريته في الالتزام. ومع خروجه من المعتقل، لم يعرف التراجع عن آرائه وأفكاره، وبقي مُصِراً على الانتماء إلى الهامش الاجتماعي نفسه الذي خرج منه. ولعلّنا من هذه البوابة، بالذّات، نفهم ونقرأ كتاباته عبر عموده اليومي في الزميلة «أخبار الخليج»، وبقية مشروعاته الفكرية التي يعمل عليها ضمن أوراق بحثية عدة قرأناها له، وليس آخرها ورقته التي قدّمها في أمسية أسرة الأدباء والكتّاب بتاريخ 27/12/2004م عن «الحركات التغييرية في التاريخ الإسلامي الأول».
ومع التأمل الجاد في نتاجات عبدالله خليفة، سنجد أنها تصل بين جهده الفكري وجهده الإبداعي عبر ثيمة «الهم الاجتماعي»… ولكن مع ضرورة الالتفات إلى جملة من الملاحظات التي ترد على أوراقه البحثية. ولنأخذ ورقته الأخيرة التي قدمها بأسرة الأدباء مثالاً على ذلك. فقد كانت ورقته وفية لمنهجية تلتزم بالطرح المادي كمعطىً أساسي في تحليل الوقائع والحوادث التاريخية. وهي منهجية على رغم أهميتها الشديدة في العرض والتناول، فإنها من المتوقع جداً، وقد حدث مثل ذلك كثيراً أن تغفل معطياتٍ أخرى ربما تفوق في أهميتها هذا المعطى، وهي- حتمًا – لن تقلّ عنه أهمية. ولعلّ الأفكار والقِيَم – وعلينا أن نتذكّر إخلاص المبدع «عبدالله خليفة» لأفكاره ونظام القيم الذي ينتمي إليه كان حاسماً في مساره الخاص، ويبقى حاسمًا لآخرين كانوا يشكّلون وجوداً شعبياً مهماً في لحظة تاريخية – تحظى في كثير من الأحيان بأهمية قصوى في كشف جوانب نموّ الحدث التاريخي، وخصوصاً إذا كان ينتمي إلى جبهةٍ معارضة للسلطة، سواء كانت سلطة فكر أو سلطة مال وامتيازات أو حكومة. هذا مع الالتفات إلى أنه لا يمكن إيجاد فاصل حاد بين الأفكار والقيم من جانب وبين سلطة المال أو الحكومة من جانب ثان. فتحدث اشتباكات كثيرة بينهما، لا يمكن أبداً تجاهلها حال تفسير الأحداث والحركات، وتطور الأفكار، ونموّ الشخوص التاريخيين. وهنا، علينا أن نعلم أننا واقعون في نطاق مأزوم بين الواقع والزيف التاريخي. وليس، ثَمَّ، تاريخٌ واحدٌ مستقرٌّ بل تواريخ تتسم بالتناقض الشديد. ويضاف إلى ذلك سؤالٌ أساسيٌّ يتوجّه إلى ضرورة تدقيق استخدام المصطلح. فما المقصود بالحركات التغييرية؟ وما المقصود بالتاريخ الإسلامي الأول؟ وهل لهذا التاريخ الإسلامي الأول أن يتجاوز فترة «الخلافة الراشدة» إلى العصر الأموي ثم العباسي؟… إلخ.
إن طرح مثل هذه القضية، بلحاظ التشعب والتشتت وسعة المساحة التاريخية موضع النظر، سيوقعنا في مأزق التعميم، وتناسي تفاصيل لها خطرها الشديد. وكيف لنا أن ننسى، على سبيل المثال، أنّ الأرستقراطية القرشية متمثلة في الحزب الأموي قد استطاعت تشكيل دولة داخل الدولة، وقد حدث هذا كما يعلم سائر المؤرخين والمهتمين مع تولي معاوية بن أبي سفيان ولاية الشام خلفًا لأخيه يزيد، أيام الخليفة عمر بن الخطاب. ولعل واقعة لقاء الخليفة واليه عند زيارته للشام تكشف عن خطين متناقضين في الإدارة، من الناحية الظاهرية على الأقل. وكان خطّ الأرستقراطية القرشية بزعامة الحزب الأموي خصوصًا، يعمل بدأب وهدوء لاسترجاع ما كان قد خسره أيام حربه المعلنة ضد النبي محمد (ص)، وقد نجح سياسياً في ذلك نجاحًا معلومًا لذوي الشأن. ثم إن تغلغل الحزب الأموي، وعبر تحالفات شديدة مع أطراف أخرى، قد حصّن نفسَه بنطاق من الأفكار والقيم بدأت باكرًا أيام الخلافة الراشدة، ولم يكن ما حدث أيام الحرب التي شنّت على الإمام علي (ع)، وما بعده، إلا ثمرةً يانعةً تمّ قطفُها بعد جهد جهيد، وعمل مخطط. ولم يأل أقطاب الحزب الأموي جهدًا في مواصلة تعميم هذه الأفكار والقيم، وتنمية شخوص على حساب شخوص أخرى، وطبقات على حساب طبقات مضادة، بما يحافظ على ديمومة حياة الأرستقراطية القرشية بوجوهها المتجددة، وجوهرها المتناسخ.
ويبقى أن كل هذه الملاحظات والإشكالات التي ترد على عمل عبدالله خليفة، لا تقلل من قيمة جهده البحثي، وهو جهدٌ يتسم بالرصانة والحرية في النظر، بعيدًا عن الارتهان لمسلّمات سابقة موروثة ومتعارف عليها. وهو، على أية حال، المبدِع الذي لم يعرف نتاجه تراجعًا ونكوصاً عن مبادئ وقيم وشخوص وحوادث لم ينفصل عنها قط .
إن الروائي والكاتب عبدالله خليفة نموذجٌ للمبدع الحر الذي أنجبته هذه الأرض الطيبة الولود، والمستحق للتكريم. وذلك أدنى ما يمكن أن يقال عن مبدع استمر أكثر من ثلاثة عقود متواصلة قابضًا على جمرة الفكر والإبداع.
الوسط :العدد 846 – الأربعاء 29 ديسمبر 2004م الموافق 17 ذي القعدة 1425هـ
http://www.alwasatnews.com/news/430154.html
عبـــــــدالله خلــــــــيفة : مبدعٌ يستحقّ التكريم
Published on May 03, 2019 07:39


