عبـــــــدالله خلــــــــيفة's Blog: https://isaalbuflasablog.wordpress.com , page 100
September 23, 2019
2 ⇦ محمد جابر الانصاري
【في تنبؤاته المستقبلية!】
【من الليبرالية الى الأصولية!】
في كتابة المثير للجدل «تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي 1930 ــ 1970» حاول د. محمد جابر الأنصاري ــ بدون جدوى ــ ان يبرهن على فشل كافة النزعات التنويرية والتحررية في المنطقة العربية ابتداء من الاسلام المستنير لدى محمد عبده الى ليبرالية سعد زغلول وقومية ميشيل عفلق وتحررية جمال عبدالناصر، لكن قوة فكرتة واحدة لم يتحدث عن فشلها، أو توفيقيتها حسب وعيه، كما انها تتطابق مع الجوهر العربي، تلك هي «الأصولية»!
وانتقال الكاتب الليبرالي من تحرريته الى النزعة الأصولية، ليس ظاهرة غريبة بعد الامكانيات المادية والمعنوية التي اكتسبتها تلك الأصولية، لكنها خسارة فادحة للفكر التنويري في المنطقة حيث يشكل الفكر الأصولي تهديدا جديدا وتقسيما للحياة العربية الممزقة أصلا.
وحتى لا نستبق النتائج سنحاول المسير في كتابه الثاني «العالم والعرب سنة 2000»، لنتعرف على الوعي الأصولي، وهو يناقش المستقبل هذه المرة، لا الماضي، كما في الكتاب السابق.
فإذا كان التصور الأصولي في الكتاب السابق قد اتجه لتفنيد الحركات الليبرالية والاسلامية المستنيرة والقومية والاشتراكية في العالم العربي، عبر كشف ما يسميه بـ«التوفيقية» في مبادئها، بمعنى أنها تخلت عن «الأصول»، عبر الجوهر الخاص بنا، وحاولت أن توفق بينه وبين الوافد، الفكر الغربي الديمقراطي والمستنير، دون أن تملك الحق في التوفيق، إذا كان هذا التصور الأصولي هناك قد بين عدم «أصولية» تلك الحركات وغربتها عن «الجسم» العربي، الخاص بنا.
فإن التصور الأصولي هنا، في هذا الكتاب «العالم والعرب»، سوف يوضح الطريق الذي يجب أن يسلكه هذا الجسم العربي الى المستقبل. واذا كان «توضيح» ان كل تلك الحركات هي ضد «جوهرنا»، أو أصولنا، فأين سيتجه جوهرنا هذا؟
ما هي قدراته على تحديد مشكلات العرب وانقاذهم بعد أن أباد معرفيا جميع الحركات النهضوية والفاعلة على الساحة العربية من الشرق الى الغرب؟
ما هي الامكانيات العلمية والثقافية لهذا التصور ليكتشف العالم القادم، وليحلل القرن الحادي والعشرين ويمتلك المصير العربي؟!
لعل هذا التصور لديه شيء هام يستبصر به المستقبل، ويمتلك «وصفة» للجسد الذي أعيته العلل وأعجز «الأطباء»!
لهذا لا بد من المرافقة والتأني في الكشف عن هذا البرنامج لإصلاح ما «عجزت» عنه، حسب المصدر السابق، كل تيارات العرب الساعية الى النهضة والتقدم. لعلنا نجد كلمة مضيئة في هذا الليل المعتم!
والكاتب، خلافا لما يفعل الأصوليون الواضحون الصريحون، يعبر عن أصوليته بطريقة غير مباشرة، التفافية، فيدع تصوره مطاطيا قابلا لإيحاءات متعددة، فهذا أصولي غير متجهم الوجه، ولكننا سوف ندقق في كشف هذه الأصولية غير الصريحة، ونبين التناقضات التي تحتدم في وعيها.
والكتاب الحالي، خلافا للكتاب السابق ذي الوحدة الموضوعية، هو عبارة عن مجموعة من المقالات، اختصت فيها الظاهرة اليابانية ــ الصفراء ــ بالثقل الكمي والنوعي. من هنا جاءت المقدمة كأنها تلخيص واعطاء نظرة عامة على الكتاب ككل، لكنها في الحقيقة لم تكن تلخيصا محضا، فقد أضافت شيئا جديدا، وحاولت أن تخفف من انطباع يتولد لدى قارئ الكتاب بعد أن ينهيه.
لا بد من مطالعة هذه الفكرة المهيمنة، ولماذا تم التخفيف منها؟ وهل يمكن ذلك حقا؟
يقول في المقدمة عن موضوعات الكتاب:
«ثم اختص «الفصل الثاني» من الكتاب بظاهرة عميقة متجددة من ظواهر التحول في عصرنا، وهي ظاهرة الإحياء الروحي والانبعاث الإيماني والتحرر من النظرة المادية الضيقة التي خنقت الروح في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين». ص 7 .
ثم يضيف بعد ذلك:
«وظاهرة الاحياء الايماني في الغرب ــ إذا وازيناها بظاهرة الصحوة الاسلامية في عالمنا العربي وبظاهرة «لاهوت التحرير» في بلدان امريكا اللاتينية ــ تشير الى ان العالم، وهو يقترب من القرن المقبل ويستعد لخوض غماره، قد أوشك أن يسترجع قيمة أساسية جدا من قيم الوجود». ص 7 .
وعلى الرغم هنا من اتجاهه للغرب، أي صار الجوهر الغربي مقبولا في جانب، وهو المرفوض كلية كما رأينا سابقا، وكما سنرى لاحقا، فان ذلك ليس هو بيت القصيد.
فالملاحظة الأساسية هنا ان الكاتب يستخدم كلمة «الصحوة الاسلامية». وتعبير الصحوة يختلف عن تعبير «الإيمان». فكلمة الصحوة تشير في الحقيقة الى بروز تيارات سياسية تستخدم الاسلام سياسيا، في حين ان الايمان هو تعبير آخر يقصد به إيمان البشر بالأديان والخلق.
فقد تشمل هذه الصحوة بضع مئات أو آلاف من المسلمين، غير ان الايمان يشمل معظم المسلمين، فكأن التعبير وظلاله تقول ان المسلمين لم يكونوا مؤمنين قبل الصحوة، فلما جاءت آمنوا.
أو قل بأن المسلمين لم يكونوا مسلمين قبل «الصحوة» فلما جاءت بدأ انتشار الاسلام، أو أن ظهور تيارات «الأصوليين» المتعددة هي التي في سبيلها لجعل المسلمين يعودون مسلمين أو مؤمنين. فالأصوليون هم سبب عودة «الإيمان».
إن كلمة «صحوة» توحي بوجود موت قبلها، أو نوم، أو كفر. وهذا ما حدث لأروبا التي عاد اليها بعض الإيمان وكأمريكا اللاتينية التي انبعث فيها لاهوت التحرير، حيث كانت خارج اللاهوت.
من هنا فسوف تنقسم ديار الاسلام، حسب هذا الطرح، اضافة الى ما تنقسم اليه، الى معسكرين متعاديين متحاربين، المعسكر الذي يضم بشر ما قبل الصحوة، الميتين النائمين، الكفار، والمعسكر الثاني: بشر الصحوة، المؤمنون الحقيقيون.
ومن هنا سينفتح الباب! لتظهر المعسكرات داخل المعسكرات . . وتنفتح دهاليز لا تغلق أبدا.
ولكون هذه التعبيرات التي استخدمها الكاتب تفتح الباب لكل تلك المشكلات، وتوحي بتأييد المتطرفين الدينيين الذين أقاموا [صحوتهم] عبر الأطلال والحرائق، فقد كتب بعدئذ مهدئا من ظلال الكلمة وآثارها، بعد أن ظهرت نتائج منطق «الصحوة» في المنطقة العربية، يقول في ذات المقدمة:
«ثم يبقى أمر ترشيد هذه الصحوة الروحية بحيث تأخذ مسارها السليم تجديدا لقيم الايمان الأصيل والخلق القويم، والتسامح بين الناس، والاعتدال في القصد، بعيدا عن نزعات التعصب التي ينهى عنها الدين الحق وقيمة الجوهرية السامية». ص 7 .
ورغم صحة ما يطرحه هنا ونبل مقصده، الا أن هذه الفقرة تثبت أكثر من غيرها خطورة المنطق السابق.
فالصحوة، أو الأصولية، ستجعل الإيمان «الأصيل» مقصورا على نفر من المسلمين، أو ستجعله المعيار الفاصل لتحديد انسانية البشر، وهذا ما يفتح الباب لتعبيرات «الحكومات الكافرة» أو «الكفار» و«التكفير» و«الهجرة من مدن الضلال والكفر»، وسيتم تصنيف البشر على أساس «الإيمان» أو «الكفر».
أي انك اذا اعتبرت المسلمين منذ البدء غير مؤمنين، وجعلت من نفسك رقيبا وحسيبا على ايمانهم، ووصيا على حسن اسلامهم، فقد جعلت من نفسك قوة فوق البشر، لينفتح الباب بعدئذ لسفك دمهم أو الهجرة من ديارهم أو تكميم أفواههم أو شن الحروب عليهم الخ . . .!
من هنا تغدو خطورة استخدام تعبيرات مثل «الصحوة» التي هي تعبير عن اتجاه سياسي، يستعيد الدين وقاموسه لغايات دنيوية محددة، بهدف أضفاء مسحة قدسية على عمله السياسي البشري المحدد والقابل للخطأ والصواب.
ولهذا فإن الكاتب في العبارة الاستدراكية يحاول ان يخفف من وطأة التعبير وظلاله المهلكة. انها عبارات جميلة ولكنها لا تعني شيئا: «ثم يبقى أمر ترشيد هذه الصحوة الروحية» فمن هو الذي سيقومك بترشيدها ومن هو المرشد لها؟ وكيف سيقوم بذلك بعد غلوها وهل سيستطيع؟ واذا لم يستطع واندفع (منطق الصحوة) الى غاياته وتطرفه المطلق . . .؟! وصار العلم العربي كلبنان وكيف سنغدو حينئذ؟؟!
إذن المنطق ذاته منطق خاطئ خطر.
لقد قام د. الانصاري بإلغاء منجزات وابداعات التيارات الفكرية التنويرية والديمقراطية العربية ووجد نفسه في طريق مسدود، هو طريق الأصولية التي تحتاج الى «الترشيد» ايضا!!
【هل تستطيع النخبة وحدها احداث النهضة؟!】
هناك فكرة أساسية وملحة لدي الدكتور الانصاري. وهو يتقدم للتنبؤ بمصائر العالم والكون في القرن الحادي والعشرين. وهي ان قوة عالمية جديدة تنمو الآن، وسوف تحتل المركز القيادي في القرن القادم. فلأول مرة بعد قرون طويلة تزاح القوة البيضاء. «الغرب» لتحل القوة الصفراء «اليابان ودول شرق وجنوب آسيا»، وعلى العرب الإنحياز الى هذه القوة، أو التعاون معها بشكل اكثر دقة، والابتعاد كلية عن عالم الغرب بشقيه الرأسمالي والاشتراكي.
وسيكون القرن القادم هو أيضا قرن المحيط «الباسفيكي ــ الهادئ ــ فللحضارة البشرية دائما مركز مياهي خاص، فالحضارة الوسيطة كان لها البحر المتوسط ميدانا رئيسيا لاتصال أقطابها، والحضارة الغربية الحديثة كان لها المحيط الاطلسي ميدانا اساسيا لنشاطها، اما الحضارة القادمة ذات الاقطار المتعددة وأبرزها القطب الأصغر فسيكون ميدان تنافسها الملتهب هو المحيط الهادئ».
وثمة في هذه الافكار نقاط حقيقية، كالقول بتنافس القوى الدولية في عالم اليوم، وتحول المحيط الهادئ الى مركز حضاري هام وكبير، وبروز مراكز حضارية جديدة على شواطئه الواسعة كاليابان والصين وفيتنام وسيبيريا الخ . .
ولكن الكاتب يوغل بعيدا في استنتاجاته، ونحن لا نريد ان نخطئ أو نصوب هذه الاستنتاجات بقدر ما نريد دراسة اليه تشكلها، فلماذا تأخذ هذا المنحى دون غيرة؟ لماذا تحاول أن تؤكد احتمالا واحدا مع وجود كثرة من الاحتمالات؟ وما هي علاقة التركيز على هذا الاحتمال بالنظرة التي يمتلكها الكاتب؟
إننا نريد ان ندرس آلية ظهور هذه النظرة وتناقضاتها المختلفة. سنأخذ مقالا واحدا بتركيز خاص. وعموما فمقالات الكتاب المنفصلة تحتوي ذات الفكرة الرئيسية المتمددة في كل الكتاب، وبنفس خطوطها العريضة.
المقال هو ذلك الجزء من الفصل الثالث النظري العام المعنون بـــ«القوة الصاعدة . . والعرب ــ نظرة شمولية». فهذه النظرة الشمولية هي التي تحتاج الى فحص .
في البدء يقول:
انشغل الفكر العربي كثيرا بالتجارب الحضارية الأوربية والغربية بصفة عامة رغم أنها تمت في اقليم حضاري مختلف تماماً عن الاقليم العربي، وفي ظروف تاريخية اجتماعية تختلف هي الأخرى كثيرا عن الظروف العربية ص 64.
وكالعادة يجري تعميم وإطلاق الوعي العربي بتياراته المتعددة في كلمة «الفكر العربي» فلا يغدو قوى متعددة واجتهادات متباينة بل جوهراً ذا وحدة واحدة، يصير عدسة وحيدة تنشغل بعالم آخر مسيطر على وضعها فتنبهر به وتريد أن تحتذيه لتكون في مستواه.
إن العدسة العربية تنشغل «بالتجارب الحضارية الأوربية»، «بسبب التفوق الأوربي في المائتي سنة الأخيرة، والسيطرة الأوربية على معظم بقاع الأرض بما في ذلك الاقليم العربي» .
إن العدسة تحاول نقل الموديل الغربي الرأسمالي الى عالمها الخاص رغم أن الحضارة الغربية تمت في «إقليم حضاري مختلف تماما»، وفي ظروف تاريخية مغايرة. وهنا يجب أن ننتبه الى كلمة الاقليم المختلف بمعنى أنها لو تمت في اقليم مشابه، شرقي، مقارب في عاداته ومؤسساته، لتمت عملية الاحتذاء، وحدث الإنصهار بين التابع والمتبوع، فعملية تقليد الموديل الغربي تمت في شروط غير مناسبة، بمعنى أن تقاليد العرب وأوضاعهم الاجتماعية كانت مغايرة، للنموذج المراد تباعه، ولو جاء نموذج أو موديل مناسب، قريب منا جغرافيا واجتماعيا لتمت عملية الإحتذاء.
ويواصل الكاتب بناء فكرته:
غير أن استيعاب سر القوة الحضارية المعاصرة لدى الغرب شيء، واحتذاء نماذجه الحضارية بكاملها ومحاولة اقتباسها بشكل تفصيلي شيء آخر، وهذا فارق لم ينتبه اليه ذلك الجيل من المفكرين الذي دعا الى اقتباس الحضارة الأوربية خيرها وشرها حلوها ومرها على حد تعبير طه حسين . . ص 65.
لقد أراد ذلك الجيل من المثقفين العرب نقل النموذج الغربي بكليته الى الواقع العربي (هل حدث ذلك حقا؟!) ونسى أهمية استيعاب سر القوة في ذلك النموذج، فاستيعاب «سر» النموذج هو مفتاح الحل.
فلو أن الوعي أدرك سر تفوق الموديل الغربي، وما هي خصائص تفوقه، وعمم هذه الخصائص أو نشرها أو طبقها، لكان بالإمكان احداث نقلة حضارية! ولربما حدث التطابق بين التابع والمتبوع، ولكنه، للأسف، انشغل باحتذاء النموذج بالكامل.
هل هناك فرق بين احتذاء النموذج وادراك سر قوته؟!!
لقد أراد العقل العربي أن يصبح غريبا، وأراد للمجتمع الأصيل ان يتغرب عن ذاته، أن يفارق جوهره، ويلتحق بجوهر خاص ذي خصائص مختلفة كليا.
أي أن التطابق الحضاري، بين المختلف والمتقدم، بين التابع والمتبوع، رهن بشروط الوعي والفكر، فلو تحقق «ادراك معين» تمت عملية المصاهرة، وزال الفارق.
إن النقلة الحضارية المنتظرة تتحقق باستبدال عبارة «إحتذاء نماذجه» بعبارة «اسيعاب سر القوة!!» فلو أن المفكرين العرب انتبهوا الى ذلك في بداية التصادم الحضاري بين العرب والغرب وانشغلوا باستيعاب أسرار قوة الحضارة الجديدة وراحوا يفككون آلتها ويعيدون تركيبها، لأمكن حدوث التقدم الحضاري المطلوب.
وكان بإمكان «العقل» العربي حينذاك أن يرى ايضا الموديل الجديد ويدرك أسراره. فقد صعدت اليابان حينذاك، وأستقبل المثقفون العرب بحماس بالغ الانتصار الياباني على روسيا القيصرية، ورأوا فيه أول هزيمة لأوربا.
«لكن الفكر العربي اكتفى بالترحيب والتفاؤل ولم يدرس ويتعمق أبعاد التجربة اليابانية الجديدة كاملة وهي التي بدأت قبل ثلث قرن فقط من انتصار اليابان على روسيا. هذا مع العلم أن اليابان في بداية عصر نهضتها المعروف بعصر ‹‹الميجي›› والذي يؤرخ لبدايته بعام 1868. قد أرسلت وفدا الى مصر للتعرف على اسباب نهضتها الباكرة بين عهد محمد علي وعهد الخديوي اسماعيل ص 65.
إن الفكر. في نظرة الكاتب، يغدو هو الصانع المطلق للتاريخ بدون شروط موضوعية، خارج البنية الاقتصادية ــ الاجتماعية التي تكون فيها، وهو يستطيع بمفرده، لو أنه تعمق الأشياء لأمكن إعادة خلق التاريخ في منحى اخر.
فشروط النهضة وتفجيرها موجود لدى النخبة، وهم القوة الحاملة للفكر، وبإمكان هذه النخبة مستقلة من شروط تكونها ان تخلق ما عجزت عنه. إن الفكر هنا قوة حرة مطلقة، ليست ابنة ظروف تاريخية بالغة التعقيد، فقد كان بإمكانها أن تصير ولم تصر.
«هكذا لم يحول الفكر العربي ذلك الحدث في مطلع القرن العشرين إلى منعطف في انفتاحه على تجارب العالم الجديدة الأخرى، ونسى التجربة اليابانية بعد سنوات قليلة وواصل تطلعه غربا عبر المتوسط الى التجارب الحضارية الأوربية وحدها . . .». ص 65.
إن عدسة «العقل العربي»، ركزت على جهة واحدة من العالم ولو انها التفتت الى جهة أخرى وليدة بازغة، لتغير مصير العرب في هذا القرن.
إن الفكر يغدو، كما كان في كتاب «تحولات الفكر والسياسة . .» ظاهرة فوق الواقع، مجردة، وقادرة على تحويله بقدرتها الذاتية الخارقة، فليس هذا الفكر هو نتاج الواقع العربي المعقد المتباين، نتاج الأنظمة الاجتماعية المتخلفة التابعة، إلى مراكز متباينة في العالم الغربي، ليس هو ممارسات تتخلق عبر تحويل المجتمعات العربية المتعددة، ليس هو مجموعة من المثقفين المتناثرين المنتمين الى تيارات صغيرة داخل التكوينات «الحديثة» الوليدة حينذاك، وفي محيط من الأمية والتخلف وتأخر الصناعة الخ . . ليس هو التيارات الليبرالية المتعددة التي تحاول احتذاء، دول متباينة، وليس هو الاسلاميون المتنورون القليلون الذين يحاولون الاستفادة من ثقافة الغرب لتطوير الحياة العربية الخ . .
لا، ليس الفكر كذلك. بل هو قوة مجردة مطلقة قادرة على تحويل مسارات الحياة بمجرد اكتشاف موديل آخر.
إن «الفكر» بهذا التجريد الذي يتصوره الكاتب لم يكن موجودا حينذاك، وليس موجودا الآن كذلك. بمعنى أن للتاريخ قوانينه الموضوعية لا بد من اكتشافها حتى يتم تحويل الواقع، فهو لا يتغير بمجرد التغيير في فكر النخبة.
إن انشداد الوعي العربي بتياراته المتعددة الى «الغرب» هو ظاهرة موضوعية، تأسست فوق عالم كامل من التبعية، تكون عبر قرون عديدة منذ نمو الرأسمالية في غرب أوربا وحدوث الثورة الصناعية فيها والاكتشافات الجغرافية ونمو الأساطيل والاستيلاء على العالم عبر الشركات التجارية الخ . .الخ.
لقد تم تمزيق الوطن العربي، كالعديد من البلدان، وربط بتلك المراكز الرأسمالية المتعددة. وهذا الربط منحوت عبر ظروف اقتصادية مادية عميقة، كما هو أيضا منحوت عبر شروط فكرية ثقافية.
من هنا كان لا بد من التطلع الى الغرب واحتذاء نموذجه وفهم سر قوته، فذلك هو طريق التحرر الشاق، الذي لن يتشكل عبر الضغط على مجموعة من الأزرار.
وقد حاولت قوى اجتماعية عديدة، كما أشرنا سابقا، أن تحطم التبعية للغرب، وقد كان هذا نفسه انعكاسا للتطور الموضوعي ذاته. وقد تشكلت عدة حلقات بدأها الاسلاميون المتنورون كالأفغاني وتلاها الليبراليون الوطنيون كسعد زغلول ثم توجت بحلقة القوميين التحرريين كجمال عبدالناصر وغيره. وفي كل حلقة من هذه الحلقات كانت مسافة الحرية تتسع، وتآكل بنية التبعية يشتد.
ولو أن المنورين العرب في بدايات النهضة اهتموا بالتجربة اليابانية وحاولوا إدراك أسرارها لما نجم عن ذلك انفجار، بل تحول الى معرفة نهضوية مثل كافة اشكال الأدلجة الخاصة التي قامت بها البرجوازية العربية.
إن التاريخ لا ينمو الا بإمكانياته الحقيقية، وتظل المعرفة تلعب دورها الهام ضمن علاقتها بالطبقات المختلفة.
إذن الكاتب يقوم هنا بعملية تجريد واسعة، ويجعل من الفكر المجرد قوة خيالية قادرة وحدها على احداث التحول، خارج الظروف الملموسة للتطورات الاجتماعية.
فهل تتم النهضات الكبرى والتحولات التاريخية بفعل الارادوية المحضة ونشاط النخبة؟
هل ذلك ما حدث في التجربة اليابانية؟!
عبـــــــدالله خلــــــــيفة عرض ونقد عن أعماله
【من الليبرالية الى الأصولية!】
في كتابة المثير للجدل «تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي 1930 ــ 1970» حاول د. محمد جابر الأنصاري ــ بدون جدوى ــ ان يبرهن على فشل كافة النزعات التنويرية والتحررية في المنطقة العربية ابتداء من الاسلام المستنير لدى محمد عبده الى ليبرالية سعد زغلول وقومية ميشيل عفلق وتحررية جمال عبدالناصر، لكن قوة فكرتة واحدة لم يتحدث عن فشلها، أو توفيقيتها حسب وعيه، كما انها تتطابق مع الجوهر العربي، تلك هي «الأصولية»!
وانتقال الكاتب الليبرالي من تحرريته الى النزعة الأصولية، ليس ظاهرة غريبة بعد الامكانيات المادية والمعنوية التي اكتسبتها تلك الأصولية، لكنها خسارة فادحة للفكر التنويري في المنطقة حيث يشكل الفكر الأصولي تهديدا جديدا وتقسيما للحياة العربية الممزقة أصلا.
وحتى لا نستبق النتائج سنحاول المسير في كتابه الثاني «العالم والعرب سنة 2000»، لنتعرف على الوعي الأصولي، وهو يناقش المستقبل هذه المرة، لا الماضي، كما في الكتاب السابق.
فإذا كان التصور الأصولي في الكتاب السابق قد اتجه لتفنيد الحركات الليبرالية والاسلامية المستنيرة والقومية والاشتراكية في العالم العربي، عبر كشف ما يسميه بـ«التوفيقية» في مبادئها، بمعنى أنها تخلت عن «الأصول»، عبر الجوهر الخاص بنا، وحاولت أن توفق بينه وبين الوافد، الفكر الغربي الديمقراطي والمستنير، دون أن تملك الحق في التوفيق، إذا كان هذا التصور الأصولي هناك قد بين عدم «أصولية» تلك الحركات وغربتها عن «الجسم» العربي، الخاص بنا.
فإن التصور الأصولي هنا، في هذا الكتاب «العالم والعرب»، سوف يوضح الطريق الذي يجب أن يسلكه هذا الجسم العربي الى المستقبل. واذا كان «توضيح» ان كل تلك الحركات هي ضد «جوهرنا»، أو أصولنا، فأين سيتجه جوهرنا هذا؟
ما هي قدراته على تحديد مشكلات العرب وانقاذهم بعد أن أباد معرفيا جميع الحركات النهضوية والفاعلة على الساحة العربية من الشرق الى الغرب؟
ما هي الامكانيات العلمية والثقافية لهذا التصور ليكتشف العالم القادم، وليحلل القرن الحادي والعشرين ويمتلك المصير العربي؟!
لعل هذا التصور لديه شيء هام يستبصر به المستقبل، ويمتلك «وصفة» للجسد الذي أعيته العلل وأعجز «الأطباء»!
لهذا لا بد من المرافقة والتأني في الكشف عن هذا البرنامج لإصلاح ما «عجزت» عنه، حسب المصدر السابق، كل تيارات العرب الساعية الى النهضة والتقدم. لعلنا نجد كلمة مضيئة في هذا الليل المعتم!
والكاتب، خلافا لما يفعل الأصوليون الواضحون الصريحون، يعبر عن أصوليته بطريقة غير مباشرة، التفافية، فيدع تصوره مطاطيا قابلا لإيحاءات متعددة، فهذا أصولي غير متجهم الوجه، ولكننا سوف ندقق في كشف هذه الأصولية غير الصريحة، ونبين التناقضات التي تحتدم في وعيها.
والكتاب الحالي، خلافا للكتاب السابق ذي الوحدة الموضوعية، هو عبارة عن مجموعة من المقالات، اختصت فيها الظاهرة اليابانية ــ الصفراء ــ بالثقل الكمي والنوعي. من هنا جاءت المقدمة كأنها تلخيص واعطاء نظرة عامة على الكتاب ككل، لكنها في الحقيقة لم تكن تلخيصا محضا، فقد أضافت شيئا جديدا، وحاولت أن تخفف من انطباع يتولد لدى قارئ الكتاب بعد أن ينهيه.
لا بد من مطالعة هذه الفكرة المهيمنة، ولماذا تم التخفيف منها؟ وهل يمكن ذلك حقا؟
يقول في المقدمة عن موضوعات الكتاب:
«ثم اختص «الفصل الثاني» من الكتاب بظاهرة عميقة متجددة من ظواهر التحول في عصرنا، وهي ظاهرة الإحياء الروحي والانبعاث الإيماني والتحرر من النظرة المادية الضيقة التي خنقت الروح في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين». ص 7 .
ثم يضيف بعد ذلك:
«وظاهرة الاحياء الايماني في الغرب ــ إذا وازيناها بظاهرة الصحوة الاسلامية في عالمنا العربي وبظاهرة «لاهوت التحرير» في بلدان امريكا اللاتينية ــ تشير الى ان العالم، وهو يقترب من القرن المقبل ويستعد لخوض غماره، قد أوشك أن يسترجع قيمة أساسية جدا من قيم الوجود». ص 7 .
وعلى الرغم هنا من اتجاهه للغرب، أي صار الجوهر الغربي مقبولا في جانب، وهو المرفوض كلية كما رأينا سابقا، وكما سنرى لاحقا، فان ذلك ليس هو بيت القصيد.
فالملاحظة الأساسية هنا ان الكاتب يستخدم كلمة «الصحوة الاسلامية». وتعبير الصحوة يختلف عن تعبير «الإيمان». فكلمة الصحوة تشير في الحقيقة الى بروز تيارات سياسية تستخدم الاسلام سياسيا، في حين ان الايمان هو تعبير آخر يقصد به إيمان البشر بالأديان والخلق.
فقد تشمل هذه الصحوة بضع مئات أو آلاف من المسلمين، غير ان الايمان يشمل معظم المسلمين، فكأن التعبير وظلاله تقول ان المسلمين لم يكونوا مؤمنين قبل الصحوة، فلما جاءت آمنوا.
أو قل بأن المسلمين لم يكونوا مسلمين قبل «الصحوة» فلما جاءت بدأ انتشار الاسلام، أو أن ظهور تيارات «الأصوليين» المتعددة هي التي في سبيلها لجعل المسلمين يعودون مسلمين أو مؤمنين. فالأصوليون هم سبب عودة «الإيمان».
إن كلمة «صحوة» توحي بوجود موت قبلها، أو نوم، أو كفر. وهذا ما حدث لأروبا التي عاد اليها بعض الإيمان وكأمريكا اللاتينية التي انبعث فيها لاهوت التحرير، حيث كانت خارج اللاهوت.
من هنا فسوف تنقسم ديار الاسلام، حسب هذا الطرح، اضافة الى ما تنقسم اليه، الى معسكرين متعاديين متحاربين، المعسكر الذي يضم بشر ما قبل الصحوة، الميتين النائمين، الكفار، والمعسكر الثاني: بشر الصحوة، المؤمنون الحقيقيون.
ومن هنا سينفتح الباب! لتظهر المعسكرات داخل المعسكرات . . وتنفتح دهاليز لا تغلق أبدا.
ولكون هذه التعبيرات التي استخدمها الكاتب تفتح الباب لكل تلك المشكلات، وتوحي بتأييد المتطرفين الدينيين الذين أقاموا [صحوتهم] عبر الأطلال والحرائق، فقد كتب بعدئذ مهدئا من ظلال الكلمة وآثارها، بعد أن ظهرت نتائج منطق «الصحوة» في المنطقة العربية، يقول في ذات المقدمة:
«ثم يبقى أمر ترشيد هذه الصحوة الروحية بحيث تأخذ مسارها السليم تجديدا لقيم الايمان الأصيل والخلق القويم، والتسامح بين الناس، والاعتدال في القصد، بعيدا عن نزعات التعصب التي ينهى عنها الدين الحق وقيمة الجوهرية السامية». ص 7 .
ورغم صحة ما يطرحه هنا ونبل مقصده، الا أن هذه الفقرة تثبت أكثر من غيرها خطورة المنطق السابق.
فالصحوة، أو الأصولية، ستجعل الإيمان «الأصيل» مقصورا على نفر من المسلمين، أو ستجعله المعيار الفاصل لتحديد انسانية البشر، وهذا ما يفتح الباب لتعبيرات «الحكومات الكافرة» أو «الكفار» و«التكفير» و«الهجرة من مدن الضلال والكفر»، وسيتم تصنيف البشر على أساس «الإيمان» أو «الكفر».
أي انك اذا اعتبرت المسلمين منذ البدء غير مؤمنين، وجعلت من نفسك رقيبا وحسيبا على ايمانهم، ووصيا على حسن اسلامهم، فقد جعلت من نفسك قوة فوق البشر، لينفتح الباب بعدئذ لسفك دمهم أو الهجرة من ديارهم أو تكميم أفواههم أو شن الحروب عليهم الخ . . .!
من هنا تغدو خطورة استخدام تعبيرات مثل «الصحوة» التي هي تعبير عن اتجاه سياسي، يستعيد الدين وقاموسه لغايات دنيوية محددة، بهدف أضفاء مسحة قدسية على عمله السياسي البشري المحدد والقابل للخطأ والصواب.
ولهذا فإن الكاتب في العبارة الاستدراكية يحاول ان يخفف من وطأة التعبير وظلاله المهلكة. انها عبارات جميلة ولكنها لا تعني شيئا: «ثم يبقى أمر ترشيد هذه الصحوة الروحية» فمن هو الذي سيقومك بترشيدها ومن هو المرشد لها؟ وكيف سيقوم بذلك بعد غلوها وهل سيستطيع؟ واذا لم يستطع واندفع (منطق الصحوة) الى غاياته وتطرفه المطلق . . .؟! وصار العلم العربي كلبنان وكيف سنغدو حينئذ؟؟!
إذن المنطق ذاته منطق خاطئ خطر.
لقد قام د. الانصاري بإلغاء منجزات وابداعات التيارات الفكرية التنويرية والديمقراطية العربية ووجد نفسه في طريق مسدود، هو طريق الأصولية التي تحتاج الى «الترشيد» ايضا!!
【هل تستطيع النخبة وحدها احداث النهضة؟!】
هناك فكرة أساسية وملحة لدي الدكتور الانصاري. وهو يتقدم للتنبؤ بمصائر العالم والكون في القرن الحادي والعشرين. وهي ان قوة عالمية جديدة تنمو الآن، وسوف تحتل المركز القيادي في القرن القادم. فلأول مرة بعد قرون طويلة تزاح القوة البيضاء. «الغرب» لتحل القوة الصفراء «اليابان ودول شرق وجنوب آسيا»، وعلى العرب الإنحياز الى هذه القوة، أو التعاون معها بشكل اكثر دقة، والابتعاد كلية عن عالم الغرب بشقيه الرأسمالي والاشتراكي.
وسيكون القرن القادم هو أيضا قرن المحيط «الباسفيكي ــ الهادئ ــ فللحضارة البشرية دائما مركز مياهي خاص، فالحضارة الوسيطة كان لها البحر المتوسط ميدانا رئيسيا لاتصال أقطابها، والحضارة الغربية الحديثة كان لها المحيط الاطلسي ميدانا اساسيا لنشاطها، اما الحضارة القادمة ذات الاقطار المتعددة وأبرزها القطب الأصغر فسيكون ميدان تنافسها الملتهب هو المحيط الهادئ».
وثمة في هذه الافكار نقاط حقيقية، كالقول بتنافس القوى الدولية في عالم اليوم، وتحول المحيط الهادئ الى مركز حضاري هام وكبير، وبروز مراكز حضارية جديدة على شواطئه الواسعة كاليابان والصين وفيتنام وسيبيريا الخ . .
ولكن الكاتب يوغل بعيدا في استنتاجاته، ونحن لا نريد ان نخطئ أو نصوب هذه الاستنتاجات بقدر ما نريد دراسة اليه تشكلها، فلماذا تأخذ هذا المنحى دون غيرة؟ لماذا تحاول أن تؤكد احتمالا واحدا مع وجود كثرة من الاحتمالات؟ وما هي علاقة التركيز على هذا الاحتمال بالنظرة التي يمتلكها الكاتب؟
إننا نريد ان ندرس آلية ظهور هذه النظرة وتناقضاتها المختلفة. سنأخذ مقالا واحدا بتركيز خاص. وعموما فمقالات الكتاب المنفصلة تحتوي ذات الفكرة الرئيسية المتمددة في كل الكتاب، وبنفس خطوطها العريضة.
المقال هو ذلك الجزء من الفصل الثالث النظري العام المعنون بـــ«القوة الصاعدة . . والعرب ــ نظرة شمولية». فهذه النظرة الشمولية هي التي تحتاج الى فحص .
في البدء يقول:
انشغل الفكر العربي كثيرا بالتجارب الحضارية الأوربية والغربية بصفة عامة رغم أنها تمت في اقليم حضاري مختلف تماماً عن الاقليم العربي، وفي ظروف تاريخية اجتماعية تختلف هي الأخرى كثيرا عن الظروف العربية ص 64.
وكالعادة يجري تعميم وإطلاق الوعي العربي بتياراته المتعددة في كلمة «الفكر العربي» فلا يغدو قوى متعددة واجتهادات متباينة بل جوهراً ذا وحدة واحدة، يصير عدسة وحيدة تنشغل بعالم آخر مسيطر على وضعها فتنبهر به وتريد أن تحتذيه لتكون في مستواه.
إن العدسة العربية تنشغل «بالتجارب الحضارية الأوربية»، «بسبب التفوق الأوربي في المائتي سنة الأخيرة، والسيطرة الأوربية على معظم بقاع الأرض بما في ذلك الاقليم العربي» .
إن العدسة تحاول نقل الموديل الغربي الرأسمالي الى عالمها الخاص رغم أن الحضارة الغربية تمت في «إقليم حضاري مختلف تماما»، وفي ظروف تاريخية مغايرة. وهنا يجب أن ننتبه الى كلمة الاقليم المختلف بمعنى أنها لو تمت في اقليم مشابه، شرقي، مقارب في عاداته ومؤسساته، لتمت عملية الاحتذاء، وحدث الإنصهار بين التابع والمتبوع، فعملية تقليد الموديل الغربي تمت في شروط غير مناسبة، بمعنى أن تقاليد العرب وأوضاعهم الاجتماعية كانت مغايرة، للنموذج المراد تباعه، ولو جاء نموذج أو موديل مناسب، قريب منا جغرافيا واجتماعيا لتمت عملية الإحتذاء.
ويواصل الكاتب بناء فكرته:
غير أن استيعاب سر القوة الحضارية المعاصرة لدى الغرب شيء، واحتذاء نماذجه الحضارية بكاملها ومحاولة اقتباسها بشكل تفصيلي شيء آخر، وهذا فارق لم ينتبه اليه ذلك الجيل من المفكرين الذي دعا الى اقتباس الحضارة الأوربية خيرها وشرها حلوها ومرها على حد تعبير طه حسين . . ص 65.
لقد أراد ذلك الجيل من المثقفين العرب نقل النموذج الغربي بكليته الى الواقع العربي (هل حدث ذلك حقا؟!) ونسى أهمية استيعاب سر القوة في ذلك النموذج، فاستيعاب «سر» النموذج هو مفتاح الحل.
فلو أن الوعي أدرك سر تفوق الموديل الغربي، وما هي خصائص تفوقه، وعمم هذه الخصائص أو نشرها أو طبقها، لكان بالإمكان احداث نقلة حضارية! ولربما حدث التطابق بين التابع والمتبوع، ولكنه، للأسف، انشغل باحتذاء النموذج بالكامل.
هل هناك فرق بين احتذاء النموذج وادراك سر قوته؟!!
لقد أراد العقل العربي أن يصبح غريبا، وأراد للمجتمع الأصيل ان يتغرب عن ذاته، أن يفارق جوهره، ويلتحق بجوهر خاص ذي خصائص مختلفة كليا.
أي أن التطابق الحضاري، بين المختلف والمتقدم، بين التابع والمتبوع، رهن بشروط الوعي والفكر، فلو تحقق «ادراك معين» تمت عملية المصاهرة، وزال الفارق.
إن النقلة الحضارية المنتظرة تتحقق باستبدال عبارة «إحتذاء نماذجه» بعبارة «اسيعاب سر القوة!!» فلو أن المفكرين العرب انتبهوا الى ذلك في بداية التصادم الحضاري بين العرب والغرب وانشغلوا باستيعاب أسرار قوة الحضارة الجديدة وراحوا يفككون آلتها ويعيدون تركيبها، لأمكن حدوث التقدم الحضاري المطلوب.
وكان بإمكان «العقل» العربي حينذاك أن يرى ايضا الموديل الجديد ويدرك أسراره. فقد صعدت اليابان حينذاك، وأستقبل المثقفون العرب بحماس بالغ الانتصار الياباني على روسيا القيصرية، ورأوا فيه أول هزيمة لأوربا.
«لكن الفكر العربي اكتفى بالترحيب والتفاؤل ولم يدرس ويتعمق أبعاد التجربة اليابانية الجديدة كاملة وهي التي بدأت قبل ثلث قرن فقط من انتصار اليابان على روسيا. هذا مع العلم أن اليابان في بداية عصر نهضتها المعروف بعصر ‹‹الميجي›› والذي يؤرخ لبدايته بعام 1868. قد أرسلت وفدا الى مصر للتعرف على اسباب نهضتها الباكرة بين عهد محمد علي وعهد الخديوي اسماعيل ص 65.
إن الفكر. في نظرة الكاتب، يغدو هو الصانع المطلق للتاريخ بدون شروط موضوعية، خارج البنية الاقتصادية ــ الاجتماعية التي تكون فيها، وهو يستطيع بمفرده، لو أنه تعمق الأشياء لأمكن إعادة خلق التاريخ في منحى اخر.
فشروط النهضة وتفجيرها موجود لدى النخبة، وهم القوة الحاملة للفكر، وبإمكان هذه النخبة مستقلة من شروط تكونها ان تخلق ما عجزت عنه. إن الفكر هنا قوة حرة مطلقة، ليست ابنة ظروف تاريخية بالغة التعقيد، فقد كان بإمكانها أن تصير ولم تصر.
«هكذا لم يحول الفكر العربي ذلك الحدث في مطلع القرن العشرين إلى منعطف في انفتاحه على تجارب العالم الجديدة الأخرى، ونسى التجربة اليابانية بعد سنوات قليلة وواصل تطلعه غربا عبر المتوسط الى التجارب الحضارية الأوربية وحدها . . .». ص 65.
إن عدسة «العقل العربي»، ركزت على جهة واحدة من العالم ولو انها التفتت الى جهة أخرى وليدة بازغة، لتغير مصير العرب في هذا القرن.
إن الفكر يغدو، كما كان في كتاب «تحولات الفكر والسياسة . .» ظاهرة فوق الواقع، مجردة، وقادرة على تحويله بقدرتها الذاتية الخارقة، فليس هذا الفكر هو نتاج الواقع العربي المعقد المتباين، نتاج الأنظمة الاجتماعية المتخلفة التابعة، إلى مراكز متباينة في العالم الغربي، ليس هو ممارسات تتخلق عبر تحويل المجتمعات العربية المتعددة، ليس هو مجموعة من المثقفين المتناثرين المنتمين الى تيارات صغيرة داخل التكوينات «الحديثة» الوليدة حينذاك، وفي محيط من الأمية والتخلف وتأخر الصناعة الخ . . ليس هو التيارات الليبرالية المتعددة التي تحاول احتذاء، دول متباينة، وليس هو الاسلاميون المتنورون القليلون الذين يحاولون الاستفادة من ثقافة الغرب لتطوير الحياة العربية الخ . .
لا، ليس الفكر كذلك. بل هو قوة مجردة مطلقة قادرة على تحويل مسارات الحياة بمجرد اكتشاف موديل آخر.
إن «الفكر» بهذا التجريد الذي يتصوره الكاتب لم يكن موجودا حينذاك، وليس موجودا الآن كذلك. بمعنى أن للتاريخ قوانينه الموضوعية لا بد من اكتشافها حتى يتم تحويل الواقع، فهو لا يتغير بمجرد التغيير في فكر النخبة.
إن انشداد الوعي العربي بتياراته المتعددة الى «الغرب» هو ظاهرة موضوعية، تأسست فوق عالم كامل من التبعية، تكون عبر قرون عديدة منذ نمو الرأسمالية في غرب أوربا وحدوث الثورة الصناعية فيها والاكتشافات الجغرافية ونمو الأساطيل والاستيلاء على العالم عبر الشركات التجارية الخ . .الخ.
لقد تم تمزيق الوطن العربي، كالعديد من البلدان، وربط بتلك المراكز الرأسمالية المتعددة. وهذا الربط منحوت عبر ظروف اقتصادية مادية عميقة، كما هو أيضا منحوت عبر شروط فكرية ثقافية.
من هنا كان لا بد من التطلع الى الغرب واحتذاء نموذجه وفهم سر قوته، فذلك هو طريق التحرر الشاق، الذي لن يتشكل عبر الضغط على مجموعة من الأزرار.
وقد حاولت قوى اجتماعية عديدة، كما أشرنا سابقا، أن تحطم التبعية للغرب، وقد كان هذا نفسه انعكاسا للتطور الموضوعي ذاته. وقد تشكلت عدة حلقات بدأها الاسلاميون المتنورون كالأفغاني وتلاها الليبراليون الوطنيون كسعد زغلول ثم توجت بحلقة القوميين التحرريين كجمال عبدالناصر وغيره. وفي كل حلقة من هذه الحلقات كانت مسافة الحرية تتسع، وتآكل بنية التبعية يشتد.
ولو أن المنورين العرب في بدايات النهضة اهتموا بالتجربة اليابانية وحاولوا إدراك أسرارها لما نجم عن ذلك انفجار، بل تحول الى معرفة نهضوية مثل كافة اشكال الأدلجة الخاصة التي قامت بها البرجوازية العربية.
إن التاريخ لا ينمو الا بإمكانياته الحقيقية، وتظل المعرفة تلعب دورها الهام ضمن علاقتها بالطبقات المختلفة.
إذن الكاتب يقوم هنا بعملية تجريد واسعة، ويجعل من الفكر المجرد قوة خيالية قادرة وحدها على احداث التحول، خارج الظروف الملموسة للتطورات الاجتماعية.
فهل تتم النهضات الكبرى والتحولات التاريخية بفعل الارادوية المحضة ونشاط النخبة؟
هل ذلك ما حدث في التجربة اليابانية؟!
عبـــــــدالله خلــــــــيفة عرض ونقد عن أعماله
Published on September 23, 2019 07:53
•
Tags:
2-محمد-جابر-الانصاري
September 22, 2019
عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الأدبُ الفارسي القديم والقومية
تمثل القوميات الكبرى في الشرق كالقومية العربية والفارسية والروسية عقداً أممية في التطور التاريخي الراهن لارتباطها بظروف نشأة دينية عسكرية توسعية، لا تقبل الانفكاك عن أشكال هيمنتها على الأقوام الأخرى الداخلة في سيطرتها.
وهذا يتجسد من خلال وعي ديني مقدس بطبيعة الحال لدى أصحابه، وقد ظهر الفرس على الهضبة الإيرانية وهم في صراع مع الشعوب الأخرى، وتمازجوا مع الأكراد والأفغان والعرب.
والشكل الفارسي ظهر وهو محاطٌ بثقافة العالم القديم، وأحتل أرضه وقاوم الغزاة وأعتمد على المجوسية كشكل ديني قومي خاص مميز، ولقد عبرت المجوسية بطقوسها الكثيرة المعقدة عن نظام العبودية العامة الشرقية، حيث النبلاء يفرضون سيطرة ساحقة على العامة الذين يعيشون في منزلة العبيد. وفي أثناء تحولها إلى امبراطورية وصراعها مع الأغريق لم تكتسب أي طابع ديمقراطي، ولكن التناقضات تعمقت داخل صفوف المجتمع الفارسي. ومثلت الاتجاهات المزدكية الداعية للمساواة والمشاركة في وسائل الانتاج محاولات فاشلة لإضفاء طابع شعبي على مملكة العبودية العامة هذه بدون جدوى.
وتتضخ ضخامة جذور الاستبداد العريق عبر الشهنامة حيث يسرد الفردوسي حشوداً من الملوك المتوجين في هذا التاريخ السرمدي المتصل بالآلهة، والمليء بالحروب والصراعات مع القوى البشرية والسحرية الشريرة.
لم تنكسر صوانية العبودية المُعّممة هذه إلا عبر شعب بدوي محتقر جداً في نظر الفرس، وهو الشعب العربي المسلم الطالع من الجزيرة العربية.
أعطتْ الطبيعةُ المختلفة كلاً من الشعبين تاريخاً مختلفاً، ففيما عاش الفرس على الهضبة تغزوهم الشعوب ويعانون طوال تاريخهم من الغزاة ويطلبون التوحيد ويقيمونه بحروب وصعوبات جمة ثم يفقدونه، كان العرب في جزيرتهم محمين يعجز الغزاة عن الدخول إليهم! فغدت العقد والمشكلات التاريخية بين القوميتين مختلفة، وأدت الظروف والثورات التاريخية أن يغدو هذا الشعب المُحتّقر في نظر الفرس محرراً لهم، كاسراً لقوقعتهم التاريخية التي عجزوا عن كسرها آلاف السنين. فهذا الشعب البدوي البسيط كان ديمقراطياً لا توجد به نبالةٌ معبودة، وجعلَ نبالتهم تذروها الرياحُ السياسية، ولكنه من جهة أخرى فرض عليهم سيطرته التي بدت متخلفة عن مستواهم الحضاري!
خلال قرنين من السيطرة العربية الإسلامية تداخل الشعبان، فبدايات الفتح العربية ذات الشعارات الديمقراطية الإنسانية تبدلت بسيطرة عائلات الأشراف والنبالة البدوية، وثورات الفرس للخروج الكلي عن السيطرة العربية والتي كانت بشعارات مجوسية وخرافية لم تستطع أن تؤدي إلى تقدم، وقد حدث تمازجٌ بين الشعبين وتداخلت الأفكارُ الدينية فتراجعت المجوسية وتغلغل الإسلام داخل العامة، الذي كسر لهم السيطرة الارستقراطية الحادة، وتجمع العرب والفرس كذلك ضد السيطرة الأموية التي مثلت لهم عدواً مشتركاً، بسبب بقاياها الاستعلائية وعنفها، ولهذا فإن أفكار المذاهب والأفكار المعارضة لتلك السيطرة في الجانبين العربي والفارسي تداخلت، ولهذا كانت الدعوة العباسية هي المزيجُ الارستقراطي الديمقراطي، الاسلامي الإنساني، لمقاربة الشعوب العربية الإسلامية في لحظةٍ تاريخية جديدة، وتمازجها لتكوينِ حضارة مشتركة أكثر تطوراً، وأدت الثورةُ إلى الانتصار وإقامة هذه الدولة المختلفة، التي لم تكن فيها سيطرة الأشراف العرب فحسب، بل كذلك صعدت سيطرة الأشراف الفرس وتداخلت في هذه الدولة، فصارت الخلافة عربية والوزارة فارسية.
وكما كانت القمةُ متمازجةً فقد تمازجت القواعد الشعبية، فقامت الفئاتُ الوسطى خاصة الفارسية العربية بدور كبير في بناء الثقافة العربية الإسلامية، وكشف لغتها وتقنينها وجمع آدابها وتطوير علومها المختلفةوالصعود بها إلى الفلسفة، فحدثت نهضة مشتركة، ولكن أسس الصراع والإختلاف بين القوميتين المتواريتين داخل المبنى الفكري الاجتماعي الديني ظلت موجودة، فالعرب الارستقراطيون كانت الثروة لهم، والجيش، وهم يعتمدون على الخراج المجلوب من الأرياف المختلفة للأمم والشعوب الإسلامية، ولهذا حين تحول الجيش بيد الاتراك ونضب الخراج وتراكمت المشكلات زال ذلك التحالف العربي الفارسي النهضوي وبدأ عصرٌ مختلف.
بالرغم من الصراع العربي الفارسي فقد تنامت إيران في ظل التطور العربي، مثل بقية المجموعات القومية التي تنامت في ظل إيديولوجية دينية واحدة معبرة عن وحدة بشرية كبيرة تعكس تطور الأمم في العصر الوسيط وحدود هذا التطور كذلك.
وذاك التنامي الفارسي الذي جرى تحت السيطرة العربية يتجلى في عودة اللغة الفارسية بشكل جديد وإعتمادها على المفردات العربية بشكل كبير، بعد قرنين من الفتح.
كان هذا تعبيراً عن التوحد والاختلاف، وبداية نمو القومية الفارسية داخل الوعي الديني الإسلامي. إن الفرس ذوي الحضارة القديمة المتصارعة مع الأقوام البدوية، والتي لجأت لتكوين قواها العسكرية بحدة خلال التواريخ السابقة تعود مرة أخرى لذات السياق بعد تنامي قواعد التطور وعلى أسس مختلفة من الثقافة الدينية، ولكن في سياق شمولي عسكري راح يلغي التوحد بين الأشقاء المسلمين.
إن الأدبَ وخاصة اللغة فيه يمثل مرحلة تكوين الأساس القومي الفارسي الذي ينتشر بين الشعب ويوحده عبر التاريخين الاسطوري والواقعي، وخاصة عبر رموز الأبطال، وهذا الأمر إستمر قروناً، حيث كانت الروابط تتنامى بين مختلف بقاع فارس.
وكانت الثقافة الإسلامية هي النسيج الآخر، وقد إعتمدت على المذهبيات الإمامية، وكانت الزيدية والإسماعلية قد بذرتا بذورَ المعارضة والاختلاف في التربة بين إعتدالٍ وتطرف، لكن كان النسيج القومي المتصاعد عسكرياً ينتج وعياً توحيدياً قوياً يفصم العلاقة تماماً مع المذاهب الإسلامية الأخرى.
لهذا حدثت إنعطافة شديدة على صعيد الأدب الاسطوري عبر شهنامة الملوك وعبر المذهبية الشيعية التي تم توجيهها في مسار مختلف إنفصالي عن العرب. كانت الحدة تعكس الموروث الاضطهادي والثورة عليه ولكن في التماثل معه. فالتوجه للهجوم على رموز العرب الدينية والاجتماعية يهدف إلى الانقطاع والبتر والاعتماد على العنف في العلاقة فلم تتشكل قراءة موضوعية، وتكوين المظلة الاسطورية يعكس المطامح الحادة لهذه المجموعات الهامشية وهي تندفع للسيطرة على دولة كبيرة.
كان هذا بمثابة (تحرير) وتطهير عِرقي وقامت به الحركة الصفوية التي جمعت بين (الصوفية) والتنظيم العسكري مؤسسةً الدولةَ بشكل عنيف مما جعل القبائل والمذاهب الأخرى التي تعرضتْ للتنكيل أن تتوحد ضدها وتهجم عليها في حرب أخرى كارثية وتزيلها.
لم تكن صوفيةً مماثلة للصوفية الفارسية الإبداعية بل كانت دورشة معبرة عن إنهيار العقلانية، والدخول في السحر وجرّ الجمهور بأشكال فيها شعوذة، وهذه ترافقت مع الروح العسكرية العنيفة معبرة كلها عن عودة قومية كاسحة.
(الصفويون هم آل صفويان: سلالة من الشاهات حكمت في بلاد فارس (إيران) سنوات 1501-1785 م. المقر:تبريز: حتى 1548 م، قزوين: 1548-1598 م، أصفهان: منذ 1598 م. وقد أسس الشيخ صفي الدين الأردبيلي (1252-1334 م) طريقته الصوفية في أردبيل (أذربيجان) سنة 1300 م. أصبحت أردبيل عاصمة دينية ثم سياسية لأتباعه (مع تحولها إلى حركة سياسية)، موسوعة ويكيبيديا.
الانتقال من الدونية والهوان إلى البطش يعكس المرارات التي تشكلت في أثناء هذا التاريخ الصراعي بين الفرس والقوميات الأخرى، وتعبر المذابح التالية عن خلق هوات كبرى بين القوميات في ظل الوحدة الدينية. إن هذه الدولة الصفوية عكستْ الانتقال من النقيض للنقيض، من التعايش إلى الحروب الاستئصالية.
ولهذا فإن الجهود البنائية لهذه الدولة الصفوية نفسها ضاعت حين تحالفت القبائل وقوى المذاهب المختلفة عنها وشنت عليها حرباً وأزالتها!
وفي رمزية الشهنامة دلالة على هذا، فقد قدمها الفردوسي لمحمود الغزنوي الحاكم السني، وهذا لم يرتح لها، وعلقَّ عليها قائلاً: لماذا جعلت رستم البطل الأوحد فيها؟ فردّ عليه الفردوسي: لأنني لم أجد بطلاً مثله! كان ثمة إمكانية للتعايش ولكن اللغة القومية المتعصبة شكلت الهوة، فظلَّ الفردوسي مُطارداً وظل الغزنوي مهيمناً ملغياً أشباح رستم إلى حين.
ستظل الدولة الفارسية في إشكاليات متعددة مع دول الجوار ومع تكون الشعب نفسه، منتقلة من كيان ذائب أو مفتت، إلى كيان مركزي حاد، دون أن تعثر على الصيغة الوسطى ولهذا أسباب عميقة كذلك.
وهذا يتجسد من خلال وعي ديني مقدس بطبيعة الحال لدى أصحابه، وقد ظهر الفرس على الهضبة الإيرانية وهم في صراع مع الشعوب الأخرى، وتمازجوا مع الأكراد والأفغان والعرب.
والشكل الفارسي ظهر وهو محاطٌ بثقافة العالم القديم، وأحتل أرضه وقاوم الغزاة وأعتمد على المجوسية كشكل ديني قومي خاص مميز، ولقد عبرت المجوسية بطقوسها الكثيرة المعقدة عن نظام العبودية العامة الشرقية، حيث النبلاء يفرضون سيطرة ساحقة على العامة الذين يعيشون في منزلة العبيد. وفي أثناء تحولها إلى امبراطورية وصراعها مع الأغريق لم تكتسب أي طابع ديمقراطي، ولكن التناقضات تعمقت داخل صفوف المجتمع الفارسي. ومثلت الاتجاهات المزدكية الداعية للمساواة والمشاركة في وسائل الانتاج محاولات فاشلة لإضفاء طابع شعبي على مملكة العبودية العامة هذه بدون جدوى.
وتتضخ ضخامة جذور الاستبداد العريق عبر الشهنامة حيث يسرد الفردوسي حشوداً من الملوك المتوجين في هذا التاريخ السرمدي المتصل بالآلهة، والمليء بالحروب والصراعات مع القوى البشرية والسحرية الشريرة.
لم تنكسر صوانية العبودية المُعّممة هذه إلا عبر شعب بدوي محتقر جداً في نظر الفرس، وهو الشعب العربي المسلم الطالع من الجزيرة العربية.
أعطتْ الطبيعةُ المختلفة كلاً من الشعبين تاريخاً مختلفاً، ففيما عاش الفرس على الهضبة تغزوهم الشعوب ويعانون طوال تاريخهم من الغزاة ويطلبون التوحيد ويقيمونه بحروب وصعوبات جمة ثم يفقدونه، كان العرب في جزيرتهم محمين يعجز الغزاة عن الدخول إليهم! فغدت العقد والمشكلات التاريخية بين القوميتين مختلفة، وأدت الظروف والثورات التاريخية أن يغدو هذا الشعب المُحتّقر في نظر الفرس محرراً لهم، كاسراً لقوقعتهم التاريخية التي عجزوا عن كسرها آلاف السنين. فهذا الشعب البدوي البسيط كان ديمقراطياً لا توجد به نبالةٌ معبودة، وجعلَ نبالتهم تذروها الرياحُ السياسية، ولكنه من جهة أخرى فرض عليهم سيطرته التي بدت متخلفة عن مستواهم الحضاري!
خلال قرنين من السيطرة العربية الإسلامية تداخل الشعبان، فبدايات الفتح العربية ذات الشعارات الديمقراطية الإنسانية تبدلت بسيطرة عائلات الأشراف والنبالة البدوية، وثورات الفرس للخروج الكلي عن السيطرة العربية والتي كانت بشعارات مجوسية وخرافية لم تستطع أن تؤدي إلى تقدم، وقد حدث تمازجٌ بين الشعبين وتداخلت الأفكارُ الدينية فتراجعت المجوسية وتغلغل الإسلام داخل العامة، الذي كسر لهم السيطرة الارستقراطية الحادة، وتجمع العرب والفرس كذلك ضد السيطرة الأموية التي مثلت لهم عدواً مشتركاً، بسبب بقاياها الاستعلائية وعنفها، ولهذا فإن أفكار المذاهب والأفكار المعارضة لتلك السيطرة في الجانبين العربي والفارسي تداخلت، ولهذا كانت الدعوة العباسية هي المزيجُ الارستقراطي الديمقراطي، الاسلامي الإنساني، لمقاربة الشعوب العربية الإسلامية في لحظةٍ تاريخية جديدة، وتمازجها لتكوينِ حضارة مشتركة أكثر تطوراً، وأدت الثورةُ إلى الانتصار وإقامة هذه الدولة المختلفة، التي لم تكن فيها سيطرة الأشراف العرب فحسب، بل كذلك صعدت سيطرة الأشراف الفرس وتداخلت في هذه الدولة، فصارت الخلافة عربية والوزارة فارسية.
وكما كانت القمةُ متمازجةً فقد تمازجت القواعد الشعبية، فقامت الفئاتُ الوسطى خاصة الفارسية العربية بدور كبير في بناء الثقافة العربية الإسلامية، وكشف لغتها وتقنينها وجمع آدابها وتطوير علومها المختلفةوالصعود بها إلى الفلسفة، فحدثت نهضة مشتركة، ولكن أسس الصراع والإختلاف بين القوميتين المتواريتين داخل المبنى الفكري الاجتماعي الديني ظلت موجودة، فالعرب الارستقراطيون كانت الثروة لهم، والجيش، وهم يعتمدون على الخراج المجلوب من الأرياف المختلفة للأمم والشعوب الإسلامية، ولهذا حين تحول الجيش بيد الاتراك ونضب الخراج وتراكمت المشكلات زال ذلك التحالف العربي الفارسي النهضوي وبدأ عصرٌ مختلف.
بالرغم من الصراع العربي الفارسي فقد تنامت إيران في ظل التطور العربي، مثل بقية المجموعات القومية التي تنامت في ظل إيديولوجية دينية واحدة معبرة عن وحدة بشرية كبيرة تعكس تطور الأمم في العصر الوسيط وحدود هذا التطور كذلك.
وذاك التنامي الفارسي الذي جرى تحت السيطرة العربية يتجلى في عودة اللغة الفارسية بشكل جديد وإعتمادها على المفردات العربية بشكل كبير، بعد قرنين من الفتح.
كان هذا تعبيراً عن التوحد والاختلاف، وبداية نمو القومية الفارسية داخل الوعي الديني الإسلامي. إن الفرس ذوي الحضارة القديمة المتصارعة مع الأقوام البدوية، والتي لجأت لتكوين قواها العسكرية بحدة خلال التواريخ السابقة تعود مرة أخرى لذات السياق بعد تنامي قواعد التطور وعلى أسس مختلفة من الثقافة الدينية، ولكن في سياق شمولي عسكري راح يلغي التوحد بين الأشقاء المسلمين.
إن الأدبَ وخاصة اللغة فيه يمثل مرحلة تكوين الأساس القومي الفارسي الذي ينتشر بين الشعب ويوحده عبر التاريخين الاسطوري والواقعي، وخاصة عبر رموز الأبطال، وهذا الأمر إستمر قروناً، حيث كانت الروابط تتنامى بين مختلف بقاع فارس.
وكانت الثقافة الإسلامية هي النسيج الآخر، وقد إعتمدت على المذهبيات الإمامية، وكانت الزيدية والإسماعلية قد بذرتا بذورَ المعارضة والاختلاف في التربة بين إعتدالٍ وتطرف، لكن كان النسيج القومي المتصاعد عسكرياً ينتج وعياً توحيدياً قوياً يفصم العلاقة تماماً مع المذاهب الإسلامية الأخرى.
لهذا حدثت إنعطافة شديدة على صعيد الأدب الاسطوري عبر شهنامة الملوك وعبر المذهبية الشيعية التي تم توجيهها في مسار مختلف إنفصالي عن العرب. كانت الحدة تعكس الموروث الاضطهادي والثورة عليه ولكن في التماثل معه. فالتوجه للهجوم على رموز العرب الدينية والاجتماعية يهدف إلى الانقطاع والبتر والاعتماد على العنف في العلاقة فلم تتشكل قراءة موضوعية، وتكوين المظلة الاسطورية يعكس المطامح الحادة لهذه المجموعات الهامشية وهي تندفع للسيطرة على دولة كبيرة.
كان هذا بمثابة (تحرير) وتطهير عِرقي وقامت به الحركة الصفوية التي جمعت بين (الصوفية) والتنظيم العسكري مؤسسةً الدولةَ بشكل عنيف مما جعل القبائل والمذاهب الأخرى التي تعرضتْ للتنكيل أن تتوحد ضدها وتهجم عليها في حرب أخرى كارثية وتزيلها.
لم تكن صوفيةً مماثلة للصوفية الفارسية الإبداعية بل كانت دورشة معبرة عن إنهيار العقلانية، والدخول في السحر وجرّ الجمهور بأشكال فيها شعوذة، وهذه ترافقت مع الروح العسكرية العنيفة معبرة كلها عن عودة قومية كاسحة.
(الصفويون هم آل صفويان: سلالة من الشاهات حكمت في بلاد فارس (إيران) سنوات 1501-1785 م. المقر:تبريز: حتى 1548 م، قزوين: 1548-1598 م، أصفهان: منذ 1598 م. وقد أسس الشيخ صفي الدين الأردبيلي (1252-1334 م) طريقته الصوفية في أردبيل (أذربيجان) سنة 1300 م. أصبحت أردبيل عاصمة دينية ثم سياسية لأتباعه (مع تحولها إلى حركة سياسية)، موسوعة ويكيبيديا.
الانتقال من الدونية والهوان إلى البطش يعكس المرارات التي تشكلت في أثناء هذا التاريخ الصراعي بين الفرس والقوميات الأخرى، وتعبر المذابح التالية عن خلق هوات كبرى بين القوميات في ظل الوحدة الدينية. إن هذه الدولة الصفوية عكستْ الانتقال من النقيض للنقيض، من التعايش إلى الحروب الاستئصالية.
ولهذا فإن الجهود البنائية لهذه الدولة الصفوية نفسها ضاعت حين تحالفت القبائل وقوى المذاهب المختلفة عنها وشنت عليها حرباً وأزالتها!
وفي رمزية الشهنامة دلالة على هذا، فقد قدمها الفردوسي لمحمود الغزنوي الحاكم السني، وهذا لم يرتح لها، وعلقَّ عليها قائلاً: لماذا جعلت رستم البطل الأوحد فيها؟ فردّ عليه الفردوسي: لأنني لم أجد بطلاً مثله! كان ثمة إمكانية للتعايش ولكن اللغة القومية المتعصبة شكلت الهوة، فظلَّ الفردوسي مُطارداً وظل الغزنوي مهيمناً ملغياً أشباح رستم إلى حين.
ستظل الدولة الفارسية في إشكاليات متعددة مع دول الجوار ومع تكون الشعب نفسه، منتقلة من كيان ذائب أو مفتت، إلى كيان مركزي حاد، دون أن تعثر على الصيغة الوسطى ولهذا أسباب عميقة كذلك.
Published on September 22, 2019 15:57
عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الشبابُ والتراثُ
كيانان مختلفان متضادان من الشباب يمثلان قطعة معدنية صدئة واحدة.
كيانٌ أسرف في عبادة الماضي، فجثم في كهف افلاطون يرى أشباحاً ويتصورها تراثاً ورموزاً.
كيان آخر رفض الماضي جملة وتفصيلاً، ملابس عتيقة وأزهاراً قليلة.
بين الحوضين اليابسين عالم حديث معقد تغلغل فيهما وشوههما فرفعا السيوف الخشبية لحروب القبائل والطوائف الجديدة.
الجيل الرافض للماضي منبهر بالهايد بارك والمكتبات الكبرى التي لا تترك صغيرة وكبيرة بدون بحث، وتتسلط الكاميرات على أية نقطة معرفية قصية في العالم.
مبهور بالحضارة الحديثة حتى فقد ملابسه التراثية وخرج عارياً في الساحات!
أمطار المعرفة فوق رأسه سحب من لحيته في الصحراء وأُلقي في الجامعات الكبرى وبدلاً من الخيمة والعنز المحبوسة ترامت تحت قدميه أبسطة المعارف اللانهائية.
كيف يميز؟ كيف يقرأ؟ إذا حلل نصاً جلب العدة الغربية التي يحفظها وهرس بها النصوص، فترى الجداول تملأ الدراسات والدماء تشخب منها!
لا تكاد أن تعرف شيئاً من النصوص الأصلية وهو قد لبس آخر موضة ولم ير عامةً من بلده يسمعون هذا الهرج، والمحيطون به يحسبونه يتكلم لغة أخرى.
الآخر لا يزال في الخيمة، يمشي مع الإبل والبقر بين الدخول فحومل، يطلق النار على الأقمار الصناعية ويلقي بأجهزة التلفاز في البرية.
حين تتحول اللغتان إلى سياسة تصبحان جدولين آسنين طائفيين، كل منهما تمسك فتافيت من المواقف وتحركها حسب المصلحة وأشباح الكهف وثقوب الجيوب والرؤوس.
الوعي التحديثي له إمكانيات يمكن أن يستغلها في فهم العصر، لكنه يأخذ العصر بلا سيرورة تاريخية، ولا مراحل اجتماعية، ويربطها بحداثة غربية غير عميقة وغير متجذرة في التاريخ هي الأخرى، وهكذا تغدو الدراسات في الجامعات العربية نقلاً ميكانيكاً من الكراجات الغربية غير قادرة على السباحة في النصوص العربية.
النقل الميكانيكي مثل الكراجات القديمة قبل الحرب العالمية الأولى، ولا يستطيع النص السيار أن يمشي وينفجر من الحرارة أو البرودة.
هو كله شباب عتيق وكل يدعي بمعرفة بجهة من الواقع، جذور الواقع أو عصريته دون أن يمتلك أياً منهما.
كيانٌ أسرف في عبادة الماضي، فجثم في كهف افلاطون يرى أشباحاً ويتصورها تراثاً ورموزاً.
كيان آخر رفض الماضي جملة وتفصيلاً، ملابس عتيقة وأزهاراً قليلة.
بين الحوضين اليابسين عالم حديث معقد تغلغل فيهما وشوههما فرفعا السيوف الخشبية لحروب القبائل والطوائف الجديدة.
الجيل الرافض للماضي منبهر بالهايد بارك والمكتبات الكبرى التي لا تترك صغيرة وكبيرة بدون بحث، وتتسلط الكاميرات على أية نقطة معرفية قصية في العالم.
مبهور بالحضارة الحديثة حتى فقد ملابسه التراثية وخرج عارياً في الساحات!
أمطار المعرفة فوق رأسه سحب من لحيته في الصحراء وأُلقي في الجامعات الكبرى وبدلاً من الخيمة والعنز المحبوسة ترامت تحت قدميه أبسطة المعارف اللانهائية.
كيف يميز؟ كيف يقرأ؟ إذا حلل نصاً جلب العدة الغربية التي يحفظها وهرس بها النصوص، فترى الجداول تملأ الدراسات والدماء تشخب منها!
لا تكاد أن تعرف شيئاً من النصوص الأصلية وهو قد لبس آخر موضة ولم ير عامةً من بلده يسمعون هذا الهرج، والمحيطون به يحسبونه يتكلم لغة أخرى.
الآخر لا يزال في الخيمة، يمشي مع الإبل والبقر بين الدخول فحومل، يطلق النار على الأقمار الصناعية ويلقي بأجهزة التلفاز في البرية.
حين تتحول اللغتان إلى سياسة تصبحان جدولين آسنين طائفيين، كل منهما تمسك فتافيت من المواقف وتحركها حسب المصلحة وأشباح الكهف وثقوب الجيوب والرؤوس.
الوعي التحديثي له إمكانيات يمكن أن يستغلها في فهم العصر، لكنه يأخذ العصر بلا سيرورة تاريخية، ولا مراحل اجتماعية، ويربطها بحداثة غربية غير عميقة وغير متجذرة في التاريخ هي الأخرى، وهكذا تغدو الدراسات في الجامعات العربية نقلاً ميكانيكاً من الكراجات الغربية غير قادرة على السباحة في النصوص العربية.
النقل الميكانيكي مثل الكراجات القديمة قبل الحرب العالمية الأولى، ولا يستطيع النص السيار أن يمشي وينفجر من الحرارة أو البرودة.
هو كله شباب عتيق وكل يدعي بمعرفة بجهة من الواقع، جذور الواقع أو عصريته دون أن يمتلك أياً منهما.
Published on September 22, 2019 15:46
عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الوعيُّ الطائفي والوعي الطبقي
هل يشكلُ الفكرُ الطائفي وعياً؟ أليس هو ضد (الوعي)؟ إن المقصودَ هنا بـ(الوعي) هو أشكالُ المعرفةِ التي تظهرُ وتنمو في الذهنِ الإنساني بإختلافِ هذه الأشكال، فنقول الوعي الأسطوري، والوعي الديني، والوعي العلمي، والوعي القومي وغيرها من أشكالٍ تعبرُ عن بُنى فكريةٍ ذهنية تتشكلُ في حقبِ التاريخ المختلفة، وفي المجتمعات المتنوعة.
إن كلَ بُنيةٍ لها تاريخُها والعناصرُ التي تتألفُ منها، وقد تَعبرُ التاريخَ طويلاً بتلك العناصر، وقد تتفككُ وتظهرُ أشكالٌ جديدة تكونتْ في ظروفٍ مختلفةٍ وبعناصرَ معرفيةٍ جديدة.
وحين ظهر المسلمون لم يكن ثمة ما يُسمى بالوعي الطائفي، وكانت كلمةُ(طائفةٍ) تشيرُ إلى جماعةٍ من الناس ليس لها طابعٌ فكري مميزٌ عن غيرِها من الجماعات.
كما جاءَ في القرآن (وإن طائفتان من المؤمنين أقتتلُوا فأصلِحُوا بينهما، فإن بغتْ إحداهُما على الأخرى فقاتلوا التي تبغِي حتى تفيءَ إلى أمرِ اللهِ فإن فاءتْ فأصلِحوا بينهما بالعدلِ وأقسطوا إن اللهَ يحبُ المُقسِطين…))،سورةُ الحجرات، 9.
كان هناك إذن الوعي الديني بشكليه الوثني والإسلامي، ولم يكن بإمكان الوعي الإسلامي أن يتجلى بشكلٍ طبقي رغم كونه كذلك من حيث الجوهر الاجتماعي الذي يحمله، بإعتبارهِ وعي الجماعاتِ الشعبية الثائرة، بخلاف الوعي الوثني في مكة المعبر عن ملأ قريش الإرستقراطي، وبالتالي بقي الوعي الإسلامي مجرداً غيرَ محددٍ بخصائصهِ الطبقية، بإعتبارهِ وعي الجماعات الشعبية المتكونةِ من التجار من جهة والفقراء والعبيد من جهة أخرى، وهاتان الجماعتان اللتان تعاونتا معاً لتغيير الحال الطبقي السياسي حين شكلتا الدولة إنصهرتا سياسياً، رغم أنهما لم تنصهرا طبقياً.
صحيح أن بعضَ الفقراءِ أَثروا كثيراً بفضلِ التحولاتِ السياسية الاجتماعية، إلا أن التمايزَ الطبقي بقي بينهما، ثم تلاشى مع الفتوح الكبرى وتبدل الدولة.
هذه اللحظةُ التوحيديةُ بين أغنياءٍ وفقراء يسعون لنهضةٍ تحوليةٍ مشتركة ستكونُ لحظةً مفصليةً في التاريخ، ويندرُ تكرارُها، فإذا تكررتْ فسوف تُحدثُ نهضةً ما، حسب الجذور التي نشأتْ الجماعتان منها في كلِ مرحلة، فالجذورُ تتعددُ سواءً كانت في زمن إمبراطورية إسلامية أو في دولٍ دينية منفصلة، أو دولٍ حديثة مستقلة.
طابعُ المُلكية وقوى العمل، وطبيعة التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية التي تشيرُ لإمكانيات العصر، ومستويات الثقافة، كل هذه ستدخلُ عضوياً في أشكالِ الوعي التوحيدي المغيِّر.
ومن هنا كان الوعي الديني المؤسسُ للدولةِ الإسلامية ذا عناصر مقدسة غيبية يؤمنُ بها ويعتبرها صانعة التاريخ والأفكار، وموجهة لتدمير كيان وثني متفتت، وبالتالي فإن الجماعةَ المؤمنةَ توحيديةً مطلقة، فأسسَّ رؤيتَهُ على التضاد المطلق بين التوحيد والتفكيك، بين المؤمنين والكفار، وكان جوهرهُ الشعبي العام يراه مطابقاً للتوحيد والجذور الإلهية، خاصة مع إلغائه للارستقراطية والملأ والتعالي الطبقي. وبالتالي فإن موقفَهُ الطبقي الديمقراطي توارى وراء شعارية التوحيد، ولم يصنفهُ سياسياً إجتماعياً بحكم وعي المرحلة، لكن تبنيه للأغلبية الشعبية وتوزيعه للخيرات للعامة حسب سورة الحشر الختام التحليلي الاجتماعي للتاريخ الديني المدني، تصورهُ مطلقاً في بقائهِ التاريخي. فلن تستطيع قوى الأقلية أن تعودَ مجدداً للحكم، وأن قوى الأغلبية الممكسة بالدولة والواقع ستظل مستمرة، وهذا ما لم يحدثْ بحكم تفككِ الوحدة النضالية تلك، فحين تفككتْ القوى الشعبية وتصارعت، عادت الارستقراطيةُ من جديد للحكم بشكلٍ إسلامي.
وهو مالم يفسرُ إجتماعياً بل فُسر بالقدرِ مُجدداً حسب الوعي الديني الذي صار رسمياً، فيما راحت الأغلبيةُ تبحثُ عبرَ موادِ وعيها المختلفة، عن تفسيراتٍ جديدةٍ غيرِ رسميةٍ وتعكس مصالح الأغلبية.
كان الشكلُ الاقتصادي غيرُ السائدِ وهو الغزو قد حلَّ محل الأشكال الانتاجية ومحل التجارة، وفرضَ نفسَه كقوةٍ أساسية وأحدث الفتوحات وراكم الثروات في طبقة وجلب العبيد والجواري، فنشأت طبقتان متضادتان كلياً في الغنى أو الفقر، فيما تضاءلتْ الفئةُ الوسطى، وبرزتْ قليلاً في الدولة الأموية وأتسعتْ في المركز بعض الشيء في الدولة العباسية غير أنها لم تُقمْ تحالفاً متيناً على أساسٍ فكري عميق بسبب إرتباطها المصلحي بدولةِ الخلافة وما تعطيهِ لها من فتات. ولم تُعدْ تجربةَ الثورة التأسيسية الإسلامية لأنها لم تقرأ الجذور والبُنى الاجتماعية، وتاهتْ في الأشكال الفكرية المنفصلة عن الواقع التي غدتْ آراءً فكرية ومذاهب وفرقاً.
كان الوعي التوحيدي هو أساسُ النهضة وضمَّ القبائلَ وتجسدَّ دينياً في كل جماعة مذهبية منقسمة تصورتْ أنها هي كلُ المسلمين، فلم تتصورْ أيةُ جماعةٍ بأنها مُفكِّكةٍ للوحدة حين تعتبر نفسها كل المؤمنين، وأن تكونها ليس هو جوهرُ الأمة وأساسها، فيما الأخريات من المذاهب غير هذا.
وكان الأساسُ الفكري هو تصورُ العقيدةَ بأنها شيءٌ غيبي خالص، وليست فكرة إجتماعية كذلك، وأنها ضمت في فترة تاريخية إنقساماً إجتماعياً بين الأغنياء والفقراء لأسبابٍ سياسية إجتماعية مرحلية وكان توحيدياً مؤقتاً لا يلغي التمايز بين الأغنياء والفقراء، وأن الصراعَ على السلطة هو صراعٌ إجتماعي وليس دينياً، وأن المتصارعين على السلطة يجب أن يضعوهُ في ما هو إجتماعي وليس فيما هو ديني، فوقع الوعي الإسلامي في إشكالياتٍ راح يتلمسُ الخروجَ منها عبر قرون.
لم يستطعْ الوعي الديني الإسلامي التالي لمرحلةِ التأسيسِ إلا أن يكونَ طائفياً.
فقد تشكلتْ الطوائفُ عبر ظهورِ تفسيراتٍ متعددةٍ للقرآن والحديث والتاريخ عكستْ صراعاتٍ ومواقفَ سياسيةً تجاه المسألةِ المحوريةِ غيرِ المحلولةِ بشكلٍ ديمقراطي وهي (الصراعُ على السلطة).
وكلُ رؤيةٍ لهذه الصراعاتِ كانت تنسخُ الجوهريَّ المطلقَ غيرَ الاجتماعي من الرؤية العامة الدينية، أي لم تكن تأخذ الرؤيةَ النهضويةَ التي تشكلتْ في الثورة الإسلامية التأسيسية، بل تأخذُ هيكلَها المجردَ وتحيلهُ لجوهرٍ مطلقٍ خارج التحليلِ الاجتماعي السياسي، فلم تكن تر كيف كان التحالفُ الطبقي وكيف أسسَّ التكونَ الديمقراطي الاجتماعي والذي لم يحيلهُ إلى تحالف ديمقراطي سياسي، أي لم تنشأ تنظيماتٌ مختلفةٌ تعبرُ عن القسمين الاجتماعيين المختلفين طبقياً، المتحدين سياسياً، بل كانا في كيان واحد، رفض حتى الشكل السياسي المحدد.
ولهذا لم يكن الصحابةُ حزبيين، ولم يوجدْ تنظيمٌ حزبي، وكان هذا الرفضُ الباترُ لفكرةِ الحزبيةِ خوفاً على الكيانِ التوحيدي الهش في ذلك الزمان، والذي كانت خلفهُ كياناتٌ ضخمةٌ من الهياكل القبلية والآراء الوثنية المتجذرة والآراء الدينية المختلفة المناوئة.
وهكذا فإن البناءَ الشمولي تغلغلَّ في التجربة الديمقراطية الاجتماعية بشكلٍ تاريخي مستترٍ متصاعد، وحين عادتْ الارستقراطيةُ للحكم ناقضةً البناءَ الاجتماعي المُقننَّ دينياً محافظةً على شكلهِ السياسي الشمولي، حدث تصدعٌ هائلٌ في الذهنيةِ المشتركةِ والروحية الجماعية التعاضديةِ بين المسلمين فكأن زلزالاً إجتماعياً قد حدث، ولم تسمحْ أدواتُ الوعي المتوفرةِ لمثقفي المسلمين حينذاك أن يفهموا الانقلابَ الاجتماعي السياسي، والذي حاربوه ولكنه سيطر عليهم.
لقد صارعوه من خلال العناصر الفكرية المتاحة لزمنهم، كفكرةِ القدر ونقضها، لكن الانقلابَ الاجتماعي إنتصر وساد التاريخ.
إن قوة فكرة التوحيد، والأشكال العبادية والتنظيمات الدينية المصاحبة لها، وأدوات القسر الحكومية، قد جعلت هذه القبائل والأقوام والأمم تتحد وتعيش في كيان سياسي واحد هائل.
إن قوة التوحيد لم يدخل فيها التنوعُ الديمقراطي، وقوى القسر والإستغلال هيمنت بقوة على هذا التوحد السياسي، وعلينا أن نرى أن القرون الثلاثة الأولى من الإسلام ظهرت فيها قوى الصراع الطبقي بقوى هائلة، لكن لم تنعكس على الكيانات التوحيدية، فلم تظهر المذاهب – الطوائف إلا كعناصر فكرية مستقلة، ولم تتحول الأفكارُ إلى طوائفَ مغلقةٍ بعد، والسبب أن فكرة التوحيد كانت جبارة مسيطرة، وبدايات المذاهب كانت فيها تعددية وقبول بالآخر المخلتف، وأُعتبرتْ أقوال الأئمة الفقهاء كآراء غيرِ ملزمةٍ وإجتهادات قابلة للأخذ والرد، فكان الشكلُ السياسي الإمبراطوري صامداً للزمن.
كانت عواملُ التحلل تشتغل بقوة هي الأخرى، فالوعي الديني لم يزلْ متجوهراً على ذاته، والتراكمات تتجه لبلورة كيانات مغلقة شمولية داخلها، فالاجتهاد يقلُّ مع الزمن، وفصل الوعي الديني عن الفلسفة وعن التاريخ الاجتماعي يجري ويغدو الوعي الديني جوهراً لا تاريخياً إلا في نصوصه المغلقة، والسلطات تحيلُ الأفكارَ الدينيةَ والمحاكمَ إلى قوى ملحقة بها.
ومن هنا مع الانهيارِ المتدرجِ للشكل السياسي الإمبراطوري وعبر النخر العميق فيه، أخذت المذاهبُ صيغها المغلقة، التي يعبرُ كلُ واحدٍ منها عن كونهِ الإسلام مطلقاً، فتكونتْ تدريجياً الطوائف.
كانت طائفة مثل الخوارج تتعبرُ نفسها كياناً أصيلاً معبراً عن جوهر الخلافة الأولى، لكنها تحللتْ منها عبر شموليتها الحادة ورفضها لأي تنوع أو مرونة سياسية، وغدت كيانات صحراوية باترةً للاختلاف والبشر.
وفعلت المذاهبُ ذاتَ الأمر في الكيانات المدنية بشكل أطول وأقل حدة لكن عكست النتيجة نفسها، ففقدتْ الإختلافَ الداخلي الديمقراطي، وفي نهاية المطاف غدت تلوكُ أفكارَها السطحيةَ المتيبسة بفعل فقدان مياه التفكير المتعدد ونسغ الحياة المختلف الذي يجري كل يوم.
إن مصالحَ القبائل والأقوامِ والأمم والطبقات في الشكل الإمبراطوري لم تُؤخذ بعين الإعتبار من قبل مراكز الحكم، وكانت الدوائر الفكرية الدينية قد تكلست وتقوقعت، ولم تعد قادرة على إنتاج الجديد، نظراً لأن المقومات المنهجية التي أعتمدت عليها هي منهجيات قطع عن الأبنية الاجتماعية وعن تحليلها ومتابعة تحولاتها، فامتنعت قدرتها على التغيير، وإنعكس ذلك على الأبنية السياسية فمن إمبراطورية واحدة ظهرت عشرات الممالك والأقاليم والمناطق المستقلة.
حدث التكلس الكلي، ولم يعد الجديد ممكناً من الداخل، لكن الجديد ظهر في مناطق بشرية أخرى، وجاء وضرب الكيانات العديدة المتجوهرة حول ذواتها، وقيل أنها صدمة الحضارة الجديدة، ولكن هل نفذت إلى الداخل؟
المسألة صعبة وطويلة.
شكلتْ صدمةُ الحضارةِ الحديثة دوائرَ تحولية صغيرة تجاه الأجسام الاجتماعية المحافظة المهيمنة.
فكانت التياراتُ الجديدةُ المستوحاةُ هي أبنيةٌ صغيرةٌ على ضفافِ تلك الأجسام، التي تكونتْ لقرون وكانت هي ذاتها من أثرِ قرونٍ سابقة.
إذن سادت أفكارُ الوعي الطائفي خلال القرن العشرين بأكمله، حيث المذهبيةُ كيان إجتماعي سياسي قائم على سيطرات إجتماعية تقليدية في الإنتاج ونظُم الحكم، وتغدو الأفكارُ الداعيةُ للتغييرِ القادمةُ من الغرب مجردَ ذراتٍ أمامَ بحرٍ مالح هائل، وحين تدخلُ فيه تتحولُ مثله.
الأفكارُ التحديثيةُ في الفترة النهضوية الأولى كالوفدية المصرية القائلة إنها ليبرالية، نجدُهَا تقولُ بالتعبير عن (الأمة) المصرية ولا تقولُ بأنها برجوازية تعبرُ عن طبقةٍ، فغدتْ بنيةً مغلقةً كلية كالمذهبيات، ونجدها أذ تعترفُ بالعمال تقومُ بإلحاق نقاباتهم بسيطرتها، فيما تقمع الحزب الاشتراكي المصري! وفي النهاية تغدو حزباً للملاكين الكبار من أصحاب الأملاك الزراعية وأصحاب الملايين.
فهيمنتُها على السلطةِ المنتخبةِ نفسِها تحولُها إلى دكتاتورية، بدلاً من نشر الديمقراطية في البناء الاجتماعي، ومع هذا كان الوفدُ أفضلَ من غيره! وغدت النسخُ تكررُ ذاتها.
وبهذا قامت الأحزابُ الكليةُ من مواقع شتى، من موقعِ الشعب أو الأمة، حيث الحزب هو التعبير عن الأمة، أو معبر عن البروليتاريا وتؤسسهُ البرجوازيةُ الصغيرةُ لتقيمَ دكتاتوريةً كلية. والقوميةُ تعبيرٌ كلي آخر عن الأمة وتقيم ذات الدكتاتورية فلا تجعل الشعبَ يتطور ديمقراطياً، وبهذا كله فإن هذه الكليات المتأثرة بالغرب الديمقراطي، لم تستطع أن تكون لا من الغرب ولا من الشرق. هذه الهجانةُ مؤسسة ظلتْ على هامش التكوينات الدينية المحافظة المسيطرة على المجتمعات الإسلامية. وبعد أن إهترأت من القمع والسيطرة على الحكم ومن الحروب لم تعدْ قادرةً على فعلِ شيءٍ رغم سيول التحولات والأحداث.
وإستعادتْ الجماعاتُ الدينية الكلية في عالم ديمقراطي بعد هذا الإنكماش التحديثي والهزيمة لليسار والبرجوازية التحديثية غير المتعاونين واللذين خسرا مكانتيهما بسبب هذا الإلغاء المتبادل بينهما.
علينا هنا أن نتذكر هزيمة التحالف الطبقي بين الأغنياء المتوسطين والفقراء والعبيد بعد الثورة الإسلامية التأسيسية، وكيف خسر الجانبان، بسبب غياب التنظيمات الديمقراطية المتنوعة المتعاونة بينهما!
وكيف إستعاد البناءُ الاجتماعي العتيقُ المحافظ الموروث من الجاهلية وما قبلها سيادته على العرب والمسلمين باسم الإسلام.
علينا أن نقرأ التعاقب الدوري كذلك بعد هزيمة القرامطة والخوارج والإسماعيلية بعد الخطابات الحادة لهذه الفرق وعدم إنجازها أي تحول في حياة العاملين والنساء والثقافة العلمية وعودة المحافظين مرةً أخرى ليبقوا قروناً طويلة ويسلموا المسلمين مادةَ نهب للاستعمار الحديث.
إنها تعاقبيةٌ مستمرةٌ بسبب عدم قيام القوى المحوّلة للواقع بإستخدام المفاهيم الديمقراطية والعقلانية، والخروج من عالم الطوائف إلى وعي الطبقات، وبقاء تحولاتها قشورية على السطح والسماح بعودة نفس المفاهيم العشائرية القبلية الطائفية وإلباسها لأجسادٍ ديكوريةٍ(تحديثية).
الآن لدينا القوى الطائفية تقول بأنها ديمقراطية وحديثة! تريد أن تخدعنا بعد أكثر من ألف سنة. وتريد المحافظة على ركائز الإقطاع الاجتماعي المذهبي: تخلف النساء وعدم مساواتهن بالرجال، وقمع العقول، وغياب المساواة أمام القانون، ورفض فصل الدين عن السياسة!
في هذا الزمان الراهن حدث تكرار لبعض مظاهر الماضي، وصعدت شموليات عتيقة باطنية ورفضت الديمقراطية داخل البيوت ومع النساء والثقافة والأطفال والعقول والدين والسياسة، لكي تقتنص الحكم والمكاسب من خلال البرلمانات.
يحدث الآن الاختطاف السياسي المتسرع بدون تأثيث ديمقراطي عميق، بدون أن تكون قوى الطبقات والفئات كالعمال والنساء والمثقفين والبرجوازية الوطنية قد أسست نقاباتها ومصالحها ومعارفها وجذورها في الواقع، وتلعب قوى التطرف من اليسار أو اليمين كأدوات للإختطافات المتعددة، وعبر مصالح دول شمولية مهيمنة كذلك، ولهذا فإن البناء الديمقراطي الجديد ينبغي أن يرى كل لوحات التاريخ العربي الإسلامي السابقة، وأهمية تفكيك الشموليات الاجتماعية الراسخة من أجل أن تأتي البرلمانات ثماراً تتوج دور القواعد الشعبية العميق في مختلف الُبنى العربية والإسلامية، وأن لا تكرر الحقبةُ الراهنةُ دوراتَ التاريخ المغلقة.
إن كلَ بُنيةٍ لها تاريخُها والعناصرُ التي تتألفُ منها، وقد تَعبرُ التاريخَ طويلاً بتلك العناصر، وقد تتفككُ وتظهرُ أشكالٌ جديدة تكونتْ في ظروفٍ مختلفةٍ وبعناصرَ معرفيةٍ جديدة.
وحين ظهر المسلمون لم يكن ثمة ما يُسمى بالوعي الطائفي، وكانت كلمةُ(طائفةٍ) تشيرُ إلى جماعةٍ من الناس ليس لها طابعٌ فكري مميزٌ عن غيرِها من الجماعات.
كما جاءَ في القرآن (وإن طائفتان من المؤمنين أقتتلُوا فأصلِحُوا بينهما، فإن بغتْ إحداهُما على الأخرى فقاتلوا التي تبغِي حتى تفيءَ إلى أمرِ اللهِ فإن فاءتْ فأصلِحوا بينهما بالعدلِ وأقسطوا إن اللهَ يحبُ المُقسِطين…))،سورةُ الحجرات، 9.
كان هناك إذن الوعي الديني بشكليه الوثني والإسلامي، ولم يكن بإمكان الوعي الإسلامي أن يتجلى بشكلٍ طبقي رغم كونه كذلك من حيث الجوهر الاجتماعي الذي يحمله، بإعتبارهِ وعي الجماعاتِ الشعبية الثائرة، بخلاف الوعي الوثني في مكة المعبر عن ملأ قريش الإرستقراطي، وبالتالي بقي الوعي الإسلامي مجرداً غيرَ محددٍ بخصائصهِ الطبقية، بإعتبارهِ وعي الجماعات الشعبية المتكونةِ من التجار من جهة والفقراء والعبيد من جهة أخرى، وهاتان الجماعتان اللتان تعاونتا معاً لتغيير الحال الطبقي السياسي حين شكلتا الدولة إنصهرتا سياسياً، رغم أنهما لم تنصهرا طبقياً.
صحيح أن بعضَ الفقراءِ أَثروا كثيراً بفضلِ التحولاتِ السياسية الاجتماعية، إلا أن التمايزَ الطبقي بقي بينهما، ثم تلاشى مع الفتوح الكبرى وتبدل الدولة.
هذه اللحظةُ التوحيديةُ بين أغنياءٍ وفقراء يسعون لنهضةٍ تحوليةٍ مشتركة ستكونُ لحظةً مفصليةً في التاريخ، ويندرُ تكرارُها، فإذا تكررتْ فسوف تُحدثُ نهضةً ما، حسب الجذور التي نشأتْ الجماعتان منها في كلِ مرحلة، فالجذورُ تتعددُ سواءً كانت في زمن إمبراطورية إسلامية أو في دولٍ دينية منفصلة، أو دولٍ حديثة مستقلة.
طابعُ المُلكية وقوى العمل، وطبيعة التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية التي تشيرُ لإمكانيات العصر، ومستويات الثقافة، كل هذه ستدخلُ عضوياً في أشكالِ الوعي التوحيدي المغيِّر.
ومن هنا كان الوعي الديني المؤسسُ للدولةِ الإسلامية ذا عناصر مقدسة غيبية يؤمنُ بها ويعتبرها صانعة التاريخ والأفكار، وموجهة لتدمير كيان وثني متفتت، وبالتالي فإن الجماعةَ المؤمنةَ توحيديةً مطلقة، فأسسَّ رؤيتَهُ على التضاد المطلق بين التوحيد والتفكيك، بين المؤمنين والكفار، وكان جوهرهُ الشعبي العام يراه مطابقاً للتوحيد والجذور الإلهية، خاصة مع إلغائه للارستقراطية والملأ والتعالي الطبقي. وبالتالي فإن موقفَهُ الطبقي الديمقراطي توارى وراء شعارية التوحيد، ولم يصنفهُ سياسياً إجتماعياً بحكم وعي المرحلة، لكن تبنيه للأغلبية الشعبية وتوزيعه للخيرات للعامة حسب سورة الحشر الختام التحليلي الاجتماعي للتاريخ الديني المدني، تصورهُ مطلقاً في بقائهِ التاريخي. فلن تستطيع قوى الأقلية أن تعودَ مجدداً للحكم، وأن قوى الأغلبية الممكسة بالدولة والواقع ستظل مستمرة، وهذا ما لم يحدثْ بحكم تفككِ الوحدة النضالية تلك، فحين تفككتْ القوى الشعبية وتصارعت، عادت الارستقراطيةُ من جديد للحكم بشكلٍ إسلامي.
وهو مالم يفسرُ إجتماعياً بل فُسر بالقدرِ مُجدداً حسب الوعي الديني الذي صار رسمياً، فيما راحت الأغلبيةُ تبحثُ عبرَ موادِ وعيها المختلفة، عن تفسيراتٍ جديدةٍ غيرِ رسميةٍ وتعكس مصالح الأغلبية.
كان الشكلُ الاقتصادي غيرُ السائدِ وهو الغزو قد حلَّ محل الأشكال الانتاجية ومحل التجارة، وفرضَ نفسَه كقوةٍ أساسية وأحدث الفتوحات وراكم الثروات في طبقة وجلب العبيد والجواري، فنشأت طبقتان متضادتان كلياً في الغنى أو الفقر، فيما تضاءلتْ الفئةُ الوسطى، وبرزتْ قليلاً في الدولة الأموية وأتسعتْ في المركز بعض الشيء في الدولة العباسية غير أنها لم تُقمْ تحالفاً متيناً على أساسٍ فكري عميق بسبب إرتباطها المصلحي بدولةِ الخلافة وما تعطيهِ لها من فتات. ولم تُعدْ تجربةَ الثورة التأسيسية الإسلامية لأنها لم تقرأ الجذور والبُنى الاجتماعية، وتاهتْ في الأشكال الفكرية المنفصلة عن الواقع التي غدتْ آراءً فكرية ومذاهب وفرقاً.
كان الوعي التوحيدي هو أساسُ النهضة وضمَّ القبائلَ وتجسدَّ دينياً في كل جماعة مذهبية منقسمة تصورتْ أنها هي كلُ المسلمين، فلم تتصورْ أيةُ جماعةٍ بأنها مُفكِّكةٍ للوحدة حين تعتبر نفسها كل المؤمنين، وأن تكونها ليس هو جوهرُ الأمة وأساسها، فيما الأخريات من المذاهب غير هذا.
وكان الأساسُ الفكري هو تصورُ العقيدةَ بأنها شيءٌ غيبي خالص، وليست فكرة إجتماعية كذلك، وأنها ضمت في فترة تاريخية إنقساماً إجتماعياً بين الأغنياء والفقراء لأسبابٍ سياسية إجتماعية مرحلية وكان توحيدياً مؤقتاً لا يلغي التمايز بين الأغنياء والفقراء، وأن الصراعَ على السلطة هو صراعٌ إجتماعي وليس دينياً، وأن المتصارعين على السلطة يجب أن يضعوهُ في ما هو إجتماعي وليس فيما هو ديني، فوقع الوعي الإسلامي في إشكالياتٍ راح يتلمسُ الخروجَ منها عبر قرون.
لم يستطعْ الوعي الديني الإسلامي التالي لمرحلةِ التأسيسِ إلا أن يكونَ طائفياً.
فقد تشكلتْ الطوائفُ عبر ظهورِ تفسيراتٍ متعددةٍ للقرآن والحديث والتاريخ عكستْ صراعاتٍ ومواقفَ سياسيةً تجاه المسألةِ المحوريةِ غيرِ المحلولةِ بشكلٍ ديمقراطي وهي (الصراعُ على السلطة).
وكلُ رؤيةٍ لهذه الصراعاتِ كانت تنسخُ الجوهريَّ المطلقَ غيرَ الاجتماعي من الرؤية العامة الدينية، أي لم تكن تأخذ الرؤيةَ النهضويةَ التي تشكلتْ في الثورة الإسلامية التأسيسية، بل تأخذُ هيكلَها المجردَ وتحيلهُ لجوهرٍ مطلقٍ خارج التحليلِ الاجتماعي السياسي، فلم تكن تر كيف كان التحالفُ الطبقي وكيف أسسَّ التكونَ الديمقراطي الاجتماعي والذي لم يحيلهُ إلى تحالف ديمقراطي سياسي، أي لم تنشأ تنظيماتٌ مختلفةٌ تعبرُ عن القسمين الاجتماعيين المختلفين طبقياً، المتحدين سياسياً، بل كانا في كيان واحد، رفض حتى الشكل السياسي المحدد.
ولهذا لم يكن الصحابةُ حزبيين، ولم يوجدْ تنظيمٌ حزبي، وكان هذا الرفضُ الباترُ لفكرةِ الحزبيةِ خوفاً على الكيانِ التوحيدي الهش في ذلك الزمان، والذي كانت خلفهُ كياناتٌ ضخمةٌ من الهياكل القبلية والآراء الوثنية المتجذرة والآراء الدينية المختلفة المناوئة.
وهكذا فإن البناءَ الشمولي تغلغلَّ في التجربة الديمقراطية الاجتماعية بشكلٍ تاريخي مستترٍ متصاعد، وحين عادتْ الارستقراطيةُ للحكم ناقضةً البناءَ الاجتماعي المُقننَّ دينياً محافظةً على شكلهِ السياسي الشمولي، حدث تصدعٌ هائلٌ في الذهنيةِ المشتركةِ والروحية الجماعية التعاضديةِ بين المسلمين فكأن زلزالاً إجتماعياً قد حدث، ولم تسمحْ أدواتُ الوعي المتوفرةِ لمثقفي المسلمين حينذاك أن يفهموا الانقلابَ الاجتماعي السياسي، والذي حاربوه ولكنه سيطر عليهم.
لقد صارعوه من خلال العناصر الفكرية المتاحة لزمنهم، كفكرةِ القدر ونقضها، لكن الانقلابَ الاجتماعي إنتصر وساد التاريخ.
إن قوة فكرة التوحيد، والأشكال العبادية والتنظيمات الدينية المصاحبة لها، وأدوات القسر الحكومية، قد جعلت هذه القبائل والأقوام والأمم تتحد وتعيش في كيان سياسي واحد هائل.
إن قوة التوحيد لم يدخل فيها التنوعُ الديمقراطي، وقوى القسر والإستغلال هيمنت بقوة على هذا التوحد السياسي، وعلينا أن نرى أن القرون الثلاثة الأولى من الإسلام ظهرت فيها قوى الصراع الطبقي بقوى هائلة، لكن لم تنعكس على الكيانات التوحيدية، فلم تظهر المذاهب – الطوائف إلا كعناصر فكرية مستقلة، ولم تتحول الأفكارُ إلى طوائفَ مغلقةٍ بعد، والسبب أن فكرة التوحيد كانت جبارة مسيطرة، وبدايات المذاهب كانت فيها تعددية وقبول بالآخر المخلتف، وأُعتبرتْ أقوال الأئمة الفقهاء كآراء غيرِ ملزمةٍ وإجتهادات قابلة للأخذ والرد، فكان الشكلُ السياسي الإمبراطوري صامداً للزمن.
كانت عواملُ التحلل تشتغل بقوة هي الأخرى، فالوعي الديني لم يزلْ متجوهراً على ذاته، والتراكمات تتجه لبلورة كيانات مغلقة شمولية داخلها، فالاجتهاد يقلُّ مع الزمن، وفصل الوعي الديني عن الفلسفة وعن التاريخ الاجتماعي يجري ويغدو الوعي الديني جوهراً لا تاريخياً إلا في نصوصه المغلقة، والسلطات تحيلُ الأفكارَ الدينيةَ والمحاكمَ إلى قوى ملحقة بها.
ومن هنا مع الانهيارِ المتدرجِ للشكل السياسي الإمبراطوري وعبر النخر العميق فيه، أخذت المذاهبُ صيغها المغلقة، التي يعبرُ كلُ واحدٍ منها عن كونهِ الإسلام مطلقاً، فتكونتْ تدريجياً الطوائف.
كانت طائفة مثل الخوارج تتعبرُ نفسها كياناً أصيلاً معبراً عن جوهر الخلافة الأولى، لكنها تحللتْ منها عبر شموليتها الحادة ورفضها لأي تنوع أو مرونة سياسية، وغدت كيانات صحراوية باترةً للاختلاف والبشر.
وفعلت المذاهبُ ذاتَ الأمر في الكيانات المدنية بشكل أطول وأقل حدة لكن عكست النتيجة نفسها، ففقدتْ الإختلافَ الداخلي الديمقراطي، وفي نهاية المطاف غدت تلوكُ أفكارَها السطحيةَ المتيبسة بفعل فقدان مياه التفكير المتعدد ونسغ الحياة المختلف الذي يجري كل يوم.
إن مصالحَ القبائل والأقوامِ والأمم والطبقات في الشكل الإمبراطوري لم تُؤخذ بعين الإعتبار من قبل مراكز الحكم، وكانت الدوائر الفكرية الدينية قد تكلست وتقوقعت، ولم تعد قادرة على إنتاج الجديد، نظراً لأن المقومات المنهجية التي أعتمدت عليها هي منهجيات قطع عن الأبنية الاجتماعية وعن تحليلها ومتابعة تحولاتها، فامتنعت قدرتها على التغيير، وإنعكس ذلك على الأبنية السياسية فمن إمبراطورية واحدة ظهرت عشرات الممالك والأقاليم والمناطق المستقلة.
حدث التكلس الكلي، ولم يعد الجديد ممكناً من الداخل، لكن الجديد ظهر في مناطق بشرية أخرى، وجاء وضرب الكيانات العديدة المتجوهرة حول ذواتها، وقيل أنها صدمة الحضارة الجديدة، ولكن هل نفذت إلى الداخل؟
المسألة صعبة وطويلة.
شكلتْ صدمةُ الحضارةِ الحديثة دوائرَ تحولية صغيرة تجاه الأجسام الاجتماعية المحافظة المهيمنة.
فكانت التياراتُ الجديدةُ المستوحاةُ هي أبنيةٌ صغيرةٌ على ضفافِ تلك الأجسام، التي تكونتْ لقرون وكانت هي ذاتها من أثرِ قرونٍ سابقة.
إذن سادت أفكارُ الوعي الطائفي خلال القرن العشرين بأكمله، حيث المذهبيةُ كيان إجتماعي سياسي قائم على سيطرات إجتماعية تقليدية في الإنتاج ونظُم الحكم، وتغدو الأفكارُ الداعيةُ للتغييرِ القادمةُ من الغرب مجردَ ذراتٍ أمامَ بحرٍ مالح هائل، وحين تدخلُ فيه تتحولُ مثله.
الأفكارُ التحديثيةُ في الفترة النهضوية الأولى كالوفدية المصرية القائلة إنها ليبرالية، نجدُهَا تقولُ بالتعبير عن (الأمة) المصرية ولا تقولُ بأنها برجوازية تعبرُ عن طبقةٍ، فغدتْ بنيةً مغلقةً كلية كالمذهبيات، ونجدها أذ تعترفُ بالعمال تقومُ بإلحاق نقاباتهم بسيطرتها، فيما تقمع الحزب الاشتراكي المصري! وفي النهاية تغدو حزباً للملاكين الكبار من أصحاب الأملاك الزراعية وأصحاب الملايين.
فهيمنتُها على السلطةِ المنتخبةِ نفسِها تحولُها إلى دكتاتورية، بدلاً من نشر الديمقراطية في البناء الاجتماعي، ومع هذا كان الوفدُ أفضلَ من غيره! وغدت النسخُ تكررُ ذاتها.
وبهذا قامت الأحزابُ الكليةُ من مواقع شتى، من موقعِ الشعب أو الأمة، حيث الحزب هو التعبير عن الأمة، أو معبر عن البروليتاريا وتؤسسهُ البرجوازيةُ الصغيرةُ لتقيمَ دكتاتوريةً كلية. والقوميةُ تعبيرٌ كلي آخر عن الأمة وتقيم ذات الدكتاتورية فلا تجعل الشعبَ يتطور ديمقراطياً، وبهذا كله فإن هذه الكليات المتأثرة بالغرب الديمقراطي، لم تستطع أن تكون لا من الغرب ولا من الشرق. هذه الهجانةُ مؤسسة ظلتْ على هامش التكوينات الدينية المحافظة المسيطرة على المجتمعات الإسلامية. وبعد أن إهترأت من القمع والسيطرة على الحكم ومن الحروب لم تعدْ قادرةً على فعلِ شيءٍ رغم سيول التحولات والأحداث.
وإستعادتْ الجماعاتُ الدينية الكلية في عالم ديمقراطي بعد هذا الإنكماش التحديثي والهزيمة لليسار والبرجوازية التحديثية غير المتعاونين واللذين خسرا مكانتيهما بسبب هذا الإلغاء المتبادل بينهما.
علينا هنا أن نتذكر هزيمة التحالف الطبقي بين الأغنياء المتوسطين والفقراء والعبيد بعد الثورة الإسلامية التأسيسية، وكيف خسر الجانبان، بسبب غياب التنظيمات الديمقراطية المتنوعة المتعاونة بينهما!
وكيف إستعاد البناءُ الاجتماعي العتيقُ المحافظ الموروث من الجاهلية وما قبلها سيادته على العرب والمسلمين باسم الإسلام.
علينا أن نقرأ التعاقب الدوري كذلك بعد هزيمة القرامطة والخوارج والإسماعيلية بعد الخطابات الحادة لهذه الفرق وعدم إنجازها أي تحول في حياة العاملين والنساء والثقافة العلمية وعودة المحافظين مرةً أخرى ليبقوا قروناً طويلة ويسلموا المسلمين مادةَ نهب للاستعمار الحديث.
إنها تعاقبيةٌ مستمرةٌ بسبب عدم قيام القوى المحوّلة للواقع بإستخدام المفاهيم الديمقراطية والعقلانية، والخروج من عالم الطوائف إلى وعي الطبقات، وبقاء تحولاتها قشورية على السطح والسماح بعودة نفس المفاهيم العشائرية القبلية الطائفية وإلباسها لأجسادٍ ديكوريةٍ(تحديثية).
الآن لدينا القوى الطائفية تقول بأنها ديمقراطية وحديثة! تريد أن تخدعنا بعد أكثر من ألف سنة. وتريد المحافظة على ركائز الإقطاع الاجتماعي المذهبي: تخلف النساء وعدم مساواتهن بالرجال، وقمع العقول، وغياب المساواة أمام القانون، ورفض فصل الدين عن السياسة!
في هذا الزمان الراهن حدث تكرار لبعض مظاهر الماضي، وصعدت شموليات عتيقة باطنية ورفضت الديمقراطية داخل البيوت ومع النساء والثقافة والأطفال والعقول والدين والسياسة، لكي تقتنص الحكم والمكاسب من خلال البرلمانات.
يحدث الآن الاختطاف السياسي المتسرع بدون تأثيث ديمقراطي عميق، بدون أن تكون قوى الطبقات والفئات كالعمال والنساء والمثقفين والبرجوازية الوطنية قد أسست نقاباتها ومصالحها ومعارفها وجذورها في الواقع، وتلعب قوى التطرف من اليسار أو اليمين كأدوات للإختطافات المتعددة، وعبر مصالح دول شمولية مهيمنة كذلك، ولهذا فإن البناء الديمقراطي الجديد ينبغي أن يرى كل لوحات التاريخ العربي الإسلامي السابقة، وأهمية تفكيك الشموليات الاجتماعية الراسخة من أجل أن تأتي البرلمانات ثماراً تتوج دور القواعد الشعبية العميق في مختلف الُبنى العربية والإسلامية، وأن لا تكرر الحقبةُ الراهنةُ دوراتَ التاريخ المغلقة.
Published on September 22, 2019 15:31
1 ⇦ محمد جابر الانصاري
【محمد جابر الانصاري في تحولاته الفكرية】
لعب الاستاذ محمد جابر الانصاري دورا فكريا تنويريا كبيرا في حياتنا الثقافية، على امتداد ثلاثين عاما كان مثال الباحث الدؤوب المفتش في كل الاركان عن زوايا الضوء والابداع والنقد، محاولا دوما الكشف عن الجديد والمتميز، دون الانقطاع عن التراث والجذور.
وفي كتابه، واطروحته «تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي 1930 ــ 1970» يقوم الدكتور الانصاري بانعطافه غريبة في فكره، ويطرح اجتهادات مثيرة للتساؤل والبحث. وفي هذا الكتاب يحاول المؤلف تقديم تفسير لتطور الوعي الحديث في المشرق العربي من منطلقات خاصة. ومهما كانت الاجتهادات فيظل الكتاب نظرة معينة لهذه التشابكات المعقدة في الوعي العربي المعاصر المتواجد في بنى اجتماعية وجدت نفسها ممزقة، ملحقة، تابعة للمراكز الاساسية في العالم الرأسمالي الحديث.
وسوف نطرح وجهة نظر موسعة في هذا الكتاب في المقدمتين الثانية والاولى لطبعتي الكتاب، واللتين صدرتا تباعاً في الكويت ثم قبرص، يسوق المؤلف منهج دراسته باقتضاب شديدين وبأسلوب يشبه ايقاعات الصحافة السريعة، لا بأسلوب مقدمات البحوث المعتادة، حيث المعالجة الدقيقة للرؤى والاجتهادات السابقة، وتحليلها ونقدها بعمق، وتجاوزها عبر تقديم التفسير الذي توصل اليه المؤلف د. الانصاري يتجاوز ذلك كله ويدخل مباشرة في موضوعه.
وفي البدء علينا ان نفحص العنوان الذي اختاره، انه «تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي». فالفكر هنا بلا تحديد، ليس هو الوعي بتياراته المتعددة، بل هو ذلك الفكر المجرد المطلق العام. ووضع «الفكر» هكذا بلا تحديد اجتماعي أو أيدلوجي له، ليس مصادفة، بل جزء من المنهج. حيث سيلعب الفكر الدور المطلق، وما الظروف التي يلبسها، أو تلبسه، سوى أردية مؤقتة وعارضة له. انه الساحر الذي سيطلع من المجهول ويقفز فوق المراحل والقرون محتفظا بهويته الخاصة، بجوهره الذي لا يتغير.
انه فكر «عربي ــ اسلامي»، حيث سيكون تمازج هذين العنصرين أساس ما يسميه أحيانا «المزاج الحضاري العام»، انه فكر عربي، انه نحن، هويتنا. وهو لأنه عربي، لأنه شرقي، لأنه الداخل الحضاري الخاص بنا، المجهول من قبل الغريب، الآخر، وخاصة: الغرب، الذي لن يستطيع ان يفهمه، أو يعرفه، لأنه ليس من «جوهره».
فهذا الفكر، جوهر خاص، له عالمه المستقل، ليس هو علاقات موضوعية تعكس بناء اجتماعيا ضمن تشكيلة اقتصادية، اجتماعية، وليس هو تيارات متصارعة ضمن هذه التشكيلة، لا انه ليس كذلك، بل هو جوهر مفارق، خميرة خاصة سحرية وجدت فينا، ولا يستطيع احد أن يعرفها غيرنا، لن يعرفها الا اذا عرفها ضمن معرفتها الخاصة. اي لن يفهمها الا بأدواتها الناتجة من جوهرها الخاص المختلف عن جواهر البشر الآخرين.
يقول في المقدمة الثانية:
[تم اخضاع الفكر العربي والاسلامي الحديث ـــ ومعه كثير من ظواهر الحياة العربية المعاصرة ـــ لمعايير ومقاييس ومناهج خارجية . . ليبرالية امبريقية وضعية . . أو . . ماركسية ديالكتيكية «يقصد: مادية جدلية!»، الأمر الذي أدى الى فهم تلك الظواهر الفكرية والاجتماعية، والحكم عليها من منظور له انحيازات أيديولوجية وقيمية معينة مستمدة من مركزية حضارية أخرى هي مركزية الحضارة الاوربية الغربية بشقيها الليبرالي والماركسي، وبجذورها الاغريقية ـــ الرومانية ـــ المسيحية] ص 5، الطبعة الثانية.
ومن الواضح ان المقدمة نفسها لم تفلت من طريقة التفكير الوضعية الغربية، وما الرسالة كلها وطريقة البحث الا شكل من أشكال البحث «الغربية» وحتى الاسلوب لا ينتمي الى البلاغة العربية القديمة فلماذا لم يكتب بأسلوب الجاحظ مثلا كي يكون عربيا خالصا وبشكل جوهري؟!
هذا مجرد تذكير بالشكل، لكن لنتوغل الى الفكرة الخطرة: فقد اعتبر ان مسيرة «الفكر» العربي الحديث، ولنستخدم مصطلحاته مؤقتا، قد تمت بأدوات انتجت من عالم آخر، هو عالم الغرب. وهذا خطأ «جوهري» في رأيه. فجوهرها الخاص السحري المستقل لا يفهم من خلال «علم» الغير، والغير هو عالم الغرب بكافة تياراته من فكرة الديمقراطي الى الثوري، فأولك البشر، مختلفون عن «بشريتنا نحن».
الحضارة الغربية تمثل مركزية مناقضة لمركزيتنا، لجوهرنا الغامض، وهاتان المركزيتان، الجوهران المتفارقان، لن يلتقيا، على صعيد القسمات الخاصة. قد يلتقيان في صراع حضاري الا أنهما سيفترقان، كعنصرين غير قابلين لتركيبة جديدة.
نحن الأنا الشرقي العربي، في مواجهة الآخر، الغرب، ولن يستطيع هذا الآخر مهما كان فكره ان يفهمنا، فنحن لن نفهم الا بأدوات خاصة ننتجها بشكل خاص. (هنا نجد الاطاحة الكاملة بالعلوم!).
والآخر، الغرب، سيظل مفارقا لنا، مختلفا عنا، ليس في حضارته الحديثة، بل في كل تاريخه، ويمتد ذلك من أيام الاغريق قبل آلاف السنين ويصعد حتى الحضارة الرومانية، ويتواصل في الحضارة المسيحية (والتي نتجت في الشرق ذاته!). ويستمر الى انتهاء الزمن.
ان الجوهرين مطلقا التناقض، انهما ليسا منطقتين في عالم واحد تتفاعلان حسب التطور العام للإنسانية، وتباين الانظمة والطبقات والتيارات الخاصة بكل مرحلة، بل هما كوكبان اثنان، كل منهما يدور في فلكه، وان حدث التداخل والاصطدام فهو مؤقت، وبعدئذ يعود كل منهما الى فلكه!
هكذا جرى سابقا عندما تصادم «الجوهران» في عصر الدولتين الاغريقية والرومانية، وافترقا، ذهب الاغريق والرومان الى كوكبهم وبقينا في كوكبنا، والتحما ثانية في عصر المأمون التحاماً «علمياً» ثم افترقا على أحسن ما يكون كما يقول ثم التحما ثالثة ورابعة دون ان يمتزجا.
يقول:
[واذا شئنا النظر الى التاريخ في استمراريته قلنا ان التوفيقية الحديثة هي لقاء آخر متجدد بين تراث الشرق الأدنى والعقل الاوربي (منذ نشأته الاغريقية). وان ما حدث هو مواجهة لموجة «هيلنية» جديدة قادمة هذه المرة من أوربا الغربية بثوب عصري] ص 18.
ولنلاحظ هنا كيف ان «الجوهر» ـــ العقل، يقفز فوق المراحل التاريخية والمناطق، فالفكر الاوربي هو هو ذاته، سواء كان في عصر الاغريق عندما كان وثنياً عبودياً، وديمقراطياً، أو في عصر الرومان عندما كان عبوديا وارستقراطيا وثنيا كذلك، وهو ايضا ذاته، عندما صار مسيحيا اقطاعيا معاديا للعقل، أو معاديا لذاته، وهو نفسه عندما صار أمبرياليا مسئوليا على العالم، وهو ايضا نفسه عندما صار اشتراكيا معاديا للرأسمالية، أما الحروب والصراعات الضارية وآلاف السنين من المعاناة والخبرة والارتداد والصعود فكلها زبد!!
【 ان الفكر الغربي هو هو!】
ولعلنا هنا يمكن ان نتساءل: لماذا اذن أحرق البابوات المفكرين الاحرار ولماذا حدثت الثورة الفرنسية واعدمت الاقطاعيين والرهبان اذا كان كل شيء واحدا؟!
هكذا اذن يتحول الوجود الاجتماعي الذي شكل الوعي الى بخار، ويغدو الفكر مستقلا كليا، متوحدا في ذاته، لا مصدر له، لا تناقض فيه، يعبر عن جوهر غامض لا ندري من أين يأتي.
ولكن أحيانا. سيضطر المنهج الى معانقة عابرة للظروف والمشكلات الاجتماعية، لا كشفا لهذا الفكر عن مصدره الحياتي، بل طيرانا فوق الأرض البعيدة التي لم تستوعبه.
فالجوهر الشرقي سيظل في سرمديته، وسيظل الفكر مفارقا لجذوره، متعاليا فوق الظروف والاقطار، ولهذا يقول في ص 166 ــ 167 بعد بحث كبير في البنية الاقتصادية وصراعها الاجتماعي.
[وهكذا يصح القول ــ أخيرا ــ انه اذا كانت الاردية «الليبرالية» في الفترة السابقة قشورا على جسم قديم، فان الاردية «الراديكالية» الاشتراكية الوحدوية لم تكن اكثر انسجاما وتجذرا على الجسم القديم ذاته. هذا الجسم الذي لم يتضح بعد ماذا سيكون وكيف سيحيا. ان «الثابت» فيه هو مكوناته القديمة الموروثة التي «تتوافق» في كل مرحلة مع مكونات أو «متحولات» جديدة وافدة ـــ تفرضها الظروف أو طبيعة المرحلة ـــ ثم تنفك عنها وتسقطها لتعود وتتوافق ـــ بعد فترة ضياع وبحث ـــ مع مكونات جديدة اخرى ـــ انسب وقتيا وهكذا . . دون اندماج عضوي ودون تلقيح خلاق. ويبقى القديم على قدمه، ولا يترسخ الجديد، بل يسقط قشرة بعد قشرة، ومرحلة اثر مرحلة.] ص 166 ــ 167.
اذن فان الجوهر ، حسب هذا الفكر الميتافيزيقي، سيبقى شيئا خارج الظروف، وداخلها ايضا، ان الاشياء الاخرى تفرض وجودها عليه، لكنه ينفصل عنها، فجوهرنا التصقت به أوشاب وأردية كالقومية والليبرالية والاشتراكية ولكنه نفضها عنه، لأنها ليست جزءا من طبيعته وجوهره. وهكذا فان الجوهر العربي سينأى بنفسه عن الجوهر الاوربي. أي الى ان يكون هو هو، أي ان يصير الجوهر ما في حقيقته، دون أي تلاقح مع العالم الآخر، ان يصبح هو نفسه بلا مؤثرات حضارية من حضارات أخرى.
سوف نتابع مناقشة كتاب «تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي» ومركزين على نقطة جديدة في الموضوع، وهي بحث صفات الجوهرين المختلفين، «الشرق» و«الغرب». واللذان لا يلتقيان، واذا التقيا فالى حين.
وقد كان على المؤلف من وجهة النظر المنهجية ان يركز على هذه النقطة، محللا هذه الفكرة المركزية المحورية، حتى يتسنى لنا من بعد اكتشاف تجسيداتها عبر الفصول.
ولكنه بدلا من ذلك راح يبثها هنا وهناك، بعبارات قليلة محدودة، مما جعلها فكرة غامضة سحرية لا تقبل التحليل المجهري، ولعل هذه الطريقة هي بعض بوادر «منهجنا الشرقي الخاص». الذي بدأ المؤلف يكتشفه، ومعه جملة من الكتاب في المنطقة العربية، بعد الحقبة النفطية. رغم ان اصول البحث وطريقته تمت بالشكل «الاوربي» ايضا!
هناك اسرار غامضة تتعلق بهذا الجوهر الشرقي الخالد، الذي نظل نبحث عن صفاته حتى نتعب، هو وحده الذي يتجلى عبر المراحل، فنعرف بعضه ونجهل اشياء كثيرة.
كيف كان الماضي؟ المؤلف لا يبحث ذلك بل يلمح الى ذلك تلميحا. وكيف هو في الوقت الراهن؟ انه يتشكل ويظهر هنا وهناك لكنه يعود للاختفاء.
هذا الطلسم الشرقي سيظل لغزا، وقابلا لكل تفسير جديد، أو هو خاضع للمعادلات الحياتية المتناقضة للمؤلف.
وعلينا ان نبحث ـــ بجهدنا ـــ عن صفات الجوهرين المتناقضين المتقابلين: «الغرب والشرق»، عبر تلك النتف الصغيرة وفلتات اللسان، علنا نعرف سر هذين الجوهرين الغامضين؟
وفي البدء، ما هي صفات الجوهر الآخر: الغرب؟
الغرب كما قلنا جوهر شامل كامل خاص مغلق له توليفته المستقلة كليا، ويبدأ من الحضارة الاغريقية والرومانية مرورا بالمسيحية الى العصر الراهن ونقيضة الاشتراكي كذلك. والاشتراكية رغم انها تقع في «الشرق» الا انها ضمن مواصفات الحضارة الغربية، فنحن ولله الحمد، ابرياء من دنس الرأسمالية والاشتراكية معا!
يقول في هامش ص 157:
«يجب أن نتذكر دائما ان الاتحاد السوفيتي وأروبا الشرقية جزء من الغرب حضاريا وفكريا وصناعيا، والتحول من الغرب الليبرالي الى الغرب الماركسي هو انتقال من كفة الى أخرى في ميزان واحد، رغم خطورة مغزاه سياسيا» (؟!).
ولا نعلم هنا اين يضع الصين الشعبية وفيتنام وغيرها من الدول الاشتراكية في العالم النامي، لعله يضعهما ـــ كما أخبرنا في دراسة سابقة ـــ انها تنتمي الى «الظاهرة الصفراء» وليس الى الغرب الاشتراكي!
وعموما فقد ادركنا هنا ان تعبير الغرب يضم هنا القيم العقلانية والحداثة والصناعة.
فما هي ميزات الحضارة الاغريقية غير الاهتمام بالبحث العقلي والديمقراطية والعلم والصناعة؟ وما هي ميزات الحضارة الرأسمالية غير البحوث والعلم والانظمة البرلمانية؟ وما هي ميزات الاشتراكية غير التطور الصناعي والحداثة «الجماعية»؟
اذن نستشف هنا بعض الميزات المخصصة أساسا وكليا لذلك الجوهر المختلف، والتي شاءت له ظروفه الخاصة وكيانه، ان يتحلى بالديمقراطية والصناعة والحداثة والاشتراكية.
نحن اذن لا نصلح لليبرالية والعلمانية والعلمية والديمقراطية وأمثالها من القسمات المخصصة أساسا للغرب، ولا نعرف من الذي قسم هذه القسمة الضيزى غير هذا «الفكر».
يقول في هامش آخر:
«لاحظ كثير من الباحثين ان اثر «الليبرالية ـــ العلمانية» والاصلاحية الغربية عموما انحسر فجأة بانحسار السيطرة السياسية، الأمر الذي يدل على انها لم تتجذر ورحلت برحيل اصحابها» ص 113.
أي حسب وعي هذا الفكر، فإن قسمات هذه الحداثة ليست من جوهرنا. بل فرضت علينا فرضا، لقد حاول الغرب اصلاحنا وتحديثنا ولكن مع انحسار سيطرته السياسية انحسرت هذه المحاولة التحديثية، لماذا؟ لأنها تختلف عن جوهرنا، انها من جوهر عالم آخر.
خذوا مثال «الديمقراطية»، أي الحكم البرلماني والانتخابات وما الى ذلك من قسمات، انها ليست صفات انسانية شائعة للبشر جميعا، بل هي مخصصة لقوم محددين على هذا الكوكب، واي محاولة لتوسيع رقعة هذه الديمقراطية ستؤدي الى انهيار التجربة!
يقول المؤلف:
«ولم يكن اخفاق الديمقراطية الليبرالية قصرا على الشرق والغرب، اذا سرعان ما اثبت سير التجربة داخل القارة الاوربية ذاتها، وبعد سنوات قليلة، ان غرس هذه الفكرة في غير موطنها الاصلي (!) بغرب أوربا وشمال امريكا (الاقليم الاطلنطي الشمالي) ـــ وان اتصف بالحماسة الرسولية ـــ يفتقر الى الأسس الواقعية. فلقد أخذت النظم الديمقراطية المستحدثة في شرق أوربا ووسطها تتساقط بسرعة واحدا بعد الأخر» ص 84.
أرأيت التحديد الدقيق والعلم الشرقي المضبوط الذي يعرف اين تقع حدود الديمقراطية. انها تبدأ فقط من غرب أروبا. ثم انظر إلى تلك العبارة الجزلة في تحديد امريكا التي تنتهي لديها الديمقراطية: «الاقليم الاطلنطي الشمالي» حتى لا يتوهمن أحد أن الديمقراطية يمكن ان تتسلل الى جنوب الاطلنطي أو ان تفكر تلك الشعوب المقهورة ان الديمقراطية تصلح لإدارتها، عوضا عن انظمتها العسكرية الديكتاتورية، أو ان مظاهراتها يمكن ان تجلب لها تلك الديمقراطية المقصورة فقط على غرب أوربا لا وسطها ولا جنوبها ولا شرقها ولا ابعد من ذلك! (ونستغرب كيف الغى ـــ دون ان يدري ـــ بلاد الاغريق اصل الديمقراطية!).
فلا تتعبوا انفسكم ايها المستعبدون فقد اكتشف «العلم الشرقي السحري» ان الديمقراطية لم تخلق لكم!
ثم تأخذ الأمور مجالا ابعد واكثر حدة، فبعد ان استقرت كل تلك الفضائل والايجابيات في كفة الغرب، لم يكتف المؤلف بذلك، بل اهداها الحضارة الحديثة بكل ميزاتها.
يقول المؤلف وهو يستعرض وجهة النظر الغربية حول الشرق «قد يكون الحكم التالي الذي يطلقه برنارد لويس مبالغا فيه ويحمل طابع التقليل(!) من الحركات التحديثية الا انه يمثل جانبا مهما من حقيقة الوضع: «الشيء الواضح الوحيد هو أن من بين جميع الحركات الكبرى التي هزت الشرق الاوسط في آخر قرن ونصف كانت الحركات الاسلامية وحدها اصيلة (؟) في تمثيلها لمطامح أهل هذه المنطقة فالليبرالية والفاشية والوطنية والقومية والشيوعية والاشتراكية كلها اوربية الاصل مهما اقلمها اتباعها . . وبالرغم من ان كل الحركات الاسلامية قد هزمت . . غير انها لم تقل كلمتها بعد!» ص 114.
المدح الذي يسوقه المستشرق البرجوازي برنارد لويس للحركات الاسلامية ليس خاليا من المنطق الاستعماري: «فرق . . تسد»، ولكن لا نريد ان نناقش هذا الآن، علينا ان نرى ان الحكم الذي اصدره برنارد لويس تطابق مع حكم المؤلف الانصاري.
فعبارة «قد يكون الحكم . . ويحمل طابع التقليل» التي ساقها في البداية وكأنه يخفف من وقع احكامها، عاد ونقضها بعبارة «الا انه يمثل جانبا مهما». وهنا نرى الطابع «الصحفي» الخفيف لمثل هذا البحث، فمثل هذه الخفة لا يسوقها اي دارس يقوم بتحليل تيارات وعي أمة في عصر كامل، فكيف تكون هذه العبارة مبالغا فيها «قليلا»، وهي قد ألغت كل التاريخ العربي الحديث وكل المعارك والعروبة والقومية التحررية وكل الانجازات التي يفتخر بها العرب في شتى الحقول؟ كيف تكون العبارة مبالغا فيها «قليلا» وهي قد ازالت عرابي وسعد زغلول ومصطفى كامل ومحمد فريد وحسين مروة وجمال عبدالناصر وجورج حبش ونجيب محفوظ وحنا مينا والسياب الخ . . أي كل تلك الحركات الوطنية والابداعية العظيمة، فكلها فقاعات لا تنتمي الى تاريخنا «الحقيقي»؟!!
لماذا؟ لأنها أصلا كانت من التاريخ الاوربي والتصقت بنا، ليبرالية سعد زغلول وتحررية عبدالناصر واشتراكية خالد محي الدين والتحديث في دول الخليج كله زيف وباطل، لأن هذه القيم خلقت أصلا للغرب واستلها هؤلاء ووضعوها في غير مكانها ضد ارادة الامة ذات «الجسد الاسطوري» الذي لا يعرف اسراره سوى المستشرق برنارد لويس . . !
واذا رأينا ان كل تلك الصفات هي صفات غريبة، وهي التي اعطته الكيان العقلاني المستنير والصناعي والديمقراطي، فماذا سيبقى للجوهر الآخر، الشرق، أو العرب؟
ماذا بقى للجوهر الآخر، الذي لابد ان يتميز عنه، لأنه لو تطابقت الصفات ما كان جوهرا مختلفا!؟
المؤلف لا يفصح عن صفات «جوهرنا» ولكن مسار العرض يقود اليها بشكل حتمي. فما هي؟
يقول متحدثا عن أجيال من المفكرين الاصلاحيين أمثال الطهطاوي ومحمد عبده ولطفي السيد وقاسم أمين هؤلاء الذين أسسوا النهضة الأولى الليبرالية ولم يتخلوا أيضا عن الاسلام:
«غير ان هذه الموجة الغربية من القيم والافكار والنظم لم تنغرس في التربة العربية الاسلامية ولم تتجذر فيها بقوة، بل ظلت طافية على السطح ومنحصرة في افراد ومجموعات صغيرة من المثقفين ولم تتحد مع الاسلام (!) في اندماج عضوي» ص 83.
لنلاحظ أولا انه يقول موجة غريبة بلا تحديد اجتماعي وأيدلوجي كجزء من المنهج الذي يلغى جذور الفكر، في حين انها تمثل موجة برجوازية بشكل محدد. ثم يختزل نشاط التحديث البرجوازي الليبرالي في مصر بخفة شديدة عبر القول ان القيم والنظم (البرجوازية) ظلت طافية على السطح ومنحصرة، اي انها كانت بعيدة عن «الجوهر»، حيث ظل ذلك الجوهر الاسطوري بمنأى عن الحداثة.
علينا اذن ان ننشى كل منجزات الليبرالية والتحررية المصرية العظيمة التي تحولت هنا ايضا الى مجرد فقاعة. علينا ان ننسى كفاح عرابي الذي حاول المزاوجة بين القومية والاسلام مكافحا بشراسة الاستعمار الزاحف. وكذلك الموجة الضخمة من الليبرالية والوطنية التي قادها حزب الوفد في نصف قرن من الكفاح والتي خلق فيها أجيالا من المتنورين والمبدعين والمؤسسات والتشريعات الحديثة، والتي لم يتخل فيها أيضا عن آرائه الدينية «الاسلامية والمسيحية معا». علينا ان ننسى نجيب محفوظ ونلقيه في البحر حيث أن أدبه كان تعبيرا حيا ودقيقا عن رؤية هذا الحزب!
علينا حقا كي نجاري هذه الفكرة ان ننتزع كل هذا التلاقح الذي أحدثته الموجة الليبرالية العربية في حياة الأمة مثل تشكيل المسرح الحديث والقصيدة الحديثة والقصة القصيرة والرواية والدراسة النقدية والاكاديمية والصحافة . . فكل هذه نتاج ذلك التلاقح (الذي ظل طافيا على السطح)!
علينا ان نلغي نتاج محمد تيمور ومحمود تيمور وطه حسين وتوفيق الحكيم وعبدالرحمن الشرقاوي وجماعة الديوان والصحف والمطابع والجسور وتخطيط المدن والعلوم الخ . . فكل هذا كان من ثمار التلاقح مع الغرب بين الموجة الغربية والتربية العربية!
«استخدمنا الاسماء المصرية تحديدا لأن الكتاب دار بشكل خاص على النهضة العربية في مصر».
اذن الجوهر العربي منطق هذا «الفكر» عاطفي غير عقلاني، زراعي، غير تحرري، غير ديمقراطي، غير ليبرالي، غير اشتراكي، غير رأسمالي الخ !!
وبمعنى آخر فان أحد الجوهرين وهو الغربي سيكون هو المسيطر مادام يمتلك مفاتيح الصناعة والعلم والتقدم والحداثة والنهضة، وسيكون الجوهر الآخر الشرقي، هو المسيطر عليه، بحكم عدم تملكه الحداثة والصناعة، وانتاجه المواد الاولية فقط.
وهكذا يسوقنا المسار الفكري الى نتائجه الحتمية: فنحن في عالم واحد، في كوكب واحد، استطاع شق منه ان يمتلك مقومات الحداثة والتطور بحكم انها هي جوهره، في حين ان الشق الآخر، ليست له هذه المقومات، فهو عاجز عن امتلاك سمات الحداثة والعلم والديمقراطية . . لكن لابد من علاقة ما بين هذين الجوهرين، وهي علاقة سيحددها الشق الذي يمتلك الميزان الافضل. اذن سيكون هناك شق مسيطر وشق مسيطر عليه.
فالشق المتخلف الذي هو نحن لا يستطيع ان يكون رأسماليا حديثا، ولا يستطيع ان يكون اشتراكيا، وهما صيغتا التجاوز اللتان لا توجد صيغة اخرى غيرهما في عالم اليوم . . اذن يبقى الشق المتخلف متخلفا وتابعا الى الابد!
لكي يعالج الدكتور محمد جابر الانصاري صدام الذات والآخر، الشرق العربي والغرب، فلا بد أن يدخل تضاريس هذا الصدام، أي أن يكتب عن ظروفه الملموسة، وهنا لا بد أن يتوجه الى معرفة «البنية الاجتماعية» التي تشكلت فيها هذه الظاهرة.
ويأتي الكتاب الى مقصده الأساسي، نقد تجربة جمال عبدالناصر الوطنية، التي كانت لحظة هامة من لحظات التوفيقية بين الذات والآخر، بين الشرق والغرب، وهي لحظة ليست أصلية، لأنها واجهت الغرب بيد وتعاونت معه بيد أخرى . بمعنى انها حاربت الاستعمار الغربي ولكنها تعاونت مع الدول الاشتراكية، وتلك جريمة كبيرة بحق الذات.
أي أنها لا بد أن تكون أصولية، تعود الى الذات الماضية فحسب، تحارب الاشتراكية والرأسمالية معاً. ان عبدالناصر اذن هو تتويج لسلسلة خيانات هذه الذات من الامام محمد عبده الى سعد زغلول والنحاس !!
الذات الأصلية تتمثل في الاقطاع القديم، كما تشكل لدى بني أمية وبني العباس والسلاجقة والدولة العثمانية، وكل رجوع الى هذه الذات هو الأصالة وكل خروج عنها، وكل ذهاب للغرب، وخصوصا الغرب الاشتراكي، خيانة أو «توفيقية» بتعبير الكاتب!
سوف يركز الكتاب على التجربة الناصرية، التي هي في الواقع تتويج لعقود الثلاثينات والأربعينات، وما الرجوع الى بداية النهضة العربية الا محاولة استكشاف لكيفية مجيء هذا النبت الاجتماعي السياسي المتفجر عام 1952. أي سيجري البحث في مرتكزات «الطبقة المتوسطة الصغيرة» التي قادت المرحلة وكان على رأسها عبدالناصر. هذه الطبقة التي تعددت فيها الاتجاهات من الاتجاه العلمي اليساري، وهو اتجاه غربي مرفوض لدى المؤلف وان كان يستعيد بعض منهجيته، وهناك اتجاه توفيقي وسطي حاول أن يدمج بين «الذات والآخر» «الشرق والغرب»، عبر لويس عوض ونجيب محفوظ وغيرهما وستكون الثورة الناصرية هي مسايرة عسكرية لهذا الاتجاه التوفيقي «التلفيقي» بمعنى آخر.
ان المؤلف لم يقل ذلك بهذه الصراحة والجرأة ولكن هذا ما يحدده المنطق!
في البدء، سوف يطرح معلومات متعددة عن فترة ما بعد 1930. سوف يستعين ببعض الباحثين الاقتصاديين، فهناك الباحث شارل عيساوي ومعلوماته حول الاقتصاد المصري الحديث حيث يكتب بمنهجية علمية عن الاصلاحات البريطانية التي حدثت في الفترة بين 1898 ـــ 1920. ان هذه الاصلاحات أقيمت باعتبارها [جزءا تابعا للاقتصاد الرأسمالي الحديث يمده بالمواد الخام الضرورية للصناعة الغربية، ثم باعتبارها سوقا استهلاكية مضمونة لاستراد تلك الضمانات] ص 147.
اذن تم اخراج مصر من سيطرة الاقتصاد الاقطاعي والتبعية لتركيا، وادخالها ضمن بنية التبعية للاقتصاد البريطاني الاستعماري. ولا شك ان هذا الالحاق له بنيته الخاصة، فما هي قوانين التبعية الجديدة؟
ولنلاحظ قبل ذلك ان الانصاري يعتبر تبعية مصر الفلاحين لتركيا الاقطاعية شيئا غير مستنكر، وكأنها لا تمثل عملية اضطهاد خاصة واستغلال يقوم به الباشوات الاتراك والشركس للفلاحين المصريين، فهذه تجري ضمن قوانين الذات الشرقية المنسجمة!!
ثم لا يحاول الكاتب ان يستفيد من الاستشهاد المأخوذ من عيساوي بل ينسفه عبر هذا الاستنتاج: [وبرغم هذه التبعية الجديدة، فأن التحول من الاقتصاد التقليدي الى الاقتصاد العصري أدى الى زيادة الثروة العامة] ص 147.
ان الحديث عن اقتصاد تقليدي، ثم اقتصاد عصري أمر يلغي المنهجية العلمية. فقد سحب مسئولية النهب الاقطاعي التركي لمصر عبر كلمة «تقليدي»! ثم غيب مسئولية النهب البريطاني عبر كلمة «عصري»!
ثم كان الاستنتاج بائسا «زيادة الثروة العامة»! لقد قامت بريطانيا بتطوير زراعة القطن فقط ثم خنقت زراعة معظم المواد الزراعية ومنعت الصناعة المصرية. [راجع لوتسكي، تاريخ الاقطار العربية ص 280 ـــ 284 دار الفارابي].
هذه طريقة المؤلف في الاستفادة من المراجع خفة وسرعة واستنتاجات كبيرة بدون صبر علمي.
عبر الحديث عن «اقتصاد عصري» ألغى عملية البحث في تطور علاقات الانتاج وبنية التبعية. فهو ليس اقتصادا عصريا بل بناء متخلف شبه اقطاعي ـــ شبه رأسمالي، تابع.
عبر هذه الخفة لم يتم التوغل في كشف الطبقات المسيطرة وحجم ثرواتها واسلوب حصولها على الثروة، كما لا نجد كشفا للطبقات الأخرى: الفلاحين العمال، البرجوازية الصغيرة، البرجوازية . . عبر التحليل الملموس، وليس بالتعبيرات الانشائية غير الدقيقة.
يتوجه الكاتب للكلمات العامة الفضفاضة والاستعانة بفقرات كبيرة جدا من كتب الرافعي ونجيب محفوظ ولويس عوض، بدلا من ان يقف بصبر لدراسة الخريطة الاجتماعية عبر سنوات 1930 ـــ 1970. ثم يتابع نشوء التيارات وهي بشكل بذور، ثم يرى كيف تتفاعل مع تلك الخريطة.
انه لا يتتبع الهرم الاجتماعي بشكل ملموس، بل يقفز من موضوع الى آخر دون تحليل. فمثلا بعد ان يوضح ضخامة الفقر في مصر قبل سنوات الحرب يقفز الى انتشار التعليم حيث زاد عدد المتعلمين.
أي أن ضخامة الفقر وانتشار التعليم هي التي جعلت مصر تقترب من الثورة! وهذا كلام عام ولا علاقة له بالبحوث. فلا بد من دراسة تفصيلية عميقة للطبقات لكي نكتشف الأزمة على مختلف المستويات.
وبعد ذلك يقترب من تحديد بعض جوانب الهرم الاجتماعي المصري فيقول انه كانت ثلاث قوى جديدة هي: طبقة وسطى محلية من الوسطاء ومديري الأعمال والتجار، ونخبة من المثقفين وأصحاب المهن العالية، وطبقة عاملة مدنية. ويحدد بأن الطبقة المتوسطة الصغيرة «أي البرجوازية الصغيرة» باعتبارها القوة الاجتماعية الهامة التي سوف تتحرك في هذه الفترة دون ان نعرف الأسباب الاقتصادية ـــ الاجتماعية التي أهلتها لذلك.
لقد شهدت حقبة ما بعد الحرب العالمية الاولى اقتراب الطبقة المتوسطة الصغيرة من الفقراء كما يقول بسبب الأزمة المتفاقمة.
ونجد المؤلف هنا يحاول ان يستعين بمنهجية غربية معروفة: [ولأن الطبقة المتوسطة المحلية الجديدة هي التي وعت الواقع(؟) بحكم موقعها الاقتصادي والثقافي قبل الفلاحين والعمال، الذين لم يتفتح وعيهم بعد، فأنها هي التي تصدت للتغيير والقيادة، وأدركت مدى الهوة القائمة بين بؤس الأغلبية الساحقة وترف الأقلية الضئيلة، وكانت هي ذاتها مهددة ـــ اقتصاديا ـــ بالرجوع الى درك الطبقات الفقيرة كلما اشتدت وطأة الاستغلال وانعدمت عدالة التوزيع] ص 156.
ولكون البرجوازية الصغيرة قد تغلغلت في روافد التغيير الثلاثة: الجيش، الأحزاب، المؤسسة التعليمية، فقد حدثت ثوراتها المتتالية، ولم ينجح الأصوليون ممثلو «الذات»، وفشل التقدميون لأنهم لا يمثلون الذات، واستطاع التوفيقيون الجدد: عبدالناصر، البعث، في احداث توليفة توفيقية انتهازية جديدة لكنها وصلت الى الفشل لأنها توفيقية، أي حاولت ان تدمج بين الذات والآخر، نحن العرب والغرب بشقيه، ونحن في انتظار شيء آخر غير توفيقي!!
ولنحاول فهم التاريخ المصري في هذا القرن عبر آلية أخرى. سنقول بشكل مقتضب جدا، ان التطورات الاقتصادية والاجتماعية في الثلث الأول من القرن قد أوضحت عجز الطبقات البرجوازية الكبيرة والارستقراطية عن حسم الصراع ضد الاستعمار البريطاني بطريقتها الخاصة، فبدأت الأشكال السياسية والايدلوجية التي أوجدتها تتعرض للتأكل والانهيار.
إن الأشكال السياسية مثل أحزاب الوفد والسعديين لم تستطع ان تستوعب قدرات الشعب وتقوده للقضاء على السيطرة البريطانية، كما ان الايدلوجية التي اعتمدت عليها في صنع النهضة عبر الأشكال البرلمانية والاصلاحية السلمية المتدرجة لم تلب حاجات الجماهير الملحة وتجسدها ضد الانكليز. من هنا راحت الطبقة البرجوازية الصغيرة تتقدم لاحتلال مسرح الأحداث.
ولا يعني ذلك ان صراع البرجوازية [الوفد] ضد الاستعمار كان بلا جدوى، بل على العكس كان حلقة ضرورية ومهمة، وهي التي مهدت للحلقة التالية. فذلك الصراع دفع القوى الأخرى للصعود وخلق الشروط الاجتماعية والفكرية لصراع البرجوازية الصغيرة ضد الاستعمار. وبدون اجراءات الوفد في المجال التعليمي والسياسي لم يكن بإمكان عبدالناصر أن يدخل الكلية الحربية وبالتالي أن يصل للسلطة.
اذن كان صعود عبدالناصر حلقة جديدة من حلقات تطور الصراع الوطني، أي ان أزمة نظام التبعية الذي صنعته بريطانيا راحت تتعمق، لتنكسر مع قيام السلطة الناصرية.
ليس مستغربا من نظام عبدالناصر الوطني الذي تربعت فوق قيادته البرجوازية الصغيرة، الطبقة المتناقضة، ان يكون مليئا بالتناقضات، وان يجمع بين القطاع العام وتوسع الملكية الصغيرة، بين اليسار واليمين، بين الشرق والغرب، فهذه هي خصائص الطبقة، ومع ذلك فالمؤلف يستغرب من جمعها بين هذه المتناقضات وهذا دليل على توفيقيتها!
ان هذا النظام قام بأحداث نقلة هائلة في الحياة، تنمية واسعة، تحقيق الاستقلال، تنمية ثقافية، بعث حركة تحرر وطني عاصفة الخ . .! ولقد أدت تناقضاتها الداخلية المتفاقمة للتمهيد لعودة الرأسمالية الكبيرة والارتباط مجددا بالسوق الرأسمالي.
أذن الوسطية الناصرية، أو هذه الحلقة المهمة في الصراع ضد التبعية، ليست نتاج ذات غامضة، فأنت ذاتها، بل نتاج طبقة متناقضة، عملت الكثير ثم عجزت.
إن المؤلف بدلا من ان يصل الى هذا الاستنتاج الموضوعي، يعود الى أصوليته وفكرته الاسطورية عن «الذات» الموهومة.
فيقول: [. . أي ان هذه البرجوازية الصغيرة ستتصدى لمهام مرحلة التحرر من الاستعمار الغربي، ثم ستتجه نحو محاولة اقامة الدولة القومية «الحديثة» وسيكون قدرها الصعب أن تدفع الغرب بيد لتأخذ حضارته وعونه بيد أخرى. وهو قدر لا يحتمل تناقضه ولا تحتمل مأساويته الا من خلال صيغة توفيقية، قد لا تكون عضوية ولا أصلية، ولكنها مرنة، وضرورية نفسيا وعمليا، تقفز فوق النقائض لتوفق بين «الأصيل» و«الوافد» ـــ بين الذات والآخر ـــ مبقية في الوقت ذاته على الفارق الكياني بينهما] ص 157.
هنا سنجد ثورة عبدالناصر تخون «الذات» لأنها اتجهت الى أخذ المساعدة من العالم الاشتراكي «الغرب» فهي حاربت الغرب الاستعماري ولكنها اتجهت للغرب الاشتراكي باليد الأخرى.
وكان ينبغي الرجوع الى الأصول، الى مثال الدولة العثمانية، حتى لا يخون عبدالناصر هذه الذات!
ان الانفتاح على الغرب الاشتراكي، والجماعات الديمقراطية والتقدمية في الغرب الرأسمالي كذلك، لم يكن قدرا صعبا، ولا مأساويا، ولا يتناقض مع أصالة المصريين، لكنه كان (قدرا) مأساويا على الاقطاعيين وكبار الرأسماليين اذا أردنا الدقة في التعبير!!
وكانت آراء عبدالناصر وموقفه استمرارا لخط الوطنية المتصاعد وتعبيرا عن معاناة ملايين العرب ومطالبهم في الحرية والتقدم!
هناك فكرة مركزية خاطئة تهيمن على فكر الأنصاري في كتابه «تحولات الفكر والسياسة» تتمثل في كون التاريخ البشري ليس عملية عالمية واحدة متداخلة، بل هو تاريخ عناصر ومجموعات مستقلة كليا.
وفي هذه الفكرة يكمن أساس الوعي الأصولي الخاطئ. فالحضارات البشرية متفاعلة، متداخلة، وتمثل كلها نمو قدرة الانسان على هذا الكواكب. فلا يمكن حقيقة تحديد أية أنواع عنصرية أو قبلية أسست تاريخ الانسان الأساسي والطويل في العصرين الحجريين القديم والحديث الذي بلغ مئات الآلاف من السنين، وما قبلهما أيضا، حيث وضعت تلك العصور أسس الحضارة الانسانية من زراعة وصناعة أدوات وتأسيس مجتمعات وثقافة.
(راجع بهذا الصدد كتاب: إنتصار الحضارة لجيمس هنري برستد، مكتبة الأنجلو المصرية حول العصور القديمة، ويمكن إكتشاف جذور الحضارة العربية الموغلة في القدم عبر كتابات العلامة جواد علي في «المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام، عشر مجلدات».
ولكن لا يعني هذا التداخل العميق لحضارات الانسان، عدم وجود بُنى إجتماعية مستقلة نسبيا، تنمو عبر صراعاتها وتفاعلها مع الخارج.
إن لكل عصر مستوى معينا من تطور الانتاج، ويشكل هذا بُنى إجتماعية متعددة على الأرض، حسب الظروف الملموسة لكل شعب، وعموما لا توجد خصائص «جوهرية» لشعب من الشعوب، فالخصائص المحددة خاضعة لظروف محددة. ولا توجد سمات سحرية خارج الزمان والمكان. بل ان الشعب ذاته يتنوع بخصائصه، حسب الطبقات والمستويات الاجتماعية المتباينة.
ومن الواضح أن تاريخ البشرية هو نتاج هذا النمو المتباين للمجموعات والشعوب والأمم، وصراعاتها، وتفاعلها، في شروط محددة.
وقد واجه العرب بعد خروجهم من الجزيرة العربية لنشر الاسلام والفتوح، معضلة الحضارات الأخرى (التي تفاعلوا معها سابقا بشكل محدود)، وقد كانت تلك الدول العبودية القديمة قد وصلت الى نزف حاد للقوى المنتجة البشرية والمادية ودخلت مرحلة أزمة عميقة. وكان دور العرب هو إحداث قفزة تطورية في المنطقة، والاستفادة من نتاج الشعوب الأخرى سواء عبر تنظيمات ريها أو زراعتها أو علومها ودفع هذا النتاج الى الامام، وقد حدثت قفزات معرفية ضخمة سواء في العلوم أو الآداب أو الفلسفة، عبر الأخذ والاستيعاب تبعا للحاجات الداخلية.
وهذا التطور لم يحدث ـــ بطبيعة الحال ـــ بدون صراعات.
فقد فسرت القوى الاجتماعية المتعددة «الاسلام» حسب أوضاعها، فقد وقف الخوارج، وغيرهم، طويلا ضد الأمويين، وحين طرح الأولون مفهوما تشاورياً وعادلا ً وعامياً، يعتقدون أنه هو النابع من الدين، طرح الآخرون مفهوماً أرستقراطياً يجعل الثروة والحكم من نصيبهم فحسب، واعتقدوا أن مفهومهم نابع هو أيضاً من الدين!
ولقد كان لنشوء طبقة تجارية صناعية في عصر الدولة العباسية أثر مهم في توسيع طابع الاستنارة والاجتهاد، فحدث انفتاح واسع على آثار الأمم الأخرى بدون انغلاق، وتم إستيعاب فلسفات متعددة كفلسفة أرسطو وأفلاطون وغيرهما، وأستوعبت آداب الأمم الأخرى وكان من نتاجها حكايات كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة، وهكذا غدت الحضارة العربية ـــ الاسلامية منارة معرفية ثقافية، لاستيعابها تجارب البشر وخبراتهم المضيئة تبعاً لمصالحها وأهدافها هي.
(راجع: النزاعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية لحسين مروة و«نحن والتراث» لمحمد عابد الجابري وغيرهما) . .
وبعد إنكسار الطبقة البرجوازية الوليدة ـــ وكانت هزيمة المعتزلة تعبيراً فكرياً عنها ـــ وحدوث التفتت الاقطاعي، برز الاقطاع العسكري السلجوقي والتركي وفرض تصوراته المتخلفة، فكان الانغلاق واغلاق الاجتهاد والغاء العقلانية الاسلامية المستنيرة وفرض أئمة النصوص.
يقول المفكر الاسلامي د. محمد عمارة:
(فلما حدث الانقلاب التركي والمملوكي وتعسكرت الدولة. «. . .» غدت فيه مقولات التيار العقلاني فكراً محرماً ومجرماً يلاحقه الاضطهاد . . وغدا فيه أئمة هذه العقلانية موضع التنديد وأسرى للملاحقة والسجن والاضطهاد.) اخبار الخليج، العقلانية الاسلامية، 18/7/1989.
ومن هنا فإن نهوض الأمة العربية مجدداً في العصر الحديث، ومحاولاتها استيعاب المنجزات البشرية المتقدمة، سواء في العلوم أو الفنون أو التطبيقات الاجتماعية هو أمر ضروري ولابد منه، لمصلحة بقاء وتطور الأمة، فليس لديها مخزون سحري داخلي كامن في أعماقها تتوجه اليه لتطلع منه الحضارة كما يقول السحرة المعاصرون، بل لابد لها من أن تتعلم من الآخرين وتستفيد من إنجازاتهم، لكون ذلك هو قانون تطور البشرية: قانون الاستيعاب المتبادل للخبرات والمنجزات المفيدة في التطور الداخلي لكل منها.
واستيعاب الحضارة له تاريخيته وشروطه. فمصر عندما بدأت تستوعب الحضارة الغربية الحديثة كان على رأس السلطة فيها طبقة اقطاعية هي أسرة محمد علي. لقد ساهمت هذه الأسرة في البداية بإحداث أول حلقة من حلقات الاتصال الحضاري وأنجزت بعض الأشياء الا أن أسلوبها في العيش الباذخ قد كسر تطور الحلقة. وبدأت طبقة أخرى في إستيعاب الحضارة الغربية ونقل منتجاتها الى الحياة المحلية مع تكييفها للمصلحة الداخلية. وكان لهذه الحلقة البرجوازية انجازات كبيرة غير أنها راحت تتآكل كما أوضحنا سابقاً.
ثم بدأت القوى الاجتماعية الدنيا في مواصلة عمليات تحويل المجتمع والاستفادة من إنجازات الحضارة الغربية والشرقية ولكن هذه أيضا وصلت الى الأنهيار بفعل التناقضات الداخلية في نظام عبدالناصر. ثم عادت الطبقة البرجوازية الى التأثير في المنطقة العربية، أثناء مرحلة النفط، وتفجر الصراع بين جناحها الأصولي، الذي يطرح أسلوباً فاشياً دينياً، وجناحها الحديث المعتدل.
ويساهم كتاب الأنصاري هذا في ترجيح كفة الجناح الأول. عموماً لقد فشلت البرجوازية بأجنحتها عن أحداث التحول الحضاري الجذري الشامل، بينما لم تجرب الطبقات الشعبية الفرصة بعد.
إن هذا التعدد في الحلقات لا يدل على وجود نزعة متأصلة الى التوفيقية كما يرى الأنصاري، بل هي مجرد حلقات في تطور طبقات محددة. وعدم قيامة بربط هذه النزعات بتكوينها الاجتماعي المحدد هو الذي يجعله يعتبرها نزعة أصلية خارقة صوفية.
يقول: [إن ما حاولنا البرهان عليه في هذا البحث هو حقيقة كون هذه الروح التوفيقية نافذة الى صميم التكونات التاريخية المجتمعية الحضارية وانعكاساتها العقلية والشعورية في هذه المرحلة من التاريخ العربي.] ص 212.
أي أنه في الخاتمة وصل الى أن التوفيقية هي جزء من «جوهر» الذات العربية «الآن!» لقد كان قوله سابقاً أن الذات العربية هي من جوهر خاص غير قابل للذوبان في «الجوهر الآخر» الغرب، لكن هذا الجوهر يتحول الآن، ويغدو مفارقاً لذاته، ويصير من جوهره أن يفقد جوهره!
أي أن العرب الذين كانوا محتفظين بهويتهم الخاصة المستقلة عن البشر تماماً، صارت هويتهم الخاصة أن يمزجوا بينها وبين هوية مناقضة لهم!
كنا نتصور أن المؤلف وقد تتبع الأصيل والوافد، وصراعهما، أن يضع خطوطاً حمراء عازلة، نستعيد عبرها الذات العربية الضائعة، في دنس التغريب، في الحضارة العالمية الشاملة الآن، أن يعيدها الى دائرتها الخاصة، نقية، عذراء غير مدنسة بحضارة الغرب «الكافرة»!، ولكنه يفاجئنا أخيراً بعد كل رحلة العذاب هذه بأن هذه التوفيقية هي جزء أصيل من تكوين الذات العربية الذي لا نستطيع له تغييراً!!
ويجد سر ذلك في عامل جديد، لم يُطرح ابداً، وكالساحر يستخرجه من قبعته ويقول: انها الجغرافيا!
يقول: [اما الانتقاد الموجه الى «التوفيقية» من الجانبين السلفي والعلماني فليس غير اشارة الى طبيعة الجدلية القائمة بين التوفيقية ونقيضها (السلفي والعلماني)، وغير تعبير عن نوع (الديالكتيك) الخاص بطبيعة الفكر والمجتمع المعاصر في هذا الشرق العربي «الأوسط» ليس جغرافياً فحسب، وإنما على الأرجح فكرياً وحضارياً!] ص 215.
هنا ينسف الكاتب كل مقولاته السابقة ويجعلها في مهب الريح، فالتوفيقية لا تغدو نزعة انتقائية معادية للذات الأصلية، بل تكوينا لابد منه، فرضته ظروف الجغرافيا، ولو كان العرب في استراليا مثلا ما كانوا توفيقيين!
ولعل في هذه الفقرة شيئاً من التراجع عن الأصولية المتزمتة، وفتح الأبواب لتعدد التيارات، رغم كونه مبنيا على أساس غير مبدئي، لأنه أقيم فقط فوق أساس جغرافي. في حين أن الوعي العربي الطليعي في مختلف مراحلة التاريخية كان يقيم جدلية عميقة مع العالم تبعاً للمصالح العربية وتطور المجتمع.
وأيضا سرعان ما يتراجع عن هذا الانفتاح وفي السطر التالي مباشرة: [وفي التحليل النهائي فإن الأهمية البالغة للأيدولوجية التوفيقية تنبع من حقيقة كونها تعبيراً عن واقع اللاحسم في الحياة العربية المعاصرة] ص 215.
هنا تغدو التوفيقية (أقرأها: الوعي البرجوازي الديمقراطي بتياراته) راجعة لأسباب تاريخية محددة وموقوتة بأسبابها، أي ليست قدراً جغرافياً. أي أمامنا فقط النزعة الأصولية (أقرأها: الوعي البرجوازي الفاشي ذو الواجهة الدينية) وهي الوحيدة الممثلة للذات العربية. في حين تمثل التيارات الديمقراطية والاشتراكية الغرب!
إن الفقرتين اللتين عرضناهما للمؤلف سابقاً تمثلان انتقائية خاصة به، فهو يضع رجلاً في التيار البرجوازي الليبرالي، ورجلاً أخرى في التيار الأصولي، منتظراً إنتصار احدهما ليضع قميه كلتيهما عنده!
إنه يقف بين الخطين المتصارعين في ذات الطبقة ليقول حينئذ . . كلمته!!
وهذه أسوأ أنواع التوفيقية!!!
https://abdullakhalifa.blogspot.com/2...
عبـــــــدالله خلــــــــيفة عرض ونقد عن أعماله
لعب الاستاذ محمد جابر الانصاري دورا فكريا تنويريا كبيرا في حياتنا الثقافية، على امتداد ثلاثين عاما كان مثال الباحث الدؤوب المفتش في كل الاركان عن زوايا الضوء والابداع والنقد، محاولا دوما الكشف عن الجديد والمتميز، دون الانقطاع عن التراث والجذور.
وفي كتابه، واطروحته «تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي 1930 ــ 1970» يقوم الدكتور الانصاري بانعطافه غريبة في فكره، ويطرح اجتهادات مثيرة للتساؤل والبحث. وفي هذا الكتاب يحاول المؤلف تقديم تفسير لتطور الوعي الحديث في المشرق العربي من منطلقات خاصة. ومهما كانت الاجتهادات فيظل الكتاب نظرة معينة لهذه التشابكات المعقدة في الوعي العربي المعاصر المتواجد في بنى اجتماعية وجدت نفسها ممزقة، ملحقة، تابعة للمراكز الاساسية في العالم الرأسمالي الحديث.
وسوف نطرح وجهة نظر موسعة في هذا الكتاب في المقدمتين الثانية والاولى لطبعتي الكتاب، واللتين صدرتا تباعاً في الكويت ثم قبرص، يسوق المؤلف منهج دراسته باقتضاب شديدين وبأسلوب يشبه ايقاعات الصحافة السريعة، لا بأسلوب مقدمات البحوث المعتادة، حيث المعالجة الدقيقة للرؤى والاجتهادات السابقة، وتحليلها ونقدها بعمق، وتجاوزها عبر تقديم التفسير الذي توصل اليه المؤلف د. الانصاري يتجاوز ذلك كله ويدخل مباشرة في موضوعه.
وفي البدء علينا ان نفحص العنوان الذي اختاره، انه «تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي». فالفكر هنا بلا تحديد، ليس هو الوعي بتياراته المتعددة، بل هو ذلك الفكر المجرد المطلق العام. ووضع «الفكر» هكذا بلا تحديد اجتماعي أو أيدلوجي له، ليس مصادفة، بل جزء من المنهج. حيث سيلعب الفكر الدور المطلق، وما الظروف التي يلبسها، أو تلبسه، سوى أردية مؤقتة وعارضة له. انه الساحر الذي سيطلع من المجهول ويقفز فوق المراحل والقرون محتفظا بهويته الخاصة، بجوهره الذي لا يتغير.
انه فكر «عربي ــ اسلامي»، حيث سيكون تمازج هذين العنصرين أساس ما يسميه أحيانا «المزاج الحضاري العام»، انه فكر عربي، انه نحن، هويتنا. وهو لأنه عربي، لأنه شرقي، لأنه الداخل الحضاري الخاص بنا، المجهول من قبل الغريب، الآخر، وخاصة: الغرب، الذي لن يستطيع ان يفهمه، أو يعرفه، لأنه ليس من «جوهره».
فهذا الفكر، جوهر خاص، له عالمه المستقل، ليس هو علاقات موضوعية تعكس بناء اجتماعيا ضمن تشكيلة اقتصادية، اجتماعية، وليس هو تيارات متصارعة ضمن هذه التشكيلة، لا انه ليس كذلك، بل هو جوهر مفارق، خميرة خاصة سحرية وجدت فينا، ولا يستطيع احد أن يعرفها غيرنا، لن يعرفها الا اذا عرفها ضمن معرفتها الخاصة. اي لن يفهمها الا بأدواتها الناتجة من جوهرها الخاص المختلف عن جواهر البشر الآخرين.
يقول في المقدمة الثانية:
[تم اخضاع الفكر العربي والاسلامي الحديث ـــ ومعه كثير من ظواهر الحياة العربية المعاصرة ـــ لمعايير ومقاييس ومناهج خارجية . . ليبرالية امبريقية وضعية . . أو . . ماركسية ديالكتيكية «يقصد: مادية جدلية!»، الأمر الذي أدى الى فهم تلك الظواهر الفكرية والاجتماعية، والحكم عليها من منظور له انحيازات أيديولوجية وقيمية معينة مستمدة من مركزية حضارية أخرى هي مركزية الحضارة الاوربية الغربية بشقيها الليبرالي والماركسي، وبجذورها الاغريقية ـــ الرومانية ـــ المسيحية] ص 5، الطبعة الثانية.
ومن الواضح ان المقدمة نفسها لم تفلت من طريقة التفكير الوضعية الغربية، وما الرسالة كلها وطريقة البحث الا شكل من أشكال البحث «الغربية» وحتى الاسلوب لا ينتمي الى البلاغة العربية القديمة فلماذا لم يكتب بأسلوب الجاحظ مثلا كي يكون عربيا خالصا وبشكل جوهري؟!
هذا مجرد تذكير بالشكل، لكن لنتوغل الى الفكرة الخطرة: فقد اعتبر ان مسيرة «الفكر» العربي الحديث، ولنستخدم مصطلحاته مؤقتا، قد تمت بأدوات انتجت من عالم آخر، هو عالم الغرب. وهذا خطأ «جوهري» في رأيه. فجوهرها الخاص السحري المستقل لا يفهم من خلال «علم» الغير، والغير هو عالم الغرب بكافة تياراته من فكرة الديمقراطي الى الثوري، فأولك البشر، مختلفون عن «بشريتنا نحن».
الحضارة الغربية تمثل مركزية مناقضة لمركزيتنا، لجوهرنا الغامض، وهاتان المركزيتان، الجوهران المتفارقان، لن يلتقيا، على صعيد القسمات الخاصة. قد يلتقيان في صراع حضاري الا أنهما سيفترقان، كعنصرين غير قابلين لتركيبة جديدة.
نحن الأنا الشرقي العربي، في مواجهة الآخر، الغرب، ولن يستطيع هذا الآخر مهما كان فكره ان يفهمنا، فنحن لن نفهم الا بأدوات خاصة ننتجها بشكل خاص. (هنا نجد الاطاحة الكاملة بالعلوم!).
والآخر، الغرب، سيظل مفارقا لنا، مختلفا عنا، ليس في حضارته الحديثة، بل في كل تاريخه، ويمتد ذلك من أيام الاغريق قبل آلاف السنين ويصعد حتى الحضارة الرومانية، ويتواصل في الحضارة المسيحية (والتي نتجت في الشرق ذاته!). ويستمر الى انتهاء الزمن.
ان الجوهرين مطلقا التناقض، انهما ليسا منطقتين في عالم واحد تتفاعلان حسب التطور العام للإنسانية، وتباين الانظمة والطبقات والتيارات الخاصة بكل مرحلة، بل هما كوكبان اثنان، كل منهما يدور في فلكه، وان حدث التداخل والاصطدام فهو مؤقت، وبعدئذ يعود كل منهما الى فلكه!
هكذا جرى سابقا عندما تصادم «الجوهران» في عصر الدولتين الاغريقية والرومانية، وافترقا، ذهب الاغريق والرومان الى كوكبهم وبقينا في كوكبنا، والتحما ثانية في عصر المأمون التحاماً «علمياً» ثم افترقا على أحسن ما يكون كما يقول ثم التحما ثالثة ورابعة دون ان يمتزجا.
يقول:
[واذا شئنا النظر الى التاريخ في استمراريته قلنا ان التوفيقية الحديثة هي لقاء آخر متجدد بين تراث الشرق الأدنى والعقل الاوربي (منذ نشأته الاغريقية). وان ما حدث هو مواجهة لموجة «هيلنية» جديدة قادمة هذه المرة من أوربا الغربية بثوب عصري] ص 18.
ولنلاحظ هنا كيف ان «الجوهر» ـــ العقل، يقفز فوق المراحل التاريخية والمناطق، فالفكر الاوربي هو هو ذاته، سواء كان في عصر الاغريق عندما كان وثنياً عبودياً، وديمقراطياً، أو في عصر الرومان عندما كان عبوديا وارستقراطيا وثنيا كذلك، وهو ايضا ذاته، عندما صار مسيحيا اقطاعيا معاديا للعقل، أو معاديا لذاته، وهو نفسه عندما صار أمبرياليا مسئوليا على العالم، وهو ايضا نفسه عندما صار اشتراكيا معاديا للرأسمالية، أما الحروب والصراعات الضارية وآلاف السنين من المعاناة والخبرة والارتداد والصعود فكلها زبد!!
【 ان الفكر الغربي هو هو!】
ولعلنا هنا يمكن ان نتساءل: لماذا اذن أحرق البابوات المفكرين الاحرار ولماذا حدثت الثورة الفرنسية واعدمت الاقطاعيين والرهبان اذا كان كل شيء واحدا؟!
هكذا اذن يتحول الوجود الاجتماعي الذي شكل الوعي الى بخار، ويغدو الفكر مستقلا كليا، متوحدا في ذاته، لا مصدر له، لا تناقض فيه، يعبر عن جوهر غامض لا ندري من أين يأتي.
ولكن أحيانا. سيضطر المنهج الى معانقة عابرة للظروف والمشكلات الاجتماعية، لا كشفا لهذا الفكر عن مصدره الحياتي، بل طيرانا فوق الأرض البعيدة التي لم تستوعبه.
فالجوهر الشرقي سيظل في سرمديته، وسيظل الفكر مفارقا لجذوره، متعاليا فوق الظروف والاقطار، ولهذا يقول في ص 166 ــ 167 بعد بحث كبير في البنية الاقتصادية وصراعها الاجتماعي.
[وهكذا يصح القول ــ أخيرا ــ انه اذا كانت الاردية «الليبرالية» في الفترة السابقة قشورا على جسم قديم، فان الاردية «الراديكالية» الاشتراكية الوحدوية لم تكن اكثر انسجاما وتجذرا على الجسم القديم ذاته. هذا الجسم الذي لم يتضح بعد ماذا سيكون وكيف سيحيا. ان «الثابت» فيه هو مكوناته القديمة الموروثة التي «تتوافق» في كل مرحلة مع مكونات أو «متحولات» جديدة وافدة ـــ تفرضها الظروف أو طبيعة المرحلة ـــ ثم تنفك عنها وتسقطها لتعود وتتوافق ـــ بعد فترة ضياع وبحث ـــ مع مكونات جديدة اخرى ـــ انسب وقتيا وهكذا . . دون اندماج عضوي ودون تلقيح خلاق. ويبقى القديم على قدمه، ولا يترسخ الجديد، بل يسقط قشرة بعد قشرة، ومرحلة اثر مرحلة.] ص 166 ــ 167.
اذن فان الجوهر ، حسب هذا الفكر الميتافيزيقي، سيبقى شيئا خارج الظروف، وداخلها ايضا، ان الاشياء الاخرى تفرض وجودها عليه، لكنه ينفصل عنها، فجوهرنا التصقت به أوشاب وأردية كالقومية والليبرالية والاشتراكية ولكنه نفضها عنه، لأنها ليست جزءا من طبيعته وجوهره. وهكذا فان الجوهر العربي سينأى بنفسه عن الجوهر الاوربي. أي الى ان يكون هو هو، أي ان يصير الجوهر ما في حقيقته، دون أي تلاقح مع العالم الآخر، ان يصبح هو نفسه بلا مؤثرات حضارية من حضارات أخرى.
سوف نتابع مناقشة كتاب «تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي» ومركزين على نقطة جديدة في الموضوع، وهي بحث صفات الجوهرين المختلفين، «الشرق» و«الغرب». واللذان لا يلتقيان، واذا التقيا فالى حين.
وقد كان على المؤلف من وجهة النظر المنهجية ان يركز على هذه النقطة، محللا هذه الفكرة المركزية المحورية، حتى يتسنى لنا من بعد اكتشاف تجسيداتها عبر الفصول.
ولكنه بدلا من ذلك راح يبثها هنا وهناك، بعبارات قليلة محدودة، مما جعلها فكرة غامضة سحرية لا تقبل التحليل المجهري، ولعل هذه الطريقة هي بعض بوادر «منهجنا الشرقي الخاص». الذي بدأ المؤلف يكتشفه، ومعه جملة من الكتاب في المنطقة العربية، بعد الحقبة النفطية. رغم ان اصول البحث وطريقته تمت بالشكل «الاوربي» ايضا!
هناك اسرار غامضة تتعلق بهذا الجوهر الشرقي الخالد، الذي نظل نبحث عن صفاته حتى نتعب، هو وحده الذي يتجلى عبر المراحل، فنعرف بعضه ونجهل اشياء كثيرة.
كيف كان الماضي؟ المؤلف لا يبحث ذلك بل يلمح الى ذلك تلميحا. وكيف هو في الوقت الراهن؟ انه يتشكل ويظهر هنا وهناك لكنه يعود للاختفاء.
هذا الطلسم الشرقي سيظل لغزا، وقابلا لكل تفسير جديد، أو هو خاضع للمعادلات الحياتية المتناقضة للمؤلف.
وعلينا ان نبحث ـــ بجهدنا ـــ عن صفات الجوهرين المتناقضين المتقابلين: «الغرب والشرق»، عبر تلك النتف الصغيرة وفلتات اللسان، علنا نعرف سر هذين الجوهرين الغامضين؟
وفي البدء، ما هي صفات الجوهر الآخر: الغرب؟
الغرب كما قلنا جوهر شامل كامل خاص مغلق له توليفته المستقلة كليا، ويبدأ من الحضارة الاغريقية والرومانية مرورا بالمسيحية الى العصر الراهن ونقيضة الاشتراكي كذلك. والاشتراكية رغم انها تقع في «الشرق» الا انها ضمن مواصفات الحضارة الغربية، فنحن ولله الحمد، ابرياء من دنس الرأسمالية والاشتراكية معا!
يقول في هامش ص 157:
«يجب أن نتذكر دائما ان الاتحاد السوفيتي وأروبا الشرقية جزء من الغرب حضاريا وفكريا وصناعيا، والتحول من الغرب الليبرالي الى الغرب الماركسي هو انتقال من كفة الى أخرى في ميزان واحد، رغم خطورة مغزاه سياسيا» (؟!).
ولا نعلم هنا اين يضع الصين الشعبية وفيتنام وغيرها من الدول الاشتراكية في العالم النامي، لعله يضعهما ـــ كما أخبرنا في دراسة سابقة ـــ انها تنتمي الى «الظاهرة الصفراء» وليس الى الغرب الاشتراكي!
وعموما فقد ادركنا هنا ان تعبير الغرب يضم هنا القيم العقلانية والحداثة والصناعة.
فما هي ميزات الحضارة الاغريقية غير الاهتمام بالبحث العقلي والديمقراطية والعلم والصناعة؟ وما هي ميزات الحضارة الرأسمالية غير البحوث والعلم والانظمة البرلمانية؟ وما هي ميزات الاشتراكية غير التطور الصناعي والحداثة «الجماعية»؟
اذن نستشف هنا بعض الميزات المخصصة أساسا وكليا لذلك الجوهر المختلف، والتي شاءت له ظروفه الخاصة وكيانه، ان يتحلى بالديمقراطية والصناعة والحداثة والاشتراكية.
نحن اذن لا نصلح لليبرالية والعلمانية والعلمية والديمقراطية وأمثالها من القسمات المخصصة أساسا للغرب، ولا نعرف من الذي قسم هذه القسمة الضيزى غير هذا «الفكر».
يقول في هامش آخر:
«لاحظ كثير من الباحثين ان اثر «الليبرالية ـــ العلمانية» والاصلاحية الغربية عموما انحسر فجأة بانحسار السيطرة السياسية، الأمر الذي يدل على انها لم تتجذر ورحلت برحيل اصحابها» ص 113.
أي حسب وعي هذا الفكر، فإن قسمات هذه الحداثة ليست من جوهرنا. بل فرضت علينا فرضا، لقد حاول الغرب اصلاحنا وتحديثنا ولكن مع انحسار سيطرته السياسية انحسرت هذه المحاولة التحديثية، لماذا؟ لأنها تختلف عن جوهرنا، انها من جوهر عالم آخر.
خذوا مثال «الديمقراطية»، أي الحكم البرلماني والانتخابات وما الى ذلك من قسمات، انها ليست صفات انسانية شائعة للبشر جميعا، بل هي مخصصة لقوم محددين على هذا الكوكب، واي محاولة لتوسيع رقعة هذه الديمقراطية ستؤدي الى انهيار التجربة!
يقول المؤلف:
«ولم يكن اخفاق الديمقراطية الليبرالية قصرا على الشرق والغرب، اذا سرعان ما اثبت سير التجربة داخل القارة الاوربية ذاتها، وبعد سنوات قليلة، ان غرس هذه الفكرة في غير موطنها الاصلي (!) بغرب أوربا وشمال امريكا (الاقليم الاطلنطي الشمالي) ـــ وان اتصف بالحماسة الرسولية ـــ يفتقر الى الأسس الواقعية. فلقد أخذت النظم الديمقراطية المستحدثة في شرق أوربا ووسطها تتساقط بسرعة واحدا بعد الأخر» ص 84.
أرأيت التحديد الدقيق والعلم الشرقي المضبوط الذي يعرف اين تقع حدود الديمقراطية. انها تبدأ فقط من غرب أروبا. ثم انظر إلى تلك العبارة الجزلة في تحديد امريكا التي تنتهي لديها الديمقراطية: «الاقليم الاطلنطي الشمالي» حتى لا يتوهمن أحد أن الديمقراطية يمكن ان تتسلل الى جنوب الاطلنطي أو ان تفكر تلك الشعوب المقهورة ان الديمقراطية تصلح لإدارتها، عوضا عن انظمتها العسكرية الديكتاتورية، أو ان مظاهراتها يمكن ان تجلب لها تلك الديمقراطية المقصورة فقط على غرب أوربا لا وسطها ولا جنوبها ولا شرقها ولا ابعد من ذلك! (ونستغرب كيف الغى ـــ دون ان يدري ـــ بلاد الاغريق اصل الديمقراطية!).
فلا تتعبوا انفسكم ايها المستعبدون فقد اكتشف «العلم الشرقي السحري» ان الديمقراطية لم تخلق لكم!
ثم تأخذ الأمور مجالا ابعد واكثر حدة، فبعد ان استقرت كل تلك الفضائل والايجابيات في كفة الغرب، لم يكتف المؤلف بذلك، بل اهداها الحضارة الحديثة بكل ميزاتها.
يقول المؤلف وهو يستعرض وجهة النظر الغربية حول الشرق «قد يكون الحكم التالي الذي يطلقه برنارد لويس مبالغا فيه ويحمل طابع التقليل(!) من الحركات التحديثية الا انه يمثل جانبا مهما من حقيقة الوضع: «الشيء الواضح الوحيد هو أن من بين جميع الحركات الكبرى التي هزت الشرق الاوسط في آخر قرن ونصف كانت الحركات الاسلامية وحدها اصيلة (؟) في تمثيلها لمطامح أهل هذه المنطقة فالليبرالية والفاشية والوطنية والقومية والشيوعية والاشتراكية كلها اوربية الاصل مهما اقلمها اتباعها . . وبالرغم من ان كل الحركات الاسلامية قد هزمت . . غير انها لم تقل كلمتها بعد!» ص 114.
المدح الذي يسوقه المستشرق البرجوازي برنارد لويس للحركات الاسلامية ليس خاليا من المنطق الاستعماري: «فرق . . تسد»، ولكن لا نريد ان نناقش هذا الآن، علينا ان نرى ان الحكم الذي اصدره برنارد لويس تطابق مع حكم المؤلف الانصاري.
فعبارة «قد يكون الحكم . . ويحمل طابع التقليل» التي ساقها في البداية وكأنه يخفف من وقع احكامها، عاد ونقضها بعبارة «الا انه يمثل جانبا مهما». وهنا نرى الطابع «الصحفي» الخفيف لمثل هذا البحث، فمثل هذه الخفة لا يسوقها اي دارس يقوم بتحليل تيارات وعي أمة في عصر كامل، فكيف تكون هذه العبارة مبالغا فيها «قليلا»، وهي قد ألغت كل التاريخ العربي الحديث وكل المعارك والعروبة والقومية التحررية وكل الانجازات التي يفتخر بها العرب في شتى الحقول؟ كيف تكون العبارة مبالغا فيها «قليلا» وهي قد ازالت عرابي وسعد زغلول ومصطفى كامل ومحمد فريد وحسين مروة وجمال عبدالناصر وجورج حبش ونجيب محفوظ وحنا مينا والسياب الخ . . أي كل تلك الحركات الوطنية والابداعية العظيمة، فكلها فقاعات لا تنتمي الى تاريخنا «الحقيقي»؟!!
لماذا؟ لأنها أصلا كانت من التاريخ الاوربي والتصقت بنا، ليبرالية سعد زغلول وتحررية عبدالناصر واشتراكية خالد محي الدين والتحديث في دول الخليج كله زيف وباطل، لأن هذه القيم خلقت أصلا للغرب واستلها هؤلاء ووضعوها في غير مكانها ضد ارادة الامة ذات «الجسد الاسطوري» الذي لا يعرف اسراره سوى المستشرق برنارد لويس . . !
واذا رأينا ان كل تلك الصفات هي صفات غريبة، وهي التي اعطته الكيان العقلاني المستنير والصناعي والديمقراطي، فماذا سيبقى للجوهر الآخر، الشرق، أو العرب؟
ماذا بقى للجوهر الآخر، الذي لابد ان يتميز عنه، لأنه لو تطابقت الصفات ما كان جوهرا مختلفا!؟
المؤلف لا يفصح عن صفات «جوهرنا» ولكن مسار العرض يقود اليها بشكل حتمي. فما هي؟
يقول متحدثا عن أجيال من المفكرين الاصلاحيين أمثال الطهطاوي ومحمد عبده ولطفي السيد وقاسم أمين هؤلاء الذين أسسوا النهضة الأولى الليبرالية ولم يتخلوا أيضا عن الاسلام:
«غير ان هذه الموجة الغربية من القيم والافكار والنظم لم تنغرس في التربة العربية الاسلامية ولم تتجذر فيها بقوة، بل ظلت طافية على السطح ومنحصرة في افراد ومجموعات صغيرة من المثقفين ولم تتحد مع الاسلام (!) في اندماج عضوي» ص 83.
لنلاحظ أولا انه يقول موجة غريبة بلا تحديد اجتماعي وأيدلوجي كجزء من المنهج الذي يلغى جذور الفكر، في حين انها تمثل موجة برجوازية بشكل محدد. ثم يختزل نشاط التحديث البرجوازي الليبرالي في مصر بخفة شديدة عبر القول ان القيم والنظم (البرجوازية) ظلت طافية على السطح ومنحصرة، اي انها كانت بعيدة عن «الجوهر»، حيث ظل ذلك الجوهر الاسطوري بمنأى عن الحداثة.
علينا اذن ان ننشى كل منجزات الليبرالية والتحررية المصرية العظيمة التي تحولت هنا ايضا الى مجرد فقاعة. علينا ان ننسى كفاح عرابي الذي حاول المزاوجة بين القومية والاسلام مكافحا بشراسة الاستعمار الزاحف. وكذلك الموجة الضخمة من الليبرالية والوطنية التي قادها حزب الوفد في نصف قرن من الكفاح والتي خلق فيها أجيالا من المتنورين والمبدعين والمؤسسات والتشريعات الحديثة، والتي لم يتخل فيها أيضا عن آرائه الدينية «الاسلامية والمسيحية معا». علينا ان ننسى نجيب محفوظ ونلقيه في البحر حيث أن أدبه كان تعبيرا حيا ودقيقا عن رؤية هذا الحزب!
علينا حقا كي نجاري هذه الفكرة ان ننتزع كل هذا التلاقح الذي أحدثته الموجة الليبرالية العربية في حياة الأمة مثل تشكيل المسرح الحديث والقصيدة الحديثة والقصة القصيرة والرواية والدراسة النقدية والاكاديمية والصحافة . . فكل هذه نتاج ذلك التلاقح (الذي ظل طافيا على السطح)!
علينا ان نلغي نتاج محمد تيمور ومحمود تيمور وطه حسين وتوفيق الحكيم وعبدالرحمن الشرقاوي وجماعة الديوان والصحف والمطابع والجسور وتخطيط المدن والعلوم الخ . . فكل هذا كان من ثمار التلاقح مع الغرب بين الموجة الغربية والتربية العربية!
«استخدمنا الاسماء المصرية تحديدا لأن الكتاب دار بشكل خاص على النهضة العربية في مصر».
اذن الجوهر العربي منطق هذا «الفكر» عاطفي غير عقلاني، زراعي، غير تحرري، غير ديمقراطي، غير ليبرالي، غير اشتراكي، غير رأسمالي الخ !!
وبمعنى آخر فان أحد الجوهرين وهو الغربي سيكون هو المسيطر مادام يمتلك مفاتيح الصناعة والعلم والتقدم والحداثة والنهضة، وسيكون الجوهر الآخر الشرقي، هو المسيطر عليه، بحكم عدم تملكه الحداثة والصناعة، وانتاجه المواد الاولية فقط.
وهكذا يسوقنا المسار الفكري الى نتائجه الحتمية: فنحن في عالم واحد، في كوكب واحد، استطاع شق منه ان يمتلك مقومات الحداثة والتطور بحكم انها هي جوهره، في حين ان الشق الآخر، ليست له هذه المقومات، فهو عاجز عن امتلاك سمات الحداثة والعلم والديمقراطية . . لكن لابد من علاقة ما بين هذين الجوهرين، وهي علاقة سيحددها الشق الذي يمتلك الميزان الافضل. اذن سيكون هناك شق مسيطر وشق مسيطر عليه.
فالشق المتخلف الذي هو نحن لا يستطيع ان يكون رأسماليا حديثا، ولا يستطيع ان يكون اشتراكيا، وهما صيغتا التجاوز اللتان لا توجد صيغة اخرى غيرهما في عالم اليوم . . اذن يبقى الشق المتخلف متخلفا وتابعا الى الابد!
لكي يعالج الدكتور محمد جابر الانصاري صدام الذات والآخر، الشرق العربي والغرب، فلا بد أن يدخل تضاريس هذا الصدام، أي أن يكتب عن ظروفه الملموسة، وهنا لا بد أن يتوجه الى معرفة «البنية الاجتماعية» التي تشكلت فيها هذه الظاهرة.
ويأتي الكتاب الى مقصده الأساسي، نقد تجربة جمال عبدالناصر الوطنية، التي كانت لحظة هامة من لحظات التوفيقية بين الذات والآخر، بين الشرق والغرب، وهي لحظة ليست أصلية، لأنها واجهت الغرب بيد وتعاونت معه بيد أخرى . بمعنى انها حاربت الاستعمار الغربي ولكنها تعاونت مع الدول الاشتراكية، وتلك جريمة كبيرة بحق الذات.
أي أنها لا بد أن تكون أصولية، تعود الى الذات الماضية فحسب، تحارب الاشتراكية والرأسمالية معاً. ان عبدالناصر اذن هو تتويج لسلسلة خيانات هذه الذات من الامام محمد عبده الى سعد زغلول والنحاس !!
الذات الأصلية تتمثل في الاقطاع القديم، كما تشكل لدى بني أمية وبني العباس والسلاجقة والدولة العثمانية، وكل رجوع الى هذه الذات هو الأصالة وكل خروج عنها، وكل ذهاب للغرب، وخصوصا الغرب الاشتراكي، خيانة أو «توفيقية» بتعبير الكاتب!
سوف يركز الكتاب على التجربة الناصرية، التي هي في الواقع تتويج لعقود الثلاثينات والأربعينات، وما الرجوع الى بداية النهضة العربية الا محاولة استكشاف لكيفية مجيء هذا النبت الاجتماعي السياسي المتفجر عام 1952. أي سيجري البحث في مرتكزات «الطبقة المتوسطة الصغيرة» التي قادت المرحلة وكان على رأسها عبدالناصر. هذه الطبقة التي تعددت فيها الاتجاهات من الاتجاه العلمي اليساري، وهو اتجاه غربي مرفوض لدى المؤلف وان كان يستعيد بعض منهجيته، وهناك اتجاه توفيقي وسطي حاول أن يدمج بين «الذات والآخر» «الشرق والغرب»، عبر لويس عوض ونجيب محفوظ وغيرهما وستكون الثورة الناصرية هي مسايرة عسكرية لهذا الاتجاه التوفيقي «التلفيقي» بمعنى آخر.
ان المؤلف لم يقل ذلك بهذه الصراحة والجرأة ولكن هذا ما يحدده المنطق!
في البدء، سوف يطرح معلومات متعددة عن فترة ما بعد 1930. سوف يستعين ببعض الباحثين الاقتصاديين، فهناك الباحث شارل عيساوي ومعلوماته حول الاقتصاد المصري الحديث حيث يكتب بمنهجية علمية عن الاصلاحات البريطانية التي حدثت في الفترة بين 1898 ـــ 1920. ان هذه الاصلاحات أقيمت باعتبارها [جزءا تابعا للاقتصاد الرأسمالي الحديث يمده بالمواد الخام الضرورية للصناعة الغربية، ثم باعتبارها سوقا استهلاكية مضمونة لاستراد تلك الضمانات] ص 147.
اذن تم اخراج مصر من سيطرة الاقتصاد الاقطاعي والتبعية لتركيا، وادخالها ضمن بنية التبعية للاقتصاد البريطاني الاستعماري. ولا شك ان هذا الالحاق له بنيته الخاصة، فما هي قوانين التبعية الجديدة؟
ولنلاحظ قبل ذلك ان الانصاري يعتبر تبعية مصر الفلاحين لتركيا الاقطاعية شيئا غير مستنكر، وكأنها لا تمثل عملية اضطهاد خاصة واستغلال يقوم به الباشوات الاتراك والشركس للفلاحين المصريين، فهذه تجري ضمن قوانين الذات الشرقية المنسجمة!!
ثم لا يحاول الكاتب ان يستفيد من الاستشهاد المأخوذ من عيساوي بل ينسفه عبر هذا الاستنتاج: [وبرغم هذه التبعية الجديدة، فأن التحول من الاقتصاد التقليدي الى الاقتصاد العصري أدى الى زيادة الثروة العامة] ص 147.
ان الحديث عن اقتصاد تقليدي، ثم اقتصاد عصري أمر يلغي المنهجية العلمية. فقد سحب مسئولية النهب الاقطاعي التركي لمصر عبر كلمة «تقليدي»! ثم غيب مسئولية النهب البريطاني عبر كلمة «عصري»!
ثم كان الاستنتاج بائسا «زيادة الثروة العامة»! لقد قامت بريطانيا بتطوير زراعة القطن فقط ثم خنقت زراعة معظم المواد الزراعية ومنعت الصناعة المصرية. [راجع لوتسكي، تاريخ الاقطار العربية ص 280 ـــ 284 دار الفارابي].
هذه طريقة المؤلف في الاستفادة من المراجع خفة وسرعة واستنتاجات كبيرة بدون صبر علمي.
عبر الحديث عن «اقتصاد عصري» ألغى عملية البحث في تطور علاقات الانتاج وبنية التبعية. فهو ليس اقتصادا عصريا بل بناء متخلف شبه اقطاعي ـــ شبه رأسمالي، تابع.
عبر هذه الخفة لم يتم التوغل في كشف الطبقات المسيطرة وحجم ثرواتها واسلوب حصولها على الثروة، كما لا نجد كشفا للطبقات الأخرى: الفلاحين العمال، البرجوازية الصغيرة، البرجوازية . . عبر التحليل الملموس، وليس بالتعبيرات الانشائية غير الدقيقة.
يتوجه الكاتب للكلمات العامة الفضفاضة والاستعانة بفقرات كبيرة جدا من كتب الرافعي ونجيب محفوظ ولويس عوض، بدلا من ان يقف بصبر لدراسة الخريطة الاجتماعية عبر سنوات 1930 ـــ 1970. ثم يتابع نشوء التيارات وهي بشكل بذور، ثم يرى كيف تتفاعل مع تلك الخريطة.
انه لا يتتبع الهرم الاجتماعي بشكل ملموس، بل يقفز من موضوع الى آخر دون تحليل. فمثلا بعد ان يوضح ضخامة الفقر في مصر قبل سنوات الحرب يقفز الى انتشار التعليم حيث زاد عدد المتعلمين.
أي أن ضخامة الفقر وانتشار التعليم هي التي جعلت مصر تقترب من الثورة! وهذا كلام عام ولا علاقة له بالبحوث. فلا بد من دراسة تفصيلية عميقة للطبقات لكي نكتشف الأزمة على مختلف المستويات.
وبعد ذلك يقترب من تحديد بعض جوانب الهرم الاجتماعي المصري فيقول انه كانت ثلاث قوى جديدة هي: طبقة وسطى محلية من الوسطاء ومديري الأعمال والتجار، ونخبة من المثقفين وأصحاب المهن العالية، وطبقة عاملة مدنية. ويحدد بأن الطبقة المتوسطة الصغيرة «أي البرجوازية الصغيرة» باعتبارها القوة الاجتماعية الهامة التي سوف تتحرك في هذه الفترة دون ان نعرف الأسباب الاقتصادية ـــ الاجتماعية التي أهلتها لذلك.
لقد شهدت حقبة ما بعد الحرب العالمية الاولى اقتراب الطبقة المتوسطة الصغيرة من الفقراء كما يقول بسبب الأزمة المتفاقمة.
ونجد المؤلف هنا يحاول ان يستعين بمنهجية غربية معروفة: [ولأن الطبقة المتوسطة المحلية الجديدة هي التي وعت الواقع(؟) بحكم موقعها الاقتصادي والثقافي قبل الفلاحين والعمال، الذين لم يتفتح وعيهم بعد، فأنها هي التي تصدت للتغيير والقيادة، وأدركت مدى الهوة القائمة بين بؤس الأغلبية الساحقة وترف الأقلية الضئيلة، وكانت هي ذاتها مهددة ـــ اقتصاديا ـــ بالرجوع الى درك الطبقات الفقيرة كلما اشتدت وطأة الاستغلال وانعدمت عدالة التوزيع] ص 156.
ولكون البرجوازية الصغيرة قد تغلغلت في روافد التغيير الثلاثة: الجيش، الأحزاب، المؤسسة التعليمية، فقد حدثت ثوراتها المتتالية، ولم ينجح الأصوليون ممثلو «الذات»، وفشل التقدميون لأنهم لا يمثلون الذات، واستطاع التوفيقيون الجدد: عبدالناصر، البعث، في احداث توليفة توفيقية انتهازية جديدة لكنها وصلت الى الفشل لأنها توفيقية، أي حاولت ان تدمج بين الذات والآخر، نحن العرب والغرب بشقيه، ونحن في انتظار شيء آخر غير توفيقي!!
ولنحاول فهم التاريخ المصري في هذا القرن عبر آلية أخرى. سنقول بشكل مقتضب جدا، ان التطورات الاقتصادية والاجتماعية في الثلث الأول من القرن قد أوضحت عجز الطبقات البرجوازية الكبيرة والارستقراطية عن حسم الصراع ضد الاستعمار البريطاني بطريقتها الخاصة، فبدأت الأشكال السياسية والايدلوجية التي أوجدتها تتعرض للتأكل والانهيار.
إن الأشكال السياسية مثل أحزاب الوفد والسعديين لم تستطع ان تستوعب قدرات الشعب وتقوده للقضاء على السيطرة البريطانية، كما ان الايدلوجية التي اعتمدت عليها في صنع النهضة عبر الأشكال البرلمانية والاصلاحية السلمية المتدرجة لم تلب حاجات الجماهير الملحة وتجسدها ضد الانكليز. من هنا راحت الطبقة البرجوازية الصغيرة تتقدم لاحتلال مسرح الأحداث.
ولا يعني ذلك ان صراع البرجوازية [الوفد] ضد الاستعمار كان بلا جدوى، بل على العكس كان حلقة ضرورية ومهمة، وهي التي مهدت للحلقة التالية. فذلك الصراع دفع القوى الأخرى للصعود وخلق الشروط الاجتماعية والفكرية لصراع البرجوازية الصغيرة ضد الاستعمار. وبدون اجراءات الوفد في المجال التعليمي والسياسي لم يكن بإمكان عبدالناصر أن يدخل الكلية الحربية وبالتالي أن يصل للسلطة.
اذن كان صعود عبدالناصر حلقة جديدة من حلقات تطور الصراع الوطني، أي ان أزمة نظام التبعية الذي صنعته بريطانيا راحت تتعمق، لتنكسر مع قيام السلطة الناصرية.
ليس مستغربا من نظام عبدالناصر الوطني الذي تربعت فوق قيادته البرجوازية الصغيرة، الطبقة المتناقضة، ان يكون مليئا بالتناقضات، وان يجمع بين القطاع العام وتوسع الملكية الصغيرة، بين اليسار واليمين، بين الشرق والغرب، فهذه هي خصائص الطبقة، ومع ذلك فالمؤلف يستغرب من جمعها بين هذه المتناقضات وهذا دليل على توفيقيتها!
ان هذا النظام قام بأحداث نقلة هائلة في الحياة، تنمية واسعة، تحقيق الاستقلال، تنمية ثقافية، بعث حركة تحرر وطني عاصفة الخ . .! ولقد أدت تناقضاتها الداخلية المتفاقمة للتمهيد لعودة الرأسمالية الكبيرة والارتباط مجددا بالسوق الرأسمالي.
أذن الوسطية الناصرية، أو هذه الحلقة المهمة في الصراع ضد التبعية، ليست نتاج ذات غامضة، فأنت ذاتها، بل نتاج طبقة متناقضة، عملت الكثير ثم عجزت.
إن المؤلف بدلا من ان يصل الى هذا الاستنتاج الموضوعي، يعود الى أصوليته وفكرته الاسطورية عن «الذات» الموهومة.
فيقول: [. . أي ان هذه البرجوازية الصغيرة ستتصدى لمهام مرحلة التحرر من الاستعمار الغربي، ثم ستتجه نحو محاولة اقامة الدولة القومية «الحديثة» وسيكون قدرها الصعب أن تدفع الغرب بيد لتأخذ حضارته وعونه بيد أخرى. وهو قدر لا يحتمل تناقضه ولا تحتمل مأساويته الا من خلال صيغة توفيقية، قد لا تكون عضوية ولا أصلية، ولكنها مرنة، وضرورية نفسيا وعمليا، تقفز فوق النقائض لتوفق بين «الأصيل» و«الوافد» ـــ بين الذات والآخر ـــ مبقية في الوقت ذاته على الفارق الكياني بينهما] ص 157.
هنا سنجد ثورة عبدالناصر تخون «الذات» لأنها اتجهت الى أخذ المساعدة من العالم الاشتراكي «الغرب» فهي حاربت الغرب الاستعماري ولكنها اتجهت للغرب الاشتراكي باليد الأخرى.
وكان ينبغي الرجوع الى الأصول، الى مثال الدولة العثمانية، حتى لا يخون عبدالناصر هذه الذات!
ان الانفتاح على الغرب الاشتراكي، والجماعات الديمقراطية والتقدمية في الغرب الرأسمالي كذلك، لم يكن قدرا صعبا، ولا مأساويا، ولا يتناقض مع أصالة المصريين، لكنه كان (قدرا) مأساويا على الاقطاعيين وكبار الرأسماليين اذا أردنا الدقة في التعبير!!
وكانت آراء عبدالناصر وموقفه استمرارا لخط الوطنية المتصاعد وتعبيرا عن معاناة ملايين العرب ومطالبهم في الحرية والتقدم!
هناك فكرة مركزية خاطئة تهيمن على فكر الأنصاري في كتابه «تحولات الفكر والسياسة» تتمثل في كون التاريخ البشري ليس عملية عالمية واحدة متداخلة، بل هو تاريخ عناصر ومجموعات مستقلة كليا.
وفي هذه الفكرة يكمن أساس الوعي الأصولي الخاطئ. فالحضارات البشرية متفاعلة، متداخلة، وتمثل كلها نمو قدرة الانسان على هذا الكواكب. فلا يمكن حقيقة تحديد أية أنواع عنصرية أو قبلية أسست تاريخ الانسان الأساسي والطويل في العصرين الحجريين القديم والحديث الذي بلغ مئات الآلاف من السنين، وما قبلهما أيضا، حيث وضعت تلك العصور أسس الحضارة الانسانية من زراعة وصناعة أدوات وتأسيس مجتمعات وثقافة.
(راجع بهذا الصدد كتاب: إنتصار الحضارة لجيمس هنري برستد، مكتبة الأنجلو المصرية حول العصور القديمة، ويمكن إكتشاف جذور الحضارة العربية الموغلة في القدم عبر كتابات العلامة جواد علي في «المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام، عشر مجلدات».
ولكن لا يعني هذا التداخل العميق لحضارات الانسان، عدم وجود بُنى إجتماعية مستقلة نسبيا، تنمو عبر صراعاتها وتفاعلها مع الخارج.
إن لكل عصر مستوى معينا من تطور الانتاج، ويشكل هذا بُنى إجتماعية متعددة على الأرض، حسب الظروف الملموسة لكل شعب، وعموما لا توجد خصائص «جوهرية» لشعب من الشعوب، فالخصائص المحددة خاضعة لظروف محددة. ولا توجد سمات سحرية خارج الزمان والمكان. بل ان الشعب ذاته يتنوع بخصائصه، حسب الطبقات والمستويات الاجتماعية المتباينة.
ومن الواضح أن تاريخ البشرية هو نتاج هذا النمو المتباين للمجموعات والشعوب والأمم، وصراعاتها، وتفاعلها، في شروط محددة.
وقد واجه العرب بعد خروجهم من الجزيرة العربية لنشر الاسلام والفتوح، معضلة الحضارات الأخرى (التي تفاعلوا معها سابقا بشكل محدود)، وقد كانت تلك الدول العبودية القديمة قد وصلت الى نزف حاد للقوى المنتجة البشرية والمادية ودخلت مرحلة أزمة عميقة. وكان دور العرب هو إحداث قفزة تطورية في المنطقة، والاستفادة من نتاج الشعوب الأخرى سواء عبر تنظيمات ريها أو زراعتها أو علومها ودفع هذا النتاج الى الامام، وقد حدثت قفزات معرفية ضخمة سواء في العلوم أو الآداب أو الفلسفة، عبر الأخذ والاستيعاب تبعا للحاجات الداخلية.
وهذا التطور لم يحدث ـــ بطبيعة الحال ـــ بدون صراعات.
فقد فسرت القوى الاجتماعية المتعددة «الاسلام» حسب أوضاعها، فقد وقف الخوارج، وغيرهم، طويلا ضد الأمويين، وحين طرح الأولون مفهوما تشاورياً وعادلا ً وعامياً، يعتقدون أنه هو النابع من الدين، طرح الآخرون مفهوماً أرستقراطياً يجعل الثروة والحكم من نصيبهم فحسب، واعتقدوا أن مفهومهم نابع هو أيضاً من الدين!
ولقد كان لنشوء طبقة تجارية صناعية في عصر الدولة العباسية أثر مهم في توسيع طابع الاستنارة والاجتهاد، فحدث انفتاح واسع على آثار الأمم الأخرى بدون انغلاق، وتم إستيعاب فلسفات متعددة كفلسفة أرسطو وأفلاطون وغيرهما، وأستوعبت آداب الأمم الأخرى وكان من نتاجها حكايات كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة، وهكذا غدت الحضارة العربية ـــ الاسلامية منارة معرفية ثقافية، لاستيعابها تجارب البشر وخبراتهم المضيئة تبعاً لمصالحها وأهدافها هي.
(راجع: النزاعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية لحسين مروة و«نحن والتراث» لمحمد عابد الجابري وغيرهما) . .
وبعد إنكسار الطبقة البرجوازية الوليدة ـــ وكانت هزيمة المعتزلة تعبيراً فكرياً عنها ـــ وحدوث التفتت الاقطاعي، برز الاقطاع العسكري السلجوقي والتركي وفرض تصوراته المتخلفة، فكان الانغلاق واغلاق الاجتهاد والغاء العقلانية الاسلامية المستنيرة وفرض أئمة النصوص.
يقول المفكر الاسلامي د. محمد عمارة:
(فلما حدث الانقلاب التركي والمملوكي وتعسكرت الدولة. «. . .» غدت فيه مقولات التيار العقلاني فكراً محرماً ومجرماً يلاحقه الاضطهاد . . وغدا فيه أئمة هذه العقلانية موضع التنديد وأسرى للملاحقة والسجن والاضطهاد.) اخبار الخليج، العقلانية الاسلامية، 18/7/1989.
ومن هنا فإن نهوض الأمة العربية مجدداً في العصر الحديث، ومحاولاتها استيعاب المنجزات البشرية المتقدمة، سواء في العلوم أو الفنون أو التطبيقات الاجتماعية هو أمر ضروري ولابد منه، لمصلحة بقاء وتطور الأمة، فليس لديها مخزون سحري داخلي كامن في أعماقها تتوجه اليه لتطلع منه الحضارة كما يقول السحرة المعاصرون، بل لابد لها من أن تتعلم من الآخرين وتستفيد من إنجازاتهم، لكون ذلك هو قانون تطور البشرية: قانون الاستيعاب المتبادل للخبرات والمنجزات المفيدة في التطور الداخلي لكل منها.
واستيعاب الحضارة له تاريخيته وشروطه. فمصر عندما بدأت تستوعب الحضارة الغربية الحديثة كان على رأس السلطة فيها طبقة اقطاعية هي أسرة محمد علي. لقد ساهمت هذه الأسرة في البداية بإحداث أول حلقة من حلقات الاتصال الحضاري وأنجزت بعض الأشياء الا أن أسلوبها في العيش الباذخ قد كسر تطور الحلقة. وبدأت طبقة أخرى في إستيعاب الحضارة الغربية ونقل منتجاتها الى الحياة المحلية مع تكييفها للمصلحة الداخلية. وكان لهذه الحلقة البرجوازية انجازات كبيرة غير أنها راحت تتآكل كما أوضحنا سابقاً.
ثم بدأت القوى الاجتماعية الدنيا في مواصلة عمليات تحويل المجتمع والاستفادة من إنجازات الحضارة الغربية والشرقية ولكن هذه أيضا وصلت الى الأنهيار بفعل التناقضات الداخلية في نظام عبدالناصر. ثم عادت الطبقة البرجوازية الى التأثير في المنطقة العربية، أثناء مرحلة النفط، وتفجر الصراع بين جناحها الأصولي، الذي يطرح أسلوباً فاشياً دينياً، وجناحها الحديث المعتدل.
ويساهم كتاب الأنصاري هذا في ترجيح كفة الجناح الأول. عموماً لقد فشلت البرجوازية بأجنحتها عن أحداث التحول الحضاري الجذري الشامل، بينما لم تجرب الطبقات الشعبية الفرصة بعد.
إن هذا التعدد في الحلقات لا يدل على وجود نزعة متأصلة الى التوفيقية كما يرى الأنصاري، بل هي مجرد حلقات في تطور طبقات محددة. وعدم قيامة بربط هذه النزعات بتكوينها الاجتماعي المحدد هو الذي يجعله يعتبرها نزعة أصلية خارقة صوفية.
يقول: [إن ما حاولنا البرهان عليه في هذا البحث هو حقيقة كون هذه الروح التوفيقية نافذة الى صميم التكونات التاريخية المجتمعية الحضارية وانعكاساتها العقلية والشعورية في هذه المرحلة من التاريخ العربي.] ص 212.
أي أنه في الخاتمة وصل الى أن التوفيقية هي جزء من «جوهر» الذات العربية «الآن!» لقد كان قوله سابقاً أن الذات العربية هي من جوهر خاص غير قابل للذوبان في «الجوهر الآخر» الغرب، لكن هذا الجوهر يتحول الآن، ويغدو مفارقاً لذاته، ويصير من جوهره أن يفقد جوهره!
أي أن العرب الذين كانوا محتفظين بهويتهم الخاصة المستقلة عن البشر تماماً، صارت هويتهم الخاصة أن يمزجوا بينها وبين هوية مناقضة لهم!
كنا نتصور أن المؤلف وقد تتبع الأصيل والوافد، وصراعهما، أن يضع خطوطاً حمراء عازلة، نستعيد عبرها الذات العربية الضائعة، في دنس التغريب، في الحضارة العالمية الشاملة الآن، أن يعيدها الى دائرتها الخاصة، نقية، عذراء غير مدنسة بحضارة الغرب «الكافرة»!، ولكنه يفاجئنا أخيراً بعد كل رحلة العذاب هذه بأن هذه التوفيقية هي جزء أصيل من تكوين الذات العربية الذي لا نستطيع له تغييراً!!
ويجد سر ذلك في عامل جديد، لم يُطرح ابداً، وكالساحر يستخرجه من قبعته ويقول: انها الجغرافيا!
يقول: [اما الانتقاد الموجه الى «التوفيقية» من الجانبين السلفي والعلماني فليس غير اشارة الى طبيعة الجدلية القائمة بين التوفيقية ونقيضها (السلفي والعلماني)، وغير تعبير عن نوع (الديالكتيك) الخاص بطبيعة الفكر والمجتمع المعاصر في هذا الشرق العربي «الأوسط» ليس جغرافياً فحسب، وإنما على الأرجح فكرياً وحضارياً!] ص 215.
هنا ينسف الكاتب كل مقولاته السابقة ويجعلها في مهب الريح، فالتوفيقية لا تغدو نزعة انتقائية معادية للذات الأصلية، بل تكوينا لابد منه، فرضته ظروف الجغرافيا، ولو كان العرب في استراليا مثلا ما كانوا توفيقيين!
ولعل في هذه الفقرة شيئاً من التراجع عن الأصولية المتزمتة، وفتح الأبواب لتعدد التيارات، رغم كونه مبنيا على أساس غير مبدئي، لأنه أقيم فقط فوق أساس جغرافي. في حين أن الوعي العربي الطليعي في مختلف مراحلة التاريخية كان يقيم جدلية عميقة مع العالم تبعاً للمصالح العربية وتطور المجتمع.
وأيضا سرعان ما يتراجع عن هذا الانفتاح وفي السطر التالي مباشرة: [وفي التحليل النهائي فإن الأهمية البالغة للأيدولوجية التوفيقية تنبع من حقيقة كونها تعبيراً عن واقع اللاحسم في الحياة العربية المعاصرة] ص 215.
هنا تغدو التوفيقية (أقرأها: الوعي البرجوازي الديمقراطي بتياراته) راجعة لأسباب تاريخية محددة وموقوتة بأسبابها، أي ليست قدراً جغرافياً. أي أمامنا فقط النزعة الأصولية (أقرأها: الوعي البرجوازي الفاشي ذو الواجهة الدينية) وهي الوحيدة الممثلة للذات العربية. في حين تمثل التيارات الديمقراطية والاشتراكية الغرب!
إن الفقرتين اللتين عرضناهما للمؤلف سابقاً تمثلان انتقائية خاصة به، فهو يضع رجلاً في التيار البرجوازي الليبرالي، ورجلاً أخرى في التيار الأصولي، منتظراً إنتصار احدهما ليضع قميه كلتيهما عنده!
إنه يقف بين الخطين المتصارعين في ذات الطبقة ليقول حينئذ . . كلمته!!
وهذه أسوأ أنواع التوفيقية!!!
https://abdullakhalifa.blogspot.com/2...
عبـــــــدالله خلــــــــيفة عرض ونقد عن أعماله
Published on September 22, 2019 07:46
•
Tags:
1-محمد-جابر-الانصاري
September 15, 2019
القائد والمناضل عبـــــــدالله خلــــــــيفة مفكراً وأديباً وروائياً بحرانياً
تميّز عبـــــــدالله خلــــــــيفة بالجمع في شخصيته بين المفكر اليساري والأديب والروائي والمناضل الذي لم يتراجع في كل الظروف عن أفكاره وعن مواقفه. وقاده إلتزامه بأفكاره التي دافع عنها بشجاعة الى السجن اكثر من مرة. لكن من اهم ما عرف عنه وهو في السجن، الذي أدخل إليه في عام 1975 من موقعه في قيادة جبهة تحرير البحرين، أنه لم يترك القلم لحظة واحدة. وصار معروفاً أنه ألّف عدداً من كتبه ومن رواياته على وجه الخصوص داخل السجن على ورق السيجارة. وكانت تهرّب إليه الأقلام و أوراق السجائر ليمارس عمله الأدبي و الفكري. وكانت تهرّب أعماله الأدبية من السجن و يعاد طبعها بانتظار خروجه من السجن لكي يتم نشرها. وهو بتلك الصفة التي ندر شركاؤه فيها تحوّل الى أيقونة بالمعنى الحقيقي المناضل اليساري الحقيقي و لصاحب الفكر النيّر.
تعرّفت الى عبـــــــدالله خلــــــــيفة عندما زرت البحرين في عام 2000، العام الذي كانت قد تحولّت البحرين من إمارة الى مملكة ذات دستور شبيه بمعنى ما بدساتير الممالك الدستورية. لبّيت يومذاك دعوة المنبر الديمقراطي الذي صار الناطق باسم جبهة تحرير البحرين والبديل منها في الشروط الجديدة. وأشهد أن تلك الزيارة قد عرّفتني الى تاريخ البحرين القديم والحديث. كما تعرفت في الآن ذاته الى العديد من قادة جبهة تحرير البحرين القدامى وقادة المنبر الديمقراطي الجدد. وكانت لي صداقات أعتز بها مع عدد من قادة جبهة التحرير، لا سيما في الزمن الذي كانت الإمارة قد انفتحت على القوى الداخلية والخارجية في عام 1973، وأجرت انتخابات نيابية نجح فيها ثمانية من أهل اليسار.
وكنت قد زرت البحرين قبل ذلك غير مرة في طريقي الى الهند واليابان و الفيتنام. ولا أنسى فرحي في احدى تلك الزيارات في عام 1980 عندما وجدت في المكتبات كتباً لمهدي عامل و كتباً لماركس.
في تلك الزيارة الأخيرة المشار إليها تعرّفت الى طبيعة التحول الذي كان يحصل في ذلك التاريخ في البحرين. وقد دعيت الى عدد كبير من الندوات التي تحدثت فيها عن قراءتي لذلك الحدث، الذي كان من أبرز عناصره الى جانب تحول البلاد من امارة الى مملكة دستورية، القرار الذي كانت قد اتخذته السلطات بالافراج عن جميع المعتقلين واستدعاء الذين عاشوا في المنفى لممارسة حريتهم في البلاد والسماح في تشكيل جمعيات واحزاب و نقابات ومنابر. وكان ذلك حدثاً مثيراً للدهشة في ذلك التاريخ وفي ذلك الموقع الجغرافي بالتحديد. وكان من بين الذين إلتقيتهم وزراء في السلطة الذين تحدثت إليهم عن معنى ذلك الحدث.
إلا أنني و أنا أستحضر اسم عبـــــــدالله خلــــــــيفة كمفكر وأديب وروائي مناضل لا استطيع الا ان اعلن لنفسي وللقارئ كم كنت معجباً بهذا الانسان. فهو الى جانب ما أشرت إليه من صفات فكرية وأدبية وسياسية كان إنساناً رائعاً بالمعنى الذي تشير اليه وتعبر عنه سمات الانسان الرائع بدماثته وبأخلاقه وبحسه الانساني الرفيع. لم أقرأ مع الأسف رواياته. لكنني قرأت بعض مقالات وقرأت جزءاً من موسوعته التي تحمل عنوان «الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية». وهو كتاب من أربعة أجزاء يحتل مكانه في مكتبتي. غير أنني وأنا أستحضر اسم هذا الانسان النبيل لا استطيع الا ان أتساءل عن الأسباب الداخلية والخارجية التي غيرت تلك الوجهة التي كانت يعبر عنها ذلك التحول الكبير الذي أشرت إليه.
من كتاب:
وجوه مضيئة في تاريخنا
أحداث وذكريات ومواقف
كريم مروة
تعرّفت الى عبـــــــدالله خلــــــــيفة عندما زرت البحرين في عام 2000، العام الذي كانت قد تحولّت البحرين من إمارة الى مملكة ذات دستور شبيه بمعنى ما بدساتير الممالك الدستورية. لبّيت يومذاك دعوة المنبر الديمقراطي الذي صار الناطق باسم جبهة تحرير البحرين والبديل منها في الشروط الجديدة. وأشهد أن تلك الزيارة قد عرّفتني الى تاريخ البحرين القديم والحديث. كما تعرفت في الآن ذاته الى العديد من قادة جبهة تحرير البحرين القدامى وقادة المنبر الديمقراطي الجدد. وكانت لي صداقات أعتز بها مع عدد من قادة جبهة التحرير، لا سيما في الزمن الذي كانت الإمارة قد انفتحت على القوى الداخلية والخارجية في عام 1973، وأجرت انتخابات نيابية نجح فيها ثمانية من أهل اليسار.
وكنت قد زرت البحرين قبل ذلك غير مرة في طريقي الى الهند واليابان و الفيتنام. ولا أنسى فرحي في احدى تلك الزيارات في عام 1980 عندما وجدت في المكتبات كتباً لمهدي عامل و كتباً لماركس.
في تلك الزيارة الأخيرة المشار إليها تعرّفت الى طبيعة التحول الذي كان يحصل في ذلك التاريخ في البحرين. وقد دعيت الى عدد كبير من الندوات التي تحدثت فيها عن قراءتي لذلك الحدث، الذي كان من أبرز عناصره الى جانب تحول البلاد من امارة الى مملكة دستورية، القرار الذي كانت قد اتخذته السلطات بالافراج عن جميع المعتقلين واستدعاء الذين عاشوا في المنفى لممارسة حريتهم في البلاد والسماح في تشكيل جمعيات واحزاب و نقابات ومنابر. وكان ذلك حدثاً مثيراً للدهشة في ذلك التاريخ وفي ذلك الموقع الجغرافي بالتحديد. وكان من بين الذين إلتقيتهم وزراء في السلطة الذين تحدثت إليهم عن معنى ذلك الحدث.
إلا أنني و أنا أستحضر اسم عبـــــــدالله خلــــــــيفة كمفكر وأديب وروائي مناضل لا استطيع الا ان اعلن لنفسي وللقارئ كم كنت معجباً بهذا الانسان. فهو الى جانب ما أشرت إليه من صفات فكرية وأدبية وسياسية كان إنساناً رائعاً بالمعنى الذي تشير اليه وتعبر عنه سمات الانسان الرائع بدماثته وبأخلاقه وبحسه الانساني الرفيع. لم أقرأ مع الأسف رواياته. لكنني قرأت بعض مقالات وقرأت جزءاً من موسوعته التي تحمل عنوان «الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية». وهو كتاب من أربعة أجزاء يحتل مكانه في مكتبتي. غير أنني وأنا أستحضر اسم هذا الانسان النبيل لا استطيع الا ان أتساءل عن الأسباب الداخلية والخارجية التي غيرت تلك الوجهة التي كانت يعبر عنها ذلك التحول الكبير الذي أشرت إليه.
من كتاب:
وجوه مضيئة في تاريخنا
أحداث وذكريات ومواقف
كريم مروة
Published on September 15, 2019 11:40
September 14, 2019
ماركس الرمزي وشبحية دريدا
إنها مسافةٌ كبيرةٌ تلك التي تفصلُ بين ماركس ودريدا، بين منظر الطبقات العاملة الغربية وبين المثقف الذي أسهمَ في صنعِ رؤيةٍ تـُسمى «التفكيكية». ثمة مهمةٌ تحويليةٌ للأول على صعيد تغيير موقع تلك الطبقات العاملة، فتغدو سياسية بالدرجة الأولى، في حين يتوجه دريدا لتغيير مفاهيم ثقافية وطرح فلسفة جديدة.
وقد خصص دريدا كتاباً لقراءة ماركس من خلال رؤيته، سماه «أطياف ماركس»، (الترجمة العربية للدكتور منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري، ط 2، 2006، الذي سوف نعتمدُ عليه في قراءة دريدا وليس ماركس).
يعبر الكتابُ عن خلاصة هذه الرؤية، كما أنه يعرض رؤيته الشبحية لماركس، حيث ترتكز على تحليلات أدبية، واستدعاء شبح هاملت كثيراً، ومناقشة الشبحية عموماً، وقد افتتح ماركس وأنجلز كتابهما المشترك «البيان الشيوعي» بعبارة «شبحٌ يحومُ على أوروبا، إنه شبح الشيوعية!».
تمثلُ اللحظتان: لحظة ماركس في سنة الثورة العمالية الأوروبية الواسعة سنة 1848 ولحظة دريدا سنة 1967 حيث كتب أبرز كتبه في هذه السنة في فيض إبداعي، عبر تأملات شخصية، مسافةً زمنيةً كبيرة، ليس في تدفق سيل الزمن المحض، بالسنوات والعقود، بل في تدفق الزمن الاجتماعي الثوري العالمي.
كانت الدعوة التي فجرها ماركس وأنجلز في تلك السنة من القرن التاسع عشر، عبر حيثيات اللغة المشكلة من تحليلٍ تلغرافي ونداءات شوارعية، تحمل خضم الزمن الاجتماعي في حينه.
تعتمد لغةُ «البيان» على مصطلحات عسكرية قتالية وتفرزُ بسرعةٍ وحدةٍ معسكرين اجتماعيين متصارعين:
«حر وعبد، نبيل وعامي، بارون وقن، معلم وصانع، وبكلمة ظالمين ومظلومين، في تعارض دائم، خاضوا حربا متواصلة، تارة معلنة وطورا مستترة، حربا كانت تنتهي في كل مرة إما بتحول ثوري للمجتمع كله، وإما بهلاك كلتا الطبقتين المتصارعتين».
هو تصويرٌ قتالي لتاريخ أوروبا الصراعي الاجتماعي، وليس لتاريخ البشرية، منذ أثينا وعبر ومضات حتى العصر الوسيط، بتركيز تلغرافي ورسالة غير مشفرة للبروليتاريا الأوربية "الحديثة"، من القائد المثقف الذي خرجَ من بين دخان خنادق الصراع الاجتماعي الملتهبة، وهذه اللغة الصراعية الحربية فيها ومضاتٌ من العلم التحليلي الاجتماعي، لكن الأدلجة الزمنية المؤقتة زاخرة فيها.
وتتركزُ الرسالةُ ضد الأنظمة الرأسمالية الراهنة التي انتصرت توا على الإقطاع:
«الشرط الأساسي لوجود الطبقة البرجوازية ولسيطرتها، هو تكديس الثروة في أيدي خواص، تكوين الرأسمال وإنماؤه. وشرط وجود الرأسمال هو العمل المأجور. والعمل المأجور يقوم، حصراً، على المزاحمة بين العمّال. وتقدّم الصناعة، الذي تُشكّل البرجوازية دعامته بلا إرادة منها وبلا مقاومة، يُحِلّ وحدة العمّال الثورية عبر الترابط محل انفرادهم الناتج عن تزاحُمهم. وهكذا فإنّ تطور الصناعة الكبيرة يزلزِلُ تحت أقدام البرجوازية، الأساسَ الذي تُنتج عليه وتتملّك المنتجات. إنّ البرجوازية تُنتج، قبل كل شيء، حفّاري قبرها، فانهيارها وانتصار البروليتاريا، أمران حتميّان».
وتـُرسم الأوضاع هنا بذات اللغة العاطفية المتأججة حماسة وفيها موضوعيةٌ ترقصُ على لهب، والخندقان واضحان، والموت الاجتماعي لاحدى القوتين قريب وأكيد، حين تلغي البروليتاريا المزاحمة بينها، ويتكفل وضع التقدم الصناعي نفسه بالقضاء على البرجوازية، فيجري هنا الرسمُ الاختزالي للموقف الراهن وتحويله إلى أمر سياسي. تاريخ البروليتاريا كقسم ذليل ومتخلف من السكان غير مرصود، وتاريخ الإنجازات الرأسمالية غير مرصود، وثمة معركة لابد أن تنتهي بانتصار القسم المعدم غير المبحوث في وعيه ومستوياته. غائيةُ السياسة هنا أكبر من التحليل العلمي.
وتتحول سرعة التحليل المقتضب العاطفي المتكهرب في نيران أوروبا في سنة 1848 إلى سياسة عالمية موزعة على كل الأقطار:
«وأخيرا يعمل الشيوعيون، في كل مكان، على إقامة العلاقات، وعلى تحقيق التفاهم بين الأحزاب الديمقراطية في جميع البلدان. ويأنف الشيوعيون من إخفاء آرائهم ومقاصدهم، ويُنادون علانية بأن لا سبيل لبلوغ أهدافهم إلا بإسقاط النظام المجتمعي القائم، بالعُنف. فلترتعد الطبقات السائدة خوفا من ثورة شيوعية. فليس للبروليتاريين ما يفقدونه فيها سوى أغلالهم وأمامهم عالم يكسبونه. أيّها البروليتاريون، في جميع البلدان: اتحدوا بين التشريح الاكلينيكي المختزل لطبقات أوروبا (الغربية) وأمريكا الشمالية في طبقتين اثنتين فقط ومتصارعتين فوق خندق الغرب، حيث لم تكن بقية العالم سوى ناقعة في الإقطاع، يتم التوصل للأوامر العسكرية الموجهة لـ «الفصائل» بإسقاط النظام المجتمعي القائم».
إنها تعابير حاميةٌ ومتناقضةٌ، فتحويل معسكر أوروبا الغربي في بضع مدن مشتعلة وسحبه إلى جميع أقطار العالم، للقضاء على نظام مجتمعي بشري تم اختزاله هو الآخر، وتنمَط في شكل مجرد، ومع هذا التجريد الحاد، فإن الشيوعيين حسب صيغة البيان هنا مدعوون كذلك للتفاهم بين الأحزاب الديمقراطية في جميع البلدان.
هل ثمة أحزاب ديمقراطية في جميع البلدان؟ وهل يمكن الحوار مع الديمقراطيين وأنت مدججٌ بكلِ هذه اللغة العسكرية؟ وكيف يمكن الحوار هنا وأنت لديك مشروع كوني لإزالة كل من يختلف مع البروليتاريا؟
في غمرة ما هو كائن في تلك السنة الحامية الأوروبية ثمة تنوعات وبقايا أنظمة ومستويات أوروبية وأمريكية متفاوتة، وثمة علاقات بين أوروبا الغربية هذه والعالم، أي هنا الكثير من التفاصيل والمعطيات الجوهرية كذلك التي لا تُؤخذ في مثل هذه اللحظة الاختزالية، لكنها حين تـُصاغ في بيان تاريخي ينتشر ويتغلغل في الأبنية الاجتماعية المختلفة المتفاوتة التطور، يحدثُ لها انفصالٌ عن لحظتِها الخاصة، وتغدو ذاتَ نمو مستقل، فتصبحُ لغةُ البيان عالميةً فعلاً، أي ان الزمنَ الاجتماعي هنا يحلقُ بها، ويغدو طيرانها معتمداً على سرعة الرياح الاجتماعية.
إن الزمنَ الاجتماعي يحلقُ بلغةِ (البيان) في جميع أقطار العالم، وهذا التحليق مؤاتٍ لأسبابٍ كثيرة.
إنها لغةٌ سياسيةٌ اجتماعية إبداعيةٌ تنفصلُ عن لحظتِها المدموغة بذاك النمو النسبي ذي التاريخية المحددة، وهي تستوعبُ صراعاتهِ العامةَ المجردةَ - الملموسةَ، وتحيلُها إلى مخططٍ مجرد، فـُتسقطُ أوروبيتَها على بقيةِ أنحاء العالم، وقد رأينا كيف كان تمثُل الصراعات الاجتماعية الأوروبية في فقرةِ البيان؛ (حرٌ وعبدٌ، ونبيلٌ وعامي إلى آخر الفقرة)، تشيرُ إلى تحليلٍ لتاريخٍ أوروبي واضح وصريح، من دون أن تظهرَ بالمقابل تحليلاتٌ للشرق، أو حتى للغرب اللاتيني، ونحن نعرفُ كيف اهتم ماركس بتحليلِ أمريكا الشمالية التي هي امتدادٌ لأوروبا الغربية، ولكن ماعدا أقطار الرأسمالية الغربية المتطورة هذه، فإن بقيةَ العالم تقعُ في الظل، ومن هنا حين تعولمُ لغةُ البيانِ الشيوعي، وتصدرُ أوامرَ للعمال في جميع أنحاء العالم تقومُ بأوروبةِ الحركة العمالية العالمية منذ البداية، وتسحبُها إلى مستواها، وتجعلُ مهماتِها السياسية مهماتٍ عالمية.
تلعب لغةُ البيانِ العاطفيةِ الهائجة والموضوعيةِ المتداخلة بها، دوراً أكبر من أي كراس وكتاب ماركسي آخر! إنها لغةٌ حميمة، وناتجةٌ من كفاحِ شوارع صاخب، ومن تراكماتٍ فكرية كبيرة لبعض المثقفين الألمان بدرجةٍ خاصة، والصياغة ذات تراكيب معينة مبهرة:
(ويأنف الشيوعيون من إخفاء آرائهم/ فلترتعد الطبقات السائدة خوفاً).
(شبحٌ ينتابُ أوروبا - شبح الشيوعية. ضد هذا الشبح اتحدتْ في طراد رهيب قوى أوروبا القديمة كلها: البابا والقيصر، مترنيخ وغيزو، الراديكاليون الفرنسيون والبوليس الألماني).
إنها لغة أدبية شعرية قصصية متداخلة، وتحولت الأفكارُ إلى لوحاتٍ، بأسلوب شعبي متأجج بالكرامة، و(البيان) بهذا يتابعُ الكتبَ الدينية بلغاتِها التعبيرية الأخاذة، كما أنه يتحول إلى دعوةٍ دينيةٍ بهذه الإطلاقية والتعميمية المفارقةِ للظروفِ المتباينة للقارات والشعوب، فألغتْ العلميةَ، في غيابِ تحليلاتِها الجزئيةِ الدقيقة لكل الأرض، وصادرتْ الأبحاثَ المُفترضةَ بفرضِ لغةٍ جاهزة، وبشعاراتٍ من مستوى أوروبي، تتشكلُ فيه حرياتٌ كبيرةٌ نوعاً ما، وقد أبعدَ الأديانَ عن السياسة المسيطرة، في حين انه عندما تنتقلُ لغةُ البيانِ هذه لشعوبٍ أخرى تعيشُ في ظروفٍ مختلفةٍ من حيث الصناعة والحريات والثقافة، فإن لغةَ البيان المقاربة للدين لغةً، ووعداً بتحقيق الجنة، الأرضية هذه المرة، تصيرُ لها قراءات مختلفة ومقبولة لأسبابِ الزمن التاريخي المتنامي، فالأوروبةُ تغدو قبل عدة قرون من صياغة (البيان) عالمية في استغلالِها للموارد الخام في القارات الأخرى، وتغدو رحلاتَ استكشافٍ وغزواً وفرضَ حماياتٍ تجارية وتغلغلاً للجيوش الخ..
إن الزمنَ التاريخي الراكد لعصورَ الإقطاع، حيث البشرية مفتتة إلى قارات وعوالم ذات صلات واهنة، يتسارعُ بشكلٍ كبيرٍ عبرَ زمنِ الآلة، التي تقومُ باختزالِ المسافاتِ الجغرافية أولاً، ثم بنشر العلاقات الرأسمالية في العديد من البقاع، واختراعاتها المختلفة وأنواعها الأدبية والعلمية والثقافية عموماً، وكلُ حدثٍ من هذا هو تسريعٌ للزمن الأوروبي، الذي يغدو زمناً عالمياً متسارعاً. إن تعددَ الأزمنةِ في زمانٍ عالمي كبير، تفرضهُ تشكيلةٌ عالميةٌ واحدةٌ هي التشكيلة الرأسمالية أخذتْ تبزغُ من عصر النهضة، من قلبِ أوروبا الغربية، لكن لهذه التشكيلة مستوياتِ تطورٍ مختلفةٍ، فمن بلدان تضخُ الموادَ الخام، إلى بلدانٍ تصنعُها، إلى بلدانٍ تتداخلُ فيها هذه العملية المركبة، فتظهرُ أزمنةٌ مختلفةٌ للتشكيلة الرأسمالية التي تتحول من أوروبية إلى كونية، لكونِها أوجدتْ أمكنةً مختلفةً لها، تجرى فيها عملياتُ إنتاجٍ متعددةٍ الأشكال. فيتسارعُ الزمنُ في جانب ويبطىءُ في جانب آخر، ثم يتداخل في زمانٍ متقاربٍ متنوع كذلك، لأن وحدة التشكيلة لا تتم بشكلٍ تام.
تستطيع لغةُ (البيان) أن تنفذَ لعمالِ العالم مع مرورِ هذا الزمنِ الاجتماعي، المتعددِ المستويات، فالبلدانُ الرأسماليةُ المتطورة تستوعبها، بشكلٍ يعبرُ عن مستواها، فهي تهضمُها ببطءٍ، وان المطالبَ المباشرة للعمال تحظى بلغاتِ اهتمام متنوعة، من قمعٍ في البلدان الأقل تطوراً والتي تعيش في بقايا إقطاعٍ مؤثرٍ كأسبانيا، في حين تتحقق تلك المطالب المباشرة في انجلترا وهولندا وفرنسا، أما المطالب الكبرى بسيطرة العمال على الحكم وإلغاء الطبقات فلا تتحقق، ليس فقط لنمو الرأسمالية وتوسعها خارج بلدانها وإنشائها لمستعمرات وارتفاع مستوى معيشة عمالها، بل كذلك لعدم إمكانية تحقق الاشتراكية أو الشيوعية، في هذه القرون. إن الرأسمالية الأوروبية هي قائدةٌ لتشكيلة عالمية، تظهر هنا في بداياتها، وعبر استعمارها تقوم بنشرها، وتغدو هي في ذروتها.
إن التشكيلة الرأسمالية كتشكيلةٍ عالميةٍ كانت تحققُ بعضَ زمنيتِها المحدودة في القرن التاسع عشر. إن أي تشكيلةٍ تغدو تشكيلةً بشرية، لترابط تاريخ الإنسان، والتشكيلة البشرية لها زمنيةُ مئاتِ السنين، لقيامها على قوى إنتاج محددة تنتشر وتغدو عالمية وتتعرض للاصطدام بعلاقات إنتاج تغدو قيوداً فتحدث عمليات الثورات عبر مستويات بشرية مختلفة لتصعدَ علاقاتُ إنتاجٍ جديدة، ثم تزولَ عبر قرون كذلك. لقد عرفنا ذلك تطبيقاً على التاريخ الأوروبي في؛(مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي) لكن تبلورها وفهمها البشري لم يكن ممكناً في تلك الافتتاحية للزمن الرأسمالي، إن الزمنية هنا مهمة، لكن البيان يختزلها.
إن جمل (البيان) الأولية التي قرأناها مراراً مهمة هنا كذلك، لتجعلنا نحسُ بإيقاعِ الزمنِ السريع المؤدلج:
(حر وعبد، ونبيل وعامي/ فلترتعد الطبقات السائدة/ يا عمالَ العالم اتحدوا)، إيقاعُ اللغةِ هنا المتسارعُ من الأوروبي للكوني، يقفزُ على عدةِ ألوف من السنين: التشكيلة العبودية لها أكثر من خمسة آلاف سنة! التشكيلة الإقطاعية تقارب الألفين أو أكثر، الرأسمالية الصناعية الأوروبية لها قرنان أو ثلاثة قرون بالكثير!
لكن وعي ماركس بكون التشكيلة أوربية/ عالمية، يختزلُ تجاربَ الشعوب الأخرى عبر النيابة الأوروبية، ويختزلُ التشكيلةَ نفسها، قبل أن تكونَ بشريةً، وقبل أن تتجلى على هذه المساحة الأرضية الواسعة، وتدخل فيها قوى إنتاج البشرية كلها لتتجاوزها عبر تباين مستوياتها وقواها كذلك.
تتمكن لغةُ (البيانِ) من الاستحواذ على الألبابِ الشرقيةِ خاصةً وهي تدخلُ التاريخَ العالمي. كان البيانُ قد دخلَ في حلقةِ التاريخ الأوروبي لكنه لم يشكلْ التحولات التي وَعد بها، لكن العواصفَ انتقلت لآسيا.
إن التاريخَ الأوربي المعاصر فككَ لغةَ البيان عبر زمنيتهِ الخاصة، فقبلَ بالنسبي فيها ورحل المطلقَ إلى تاريخ الإنسانية الكلي القادم، تخلى عن ماركس الشاب وقدر ماركس الكهل، وناضلَ من أجل تغيير معيشة الطبقات العاملة، ولم يعطها فرصةَ الحكم وتغيير البناء الرأسمالي، فظلت أحزابُ النسبي كالأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في الواجهةِ والحكم لأنها آمنت بالنسبي ورحلتْ المطلقَ، وغيرتْ ما تعلق بالنسبية الاجتماعية، متفهمة النظامَ الرأسمالي، في حين قاومت أحزابُ المطلق هذه النسبية المحدودة في تصورها واستمرت في العمل لإزالة الرأسمالية تماماً خاصة الأحزاب الشيوعية، فرحلتْ مع المطلق القادم غير العائش في النسبي.
لكن هذه النسبية أخذتْ تتعمق، وعلى العكس فإن الرأسمالية أخذت تنتشرُ بتوسع، وتتعمقُ في شرق أوروبا وجنوبها، ودخلت أوروبا في حروب منهكة دمرت الكثير من قواها العاملة، فراحت تتحدُ في رأسماليةٍ قارية، ثم ان الرأسماليات الكبرى في العالم راحت تتطورُ تقنياً بشكلٍ هائل، وحدث نقصٌ في قواها العاملة، واستدعتْ قوى العالم الثالث إليها، وثوّرت قوى الإنتاج ودخلتْ مرحلة أكثر تطوراً في التقنيات، واستغلت القارات الأخرى بتوسع.
وهي سلسلة من التطورات المعقدة جعلت الخصمين الاجتماعيين البروليتاريا والبرجوازية يعيشان في صراع نسبي سلمي طويل، لكن ظلَ الحراكُ الفكري لدى الفئة الوسطى الصغيرة، (البرجوازية الصغيرة) هذه التي سوف توجد كل أنواع الفنون والآداب والفلسفة وغيرها، وسوف تستمرُ بصخب وثورة في الفراغ المطلق وفي الوجود النسبي وفي تفجيرٍ للأشكالِ المجردةِ في الفنون كالتعكيبية والسريالية، وفي المسرح اللامعقول وفي الرواية: الرواية المضادة وغلبة تيار الوعي، وفي الفلسفة سوف تحتل الظاهراتية الأداةُ التكوينيةُ للمعمارِ الفلسفي المكانَ الأبرزَ في تشكيلِ عماراتِ الفلسفة الكبيرة: الوجودية، والبنيوية، والتفكيكية الخ.
إن تكون وعي البرجوازيات الصغيرة في هذا الحراك يستندُ إلى (جمود) الخصمين الاجتماعيين العمال والبرجوازية، وهو جمود يبتعد عن صياغة أشكال الوعي بشكل عام. فالمواد الخام قد تأتي منهما، ولكن القيام بالثورات الفكرية والتعبيرية سيتركز في هذه الفئات المطحونة والقلقة والمنتجة الفكرية، بين قوتي الرحى الرأسمالية، وإذا كان للطبقتين الكبريين المتصارعتين إنتاجٌ فكري، فعبرها كذلك، فهي التي تتداولُ البضائعَ الفكرية السابقة، وتفحصها بين فئاتها المتنوعة، وقد رفضت كلتا الأداتين الفكريتين للطبقتين السابقتي الذكر، وهما الماركسية والليبرالية السياسية، اللتان تتمحوران حول توجهات المادية الجدلية أو المادية السوقية. كان لابد لها من الاستقلال والتفرد، من رفضِ المادية خاصةً كفلسفة، فرفض المادية يعني رفض عمليات الحفر في البُنى الاجتماعية وتحليل الظاهرات والتغلغل في اكتشاف القوانين الاقتصادية والاجتماعية والفكرية، وهذه عملية تربطها بالكادحين، وبنقد عالم الرأسمالية الموضوعي وبكل الحراك الصراعي الذي ينجمُ عنه، من تشكيل ثورات فكرية في الجامعات ووسائل الإعلام المختلفة، لكن كل هذا لا يدخل في السوق الرأسمالية، فعالمُ الرأسمالية الفكرية قائمٌ على المادية السوقية، بكل ظلالِها، من صعود لرمزيي البرجوازية الصغيرة وتحويلهم إلى نجوم في الفلسفة والأدب والفنون، كمستوى راقٍ للثقافة البرجوازية، أو تحويلهم إلى منتجي أدب فضائحي وفنون سوداء مختلفة تجذب وتكسب الملايين. إن البرجوازية المالكة هي التي تحدد توزيع الإنتاج الثقافي وأقسامه ونموه، والبروليتاريا هي المستهلك الأكبر، التي يوجه الإنتاج الثقافي لتخديرها أو لتشجيعها على الإنتاج وعيش التسلية بعد هلاك العمل.
في المستوى الراقي لعبت الأدواتُ الظاهراتية دورها كركيزة لهذا العالم الثقافي المتنوع الواسع ذي الآثار الهائلة، وقد ارتكزت عموماً على رفض الاعتراف بالواقع، وشكلت واقعاً مختلقاً، هو الكلمة أو الأدب أو البُنية أو الرموز المقطوعة عن البنى الموضوعية للعالم.
كان هذا الخيارُ هو خيارٌ طبقي بامتياز، كان إلغاءً لعالم الطبقتين المتصارعتين، ورفضَ أعتبارهِ أساساً للوعي. وهو جاءَ بسبب تلك النسبية التي أشرنا إليها، وكون إطلاقية ماركس وتلك الدعوة الثورية لكسح البرجوازية لا تستند إلى أساس راهن.
وهي الدعوةُ المباشرةُ التي تخلى عنها في كتابه الناضج التاريخي(رأس المال)، ولكن الفصائل التي دعاها للعمل كانت قد نهضت في أقطار الأرض على إيقاعات الزمن الاجتماعي المختلفة، والتصقَ (البيانُ) بها أكثر بكثير من رأس المال. لما قلنا من نضاليته الشعبية البسيطة، ولاختزاله، ولخياليته في جانب ولعلميته في جانب آخر، وتركزت الدعوة عند من يستفيد منها بدرجة أساسية وهم العمال.
صار للبيان ولهذه الماركسية مساراتٌ مختلفة، لطبيعة محتواها المتعدد الوجوه ولتناقضاتها الفكرية الداخلية، ولنموها في قاراتٍ مختلفة، التحقتْ بالرأسمالية على أنحاء متفاوتة في الزمن وفي الأشكال والمراحل.
وفي حين سارت لغاتُ (البيان) بوفرةٍ واتساع هائل في الشرق مشتْ ببطءٍ في الغرب، وكان هذا التناقضُ البارزُ وجهاً لتناقضٍ عميقٍ أخذَ يتكشفُ بقوةٍ هائلةٍ في التاريخ البشري المعاصر. كان الغربُ يصيرُ هو المالكُ الأساسي للخيرات، هو الاستعمار المهيمن على المواد الخام الثمينة والرخيصة، هو المحولُ لها: ثرواتٍ أسطوريةً وتقنيات رفيعة وطبقات مستمتعة ثرية وخدماً فكريين وفنيين كثيرين، وعلماء متخصصين لتطوير المصانع وتضليل العالم الخ.
كانت الطبقتان المالكة والعاملة تصنعان السلعَ المادية وكانت البرجوازية الصغيرة تصنعُ السلعَ الثقافية.
إن التناقض الكبير بين الغرب والشرق، تأسس في مرحلية الاستعمار بين (الشرق العامل البروليتاري والشرق المالك البرجوازي). هذا ما تعمم في فترة بين نهاية القرن التاسع عشر ومنتصف الخمسينيات من القرن العشرين.
إن هذا التعميمَ ايديولوجي مضللٌ بطبيعة الحال، ولكنه كان يمتلك شيئاً من الموضوعية أيضاً. وفي انتقال الماركسية الشعبوية المعتمدة على (البيان) قامتْ بالارتكاز على مثل هذه التعميمات ثم جرتها لتاريخ الشرق.
في (اللينينية) تكرست شعبوية البيان، الذي كانت له امتدادته في كتب ماركس، مثل (الايديولوجية الألمانية) حيث يدعو للثورة البروليتارية من دون ضرورة لوجودِ أسسٍ واسعة للنظام الرأسمالي، وهذا كان لينينيةً ألمانيةً، لكن حتى هذه (الايديولوجية ..) لم تـُطبع في حياة ماركس، فغدت الماركسية تمشي كدين مقدس.
أي أن لينين في توجهه لثورة اشتراكية لم يكن يصدر من وازع شخصي محض، وكان اختراق مسألة التشكيلة الرأسمالية وتجاوزها قد بدأ من ماركس نفسه:(حر وعبد، ونبيل وعامي/ فلترتعد الطبقات السائدة/ يا عمال العالم اتحدوا). إن إمكانية اختراق نظام رأسمالي - إقطاعي، وإقامة نظام ديمقراطي، وذي إصلاحات تقدمية، مختلف عن تحطيم التشكيلة الرأسمالية.
إن النظامَ الرأسمالي يختلفُ عن (التشكيلة) الرأسمالية، فإزالة التشكيلة أمر يعني إزالة مفردات النظام الرأسمالي الأولية كالنقود والدولة والطبقات والسوق.. الخ، ويعني نظاماً عالمياً، لكن تغيير النظام الرأسمالي وتمزيق جوانب كبيرة منه ليس مثل ذلك.
هذا الخلط بين النظام والتشكيلة، بين الإصلاحات وإلغاء الرأسمالية، كانت قد صُوبت من ماركس نفسه في رأس المال، من دون وضوح كلي منه، وليس في البيان كما أشرنا سابقاً، لكن هذا التصويب تم تجاهله وراحت الحركة الماركسية في الشرق ترتكز على البيان بدرجة أساسية.
وفي تطبيق الثورة الروسية سنة 1917 وبعد التأميمات وغيرها عادت إلى السوق والنقود وتطوير الرأسمالية سنة 1921، بعد أن حُجمت الدكتاتورية اللينينية لكن الدكتاتورية الروسية العامة لم تـُحجم بل تفاقمت.
هذا جعل من الماركسية بالنسبة إلى أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية مجموعة من الأشباح السياسية والعسكرية على قول دريدا، لكنها بالنسبة إلى جزء كبير من الشرق ظلت حليفاً مهماً ثم قائداً كونياً.
مهما كانت النتائج للبيان فإن ماركس ظهر كشخصية عالمية فاعلة في تاريخ الرأسماليات، كنقيض لها وكمؤسس لها أيضاً! بين أن يكون قائداً لزوال الرأسمالية وقائدا لتشكيل الرأسمالية، هذه هي القراءات المعقدة للشعوب، في تفاوت مستويات تطورها، وفي تباين فهمها للماركسية.
سوف نحاول أن نرى ذلك عبر قراءة دريدا للماركسية عبر كتابه السابق الذكر: (أطياف ماركس). هذا الباحث الذي تم الاحتفال بأعماله في البحرين وصدر كتابٌ عنه هذه السنة .2009
لا يُذكر هذا الباحث الفرنسي المولود في الجزائر بأي شيء مثير، ربما حادثة واحدة صغيرة اضطُهدَ فيها، لكنه باحث غارق في الكتب والأبحاث. هو جزء من ذلك المناخ الذي أشرنا إليه، حيث الفئات الوسطى الصغيرة التي تم صُنع شريط فكري لها من قبل البنية الرأسمالية المسيطرة، عبر الظاهراتية الممتدة من كانط، التي يقومُ فيها الفكر بمناقشة سطوح الظاهرات المتبدلة دوماً في موجات أشبه بموضات الملابس والتسريحات، وهو حين رفض تحليل الواقع كبنية، لم يرفض أن يحلل ظاهراته المتطايرة منه، المفصولة عنه، تجنباً لخروجه من دائرة التداول السلعي، ومن الاصطدام بجذور الواقع والسلطات، رغم أن ذلك لم يكن كلياً، فهناك بعض التيارات التي استندت إلى تطور الوعي الديمقراطي والوعي التقدمي وطورت أدوات التحليل كذلك كالبنيوية الوظيفية مثلاً.
إن موجات الوعي هذه الأشبه بالموضات تغدو أشباحاً، فهي أشبه بالنجوم فترة ثم تغوص في مياه العتمة، لا يبقى منها شيءٌ كثير، تزول لعدم ارتباطها بموجات اجتماعية كبيرة، ولهذا نرى دريدا يكرس كتابه لمناقشة الأشباح حين يناقش شخصية ماركس التي (ملأت الدنيا وشغلت الناس).
شخصية باحثة مثل دريدا انجذب ليناقش الأشباح حين يناقش تلك الشخصية الحافلة بالأحداث والمؤججة للأحداث، ويملأ كتابه الشديد الغموض بهذه المناقشات التحليلية المجردة الملموسة المتقطعة المتناثرة، الأدبية، داخل كيان يفترض أن يكون غير أدبي، لكون الظاهرات الأدبية توجه التحليل خارج البنى الاجتماعية المرفوض تحليلها والغوص فيها بأوروبا والعالم.
لدينا أشباح كثيرة وأهمها شبح الملك هاملت من مسرحية شكسبير المعروفة. ويقوم بربط شبح هاملت بشبح الشيوعية الوارد في (البيان) وفي كتب أخرى لماركس.
يظهر شبحٌ في بداية مسرحية هاملت للأمير الابن هاملت ويدعوه للانتقام لمقتل أبيه. الشبح هو الأبُ القتيل نفسه، ويظهر في حالة درامية عنيفة مليئة بالظلال التعبيرية، ويتشكل كقفزة غير واقعية، مضادة للمسار التكويني الواقعي للبناء الدرامي الشكسبيري هنا. إن هذا القطع الايديولوجي في هذه المسرحية الواقعية، يرتبط بمسارات لا فنية، وأسطورية شرقية، لكنها أُخذت كتفعيل للفعل الدرامي من الخارج، من الوهم.
بين الجذور الأسطورية الشرقية للشبح، وظهور المسرحية الشكسبيرية هذه في بداية عصر النهضة الأوروبي، العقلاني المتنامي، ثمة قطيعة كبيرة مع النص الماركسي، مع مفردة الأشباح التي ظهرت في البيان. ولكل مقطع في سياقه الزمني، وبنيته، دلالات.
لكن دريدا ضخم تضخيماً كبيراً من (الشبحية)، وغدت مسرحية هاملت هي المحللة، وغُيّب ماركس كثيراً، فهذه تحدث القطيعة مع النص الماركسي في بنيته الاجتماعية، وقطعه عنها، وتعليقه في الفضاء الشبحي، ثم إطلاق العنان للخيال والمنولوجات الذاتية والتدفق اللغوي ذي العتمة الشديدة والتعميمات الغريبة الغامضة ثم ظهور لبعض التحليلات السياسية المفاجئة العميقة الجيدة الطالعة بجزر نائية لا تمتلك أي علاقات مع الشبحية تلك ثم العودة الدائمة للشبحية الشكسبيرية.
يدعو دريدا في كتابه (أطياف ماركس)، إلى قراءة ماركس ويقول:(وسيكون من الخطأ إذا لم يُقرأ ماركس وتـُعاد قراءته ومناقشته)، ص .41
يبدو ماركس هنا باستمرار كشبح، كطيف زائل، (ولابد من تقدير جهوده على الأقل)، والاعتراف بدوره!
إن الأشباحَ تحيي ذواتها وتشبحُ الرموزَ التاريخية الباقية في بحار الزمن الاجتماعي، إنها هي التي ذابت أو تكاد تغرق في موضات الوعي السائد، وفي موجات الوعي المُبتلعة، والتي تصيرُ نجوماً في سماء الاستهلاك الثقافي تتصورُ انها الركائز الباقية، وليست أشباحاً، ليست جزءًا من حطام ثقافي، قابل للتجدد في حطام آخر وهكذا.
والاهتمام بماركس كشفقةٍ فكريةٍ غربية ضرورية لأسباب:
(ومنذ اللحظة التي أخذت فيها آلة الدوغمائيات والمعدات الايديولوجية(الماركسية): (دول، أحزاب، خلايا، نقابات، وأمكنة أخرى من أمكنة الإنتاج العقدي) بالاختفاء، فإنه لم يَعُد لنا عذر)، ص .41
لقد زالت الشموليات الشرقية الاشتراكية وأصبح لماركس إذًا مكانة ما. إن غياب التحليلات الموضوعية تقود إلى نتائج إحسانية مثل هذه.
لقد رأينا كيف انتشرت الأفكار الماركسية في الشرق وفي أمريكا اللاتينية بشكل عاصف، وكيف قُرئت هذه الأفكار في كثير من الأحيان، بمستويات تناقضاتها الداخلية: أي بكونها دعوة للثورة الاشتراكية الراهنة، وبكونها قراءات إصلاحية لأنظمة متخلفة ولأنظمة رأسمالية متطورة كذلك. إن فقرات كثيرة في(كتاب البيان) (تكرر ذكره أكثر من عشر مرات في كتاب الأطياف) و(كتاب الايديولوجية الألمانية) (تكرر أربع مرات)، هذان الكتابان الشبابيان غير الناضجين لماركس وأنجلز، قد تم نشرهما باعتبارهما هما الفكر الماركسي وفيهما فقرات تدعو للثورة الاشتراكية المباشرة العنيفة وإزالة الطبقات فوراً وغيرها من المهام التي تتحقق في قرون وبشكل متدرج.
وحين اتحدتْ هذه الفقراتُ بثوراتِ الشرق الاجتماعية والوطنية تحولتْ الأنظمةُ إلى الاشتراكيةِ المُزيّف فهمها، التي صارت متحدة بالغيب الديني (الماركسي)، وهي ليست سوى رأسماليات حكومية، ودكتاتوريات، أُنجزتْ فوق ضلوع العمال، ولكنها في مجريَي التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي لدول الشرق حققت إنجازات اقتصادية كبرى، وأخطاء رهيبة كذلك، ثم تقزمت كثيراً وتشوهت بشكل هائل في دول صغيرة الخ. وقد تداخلت فيها الثنائيات المختلفة: ديمقراطية ودكتاتورية، ماركسية عمالية وبيروقراطية رأسمالية، تضحية واستغلال الخ.
لكن هذا لا يعني توقف التجربة وعدم إعادة إنتاجها بشكل ديمقراطي، وهذا يتطلب من باحث أن يقرأ ذلك ولا يعتمد على الاختزالات والظلال الأدبية السريعة المروق وعلى تيار الوعي والرموز الفلسفية المبهمة في خضم قراءة مارد سياسي.
لكن الوصول إلى الاستنتاجات الفكرية يبقى هو المهم، إن الجمل الماركسية المقطوعة السياق التي غدت في اللينينية حجر الزاوية، تبقى مجرد وقود في حطب آسيوي، ومجرد تحريك لدكتاتوريات قومية كامنة كبرى، وفيها كذلك أدوات اجتماعية وسياسية مستمرة، ونهضة لملايين الكادحين، لكن المهم والباقي ليست تلك الفقرات غير الموضوعية، لكن ما يبقى هو المنهجية، أي درس الظاهرات في خضم البُنى الاجتماعية واكتشاف قوانينها. هذه التي ترفضها أغلبية الفئات الوسطى الصغيرة المتذبذبة في الغرب والشرق، والمتلاعبة فوق حبال صراع الطبقات، الراكضة وراء مصالحها المحدودة، التي تصنع منها رؤىً.
إن شبحية شكسبير في مسرحية هاملت تعودُ لتضييعهِ قوانينَ السببية الاجتماعية، مثلما ضيعها دريدا، وفي الأدب يغدو ذلك فناً، وفي الفلسفة يصيرُ غفلةً، لكنه يعتمد على نظرة الكاتب الذي توصل لبعض السببيات الاجتماعية ودمجها في إبداعه، ولم يتوصل لسببيات أخرى، فتغدو ثغرة في الوعي الواقعي المباشر السائد في المسرحية الشكسبيرية، وهذه الشبحية الافتتاحية المُشعلة لحدث المسرح والمفجرة لشخصية هاملت، تعود لطابع السحرية الباقي الذي يدخل كتعويض عن ذلك الفقدان التحليلي، وهو أمرٌ سيغني تفكيكية دريدا في عدم تحليل ماركس.
أما ترديد ماركس للشبحية فهو يأتي في مسار آخر، وفي لغة تعبيرية أخرى، وفي بنية أخرى، في لغة صراع سياسي كوني، في مبارزة غير متكافئة بين طبقات شعبية صاعدة وأعمدة المال والطغيان في أوروبا منتصف القرن التاسع عشر، ويـُقصدُ فيها استخدام اللغة الدينية السحرية على سبيل السخرية، هذه اللغة السائدة في الرموز التي وجه إليها النقد ذاك. هي عملية تقزيم لتلك الرموز السائدة في الحكم، وإعلاء للعمال على مسرح الحقائق والعلم كما يتفهمه، كما يشير دريدا نفسه في بعض مواقع الكتاب الخاطفة.
https://abdullakhalifa.blogspot.com/2...
الكتاب الأول: رأس المال الحكومي الشرقي، الكتاب الثاني: لينين ومغامرة الاشتراكية 2016.
رأس المال الحكومي الشرقي
وقد خصص دريدا كتاباً لقراءة ماركس من خلال رؤيته، سماه «أطياف ماركس»، (الترجمة العربية للدكتور منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري، ط 2، 2006، الذي سوف نعتمدُ عليه في قراءة دريدا وليس ماركس).
يعبر الكتابُ عن خلاصة هذه الرؤية، كما أنه يعرض رؤيته الشبحية لماركس، حيث ترتكز على تحليلات أدبية، واستدعاء شبح هاملت كثيراً، ومناقشة الشبحية عموماً، وقد افتتح ماركس وأنجلز كتابهما المشترك «البيان الشيوعي» بعبارة «شبحٌ يحومُ على أوروبا، إنه شبح الشيوعية!».
تمثلُ اللحظتان: لحظة ماركس في سنة الثورة العمالية الأوروبية الواسعة سنة 1848 ولحظة دريدا سنة 1967 حيث كتب أبرز كتبه في هذه السنة في فيض إبداعي، عبر تأملات شخصية، مسافةً زمنيةً كبيرة، ليس في تدفق سيل الزمن المحض، بالسنوات والعقود، بل في تدفق الزمن الاجتماعي الثوري العالمي.
كانت الدعوة التي فجرها ماركس وأنجلز في تلك السنة من القرن التاسع عشر، عبر حيثيات اللغة المشكلة من تحليلٍ تلغرافي ونداءات شوارعية، تحمل خضم الزمن الاجتماعي في حينه.
تعتمد لغةُ «البيان» على مصطلحات عسكرية قتالية وتفرزُ بسرعةٍ وحدةٍ معسكرين اجتماعيين متصارعين:
«حر وعبد، نبيل وعامي، بارون وقن، معلم وصانع، وبكلمة ظالمين ومظلومين، في تعارض دائم، خاضوا حربا متواصلة، تارة معلنة وطورا مستترة، حربا كانت تنتهي في كل مرة إما بتحول ثوري للمجتمع كله، وإما بهلاك كلتا الطبقتين المتصارعتين».
هو تصويرٌ قتالي لتاريخ أوروبا الصراعي الاجتماعي، وليس لتاريخ البشرية، منذ أثينا وعبر ومضات حتى العصر الوسيط، بتركيز تلغرافي ورسالة غير مشفرة للبروليتاريا الأوربية "الحديثة"، من القائد المثقف الذي خرجَ من بين دخان خنادق الصراع الاجتماعي الملتهبة، وهذه اللغة الصراعية الحربية فيها ومضاتٌ من العلم التحليلي الاجتماعي، لكن الأدلجة الزمنية المؤقتة زاخرة فيها.
وتتركزُ الرسالةُ ضد الأنظمة الرأسمالية الراهنة التي انتصرت توا على الإقطاع:
«الشرط الأساسي لوجود الطبقة البرجوازية ولسيطرتها، هو تكديس الثروة في أيدي خواص، تكوين الرأسمال وإنماؤه. وشرط وجود الرأسمال هو العمل المأجور. والعمل المأجور يقوم، حصراً، على المزاحمة بين العمّال. وتقدّم الصناعة، الذي تُشكّل البرجوازية دعامته بلا إرادة منها وبلا مقاومة، يُحِلّ وحدة العمّال الثورية عبر الترابط محل انفرادهم الناتج عن تزاحُمهم. وهكذا فإنّ تطور الصناعة الكبيرة يزلزِلُ تحت أقدام البرجوازية، الأساسَ الذي تُنتج عليه وتتملّك المنتجات. إنّ البرجوازية تُنتج، قبل كل شيء، حفّاري قبرها، فانهيارها وانتصار البروليتاريا، أمران حتميّان».
وتـُرسم الأوضاع هنا بذات اللغة العاطفية المتأججة حماسة وفيها موضوعيةٌ ترقصُ على لهب، والخندقان واضحان، والموت الاجتماعي لاحدى القوتين قريب وأكيد، حين تلغي البروليتاريا المزاحمة بينها، ويتكفل وضع التقدم الصناعي نفسه بالقضاء على البرجوازية، فيجري هنا الرسمُ الاختزالي للموقف الراهن وتحويله إلى أمر سياسي. تاريخ البروليتاريا كقسم ذليل ومتخلف من السكان غير مرصود، وتاريخ الإنجازات الرأسمالية غير مرصود، وثمة معركة لابد أن تنتهي بانتصار القسم المعدم غير المبحوث في وعيه ومستوياته. غائيةُ السياسة هنا أكبر من التحليل العلمي.
وتتحول سرعة التحليل المقتضب العاطفي المتكهرب في نيران أوروبا في سنة 1848 إلى سياسة عالمية موزعة على كل الأقطار:
«وأخيرا يعمل الشيوعيون، في كل مكان، على إقامة العلاقات، وعلى تحقيق التفاهم بين الأحزاب الديمقراطية في جميع البلدان. ويأنف الشيوعيون من إخفاء آرائهم ومقاصدهم، ويُنادون علانية بأن لا سبيل لبلوغ أهدافهم إلا بإسقاط النظام المجتمعي القائم، بالعُنف. فلترتعد الطبقات السائدة خوفا من ثورة شيوعية. فليس للبروليتاريين ما يفقدونه فيها سوى أغلالهم وأمامهم عالم يكسبونه. أيّها البروليتاريون، في جميع البلدان: اتحدوا بين التشريح الاكلينيكي المختزل لطبقات أوروبا (الغربية) وأمريكا الشمالية في طبقتين اثنتين فقط ومتصارعتين فوق خندق الغرب، حيث لم تكن بقية العالم سوى ناقعة في الإقطاع، يتم التوصل للأوامر العسكرية الموجهة لـ «الفصائل» بإسقاط النظام المجتمعي القائم».
إنها تعابير حاميةٌ ومتناقضةٌ، فتحويل معسكر أوروبا الغربي في بضع مدن مشتعلة وسحبه إلى جميع أقطار العالم، للقضاء على نظام مجتمعي بشري تم اختزاله هو الآخر، وتنمَط في شكل مجرد، ومع هذا التجريد الحاد، فإن الشيوعيين حسب صيغة البيان هنا مدعوون كذلك للتفاهم بين الأحزاب الديمقراطية في جميع البلدان.
هل ثمة أحزاب ديمقراطية في جميع البلدان؟ وهل يمكن الحوار مع الديمقراطيين وأنت مدججٌ بكلِ هذه اللغة العسكرية؟ وكيف يمكن الحوار هنا وأنت لديك مشروع كوني لإزالة كل من يختلف مع البروليتاريا؟
في غمرة ما هو كائن في تلك السنة الحامية الأوروبية ثمة تنوعات وبقايا أنظمة ومستويات أوروبية وأمريكية متفاوتة، وثمة علاقات بين أوروبا الغربية هذه والعالم، أي هنا الكثير من التفاصيل والمعطيات الجوهرية كذلك التي لا تُؤخذ في مثل هذه اللحظة الاختزالية، لكنها حين تـُصاغ في بيان تاريخي ينتشر ويتغلغل في الأبنية الاجتماعية المختلفة المتفاوتة التطور، يحدثُ لها انفصالٌ عن لحظتِها الخاصة، وتغدو ذاتَ نمو مستقل، فتصبحُ لغةُ البيان عالميةً فعلاً، أي ان الزمنَ الاجتماعي هنا يحلقُ بها، ويغدو طيرانها معتمداً على سرعة الرياح الاجتماعية.
إن الزمنَ الاجتماعي يحلقُ بلغةِ (البيان) في جميع أقطار العالم، وهذا التحليق مؤاتٍ لأسبابٍ كثيرة.
إنها لغةٌ سياسيةٌ اجتماعية إبداعيةٌ تنفصلُ عن لحظتِها المدموغة بذاك النمو النسبي ذي التاريخية المحددة، وهي تستوعبُ صراعاتهِ العامةَ المجردةَ - الملموسةَ، وتحيلُها إلى مخططٍ مجرد، فـُتسقطُ أوروبيتَها على بقيةِ أنحاء العالم، وقد رأينا كيف كان تمثُل الصراعات الاجتماعية الأوروبية في فقرةِ البيان؛ (حرٌ وعبدٌ، ونبيلٌ وعامي إلى آخر الفقرة)، تشيرُ إلى تحليلٍ لتاريخٍ أوروبي واضح وصريح، من دون أن تظهرَ بالمقابل تحليلاتٌ للشرق، أو حتى للغرب اللاتيني، ونحن نعرفُ كيف اهتم ماركس بتحليلِ أمريكا الشمالية التي هي امتدادٌ لأوروبا الغربية، ولكن ماعدا أقطار الرأسمالية الغربية المتطورة هذه، فإن بقيةَ العالم تقعُ في الظل، ومن هنا حين تعولمُ لغةُ البيانِ الشيوعي، وتصدرُ أوامرَ للعمال في جميع أنحاء العالم تقومُ بأوروبةِ الحركة العمالية العالمية منذ البداية، وتسحبُها إلى مستواها، وتجعلُ مهماتِها السياسية مهماتٍ عالمية.
تلعب لغةُ البيانِ العاطفيةِ الهائجة والموضوعيةِ المتداخلة بها، دوراً أكبر من أي كراس وكتاب ماركسي آخر! إنها لغةٌ حميمة، وناتجةٌ من كفاحِ شوارع صاخب، ومن تراكماتٍ فكرية كبيرة لبعض المثقفين الألمان بدرجةٍ خاصة، والصياغة ذات تراكيب معينة مبهرة:
(ويأنف الشيوعيون من إخفاء آرائهم/ فلترتعد الطبقات السائدة خوفاً).
(شبحٌ ينتابُ أوروبا - شبح الشيوعية. ضد هذا الشبح اتحدتْ في طراد رهيب قوى أوروبا القديمة كلها: البابا والقيصر، مترنيخ وغيزو، الراديكاليون الفرنسيون والبوليس الألماني).
إنها لغة أدبية شعرية قصصية متداخلة، وتحولت الأفكارُ إلى لوحاتٍ، بأسلوب شعبي متأجج بالكرامة، و(البيان) بهذا يتابعُ الكتبَ الدينية بلغاتِها التعبيرية الأخاذة، كما أنه يتحول إلى دعوةٍ دينيةٍ بهذه الإطلاقية والتعميمية المفارقةِ للظروفِ المتباينة للقارات والشعوب، فألغتْ العلميةَ، في غيابِ تحليلاتِها الجزئيةِ الدقيقة لكل الأرض، وصادرتْ الأبحاثَ المُفترضةَ بفرضِ لغةٍ جاهزة، وبشعاراتٍ من مستوى أوروبي، تتشكلُ فيه حرياتٌ كبيرةٌ نوعاً ما، وقد أبعدَ الأديانَ عن السياسة المسيطرة، في حين انه عندما تنتقلُ لغةُ البيانِ هذه لشعوبٍ أخرى تعيشُ في ظروفٍ مختلفةٍ من حيث الصناعة والحريات والثقافة، فإن لغةَ البيان المقاربة للدين لغةً، ووعداً بتحقيق الجنة، الأرضية هذه المرة، تصيرُ لها قراءات مختلفة ومقبولة لأسبابِ الزمن التاريخي المتنامي، فالأوروبةُ تغدو قبل عدة قرون من صياغة (البيان) عالمية في استغلالِها للموارد الخام في القارات الأخرى، وتغدو رحلاتَ استكشافٍ وغزواً وفرضَ حماياتٍ تجارية وتغلغلاً للجيوش الخ..
إن الزمنَ التاريخي الراكد لعصورَ الإقطاع، حيث البشرية مفتتة إلى قارات وعوالم ذات صلات واهنة، يتسارعُ بشكلٍ كبيرٍ عبرَ زمنِ الآلة، التي تقومُ باختزالِ المسافاتِ الجغرافية أولاً، ثم بنشر العلاقات الرأسمالية في العديد من البقاع، واختراعاتها المختلفة وأنواعها الأدبية والعلمية والثقافية عموماً، وكلُ حدثٍ من هذا هو تسريعٌ للزمن الأوروبي، الذي يغدو زمناً عالمياً متسارعاً. إن تعددَ الأزمنةِ في زمانٍ عالمي كبير، تفرضهُ تشكيلةٌ عالميةٌ واحدةٌ هي التشكيلة الرأسمالية أخذتْ تبزغُ من عصر النهضة، من قلبِ أوروبا الغربية، لكن لهذه التشكيلة مستوياتِ تطورٍ مختلفةٍ، فمن بلدان تضخُ الموادَ الخام، إلى بلدانٍ تصنعُها، إلى بلدانٍ تتداخلُ فيها هذه العملية المركبة، فتظهرُ أزمنةٌ مختلفةٌ للتشكيلة الرأسمالية التي تتحول من أوروبية إلى كونية، لكونِها أوجدتْ أمكنةً مختلفةً لها، تجرى فيها عملياتُ إنتاجٍ متعددةٍ الأشكال. فيتسارعُ الزمنُ في جانب ويبطىءُ في جانب آخر، ثم يتداخل في زمانٍ متقاربٍ متنوع كذلك، لأن وحدة التشكيلة لا تتم بشكلٍ تام.
تستطيع لغةُ (البيان) أن تنفذَ لعمالِ العالم مع مرورِ هذا الزمنِ الاجتماعي، المتعددِ المستويات، فالبلدانُ الرأسماليةُ المتطورة تستوعبها، بشكلٍ يعبرُ عن مستواها، فهي تهضمُها ببطءٍ، وان المطالبَ المباشرة للعمال تحظى بلغاتِ اهتمام متنوعة، من قمعٍ في البلدان الأقل تطوراً والتي تعيش في بقايا إقطاعٍ مؤثرٍ كأسبانيا، في حين تتحقق تلك المطالب المباشرة في انجلترا وهولندا وفرنسا، أما المطالب الكبرى بسيطرة العمال على الحكم وإلغاء الطبقات فلا تتحقق، ليس فقط لنمو الرأسمالية وتوسعها خارج بلدانها وإنشائها لمستعمرات وارتفاع مستوى معيشة عمالها، بل كذلك لعدم إمكانية تحقق الاشتراكية أو الشيوعية، في هذه القرون. إن الرأسمالية الأوروبية هي قائدةٌ لتشكيلة عالمية، تظهر هنا في بداياتها، وعبر استعمارها تقوم بنشرها، وتغدو هي في ذروتها.
إن التشكيلة الرأسمالية كتشكيلةٍ عالميةٍ كانت تحققُ بعضَ زمنيتِها المحدودة في القرن التاسع عشر. إن أي تشكيلةٍ تغدو تشكيلةً بشرية، لترابط تاريخ الإنسان، والتشكيلة البشرية لها زمنيةُ مئاتِ السنين، لقيامها على قوى إنتاج محددة تنتشر وتغدو عالمية وتتعرض للاصطدام بعلاقات إنتاج تغدو قيوداً فتحدث عمليات الثورات عبر مستويات بشرية مختلفة لتصعدَ علاقاتُ إنتاجٍ جديدة، ثم تزولَ عبر قرون كذلك. لقد عرفنا ذلك تطبيقاً على التاريخ الأوروبي في؛(مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي) لكن تبلورها وفهمها البشري لم يكن ممكناً في تلك الافتتاحية للزمن الرأسمالي، إن الزمنية هنا مهمة، لكن البيان يختزلها.
إن جمل (البيان) الأولية التي قرأناها مراراً مهمة هنا كذلك، لتجعلنا نحسُ بإيقاعِ الزمنِ السريع المؤدلج:
(حر وعبد، ونبيل وعامي/ فلترتعد الطبقات السائدة/ يا عمالَ العالم اتحدوا)، إيقاعُ اللغةِ هنا المتسارعُ من الأوروبي للكوني، يقفزُ على عدةِ ألوف من السنين: التشكيلة العبودية لها أكثر من خمسة آلاف سنة! التشكيلة الإقطاعية تقارب الألفين أو أكثر، الرأسمالية الصناعية الأوروبية لها قرنان أو ثلاثة قرون بالكثير!
لكن وعي ماركس بكون التشكيلة أوربية/ عالمية، يختزلُ تجاربَ الشعوب الأخرى عبر النيابة الأوروبية، ويختزلُ التشكيلةَ نفسها، قبل أن تكونَ بشريةً، وقبل أن تتجلى على هذه المساحة الأرضية الواسعة، وتدخل فيها قوى إنتاج البشرية كلها لتتجاوزها عبر تباين مستوياتها وقواها كذلك.
تتمكن لغةُ (البيانِ) من الاستحواذ على الألبابِ الشرقيةِ خاصةً وهي تدخلُ التاريخَ العالمي. كان البيانُ قد دخلَ في حلقةِ التاريخ الأوروبي لكنه لم يشكلْ التحولات التي وَعد بها، لكن العواصفَ انتقلت لآسيا.
إن التاريخَ الأوربي المعاصر فككَ لغةَ البيان عبر زمنيتهِ الخاصة، فقبلَ بالنسبي فيها ورحل المطلقَ إلى تاريخ الإنسانية الكلي القادم، تخلى عن ماركس الشاب وقدر ماركس الكهل، وناضلَ من أجل تغيير معيشة الطبقات العاملة، ولم يعطها فرصةَ الحكم وتغيير البناء الرأسمالي، فظلت أحزابُ النسبي كالأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في الواجهةِ والحكم لأنها آمنت بالنسبي ورحلتْ المطلقَ، وغيرتْ ما تعلق بالنسبية الاجتماعية، متفهمة النظامَ الرأسمالي، في حين قاومت أحزابُ المطلق هذه النسبية المحدودة في تصورها واستمرت في العمل لإزالة الرأسمالية تماماً خاصة الأحزاب الشيوعية، فرحلتْ مع المطلق القادم غير العائش في النسبي.
لكن هذه النسبية أخذتْ تتعمق، وعلى العكس فإن الرأسمالية أخذت تنتشرُ بتوسع، وتتعمقُ في شرق أوروبا وجنوبها، ودخلت أوروبا في حروب منهكة دمرت الكثير من قواها العاملة، فراحت تتحدُ في رأسماليةٍ قارية، ثم ان الرأسماليات الكبرى في العالم راحت تتطورُ تقنياً بشكلٍ هائل، وحدث نقصٌ في قواها العاملة، واستدعتْ قوى العالم الثالث إليها، وثوّرت قوى الإنتاج ودخلتْ مرحلة أكثر تطوراً في التقنيات، واستغلت القارات الأخرى بتوسع.
وهي سلسلة من التطورات المعقدة جعلت الخصمين الاجتماعيين البروليتاريا والبرجوازية يعيشان في صراع نسبي سلمي طويل، لكن ظلَ الحراكُ الفكري لدى الفئة الوسطى الصغيرة، (البرجوازية الصغيرة) هذه التي سوف توجد كل أنواع الفنون والآداب والفلسفة وغيرها، وسوف تستمرُ بصخب وثورة في الفراغ المطلق وفي الوجود النسبي وفي تفجيرٍ للأشكالِ المجردةِ في الفنون كالتعكيبية والسريالية، وفي المسرح اللامعقول وفي الرواية: الرواية المضادة وغلبة تيار الوعي، وفي الفلسفة سوف تحتل الظاهراتية الأداةُ التكوينيةُ للمعمارِ الفلسفي المكانَ الأبرزَ في تشكيلِ عماراتِ الفلسفة الكبيرة: الوجودية، والبنيوية، والتفكيكية الخ.
إن تكون وعي البرجوازيات الصغيرة في هذا الحراك يستندُ إلى (جمود) الخصمين الاجتماعيين العمال والبرجوازية، وهو جمود يبتعد عن صياغة أشكال الوعي بشكل عام. فالمواد الخام قد تأتي منهما، ولكن القيام بالثورات الفكرية والتعبيرية سيتركز في هذه الفئات المطحونة والقلقة والمنتجة الفكرية، بين قوتي الرحى الرأسمالية، وإذا كان للطبقتين الكبريين المتصارعتين إنتاجٌ فكري، فعبرها كذلك، فهي التي تتداولُ البضائعَ الفكرية السابقة، وتفحصها بين فئاتها المتنوعة، وقد رفضت كلتا الأداتين الفكريتين للطبقتين السابقتي الذكر، وهما الماركسية والليبرالية السياسية، اللتان تتمحوران حول توجهات المادية الجدلية أو المادية السوقية. كان لابد لها من الاستقلال والتفرد، من رفضِ المادية خاصةً كفلسفة، فرفض المادية يعني رفض عمليات الحفر في البُنى الاجتماعية وتحليل الظاهرات والتغلغل في اكتشاف القوانين الاقتصادية والاجتماعية والفكرية، وهذه عملية تربطها بالكادحين، وبنقد عالم الرأسمالية الموضوعي وبكل الحراك الصراعي الذي ينجمُ عنه، من تشكيل ثورات فكرية في الجامعات ووسائل الإعلام المختلفة، لكن كل هذا لا يدخل في السوق الرأسمالية، فعالمُ الرأسمالية الفكرية قائمٌ على المادية السوقية، بكل ظلالِها، من صعود لرمزيي البرجوازية الصغيرة وتحويلهم إلى نجوم في الفلسفة والأدب والفنون، كمستوى راقٍ للثقافة البرجوازية، أو تحويلهم إلى منتجي أدب فضائحي وفنون سوداء مختلفة تجذب وتكسب الملايين. إن البرجوازية المالكة هي التي تحدد توزيع الإنتاج الثقافي وأقسامه ونموه، والبروليتاريا هي المستهلك الأكبر، التي يوجه الإنتاج الثقافي لتخديرها أو لتشجيعها على الإنتاج وعيش التسلية بعد هلاك العمل.
في المستوى الراقي لعبت الأدواتُ الظاهراتية دورها كركيزة لهذا العالم الثقافي المتنوع الواسع ذي الآثار الهائلة، وقد ارتكزت عموماً على رفض الاعتراف بالواقع، وشكلت واقعاً مختلقاً، هو الكلمة أو الأدب أو البُنية أو الرموز المقطوعة عن البنى الموضوعية للعالم.
كان هذا الخيارُ هو خيارٌ طبقي بامتياز، كان إلغاءً لعالم الطبقتين المتصارعتين، ورفضَ أعتبارهِ أساساً للوعي. وهو جاءَ بسبب تلك النسبية التي أشرنا إليها، وكون إطلاقية ماركس وتلك الدعوة الثورية لكسح البرجوازية لا تستند إلى أساس راهن.
وهي الدعوةُ المباشرةُ التي تخلى عنها في كتابه الناضج التاريخي(رأس المال)، ولكن الفصائل التي دعاها للعمل كانت قد نهضت في أقطار الأرض على إيقاعات الزمن الاجتماعي المختلفة، والتصقَ (البيانُ) بها أكثر بكثير من رأس المال. لما قلنا من نضاليته الشعبية البسيطة، ولاختزاله، ولخياليته في جانب ولعلميته في جانب آخر، وتركزت الدعوة عند من يستفيد منها بدرجة أساسية وهم العمال.
صار للبيان ولهذه الماركسية مساراتٌ مختلفة، لطبيعة محتواها المتعدد الوجوه ولتناقضاتها الفكرية الداخلية، ولنموها في قاراتٍ مختلفة، التحقتْ بالرأسمالية على أنحاء متفاوتة في الزمن وفي الأشكال والمراحل.
وفي حين سارت لغاتُ (البيان) بوفرةٍ واتساع هائل في الشرق مشتْ ببطءٍ في الغرب، وكان هذا التناقضُ البارزُ وجهاً لتناقضٍ عميقٍ أخذَ يتكشفُ بقوةٍ هائلةٍ في التاريخ البشري المعاصر. كان الغربُ يصيرُ هو المالكُ الأساسي للخيرات، هو الاستعمار المهيمن على المواد الخام الثمينة والرخيصة، هو المحولُ لها: ثرواتٍ أسطوريةً وتقنيات رفيعة وطبقات مستمتعة ثرية وخدماً فكريين وفنيين كثيرين، وعلماء متخصصين لتطوير المصانع وتضليل العالم الخ.
كانت الطبقتان المالكة والعاملة تصنعان السلعَ المادية وكانت البرجوازية الصغيرة تصنعُ السلعَ الثقافية.
إن التناقض الكبير بين الغرب والشرق، تأسس في مرحلية الاستعمار بين (الشرق العامل البروليتاري والشرق المالك البرجوازي). هذا ما تعمم في فترة بين نهاية القرن التاسع عشر ومنتصف الخمسينيات من القرن العشرين.
إن هذا التعميمَ ايديولوجي مضللٌ بطبيعة الحال، ولكنه كان يمتلك شيئاً من الموضوعية أيضاً. وفي انتقال الماركسية الشعبوية المعتمدة على (البيان) قامتْ بالارتكاز على مثل هذه التعميمات ثم جرتها لتاريخ الشرق.
في (اللينينية) تكرست شعبوية البيان، الذي كانت له امتدادته في كتب ماركس، مثل (الايديولوجية الألمانية) حيث يدعو للثورة البروليتارية من دون ضرورة لوجودِ أسسٍ واسعة للنظام الرأسمالي، وهذا كان لينينيةً ألمانيةً، لكن حتى هذه (الايديولوجية ..) لم تـُطبع في حياة ماركس، فغدت الماركسية تمشي كدين مقدس.
أي أن لينين في توجهه لثورة اشتراكية لم يكن يصدر من وازع شخصي محض، وكان اختراق مسألة التشكيلة الرأسمالية وتجاوزها قد بدأ من ماركس نفسه:(حر وعبد، ونبيل وعامي/ فلترتعد الطبقات السائدة/ يا عمال العالم اتحدوا). إن إمكانية اختراق نظام رأسمالي - إقطاعي، وإقامة نظام ديمقراطي، وذي إصلاحات تقدمية، مختلف عن تحطيم التشكيلة الرأسمالية.
إن النظامَ الرأسمالي يختلفُ عن (التشكيلة) الرأسمالية، فإزالة التشكيلة أمر يعني إزالة مفردات النظام الرأسمالي الأولية كالنقود والدولة والطبقات والسوق.. الخ، ويعني نظاماً عالمياً، لكن تغيير النظام الرأسمالي وتمزيق جوانب كبيرة منه ليس مثل ذلك.
هذا الخلط بين النظام والتشكيلة، بين الإصلاحات وإلغاء الرأسمالية، كانت قد صُوبت من ماركس نفسه في رأس المال، من دون وضوح كلي منه، وليس في البيان كما أشرنا سابقاً، لكن هذا التصويب تم تجاهله وراحت الحركة الماركسية في الشرق ترتكز على البيان بدرجة أساسية.
وفي تطبيق الثورة الروسية سنة 1917 وبعد التأميمات وغيرها عادت إلى السوق والنقود وتطوير الرأسمالية سنة 1921، بعد أن حُجمت الدكتاتورية اللينينية لكن الدكتاتورية الروسية العامة لم تـُحجم بل تفاقمت.
هذا جعل من الماركسية بالنسبة إلى أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية مجموعة من الأشباح السياسية والعسكرية على قول دريدا، لكنها بالنسبة إلى جزء كبير من الشرق ظلت حليفاً مهماً ثم قائداً كونياً.
مهما كانت النتائج للبيان فإن ماركس ظهر كشخصية عالمية فاعلة في تاريخ الرأسماليات، كنقيض لها وكمؤسس لها أيضاً! بين أن يكون قائداً لزوال الرأسمالية وقائدا لتشكيل الرأسمالية، هذه هي القراءات المعقدة للشعوب، في تفاوت مستويات تطورها، وفي تباين فهمها للماركسية.
سوف نحاول أن نرى ذلك عبر قراءة دريدا للماركسية عبر كتابه السابق الذكر: (أطياف ماركس). هذا الباحث الذي تم الاحتفال بأعماله في البحرين وصدر كتابٌ عنه هذه السنة .2009
لا يُذكر هذا الباحث الفرنسي المولود في الجزائر بأي شيء مثير، ربما حادثة واحدة صغيرة اضطُهدَ فيها، لكنه باحث غارق في الكتب والأبحاث. هو جزء من ذلك المناخ الذي أشرنا إليه، حيث الفئات الوسطى الصغيرة التي تم صُنع شريط فكري لها من قبل البنية الرأسمالية المسيطرة، عبر الظاهراتية الممتدة من كانط، التي يقومُ فيها الفكر بمناقشة سطوح الظاهرات المتبدلة دوماً في موجات أشبه بموضات الملابس والتسريحات، وهو حين رفض تحليل الواقع كبنية، لم يرفض أن يحلل ظاهراته المتطايرة منه، المفصولة عنه، تجنباً لخروجه من دائرة التداول السلعي، ومن الاصطدام بجذور الواقع والسلطات، رغم أن ذلك لم يكن كلياً، فهناك بعض التيارات التي استندت إلى تطور الوعي الديمقراطي والوعي التقدمي وطورت أدوات التحليل كذلك كالبنيوية الوظيفية مثلاً.
إن موجات الوعي هذه الأشبه بالموضات تغدو أشباحاً، فهي أشبه بالنجوم فترة ثم تغوص في مياه العتمة، لا يبقى منها شيءٌ كثير، تزول لعدم ارتباطها بموجات اجتماعية كبيرة، ولهذا نرى دريدا يكرس كتابه لمناقشة الأشباح حين يناقش شخصية ماركس التي (ملأت الدنيا وشغلت الناس).
شخصية باحثة مثل دريدا انجذب ليناقش الأشباح حين يناقش تلك الشخصية الحافلة بالأحداث والمؤججة للأحداث، ويملأ كتابه الشديد الغموض بهذه المناقشات التحليلية المجردة الملموسة المتقطعة المتناثرة، الأدبية، داخل كيان يفترض أن يكون غير أدبي، لكون الظاهرات الأدبية توجه التحليل خارج البنى الاجتماعية المرفوض تحليلها والغوص فيها بأوروبا والعالم.
لدينا أشباح كثيرة وأهمها شبح الملك هاملت من مسرحية شكسبير المعروفة. ويقوم بربط شبح هاملت بشبح الشيوعية الوارد في (البيان) وفي كتب أخرى لماركس.
يظهر شبحٌ في بداية مسرحية هاملت للأمير الابن هاملت ويدعوه للانتقام لمقتل أبيه. الشبح هو الأبُ القتيل نفسه، ويظهر في حالة درامية عنيفة مليئة بالظلال التعبيرية، ويتشكل كقفزة غير واقعية، مضادة للمسار التكويني الواقعي للبناء الدرامي الشكسبيري هنا. إن هذا القطع الايديولوجي في هذه المسرحية الواقعية، يرتبط بمسارات لا فنية، وأسطورية شرقية، لكنها أُخذت كتفعيل للفعل الدرامي من الخارج، من الوهم.
بين الجذور الأسطورية الشرقية للشبح، وظهور المسرحية الشكسبيرية هذه في بداية عصر النهضة الأوروبي، العقلاني المتنامي، ثمة قطيعة كبيرة مع النص الماركسي، مع مفردة الأشباح التي ظهرت في البيان. ولكل مقطع في سياقه الزمني، وبنيته، دلالات.
لكن دريدا ضخم تضخيماً كبيراً من (الشبحية)، وغدت مسرحية هاملت هي المحللة، وغُيّب ماركس كثيراً، فهذه تحدث القطيعة مع النص الماركسي في بنيته الاجتماعية، وقطعه عنها، وتعليقه في الفضاء الشبحي، ثم إطلاق العنان للخيال والمنولوجات الذاتية والتدفق اللغوي ذي العتمة الشديدة والتعميمات الغريبة الغامضة ثم ظهور لبعض التحليلات السياسية المفاجئة العميقة الجيدة الطالعة بجزر نائية لا تمتلك أي علاقات مع الشبحية تلك ثم العودة الدائمة للشبحية الشكسبيرية.
يدعو دريدا في كتابه (أطياف ماركس)، إلى قراءة ماركس ويقول:(وسيكون من الخطأ إذا لم يُقرأ ماركس وتـُعاد قراءته ومناقشته)، ص .41
يبدو ماركس هنا باستمرار كشبح، كطيف زائل، (ولابد من تقدير جهوده على الأقل)، والاعتراف بدوره!
إن الأشباحَ تحيي ذواتها وتشبحُ الرموزَ التاريخية الباقية في بحار الزمن الاجتماعي، إنها هي التي ذابت أو تكاد تغرق في موضات الوعي السائد، وفي موجات الوعي المُبتلعة، والتي تصيرُ نجوماً في سماء الاستهلاك الثقافي تتصورُ انها الركائز الباقية، وليست أشباحاً، ليست جزءًا من حطام ثقافي، قابل للتجدد في حطام آخر وهكذا.
والاهتمام بماركس كشفقةٍ فكريةٍ غربية ضرورية لأسباب:
(ومنذ اللحظة التي أخذت فيها آلة الدوغمائيات والمعدات الايديولوجية(الماركسية): (دول، أحزاب، خلايا، نقابات، وأمكنة أخرى من أمكنة الإنتاج العقدي) بالاختفاء، فإنه لم يَعُد لنا عذر)، ص .41
لقد زالت الشموليات الشرقية الاشتراكية وأصبح لماركس إذًا مكانة ما. إن غياب التحليلات الموضوعية تقود إلى نتائج إحسانية مثل هذه.
لقد رأينا كيف انتشرت الأفكار الماركسية في الشرق وفي أمريكا اللاتينية بشكل عاصف، وكيف قُرئت هذه الأفكار في كثير من الأحيان، بمستويات تناقضاتها الداخلية: أي بكونها دعوة للثورة الاشتراكية الراهنة، وبكونها قراءات إصلاحية لأنظمة متخلفة ولأنظمة رأسمالية متطورة كذلك. إن فقرات كثيرة في(كتاب البيان) (تكرر ذكره أكثر من عشر مرات في كتاب الأطياف) و(كتاب الايديولوجية الألمانية) (تكرر أربع مرات)، هذان الكتابان الشبابيان غير الناضجين لماركس وأنجلز، قد تم نشرهما باعتبارهما هما الفكر الماركسي وفيهما فقرات تدعو للثورة الاشتراكية المباشرة العنيفة وإزالة الطبقات فوراً وغيرها من المهام التي تتحقق في قرون وبشكل متدرج.
وحين اتحدتْ هذه الفقراتُ بثوراتِ الشرق الاجتماعية والوطنية تحولتْ الأنظمةُ إلى الاشتراكيةِ المُزيّف فهمها، التي صارت متحدة بالغيب الديني (الماركسي)، وهي ليست سوى رأسماليات حكومية، ودكتاتوريات، أُنجزتْ فوق ضلوع العمال، ولكنها في مجريَي التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي لدول الشرق حققت إنجازات اقتصادية كبرى، وأخطاء رهيبة كذلك، ثم تقزمت كثيراً وتشوهت بشكل هائل في دول صغيرة الخ. وقد تداخلت فيها الثنائيات المختلفة: ديمقراطية ودكتاتورية، ماركسية عمالية وبيروقراطية رأسمالية، تضحية واستغلال الخ.
لكن هذا لا يعني توقف التجربة وعدم إعادة إنتاجها بشكل ديمقراطي، وهذا يتطلب من باحث أن يقرأ ذلك ولا يعتمد على الاختزالات والظلال الأدبية السريعة المروق وعلى تيار الوعي والرموز الفلسفية المبهمة في خضم قراءة مارد سياسي.
لكن الوصول إلى الاستنتاجات الفكرية يبقى هو المهم، إن الجمل الماركسية المقطوعة السياق التي غدت في اللينينية حجر الزاوية، تبقى مجرد وقود في حطب آسيوي، ومجرد تحريك لدكتاتوريات قومية كامنة كبرى، وفيها كذلك أدوات اجتماعية وسياسية مستمرة، ونهضة لملايين الكادحين، لكن المهم والباقي ليست تلك الفقرات غير الموضوعية، لكن ما يبقى هو المنهجية، أي درس الظاهرات في خضم البُنى الاجتماعية واكتشاف قوانينها. هذه التي ترفضها أغلبية الفئات الوسطى الصغيرة المتذبذبة في الغرب والشرق، والمتلاعبة فوق حبال صراع الطبقات، الراكضة وراء مصالحها المحدودة، التي تصنع منها رؤىً.
إن شبحية شكسبير في مسرحية هاملت تعودُ لتضييعهِ قوانينَ السببية الاجتماعية، مثلما ضيعها دريدا، وفي الأدب يغدو ذلك فناً، وفي الفلسفة يصيرُ غفلةً، لكنه يعتمد على نظرة الكاتب الذي توصل لبعض السببيات الاجتماعية ودمجها في إبداعه، ولم يتوصل لسببيات أخرى، فتغدو ثغرة في الوعي الواقعي المباشر السائد في المسرحية الشكسبيرية، وهذه الشبحية الافتتاحية المُشعلة لحدث المسرح والمفجرة لشخصية هاملت، تعود لطابع السحرية الباقي الذي يدخل كتعويض عن ذلك الفقدان التحليلي، وهو أمرٌ سيغني تفكيكية دريدا في عدم تحليل ماركس.
أما ترديد ماركس للشبحية فهو يأتي في مسار آخر، وفي لغة تعبيرية أخرى، وفي بنية أخرى، في لغة صراع سياسي كوني، في مبارزة غير متكافئة بين طبقات شعبية صاعدة وأعمدة المال والطغيان في أوروبا منتصف القرن التاسع عشر، ويـُقصدُ فيها استخدام اللغة الدينية السحرية على سبيل السخرية، هذه اللغة السائدة في الرموز التي وجه إليها النقد ذاك. هي عملية تقزيم لتلك الرموز السائدة في الحكم، وإعلاء للعمال على مسرح الحقائق والعلم كما يتفهمه، كما يشير دريدا نفسه في بعض مواقع الكتاب الخاطفة.
https://abdullakhalifa.blogspot.com/2...
الكتاب الأول: رأس المال الحكومي الشرقي، الكتاب الثاني: لينين ومغامرة الاشتراكية 2016.
رأس المال الحكومي الشرقي
Published on September 14, 2019 22:34
•
Tags:
ماركس-الرمزي-وشبحية-دريدا
September 12, 2019
تطور الوعي الديني في المشرق القديم ⇦ 2
≣ الدين كوعي (وطني) متباين
يغدو الدين كفكرة مصاغة من قبل القوة الاجتماعية العليا فكرة قبلية و(مدنية) ووطنية ، لأنه كشكل للوعي لم ينفصل عن وعي الجماعة ، لكن يُلاحظ الفرق الكبير بين الدين في المشاعية والدين في المجتمع المنقسم اجتماعياً ، حيث كانت سمات الأمومية والخصوبة والتعاون تظلل آلهته ، في حين تصاعدت جوانب القوة والعنف والهيمنة مع آلهة النظام الطبقي ، مما يعبر عن تصاعد دور الدولة كجهاز قسر وتحكم.
وفي الفترة الأكادية التي يظهر فيها عنف الألوهية وشراستها ، تبدو كمرحلة مختلفة عن ألوهية العصر الأمومي الخصوبية ، وعن المرحلة اللاحقة وهي التي ستنمو بالتضاد مع آلهة الساميين الرعويين الباطشة ، والتي تغدو تركيباً من مرحلة الأمومية وصعود الإله الذكر المعبر عن مرحلة الدولة والطبقات ، في توليفة متجاوزة للعهد (السامي الأكادي) وسيكون ذلك تجميعاً مشرقياً ، وإن كان بصورة متفرقة ، لإله الخصوبة وقد صار ذكراً ، وتجلت فيه فعل الطبقات المقهورة كذلك ، بعد أن كانت الصياغة الأساسية في المجتمع المشرقي الطبقي ، من فعل الطبقات القاهرة.
لكن فعل هذه الطبقات المقهورة يتجلى من خلال إرثها الزراعي ، حيث تتشكل الآلهة المقاومة المعَّذبة المتمزقة ، وهو ما يعكس تغييب الفعل البشري في الطبيعة ، وجعل ذلك في رموز متفردة مفارقة في نهاية المطاف ، تزيل ملامح ما هو سياسي واجتماعي .
إن الدين لا يعبر فقط عن القاهرين بل عن المقهورين أيضاً ، فالطبقات المتعددة ترى الإرث الديني بصور مختلفة ، وقد عكست المرحلة التموزية على سبيل المثال ، فعل الطبقات الشعبية ، خلافاً للعصر السابق ، ولكن القوة المسيطرة تقوم دائماً بالتسلل إلى البنية الدينية التي غدت شعبية فتوظفها لما لم تكن لها بداية ، عبر نزع المضمون النضالي العميق لها ، وتحويلها إلى أشكال عبادية مُفرغة من ذلك المضمون ، ومؤدية إلى التهدئة الاجتماعية والاستسلام.
ولهذا سنجد في الميراث الديني عموماً هاذين الجانبين المتضادين المتداخلين ، جانبي المقاومة والاستسلام ، جانبي الكفاح للتغيير أو تأجيل الأهداف إلى الغيب.
وإذا كان الجمهور ، حسب وضعه التاريخي ، لا يجد سوى المادة الدينية ، فإنه سيقاوم داخل غيبها المموه ، وسوف يكسر بعض المحرمات والمقدسات السابقة ، ويشكل مقدسات جديدة يحرك بها التاريخ المجّمد ، في امتيازات الحكام ، وهذه اللحظة هي التي تنفث حرارة بنقد الظالمين ، فترى إن التاجر لا يدخل من خرم إبرة حسب الإنجيل ، وإن المرابين والمستغلين مدانين وإن للفقراء ملكوتاً قادماً ، وبعدئذٍ حين يكون الدين في موقع تاريخي مختلف ، وتتغير علاقته بالطبقات المتصارعة ، وينتقل من التعبير عن طبقة مستغلة إلى التعبير عن النظام الاجتماعي ، أو عن كل القبائل ، أو عن الوطن كله ، حينئذٍ تتبدل صياغاته وتستقر توجيهاته العامة في شكل تصالحي غامض ، ثم تبدأ الطبقة المسيطرة ، أو الطبقات المسيطرة ، حسب المناطق والدول ، في إعادة تشكيله ونزع مضمونه الثوري الذي تشكل في المرحلة الأولى ، حين كان وليد الطبقات المقهورة.
ولكن عملية إعادة إنتاج الدين لا تتوقف ، فهذا التكييف الفوقي ، يقابله تشكيل تحتي ، والأشكال الخارجية من العبادات التي تحاول الطبقة المسيطرة تحويلها إلى قيد اجتماعي للسيطرة اليومية والأهداف السياسية قد تتحول إلى شكل مضاد الخ..
≣ الزراعة كاقتصاد مهيمن
إن مساهمة فرعي الاقتصاد الأساسيين: الزراعة والرعي في تطور المنطقة ، يعتمد على عناصر مختلفة كاستئناس الحيوان وتطور الأدوات المعدنية ، وهذه العوامل كبيرة الأهمية لكون عالم الزراعة سيبقى بلا تطورات جذرية ، في حين إن استئناس الإبل والخيول وجلب المواد الحديدية ، الذي سيكون من مساهمة الأقوام الأكثر بربرية وهم (الهكسوس) ، ملوك الرعاة ، والذين جاءوا في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد وأحدثوا الكثير من الخراب كذلك ، إن هذا سيؤدي إلى الفعالية الكبيرة للرعاة على حساب المزارعين. إن انتشار الحديد والخيل وتغلغل الإبل في الجزيرة العربية ، سيروض المناطق الأكثر أتساعا وصحراوية في المنطقة ، والتي ستتمتع باستقلالها شبه المطلق ، في منطقتها الصعبة الوعرة، وقد حاول الرومان مرة واحدة غزوها في حملة فأصيبوا بكارثة (18).
لقد كانت الزراعة وتوابعها: الحرف والتجارة، هي سيدة المنطقة فيما قبل غزو الهكسوس ، لكن القرون التي تلت بدأت تصعد أقوام الرعاة كالآراميين ، الممهدين الأخيرين للعرب جنساً ولغة.
وإذا كانت الزراعة لم تنفصل كلية عن الرعي في حقبها الأولى ، وقد حدث الانفصال حين تمكن الرعاة من استئناس الحيوانات ذات الأهمية القصوى في تطورهم وهي الخيول والإبل ، فإن الرعي لم ينفصل كلية عن الزراعة ، فحين تتواجد الظروف المائية الكافية كان يمكن الجمع بين الاقتصادين ، إلا أن الانفصال الكبير قد حدث ، ووجدت الساحة الأكبر لتطور الرعاة ، وهي الجزيرة العربية ، فيما بعد مجيء الهكسوس.
ويلاحظ أن الممالك العربية الأمومية في شمال الجزيرة العربية ،(19) ثم الممالك السواحلية المتعددة في اليمن والحجاز والبحرين وعمان ، كانت أقل رعوية من الداخل ، وذلك بسبب نشؤ المدن والزراعة. إلا أن العمق الرعوي هو الذي كان يتحكم في الحركة التاريخية للعرب ، حيث لم تستطع أي مدينة أن تفرض نفسها على الرعاة الأشداء وعبر المنطقة الهائلة الاتساع.
ويمكن ملاحظة بدايات التطور الحضاري لدى العرب الشماليين القيسيين ، في مدائن صالح ولدى المناذرة والغساسنة والأنباط ، وفي الشريط الحضاري للحجاز، والذي تناثرت فيه المدن التعدينية ، حتى جاءت مكة تتويجاً لمخاض اقتصادي واجتماعي طويل ، (20).
≣ الزراعة والفروع الأخرى من الاقتصاد
تشكلت المدن في المشرق من القرية الزراعية ، التي كان المعبد ثم القصر شكلي التطور السياسي الديني المهيمن فيها ، فمن الزراعة في المشرق الخصب تشكلت السلطة السياسية التي سيطرت على خريطة المدن والمجتمع ، ومن خلال فائض الزراعة ثم الحرف والتجارة كانت تتشكل الحياة الاجتماعية والثقافية المختلفة.
إن الزراعة لا تمثل تشكيلة اقتصادية ـ اجتماعية ما ، مثلها مثل الرعي، والحرف ، فهي مهن وعمليات إنتاجية وتوزيعية متعددة ، لكنها كانت حرفة واسعة ، بل المصدر الأساسي للإنتاج ، حيث تواجدت الأنهار الكبري ، وأنتجت أوسع الحقول الزراعية. وقد هيمنت الدولة هيمنة مطلقة ، بسبب ما رأيناه من صعود سريع للأجهزة الاقتصادية والسياسية ، فخضعت الحرف والتجارة للتطورات الزراعية مستفيدة من فيضها ومؤثرة عليها بن ، إلا أنهما خضعتا لتطورها في النتيجة النهائية ، فعلى طريقة توزيع الفائض الزراعي يتحدد التطور الحرفي والتجاري.
لقد كانت الطبقة المسيطرة تستلم الفائض الزراعي بصورة عينية أو بصورة ـ عينية نقدية ، ثم تركزت الفوائض بشكل نقدي شبه كلي في سيرورة التاريخ ، حيث يمكن تحويل النقد إلى أي بضاعة أخرى. وعبر هذا الاستلام تتكون مؤسسات الدولة ، فهي ليست سوى خزانة لتراكم استغلال الفلاحين ، وبعد الخزانة تتشكل المؤسسات التي تقوم بحسابها أو الدفاع العسكري عنها.
ولا تلعب التجارة والحرف دوراً مستقلاً في تطوير الاقتصاد ، فهما مربوطتان بفوائض الزراعة ، التي تتحكم بها الخزينة الملكية ، والتي تغدو مشروعاتها الاقتصادية والاجتماعية رهن بذاتية الحاكم المطلق ، أي بأسباب مرحلته ، وأسرته ، ورغباته ، وأفكاره ، وسنه الخ..
وهكذا فإن الزراعة التابعة للطبيعة تبعية شبه مطلقة ، ستهيمن على الحرف والتجارة من خلال تحكم الأسرة الحاكمة أو القصر ، مما يلحق هاتين المهنتين كذلك بالتبعية للطبيعة و" أقدارها ". وكأن كل شيء سيتعلق بالحاكم المطلق «الإله».
إن ذاتية الحاكم لا تنفصل عن طبقته ، ومرحلتها وصراعاتها ، وهي لا تلعب دورها الحاسم إلا من خلال هذه العوامل الموضوعية. وإذا كان الحاكم قد توحد بالإله ، وغدا جزءً منه ، أو امتدادا أسرياً ، أو تجسيدا نورانياً له ، فما ذلك إلا شكلاً للسيطرة الشاملة للحاكم على المدينة و(الرعايا)، أو المملكة ، أو الإمبراطورية الخ ..
إن التجارة بالتحاقها بالقصر تكون قد فقدت قدرتها على تفكيك الملكية الزراعية العامة الشاملة. فرأس المال الكبير لا ينمو إلا عبر الأرباح المتراكمة وهي التي ستأتي من التجارة بالمواد الهامة والثمينة التي يستعملها القصر ، ثم القصور الملكية المتعددة ، ومن ثم بذخ الطبقة الحاكمة كلها من وزراء ورجال دين وتجار كبار الخ.. ولهذا فإن رأس المال لا يتعامل علمياً بالحرف وأدواتها وآلاتها إلا إذا كانت ستلعب دوراً في إنشاء قصر أو عمل مركز رصد للحاكم أو قبر الخ .. ولهذا فإن العلوم ستغدو مجموعات من المعارف المُفككة ، وليست مناهج علمية تغربل المعلومات المختلفة وتنميها.
≣ نمو الرعي في الجزيرة العربية
وإذا كانت الزراعة هي أساس تشكيل الفائض الاقتصادي الأساسي وتوزيعه ، في المناطق الحضرية النهرية ، فإن الرعي هو أساس تشكيل الفائض الاقتصادي الأساسي في المناطق الصحراوية . ورغم أن الفوائض هنا قليلة ومحدودة ، إلا أنها تظهر وتتدفق على المدن والأسواق . فالرعي لن يكون سوى ملحق أخير باقتصاد المدينة ، حيث يسيطر الحاكم المطلق ، وسيقوم بتبادل سلعه التي ينتجها من قطعانه مستبدلاً بها السلع الضرورية كالمواد الغذائية والملبوسات والأسلحة. ولن تلعب هذه الفوائض دورها إلا في المدن الصحراوية والقرى ، التي ستمد الرعاة بالوسائل التي تجعلهم يتغلغلون أكثر وأكثر في الصحراء ، وخاصة رعاة الإبل ، الذين عبرهم ستتم عملية الانتشار الأوسع في الصحراء ، وخلق القبائل الأشد فقراً وتوحشاً. وسيبدو هؤلاء الرعاة الجماعات الأكثر تضاداً مع بذخ المدينة ومراكزها الكبيرة خاصة .
وكلما أنتشر هؤلاء الرعاة ، احتاجوا إلى المزيد من الأبناء الرجال ، فتتسع قبائلهم ويشتد الفقر في مستوياتها التحتية ، في حين ينفصل رؤساء القبائل والعشائر ، ويكونون أرستقراطية خاصة ، تشكل مصدراً آخر لاستغلال الرعاة ، ويستطيع هؤلاء الزعماء أن يحولوا القبائل إلى شرطة سياسية وعسكرية واقتصادية للدول التي تريد خدماتها ، أو لخفر قوافل التجارة ، أو إنهم يتحولون بأنفسهم إلى لصوص وقطاع طرق فيشنون الغارات على القبائل الأخرى أو المدن العامرة بالثراء.
لكن لحمة القبائل لا تتفكك مهما كانت عمليات التخلخل الاجتماعي داخلها ، ومهما ظهر الصعاليك والمتمردون ، ومهما أستغلهم رؤساؤهم ، فالوحدة القبلية أقرب للتكوين البيولوجي منها بالتكوين الاجتماعي ، فهي التي تكونت وتحجرت في الصحراء وقاست وصمدت لقسوتها. إن القبيلة تغدو هي الرحم الطبيعي للفرد ، ولهذا فإن القبائل عبر هذه الوحدة الصخرية تغدو قوى اجتماعية كبيرة منظمة في مواجهة مدن مستغلة ومفككة.
إن القبيلة هي أشبه بوحدة عسكرية متنقلة ، قادرة على الترحال والصمود في أقسى الظروف المناخية والاقتصادية ، وهي قوة موحدة وقتالية جاهزة ، وتمتلك مواردها واستقلالها الروحي والمادي ، وهي لهذا تصبح قوة مؤثرة في مواجهة المدينة ذات المصالح المتباينة ، خاصة عندما تبدأ مؤسسات المدينة في التفكك والضعف . وتصبح الأمور أشد خطراً حين تتآلف القبائل وتتحالف ، وتكون قبيلة كبرى.
≣ ظهور الرعاة على المسرح التاريخي
وقد تباينت التطورات الدينية بين القسمين الحضاري الزراعي والرعوي الجنوبي ، مثـلما حدث الانقسام الاقتصادي بين الجانبين ، ولكن التكوينين لم يكونا متضادين بشكل مطلق ، فالجانب الرعوي والذي يمكن أن يتحول إلى قرى ، أو قد يسكن المدن فيتحضر ، يتأثر بمنتجات المدن المادية والروحية ، لكن هناك تباينات واسعة مع ذلك ، فنحن نجد الهكسوس في احتلالهم لمصر يعبدون الإله الشيطاني فيها (ست) ، متوجهين إلى شبه توحيد ، رافضين شبكة الآلهة المصرية المعبرة عن حشود من العالم الزراعي المسالم ، وظهر التوحيد اليهودي بعد الانقلاب التوحيدي الاخناتوني ليعبر عن حلم هؤلاء الرعاة المشردين بتكوين دولة.
هنا نجد مثالاً ملموساً حول تضادات الأمم الرعوية والزراعية ، فالقبائل اليهودية عبر توحيدها ، تحاول أن تشكل سلطة سياسية وفكرية داخلها أولاً عبر الالتفاف حول إلهها (يهوه) ، رغم إنها لم تستطع بعد أن تتخلص من عبادتها لأيل الإله الكنعاني ، وهو الصيغة الأخرى لآن الرافدي ، الإله المتعالي الذي لم ينفصل كلياً عن بقية الآلهة المتشكلة في مناخ الخصب ، فهو إله المدينة ــ الدولة، التي رأينا كيف ظهرت بالهيمنة على الملكية العامة الزراعية.أما يهوه فهو إله المدينة التي لم تتشكل بعد ، أي إله الرعاة الحالمين بتشكيل دولة. وحين قام الإله بذلك عبر تشكل الدولة ومؤسساتها ، نجد التوراة تشكو من ملوك إسرائيل الذين لم ينفصلوا كلياً عن أيل وعن تقاليد المشرق (العربي) ذات التعدد الإلهي.
فقد عاد الإله الرعوي إلى منطقة أيل ذات الخصب الزراعي .
إن ظهور اليهود والعرب على مسرح التاريخ في المنطقة أحد المؤشرات على صعود دور الرعاة . وصحيح أن الرعاة كانوا قد ظهروا عبر عمليات الهجوم والاكتساح من قبل الهكسوس و«الكاسيين» ، والعديد من المؤرخين والباحثين يقول بأن اليهود والعرب هم من هؤلاء الغزاة ، (21) ، إلا أنه لأول مرة نجد الرعاة كجسم اجتماعي وسياسي مستقل ، وينبثق من داخل تكوين المنطقة ، أي من مفرداتها الثقافية.
وتتمكن القبائل اليهودية من تكوين دولتين مستقلتين بعد قرون ، إلا أن الدولتين اليهوديتين المقامتين لا تفلحان في الصمود على مسرح المنطقة ، بسبب وقوعهما بين الدولتين الكبريين الرافدية والمصرية ، أساس الكيان الاستبدادي الراسخ في المشرق.
هنا نجد الإله الرعوي يتحول إلى إله دولة ، دون أن يستطيع الإفلات من تقاليد المنطقة لقد أوضحنا كيف انبثقت الدولة ـ المدينة في المنطقة الزراعية عبر نماذج العراق وسوريا ، مما مثـل وحدة صراعية بين الإله المتعالي الذكوري المسيطر وبقية الآلهة الذكورية والأنثوية ، فهذه الوحدة يشدها قطبان دولة مسيطرة متعالية واقتصاد زراعي بتقاليده الأسطورية ، مما يمنع الأنفكاك بين قطبيها. إن آنو لا ينفصل عن تموز ، وآيل لا يلغي بعل. ورع لا يزيل أوزوريس.
ومشكلة الإله يهوه إنه يحاول أن يلغي أيل بعد أن جثم في موقعه ، لكون التميز اليهودي ومشروع احتلال فلسطين يصطدم بتواجد هذا الإله . وليس هذا فحسب بل أن كراهيته لبعل أشد ، حيث تتجسد التقاليد الطقوسية الفلاحية. وهو إله يسعى في ذله الطويل أن يعوض عن هذا الاستعباد والدونية ، دون أن يمتلك القدرات البشرية والمادية الكافية لكرامته. ولا تفعل سلسلة الأنبياء والمعجزات في تصعيد التكوين السياسي الزراعية ، وفيما بعد ، في عهد الأسر البابلي يعتبر ذلك التداخل هو سبب الكوارث والنكبات التي حلت على بني إسرائيل ، دون أن يخطر بباله إن وقوعه على طريق مرور الإمبراطوريات ، ومحاولته التميز والتفرد الإلهي بقدرته البشرية القليلة في ذلك المكان هي أ سباب كوارثه المتلاحقة.
≣ تناقضات يهوه
هكذا رأينا الإله الرعوي محملاً بالبروق والرعود ، أي بعناصر القوة الرمزية، وهو يخرج من مصر بتقاليدها الزراعية ، داخلاً في منطقة زراعية أخرى ، فلا يستطيع الإنفكاك من شريط العالم الأخضر بتقاليده الطقوسية ، إلا عبر تكريس نفسه في العزلة ، والعيش في الصحراء ، واستثارة التقاليد الحربية حتى يقتحم الأرض (الموعودة). إن هذا الحراك الرعوي أنتج الإله شبه المجرد ، رغم إن المرحلة الفكرية للشعب (المختار) لم تكن قادرة على تجسيد الإله إلا بشكل حسي . فالرعاة مثلهم مثل الفلاحين ، لا يستطيعون الوصول إلى التجريد ، خاصة وإن الإله المجرد غير ممكن تشكيله في المرحلة الدينية الأولى في المشرق ، حيث تتطلب العلاقة بين القائد السياسي (النبي) والجمهور الأمي ترابطاً قوياً يتيح للقائد تحريك الجسم الرعوي، الذي يتم تدريبه وتوجيهه، لاحتلال المنطقة الزراعية المقصودة.ولهذا فإن تشكيل الإله المجرد أمر غير ممكن وغير مفيد، ومع هذا فإن هذا الإله لا بد أن يكون مختلفاً عن آلهة الأمم المجاورة ، وهي الفضاء الفكري الوحيد المتاح.وهي كلها آلهة مجسدة ومنظورة.
إن المهمات السياسية المطلوبة من نمط الإله ، والمستوى الفكري لحملته المدعوين لتنفيذ تلك المهمات ، هي التي تجعل صورة الإله اليهودي تنوس بين التجريد والملموسية ، بين أيل وبعل. إن هذه الانفصالية غير ممكنة للشعب العادي ، وإذ تحدث العملية شبه التجريدية للإله فهي لا تدوم ، سواء إذا غاب النبي لوقت وجيز ، أو إذا أسس خلفاؤه مملكته.
إن الرعاة أنفسهم مرتبطون بالتقاليد الزراعية الأقوى حضوراً حتى ذلك الحين.وهم في ذات الوقت مرتبطون بالفضاء الفكري للمنطقة ، والمتسم بالتجسيم المادي للآلهة ، والتجسيم ليس سوى تعددية للآلهة تعكس تعدد مستويات السلطات في العالم القديم المفكك اقتصادياً ، سواء على مستوى المدن أم الأقاليم أم القبائل أم الأسر ، وكل هذه تخلق آلهة، والآلهة المضادة كذلك وهي الشياطين والعفاريت ، فالأبيض النوراني يخلق الأسود الشرير ، وقد نشأت الدولة الاستبدادية في المشرق عبر تجاوز هذه التقسيمات وعبر السيطرة عليها ، فآن أو أيل يهيمن بشكل علوي ، ويترك شبكة الآلهة الأقل ، أو السلطات المحلية المختلفة، تعمل وتستقل ذاتياً، وهذا ما يتيح الوحدة و التعددية والاختلافات والصراعات بين الآلهة ، مما يشكل إمكانيات للدراما المسرحية والسياسية والفكرية ، مثـل هذا المناخ يمكن أن يبرر الصدامات والتباينات في العالم الأرضي ، الذي هو حسب الوعي السائد ، لا يمتلك إمكانية تشكيل مصائره بنفسه ، بل يعتمد على القدر الإلهي ، وعلى خرق هذا القدر عبر مساعدة آلهة أخرى ، فيمكن رد مختلف تباينات الوضع الإنساني ، إلى اختلافات علوية ما.
إن ألواح القدر التي تكتب وتقدم في بدء موسم احتفالات الخصب في بابل ، معبرة عن مقادير الإنتاج التي يقدمها الناس ، هي التي تحدد مصائر السكان لسنة كاملة غير قابلة للنقض ، وقد يكون في هذه الألواح طوفان أو هجوم أجنبي أو خير عميم ، وفي الواقع فإن الأقدار لا تعرف إلا بعد حصولها ، ومن ثم تكتب لاحقاً ، ولكن هذه الطريقة توضح الحالات التجسيمية التعددية للوعي الديني ، ولكن مع صعود الإله الواحد المسيطر بشكل مطلق على الوجود ، تدريجياً أم دفعة واحدة ، فإن هذه الإمكانيات للصراع والتباين الإلهي ـ البشري تزول ، حيث يغدو الوجود من صنع إله واحد ، ويحدث التساؤل في الوعي الديني التوحيدي عن أسباب الخلل والتناقض في الحياة المخلوقة من صنع إله واحد .
إن الضرورات السياسية في مصر في عهد إخناتون ، حين أراد أن يجهز على سلطة الكهنوت ويمركز السلطة في يديه ، وجهته نحو تعميم عبادة آمون ، مثلما قادت الضرورة القبائل اليهودية إلى إله واحد مخصص لها ، لم يصبح الإله الكوني الوحيد إلا بعد أن تفاقمت الهزائم والكوارث على هذا المشروع السياسي ، فوجه الحاخامات الشعب اليهودي نحو الإله الواحد تجسيداً مطلقاً لحلم زال.
لكن توجيه الأمور نحو ظهور إله واحد لا بد أن يعيد النظر في الإرث الديني التعددي والتجسيمي السابق ، فيزيل كل عوامل الصراع الإلهي ـ السياسي ، ويمركز السلطة في ذات وحيدة ، في سلطة واحدة مطلقة.
إن الفلاسفة فيما بعد سوف يتصارعون بشدة حول هذا الإله الوحيد ، الذي رأينا كيف تتجه صورته إلى التجريد أكثر فأكثر ، نظراً لحاجات الشعوب للمركزة السياسية أو تكوين دولة جديدة، ولن يعرف هؤلاء الفلاسفة كيف يجمعون بين إله مجرد، وهو أيضاً ذو تدخل وملموسية وحضور مادي ، عبر مناهجهم المجردة واللاتاريخية.
إن الحاجة تدفع لبروز الوعي بإله وحيد مجرد ، لتذويب الوحدات السياسية ـ الاقتصادية المتباينة وتشكيل دولة موحدة ، ولتجمع السلطات بين يديها، ولكن تجميع السلطات في لحظة تاريخية ما لابد أن يقود في لحظة أخرى إلى تفكيك هذه السلطة المركزة ، فتتراوح صورة الإله المجرد بين لحظتين متضادتين: التجريد الأقصى والوحدانية ، وبين التعددية والملموسية المباشرة.
في التجريد الأقصى تقع صورة في العزلة والنأي عن الوجود المادي ويستحيل معرفة كيف تتم العلاقة بين المجرد الكلي والأشياء ، وفي التعددية والملموسية ، تقع صورة الإله في دائرة الامتداد والحركة والتجسيم.
إن الرعاة وهم يريدون تشكيل دولتهم يستعينون بفكرة الإله الوحيد ، تعبيراً عن الرغبة في الدولة الموحَّدة ، وحين يقتحمون البلاد الزراعية ، يريدون الاحتفاظ بهذه الواحدية ، التي يرفضها سكان المناطق الزراعية.
إن صورة الإله الوحيد المطلق تظهر إذن وهي لا تزال في دوائر التجسيم ، لم تصر شيئاً مجرداً، لكونها تمثـل تطوراً في نمو الأساطير ، وليس نتاج الفكر المجرد. إن الأسطورة العبرية ، وقد تشكلت من رغبة في تشكيل دولة وإله خاص مسلح ، تحتك وتصارع أساطير أمم المشرق (العربي) ، ثم يقوم مثـقفوها بالاستفادة من التراث الرافدي والمصري ، ليغنوا صورة إلههم الفقير روحياً ، والمنتزع من براكين البحر الأحمر ، فيأخذوا من هذا الإرث مسألة الخلق الأول لأبي البشر وقصة نوح وأيوب وغيرها من القصص والعناصر ، وتلغى تعددية الآلهة بما يتوافق مع مركزية السلطة وواحدية الإله. ثم يعود هذا الإرث إلى فلسطين ليبدأ نزاع جديد.
لقد أنتصر الإله الرعوي بإرث المناطق الحضارية ، فعرف العبرانيون كيف يستغلون ثروة أمم المشرق الروحية والمادية ، ودون أن تتشكل الدولة ـ الحلم.
ولكن حين جاء الإغريق ثم الرومان المحتـلون لم يستطع هذا الإله أن يكون أداة مقاومة ، فهو لم يكن موجهاً للأمم الغريبة (الأغيار) ، وهو مع تواجده في منطقة الخصب الزراعي ، وقف نائياً ورافضاً تقاليدها وطقوسها الاحتفالية الربيعية ، وهي ذات المكانة المركزية في حياة الفلاحين ، إن عداءه لأيل وبعل ، كان يدفع أمم المشرق لإنتاج وعي جديد يتجاوز الديانات الوثنية من جهة ، والديانة الرعوية الانعزالية اليهودية ، من جهة أخرى.
إن نمو المسيحية من رحم اليهودية لم يحدث إلا بسبب إنتاج اليهودية لصورة لإله غير وثـني ، وهي التي ستكون تجاوزاً للتفتيت السياسي ، ففيها حلم توحيد المشرق (العربي) عبر سلطة واحدة، هي نفي للماضي المتشرذم ، وللهيمنة الأجنبية ، وهي كذلك استعادة لآن وأيل ورع ، وقد تخلصوا من ثيابهم الوطنية ، ولكن المسيحية هي أيضاً تموز وبعل وأدونيس وأوزوريس ، هي الابن الفادي ، والإله الذبيح ، أي هي أيضاً استمرار للاحتفالات الطقسية القديمة ، إرث شعوب المشرق الزراعية الطويل. هكذا يغدو الأب والابن تجاوزاً للمسميات وتوحيداً لها في أسمين عائلين مجردين وعامين ومخصوصين. لكن المسيحية وقد اعتمدت اللاعنف ، وتغلغلت بين الفلاحين وسكان المدن والعبيد ، عجزت عن الوصول لتوحيد سكان المشرق العربي ، مركز الفعل الحضاري في الشرق الأدنى ، وخاصة الأقسام الرعوية الواسعة ، التي أصبحت تمتلك قدرات سكانية كبيرة. ثم دخلت المسيحية في انقسامات وتم استيعابها من قبل الإمبراطورية الرومانية ، فلم تستطع القيام بمهمات توحيد المنطقة و«تحريرها».
إن الأديان المشرقية : اليهودية والمسيحية والإسلام تمثـل إذن درجات المقاومة المتصاعدة من الحلقة الأقل حضوراً إلى الحلقة الأوسع والأقوى سكاناً.
≣ التوحيد العربي
كانت هذه المهمة من نصيب القوم الرعاة وهم العرب ، الذين أتاحت ظروف جزيرتهم العربية ، المحكمة الإغلاق أن يتكاثروا فيها ويتطوروا ، ولا توجد منطقة رعوية بها هذه الخصائص الفريدة ، حيث القرب من المناطق الحضارية المركزية ، واستيعاب منجزاتها ، والنأي أيضاً عن سيطرتها .إن عشرة قرون من الاحتلالات الأجنبية للمشرق الذي أخذت تتشكل فيه جذور للعروبة ، والتي تمتد من عمق الجزيرة حتى بوادي الشام ، لم تظهر فيه قوة محلية قادرة على طرد الغزاة ، وقد أصبحت السيطرتان الرومانية والفارسية عبئاً ثقيلاً على المنطقة ، حيث تذهب الفوائض المالية إلى العاصمتين فتهدرانها في البذخ والحروب ، ولهذا فإن المناطق الرعوية والريفية تعيشان أزمة اقتصادية . ومن المعروف كيف تدهورت حياة أسرة هاشم بن عبد مناف ، وكيف تفاقمت الديون وحياة الفقر في مكة على سبيل المثال.
وقد أخذت الجزيرة العربية منذ زمن بعيد الإرث الثقافي للمشرق ، وخاصة للقبائل والشعوب السامية الشمالية ، وقد كان الاحتكاك بين الجانبين كبيراً وعميقاً على مر التاريخ.
(يبدو أن مفهوم «آن» ـ (السيد) ظهر في التاريخ في حوض النهرين الأدنى قبل الألف الرابع ق . م. وظل كصفة للقوة والسلطة المطلقتين اللتين توحي بهما السماء (الله بمفهومنا) مترسخاً في الذهنية الحضارية السورية لأكثر من ألفي سنة. وفي العصور المتأخرة ساد هذا المفهوم أيضاً في العربيتين الشمالية والجنوبية) ، (22).
ويذكر المؤلف في العديد من الصفحات الأماكن التي التصقت بآن وأيل في مختلف أنحاء المشرق كظهران وجيزان وغمران ، أو سعد إيل وتيم إيل (23) .
إن تحرك إيل أو آن نحو المناطق الأشد رعوية كان لا بد أن يؤدي إلى تغيرات في بنيته ، فقد ظهر في عالم المدينة ـ الدولة ذات المحيط الزراعي ، وداخل شبكة من الآلهة المتعددة ، تعبيراً عن الوحدة الصراعية بين الدولة المتعالية والجسم الفلاحي.
لم يحدث الإنفكاك بين صورة الإله المجردة ومحيطه الزراعي إلا في لحظتين سياسيتين ، هما لحظة الإله آتون ولحظة الإله يهوه ، وكلتا اللحظتان تشيران إلى مشروعين سياسيين تحوليين هامين في المنطقة ، فإخناتون حاول الإطاحة بتعددية السلطات الدينية والسياسية ، وتركيزها في يديه ، فواجه الكهنة ولكن لم يستطع أن ينتصر لأسباب تاريخية واجتماعية عميقة ، فتكوين الإله المجرد المفارق كلياً للأرض الاجتماعية الزراعية التي تكون منها ، وظل على علاقة صراعية متداخلة بها ، أمر لم يحدث ولم يتشكل.
إن هذه الإمكانية ممكنة فقط في حالات مخاض العالم الرعوي عن مشروع تكوين سياسي جديد ، ولعل ثمة علاقات بين إخناتون والعالم الرعوي ، أي أن ثمة مواداً مشرقية تغلغلت في الوعي المصري السائد وراحت تحفزه للتوحيد الاجتماعي وتذويب الوحدات الاقتصادية والسياسية والفكرية المفككة ، في تكوين سياسي واحد وصلب . إلا إن هذا يحتاج إلى أساس اجتماعي مختلف ، أي إلى تنام لعلاقات اقتصادية لا تسود فيها الحياة الزراعية. وكان هذا أمراً غير ممكن موضوعياً في مصر.
واللحظة الثانية ، وقد أشرنا إليها سابقاً ، وهي لحظة الإله يهوه ، المنتزع من عالم غير زراعي، والتي أعطته فترته السياسية التكوينية ، بين المشروع وتجسيده ، إمكانية التجريد والعلو فوق العالم الزراعي وبنيته ، دون أن يتمكن من المفارقة والتجريد الحقيقي ، فظل إلهاً ملموساً لقبائل تريد غزو أرض زراعية ، وحين حكمتها ، لم تستطع إلا أن تتردد بين صورتي الإله المختـلفتين. ولم يصبح هذا الإله مجرداً ومنفصلاً عن البنية الزراعية إلا حين أصبحت الجماعات اليهودية مالية وتجارية ، وانفصلت بشكل كبير عن فلسطين ، وغدت قوة النقود واستغلال الأمم الأخرى هو ما يوحدها.
ونستطيع أن نلاحظ إن ثمة قوة مقاومة للاحتلال الروماني والفارسي عبر هذا الحراك الفكري الذي تشكل من المخاض الاجتماعي السياسي الطويل في المنطقة على مدى عشرة قرون ، فإذا كان اليهود قد جمعوا فسيفساء الوعي الديني وأدلجوه لصالح تجربة القبائل اليهودية لتشكيل وطن أو للعودة إليه ، فإنهم كذلك ناضلوا من أجل الإله الواحد الذي يحاول أن ينسحب من التقاليد الزراعية الوثنية التعددية ، فيدعو للقوة وعسكرة القبائل ، لكن المادة البشرية اليهودية المحدودة لم تكن مؤهلة لخلق الوحدة وطرد الغزاة.
في حين إن المسيحية التي كانت أبنة التطور الفكري والسياسي للمنطقة ، استطاع مثقفون ينتمون للحضارة الإغريقية ـ الرومانية أن يحولوها إلى استجابة فكرية أيديولوجية لحاجات الإمبراطورية الرومانية في التوحيد والتجميع. ومن هنا تغلغلت المسيحية في العالم المسيطر والعالم المسيطر عليه ، في البلد المهيمن والبلدان المهيمن عليها والمنهوبة. ولم يعد ثمة فرق بين من يستغل ويتلقى العذاب ، ومن يقوم بالاستغلال والتعذيب ، عبر مجموعة من الأفكار التي راحت تنمو وتتجير لصالح توليفة من الانسجام والتوفيق بين الأطراف المختلفة المتصارعة ، سواء عبر أفكار تتجاوز اليهودية المحصورة ، أي عبر إلغاء «الخطيئة» الأصلية الذي يعني تجاوز اليهودية واستيعابها ، ومن خلال نشر ثـقافة اللاعنف والتسامح ، بحيث يتشكل مخرج تاريخي لنظام العبودية المتعدد الألوان بين الغرب والشرق ، وتستعيد الزراعة دورها التاريخي ويتم تخفيف العبودية الخ .
وهكذا فإن المسيحية عبر تطورها ، الخاضع لهيمنة الثـقافة الإغريقية ـ الرومانية ، انفصمت حينئذٍ عن الحاجات السياسية والاجتماعية الملحة للمشرق ، وغدت وعياً سياسياً يتجه لتغيير بؤرة السلطة في العاصمة السياسية للإمبراطورية. وغدت تخفيفاً من الهدر الإلهي التعددي الوثني وتركيزاً له واختزالاً لبذخه ، فصار انتصار التثـليث موظفاً للحاجات السياسية للإمبراطورية أكثر منه للشعوب ، وخاصة المشرقية ولشعوب شمال أفريقيا المستغلة كذلك ، وسوف يكون تغلغل المسيحية في عالم الغرب الزراعي أكثر منه في عالم المشرق الزراعي ـ الرعوي.
وقد أستمر الغليان المسيحي في المشرق ، مركز إنتاج الفكر الديني ، وظهرت حركات المعارضة المسيحية الكبيرة فيه ، مما يعبر إن صراع المصالح ، صراع الطبقات ، لم توقفه المظلة التسامحية ، وعبرت النسطورية عن مهاجمة قلب العقيدة الرسمية التي شكلتها الدولة ، فألغت التثليث الإلهي ، وهذا ما فعلته الفكرة الآريوسية بإنكار أن يكون المسيح إلهاً.
إن هذه الإنشقاقات الفكرية كانت الشكل الفكري للاستقلال السياسي ، ولكن كما أوضحنا أعلاه ، كان المسيحيون العرب والمشرقيون بلا قوة عسكرية كبيرة ، وكما قلنا كذلك فإن التغيرات الثورية الداخلية كانت شبه مستحيلة للسكان المزارعين والعامة المدنيين ، ومثـلت المسيحية ذاتها شكلاً للتوافق والتصالح والمسالمة.
لقد أخذت الاتجاهات التوحيدية تنمو في الجزيرة العربية ، بسبب المصالح المشتركة لقبائلها العربية ، ولتنامي العلاقات الاقتصادية والفكرية بينها ، وكانت العبادات الوثنية ، التي عبرت عن مصالح مستقلة للقبائل والمناطق، لم تعد تستجيب لعلاقات التوحيد الاجتماعية والسياسية المتصاعدة.
إن شبكة الإلهة الوثنية عبرت عن مكانة مركزية منهارة للمرأة ، فقد سيطرت الإلهات الأنثى : اللات والعزى ومناة ، على القبيلة الإلهية ، ولكن الإله الذكوري (هبل) كان يتمتع بمكانة خاصة، غير أن سيطرة الآلهات الأنثويات يمثل تناقضاً كبيراً مع تنامي العلاقات الأبوية الذكورية القوية، ولم يكن ثمة من المرحلة الأمومية سوى بقايا أسماء ، وكانت كافة أسس الحضارة قد تشكلت بين القبائل المسماة عدنانية ، وهي التي كانت ضاربة في البداوة ، بخلاف القبائل القحطانية التي استقرت في اليمن وكونت دولاً ، غير إنها لم تستطع القيام بالتوحيد السياسي للمنطقة ، لأسباب تتعلق كذلك بالبنية الزراعية المفككة ، وقد ضعفت الزراعة مع انهيار سد مأرب ، وعودة الكثير من القبائل اليمنية للارتحال والبداوة. إن هذا قد وضع كذلك أسساً للتقارب بين التجمعين العربيين الكبيرين ، إلا أن التمايز القبلي سيظل لفترة طويلة.
لقد أدى هذا إلى المزيد من التدهور المعيشي لغالبية السكان ، وأزداد ذلك باستمرار الحروب ، كما أشرنا ، بين الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية، وكذلك الحروب الأهلية العربية .
لقد تضخم عدد القبائل الرعوية في الجزيرة ، وأصبح العدنانيون (القيسيون) القوة الكبرى فيها ، وتشكلت لهم مدن هامة ، خاصة مكة التي أخذت تلعب دوراً توحيدياً تجميعياً ، وكان موقعهم المتميز الواسع في الشمال والغرب قد جعلهم قادرين على توحيد الجزيرة وقبائلها.
كيف كانت استجابة الوعي الديني للعمليات الاقتصادية والاجتماعية التوحيدية ؟
بطبيعة الحال كان العرب في وضع استقبال طويل للمؤثرات العربية الشمالية خاصة ، حيث كان التداخل والتفاعل الطويل.
(في أوغاريت ، ومنذ الألف الرابع قبل الميلاد ، قام أتباع إيل وبشكل حاسم ، بإلغاء كل حضور للأرباب من الطقوس الدينية للبلاد ، فبعل أقوى الأرباب الأوغارتيين ، صار الآن شيطاناً أكبر ، وزعيماً للأبالسة ، وكذلك عشتار التي أصبحت علة للانحلال الخلقي ومصدراً للإباحية الجنسية.)، (24).
إن حصول الصراع بين أتباع أيل وبعل ، بين الإله الممثل للسلطة العليا ، وآلهة البنية الزراعية، هو ظاهرة أخذت تتنامى في المنطقة الشمالية من المشرق ، بسبب تصاعد العمليات التوحيدية السياسية ، وبسبب تدفق الرعاة المستمر ، الذين أخذوا يجعلون المنطقة بدوية أكثر فأكثر. كذلك فإن مهمة توحيد المنطقة وطرد الغزاة ، كانت تنمو عبر القرون. لكن هذا الصراع ظل مستمراً دون حسم بسبب التداخل بين البنيتين الرعوية والزراعية ، وعدم قدرة المؤسسات السياسية على الانفصال الكلي عن الجمهور.
لقد رأينا كيف توغلت الآلهة الشمالية في الجزيرة العربية ، وكان إندغام أسمي أيل وآن بمناطقها ومدنها وأسماء البشر والآلهة فيها مؤشر على الترابط والتلاحم بين الجزئين العربيين ، ولكن تطور مكانة أيل خاصة ، يعبر عن النفوذ الفكري المتزايد للشمال السوري مثلما أخذت البادية السورية تصبح امتداداً لتدفق الرعاة من الجنوب.
(لاحظ جورجي كنعان في كتابه (تاريخ الله) أن النقوش التي عثر عليها في الإمارات الآرامية تتضمن إشارات واضحة إلى التطور الذي لحق باللفظ (إيل) منذ الألف الأول ق. م . من حيث البنية والمدلول ، فمن حيث البنية ترددت في النقوش صيغ متعددة لــ «إيل» مثل (ال ه) ، (ال ها) ، (ال هه) ، (ال هم) ، (اله ى ا) . ومن حيث المدلول تحولت الصفة (إيل) عند العرب القدماء إلى لفظة (الله) فكان من الطبيعي أن يدخلوه في تركيب أسمائهم مثل : ماء الله ـ سعد الله ـ الخ) ، (25).
وفي اليمامة كانت عبادة (الرحمن) منتشرة ، وهو أسم يجمع بين الرحم ، وهو صلة القرابة المقدسة ، والإله آن .
لا نستطيع أن نقول إن إيل قد تخلص من الآلهة الزراعية ، وصار تجريداً كاملاً ، فالبقع الزراعية قد شهدت الاحتفالات الطقوسية الاخصابية ، وقد كانت جذور الحج الوثني إلى مكة تحمل سمات ذلك ، عبر شرب الخمور ولبس ملابس قليلة وتقديم الذبائح إلى الأصنام.
لكن ضخامة الجسم العربي الرعوي ، وضآلة المناطق الزراعية ، وعملية التوحيد المستمرة في بنية الجزيرة العربية ، والدور القيادي المكي في ذلك ، جعلت عملية التجريد الواسعة تكبر في رمز الله ، نفياً للإلهة الأنثى الملحقة به وهي (اللات) ، تعبيراً عن الانفصال الحضاري الكامل عن المجتمع الأمومي ، ولكافة شبكة الآلهة المفتتة للجسم الاجتماعي ، و تعبيراً عن تشكل المؤسسات السياسية الحاكمة وصعود الحاكم الفرد كذلك ، والانتقال إلى الحضارة.
هنا حدثت عملية التجريد الثالثة دون صعوبات هائلة كما حدث في عمليتي آمون ويهوه ، بسبب محدودية الإرث الزراعي وطقوسه ، والدور الكبير الذي تلعبه القبائل الرعوية ، فغدت عملية التوحيد الدينية والسياسية عسكرة لهذا القبائل وتوجيهها نحو التوسع وتغيير طابع المنطقة وطرد القوى الأجنبية منها وإحداث عملية تقدم حضارية كبرى بها.
فصل من كتاب: انظر عبـــــــدالله خلــــــــيفة/ الاتجاهات المثالية في الفلسفية العربية الإسلامية، والذي يعرضُ فيه المقدمات الفكرية والاجتماعية لظهور الإسلام والفلسفة العربية.
المصادر :
(1): (راجع: تاريخ الشرق الأدنى القديم، د. محمد أبو المحاسن عصفور، دار النهضة العربية1984، بيروت ص 60 ــ 62).
(2): (فبما أن البشر قد خلقوا لخدمة الألوهة (...) فان كل مدينة دولة قد كانت استثمارة للألوهة خاصة ببنية قرابية (مجتمع) مخصوصة، ومكرسة للألوهة المطلقة في شخص أحد أرباب الكون المخلوق) (الميراث العظيم، أحمد يوسف داود، سلسلة القسام الفكرية،1991 دار المستقبل، دمشق، ص302).
(3): حول هذه المدينة المسيطرة على الفضاء التاريخي نقرأ: (مساحة المدينة ميلاً مربعاً، وبساتينها ميلاً مربعاً آخر، وتبلغ حفر الطين ميلاً مربعاً، وكذلك أرض الفلاة المحيطة بمعبد عشتار. ثلاثة أميال مربعة ومساحة من أرض الفلاة تكون مدينة أوروك) (ملحمة جلجامش، من كتاب (أساطير من بلاد الرافدين، ترجمة نجوى نصر، دار بيسان،199، ط 1).
(4): ( جذور الاستبداد ، عبد الغفار مكاوي ،عالم المعرفة ، العدد192 ، ص59، الكويت).
(5): إن هذه البنية الاقتصادية ـ الاجتماعية هي أساس النظام، في حين تتبدل الهياكل السياسية دون مس كبير لأسس البنية، يقول مؤلف كتاب (الميراث العظيم) حول تجربة مصر: (لكن وجود الدولة المركزية لم يكن يعني ـ على ما يبدو ـ تغيير الشيء الكثير في جوهر التركيب الجمعي وحتى الإداري. فقد ظلت المدينة ـ الدولة أساساً في تكوين الدولة القطرية، وهو ما تتكشف عنه متابعة الدراسات المكتوبة في تاريخ مصر القديمة.)، ( الميراث العظيم، ص 299.).
(6): (مغامرة العقل الأولى، فرس السواح، دار علاء الدين، ط1، ص31.)
(7): ( المصدر السابق صفحات:32، 33 ).
(8): (راجع كذلك المصدر السابق، ص94 ـ 97).
(9): (المصدر السابق، ص 39).
(10): (أساطير من بلاد الرافدين، دار بـيسان، ترجمة د. نجوى نصر،1991 ، ص 124).
(10): (الإسلام وملحمة الخلق والأسطورة، تركي علي الربيعو. المركز الثقافي العربي، ط1،1992، ص114.).
(11) :(المصدر السابق، ص 115.).
(12): (المصدر السابق، ص 119.).
(14): (يقترب أبن خلدون من رؤية تاريخ المنطقة وهيمنة القوى الرعوية فيها في كلامه عن ضرورة الاعتبار لما:(وقع في العرب لما انقرض ملك عاد قام به من بعدهم إخوانهم من ثمود ومن بعدهم إخوانهم العمالقة ومن بعدهم إخوانهم من حمير ومن بعدهم إخوانهم التبابعة من حمير أيضاً ومن بعدهم الإذواء كذلك جاءت الدولة لمضر وكذا الفرس لما أنقرض أمر الكينية ملك بعدهم الساسانية حتى تأذن الله بانقراضهم أجمع بالإسلام وكذا اليونانيون أنقرض أمرهم وأنتقل إلى إخوانهم من الروم وكذا البربر بالمغرب الخ ..)، (المقدمة، فصل في الملك إذا ذهب عن بعض الشعوب من أمة فلا بد من عوده إلى شعب آخر منها ما دامت العصبية، 116، طبعة دار العودة).
(15): (جذور الاستبداد، ص 168).
(16): (وكان طبيعياً أن يصنع خيال الحكماء الشعبيين في وقت المحنة والظلم، إلهاً يشاركهم محنتهم ومظلمتهم، فيموت جوراً، كما يموت المسخرون حول الأهرامات العتيدة، وتنطبع الأسطورة الجديدة بطابع جديد على الفكر المصري، فتحول همها إلى الفقراء، ومشاكل العوز والحاجة، وآمال الضعفاء وطموحاتهم، وتصور الحل الأمثل لهذا الوضع الاجتماعي المختل، لتصبح الأوزيرية هي التعبير الأيديولوجي عن الثورة الشعبية)، ( أوزيريس وعقيدة الخلود في مصر القديمة ، سيد محمود القمني ، كتاب الفكر ط 1، 1988، ص144.).
(17): (تاريخ جهنم، جورج بنوا، منشورات عويدات، ط 1، بيروت).
(18): (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، د. جواد علي، الجزء الثاني، الفصل الثامن عشر : العرب والرومان ).
(19): (أشارت تلك النصوص الرافدية، المدونة في القرن التاسع قبل الميلاد ، إلى ملكات عربيات ..)، كتاب (رب الزمان، سيد محمود القمني، الناشر مدبولي الصغير، الطبعة الأولى، ص 194).
(20): (النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة، سيد القمني، المركز المصري لبحوث الحضارة، الجزء الثاني، ص 238).
(21): (يقول لويس عوض في كتابه ( فقه اللغة العربية): (ولا شك أن العرب حين نزلوا شبه الجزيرة العربية إنما نزلوا على سكان أصليين كانوا فيها من قبل ، كان منهم العماليق الذين نعرف من قصة " الخروج " في التوراة أنهم كانوا مستقرين من الحجاز إلى جنوب فلسطين من قبل خروج بني إسرائيل وهؤلاء أستطعنا تحديدهم بجحافل الهكسوس المطرودين من مصر في القرن الخامس عشر ق. م.)، (سينا للنشر ، ط1، ص52 .).
(22): (تاريخ الله: إيل ـ العالي ، جورجي كعان ، بيسان للنشر والتوزيع ، بيروت ، ط 2 ، ص 179.).
(23): (راجع الصفحات180 ــ 204 من المصدر السابق).
(24): (فرس السواح، لغز عشتار، ص349).
(25): (الأحناف ، عماد الصباغ، دار الحصاد، ط 1، ص 26).
الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية
الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية
الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية
يغدو الدين كفكرة مصاغة من قبل القوة الاجتماعية العليا فكرة قبلية و(مدنية) ووطنية ، لأنه كشكل للوعي لم ينفصل عن وعي الجماعة ، لكن يُلاحظ الفرق الكبير بين الدين في المشاعية والدين في المجتمع المنقسم اجتماعياً ، حيث كانت سمات الأمومية والخصوبة والتعاون تظلل آلهته ، في حين تصاعدت جوانب القوة والعنف والهيمنة مع آلهة النظام الطبقي ، مما يعبر عن تصاعد دور الدولة كجهاز قسر وتحكم.
وفي الفترة الأكادية التي يظهر فيها عنف الألوهية وشراستها ، تبدو كمرحلة مختلفة عن ألوهية العصر الأمومي الخصوبية ، وعن المرحلة اللاحقة وهي التي ستنمو بالتضاد مع آلهة الساميين الرعويين الباطشة ، والتي تغدو تركيباً من مرحلة الأمومية وصعود الإله الذكر المعبر عن مرحلة الدولة والطبقات ، في توليفة متجاوزة للعهد (السامي الأكادي) وسيكون ذلك تجميعاً مشرقياً ، وإن كان بصورة متفرقة ، لإله الخصوبة وقد صار ذكراً ، وتجلت فيه فعل الطبقات المقهورة كذلك ، بعد أن كانت الصياغة الأساسية في المجتمع المشرقي الطبقي ، من فعل الطبقات القاهرة.
لكن فعل هذه الطبقات المقهورة يتجلى من خلال إرثها الزراعي ، حيث تتشكل الآلهة المقاومة المعَّذبة المتمزقة ، وهو ما يعكس تغييب الفعل البشري في الطبيعة ، وجعل ذلك في رموز متفردة مفارقة في نهاية المطاف ، تزيل ملامح ما هو سياسي واجتماعي .
إن الدين لا يعبر فقط عن القاهرين بل عن المقهورين أيضاً ، فالطبقات المتعددة ترى الإرث الديني بصور مختلفة ، وقد عكست المرحلة التموزية على سبيل المثال ، فعل الطبقات الشعبية ، خلافاً للعصر السابق ، ولكن القوة المسيطرة تقوم دائماً بالتسلل إلى البنية الدينية التي غدت شعبية فتوظفها لما لم تكن لها بداية ، عبر نزع المضمون النضالي العميق لها ، وتحويلها إلى أشكال عبادية مُفرغة من ذلك المضمون ، ومؤدية إلى التهدئة الاجتماعية والاستسلام.
ولهذا سنجد في الميراث الديني عموماً هاذين الجانبين المتضادين المتداخلين ، جانبي المقاومة والاستسلام ، جانبي الكفاح للتغيير أو تأجيل الأهداف إلى الغيب.
وإذا كان الجمهور ، حسب وضعه التاريخي ، لا يجد سوى المادة الدينية ، فإنه سيقاوم داخل غيبها المموه ، وسوف يكسر بعض المحرمات والمقدسات السابقة ، ويشكل مقدسات جديدة يحرك بها التاريخ المجّمد ، في امتيازات الحكام ، وهذه اللحظة هي التي تنفث حرارة بنقد الظالمين ، فترى إن التاجر لا يدخل من خرم إبرة حسب الإنجيل ، وإن المرابين والمستغلين مدانين وإن للفقراء ملكوتاً قادماً ، وبعدئذٍ حين يكون الدين في موقع تاريخي مختلف ، وتتغير علاقته بالطبقات المتصارعة ، وينتقل من التعبير عن طبقة مستغلة إلى التعبير عن النظام الاجتماعي ، أو عن كل القبائل ، أو عن الوطن كله ، حينئذٍ تتبدل صياغاته وتستقر توجيهاته العامة في شكل تصالحي غامض ، ثم تبدأ الطبقة المسيطرة ، أو الطبقات المسيطرة ، حسب المناطق والدول ، في إعادة تشكيله ونزع مضمونه الثوري الذي تشكل في المرحلة الأولى ، حين كان وليد الطبقات المقهورة.
ولكن عملية إعادة إنتاج الدين لا تتوقف ، فهذا التكييف الفوقي ، يقابله تشكيل تحتي ، والأشكال الخارجية من العبادات التي تحاول الطبقة المسيطرة تحويلها إلى قيد اجتماعي للسيطرة اليومية والأهداف السياسية قد تتحول إلى شكل مضاد الخ..
≣ الزراعة كاقتصاد مهيمن
إن مساهمة فرعي الاقتصاد الأساسيين: الزراعة والرعي في تطور المنطقة ، يعتمد على عناصر مختلفة كاستئناس الحيوان وتطور الأدوات المعدنية ، وهذه العوامل كبيرة الأهمية لكون عالم الزراعة سيبقى بلا تطورات جذرية ، في حين إن استئناس الإبل والخيول وجلب المواد الحديدية ، الذي سيكون من مساهمة الأقوام الأكثر بربرية وهم (الهكسوس) ، ملوك الرعاة ، والذين جاءوا في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد وأحدثوا الكثير من الخراب كذلك ، إن هذا سيؤدي إلى الفعالية الكبيرة للرعاة على حساب المزارعين. إن انتشار الحديد والخيل وتغلغل الإبل في الجزيرة العربية ، سيروض المناطق الأكثر أتساعا وصحراوية في المنطقة ، والتي ستتمتع باستقلالها شبه المطلق ، في منطقتها الصعبة الوعرة، وقد حاول الرومان مرة واحدة غزوها في حملة فأصيبوا بكارثة (18).
لقد كانت الزراعة وتوابعها: الحرف والتجارة، هي سيدة المنطقة فيما قبل غزو الهكسوس ، لكن القرون التي تلت بدأت تصعد أقوام الرعاة كالآراميين ، الممهدين الأخيرين للعرب جنساً ولغة.
وإذا كانت الزراعة لم تنفصل كلية عن الرعي في حقبها الأولى ، وقد حدث الانفصال حين تمكن الرعاة من استئناس الحيوانات ذات الأهمية القصوى في تطورهم وهي الخيول والإبل ، فإن الرعي لم ينفصل كلية عن الزراعة ، فحين تتواجد الظروف المائية الكافية كان يمكن الجمع بين الاقتصادين ، إلا أن الانفصال الكبير قد حدث ، ووجدت الساحة الأكبر لتطور الرعاة ، وهي الجزيرة العربية ، فيما بعد مجيء الهكسوس.
ويلاحظ أن الممالك العربية الأمومية في شمال الجزيرة العربية ،(19) ثم الممالك السواحلية المتعددة في اليمن والحجاز والبحرين وعمان ، كانت أقل رعوية من الداخل ، وذلك بسبب نشؤ المدن والزراعة. إلا أن العمق الرعوي هو الذي كان يتحكم في الحركة التاريخية للعرب ، حيث لم تستطع أي مدينة أن تفرض نفسها على الرعاة الأشداء وعبر المنطقة الهائلة الاتساع.
ويمكن ملاحظة بدايات التطور الحضاري لدى العرب الشماليين القيسيين ، في مدائن صالح ولدى المناذرة والغساسنة والأنباط ، وفي الشريط الحضاري للحجاز، والذي تناثرت فيه المدن التعدينية ، حتى جاءت مكة تتويجاً لمخاض اقتصادي واجتماعي طويل ، (20).
≣ الزراعة والفروع الأخرى من الاقتصاد
تشكلت المدن في المشرق من القرية الزراعية ، التي كان المعبد ثم القصر شكلي التطور السياسي الديني المهيمن فيها ، فمن الزراعة في المشرق الخصب تشكلت السلطة السياسية التي سيطرت على خريطة المدن والمجتمع ، ومن خلال فائض الزراعة ثم الحرف والتجارة كانت تتشكل الحياة الاجتماعية والثقافية المختلفة.
إن الزراعة لا تمثل تشكيلة اقتصادية ـ اجتماعية ما ، مثلها مثل الرعي، والحرف ، فهي مهن وعمليات إنتاجية وتوزيعية متعددة ، لكنها كانت حرفة واسعة ، بل المصدر الأساسي للإنتاج ، حيث تواجدت الأنهار الكبري ، وأنتجت أوسع الحقول الزراعية. وقد هيمنت الدولة هيمنة مطلقة ، بسبب ما رأيناه من صعود سريع للأجهزة الاقتصادية والسياسية ، فخضعت الحرف والتجارة للتطورات الزراعية مستفيدة من فيضها ومؤثرة عليها بن ، إلا أنهما خضعتا لتطورها في النتيجة النهائية ، فعلى طريقة توزيع الفائض الزراعي يتحدد التطور الحرفي والتجاري.
لقد كانت الطبقة المسيطرة تستلم الفائض الزراعي بصورة عينية أو بصورة ـ عينية نقدية ، ثم تركزت الفوائض بشكل نقدي شبه كلي في سيرورة التاريخ ، حيث يمكن تحويل النقد إلى أي بضاعة أخرى. وعبر هذا الاستلام تتكون مؤسسات الدولة ، فهي ليست سوى خزانة لتراكم استغلال الفلاحين ، وبعد الخزانة تتشكل المؤسسات التي تقوم بحسابها أو الدفاع العسكري عنها.
ولا تلعب التجارة والحرف دوراً مستقلاً في تطوير الاقتصاد ، فهما مربوطتان بفوائض الزراعة ، التي تتحكم بها الخزينة الملكية ، والتي تغدو مشروعاتها الاقتصادية والاجتماعية رهن بذاتية الحاكم المطلق ، أي بأسباب مرحلته ، وأسرته ، ورغباته ، وأفكاره ، وسنه الخ..
وهكذا فإن الزراعة التابعة للطبيعة تبعية شبه مطلقة ، ستهيمن على الحرف والتجارة من خلال تحكم الأسرة الحاكمة أو القصر ، مما يلحق هاتين المهنتين كذلك بالتبعية للطبيعة و" أقدارها ". وكأن كل شيء سيتعلق بالحاكم المطلق «الإله».
إن ذاتية الحاكم لا تنفصل عن طبقته ، ومرحلتها وصراعاتها ، وهي لا تلعب دورها الحاسم إلا من خلال هذه العوامل الموضوعية. وإذا كان الحاكم قد توحد بالإله ، وغدا جزءً منه ، أو امتدادا أسرياً ، أو تجسيدا نورانياً له ، فما ذلك إلا شكلاً للسيطرة الشاملة للحاكم على المدينة و(الرعايا)، أو المملكة ، أو الإمبراطورية الخ ..
إن التجارة بالتحاقها بالقصر تكون قد فقدت قدرتها على تفكيك الملكية الزراعية العامة الشاملة. فرأس المال الكبير لا ينمو إلا عبر الأرباح المتراكمة وهي التي ستأتي من التجارة بالمواد الهامة والثمينة التي يستعملها القصر ، ثم القصور الملكية المتعددة ، ومن ثم بذخ الطبقة الحاكمة كلها من وزراء ورجال دين وتجار كبار الخ.. ولهذا فإن رأس المال لا يتعامل علمياً بالحرف وأدواتها وآلاتها إلا إذا كانت ستلعب دوراً في إنشاء قصر أو عمل مركز رصد للحاكم أو قبر الخ .. ولهذا فإن العلوم ستغدو مجموعات من المعارف المُفككة ، وليست مناهج علمية تغربل المعلومات المختلفة وتنميها.
≣ نمو الرعي في الجزيرة العربية
وإذا كانت الزراعة هي أساس تشكيل الفائض الاقتصادي الأساسي وتوزيعه ، في المناطق الحضرية النهرية ، فإن الرعي هو أساس تشكيل الفائض الاقتصادي الأساسي في المناطق الصحراوية . ورغم أن الفوائض هنا قليلة ومحدودة ، إلا أنها تظهر وتتدفق على المدن والأسواق . فالرعي لن يكون سوى ملحق أخير باقتصاد المدينة ، حيث يسيطر الحاكم المطلق ، وسيقوم بتبادل سلعه التي ينتجها من قطعانه مستبدلاً بها السلع الضرورية كالمواد الغذائية والملبوسات والأسلحة. ولن تلعب هذه الفوائض دورها إلا في المدن الصحراوية والقرى ، التي ستمد الرعاة بالوسائل التي تجعلهم يتغلغلون أكثر وأكثر في الصحراء ، وخاصة رعاة الإبل ، الذين عبرهم ستتم عملية الانتشار الأوسع في الصحراء ، وخلق القبائل الأشد فقراً وتوحشاً. وسيبدو هؤلاء الرعاة الجماعات الأكثر تضاداً مع بذخ المدينة ومراكزها الكبيرة خاصة .
وكلما أنتشر هؤلاء الرعاة ، احتاجوا إلى المزيد من الأبناء الرجال ، فتتسع قبائلهم ويشتد الفقر في مستوياتها التحتية ، في حين ينفصل رؤساء القبائل والعشائر ، ويكونون أرستقراطية خاصة ، تشكل مصدراً آخر لاستغلال الرعاة ، ويستطيع هؤلاء الزعماء أن يحولوا القبائل إلى شرطة سياسية وعسكرية واقتصادية للدول التي تريد خدماتها ، أو لخفر قوافل التجارة ، أو إنهم يتحولون بأنفسهم إلى لصوص وقطاع طرق فيشنون الغارات على القبائل الأخرى أو المدن العامرة بالثراء.
لكن لحمة القبائل لا تتفكك مهما كانت عمليات التخلخل الاجتماعي داخلها ، ومهما ظهر الصعاليك والمتمردون ، ومهما أستغلهم رؤساؤهم ، فالوحدة القبلية أقرب للتكوين البيولوجي منها بالتكوين الاجتماعي ، فهي التي تكونت وتحجرت في الصحراء وقاست وصمدت لقسوتها. إن القبيلة تغدو هي الرحم الطبيعي للفرد ، ولهذا فإن القبائل عبر هذه الوحدة الصخرية تغدو قوى اجتماعية كبيرة منظمة في مواجهة مدن مستغلة ومفككة.
إن القبيلة هي أشبه بوحدة عسكرية متنقلة ، قادرة على الترحال والصمود في أقسى الظروف المناخية والاقتصادية ، وهي قوة موحدة وقتالية جاهزة ، وتمتلك مواردها واستقلالها الروحي والمادي ، وهي لهذا تصبح قوة مؤثرة في مواجهة المدينة ذات المصالح المتباينة ، خاصة عندما تبدأ مؤسسات المدينة في التفكك والضعف . وتصبح الأمور أشد خطراً حين تتآلف القبائل وتتحالف ، وتكون قبيلة كبرى.
≣ ظهور الرعاة على المسرح التاريخي
وقد تباينت التطورات الدينية بين القسمين الحضاري الزراعي والرعوي الجنوبي ، مثـلما حدث الانقسام الاقتصادي بين الجانبين ، ولكن التكوينين لم يكونا متضادين بشكل مطلق ، فالجانب الرعوي والذي يمكن أن يتحول إلى قرى ، أو قد يسكن المدن فيتحضر ، يتأثر بمنتجات المدن المادية والروحية ، لكن هناك تباينات واسعة مع ذلك ، فنحن نجد الهكسوس في احتلالهم لمصر يعبدون الإله الشيطاني فيها (ست) ، متوجهين إلى شبه توحيد ، رافضين شبكة الآلهة المصرية المعبرة عن حشود من العالم الزراعي المسالم ، وظهر التوحيد اليهودي بعد الانقلاب التوحيدي الاخناتوني ليعبر عن حلم هؤلاء الرعاة المشردين بتكوين دولة.
هنا نجد مثالاً ملموساً حول تضادات الأمم الرعوية والزراعية ، فالقبائل اليهودية عبر توحيدها ، تحاول أن تشكل سلطة سياسية وفكرية داخلها أولاً عبر الالتفاف حول إلهها (يهوه) ، رغم إنها لم تستطع بعد أن تتخلص من عبادتها لأيل الإله الكنعاني ، وهو الصيغة الأخرى لآن الرافدي ، الإله المتعالي الذي لم ينفصل كلياً عن بقية الآلهة المتشكلة في مناخ الخصب ، فهو إله المدينة ــ الدولة، التي رأينا كيف ظهرت بالهيمنة على الملكية العامة الزراعية.أما يهوه فهو إله المدينة التي لم تتشكل بعد ، أي إله الرعاة الحالمين بتشكيل دولة. وحين قام الإله بذلك عبر تشكل الدولة ومؤسساتها ، نجد التوراة تشكو من ملوك إسرائيل الذين لم ينفصلوا كلياً عن أيل وعن تقاليد المشرق (العربي) ذات التعدد الإلهي.
فقد عاد الإله الرعوي إلى منطقة أيل ذات الخصب الزراعي .
إن ظهور اليهود والعرب على مسرح التاريخ في المنطقة أحد المؤشرات على صعود دور الرعاة . وصحيح أن الرعاة كانوا قد ظهروا عبر عمليات الهجوم والاكتساح من قبل الهكسوس و«الكاسيين» ، والعديد من المؤرخين والباحثين يقول بأن اليهود والعرب هم من هؤلاء الغزاة ، (21) ، إلا أنه لأول مرة نجد الرعاة كجسم اجتماعي وسياسي مستقل ، وينبثق من داخل تكوين المنطقة ، أي من مفرداتها الثقافية.
وتتمكن القبائل اليهودية من تكوين دولتين مستقلتين بعد قرون ، إلا أن الدولتين اليهوديتين المقامتين لا تفلحان في الصمود على مسرح المنطقة ، بسبب وقوعهما بين الدولتين الكبريين الرافدية والمصرية ، أساس الكيان الاستبدادي الراسخ في المشرق.
هنا نجد الإله الرعوي يتحول إلى إله دولة ، دون أن يستطيع الإفلات من تقاليد المنطقة لقد أوضحنا كيف انبثقت الدولة ـ المدينة في المنطقة الزراعية عبر نماذج العراق وسوريا ، مما مثـل وحدة صراعية بين الإله المتعالي الذكوري المسيطر وبقية الآلهة الذكورية والأنثوية ، فهذه الوحدة يشدها قطبان دولة مسيطرة متعالية واقتصاد زراعي بتقاليده الأسطورية ، مما يمنع الأنفكاك بين قطبيها. إن آنو لا ينفصل عن تموز ، وآيل لا يلغي بعل. ورع لا يزيل أوزوريس.
ومشكلة الإله يهوه إنه يحاول أن يلغي أيل بعد أن جثم في موقعه ، لكون التميز اليهودي ومشروع احتلال فلسطين يصطدم بتواجد هذا الإله . وليس هذا فحسب بل أن كراهيته لبعل أشد ، حيث تتجسد التقاليد الطقوسية الفلاحية. وهو إله يسعى في ذله الطويل أن يعوض عن هذا الاستعباد والدونية ، دون أن يمتلك القدرات البشرية والمادية الكافية لكرامته. ولا تفعل سلسلة الأنبياء والمعجزات في تصعيد التكوين السياسي الزراعية ، وفيما بعد ، في عهد الأسر البابلي يعتبر ذلك التداخل هو سبب الكوارث والنكبات التي حلت على بني إسرائيل ، دون أن يخطر بباله إن وقوعه على طريق مرور الإمبراطوريات ، ومحاولته التميز والتفرد الإلهي بقدرته البشرية القليلة في ذلك المكان هي أ سباب كوارثه المتلاحقة.
≣ تناقضات يهوه
هكذا رأينا الإله الرعوي محملاً بالبروق والرعود ، أي بعناصر القوة الرمزية، وهو يخرج من مصر بتقاليدها الزراعية ، داخلاً في منطقة زراعية أخرى ، فلا يستطيع الإنفكاك من شريط العالم الأخضر بتقاليده الطقوسية ، إلا عبر تكريس نفسه في العزلة ، والعيش في الصحراء ، واستثارة التقاليد الحربية حتى يقتحم الأرض (الموعودة). إن هذا الحراك الرعوي أنتج الإله شبه المجرد ، رغم إن المرحلة الفكرية للشعب (المختار) لم تكن قادرة على تجسيد الإله إلا بشكل حسي . فالرعاة مثلهم مثل الفلاحين ، لا يستطيعون الوصول إلى التجريد ، خاصة وإن الإله المجرد غير ممكن تشكيله في المرحلة الدينية الأولى في المشرق ، حيث تتطلب العلاقة بين القائد السياسي (النبي) والجمهور الأمي ترابطاً قوياً يتيح للقائد تحريك الجسم الرعوي، الذي يتم تدريبه وتوجيهه، لاحتلال المنطقة الزراعية المقصودة.ولهذا فإن تشكيل الإله المجرد أمر غير ممكن وغير مفيد، ومع هذا فإن هذا الإله لا بد أن يكون مختلفاً عن آلهة الأمم المجاورة ، وهي الفضاء الفكري الوحيد المتاح.وهي كلها آلهة مجسدة ومنظورة.
إن المهمات السياسية المطلوبة من نمط الإله ، والمستوى الفكري لحملته المدعوين لتنفيذ تلك المهمات ، هي التي تجعل صورة الإله اليهودي تنوس بين التجريد والملموسية ، بين أيل وبعل. إن هذه الانفصالية غير ممكنة للشعب العادي ، وإذ تحدث العملية شبه التجريدية للإله فهي لا تدوم ، سواء إذا غاب النبي لوقت وجيز ، أو إذا أسس خلفاؤه مملكته.
إن الرعاة أنفسهم مرتبطون بالتقاليد الزراعية الأقوى حضوراً حتى ذلك الحين.وهم في ذات الوقت مرتبطون بالفضاء الفكري للمنطقة ، والمتسم بالتجسيم المادي للآلهة ، والتجسيم ليس سوى تعددية للآلهة تعكس تعدد مستويات السلطات في العالم القديم المفكك اقتصادياً ، سواء على مستوى المدن أم الأقاليم أم القبائل أم الأسر ، وكل هذه تخلق آلهة، والآلهة المضادة كذلك وهي الشياطين والعفاريت ، فالأبيض النوراني يخلق الأسود الشرير ، وقد نشأت الدولة الاستبدادية في المشرق عبر تجاوز هذه التقسيمات وعبر السيطرة عليها ، فآن أو أيل يهيمن بشكل علوي ، ويترك شبكة الآلهة الأقل ، أو السلطات المحلية المختلفة، تعمل وتستقل ذاتياً، وهذا ما يتيح الوحدة و التعددية والاختلافات والصراعات بين الآلهة ، مما يشكل إمكانيات للدراما المسرحية والسياسية والفكرية ، مثـل هذا المناخ يمكن أن يبرر الصدامات والتباينات في العالم الأرضي ، الذي هو حسب الوعي السائد ، لا يمتلك إمكانية تشكيل مصائره بنفسه ، بل يعتمد على القدر الإلهي ، وعلى خرق هذا القدر عبر مساعدة آلهة أخرى ، فيمكن رد مختلف تباينات الوضع الإنساني ، إلى اختلافات علوية ما.
إن ألواح القدر التي تكتب وتقدم في بدء موسم احتفالات الخصب في بابل ، معبرة عن مقادير الإنتاج التي يقدمها الناس ، هي التي تحدد مصائر السكان لسنة كاملة غير قابلة للنقض ، وقد يكون في هذه الألواح طوفان أو هجوم أجنبي أو خير عميم ، وفي الواقع فإن الأقدار لا تعرف إلا بعد حصولها ، ومن ثم تكتب لاحقاً ، ولكن هذه الطريقة توضح الحالات التجسيمية التعددية للوعي الديني ، ولكن مع صعود الإله الواحد المسيطر بشكل مطلق على الوجود ، تدريجياً أم دفعة واحدة ، فإن هذه الإمكانيات للصراع والتباين الإلهي ـ البشري تزول ، حيث يغدو الوجود من صنع إله واحد ، ويحدث التساؤل في الوعي الديني التوحيدي عن أسباب الخلل والتناقض في الحياة المخلوقة من صنع إله واحد .
إن الضرورات السياسية في مصر في عهد إخناتون ، حين أراد أن يجهز على سلطة الكهنوت ويمركز السلطة في يديه ، وجهته نحو تعميم عبادة آمون ، مثلما قادت الضرورة القبائل اليهودية إلى إله واحد مخصص لها ، لم يصبح الإله الكوني الوحيد إلا بعد أن تفاقمت الهزائم والكوارث على هذا المشروع السياسي ، فوجه الحاخامات الشعب اليهودي نحو الإله الواحد تجسيداً مطلقاً لحلم زال.
لكن توجيه الأمور نحو ظهور إله واحد لا بد أن يعيد النظر في الإرث الديني التعددي والتجسيمي السابق ، فيزيل كل عوامل الصراع الإلهي ـ السياسي ، ويمركز السلطة في ذات وحيدة ، في سلطة واحدة مطلقة.
إن الفلاسفة فيما بعد سوف يتصارعون بشدة حول هذا الإله الوحيد ، الذي رأينا كيف تتجه صورته إلى التجريد أكثر فأكثر ، نظراً لحاجات الشعوب للمركزة السياسية أو تكوين دولة جديدة، ولن يعرف هؤلاء الفلاسفة كيف يجمعون بين إله مجرد، وهو أيضاً ذو تدخل وملموسية وحضور مادي ، عبر مناهجهم المجردة واللاتاريخية.
إن الحاجة تدفع لبروز الوعي بإله وحيد مجرد ، لتذويب الوحدات السياسية ـ الاقتصادية المتباينة وتشكيل دولة موحدة ، ولتجمع السلطات بين يديها، ولكن تجميع السلطات في لحظة تاريخية ما لابد أن يقود في لحظة أخرى إلى تفكيك هذه السلطة المركزة ، فتتراوح صورة الإله المجرد بين لحظتين متضادتين: التجريد الأقصى والوحدانية ، وبين التعددية والملموسية المباشرة.
في التجريد الأقصى تقع صورة في العزلة والنأي عن الوجود المادي ويستحيل معرفة كيف تتم العلاقة بين المجرد الكلي والأشياء ، وفي التعددية والملموسية ، تقع صورة الإله في دائرة الامتداد والحركة والتجسيم.
إن الرعاة وهم يريدون تشكيل دولتهم يستعينون بفكرة الإله الوحيد ، تعبيراً عن الرغبة في الدولة الموحَّدة ، وحين يقتحمون البلاد الزراعية ، يريدون الاحتفاظ بهذه الواحدية ، التي يرفضها سكان المناطق الزراعية.
إن صورة الإله الوحيد المطلق تظهر إذن وهي لا تزال في دوائر التجسيم ، لم تصر شيئاً مجرداً، لكونها تمثـل تطوراً في نمو الأساطير ، وليس نتاج الفكر المجرد. إن الأسطورة العبرية ، وقد تشكلت من رغبة في تشكيل دولة وإله خاص مسلح ، تحتك وتصارع أساطير أمم المشرق (العربي) ، ثم يقوم مثـقفوها بالاستفادة من التراث الرافدي والمصري ، ليغنوا صورة إلههم الفقير روحياً ، والمنتزع من براكين البحر الأحمر ، فيأخذوا من هذا الإرث مسألة الخلق الأول لأبي البشر وقصة نوح وأيوب وغيرها من القصص والعناصر ، وتلغى تعددية الآلهة بما يتوافق مع مركزية السلطة وواحدية الإله. ثم يعود هذا الإرث إلى فلسطين ليبدأ نزاع جديد.
لقد أنتصر الإله الرعوي بإرث المناطق الحضارية ، فعرف العبرانيون كيف يستغلون ثروة أمم المشرق الروحية والمادية ، ودون أن تتشكل الدولة ـ الحلم.
ولكن حين جاء الإغريق ثم الرومان المحتـلون لم يستطع هذا الإله أن يكون أداة مقاومة ، فهو لم يكن موجهاً للأمم الغريبة (الأغيار) ، وهو مع تواجده في منطقة الخصب الزراعي ، وقف نائياً ورافضاً تقاليدها وطقوسها الاحتفالية الربيعية ، وهي ذات المكانة المركزية في حياة الفلاحين ، إن عداءه لأيل وبعل ، كان يدفع أمم المشرق لإنتاج وعي جديد يتجاوز الديانات الوثنية من جهة ، والديانة الرعوية الانعزالية اليهودية ، من جهة أخرى.
إن نمو المسيحية من رحم اليهودية لم يحدث إلا بسبب إنتاج اليهودية لصورة لإله غير وثـني ، وهي التي ستكون تجاوزاً للتفتيت السياسي ، ففيها حلم توحيد المشرق (العربي) عبر سلطة واحدة، هي نفي للماضي المتشرذم ، وللهيمنة الأجنبية ، وهي كذلك استعادة لآن وأيل ورع ، وقد تخلصوا من ثيابهم الوطنية ، ولكن المسيحية هي أيضاً تموز وبعل وأدونيس وأوزوريس ، هي الابن الفادي ، والإله الذبيح ، أي هي أيضاً استمرار للاحتفالات الطقسية القديمة ، إرث شعوب المشرق الزراعية الطويل. هكذا يغدو الأب والابن تجاوزاً للمسميات وتوحيداً لها في أسمين عائلين مجردين وعامين ومخصوصين. لكن المسيحية وقد اعتمدت اللاعنف ، وتغلغلت بين الفلاحين وسكان المدن والعبيد ، عجزت عن الوصول لتوحيد سكان المشرق العربي ، مركز الفعل الحضاري في الشرق الأدنى ، وخاصة الأقسام الرعوية الواسعة ، التي أصبحت تمتلك قدرات سكانية كبيرة. ثم دخلت المسيحية في انقسامات وتم استيعابها من قبل الإمبراطورية الرومانية ، فلم تستطع القيام بمهمات توحيد المنطقة و«تحريرها».
إن الأديان المشرقية : اليهودية والمسيحية والإسلام تمثـل إذن درجات المقاومة المتصاعدة من الحلقة الأقل حضوراً إلى الحلقة الأوسع والأقوى سكاناً.
≣ التوحيد العربي
كانت هذه المهمة من نصيب القوم الرعاة وهم العرب ، الذين أتاحت ظروف جزيرتهم العربية ، المحكمة الإغلاق أن يتكاثروا فيها ويتطوروا ، ولا توجد منطقة رعوية بها هذه الخصائص الفريدة ، حيث القرب من المناطق الحضارية المركزية ، واستيعاب منجزاتها ، والنأي أيضاً عن سيطرتها .إن عشرة قرون من الاحتلالات الأجنبية للمشرق الذي أخذت تتشكل فيه جذور للعروبة ، والتي تمتد من عمق الجزيرة حتى بوادي الشام ، لم تظهر فيه قوة محلية قادرة على طرد الغزاة ، وقد أصبحت السيطرتان الرومانية والفارسية عبئاً ثقيلاً على المنطقة ، حيث تذهب الفوائض المالية إلى العاصمتين فتهدرانها في البذخ والحروب ، ولهذا فإن المناطق الرعوية والريفية تعيشان أزمة اقتصادية . ومن المعروف كيف تدهورت حياة أسرة هاشم بن عبد مناف ، وكيف تفاقمت الديون وحياة الفقر في مكة على سبيل المثال.
وقد أخذت الجزيرة العربية منذ زمن بعيد الإرث الثقافي للمشرق ، وخاصة للقبائل والشعوب السامية الشمالية ، وقد كان الاحتكاك بين الجانبين كبيراً وعميقاً على مر التاريخ.
(يبدو أن مفهوم «آن» ـ (السيد) ظهر في التاريخ في حوض النهرين الأدنى قبل الألف الرابع ق . م. وظل كصفة للقوة والسلطة المطلقتين اللتين توحي بهما السماء (الله بمفهومنا) مترسخاً في الذهنية الحضارية السورية لأكثر من ألفي سنة. وفي العصور المتأخرة ساد هذا المفهوم أيضاً في العربيتين الشمالية والجنوبية) ، (22).
ويذكر المؤلف في العديد من الصفحات الأماكن التي التصقت بآن وأيل في مختلف أنحاء المشرق كظهران وجيزان وغمران ، أو سعد إيل وتيم إيل (23) .
إن تحرك إيل أو آن نحو المناطق الأشد رعوية كان لا بد أن يؤدي إلى تغيرات في بنيته ، فقد ظهر في عالم المدينة ـ الدولة ذات المحيط الزراعي ، وداخل شبكة من الآلهة المتعددة ، تعبيراً عن الوحدة الصراعية بين الدولة المتعالية والجسم الفلاحي.
لم يحدث الإنفكاك بين صورة الإله المجردة ومحيطه الزراعي إلا في لحظتين سياسيتين ، هما لحظة الإله آتون ولحظة الإله يهوه ، وكلتا اللحظتان تشيران إلى مشروعين سياسيين تحوليين هامين في المنطقة ، فإخناتون حاول الإطاحة بتعددية السلطات الدينية والسياسية ، وتركيزها في يديه ، فواجه الكهنة ولكن لم يستطع أن ينتصر لأسباب تاريخية واجتماعية عميقة ، فتكوين الإله المجرد المفارق كلياً للأرض الاجتماعية الزراعية التي تكون منها ، وظل على علاقة صراعية متداخلة بها ، أمر لم يحدث ولم يتشكل.
إن هذه الإمكانية ممكنة فقط في حالات مخاض العالم الرعوي عن مشروع تكوين سياسي جديد ، ولعل ثمة علاقات بين إخناتون والعالم الرعوي ، أي أن ثمة مواداً مشرقية تغلغلت في الوعي المصري السائد وراحت تحفزه للتوحيد الاجتماعي وتذويب الوحدات الاقتصادية والسياسية والفكرية المفككة ، في تكوين سياسي واحد وصلب . إلا إن هذا يحتاج إلى أساس اجتماعي مختلف ، أي إلى تنام لعلاقات اقتصادية لا تسود فيها الحياة الزراعية. وكان هذا أمراً غير ممكن موضوعياً في مصر.
واللحظة الثانية ، وقد أشرنا إليها سابقاً ، وهي لحظة الإله يهوه ، المنتزع من عالم غير زراعي، والتي أعطته فترته السياسية التكوينية ، بين المشروع وتجسيده ، إمكانية التجريد والعلو فوق العالم الزراعي وبنيته ، دون أن يتمكن من المفارقة والتجريد الحقيقي ، فظل إلهاً ملموساً لقبائل تريد غزو أرض زراعية ، وحين حكمتها ، لم تستطع إلا أن تتردد بين صورتي الإله المختـلفتين. ولم يصبح هذا الإله مجرداً ومنفصلاً عن البنية الزراعية إلا حين أصبحت الجماعات اليهودية مالية وتجارية ، وانفصلت بشكل كبير عن فلسطين ، وغدت قوة النقود واستغلال الأمم الأخرى هو ما يوحدها.
ونستطيع أن نلاحظ إن ثمة قوة مقاومة للاحتلال الروماني والفارسي عبر هذا الحراك الفكري الذي تشكل من المخاض الاجتماعي السياسي الطويل في المنطقة على مدى عشرة قرون ، فإذا كان اليهود قد جمعوا فسيفساء الوعي الديني وأدلجوه لصالح تجربة القبائل اليهودية لتشكيل وطن أو للعودة إليه ، فإنهم كذلك ناضلوا من أجل الإله الواحد الذي يحاول أن ينسحب من التقاليد الزراعية الوثنية التعددية ، فيدعو للقوة وعسكرة القبائل ، لكن المادة البشرية اليهودية المحدودة لم تكن مؤهلة لخلق الوحدة وطرد الغزاة.
في حين إن المسيحية التي كانت أبنة التطور الفكري والسياسي للمنطقة ، استطاع مثقفون ينتمون للحضارة الإغريقية ـ الرومانية أن يحولوها إلى استجابة فكرية أيديولوجية لحاجات الإمبراطورية الرومانية في التوحيد والتجميع. ومن هنا تغلغلت المسيحية في العالم المسيطر والعالم المسيطر عليه ، في البلد المهيمن والبلدان المهيمن عليها والمنهوبة. ولم يعد ثمة فرق بين من يستغل ويتلقى العذاب ، ومن يقوم بالاستغلال والتعذيب ، عبر مجموعة من الأفكار التي راحت تنمو وتتجير لصالح توليفة من الانسجام والتوفيق بين الأطراف المختلفة المتصارعة ، سواء عبر أفكار تتجاوز اليهودية المحصورة ، أي عبر إلغاء «الخطيئة» الأصلية الذي يعني تجاوز اليهودية واستيعابها ، ومن خلال نشر ثـقافة اللاعنف والتسامح ، بحيث يتشكل مخرج تاريخي لنظام العبودية المتعدد الألوان بين الغرب والشرق ، وتستعيد الزراعة دورها التاريخي ويتم تخفيف العبودية الخ .
وهكذا فإن المسيحية عبر تطورها ، الخاضع لهيمنة الثـقافة الإغريقية ـ الرومانية ، انفصمت حينئذٍ عن الحاجات السياسية والاجتماعية الملحة للمشرق ، وغدت وعياً سياسياً يتجه لتغيير بؤرة السلطة في العاصمة السياسية للإمبراطورية. وغدت تخفيفاً من الهدر الإلهي التعددي الوثني وتركيزاً له واختزالاً لبذخه ، فصار انتصار التثـليث موظفاً للحاجات السياسية للإمبراطورية أكثر منه للشعوب ، وخاصة المشرقية ولشعوب شمال أفريقيا المستغلة كذلك ، وسوف يكون تغلغل المسيحية في عالم الغرب الزراعي أكثر منه في عالم المشرق الزراعي ـ الرعوي.
وقد أستمر الغليان المسيحي في المشرق ، مركز إنتاج الفكر الديني ، وظهرت حركات المعارضة المسيحية الكبيرة فيه ، مما يعبر إن صراع المصالح ، صراع الطبقات ، لم توقفه المظلة التسامحية ، وعبرت النسطورية عن مهاجمة قلب العقيدة الرسمية التي شكلتها الدولة ، فألغت التثليث الإلهي ، وهذا ما فعلته الفكرة الآريوسية بإنكار أن يكون المسيح إلهاً.
إن هذه الإنشقاقات الفكرية كانت الشكل الفكري للاستقلال السياسي ، ولكن كما أوضحنا أعلاه ، كان المسيحيون العرب والمشرقيون بلا قوة عسكرية كبيرة ، وكما قلنا كذلك فإن التغيرات الثورية الداخلية كانت شبه مستحيلة للسكان المزارعين والعامة المدنيين ، ومثـلت المسيحية ذاتها شكلاً للتوافق والتصالح والمسالمة.
لقد أخذت الاتجاهات التوحيدية تنمو في الجزيرة العربية ، بسبب المصالح المشتركة لقبائلها العربية ، ولتنامي العلاقات الاقتصادية والفكرية بينها ، وكانت العبادات الوثنية ، التي عبرت عن مصالح مستقلة للقبائل والمناطق، لم تعد تستجيب لعلاقات التوحيد الاجتماعية والسياسية المتصاعدة.
إن شبكة الإلهة الوثنية عبرت عن مكانة مركزية منهارة للمرأة ، فقد سيطرت الإلهات الأنثى : اللات والعزى ومناة ، على القبيلة الإلهية ، ولكن الإله الذكوري (هبل) كان يتمتع بمكانة خاصة، غير أن سيطرة الآلهات الأنثويات يمثل تناقضاً كبيراً مع تنامي العلاقات الأبوية الذكورية القوية، ولم يكن ثمة من المرحلة الأمومية سوى بقايا أسماء ، وكانت كافة أسس الحضارة قد تشكلت بين القبائل المسماة عدنانية ، وهي التي كانت ضاربة في البداوة ، بخلاف القبائل القحطانية التي استقرت في اليمن وكونت دولاً ، غير إنها لم تستطع القيام بالتوحيد السياسي للمنطقة ، لأسباب تتعلق كذلك بالبنية الزراعية المفككة ، وقد ضعفت الزراعة مع انهيار سد مأرب ، وعودة الكثير من القبائل اليمنية للارتحال والبداوة. إن هذا قد وضع كذلك أسساً للتقارب بين التجمعين العربيين الكبيرين ، إلا أن التمايز القبلي سيظل لفترة طويلة.
لقد أدى هذا إلى المزيد من التدهور المعيشي لغالبية السكان ، وأزداد ذلك باستمرار الحروب ، كما أشرنا ، بين الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية، وكذلك الحروب الأهلية العربية .
لقد تضخم عدد القبائل الرعوية في الجزيرة ، وأصبح العدنانيون (القيسيون) القوة الكبرى فيها ، وتشكلت لهم مدن هامة ، خاصة مكة التي أخذت تلعب دوراً توحيدياً تجميعياً ، وكان موقعهم المتميز الواسع في الشمال والغرب قد جعلهم قادرين على توحيد الجزيرة وقبائلها.
كيف كانت استجابة الوعي الديني للعمليات الاقتصادية والاجتماعية التوحيدية ؟
بطبيعة الحال كان العرب في وضع استقبال طويل للمؤثرات العربية الشمالية خاصة ، حيث كان التداخل والتفاعل الطويل.
(في أوغاريت ، ومنذ الألف الرابع قبل الميلاد ، قام أتباع إيل وبشكل حاسم ، بإلغاء كل حضور للأرباب من الطقوس الدينية للبلاد ، فبعل أقوى الأرباب الأوغارتيين ، صار الآن شيطاناً أكبر ، وزعيماً للأبالسة ، وكذلك عشتار التي أصبحت علة للانحلال الخلقي ومصدراً للإباحية الجنسية.)، (24).
إن حصول الصراع بين أتباع أيل وبعل ، بين الإله الممثل للسلطة العليا ، وآلهة البنية الزراعية، هو ظاهرة أخذت تتنامى في المنطقة الشمالية من المشرق ، بسبب تصاعد العمليات التوحيدية السياسية ، وبسبب تدفق الرعاة المستمر ، الذين أخذوا يجعلون المنطقة بدوية أكثر فأكثر. كذلك فإن مهمة توحيد المنطقة وطرد الغزاة ، كانت تنمو عبر القرون. لكن هذا الصراع ظل مستمراً دون حسم بسبب التداخل بين البنيتين الرعوية والزراعية ، وعدم قدرة المؤسسات السياسية على الانفصال الكلي عن الجمهور.
لقد رأينا كيف توغلت الآلهة الشمالية في الجزيرة العربية ، وكان إندغام أسمي أيل وآن بمناطقها ومدنها وأسماء البشر والآلهة فيها مؤشر على الترابط والتلاحم بين الجزئين العربيين ، ولكن تطور مكانة أيل خاصة ، يعبر عن النفوذ الفكري المتزايد للشمال السوري مثلما أخذت البادية السورية تصبح امتداداً لتدفق الرعاة من الجنوب.
(لاحظ جورجي كنعان في كتابه (تاريخ الله) أن النقوش التي عثر عليها في الإمارات الآرامية تتضمن إشارات واضحة إلى التطور الذي لحق باللفظ (إيل) منذ الألف الأول ق. م . من حيث البنية والمدلول ، فمن حيث البنية ترددت في النقوش صيغ متعددة لــ «إيل» مثل (ال ه) ، (ال ها) ، (ال هه) ، (ال هم) ، (اله ى ا) . ومن حيث المدلول تحولت الصفة (إيل) عند العرب القدماء إلى لفظة (الله) فكان من الطبيعي أن يدخلوه في تركيب أسمائهم مثل : ماء الله ـ سعد الله ـ الخ) ، (25).
وفي اليمامة كانت عبادة (الرحمن) منتشرة ، وهو أسم يجمع بين الرحم ، وهو صلة القرابة المقدسة ، والإله آن .
لا نستطيع أن نقول إن إيل قد تخلص من الآلهة الزراعية ، وصار تجريداً كاملاً ، فالبقع الزراعية قد شهدت الاحتفالات الطقوسية الاخصابية ، وقد كانت جذور الحج الوثني إلى مكة تحمل سمات ذلك ، عبر شرب الخمور ولبس ملابس قليلة وتقديم الذبائح إلى الأصنام.
لكن ضخامة الجسم العربي الرعوي ، وضآلة المناطق الزراعية ، وعملية التوحيد المستمرة في بنية الجزيرة العربية ، والدور القيادي المكي في ذلك ، جعلت عملية التجريد الواسعة تكبر في رمز الله ، نفياً للإلهة الأنثى الملحقة به وهي (اللات) ، تعبيراً عن الانفصال الحضاري الكامل عن المجتمع الأمومي ، ولكافة شبكة الآلهة المفتتة للجسم الاجتماعي ، و تعبيراً عن تشكل المؤسسات السياسية الحاكمة وصعود الحاكم الفرد كذلك ، والانتقال إلى الحضارة.
هنا حدثت عملية التجريد الثالثة دون صعوبات هائلة كما حدث في عمليتي آمون ويهوه ، بسبب محدودية الإرث الزراعي وطقوسه ، والدور الكبير الذي تلعبه القبائل الرعوية ، فغدت عملية التوحيد الدينية والسياسية عسكرة لهذا القبائل وتوجيهها نحو التوسع وتغيير طابع المنطقة وطرد القوى الأجنبية منها وإحداث عملية تقدم حضارية كبرى بها.
فصل من كتاب: انظر عبـــــــدالله خلــــــــيفة/ الاتجاهات المثالية في الفلسفية العربية الإسلامية، والذي يعرضُ فيه المقدمات الفكرية والاجتماعية لظهور الإسلام والفلسفة العربية.
المصادر :
(1): (راجع: تاريخ الشرق الأدنى القديم، د. محمد أبو المحاسن عصفور، دار النهضة العربية1984، بيروت ص 60 ــ 62).
(2): (فبما أن البشر قد خلقوا لخدمة الألوهة (...) فان كل مدينة دولة قد كانت استثمارة للألوهة خاصة ببنية قرابية (مجتمع) مخصوصة، ومكرسة للألوهة المطلقة في شخص أحد أرباب الكون المخلوق) (الميراث العظيم، أحمد يوسف داود، سلسلة القسام الفكرية،1991 دار المستقبل، دمشق، ص302).
(3): حول هذه المدينة المسيطرة على الفضاء التاريخي نقرأ: (مساحة المدينة ميلاً مربعاً، وبساتينها ميلاً مربعاً آخر، وتبلغ حفر الطين ميلاً مربعاً، وكذلك أرض الفلاة المحيطة بمعبد عشتار. ثلاثة أميال مربعة ومساحة من أرض الفلاة تكون مدينة أوروك) (ملحمة جلجامش، من كتاب (أساطير من بلاد الرافدين، ترجمة نجوى نصر، دار بيسان،199، ط 1).
(4): ( جذور الاستبداد ، عبد الغفار مكاوي ،عالم المعرفة ، العدد192 ، ص59، الكويت).
(5): إن هذه البنية الاقتصادية ـ الاجتماعية هي أساس النظام، في حين تتبدل الهياكل السياسية دون مس كبير لأسس البنية، يقول مؤلف كتاب (الميراث العظيم) حول تجربة مصر: (لكن وجود الدولة المركزية لم يكن يعني ـ على ما يبدو ـ تغيير الشيء الكثير في جوهر التركيب الجمعي وحتى الإداري. فقد ظلت المدينة ـ الدولة أساساً في تكوين الدولة القطرية، وهو ما تتكشف عنه متابعة الدراسات المكتوبة في تاريخ مصر القديمة.)، ( الميراث العظيم، ص 299.).
(6): (مغامرة العقل الأولى، فرس السواح، دار علاء الدين، ط1، ص31.)
(7): ( المصدر السابق صفحات:32، 33 ).
(8): (راجع كذلك المصدر السابق، ص94 ـ 97).
(9): (المصدر السابق، ص 39).
(10): (أساطير من بلاد الرافدين، دار بـيسان، ترجمة د. نجوى نصر،1991 ، ص 124).
(10): (الإسلام وملحمة الخلق والأسطورة، تركي علي الربيعو. المركز الثقافي العربي، ط1،1992، ص114.).
(11) :(المصدر السابق، ص 115.).
(12): (المصدر السابق، ص 119.).
(14): (يقترب أبن خلدون من رؤية تاريخ المنطقة وهيمنة القوى الرعوية فيها في كلامه عن ضرورة الاعتبار لما:(وقع في العرب لما انقرض ملك عاد قام به من بعدهم إخوانهم من ثمود ومن بعدهم إخوانهم العمالقة ومن بعدهم إخوانهم من حمير ومن بعدهم إخوانهم التبابعة من حمير أيضاً ومن بعدهم الإذواء كذلك جاءت الدولة لمضر وكذا الفرس لما أنقرض أمر الكينية ملك بعدهم الساسانية حتى تأذن الله بانقراضهم أجمع بالإسلام وكذا اليونانيون أنقرض أمرهم وأنتقل إلى إخوانهم من الروم وكذا البربر بالمغرب الخ ..)، (المقدمة، فصل في الملك إذا ذهب عن بعض الشعوب من أمة فلا بد من عوده إلى شعب آخر منها ما دامت العصبية، 116، طبعة دار العودة).
(15): (جذور الاستبداد، ص 168).
(16): (وكان طبيعياً أن يصنع خيال الحكماء الشعبيين في وقت المحنة والظلم، إلهاً يشاركهم محنتهم ومظلمتهم، فيموت جوراً، كما يموت المسخرون حول الأهرامات العتيدة، وتنطبع الأسطورة الجديدة بطابع جديد على الفكر المصري، فتحول همها إلى الفقراء، ومشاكل العوز والحاجة، وآمال الضعفاء وطموحاتهم، وتصور الحل الأمثل لهذا الوضع الاجتماعي المختل، لتصبح الأوزيرية هي التعبير الأيديولوجي عن الثورة الشعبية)، ( أوزيريس وعقيدة الخلود في مصر القديمة ، سيد محمود القمني ، كتاب الفكر ط 1، 1988، ص144.).
(17): (تاريخ جهنم، جورج بنوا، منشورات عويدات، ط 1، بيروت).
(18): (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، د. جواد علي، الجزء الثاني، الفصل الثامن عشر : العرب والرومان ).
(19): (أشارت تلك النصوص الرافدية، المدونة في القرن التاسع قبل الميلاد ، إلى ملكات عربيات ..)، كتاب (رب الزمان، سيد محمود القمني، الناشر مدبولي الصغير، الطبعة الأولى، ص 194).
(20): (النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة، سيد القمني، المركز المصري لبحوث الحضارة، الجزء الثاني، ص 238).
(21): (يقول لويس عوض في كتابه ( فقه اللغة العربية): (ولا شك أن العرب حين نزلوا شبه الجزيرة العربية إنما نزلوا على سكان أصليين كانوا فيها من قبل ، كان منهم العماليق الذين نعرف من قصة " الخروج " في التوراة أنهم كانوا مستقرين من الحجاز إلى جنوب فلسطين من قبل خروج بني إسرائيل وهؤلاء أستطعنا تحديدهم بجحافل الهكسوس المطرودين من مصر في القرن الخامس عشر ق. م.)، (سينا للنشر ، ط1، ص52 .).
(22): (تاريخ الله: إيل ـ العالي ، جورجي كعان ، بيسان للنشر والتوزيع ، بيروت ، ط 2 ، ص 179.).
(23): (راجع الصفحات180 ــ 204 من المصدر السابق).
(24): (فرس السواح، لغز عشتار، ص349).
(25): (الأحناف ، عماد الصباغ، دار الحصاد، ط 1، ص 26).
الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية
الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية
الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية
Published on September 12, 2019 17:00
September 10, 2019
2 ⇦ بلزاك: الروايةُ والثورةُ
في روايته (الثأر) نقرأُ نفس الارتكاز على بؤرة الانقلاب الاجتماعي السياسي، فعودةُ المَلكية فوق جثة الجمهورية تُعطي لوعي بلزاك القومي هزةً نقدية تحليلية لواقع فرنسا.
العتبةُ السرديةُ الروائية ليست منفصلةً عن بؤرة الرواية، فالرجلُ الكورسيكي القادمُ من تلك الجزيرة إلى العاصمة باريس، يحملُ ابنةً صَبيةً منقذة من مجزرة في قريته في تلك الجزيرة حيث الثارات العائلية الريفية تمثل البقايا الاجتماعية لما قبل الرأسمالية، وهو هنا يدخل في قصر الحُكم حيث بونابرت وأخوه ومكتبه القيادي، يقودان مرحلةً مختلفة من الثورة الفرنسية المُجهَّضة.
تمثل النابليونية الإمبراطوريةُ هزيمةً لمُثُل الثورة الديمقراطية حيث كانت تلك المثل في غبش الولادة للنظام الرأسمالي، وكان الصراع بين الشمولية والديمقراطية مُتلبساً، والصراع بين اليعاقبة والجيرونديين مُستقطباً غيرَ منتج لتيار تحولي ثوري ديمقراطي، والذي سوف يتكون عبر عقود القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
إن تحديات الثورة الفرنسية جمعتْ القوى المحافظة في القارة الأوربية، وتوجهتْ للقضاء عليها، ولم يكن سوى جيش نابليون ينهي هذه التناقضات الداخلية والخارجية، لكن عبر إقامة دكتاتورية شخصية فئوية، وكان بطلُها القادم من جزيرة كورسيكا تعبيراً عن القوى العسكرية ذات الجذور الريفية التي ترسملتْ ولكنها ما تزالُ تحتفظُ بأجزاء من بناءٍ فوقي إقطاعي مضادٍ للبناء التحتي الرأسمالي المتغلغل عبر العقود.
يغدو النظامُ الإمبراطوري النابليوني معبراً عن القومية الفرنسية في صعودِها وغزوها للبلدان الأوربية وفي حفاظها على إستقلال فرنسا المُنتهك من قبل الغزاة الذين تمكنوا من كسر الإرادة الفرنسية الحرة.
فليس تكرار البؤرة هو عمل عفوي، إنها وطنية بلزاك الأبية وقد وجدتْ في نابليون رمزاً، وهنا يقوم الرجلُ الكورسيكي ذو الشيم الريفية المتعصبة بالدخول في عالم الطبقة المسيطرة المترجرجة عبر هذا التاريخ المضطرب.
إنه يطلبُ الحمايةَ من صديقه نابليون حيث كانا من منطقة واحدة، ومطالبه الانتقامية تُرفض من قبل بونابرت زعيم الدولة، لكنه لا يمانع من التستر على جريمته في قتل خصومه في عملية الثأر الفظيعة التي جرت، والتي لم ينجُ منها من العائلة الأخرى سوى ولد سيكون له شأن في هذه الرواية المُقامة على الصراع القَبلي والصدف الاستثنائية.
بقرارت ذاتية تمكن من نقل (بارتولوميو) العامي إلى طبقة النبلاء، وعاش هو وعائلته في أصيصٍّ زجاجي خارجَ التاريخ السياسي لحين دخوله في التاريخ العائلي المتصادم مرة أخرى.
فلم تؤد الإطاحة بنابليون في تغيير موقع هذا النبيل، ولم يشارك في عمل تاريخي أو سياسي، ليكون تحت خدمة بلزاك في حفرياته الروائية.
العتبة السردية في الرواية كانت تُدخلُ إلى البؤرة المأساةَ العائلية الثأرية المستمرة عبر الأنماط الفردية.
عتبةٌ أخرى تنشأُ في المرسم حيث مجموعات من البنات يشتغلنَّ في لوحاتٍ وتدريبات فنية على يد أستاذ هو الآخر نابليوني الهوى.
بدت هذه العتبةُ منقطعةً عن العتبة السابقة لكنهما إتصلتا عبر تنبيهات الراوي وتنامي الحلقات التي يشيدها، فالصراعُ بين الفتيات الارستقراطيات والبرجوازيات يشيرُ إلى مناخ فرنسا المتقلب، حيث المَلكية العائدة والنابليونية المهزومة، وتظهر ابنة الكورسيكي صاحب القضية الثأرية النبيل حالياً، ذات حضور آخاذ في المرسم، وحيث مهارة الراوي تندغم بالتشكيل.
لكن هذه الحلقة تتضاءل مع ظهور بؤرة الرواية وهي العلاقة العاطفية بين هذه الابنة وضابط شاب من جيش نابليون المهزوم يعاني جراحه، ويقعُ تحت عيني هذه الفتاة!
وسرعان ما تشتعلُ هذه العلاقة وتتعملق فوق جزئيات الرواية الأخرى.
حبكةٌ بدأت من جزيرة في البحر الأبيض المتوسط وتناسجت مع صراعات سياسية تاريخية وإنفصلت عن الشبكة هذه كلها، لتتعقد داخلياً وتتفجر مأساة.
وطنيةُ بلزاك الرومانسية تجمع هنا شخصيات الحلم القومي البونابرتي في بنيةٍ تتشكل عبرَ الصدف، ولكن الحلم القومي الثوري مات في الواقع، وقد أنجبَ أسرةَ حب في مرسم فن، بين ضابط جريح شجاع، وفتاة عاطفية وطنية، وتتمكن بقايا عالم الإقطاع وعادات الثار وعدم التطور الديمقراطي في الريف عامة، من هزيمة الحب وعدم نجاح الشابين في البقاء زوجين ثم حيين وقد إنقطع الأهلُ عنهما وعاشا في ضنك عنيف.
تمكن زمن ما قبل الرأسمالية من هزيمة الوطنية، ويشير هذا إلى ضعف الُبنية الرأسمالية الوليدة وضعف تطور القوى الفلاحية المؤيدة للدكتاتورية البونابرتية، وهذه الشموليةُ مُصعّدةٌ في وعي بلزاك الروائي على شكلِ مأساةٍ في عائلة فردية.
ما هي علاقةُ مأساة العوائل المتقاتلة في الجزيرة بنابليون والصراع مع المَلكية العائدة؟
إن التطور الجمهوري الديمقراطي الذي أطلقته الثورة لم يستمر لضعف الطبقة المنتجة له، وكان نابليون الذي قفزَ عن هذا التطور وغمر الفلاحين العسكريين بخيرات البلدان المغزوة، وطورَ من البنية الرأسمالية عبر هذه الهيمنة الشمولية فهو أعادَ المَلكية بشكل متطور، فكان لا بد أن يغدو رمزاً لها، وهكذا غدتْ العوائلُ الريفية تعيشُ مأساةَ ما قبل الرأسمالية وعجز الرأسمالية عن التطور الشامل معاً.
وبطبيعة الحال كان لا بد أن يكون (الأبطال) البارزون هم من (الوطنيين)، وهنا فإن بلزاك يتعاطف مع هذه القوى الفلاحية والوطنية، لكنه يرفض عدم تطورها الاجتماعي لكنه لا يغوص لمجمل تناقضات البُنية التي خلقتها بهذا المستوى.
غياب التحليل على المستوى الروائي بعدم تطور الشخصيات وعدم قيام علاقات واسعة في الرواية، يواكبه تحول البؤرة الروائية إلى قصة عائلية، فالأبطال الوطنيون لم يتطوراً نضالياً، ولم يتخلصوا من تخلفهم الاجتماعي، ولم يجعلوا الحب مزيلاً لعادات الثأر.
وأمام الحيثيثات الواقعية الجزئية المرصودة والمتنامية روائياً، والمأخوذة من عيناتٍ حقيقية جرت في التاريخ الحقيقي، فجثمتْ الشخوصُ والحبكة في مستوى الانعكاس الجزئي، ولم تقرأ التحولات الراهنةَ والمنتظرة في بنية رأسمالية جنينية.
لهذا فإن الفلاحين هم أكثر حضوراً هنا وفي أعمال أخرى، لكنها كطبقةٍ تتعرض للانهيار والتحول، ولا تستطيع سوى أن تكون ضحيةً وليس قوة تغيير وطنية في النمط الرأسمالي الوليد، الأمر الذي يؤهل العمال لذلك، عبر تحولات متصاعدة تاريخياً.
في روايته (سرفيتا) ينعطف بلزاك نحو جنس روائي يسميه (قصة من الدراسات الفلسفية) وهو جزءٌ من الملهاة الانسانية، وتمثل طبيعة مختلفة عن الأجزاء الأخرى من الملهاة، فالمكانُ الذي يغدو مكاناً للسرد ليس من تلك الأمكنة التي إختبرها بلزاك الممثلة لتطور البنية الاجتماعية الحديثة، فهنا ليس ثمة مدينة ولا ريف، بل صقيع، وجزءٌ ناء من شمال أوربا حيث النرويج لا تزال في ضباب التطور الحديث.
فهو كما ينعطف نحو جنس روائي مختلف ينعطف نحو بُنية مختلفة، بُنية ما قبل الرأسمالية الحديثة.
الافتتاحيةُ وعتبةُ الروايةِ المتوجهة نحو البؤرة تصورُ بشكلٍ آخاذ طبيعة النرويج:
(فالبحر يتغلغل في كل مكان، لكن الصخور تتشقق فيها بشكل مغاير وجروفها الصاخبة تتحدى التعابير الغريبة للهندسة، هنا صخر قد تسنن لمنشار، وهناك موائدٌ كثيرةُ الاستقامة لم تعان من إقامة الثلوج فوقها ولا من ذوائب شجرات التنوب الشمالية المهيبة)، ص 6، سرفيتا، وزارة الثقافة السورية 2001.
هذا الوصفُ المطول لمشهد الطبيعة ينزلُ إلى السكان:
(في أسفل جبال جرافيس تقبعُ القريةُ المؤلفة من نحو مئتي بيت من الخشب، حيث يعيش سكان ضائعون، كما تضيعُ قفائرُ نحل في غابة، وهم يواصلون العيش دون أن يتزايدوا أو يتناقصوا ساعين وراء تحصيل معيشتهم من قلب تلك الطبيعة المتوحشة)، السابق ص9.
هو إختيار لمشهد مجّمد عن حراك التاريخ الاجتماعي، كعتبةٍ نحو البؤرة الروائية، التي تظهر فجأة على قمة هذا الجبل الذي لم يصل أحدٌ إليها!
التكوين الطبيعي الساحر يقود للتكوين البشري السحري، والساردُ المؤلفُ الدائمُ الحضور سابقاً في العروض الاجتماعية يتحولُ لعرضٍ فكري:
(إن كل مبدأ متطرف يحملُ في ذاته مظهرَ النفي وعلائم الموت: أليست الحياة صراعاً بين قوتين: فليس هناك ما يغدر بالحياة. قدرة واحدة تسود دون معارضة هي قوة الجليد غير المنتجة)، ص 14.
هذا التحليلُ غيرُ التاريخي المجردِ سيحوله المؤلفُ لطبيعةٍ إجتماعية مجردةٍ غيرِ قابلةٍ لنفاذِ التناقضات الاجتماعية.
شخصيتان تظهران فجأة في تلك القمة الجبلية الصقيعية، وهو ظهورٌ غير موضوعي فنياً، بل من قبلِ الإرادةِ الحرةِ للسارد، المتداخلة مع الإرادة الحرة المُتخليَّة للإله:
(في صبيحة يوم كانت الشمس تلتمع فيه.. مر شخصان على الخليج وعبراه وطارا.. فارتفعا نحو القمة وقفزا من إفريز إلى إفريز).
نرى المنزلقين الاثنين اللذين يصعدان الجبال: سرافيتوس وسرفيتا. كائنان كما أنهما يخرقان نواميسَ الطبيعة الجبلية كذلك يخترقان نواميسَ الجنس والعيش العادي.
(قالت وقد بدرت منها حركةٌ ميكانيكية لترمي بنفسها: إنني أموت يا حبيبي سرافيتوس.. فنفخَ سرافيتوس برفق على جبينها وعينها؛ فبدت فجأة كمسافر تمتعَ بحمامٍ منعش). ص 17 .
سرافيتوس حين نفخَ فجأةً غيّرَ شعور سرفيتا. (تقول من أنت لتكون لك هذه القوة فوق قوة البشر وأنت في هذا العمر؟) ص 19.
كأن القوة الخارقة له هي من خرق ناموس العمر وليس خرق ناموس الطبيعة عامة.
الصوفيةُ تتدفقُ في كلام سرفيتوس:
(إن أردتِ أن تكوني نقيةً فضعي دائماً فكرة العلي القدير في عواطف الأرض) ص24 .
يُبنى السردُ على تجريدٍ غرائبي يعطي لشخصياتِ السماويين إمكانيات عجائبية: عبور الجبال، والقيام بمعجزات، والعيش بين الأرض بتضاريسها القاسية والسماء بغموضها السرمدي المكتمل غيباً.
ويعتمدُ تصوير المعجزة السردية على تغلغل السماويين في البشر العاديين وجلبهم للخوارق التي يصنعونها.
لهذ فإن ولفرد الرجل المتغرب العائش في النرويج سيكون هو محطة التجريب العجائبي هذه.
فمينا التي بدأت بالالتحاق بالمعجزة الربانية المتجسدة في شخصية سرفيتوس عبر التأثير الخارق غير المرئي لنا،
(إنت مثل الكمال المثبط للهمة). (لماذا تبعدني عنك، أريد أن تكون ثرواتي الأرضية لك، كما أن لك ثروة قلبي، ولا أرى النور إلا من خلال عينيك، كما يشتق فكري من فكرك)، ص 24.
لكن سرفيتوس لا يمكنه العيش على الأرض حيث الوضع متقلقل، فيريدُ السماء، ويعد مينا للالتقاء بها هناك!
يقول: (لا يمكننا أن نقيس المدى الواسع للفكر الإلهي فلسنا فيه سوى قسمة صغيرة بقدر ما الله كبير)، ص 25.
ويضيف (إن الإنسان ذاته ليس خلقاً نهائياً، وإلا ما كان الله موجوداً).
يقوم سرفيتوس بتنظيرِ صوفيةٍ تقيم تضادات كلية بين الإنسان والإله، بين العالم الموضوعي والعالم المتخيّل الغيبي. الإنسان يغدو عابراً، والمجردات أبدية. في حين إن الإنسان من نمط سرفيتوس يصنعونها في شروط مجردة، في عالم الثلج النرويجي، حيث الرأسمالية نائمة.
تسأله مينا: كيف وجدتَ الوقت لتتعلم كل هذه الأشياء؟ يقول إنه لا يتعلم بل يتذكر، يعيدُ إتصالَه بالغيب، بالفيضِ الإلهي فينزلُ في رأسه، في تضاريسِ المادة الخشنة.
الصوفيةُ التقليديةُ خاصة في العالم الشرقي هائلة ويعيدها بلزاك إلينا:
(إننا أحد أكبر منجزات الله. ألم يمنحنا القدرة على أن نعكس الطبيعة وأن نركزها فينا بالفكر، وأن نجعل منها مرقاة نحوه؟ إننا نتحاب بقدر ما تحويه أرواحنا من السماء قليلاً أو كثيراً.).
أنعطف بلزاك من كونه روائي قريب للمادية والواقعية وتحليل الصراعات الاجتماعية إلى كونه متصوفاً، يصورُ كائناتٍ خارقةً، وهذا التذبذبُ من الماديةِ بدون التوغل العميق فيها ثم القفز للمثالية غيرِ الموضوعية، وتلك العروض الفاحصة للكائنات الاجتماعية المخبرية ثم هذه القفزة للمطلق في زمنيةِ ما قبل الرأسمالية، تعبرُ عن أدوات وعي البرجوازي الصغير في جمعهِ بين المثالية والمادية، بين اللاواقعية والواقعية، بين الإقطاع والرأسمالية.
في رواية (سرفيتا) السابقة الذكر تعودُ عملياتِ التحول والنشؤ الأرضية لمصدرٍ سماوي، وحتى عمليات الفعل الإرادي من حبٍ وكره وأعمال أخرى تكون صدىً للسماء. وهي مثاليةٌ ذاتية، لا موضوعية، تعودُ بالفكر لما قبل التنوير وهيجل.
يدعو سرفيتوس (مينا) لتحبَ (ولفرد) القوي الإنساني، وحتى هذه الرغبة فهي جزءٌ من جدول السماء المُنزل (وُجدَ لكِ).
يقول: أطيعي الحواسَ وأشحبي مع الرجال الشاحبين.
تغدو القيثاراتُ وكلماتُ الشعراء والوجوه والأزهار كلها صدى للسماء. ويتحول سرفيتوس لضبابٍ إلهي. وهو يستطيع أن يخضع المادةَ ويسيطر عليها ويتجاوزها كما يفعل في قمة الجبل العالية الثلجية!
ينزلان إلى الأرض، فيصير سرفيتوس سرفيتا، وتبقى مينا فتاة، وتدخلان بيت الكاهن بيكر، حيث النص الديني المتوارث، الذي يحاول بيكر إنتصاره في هذه البيئة الصوفية الغامرة بدون نجاح.
يتحول سرفيتوس إلى سرفيتا وتعبر الأرض وتجثم في مرقدها قرب خادمها ديفيد العجوز.
هو سرفيتوس والخادم يراه فتاةً اسمها سرفيتا، حيث الروح العليا تحول الكائنات برهافةٍ شعرية.
حين تظهر سرفيتا بشكل مكتمل، وتستعيدُ طابعَها الأنثوي، يظهر ولفريد الرجل السائح المتغرب، والذي لا يريد أن يكّونَ علاقةً مع مينا بل مع سرفيتا، التي تروي له كيف ذهبتا للقمة الجبلية وقد كانت بشخص سرافيتوس. هذه التناسخية الفنية البلزاكية تجعل الشخوص من عجينةٍ مطاوعةٍ بيد السارد.
يلخص ولفرد الطريقة البلزاكية الخالقة هنا المتداخلة مع الخلق الميتافيزيقي:
(أنت لا تقبلين شيئاً من العالم، وتحطمين التسميات فيه، وتفجرين القوانين، والتقاليد، والعواطف والعلوم)، وكان يمكن أن يوجز: أنكِ تدمرين الواقعَ الموضوعي عبر الوهم.
وترد: (إنني لستُ امرأة، فأنت على خطأ بحبي).
وهي تتكلم بقدرة إلهية ثم تعود لتتكلم بصيغ أنثوية ممزقة تابعة للرجال، فتقيم تضاداً كلياً كذلك بين الرجال والنساء:
(يا للنساء المسكينات! إنني أرثي لهن) ولكن القدرات السحرية لا تفعل هنا شيئاً في تغيير الواقع.
عبر هذا السرد الحدثي الشخوصي التجريدي يتوجه بلزاك للصوفية ويقيم تشكيلةً بشريةً وجودية من ثنائيات:
(فلسفتُهُ: ثنائيةُ الروحِ والجسم تصيرُ واحدةً مشتقة من فعل الصاعقة غير المرئي، بينما تتقاسمُ الأخرى مع الطبيعة الحساسة تلك الطبيعةَ الرخوة التي تتحدى الفناءَ مؤقتاً..). والتكويناتُ الميتافيزيقية تلجأُ للتعبير من خلال المادة الشعرية هنا.
يدخل بلزاك في نشوةٍ صوفية سردية محولاً النماذج إلى طيوف، والأرض الصلبة إلى بخار، فيذكر أن الأعراض:
(تشبه غالباً الحلم الذي يشغف به الترياقيون حيث تغدو كل حليمة مركز نشوة مشعة). ص 44.
إنتقال بلزاك لهذا الجو الصوفي المضاد لواقعيته إستقاه من قراءته لأعمال سويدنبرغ الصوفية:
يعيش سويدنبرغ عالماً سماوياً وأرضياً، حيث يتكلم مع الملائكة ويعيش مع الناس في حياته اليومية!
الإعجاز ناتج حسب التفسير الرائج الديني عنه من ضخامةِ مؤلفاته وأعدادها الكثيرة وهو أمر يبرر طابعها السماوي المساعد!
وقد قام بلزاك بإدغام تصورات سويدنبرغ وعمل تحويرات في تصوراته مكيفاً إياها لرؤيته ولطبيعة النص الروائي، راجع الهامش في ص 67.
(والاتحاد الذي يتم بين روح الحب وروح الحكمة يضعُ المخلوقَ في الحالة الإلهية حيث تكون روحُهُ امرأة وجسمُهُ رجلاً).
هذه خلاصةٌ لفلسفته التي سوف يجسدها بلزاك روائياً.
القدرات الخارقة لهفليتوس وسرفيتا الكائنين المختلفين المتوحدين العائدين للسماء، يدفعان المادي ولفرد للاقتناع العاطفي المتحمس للصوفية والاتحاد مع مينا.
يتكون هذا العمل من أثر المناطق التي تعيش ما قبل الرأسمالية، ما قبل الحداثة، حيث تلعب الأرياف الفرنسية كذلك دوراً مؤثراً في هذا، كذلك يظهر أثر التباين بين وعي الناس المختلف، حيث يعود الوعي الديني بعد فورة التنوير الملحدة الفرنسية، ولهذا يعود السارد لمرحلة الديانات الأولى وكيف هي باقية حتى الآن، وللمعجزات الخرافية وحادثة السِن الذهبية التي طلعت لصبي بشكل إعجازي، تبين بعد ذلك كما يقول الشارح في الهامش أنها سِنٌ ذهبية مُركبة، ويذكر الشارح إهتمامات بلزاك المبكرة بالتنجيم،(ص 83).
لكن المسألة تعود للوعي الديني المحافظ لبلزاك، الذي يساير الكاثوليكية وبالتالي الوعي الشائع، ويردد عبارات المدح للكتاب المحافظين في فترة الردة عن زمنية التنوير. (كما في رواية: آمال خائبة).
إن بقاء الأفكار الدينية ومُثـُلها الأخلاقية يؤسسُّ أوضاعاً مستقرة للبشر لم تنجح الأفكارُ الثورية في تشكيل بناء إجتماعي علماني وعلمي قوي وثابت، ويغدو الكاتبُ البرجوازي الصغير في حالاتِ تذبذبٍ دائمة بين اليسار واليمين، بين مُثُل الثورة ومثل الثورة المضادة، بين الجمهورية والمَلكية، بين المادية والمثالية.
إن النصَ الروائي يخضع لهذا التذبذب الذي تحددُهُ لحظة الموقف والبنية الاجتماعية الثقافية المتأسسة في حينه، فهنا تحدد اللحظةُ والبُنية الاجتماعية ما قبل الرأسمالية وجود وحراك الشخصيات والأحداث، فالبناءُ التقليدي الديني والوعي الصوفي المستثمر من خلال سويدنبرغ الذي عبرَ عن ذلك المجتمع وكل التاريخ القروسطي والقديم تعاونا في خلق الموقف والشخوص، فبلزاك قارب سويدنبرغ، وهنا الحداثي البرجوازي الصغير يمضي لأقصى اليمين الروحي، وإستعانَ بأدواتِ فكرهِ الملغية للموضوعية والمادية المخترقة لها عبر الروح، ولهذا تم تكييف الأحداث والشخوص بمنهجها.
كما بقيت الأدواتُ المنهجيةُ التعبيرية بمستوى المادة الاجتماعية اليومية الفرنسية التحديثية بصراعها الليبرالي والمَلكي، أو الثوري والتقليدي، المترددة في بناء إجتماعي سياسي قلق لبرجوازية حديثة في طور التكون ما تزال، تعودُ هنا في النرويج لما قبل الحداثة، وتلغي تناقضات المرحلة الفرنسية البرجوازية الملكية، لتحيا على مفردات الإقطاع الثقافي الدينية.
الروايةُ تغدو ملحمةً برجوازية (شعبية) بقدرِ ما هي سردٌ يعبر عن صراع وتعاون الطبقتين الرئيسيتين في التاريخ الرأسمالي وهما البرجوازية والعمال.
إنها لا تغدو (ملحمةً) إذا كانت برجوازية صرفةً بخلاف ما يقول المنظر جورج لوكاش، فملحميتها تتطلب نقيضها الاجتماعي، تتطلب حضور الطبقة العاملة، وحين لا تحضر ولا يتوسع الرصد الفني للكل الاجتماعي تخفت الملحميةُ كما هو شأن روايات بلزاك الأخيرة حيث أن رصده للفئات البرجوازية والارستقراطية يغدو هو الشامل، ولم يقم برصدها في فترة ثورتها الشعبية، بشكل موسع سوى عبر رواية وحيدة تم رصدها في هذا التحليل وهي عن صراعات المَلكيين والجمهوريين على الحدود، أو برصدها عبر الصراع مع العمال.
إن عناوينه الجانبية للروايات مثل (دراسات فسلفية) و(مشاهد من حياة الريف) ومشاهد من الحياة الخاصة ودراسات طبائع ، تعطي جانبين متضادين، الأول هو قصص ذات رؤى مثالية مسبقة، ليس هي دراسات فلسفية، أما رواياتُ المشاهد فهي تصويرٌ واسع أو ضيق لشخوص وأحداث في ظرفٍ إقتصادي مدروس ومحلل ومسرود معاً.
هذه الثنائية الفكرية التعبيرية تجسد غياب رؤية البنية الاجتماعية بشكل مادي تاريخي، وإعتمادها على الملاحظات الاجتماعية والاقتصادية الشخصية، وهي التي تصلً حينا لسببياتٍ عميقة في البنية الاجتماعية في لحظة تاريخية محددة، وحيناً تسقطُ عليها رؤاها المثالية، فلا تصلُ لشيء من ذلك.
وهذا التباين يتواصل مع تطور كتابة المؤلف حيث لا ينتهي برؤية تحليلية تاريخية نموذجية، بفضل إعتماده على النماذج الجزئية المنسوخة من الواقع، فلا تغدو ثمة عملياتٌ فنية تعميمية، فيما الروايات المثالية تعتمد على البناء المثالي التجريدي أو الرومانسي الفردي.
وهذه الثنائيةُ ودلالاتها تعكس غياب الرؤية الفلسفية التحليلية لظاهرات المجتمع، وكما أن إلتصاق بلزاك بالقوى الإقطاعية البرجوازية المتداخلة، يبعده عن رؤية دور الطبقة العاملة فهو كذلك لا يقترب من المادية التاريخية التي كانت بعد مثل العمال في الممكن القادم بإنتظار التراكمات الفكرية الاجتماعية.
إن الرؤية التي يكونها وينتمي لها الروائي تتشكل في خلال تطوره الكتابي الشخصي، وفي البنية الاجتماعية في لحظتها التاريخية، وملحميتها وغناها يعتمد على ذلك.
إن الروائي لا يستمر في تلحليل المجتمع مثل عودته للاسطورة، وهنا في الرواية التالية نجد عودته للرومانسية.
في رواية (الولد الملعون) التي تدور في الزمن الإقطاعي الصرف هيمنة النبيل المطلقة وهو النبيل المتوحش الذي لا ينتجُ حركةً حية إلا بشكل مرضي بولادة الابن المشوه والذي هام في الطبيعة، فيما لا تظهر الفئة المتوسطة جنين البرجوازية في إلا في الطبيب الفرد ذي الوعي الشامل.
في هذه الرواية والتي تُرجمتْ عَربياً عبر وزارة الثقافة السورية، (دمشق 1992)، نقرأ هذه اللغةَ التفصيليةَ النحتيةَ في تكوينِ وحفر المشاهد، المقدمات التعبيرية التي تؤهلُ بلزاك للتغلغلِ في الُبنى الاجتماعية. إن لقطات الأم المقبلة على ولادة متعسرة مضنية والعائشة مع زوج إقطاعي متوحش، لتتواصل ببطءٍ شديدٍ عنيف، والمؤلفُ يرسمُ بدقةٍ بالغةٍ جسدَ الأم وصراخَها العنيف المكتوم داخلها، وتقلبها الهادئ الرزين في السرير، حيث يجثمُ الزوجُ الوحش، وكيف يستمر الطلقُ رهيباً، وكيف تكونُ الولادةُ في الشهر السابعِ جريمةً بالنسبة للزوج، حيث لن يجدَ سوى طفلٍ خديج.
الولادةُ المتعسرةُ توقظُ الأبَ، وشكلهُ البشعُ يقوم برسمه المؤلفُ بشكلٍ دقيق تفصيلي، ولكن الأبَ يطلبُ مجيء طبيب في المنطقة ليسرع بالتوليد في تحولٍ مفاجئ.
اللقطات تحفر تاريخ الشخصيتين الزوجة والزوج بشكل منفصل عن العالم، مثلما نسمعُ البحرَ وهو يدقُ جدران هذا القصر والصخور التي تحمله، ونتابعُ قصةَ المرأة التي تكاثرت أملاكُها الوراثية بسبب موتِ أقربائها في الحرب الدينية المشتعلة بين الكاثوليك والكلفانية البروتستانتية، مثلما نتابعَ إهتمامَ الزوج بهذه المرأة والسيطرة عليها وإبعاد صديقها والقضاء عليه، وحصر هذه المرأة في عالمه، وإنتظار خليفته وهو ابنه الوريث، لكن خليفته يظهر بهذا الشكل المشوه، وكأن الأمَ تريدُ القضاءَ على الصلة بالزوج.
هنا ثنائية تناقضية تصادمية في الجنس، فليس ثمة علاقة أخرى تجمع هذين الكائنين المتباعدين روحاً.
زمن الحياة هو زمن ما قبل الثورة الفرنسية، هو زمن الإقطاع، وهوهنا في هذه الرواية هو مجردُ إمتيازاتٍ إقطاعية، فالثروةُ لا تأتي للمرأة سوى عبر الحروب وبموتِ أهلِها، وبقيام الزوج بالاستيلاء عليها، لكن الروائي لا يقوم بتحليل المجتمع بل يركز على هذه الكائنات النادرة المفصولة.
وحتى تلك الحرب التي تحضرُ كخلفيةٍ تاريخيةٍ سلبية لا صلةَ إجتماعية لها في تلافيفِ العلاقاتِ الشخوصية والحدثيةِ الروائية، فهي حربٌ دينية، لكن فرنسا الكاثوليكية تحسمُ خيارها الديني وتلقي عملية الإصلاح الديني جانباً فيما قبل الثورة بسنوات طويلة.
إن عدمَ حضور السيرورة الطبقية التاريخية لفرنسا هنا في الرواية هو نتاجُ أسلوبِ المؤلفِ بلزاك، فهو يعرضُ الشخوصَ والأحداثَ في وحدةٍ تركيبيةٍ مشهدية دقيقة متصاعدة، إنه يحفرُ في الشخصيتين الأب والأم بشكل عابر نحو ولادة الابن الأول فالثاني، ويقومُ الطبيبُ الخبير في كل شيء بذلك الزمان بدور الخيط الرابط والسببية الخالقة، بإعتبار أن الثقافةَ هي الخلاقةُ الفعليةُ للنمو النبيل، وقد كان الطبيب في زمنية إنهيار العصور الوسطى ما يزال مجموعةً من العلوم والمهن، حيث أن الطب هو موسوعة الثقافة كابن سينا في عصره، وفيه نجدُ الرياضياتَ والسحرَ والفلك، فيقومُ الطبيبُ بدور التوليد للأجساد وللعالم الرومانسي معاً، من حيث ولادة الابنين ومن حيث العلاج للأمراض الجسدية بل وحتى الاجتماعية حين يجعل الابن الأول المريض يتزوج من فتاةً أعدها له، وبهذا فهو ينقذُ العائلةَ من غياب وريثها ومن موت الابن الثاني القوي والذي وُلد طبيعياً في تسعة أشهر.
وفي حين إن العلاقات الإقطاعية من حروب تقضي على الابن الأصغر، تقوم الثقافة والحب بمعالجة أخطاءها، في رومانسية بلزاكية لإستمرارية الإقطاع العتيق غير المحلل.
إنها بنية فنية منغلقة في العائلة المعزولة عن الصراع الاجتماعي.
فنحن نرى الابنَ الأول المريض الهزيل يعيش طويلاً خارج القصر وقرب الطبيعة، ويغرق في الثقافة والموسيقى وحب الكائنات، مما يشكلُ وجهاً رومانسياً، مضاداً للعلاقات الاجتماعية الشريرة القبيحة في تهافت الأب على الأملاك والحروب، في حين يقع القبح في العلاقات الاجتماعية السائدة، في القصر والحروب وحكم الكنسية والملك هنري الرابع، وهي تعميمات لا نراها مجسدة إلا في سلوك الأب الإقطاعي القبيح الشرس، والذي يتفتقُ عن شراراتٍ إنسانية في ختام حياته.
تتوسع رواياتُ بلزاك في الفترة الأخيرة من حياته كرواية (النسيبة بت)، لكن هل غادر المنطلقات العامة التي تشبثَّ فيها؟
إن بؤرةَ الصدام بين مرحلةِ الثورةِ الفرنسية وعودةِ المَلكية لم تعد قادرةً على تغذيةِ التناقض الصراعي المتوتر، فالماضي الثوري غدا متجَّاوزاً، وبين بدايةِ العشرينيات ومنتصف الثلاثينيات من القرن التاسع عشر حدثت تطوراتٌ كبيرةٌ في البُنيةِ الاجتماعية الفرنسية، فلم تثمرْ عودةُ المَلكية في تصعيدِ الارستقراطية التي ذُبلتْ مواردُها وتحول بعضُها للرأسمالية وأنهارَ بعضُها الآخرُ للحضيض الاجتماعي كما رأينا في نماذج عدة، وراحت رواياتُ بلزاك تعرضُ هذه الأحداثَ والتطورات في مشهدياتٍ كثيرة راصدةٍ وجودَها الراهن، مبتعدةً عن الجذور والتوسع في طبقات أخرى.
لهذا فإن بؤرةَ التناقض زالت، والطبقتان المتعاديتان تداخلتا في بعض، فبعضُ قوى الماضي بقي في الإداراتِ الجديدة، وبعض قوى الحاضر الرأسمالي صعدَ للقمة، فالتناقضُ بين الطبقتين لم يعد قادراً على إشعال موقد التوتر الصراعي السردي، فالنماذجُ القديمة المضادةُ للارستقراطية ذابتْ وترسملت، وهي تلك النماذج الاستثنائية كالوكونيل شابير التي لم تعدْ تطفح على سطح الواقع لتثيرَ نيران التناقض. أن الطبقتين المتصارعتين طويلاً غدتا طبقة واحدة.
ولم يجد بلزاك تناقضاً إجتماعياً كبيراً في الحقل الاجتماعي يشتغل عليه بإتساع كما هو حال التناقض السابق، ولهذا نقرأُ روايةَ (النسيبة بت) في هذا الضوء.
إن ثمة شخصيات محورية من الزمن النابليوني لا تزالُ تتنفس ولكن في عالم مختلف.
أهمها البارون هيلو والسيد كروفيل، اللذان مثلا تلك الجماعة البونابراتية التي تغيرت سبلُها في العيش، ففيما صعد هيلو في الإدارة إلى مرتبة الوزارة وصار (نبيلاً) أعتمد كروفيل على التجارة الشعبية المذمومة في عرف الارستقراطيين لكنه حقق نجاحاً كبيراً.
لقد إصطدم نموذجا عهد الثورة الآفلة هيلو وكروفيل لكنهما إصطدما حول الاستئثار بعشيقات، وطوال أحداثِ روايةٍ كبيرة بحجم (سبعمائة صفحة من القطع الصغير في الترجمة العربية، عن دار عويدات ببيروت) وهو أمرٌ يعبر عن تحلل هذه الفئة، وتقوقعها حول ذواتها وبدون أن تخوض معارك تحولية جديدة في المجتمع، فيما تبقت نماذج نادرةٌ من العهد السابق منقذةً ومُحتفظةً بشرفها الجمهوري.
إن العتبات الأولى في الرواية البلزاكية المعتادة الموجهة نحو بؤرة الرواية تختفي في رواية (النسيبة بت)، فالبؤرةُ الروائية تظهرُ منذ البداية حيث نرى زيارة كروفيل لبيت البارون هيلو ولقائه بزوجته البارونة (أدلين) حيث يراودها عن نفسها عارضاً بوقاحة مزايا مادية كبيرة، إنتقاماً من زوجها الذي خطفَ عشيقته المغنية!
أدلين المرأة المتقدمة في السن والمحتفظة بجمالها ترفض ذلك إيماناً منها بالمُثُل المسيحية وحباً في زوجها رغم معرفتها بخيانته.
هذه اللحظة الافتتاحية الواسعة المتحركة بين البيت ذي الأثاث القديم الرثِ والحديقة، تتضافرُ مع حركةِ النسيبة بِت ومراقبتها الفضولية وهي التي تجلسُ مع الابنة أورتنس، ومن هنا تبدأ الخيوطُ في الظهور والانسياح في كافة الاتجاهات الحدثية.
النسيبةُ بِت التي تتخذُ الرواية من اسمها عنواناً، قادمة هي الأخرى من الريف كذات عائلة النبيل فيلو التي لم تكن نبيلة لكن خدماتها للثورة ونابليون صعدتها، لكن بِت لا تزال فقيرةً وهي منمطمةٌ ومعقدةٌ ومليئة بالحقد والتظاهرِ كذلك بفعلِ الخير وخدمة العائلة في الوقت التي تقوم بنخرها، أنها نموذج البرجوازي الصغير المدمر، وهي تعقدُ علاقةً مع مهاجر فنان بولندي هارب من بلده أثر ثورة فاشلة، وهو يقدمُ على الانتحار لكنها تنقذه وتتملكهُ كعبد وتدعي تطويره، وهو يرضخ لارادتها ويتغير، فتسيطرُ عليه مؤقتاً، ريثما يحب بشكل حقيقي ابنة فيلو البارون (اورتنس)، ويفلت من شبكة بِت، ليقعَ في شبكة أخطر هي شبكة الجميلة البغي التي يقع معظم رجال الرواية في حبها، وتصطادهم وتعطيهم مواعيد مختلفة، وتستفيد من أمكنة متعددة، فيما بيتها هو مكان الحفلات والعلاقات.
محور الرواية شخصية فيلو البارون تترابط خيوطُها مع زوجته وابنته وعشيقته الجديدة التي يجمع الأموال من أية جهة وخاصة من مورد عائلته، ومن جهاز الدولة، ومن مساعدة قريب له هو (خاله) الذي يسافر للجزائر التي خضعت للاستعمار الفرنسي حينئذٍ ويضاربُ في قمح الدولة ويتعرض للسجن فينتحر، ينتزع هيلو البارون أي مال لكي يلقيه في حريق شهواته الذي لا ينطفئ حتى آخر سطر من الرواية.
فيما منافسه كروفيل يلاحقه ويكتشف علاقته بـ(السيدة مارنيف) فُيغيرُ على المكان ويلقي شباكه على تلك المرأة الفاتنة التي تصطاده وتسحب جزءً كبيراً من ثروته.
فيما تقوم النسيبة بت بحبك المؤامرات لمن تستفيد منه، وهي تشعر بالغبن حين يتخلى عنها الفنان البولندي ويتزوج أورتنس فتتزعزع العلاقات داخل الأسرة، التي لا تنتبه لهذا وينحدر الأب فيها لمهاوى الأفلاس ويتبرأُ منه أخوه المحتفظ بالمُثُل القديمة ويطرده من الوظيفة، ويعيش متخفياً في أمكنة حقيرة، ويظل يطارد البنات الصغيرات ويموت على هذا.
شبكةٌ كبيرةٌ من الشخصيات والعلاقات وهي كلها تدور في الحاضر، وبالسرد المباشر، المتصاعد، وتغدو الالتفاتات للماضي محدودةً وتجري من قبل الراوي المسيطر المهيمن على السرد، حيث يقدم خلفيات للشخوص والأحداث ويهتم إهتماماً شديداً بكمِ النقود التي يحصلون عليها بدقة شديدة، ووظائف تحصيل هذه الدخول، والبيوت التي يسكنون فيها، والتغييرات المعمارية التي تستجد وفواتيرها، ومن يربح في هذه الدخول ومن يخسر، وكيف تتسبب الميزانيات في الصعود أو الانهيار للشخصيات المختلفة.
يقدم بلزاك الشخصيات والأحداث بإنسيابية عفوية، فليس ثمة عقدة كبيرة، بقدر ما هي شهوات بعض الرجال الحادة التي تعبرُ عن فراغ روحي فكري، وهي كلها ضمن الطبقة السائدة التي بدا أنها تراكمُ الثروةَ من قبل الفرع البرجوازي وتخسر الثروة في الفرع الارستقراطي، الذي لم يستطع إنتاج مهن جديدة.
فيما كانت الشخصيات التي تبيع قوة عملها، كِبت التي تعملُ خادمةً ثم تستغل موهبتها في الخداع والدس في جمع ثروة، فهي أشبه بحشرة سامة متسلقة، فيما الفنان (لونسيسلاس) يبيعُ مادةَ موهبته المحدودة التي لا يثريها بالتواضع والدرس فتذبل.
فيما الغواني يعشنَّ على الجمال الذي يزول بكوارث، فستفيد الشخصيات الحشرات العالقة من هذه الكائنات كزوج ( السيدة مارنيف).
هذا العرض الواسع المتشابك للشخوص وتطورات الأحداث ينمو بصدامات غير جوهرية في البناء الاجتماعي، فالعاشقان الغنيان المتصارعان عبر البيوت والشقق والحفلات والهدايا ونسج العلاقات الجزئية الأخرى لنفس البؤرة يخثران السرد في هذه التطورات غير الدرامية، ولا تضيف الشخصيات الثانوية حطباً لهذه النار الخافتة، والجميع يتحلل ويذوب وتتحول الأمكنة من البيوت والفلل الكبيرة إلى الشقق الصغيرة والحارات الشعبية.
تناقض الطبقتين الارستقراطية والبرجوازية الذي تغذى به روي بلزاك في رواياته الاجتماعية القصيرة المكثفة يُفتقدُ بشكل متواصلٍ مع غيابِ أساسه الاجتماعي، وإندماج الطبقتين اللتين غدتا طبقةً واحدة من أصول مختلفة، ويظل الصراع على طبيعة المَلكية حيث تعبر عن بقايا الارستقراطية التي لم تعد مطلوبة ولكن بلزاك لا يتعرض الصراعات التاريخية بل يدرس مشاهد إجتماعية قاطعاً إياها عن سيرورتها وتطوراتها اللاحقة وهو منهج يحيل الحبكة إلى درس موضعي، ومن هنا يقوم بتهّميش أفرادَ الطبقة العاملة فتظهر على هيئة أفراد تابعين وممسوخين، ولهذا تغدو هي المفقود الاجتماعي في هذا العرض البلزاكي الواسع والتي هي القادرة في حضورها على تأجيج التناقض فنياً كما تفعل ذلك إجتماعياً وسياسياً، ولهذا تغدو رواية بلزاك رواية برجوازية عائلية تفتقد الصدامات الاجتماعية الواسعة.
http://www.ssrcaw.org/ar/show.art.asp...
http://www.alraafed.com/2017/05/19/8751/
http://www.akhbar-alkhaleej.com/12744...
https://isaalbuflasablog.wordpress.co...
العتبةُ السرديةُ الروائية ليست منفصلةً عن بؤرة الرواية، فالرجلُ الكورسيكي القادمُ من تلك الجزيرة إلى العاصمة باريس، يحملُ ابنةً صَبيةً منقذة من مجزرة في قريته في تلك الجزيرة حيث الثارات العائلية الريفية تمثل البقايا الاجتماعية لما قبل الرأسمالية، وهو هنا يدخل في قصر الحُكم حيث بونابرت وأخوه ومكتبه القيادي، يقودان مرحلةً مختلفة من الثورة الفرنسية المُجهَّضة.
تمثل النابليونية الإمبراطوريةُ هزيمةً لمُثُل الثورة الديمقراطية حيث كانت تلك المثل في غبش الولادة للنظام الرأسمالي، وكان الصراع بين الشمولية والديمقراطية مُتلبساً، والصراع بين اليعاقبة والجيرونديين مُستقطباً غيرَ منتج لتيار تحولي ثوري ديمقراطي، والذي سوف يتكون عبر عقود القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
إن تحديات الثورة الفرنسية جمعتْ القوى المحافظة في القارة الأوربية، وتوجهتْ للقضاء عليها، ولم يكن سوى جيش نابليون ينهي هذه التناقضات الداخلية والخارجية، لكن عبر إقامة دكتاتورية شخصية فئوية، وكان بطلُها القادم من جزيرة كورسيكا تعبيراً عن القوى العسكرية ذات الجذور الريفية التي ترسملتْ ولكنها ما تزالُ تحتفظُ بأجزاء من بناءٍ فوقي إقطاعي مضادٍ للبناء التحتي الرأسمالي المتغلغل عبر العقود.
يغدو النظامُ الإمبراطوري النابليوني معبراً عن القومية الفرنسية في صعودِها وغزوها للبلدان الأوربية وفي حفاظها على إستقلال فرنسا المُنتهك من قبل الغزاة الذين تمكنوا من كسر الإرادة الفرنسية الحرة.
فليس تكرار البؤرة هو عمل عفوي، إنها وطنية بلزاك الأبية وقد وجدتْ في نابليون رمزاً، وهنا يقوم الرجلُ الكورسيكي ذو الشيم الريفية المتعصبة بالدخول في عالم الطبقة المسيطرة المترجرجة عبر هذا التاريخ المضطرب.
إنه يطلبُ الحمايةَ من صديقه نابليون حيث كانا من منطقة واحدة، ومطالبه الانتقامية تُرفض من قبل بونابرت زعيم الدولة، لكنه لا يمانع من التستر على جريمته في قتل خصومه في عملية الثأر الفظيعة التي جرت، والتي لم ينجُ منها من العائلة الأخرى سوى ولد سيكون له شأن في هذه الرواية المُقامة على الصراع القَبلي والصدف الاستثنائية.
بقرارت ذاتية تمكن من نقل (بارتولوميو) العامي إلى طبقة النبلاء، وعاش هو وعائلته في أصيصٍّ زجاجي خارجَ التاريخ السياسي لحين دخوله في التاريخ العائلي المتصادم مرة أخرى.
فلم تؤد الإطاحة بنابليون في تغيير موقع هذا النبيل، ولم يشارك في عمل تاريخي أو سياسي، ليكون تحت خدمة بلزاك في حفرياته الروائية.
العتبة السردية في الرواية كانت تُدخلُ إلى البؤرة المأساةَ العائلية الثأرية المستمرة عبر الأنماط الفردية.
عتبةٌ أخرى تنشأُ في المرسم حيث مجموعات من البنات يشتغلنَّ في لوحاتٍ وتدريبات فنية على يد أستاذ هو الآخر نابليوني الهوى.
بدت هذه العتبةُ منقطعةً عن العتبة السابقة لكنهما إتصلتا عبر تنبيهات الراوي وتنامي الحلقات التي يشيدها، فالصراعُ بين الفتيات الارستقراطيات والبرجوازيات يشيرُ إلى مناخ فرنسا المتقلب، حيث المَلكية العائدة والنابليونية المهزومة، وتظهر ابنة الكورسيكي صاحب القضية الثأرية النبيل حالياً، ذات حضور آخاذ في المرسم، وحيث مهارة الراوي تندغم بالتشكيل.
لكن هذه الحلقة تتضاءل مع ظهور بؤرة الرواية وهي العلاقة العاطفية بين هذه الابنة وضابط شاب من جيش نابليون المهزوم يعاني جراحه، ويقعُ تحت عيني هذه الفتاة!
وسرعان ما تشتعلُ هذه العلاقة وتتعملق فوق جزئيات الرواية الأخرى.
حبكةٌ بدأت من جزيرة في البحر الأبيض المتوسط وتناسجت مع صراعات سياسية تاريخية وإنفصلت عن الشبكة هذه كلها، لتتعقد داخلياً وتتفجر مأساة.
وطنيةُ بلزاك الرومانسية تجمع هنا شخصيات الحلم القومي البونابرتي في بنيةٍ تتشكل عبرَ الصدف، ولكن الحلم القومي الثوري مات في الواقع، وقد أنجبَ أسرةَ حب في مرسم فن، بين ضابط جريح شجاع، وفتاة عاطفية وطنية، وتتمكن بقايا عالم الإقطاع وعادات الثار وعدم التطور الديمقراطي في الريف عامة، من هزيمة الحب وعدم نجاح الشابين في البقاء زوجين ثم حيين وقد إنقطع الأهلُ عنهما وعاشا في ضنك عنيف.
تمكن زمن ما قبل الرأسمالية من هزيمة الوطنية، ويشير هذا إلى ضعف الُبنية الرأسمالية الوليدة وضعف تطور القوى الفلاحية المؤيدة للدكتاتورية البونابرتية، وهذه الشموليةُ مُصعّدةٌ في وعي بلزاك الروائي على شكلِ مأساةٍ في عائلة فردية.
ما هي علاقةُ مأساة العوائل المتقاتلة في الجزيرة بنابليون والصراع مع المَلكية العائدة؟
إن التطور الجمهوري الديمقراطي الذي أطلقته الثورة لم يستمر لضعف الطبقة المنتجة له، وكان نابليون الذي قفزَ عن هذا التطور وغمر الفلاحين العسكريين بخيرات البلدان المغزوة، وطورَ من البنية الرأسمالية عبر هذه الهيمنة الشمولية فهو أعادَ المَلكية بشكل متطور، فكان لا بد أن يغدو رمزاً لها، وهكذا غدتْ العوائلُ الريفية تعيشُ مأساةَ ما قبل الرأسمالية وعجز الرأسمالية عن التطور الشامل معاً.
وبطبيعة الحال كان لا بد أن يكون (الأبطال) البارزون هم من (الوطنيين)، وهنا فإن بلزاك يتعاطف مع هذه القوى الفلاحية والوطنية، لكنه يرفض عدم تطورها الاجتماعي لكنه لا يغوص لمجمل تناقضات البُنية التي خلقتها بهذا المستوى.
غياب التحليل على المستوى الروائي بعدم تطور الشخصيات وعدم قيام علاقات واسعة في الرواية، يواكبه تحول البؤرة الروائية إلى قصة عائلية، فالأبطال الوطنيون لم يتطوراً نضالياً، ولم يتخلصوا من تخلفهم الاجتماعي، ولم يجعلوا الحب مزيلاً لعادات الثأر.
وأمام الحيثيثات الواقعية الجزئية المرصودة والمتنامية روائياً، والمأخوذة من عيناتٍ حقيقية جرت في التاريخ الحقيقي، فجثمتْ الشخوصُ والحبكة في مستوى الانعكاس الجزئي، ولم تقرأ التحولات الراهنةَ والمنتظرة في بنية رأسمالية جنينية.
لهذا فإن الفلاحين هم أكثر حضوراً هنا وفي أعمال أخرى، لكنها كطبقةٍ تتعرض للانهيار والتحول، ولا تستطيع سوى أن تكون ضحيةً وليس قوة تغيير وطنية في النمط الرأسمالي الوليد، الأمر الذي يؤهل العمال لذلك، عبر تحولات متصاعدة تاريخياً.
في روايته (سرفيتا) ينعطف بلزاك نحو جنس روائي يسميه (قصة من الدراسات الفلسفية) وهو جزءٌ من الملهاة الانسانية، وتمثل طبيعة مختلفة عن الأجزاء الأخرى من الملهاة، فالمكانُ الذي يغدو مكاناً للسرد ليس من تلك الأمكنة التي إختبرها بلزاك الممثلة لتطور البنية الاجتماعية الحديثة، فهنا ليس ثمة مدينة ولا ريف، بل صقيع، وجزءٌ ناء من شمال أوربا حيث النرويج لا تزال في ضباب التطور الحديث.
فهو كما ينعطف نحو جنس روائي مختلف ينعطف نحو بُنية مختلفة، بُنية ما قبل الرأسمالية الحديثة.
الافتتاحيةُ وعتبةُ الروايةِ المتوجهة نحو البؤرة تصورُ بشكلٍ آخاذ طبيعة النرويج:
(فالبحر يتغلغل في كل مكان، لكن الصخور تتشقق فيها بشكل مغاير وجروفها الصاخبة تتحدى التعابير الغريبة للهندسة، هنا صخر قد تسنن لمنشار، وهناك موائدٌ كثيرةُ الاستقامة لم تعان من إقامة الثلوج فوقها ولا من ذوائب شجرات التنوب الشمالية المهيبة)، ص 6، سرفيتا، وزارة الثقافة السورية 2001.
هذا الوصفُ المطول لمشهد الطبيعة ينزلُ إلى السكان:
(في أسفل جبال جرافيس تقبعُ القريةُ المؤلفة من نحو مئتي بيت من الخشب، حيث يعيش سكان ضائعون، كما تضيعُ قفائرُ نحل في غابة، وهم يواصلون العيش دون أن يتزايدوا أو يتناقصوا ساعين وراء تحصيل معيشتهم من قلب تلك الطبيعة المتوحشة)، السابق ص9.
هو إختيار لمشهد مجّمد عن حراك التاريخ الاجتماعي، كعتبةٍ نحو البؤرة الروائية، التي تظهر فجأة على قمة هذا الجبل الذي لم يصل أحدٌ إليها!
التكوين الطبيعي الساحر يقود للتكوين البشري السحري، والساردُ المؤلفُ الدائمُ الحضور سابقاً في العروض الاجتماعية يتحولُ لعرضٍ فكري:
(إن كل مبدأ متطرف يحملُ في ذاته مظهرَ النفي وعلائم الموت: أليست الحياة صراعاً بين قوتين: فليس هناك ما يغدر بالحياة. قدرة واحدة تسود دون معارضة هي قوة الجليد غير المنتجة)، ص 14.
هذا التحليلُ غيرُ التاريخي المجردِ سيحوله المؤلفُ لطبيعةٍ إجتماعية مجردةٍ غيرِ قابلةٍ لنفاذِ التناقضات الاجتماعية.
شخصيتان تظهران فجأة في تلك القمة الجبلية الصقيعية، وهو ظهورٌ غير موضوعي فنياً، بل من قبلِ الإرادةِ الحرةِ للسارد، المتداخلة مع الإرادة الحرة المُتخليَّة للإله:
(في صبيحة يوم كانت الشمس تلتمع فيه.. مر شخصان على الخليج وعبراه وطارا.. فارتفعا نحو القمة وقفزا من إفريز إلى إفريز).
نرى المنزلقين الاثنين اللذين يصعدان الجبال: سرافيتوس وسرفيتا. كائنان كما أنهما يخرقان نواميسَ الطبيعة الجبلية كذلك يخترقان نواميسَ الجنس والعيش العادي.
(قالت وقد بدرت منها حركةٌ ميكانيكية لترمي بنفسها: إنني أموت يا حبيبي سرافيتوس.. فنفخَ سرافيتوس برفق على جبينها وعينها؛ فبدت فجأة كمسافر تمتعَ بحمامٍ منعش). ص 17 .
سرافيتوس حين نفخَ فجأةً غيّرَ شعور سرفيتا. (تقول من أنت لتكون لك هذه القوة فوق قوة البشر وأنت في هذا العمر؟) ص 19.
كأن القوة الخارقة له هي من خرق ناموس العمر وليس خرق ناموس الطبيعة عامة.
الصوفيةُ تتدفقُ في كلام سرفيتوس:
(إن أردتِ أن تكوني نقيةً فضعي دائماً فكرة العلي القدير في عواطف الأرض) ص24 .
يُبنى السردُ على تجريدٍ غرائبي يعطي لشخصياتِ السماويين إمكانيات عجائبية: عبور الجبال، والقيام بمعجزات، والعيش بين الأرض بتضاريسها القاسية والسماء بغموضها السرمدي المكتمل غيباً.
ويعتمدُ تصوير المعجزة السردية على تغلغل السماويين في البشر العاديين وجلبهم للخوارق التي يصنعونها.
لهذ فإن ولفرد الرجل المتغرب العائش في النرويج سيكون هو محطة التجريب العجائبي هذه.
فمينا التي بدأت بالالتحاق بالمعجزة الربانية المتجسدة في شخصية سرفيتوس عبر التأثير الخارق غير المرئي لنا،
(إنت مثل الكمال المثبط للهمة). (لماذا تبعدني عنك، أريد أن تكون ثرواتي الأرضية لك، كما أن لك ثروة قلبي، ولا أرى النور إلا من خلال عينيك، كما يشتق فكري من فكرك)، ص 24.
لكن سرفيتوس لا يمكنه العيش على الأرض حيث الوضع متقلقل، فيريدُ السماء، ويعد مينا للالتقاء بها هناك!
يقول: (لا يمكننا أن نقيس المدى الواسع للفكر الإلهي فلسنا فيه سوى قسمة صغيرة بقدر ما الله كبير)، ص 25.
ويضيف (إن الإنسان ذاته ليس خلقاً نهائياً، وإلا ما كان الله موجوداً).
يقوم سرفيتوس بتنظيرِ صوفيةٍ تقيم تضادات كلية بين الإنسان والإله، بين العالم الموضوعي والعالم المتخيّل الغيبي. الإنسان يغدو عابراً، والمجردات أبدية. في حين إن الإنسان من نمط سرفيتوس يصنعونها في شروط مجردة، في عالم الثلج النرويجي، حيث الرأسمالية نائمة.
تسأله مينا: كيف وجدتَ الوقت لتتعلم كل هذه الأشياء؟ يقول إنه لا يتعلم بل يتذكر، يعيدُ إتصالَه بالغيب، بالفيضِ الإلهي فينزلُ في رأسه، في تضاريسِ المادة الخشنة.
الصوفيةُ التقليديةُ خاصة في العالم الشرقي هائلة ويعيدها بلزاك إلينا:
(إننا أحد أكبر منجزات الله. ألم يمنحنا القدرة على أن نعكس الطبيعة وأن نركزها فينا بالفكر، وأن نجعل منها مرقاة نحوه؟ إننا نتحاب بقدر ما تحويه أرواحنا من السماء قليلاً أو كثيراً.).
أنعطف بلزاك من كونه روائي قريب للمادية والواقعية وتحليل الصراعات الاجتماعية إلى كونه متصوفاً، يصورُ كائناتٍ خارقةً، وهذا التذبذبُ من الماديةِ بدون التوغل العميق فيها ثم القفز للمثالية غيرِ الموضوعية، وتلك العروض الفاحصة للكائنات الاجتماعية المخبرية ثم هذه القفزة للمطلق في زمنيةِ ما قبل الرأسمالية، تعبرُ عن أدوات وعي البرجوازي الصغير في جمعهِ بين المثالية والمادية، بين اللاواقعية والواقعية، بين الإقطاع والرأسمالية.
في رواية (سرفيتا) السابقة الذكر تعودُ عملياتِ التحول والنشؤ الأرضية لمصدرٍ سماوي، وحتى عمليات الفعل الإرادي من حبٍ وكره وأعمال أخرى تكون صدىً للسماء. وهي مثاليةٌ ذاتية، لا موضوعية، تعودُ بالفكر لما قبل التنوير وهيجل.
يدعو سرفيتوس (مينا) لتحبَ (ولفرد) القوي الإنساني، وحتى هذه الرغبة فهي جزءٌ من جدول السماء المُنزل (وُجدَ لكِ).
يقول: أطيعي الحواسَ وأشحبي مع الرجال الشاحبين.
تغدو القيثاراتُ وكلماتُ الشعراء والوجوه والأزهار كلها صدى للسماء. ويتحول سرفيتوس لضبابٍ إلهي. وهو يستطيع أن يخضع المادةَ ويسيطر عليها ويتجاوزها كما يفعل في قمة الجبل العالية الثلجية!
ينزلان إلى الأرض، فيصير سرفيتوس سرفيتا، وتبقى مينا فتاة، وتدخلان بيت الكاهن بيكر، حيث النص الديني المتوارث، الذي يحاول بيكر إنتصاره في هذه البيئة الصوفية الغامرة بدون نجاح.
يتحول سرفيتوس إلى سرفيتا وتعبر الأرض وتجثم في مرقدها قرب خادمها ديفيد العجوز.
هو سرفيتوس والخادم يراه فتاةً اسمها سرفيتا، حيث الروح العليا تحول الكائنات برهافةٍ شعرية.
حين تظهر سرفيتا بشكل مكتمل، وتستعيدُ طابعَها الأنثوي، يظهر ولفريد الرجل السائح المتغرب، والذي لا يريد أن يكّونَ علاقةً مع مينا بل مع سرفيتا، التي تروي له كيف ذهبتا للقمة الجبلية وقد كانت بشخص سرافيتوس. هذه التناسخية الفنية البلزاكية تجعل الشخوص من عجينةٍ مطاوعةٍ بيد السارد.
يلخص ولفرد الطريقة البلزاكية الخالقة هنا المتداخلة مع الخلق الميتافيزيقي:
(أنت لا تقبلين شيئاً من العالم، وتحطمين التسميات فيه، وتفجرين القوانين، والتقاليد، والعواطف والعلوم)، وكان يمكن أن يوجز: أنكِ تدمرين الواقعَ الموضوعي عبر الوهم.
وترد: (إنني لستُ امرأة، فأنت على خطأ بحبي).
وهي تتكلم بقدرة إلهية ثم تعود لتتكلم بصيغ أنثوية ممزقة تابعة للرجال، فتقيم تضاداً كلياً كذلك بين الرجال والنساء:
(يا للنساء المسكينات! إنني أرثي لهن) ولكن القدرات السحرية لا تفعل هنا شيئاً في تغيير الواقع.
عبر هذا السرد الحدثي الشخوصي التجريدي يتوجه بلزاك للصوفية ويقيم تشكيلةً بشريةً وجودية من ثنائيات:
(فلسفتُهُ: ثنائيةُ الروحِ والجسم تصيرُ واحدةً مشتقة من فعل الصاعقة غير المرئي، بينما تتقاسمُ الأخرى مع الطبيعة الحساسة تلك الطبيعةَ الرخوة التي تتحدى الفناءَ مؤقتاً..). والتكويناتُ الميتافيزيقية تلجأُ للتعبير من خلال المادة الشعرية هنا.
يدخل بلزاك في نشوةٍ صوفية سردية محولاً النماذج إلى طيوف، والأرض الصلبة إلى بخار، فيذكر أن الأعراض:
(تشبه غالباً الحلم الذي يشغف به الترياقيون حيث تغدو كل حليمة مركز نشوة مشعة). ص 44.
إنتقال بلزاك لهذا الجو الصوفي المضاد لواقعيته إستقاه من قراءته لأعمال سويدنبرغ الصوفية:
يعيش سويدنبرغ عالماً سماوياً وأرضياً، حيث يتكلم مع الملائكة ويعيش مع الناس في حياته اليومية!
الإعجاز ناتج حسب التفسير الرائج الديني عنه من ضخامةِ مؤلفاته وأعدادها الكثيرة وهو أمر يبرر طابعها السماوي المساعد!
وقد قام بلزاك بإدغام تصورات سويدنبرغ وعمل تحويرات في تصوراته مكيفاً إياها لرؤيته ولطبيعة النص الروائي، راجع الهامش في ص 67.
(والاتحاد الذي يتم بين روح الحب وروح الحكمة يضعُ المخلوقَ في الحالة الإلهية حيث تكون روحُهُ امرأة وجسمُهُ رجلاً).
هذه خلاصةٌ لفلسفته التي سوف يجسدها بلزاك روائياً.
القدرات الخارقة لهفليتوس وسرفيتا الكائنين المختلفين المتوحدين العائدين للسماء، يدفعان المادي ولفرد للاقتناع العاطفي المتحمس للصوفية والاتحاد مع مينا.
يتكون هذا العمل من أثر المناطق التي تعيش ما قبل الرأسمالية، ما قبل الحداثة، حيث تلعب الأرياف الفرنسية كذلك دوراً مؤثراً في هذا، كذلك يظهر أثر التباين بين وعي الناس المختلف، حيث يعود الوعي الديني بعد فورة التنوير الملحدة الفرنسية، ولهذا يعود السارد لمرحلة الديانات الأولى وكيف هي باقية حتى الآن، وللمعجزات الخرافية وحادثة السِن الذهبية التي طلعت لصبي بشكل إعجازي، تبين بعد ذلك كما يقول الشارح في الهامش أنها سِنٌ ذهبية مُركبة، ويذكر الشارح إهتمامات بلزاك المبكرة بالتنجيم،(ص 83).
لكن المسألة تعود للوعي الديني المحافظ لبلزاك، الذي يساير الكاثوليكية وبالتالي الوعي الشائع، ويردد عبارات المدح للكتاب المحافظين في فترة الردة عن زمنية التنوير. (كما في رواية: آمال خائبة).
إن بقاء الأفكار الدينية ومُثـُلها الأخلاقية يؤسسُّ أوضاعاً مستقرة للبشر لم تنجح الأفكارُ الثورية في تشكيل بناء إجتماعي علماني وعلمي قوي وثابت، ويغدو الكاتبُ البرجوازي الصغير في حالاتِ تذبذبٍ دائمة بين اليسار واليمين، بين مُثُل الثورة ومثل الثورة المضادة، بين الجمهورية والمَلكية، بين المادية والمثالية.
إن النصَ الروائي يخضع لهذا التذبذب الذي تحددُهُ لحظة الموقف والبنية الاجتماعية الثقافية المتأسسة في حينه، فهنا تحدد اللحظةُ والبُنية الاجتماعية ما قبل الرأسمالية وجود وحراك الشخصيات والأحداث، فالبناءُ التقليدي الديني والوعي الصوفي المستثمر من خلال سويدنبرغ الذي عبرَ عن ذلك المجتمع وكل التاريخ القروسطي والقديم تعاونا في خلق الموقف والشخوص، فبلزاك قارب سويدنبرغ، وهنا الحداثي البرجوازي الصغير يمضي لأقصى اليمين الروحي، وإستعانَ بأدواتِ فكرهِ الملغية للموضوعية والمادية المخترقة لها عبر الروح، ولهذا تم تكييف الأحداث والشخوص بمنهجها.
كما بقيت الأدواتُ المنهجيةُ التعبيرية بمستوى المادة الاجتماعية اليومية الفرنسية التحديثية بصراعها الليبرالي والمَلكي، أو الثوري والتقليدي، المترددة في بناء إجتماعي سياسي قلق لبرجوازية حديثة في طور التكون ما تزال، تعودُ هنا في النرويج لما قبل الحداثة، وتلغي تناقضات المرحلة الفرنسية البرجوازية الملكية، لتحيا على مفردات الإقطاع الثقافي الدينية.
الروايةُ تغدو ملحمةً برجوازية (شعبية) بقدرِ ما هي سردٌ يعبر عن صراع وتعاون الطبقتين الرئيسيتين في التاريخ الرأسمالي وهما البرجوازية والعمال.
إنها لا تغدو (ملحمةً) إذا كانت برجوازية صرفةً بخلاف ما يقول المنظر جورج لوكاش، فملحميتها تتطلب نقيضها الاجتماعي، تتطلب حضور الطبقة العاملة، وحين لا تحضر ولا يتوسع الرصد الفني للكل الاجتماعي تخفت الملحميةُ كما هو شأن روايات بلزاك الأخيرة حيث أن رصده للفئات البرجوازية والارستقراطية يغدو هو الشامل، ولم يقم برصدها في فترة ثورتها الشعبية، بشكل موسع سوى عبر رواية وحيدة تم رصدها في هذا التحليل وهي عن صراعات المَلكيين والجمهوريين على الحدود، أو برصدها عبر الصراع مع العمال.
إن عناوينه الجانبية للروايات مثل (دراسات فسلفية) و(مشاهد من حياة الريف) ومشاهد من الحياة الخاصة ودراسات طبائع ، تعطي جانبين متضادين، الأول هو قصص ذات رؤى مثالية مسبقة، ليس هي دراسات فلسفية، أما رواياتُ المشاهد فهي تصويرٌ واسع أو ضيق لشخوص وأحداث في ظرفٍ إقتصادي مدروس ومحلل ومسرود معاً.
هذه الثنائية الفكرية التعبيرية تجسد غياب رؤية البنية الاجتماعية بشكل مادي تاريخي، وإعتمادها على الملاحظات الاجتماعية والاقتصادية الشخصية، وهي التي تصلً حينا لسببياتٍ عميقة في البنية الاجتماعية في لحظة تاريخية محددة، وحيناً تسقطُ عليها رؤاها المثالية، فلا تصلُ لشيء من ذلك.
وهذا التباين يتواصل مع تطور كتابة المؤلف حيث لا ينتهي برؤية تحليلية تاريخية نموذجية، بفضل إعتماده على النماذج الجزئية المنسوخة من الواقع، فلا تغدو ثمة عملياتٌ فنية تعميمية، فيما الروايات المثالية تعتمد على البناء المثالي التجريدي أو الرومانسي الفردي.
وهذه الثنائيةُ ودلالاتها تعكس غياب الرؤية الفلسفية التحليلية لظاهرات المجتمع، وكما أن إلتصاق بلزاك بالقوى الإقطاعية البرجوازية المتداخلة، يبعده عن رؤية دور الطبقة العاملة فهو كذلك لا يقترب من المادية التاريخية التي كانت بعد مثل العمال في الممكن القادم بإنتظار التراكمات الفكرية الاجتماعية.
إن الرؤية التي يكونها وينتمي لها الروائي تتشكل في خلال تطوره الكتابي الشخصي، وفي البنية الاجتماعية في لحظتها التاريخية، وملحميتها وغناها يعتمد على ذلك.
إن الروائي لا يستمر في تلحليل المجتمع مثل عودته للاسطورة، وهنا في الرواية التالية نجد عودته للرومانسية.
في رواية (الولد الملعون) التي تدور في الزمن الإقطاعي الصرف هيمنة النبيل المطلقة وهو النبيل المتوحش الذي لا ينتجُ حركةً حية إلا بشكل مرضي بولادة الابن المشوه والذي هام في الطبيعة، فيما لا تظهر الفئة المتوسطة جنين البرجوازية في إلا في الطبيب الفرد ذي الوعي الشامل.
في هذه الرواية والتي تُرجمتْ عَربياً عبر وزارة الثقافة السورية، (دمشق 1992)، نقرأ هذه اللغةَ التفصيليةَ النحتيةَ في تكوينِ وحفر المشاهد، المقدمات التعبيرية التي تؤهلُ بلزاك للتغلغلِ في الُبنى الاجتماعية. إن لقطات الأم المقبلة على ولادة متعسرة مضنية والعائشة مع زوج إقطاعي متوحش، لتتواصل ببطءٍ شديدٍ عنيف، والمؤلفُ يرسمُ بدقةٍ بالغةٍ جسدَ الأم وصراخَها العنيف المكتوم داخلها، وتقلبها الهادئ الرزين في السرير، حيث يجثمُ الزوجُ الوحش، وكيف يستمر الطلقُ رهيباً، وكيف تكونُ الولادةُ في الشهر السابعِ جريمةً بالنسبة للزوج، حيث لن يجدَ سوى طفلٍ خديج.
الولادةُ المتعسرةُ توقظُ الأبَ، وشكلهُ البشعُ يقوم برسمه المؤلفُ بشكلٍ دقيق تفصيلي، ولكن الأبَ يطلبُ مجيء طبيب في المنطقة ليسرع بالتوليد في تحولٍ مفاجئ.
اللقطات تحفر تاريخ الشخصيتين الزوجة والزوج بشكل منفصل عن العالم، مثلما نسمعُ البحرَ وهو يدقُ جدران هذا القصر والصخور التي تحمله، ونتابعُ قصةَ المرأة التي تكاثرت أملاكُها الوراثية بسبب موتِ أقربائها في الحرب الدينية المشتعلة بين الكاثوليك والكلفانية البروتستانتية، مثلما نتابعَ إهتمامَ الزوج بهذه المرأة والسيطرة عليها وإبعاد صديقها والقضاء عليه، وحصر هذه المرأة في عالمه، وإنتظار خليفته وهو ابنه الوريث، لكن خليفته يظهر بهذا الشكل المشوه، وكأن الأمَ تريدُ القضاءَ على الصلة بالزوج.
هنا ثنائية تناقضية تصادمية في الجنس، فليس ثمة علاقة أخرى تجمع هذين الكائنين المتباعدين روحاً.
زمن الحياة هو زمن ما قبل الثورة الفرنسية، هو زمن الإقطاع، وهوهنا في هذه الرواية هو مجردُ إمتيازاتٍ إقطاعية، فالثروةُ لا تأتي للمرأة سوى عبر الحروب وبموتِ أهلِها، وبقيام الزوج بالاستيلاء عليها، لكن الروائي لا يقوم بتحليل المجتمع بل يركز على هذه الكائنات النادرة المفصولة.
وحتى تلك الحرب التي تحضرُ كخلفيةٍ تاريخيةٍ سلبية لا صلةَ إجتماعية لها في تلافيفِ العلاقاتِ الشخوصية والحدثيةِ الروائية، فهي حربٌ دينية، لكن فرنسا الكاثوليكية تحسمُ خيارها الديني وتلقي عملية الإصلاح الديني جانباً فيما قبل الثورة بسنوات طويلة.
إن عدمَ حضور السيرورة الطبقية التاريخية لفرنسا هنا في الرواية هو نتاجُ أسلوبِ المؤلفِ بلزاك، فهو يعرضُ الشخوصَ والأحداثَ في وحدةٍ تركيبيةٍ مشهدية دقيقة متصاعدة، إنه يحفرُ في الشخصيتين الأب والأم بشكل عابر نحو ولادة الابن الأول فالثاني، ويقومُ الطبيبُ الخبير في كل شيء بذلك الزمان بدور الخيط الرابط والسببية الخالقة، بإعتبار أن الثقافةَ هي الخلاقةُ الفعليةُ للنمو النبيل، وقد كان الطبيب في زمنية إنهيار العصور الوسطى ما يزال مجموعةً من العلوم والمهن، حيث أن الطب هو موسوعة الثقافة كابن سينا في عصره، وفيه نجدُ الرياضياتَ والسحرَ والفلك، فيقومُ الطبيبُ بدور التوليد للأجساد وللعالم الرومانسي معاً، من حيث ولادة الابنين ومن حيث العلاج للأمراض الجسدية بل وحتى الاجتماعية حين يجعل الابن الأول المريض يتزوج من فتاةً أعدها له، وبهذا فهو ينقذُ العائلةَ من غياب وريثها ومن موت الابن الثاني القوي والذي وُلد طبيعياً في تسعة أشهر.
وفي حين إن العلاقات الإقطاعية من حروب تقضي على الابن الأصغر، تقوم الثقافة والحب بمعالجة أخطاءها، في رومانسية بلزاكية لإستمرارية الإقطاع العتيق غير المحلل.
إنها بنية فنية منغلقة في العائلة المعزولة عن الصراع الاجتماعي.
فنحن نرى الابنَ الأول المريض الهزيل يعيش طويلاً خارج القصر وقرب الطبيعة، ويغرق في الثقافة والموسيقى وحب الكائنات، مما يشكلُ وجهاً رومانسياً، مضاداً للعلاقات الاجتماعية الشريرة القبيحة في تهافت الأب على الأملاك والحروب، في حين يقع القبح في العلاقات الاجتماعية السائدة، في القصر والحروب وحكم الكنسية والملك هنري الرابع، وهي تعميمات لا نراها مجسدة إلا في سلوك الأب الإقطاعي القبيح الشرس، والذي يتفتقُ عن شراراتٍ إنسانية في ختام حياته.
تتوسع رواياتُ بلزاك في الفترة الأخيرة من حياته كرواية (النسيبة بت)، لكن هل غادر المنطلقات العامة التي تشبثَّ فيها؟
إن بؤرةَ الصدام بين مرحلةِ الثورةِ الفرنسية وعودةِ المَلكية لم تعد قادرةً على تغذيةِ التناقض الصراعي المتوتر، فالماضي الثوري غدا متجَّاوزاً، وبين بدايةِ العشرينيات ومنتصف الثلاثينيات من القرن التاسع عشر حدثت تطوراتٌ كبيرةٌ في البُنيةِ الاجتماعية الفرنسية، فلم تثمرْ عودةُ المَلكية في تصعيدِ الارستقراطية التي ذُبلتْ مواردُها وتحول بعضُها للرأسمالية وأنهارَ بعضُها الآخرُ للحضيض الاجتماعي كما رأينا في نماذج عدة، وراحت رواياتُ بلزاك تعرضُ هذه الأحداثَ والتطورات في مشهدياتٍ كثيرة راصدةٍ وجودَها الراهن، مبتعدةً عن الجذور والتوسع في طبقات أخرى.
لهذا فإن بؤرةَ التناقض زالت، والطبقتان المتعاديتان تداخلتا في بعض، فبعضُ قوى الماضي بقي في الإداراتِ الجديدة، وبعض قوى الحاضر الرأسمالي صعدَ للقمة، فالتناقضُ بين الطبقتين لم يعد قادراً على إشعال موقد التوتر الصراعي السردي، فالنماذجُ القديمة المضادةُ للارستقراطية ذابتْ وترسملت، وهي تلك النماذج الاستثنائية كالوكونيل شابير التي لم تعدْ تطفح على سطح الواقع لتثيرَ نيران التناقض. أن الطبقتين المتصارعتين طويلاً غدتا طبقة واحدة.
ولم يجد بلزاك تناقضاً إجتماعياً كبيراً في الحقل الاجتماعي يشتغل عليه بإتساع كما هو حال التناقض السابق، ولهذا نقرأُ روايةَ (النسيبة بت) في هذا الضوء.
إن ثمة شخصيات محورية من الزمن النابليوني لا تزالُ تتنفس ولكن في عالم مختلف.
أهمها البارون هيلو والسيد كروفيل، اللذان مثلا تلك الجماعة البونابراتية التي تغيرت سبلُها في العيش، ففيما صعد هيلو في الإدارة إلى مرتبة الوزارة وصار (نبيلاً) أعتمد كروفيل على التجارة الشعبية المذمومة في عرف الارستقراطيين لكنه حقق نجاحاً كبيراً.
لقد إصطدم نموذجا عهد الثورة الآفلة هيلو وكروفيل لكنهما إصطدما حول الاستئثار بعشيقات، وطوال أحداثِ روايةٍ كبيرة بحجم (سبعمائة صفحة من القطع الصغير في الترجمة العربية، عن دار عويدات ببيروت) وهو أمرٌ يعبر عن تحلل هذه الفئة، وتقوقعها حول ذواتها وبدون أن تخوض معارك تحولية جديدة في المجتمع، فيما تبقت نماذج نادرةٌ من العهد السابق منقذةً ومُحتفظةً بشرفها الجمهوري.
إن العتبات الأولى في الرواية البلزاكية المعتادة الموجهة نحو بؤرة الرواية تختفي في رواية (النسيبة بت)، فالبؤرةُ الروائية تظهرُ منذ البداية حيث نرى زيارة كروفيل لبيت البارون هيلو ولقائه بزوجته البارونة (أدلين) حيث يراودها عن نفسها عارضاً بوقاحة مزايا مادية كبيرة، إنتقاماً من زوجها الذي خطفَ عشيقته المغنية!
أدلين المرأة المتقدمة في السن والمحتفظة بجمالها ترفض ذلك إيماناً منها بالمُثُل المسيحية وحباً في زوجها رغم معرفتها بخيانته.
هذه اللحظة الافتتاحية الواسعة المتحركة بين البيت ذي الأثاث القديم الرثِ والحديقة، تتضافرُ مع حركةِ النسيبة بِت ومراقبتها الفضولية وهي التي تجلسُ مع الابنة أورتنس، ومن هنا تبدأ الخيوطُ في الظهور والانسياح في كافة الاتجاهات الحدثية.
النسيبةُ بِت التي تتخذُ الرواية من اسمها عنواناً، قادمة هي الأخرى من الريف كذات عائلة النبيل فيلو التي لم تكن نبيلة لكن خدماتها للثورة ونابليون صعدتها، لكن بِت لا تزال فقيرةً وهي منمطمةٌ ومعقدةٌ ومليئة بالحقد والتظاهرِ كذلك بفعلِ الخير وخدمة العائلة في الوقت التي تقوم بنخرها، أنها نموذج البرجوازي الصغير المدمر، وهي تعقدُ علاقةً مع مهاجر فنان بولندي هارب من بلده أثر ثورة فاشلة، وهو يقدمُ على الانتحار لكنها تنقذه وتتملكهُ كعبد وتدعي تطويره، وهو يرضخ لارادتها ويتغير، فتسيطرُ عليه مؤقتاً، ريثما يحب بشكل حقيقي ابنة فيلو البارون (اورتنس)، ويفلت من شبكة بِت، ليقعَ في شبكة أخطر هي شبكة الجميلة البغي التي يقع معظم رجال الرواية في حبها، وتصطادهم وتعطيهم مواعيد مختلفة، وتستفيد من أمكنة متعددة، فيما بيتها هو مكان الحفلات والعلاقات.
محور الرواية شخصية فيلو البارون تترابط خيوطُها مع زوجته وابنته وعشيقته الجديدة التي يجمع الأموال من أية جهة وخاصة من مورد عائلته، ومن جهاز الدولة، ومن مساعدة قريب له هو (خاله) الذي يسافر للجزائر التي خضعت للاستعمار الفرنسي حينئذٍ ويضاربُ في قمح الدولة ويتعرض للسجن فينتحر، ينتزع هيلو البارون أي مال لكي يلقيه في حريق شهواته الذي لا ينطفئ حتى آخر سطر من الرواية.
فيما منافسه كروفيل يلاحقه ويكتشف علاقته بـ(السيدة مارنيف) فُيغيرُ على المكان ويلقي شباكه على تلك المرأة الفاتنة التي تصطاده وتسحب جزءً كبيراً من ثروته.
فيما تقوم النسيبة بت بحبك المؤامرات لمن تستفيد منه، وهي تشعر بالغبن حين يتخلى عنها الفنان البولندي ويتزوج أورتنس فتتزعزع العلاقات داخل الأسرة، التي لا تنتبه لهذا وينحدر الأب فيها لمهاوى الأفلاس ويتبرأُ منه أخوه المحتفظ بالمُثُل القديمة ويطرده من الوظيفة، ويعيش متخفياً في أمكنة حقيرة، ويظل يطارد البنات الصغيرات ويموت على هذا.
شبكةٌ كبيرةٌ من الشخصيات والعلاقات وهي كلها تدور في الحاضر، وبالسرد المباشر، المتصاعد، وتغدو الالتفاتات للماضي محدودةً وتجري من قبل الراوي المسيطر المهيمن على السرد، حيث يقدم خلفيات للشخوص والأحداث ويهتم إهتماماً شديداً بكمِ النقود التي يحصلون عليها بدقة شديدة، ووظائف تحصيل هذه الدخول، والبيوت التي يسكنون فيها، والتغييرات المعمارية التي تستجد وفواتيرها، ومن يربح في هذه الدخول ومن يخسر، وكيف تتسبب الميزانيات في الصعود أو الانهيار للشخصيات المختلفة.
يقدم بلزاك الشخصيات والأحداث بإنسيابية عفوية، فليس ثمة عقدة كبيرة، بقدر ما هي شهوات بعض الرجال الحادة التي تعبرُ عن فراغ روحي فكري، وهي كلها ضمن الطبقة السائدة التي بدا أنها تراكمُ الثروةَ من قبل الفرع البرجوازي وتخسر الثروة في الفرع الارستقراطي، الذي لم يستطع إنتاج مهن جديدة.
فيما كانت الشخصيات التي تبيع قوة عملها، كِبت التي تعملُ خادمةً ثم تستغل موهبتها في الخداع والدس في جمع ثروة، فهي أشبه بحشرة سامة متسلقة، فيما الفنان (لونسيسلاس) يبيعُ مادةَ موهبته المحدودة التي لا يثريها بالتواضع والدرس فتذبل.
فيما الغواني يعشنَّ على الجمال الذي يزول بكوارث، فستفيد الشخصيات الحشرات العالقة من هذه الكائنات كزوج ( السيدة مارنيف).
هذا العرض الواسع المتشابك للشخوص وتطورات الأحداث ينمو بصدامات غير جوهرية في البناء الاجتماعي، فالعاشقان الغنيان المتصارعان عبر البيوت والشقق والحفلات والهدايا ونسج العلاقات الجزئية الأخرى لنفس البؤرة يخثران السرد في هذه التطورات غير الدرامية، ولا تضيف الشخصيات الثانوية حطباً لهذه النار الخافتة، والجميع يتحلل ويذوب وتتحول الأمكنة من البيوت والفلل الكبيرة إلى الشقق الصغيرة والحارات الشعبية.
تناقض الطبقتين الارستقراطية والبرجوازية الذي تغذى به روي بلزاك في رواياته الاجتماعية القصيرة المكثفة يُفتقدُ بشكل متواصلٍ مع غيابِ أساسه الاجتماعي، وإندماج الطبقتين اللتين غدتا طبقةً واحدة من أصول مختلفة، ويظل الصراع على طبيعة المَلكية حيث تعبر عن بقايا الارستقراطية التي لم تعد مطلوبة ولكن بلزاك لا يتعرض الصراعات التاريخية بل يدرس مشاهد إجتماعية قاطعاً إياها عن سيرورتها وتطوراتها اللاحقة وهو منهج يحيل الحبكة إلى درس موضعي، ومن هنا يقوم بتهّميش أفرادَ الطبقة العاملة فتظهر على هيئة أفراد تابعين وممسوخين، ولهذا تغدو هي المفقود الاجتماعي في هذا العرض البلزاكي الواسع والتي هي القادرة في حضورها على تأجيج التناقض فنياً كما تفعل ذلك إجتماعياً وسياسياً، ولهذا تغدو رواية بلزاك رواية برجوازية عائلية تفتقد الصدامات الاجتماعية الواسعة.
http://www.ssrcaw.org/ar/show.art.asp...
http://www.alraafed.com/2017/05/19/8751/
http://www.akhbar-alkhaleej.com/12744...
https://isaalbuflasablog.wordpress.co...
Published on September 10, 2019 11:54
•
Tags:
2-بلزاك-الرواية-والثورة
ينابيع عبـــــــدالله خلــــــــيفة
البحرين قارة كبيرة للإبداع والفولكلور
رصد الراوئي عبـــــــدالله خلــــــــيفة في روايته الينابيع تأريخ البحرين أبتداء من القرن الثامن عشر، والتاسع عشر وأنتهاء بأيام الهاتف النقال الحالية، وجعل محمد العوّاد مدخلاً لعصر التنوير، وبداية لتأريخ التدخل الأوربي المباشر في شؤون المنطقة العربية ومنها البحرين.
ومن البديهيات المعروفة أن كل بلد في العالم بحاجة ماسة إلى ملحمة أدبية، فكرية، فلسفية، وحكائية تؤرخ تكوينه السياسي، وتكوين شرائحه الأجتماعية، ونضوجه، وتسجل ماضيه الإنساني خلال قرن أو اكثر.
وإذا لم يكن هناك ما يلبي هذه الحاجة الضرورية فالبلد سيبحث عمن يؤرخ له، ويبقى ينتظر ولادة المبدع المطلوب ونبوغه لأنجاز هذا العمل الأدبي، فالبلدان الحية بحاجة ماسة لمن يسجل ذاكرتها الإنسانية في كل مراحلها التأريخية.
فنجد في عصرنا الحديث الكثير من هذه النماذج الأدبية الكبيرة إبداعياً، التي آخت بين فن الرواية الحديثة، كما كتبها المحدثون في هذا الصنف الأدبي، والملحمة التي كتبت في اللغات الأخرى شعراً منذ قديم الزمان.
ومن النماذج العربية نقرأ ثلاثية محمد ديب في الجزائر الدار الكبيرة، الحريق، النول ، وأولاد حارتنا في مصر، لنجيب محفوظ، ومن العراق رباعية النخلة والجيران، وخمسة أصوات، والمخاض، والقربان، لغائب طعمة فرمان.
ومن السودان ثلاثية الطيب صالح موسم الهجرة إلى الشمال، عرس الزين، مريود، ضو البيت، ودومة ود حامد، وغيرها من التجارب الراوئية الرائدة في الوطن العربي والعالم.
الماء الأسود
ورواية الينابيع للروائي عبـــــــدالله خلــــــــيفة رواية متشعبة الموضوعات، غنية بالفلكلور البحريني والخليجي، وهي أيضاً تنهل من التأريخ السياسي للبحرين، وتقرأ أجتماعياً وأقتصادياً التحولات الديموغرافية في البلاد عبر أمتلاك الأراضي ووسائل الثروة والسلطة.
أبتداء من أمتلاك سفن البحث عن اللؤلؤ، في زمن ازدهار هذه التجارة في البحرين ودول الخليج العربي، وحتى أفولها بسبب اللؤلؤ المزيف الذي جاء من اليابان، وأنتشر في أسواق الزينة، وأفقد اللؤلؤ الحقيقي سوقه وقيمته الأولى.
وكذلك أرخت الرواية لظهور ثروة النفط والغاز في البحرين، مما مهد لتحولات سياسية وأجتماعية هامة في المجتمع البحريني.
أدت بدورها إلى تغييرات أجتماعية جذرية في بنيات المجتمع وطرائق معيشته، ونفسية غيرت سلوكه وتطلعاته نحو العالم ونظرته للتقدم العلمي، وطبيعة الحياة وتقدمها في المجتمعات الأكثر تطوراً وغنىً، ويرد في مقطع مؤثر من الرواية عن اكتشاف أول بئر نفط الذي ينعته الروائي في روايته بالماء الأسود، ويفرد له جزءاً كبيراً من السرد الروائي.
المهندسون والموظفون يعانقون بعضهم البعض، ويهتفون، وتصيح الآلات المعدنية مرسلة لغتها العجيبة عبر الفضاء، ويجمع الأوربيون كرات من المارد الأسود الممزق المتناثر على التربة، ويجرون بها نحو مكاتبهم ص199 وبأكتشاف النفط تمّد أعمدة الكهرباء لأول مرة في شوارع المنامة، ويدهش اهلها من رؤية أضواء المصابيح الكهربائية.
محمد العوّاد
وأبتداء من الجزء الأول في الرواية المعنون ب الصوت والجزء الثاني الماء الأسود يهيىء الروائي، للجزء الأخير من الرواية الفيضان ، بسرد التحولات الكبرى في حياة أهل البحرين.
وذلك من خلال شخصية محمد العوّاد، الذي يتمرد على سلطة الأب والعائلة، ويقرر أن يصبح مغنياً في عصر يعتبر أهله الغناء عاراً، ومثلبة وفي العادة لا تتشرف أي عائلة معروفة في البلاد بأنتماء المغني إليها في ذلك الزمن القبلي.
فيعيش حياته مبعداً عن كنف العائلة منبوذاً من جنتهم، باحثاً في أنغام عوده عن بحرين جديدة تتناغم مع تطلعاته الفنية، وحلمه الدائم بلقاء حبيبته ميّ، التي يحيل بينها وبينه، وضعها الطبقي الجديد بزواجها من متنفذ غني، فتحيل بينها وبينه أسوار وأسوار.
ولكن بالرغم من هذه الأسوار العالية إلا ان صوته من خلال أغنياته، التي يغنيها في الأعراس، والحفلات تصل إلى سمع هذه الحبيبة الحلم.
لقد أمتدت أحداث الرواية الملحمة إلى أمكنة عديدة كالمنامة والمحرق، وبومبى ودلهي ودمشق، وشملت أزمنة عديدة أبتداء من زمن القحط بسبب تغير نمط الأقتصاد على نحو مفاجىء في البحرين بفقدان اللؤلؤ لسوقه، وأسعاره الحقيقية.
ومجييء الميجر البريطاني بيلي وتبشيره للناس بإنهم لن يكونوا عبيداً بعد الآن ص 31إلى فترة الرخاء والعمران بأكتشاف النفط.
كائنات حقيقية
وتتضمن الرواية مشاهد أدبية وصفية قل مثيلها في الآدب الروائي العربي، ،اتسمت بالشعرية الخالصة، وقد بناها الروائي بحذق الفنان وتأني المفكر وحرفية النقاش الماهر، والشاعر الملهم مؤسساً على الصور الشعرية، وليس على الحدث الدرامي المتنامي في السرد مبانيه التخيلية، ولا أدري كم من الوقت والجهد أستغرقت كل صفحة من النثر الجيد في هذه الرواية من مبدعها ؟
كما ان تأملات أبطال الراوية العميقة والصادقة تشي بأنهم كائنات حقيقية، أخذ عنهم الكاتب كل ما تفوهوا به أو فكروا به، وما صادفهم من حوادث ومصاعب وكوارث، وقدمهم للقارىء بمشاهد ساخنة، كأنما حدثت قبل وقت قصير لا قبل مائة سنة أو أكثر.
ذلك ما نشعره على توالي الصفحات وعلى أمتداد 400 صفحة من القطع الكبير عن عشق محمد العوّاد المستحيل لميّ التي أقترنت بأحد المتنفذين، وعلاقته الموازية بأنثى أخرى، والتي كانت مجرد علاقة حسية علاقته بفيّ التي حملت منه سفاحاً.
ورفض الأقتران بها مبرراً ذلك الرفض بقوله الساخر أنا فنان أحلم أن اصعد إلى النجوم لا لأعيش بين بول الصغار ص65 بالرغم من حب فيّ له، لكنها أضطرت للزواج من النواخذة الكهل سعيد المناعي درءاً للفضيحة ص71.
العربي الكادح
أن وراء رواية الينابيع هماً وطنياً عميقاً يتلخص بسؤال الهوية، والبحث عن حلول لمعايشة التحولات الكبرى التي تمر بالعالم، وتفرض شروطها الموضوعية على أهل البلاد، وحاكميهم لمواكبة التقدم، وبناء مجتمع العدل والرفاهية والمستقبل الأفضل للأجيال القادمة. والينابيع تذكر بواقعية مكسيم غوركي الأشتراكية في روايته الأم، وروايات تورجنيف، فهي تنسج نسيجها من الطبقات الكادحة في المجتمع البحريني، فتنقل لنا حياة الصيادين وأقنان الأرض وعمال النفط المياومين والمشردين وفناني الهامش.
وتحاول الرواية من خلال ذلك بناء النموذج العربي للكادح، الذي يراوح بين مفاهيمه البرجوازية المتوسطة، والقيم الطبقية، التي أستقاها في الكثير من عاداته وتصرفاته بشكل مغلوط عن الفكر الأشتراكي العالمي.
فنرى تذبذب محمد العوّاد الفكري حين يدخل قصر معذبه، وسارق حبيبته ميّ، فيرى القصر متلألئاً بالأنوار وحشود العباءات والثياب البيض والخيول، التي ملأت الساحات وبنادق العرضة حين راح أصحابها يطلقون النار على المساء الهابط بقوة فوق الشطآن المقبوضة الروح ص 174 فنسمعه يردد في منللوج ما ينم على ندمه على ماضيه، فهو حين تأتيه الفرصة لدخول بيت أحد المتنفذين يشعر بالمهانة ويتذكر كيف كان يُجر إلى القلعة ويوضع في زنزانة مع اللصوص والقتلة، وكيف كان يهان من قبل أي شرطي جلف، لأنه غنى كلمات عن الحرية، التي سرعان ما تخلى عنها أصحابها ص183
جمعة بن العبد
أن الحكي السردي في الرواية ينفتح على عوالم تخيليية متشعبة، ويحمل في مضامينه المختلفة دعوات للتعايش بين الثقافات والديانات، ونبذ التطرف، والأستغلال الطبقي، والجهل والتخلف.
إذ بالرغم من أن الدعوة للتحديث في المجتمع البحريني الناشيء بدرت من أجانب كالميجرالبريطاني بيلي، وسكرتيره جون سميث الذي أدعى أنه عالم آثار دنماركي جاء ليبحث في آثار ديلمون وتأريخها.. ص104.
الذي يعجب بأهل البلاد وتقاليدهم، ويعتبر أن حياتهم أفضل بكثير من حياة الغربيين فيقول عنهم انهم يتصرفون ببساطة مذهلة، يجلسون على الأرض وتندفع أيديهم في الأرز يكورونه ويقذفونه في أفواههم، ويحكون القصص والأشعار طوال الليل عند الشطآن، وفي الساحات الرملية.
وتسمع أصوات مضاجعاتهم من وراء السعف الرقيق، وكل إنسان يسلم على الآخر الغريب ويصادقه في دقائق، ويدعوه إلى أكله، فيقبل الآخر دون خجل ص186 وعادات زوجته مارجريت، المدمنة على قراءة مسرحيات شكسبير ومارلو وقصص ديكنز وبلزاك وتولستوي والمهتمة بأساطير الشرق ص 185 إلا ان سرعان ما يتلقف بعض أبناء البحرين هذه الدعوة ويدعون إليها.
ومن هؤلاء جمعة بن العبد الذي يفخر بالحرية في بلاد الميجر الأجنبية ص38 والذي يتلقف دعوة المستر بيلي للتحرر من ديون المرابين والتجار الذين كانوا يستعبدون الناس بديونهم التي لا تنتهي بسبب الربا، وعدم أيفاء رحلات صيد اللؤلؤ بسداد الديون المتراكمة على الصيادين والفقراء العاملين في صيد اللؤلؤ.
يقول مستر بيلي للناس ستحصلون على كل شيء. لن تكونوا عبيداً بعد الآن. ألقوا بهذه الأوراق الحقيرة التي سجلوا فيها الزوّر والديون والقيود ص31.
البحرين قارة كبيرة
ولا يكتفي الروائي بأيراد مبادرة هذا الأنجليزي بل يسرد ممارساته الحداثية داخل مجتمع البحرين البدائي قبل اكثر من قرن، فهو يمارس فعلاً حداثياً لم يسبقه إليه أحد في البلاد حين يدخل للبلاد السيارة إلى البحرين لأول مرة، فتحدث ردة فعل عنيفة عند أغلب الناس، الذي أعتادوا على الجمل والفرس والعربة، التي تجرها الخيول، والحمير في تنقلاتهم. فيقول الروائي واصفاً تلك الدهشة وعدم تصديق الناس لما يرونه حين يدخل الميجر بيلي السيارة أول مرة إلى البلاد فيندهش الناس لرؤيا هذا الكائن المعدني الذي يسير من دون حيوانات تجره، كأنما الجان تحركه من دون أن يراها أحد ص67 ، ويسرد مسيرة مستر بيلي، الغرائبية في مجتمع أمي بدأ ينهض ببطء من كبوة التخلف والفقر وحتى نهايته المفجعة عندما اصيب بطلق ناري من مجهول فيما بعد. رواية الينابيع لـعبـــــــدالله خلــــــــيفة عمل روائي كبير رسم مسارات إنسانية لعشرات الأبطال من الناس العاديين من البحرين عاشوا حياتهم في قاع المجتمع، وآخرين في اعلى قمة المجتمع، والرواية تؤثر كثيراً في القارئ، الذي لم يعرف عن البحرين من قبل كثيراً وتجعله يفكر، ويعيد التفكير في الكثير من مسلماته السابقة عن بلاد صغيرة جغرافياً، بنفوسها القليلة نسبة للبلدان الأخرى، لكنه سيجدها في رواية الينابيع بلاداً كبيرة جداً وأكبر بكثير من قارة بأهلها وتاريخها، وحب كاتب الرواية لها.
صدرت الرواية عن دار الأنتشار العربي» بيروت ط1 عام 2012 عدد الصفحات من القطع الكبير 400 صفحة.
فيصل عبدالحسن
رصد الراوئي عبـــــــدالله خلــــــــيفة في روايته الينابيع تأريخ البحرين أبتداء من القرن الثامن عشر، والتاسع عشر وأنتهاء بأيام الهاتف النقال الحالية، وجعل محمد العوّاد مدخلاً لعصر التنوير، وبداية لتأريخ التدخل الأوربي المباشر في شؤون المنطقة العربية ومنها البحرين.
ومن البديهيات المعروفة أن كل بلد في العالم بحاجة ماسة إلى ملحمة أدبية، فكرية، فلسفية، وحكائية تؤرخ تكوينه السياسي، وتكوين شرائحه الأجتماعية، ونضوجه، وتسجل ماضيه الإنساني خلال قرن أو اكثر.
وإذا لم يكن هناك ما يلبي هذه الحاجة الضرورية فالبلد سيبحث عمن يؤرخ له، ويبقى ينتظر ولادة المبدع المطلوب ونبوغه لأنجاز هذا العمل الأدبي، فالبلدان الحية بحاجة ماسة لمن يسجل ذاكرتها الإنسانية في كل مراحلها التأريخية.
فنجد في عصرنا الحديث الكثير من هذه النماذج الأدبية الكبيرة إبداعياً، التي آخت بين فن الرواية الحديثة، كما كتبها المحدثون في هذا الصنف الأدبي، والملحمة التي كتبت في اللغات الأخرى شعراً منذ قديم الزمان.
ومن النماذج العربية نقرأ ثلاثية محمد ديب في الجزائر الدار الكبيرة، الحريق، النول ، وأولاد حارتنا في مصر، لنجيب محفوظ، ومن العراق رباعية النخلة والجيران، وخمسة أصوات، والمخاض، والقربان، لغائب طعمة فرمان.
ومن السودان ثلاثية الطيب صالح موسم الهجرة إلى الشمال، عرس الزين، مريود، ضو البيت، ودومة ود حامد، وغيرها من التجارب الراوئية الرائدة في الوطن العربي والعالم.
الماء الأسود
ورواية الينابيع للروائي عبـــــــدالله خلــــــــيفة رواية متشعبة الموضوعات، غنية بالفلكلور البحريني والخليجي، وهي أيضاً تنهل من التأريخ السياسي للبحرين، وتقرأ أجتماعياً وأقتصادياً التحولات الديموغرافية في البلاد عبر أمتلاك الأراضي ووسائل الثروة والسلطة.
أبتداء من أمتلاك سفن البحث عن اللؤلؤ، في زمن ازدهار هذه التجارة في البحرين ودول الخليج العربي، وحتى أفولها بسبب اللؤلؤ المزيف الذي جاء من اليابان، وأنتشر في أسواق الزينة، وأفقد اللؤلؤ الحقيقي سوقه وقيمته الأولى.
وكذلك أرخت الرواية لظهور ثروة النفط والغاز في البحرين، مما مهد لتحولات سياسية وأجتماعية هامة في المجتمع البحريني.
أدت بدورها إلى تغييرات أجتماعية جذرية في بنيات المجتمع وطرائق معيشته، ونفسية غيرت سلوكه وتطلعاته نحو العالم ونظرته للتقدم العلمي، وطبيعة الحياة وتقدمها في المجتمعات الأكثر تطوراً وغنىً، ويرد في مقطع مؤثر من الرواية عن اكتشاف أول بئر نفط الذي ينعته الروائي في روايته بالماء الأسود، ويفرد له جزءاً كبيراً من السرد الروائي.
المهندسون والموظفون يعانقون بعضهم البعض، ويهتفون، وتصيح الآلات المعدنية مرسلة لغتها العجيبة عبر الفضاء، ويجمع الأوربيون كرات من المارد الأسود الممزق المتناثر على التربة، ويجرون بها نحو مكاتبهم ص199 وبأكتشاف النفط تمّد أعمدة الكهرباء لأول مرة في شوارع المنامة، ويدهش اهلها من رؤية أضواء المصابيح الكهربائية.
محمد العوّاد
وأبتداء من الجزء الأول في الرواية المعنون ب الصوت والجزء الثاني الماء الأسود يهيىء الروائي، للجزء الأخير من الرواية الفيضان ، بسرد التحولات الكبرى في حياة أهل البحرين.
وذلك من خلال شخصية محمد العوّاد، الذي يتمرد على سلطة الأب والعائلة، ويقرر أن يصبح مغنياً في عصر يعتبر أهله الغناء عاراً، ومثلبة وفي العادة لا تتشرف أي عائلة معروفة في البلاد بأنتماء المغني إليها في ذلك الزمن القبلي.
فيعيش حياته مبعداً عن كنف العائلة منبوذاً من جنتهم، باحثاً في أنغام عوده عن بحرين جديدة تتناغم مع تطلعاته الفنية، وحلمه الدائم بلقاء حبيبته ميّ، التي يحيل بينها وبينه، وضعها الطبقي الجديد بزواجها من متنفذ غني، فتحيل بينها وبينه أسوار وأسوار.
ولكن بالرغم من هذه الأسوار العالية إلا ان صوته من خلال أغنياته، التي يغنيها في الأعراس، والحفلات تصل إلى سمع هذه الحبيبة الحلم.
لقد أمتدت أحداث الرواية الملحمة إلى أمكنة عديدة كالمنامة والمحرق، وبومبى ودلهي ودمشق، وشملت أزمنة عديدة أبتداء من زمن القحط بسبب تغير نمط الأقتصاد على نحو مفاجىء في البحرين بفقدان اللؤلؤ لسوقه، وأسعاره الحقيقية.
ومجييء الميجر البريطاني بيلي وتبشيره للناس بإنهم لن يكونوا عبيداً بعد الآن ص 31إلى فترة الرخاء والعمران بأكتشاف النفط.
كائنات حقيقية
وتتضمن الرواية مشاهد أدبية وصفية قل مثيلها في الآدب الروائي العربي، ،اتسمت بالشعرية الخالصة، وقد بناها الروائي بحذق الفنان وتأني المفكر وحرفية النقاش الماهر، والشاعر الملهم مؤسساً على الصور الشعرية، وليس على الحدث الدرامي المتنامي في السرد مبانيه التخيلية، ولا أدري كم من الوقت والجهد أستغرقت كل صفحة من النثر الجيد في هذه الرواية من مبدعها ؟
كما ان تأملات أبطال الراوية العميقة والصادقة تشي بأنهم كائنات حقيقية، أخذ عنهم الكاتب كل ما تفوهوا به أو فكروا به، وما صادفهم من حوادث ومصاعب وكوارث، وقدمهم للقارىء بمشاهد ساخنة، كأنما حدثت قبل وقت قصير لا قبل مائة سنة أو أكثر.
ذلك ما نشعره على توالي الصفحات وعلى أمتداد 400 صفحة من القطع الكبير عن عشق محمد العوّاد المستحيل لميّ التي أقترنت بأحد المتنفذين، وعلاقته الموازية بأنثى أخرى، والتي كانت مجرد علاقة حسية علاقته بفيّ التي حملت منه سفاحاً.
ورفض الأقتران بها مبرراً ذلك الرفض بقوله الساخر أنا فنان أحلم أن اصعد إلى النجوم لا لأعيش بين بول الصغار ص65 بالرغم من حب فيّ له، لكنها أضطرت للزواج من النواخذة الكهل سعيد المناعي درءاً للفضيحة ص71.
العربي الكادح
أن وراء رواية الينابيع هماً وطنياً عميقاً يتلخص بسؤال الهوية، والبحث عن حلول لمعايشة التحولات الكبرى التي تمر بالعالم، وتفرض شروطها الموضوعية على أهل البلاد، وحاكميهم لمواكبة التقدم، وبناء مجتمع العدل والرفاهية والمستقبل الأفضل للأجيال القادمة. والينابيع تذكر بواقعية مكسيم غوركي الأشتراكية في روايته الأم، وروايات تورجنيف، فهي تنسج نسيجها من الطبقات الكادحة في المجتمع البحريني، فتنقل لنا حياة الصيادين وأقنان الأرض وعمال النفط المياومين والمشردين وفناني الهامش.
وتحاول الرواية من خلال ذلك بناء النموذج العربي للكادح، الذي يراوح بين مفاهيمه البرجوازية المتوسطة، والقيم الطبقية، التي أستقاها في الكثير من عاداته وتصرفاته بشكل مغلوط عن الفكر الأشتراكي العالمي.
فنرى تذبذب محمد العوّاد الفكري حين يدخل قصر معذبه، وسارق حبيبته ميّ، فيرى القصر متلألئاً بالأنوار وحشود العباءات والثياب البيض والخيول، التي ملأت الساحات وبنادق العرضة حين راح أصحابها يطلقون النار على المساء الهابط بقوة فوق الشطآن المقبوضة الروح ص 174 فنسمعه يردد في منللوج ما ينم على ندمه على ماضيه، فهو حين تأتيه الفرصة لدخول بيت أحد المتنفذين يشعر بالمهانة ويتذكر كيف كان يُجر إلى القلعة ويوضع في زنزانة مع اللصوص والقتلة، وكيف كان يهان من قبل أي شرطي جلف، لأنه غنى كلمات عن الحرية، التي سرعان ما تخلى عنها أصحابها ص183
جمعة بن العبد
أن الحكي السردي في الرواية ينفتح على عوالم تخيليية متشعبة، ويحمل في مضامينه المختلفة دعوات للتعايش بين الثقافات والديانات، ونبذ التطرف، والأستغلال الطبقي، والجهل والتخلف.
إذ بالرغم من أن الدعوة للتحديث في المجتمع البحريني الناشيء بدرت من أجانب كالميجرالبريطاني بيلي، وسكرتيره جون سميث الذي أدعى أنه عالم آثار دنماركي جاء ليبحث في آثار ديلمون وتأريخها.. ص104.
الذي يعجب بأهل البلاد وتقاليدهم، ويعتبر أن حياتهم أفضل بكثير من حياة الغربيين فيقول عنهم انهم يتصرفون ببساطة مذهلة، يجلسون على الأرض وتندفع أيديهم في الأرز يكورونه ويقذفونه في أفواههم، ويحكون القصص والأشعار طوال الليل عند الشطآن، وفي الساحات الرملية.
وتسمع أصوات مضاجعاتهم من وراء السعف الرقيق، وكل إنسان يسلم على الآخر الغريب ويصادقه في دقائق، ويدعوه إلى أكله، فيقبل الآخر دون خجل ص186 وعادات زوجته مارجريت، المدمنة على قراءة مسرحيات شكسبير ومارلو وقصص ديكنز وبلزاك وتولستوي والمهتمة بأساطير الشرق ص 185 إلا ان سرعان ما يتلقف بعض أبناء البحرين هذه الدعوة ويدعون إليها.
ومن هؤلاء جمعة بن العبد الذي يفخر بالحرية في بلاد الميجر الأجنبية ص38 والذي يتلقف دعوة المستر بيلي للتحرر من ديون المرابين والتجار الذين كانوا يستعبدون الناس بديونهم التي لا تنتهي بسبب الربا، وعدم أيفاء رحلات صيد اللؤلؤ بسداد الديون المتراكمة على الصيادين والفقراء العاملين في صيد اللؤلؤ.
يقول مستر بيلي للناس ستحصلون على كل شيء. لن تكونوا عبيداً بعد الآن. ألقوا بهذه الأوراق الحقيرة التي سجلوا فيها الزوّر والديون والقيود ص31.
البحرين قارة كبيرة
ولا يكتفي الروائي بأيراد مبادرة هذا الأنجليزي بل يسرد ممارساته الحداثية داخل مجتمع البحرين البدائي قبل اكثر من قرن، فهو يمارس فعلاً حداثياً لم يسبقه إليه أحد في البلاد حين يدخل للبلاد السيارة إلى البحرين لأول مرة، فتحدث ردة فعل عنيفة عند أغلب الناس، الذي أعتادوا على الجمل والفرس والعربة، التي تجرها الخيول، والحمير في تنقلاتهم. فيقول الروائي واصفاً تلك الدهشة وعدم تصديق الناس لما يرونه حين يدخل الميجر بيلي السيارة أول مرة إلى البلاد فيندهش الناس لرؤيا هذا الكائن المعدني الذي يسير من دون حيوانات تجره، كأنما الجان تحركه من دون أن يراها أحد ص67 ، ويسرد مسيرة مستر بيلي، الغرائبية في مجتمع أمي بدأ ينهض ببطء من كبوة التخلف والفقر وحتى نهايته المفجعة عندما اصيب بطلق ناري من مجهول فيما بعد. رواية الينابيع لـعبـــــــدالله خلــــــــيفة عمل روائي كبير رسم مسارات إنسانية لعشرات الأبطال من الناس العاديين من البحرين عاشوا حياتهم في قاع المجتمع، وآخرين في اعلى قمة المجتمع، والرواية تؤثر كثيراً في القارئ، الذي لم يعرف عن البحرين من قبل كثيراً وتجعله يفكر، ويعيد التفكير في الكثير من مسلماته السابقة عن بلاد صغيرة جغرافياً، بنفوسها القليلة نسبة للبلدان الأخرى، لكنه سيجدها في رواية الينابيع بلاداً كبيرة جداً وأكبر بكثير من قارة بأهلها وتاريخها، وحب كاتب الرواية لها.
صدرت الرواية عن دار الأنتشار العربي» بيروت ط1 عام 2012 عدد الصفحات من القطع الكبير 400 صفحة.
فيصل عبدالحسن
[image error]
Published on September 10, 2019 11:50


