عبـــــــدالله خلــــــــيفة's Blog: https://isaalbuflasablog.wordpress.com , page 99

September 28, 2019

قناةُ الجزيرةِ وتزييفُ الوعي العربي ⇦4

تزدادُ العروض الأمريكية في منطقة العالم العربي الإسلامي المتداخلة، وهو ما يؤسسُ مواسمَ طافحةً بالنشاط الدموي أو بالإعلام الجزيري المخضب كذلك من هذه النافورات المتدفقة بالجثثِ والمدنِ المحترقة والسياراتِ المفخخة ونشر رياح الأشلاء ومن ثم الشعوب المهاجرة ومن ثم أخيراً الشعوب الثائرة!
البطل الصحراوي المطرود للكهوف يخلي المكان للبطل المدني الذي لم يتأثر بالمدنية وظل مجرماً.
صدام حسين والجزيرة الفضائية لحظة أخرى من غياب الدرس والبحث والتنوير وتسييد اللوثة القومية هذه المرة بدلاً من اللوثة الدينية، وفي اللوثتين منحى الجزيرة التسطيحي الغائر، حيث لم يقدر ضيفاهما المستمران من تحليل الإسلام أو تحليل القومية العربية وإنتاج مادة معرفية تنويرية إنسانية، فتكون مادةُ العرضِ هي ذاتها خاوية رغم الإبهار، ولكنها تجسد كذلك الإفلاس الفكري المتواري.
صدام وأمريكا، ثنائي معروض بإطلاق، مثل ثنائيات الوعي الديني القومي الشمولي، فهنا الحق وهناك الباطل، هنا النور وهناك الظلام، هنا العرب والإسلام والأخيار وهناك أمريكا والغرب والأشرار!
ورغم سحق صدام للعراق وشعبه، فهو يظل بطلاً في هذا الوعي الشمولي المسطح، ومن هنا فإن البطولات العربية الإسلامية غالباً ما تُؤخذ منتقاة من ظروفها الحقيقية وتداخلات التقدم والتخلف، ويُلغى الشريط الذي يحدد منابت رموز الدين الطبقية كقوى إستغلالية تطورية في فترة ما، ثم تتحول إلى أيقونات مقدسة تغدو أدوات للقوى الاستغلالية المتخلفة المفككة الممزقة لبلدان المسلمين والمواطنين عموماً، لكن الوعي الطائفي يُؤخذ كرأس الحربة في هذه العمليات.
إن صدام يُلحق بهذه الرمزية الدينية، فهو سوف يبني دولة عربية نهضوية كبرى ويحقق الانجازات كما فعل الأسلاف العظام! وتُستغل هنا كلمات الفتوح والعروبة والإسلام بتشنج عاطفي من أجل بلع شفرات الحلاقة المسمومة التي سوف تُدس في حناجر الناس.
في وعي محمد حسنين هيكل الشمولي يغدو الزعيمُ بؤرةً مركزيةً تقوم بلعب دور التحويل ولهذا فإن صدام العراق في تلك اللحظة المأساوية الكارثية في مسلسل الحقيقة يغدو قائد التصدي لأمريكا قائدة سحق العرب وتقزيم تطورهم القومي التوحدي، ولهذا فهو رغم مذابحه رجل المرحلة الذي لا يوجد رجل آخر مكانه يقوم بهذه المهام الجسام!
هنا تظهر وتتوالى العروضُ الفنيةُ المؤدلجةُ المتممة لهذا الهراء الفكري، فالزعيم يسبحُ في النهر بطلاً وينشرُ جيوشه ويطلق الصواريخ ويجتمع بالساسة وعلماء الدين والأدباء والمثقفين وكلهم يثني على دوره الخلاق التاريخي!
اللحظتان المؤدلجتان الفارغتان من أي وعي عربي إنساني ديمقراطي، وهما لحظة تأييد الدكتاتور، ولحظة التخلي عنه، تظهران تجاه القاعدة وبن لادن، وتجاه صدام حسين معاً.
الوجهان يعبران عن عدم الحفر الموضوعي في المادة السياسية، ففي اللحظة الأولى يتم التهويل للرمز الفردي، وربطه بمقدسات وعظمة الأمة التي هي بلا مراحل ولا طبقات، مجردة معممة متجوهرة حسب إيديولوجية الفئة الطائفية اليمينية صاحبة الرأسمال العولمي الطفيلي أي غير الصناعي والمنتج، فهنا الزعيم الطائفي الذي قاد بعض جماعاتها للكهوف والتخلف والهجمات الأجرامية الاستفزازية، أو الزعيم (القومي) الذي ذبح شعبه وتلاعب بتاريخه وسلمه جثة محروقة للغرب، يغدو رمزاً للأمة وإرادتها، وهي عملية نفخ سياسية دعائية لتحريك الجماعات المؤمنة بهذا الخط وغرزه في الجمهور وإستغلال عواطفه وربطه بهذه الجماعات لعملياتٍ سياسية راهنة وقادمة.
تصير العمليات التي تخرج من فضائية الجزيرة والعمليات التي تخرج من القاعدة الأمريكية الكبرى قرب الجزيرة في قطر نفسها، شكلين لفعلٍ واحد هو تزييف وعي الشعوب العربية والسيطرة عليها وتفتيتها طائفياً.
الغزو للعراق الذي تم بأدوات وعي إمبريالية أمريكية والذي كرسه النظام الدكتاتوري السابق المحبوب للجزيرة في اللحظة الأولى المدحية، تم هذا الغزو لتفكيك العراق وتصعيد القوى المحافظة الطائفية، ولم يشتغل على تكوين برجوازية نهضوية وطنية قائدة في أقل الخيارات المعقولة، وهذا الاشتغال الأمريكي حرباً تلاقى مع اشتغال الجزيرة دعاية وتضليلاً للعراقيين وبقية العرب.
مثلما لعب ذات الفعل على شخصية بن لادن وأفغانستان تضليلاً ثم تفكيكاً للمجتمع الإفغاني وتحطيم بنيته عبر خلق الصدامات بين القومية المذهبية البشتون وبقية القوميات، بين طالبان والحكومة (المركزية).
ومن هنا فإن الإيديولوجية السائدة تحريضاً في الجزيرة وهي الإدعاءات الثورية، هي مجرد لحظة أولى، تُعمم وترمز وتُجرد بدون تحليلات ملموسة معمقة للبُنى الاجتماعية المرصودة، وبدون إحداث مناقشات ديمقراطية حولها من أجل رؤية الطرق بتحولها الديمقراطي، وبتجميع كافة القوى الاجتماعية والتيارات على حلول توحيدية تطويرية.
وكان السودان نموذجاً آخر لهذا التصعيد الثوري الديني الزائف ثم تم عبره هدم السودان التدريجي عبر الانفصالات والحروب الأهلية.
ولهذا فإن لغة الطبول والاستعراض والمصادمات والتعريض والإدعاءات تستهدف تفجير العواطف وخلق حالات من الإثارة وعدم إعمال العقول وعدم تقارب القوى السياسية العربية الديمقراطية والتقدمية والدينية، ومن أجل نشر التنوير والديمقراطية الوطنية وبقاء الاستقلال.
وكذلك فإن صرف الأموال الهائلة على هذه العمليات الدعائية والسياسية يستهدف تصعيد هذه القوى الطائفية والرأسماليات الطفيلية وقوى الإقطاع الديني، وتوسيع نفوذ المؤسسات المالية القطرية والغربية وهدم القطاعات العامة المنتجة.
http://www.ahewar.org/debat/show.art....
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 28, 2019 11:49

قناةُ الجزيرةِ وتزييفُ الوعي العربي ⇦3

نظراً للخطِ السطحي المذهبي السياسي اليميني الذي نشأتْ به فضائيةُ الجزيرة فإن الموادَ الطافحةَ المثيرة التي ظهرتْ في السنوات الأولى لعمرِها كانت القاعدة وبن لادن وصدام حسين وغزو العراق وغيرها من المواد التي هي بذاتها عروض.
زمنية بن لادن تحدد المنحى الأولي للجزيرة وطاقمها ومستواهم الإعلامي وقدرتهم الفكرية.
إن زمنيةَ صعود بن لادن تتماشى مع الوهابية العريقة في السعودية وقطر، فهي الشكل الجامد الإقطاعي البدوي للاختلاف مع البشر ومع المسلمين أو ضدهم.
هي المعاندة الطفولية للاستعمار، الناتجة من تغلغل الحنبلية في الجزيرة العربية وزيادة جمودها وتصحرها، وتحولها لعصابات ذبح وسرقة وإعتقال للمسلمين في أزمنةٍ سابقة، ثم تدفقت الثروةُ على بعضِ أصحابِها فحولوا الثروة لثورة إرهاب أو عروض إعلامية مبهرة زائفة تشترك في ذبح البشر أو السكوت على إيديولوجية الذبح!
إلتقاء الشكلين من العروض السياسية والإعلامية والإرهابية هو نتاجٌ لذاتِ المذهبية الشكلانية إسلامياً، التي تتحولُ في يد شيوخِ سلطةٍ وشيوخِ دينٍ إلى دكتاتورية سياسية سلمية أو عنيفة، كلٌ في موقعه!
الجانبان هنا يأخذان المذهبَ المحافظ وقد تحول إلى هيمنة طبقية إستغلالية غير ديمقراطية وينتقيان ما شاء لهما الهوى السياسي، أحدهم يحولهُ إلى هجوم بالطائرات على البرجين والثاني يعرض ويبهرُ بهذا الأجرام وينشرهُ في كل مكان!
لم يقم الطاقمُ الإعلامي بدرسٍ مسبقٍ طويل للظاهرات الاجتماعية والسياسية في الإسلام المعاصر، خاصة تاريخ الحنبلية وعلاقاتها بالوهابية، وكيف جاءت وكيف حدث التجميد لتطور الإسلام في العصر الوسيط ولتطور القبائل في الجزيرة العربية وأين ذهبت مداخيل النفط عن تغيير الحياة التقليدية العنفية لهؤلاء!
ولهذا يعمم هذه الصورة الإرهابية الدموية للإسلام كصورة بطولية!
إن الوعي الأخواني المشكل بتسطحٍ لرؤيةِ الإسلام بعينٍ يمينية إستغلالية إنتهازية كليلة النظر سوف يفصل بين ظاهرة بن لادن والواقع المحافظ للجزيرة العربية وأنظمتها الاقطاعية المسيطرة على الثروة النفطية وبين المغامرات الإرهابية لبن لادن.
وسيكون لقاء بن لادن المقاول الاقتصادي النفطي والظواهري المتعلم المصري غير مدروس كلقاء فئات إستغلالية ثرية في الجزيرة العربية للمثقفين والمتعلمين الدينيين والسياسيين العرب وإستخدامهم للأدلجة العصابية المذهبية والقومية، في مرحلةِ التأسيس للخطاب الأخواني بشكله الدموي حينذاك وللخطاب القومي المتجمد بشكله المستمر.
إن المقدم المنبهر بعروضه والقادم من الأخوانية الفلسطينية أو المصرية هو نفسه يدخلُ حمامَ الدم كجزء من نضال قوي، نافخاً في شخصية بن لادن محولاً إياه لبطل خارق، ورمز إسلامي، ويستحيل عليه تقديم قراءات عقلانية لمثل هذه الظواهر، ويتابع كمؤلفِ أرسين لوبين الأحداثَ البوليسية السياسية مفصولة عن المذابح وحمامات الدم التي تجري للبشر، ومن هنا تغدو هروبية بن لادن وإختفائه في إفغانستان واللجؤ إلى الكهوف لا تثير فيه أي شيء من تاريخ الفرق الدينية الإرهابية كالخوارج التي نبذت المدنيةَ والسلم والديمقراطية والحضارة، فلا يستطيع أن يفهم هذا كتحللٍ لجماعات دينية خرجت من الحياة المدنية الحديثة، ومن الطبيعة البشرية، لعالم الحيوان، بل يعرض ذلك كبطولاتٍ ويتابعها في جبال قندهار ورسائل بن لادن المفخخة للبشرية، مشدوهاً مذهولاً(لعظمة هذه البطولات)!
إن الأخواني وقد أُلتقط من حارات مصر الفقيرة أو من غزة يتم ذلك بمستويات عدة لابناء الفئات الوسطى المتجمدة فكرياً وسياسياً، فيتم إغراقه في غاز قطر، وسواء كان ذلك على مستوى شيخ هام كالقرضاوي أو على مستوى كاتب كبير كهيكل أو كمذيع مثل أحمد منصور، أو مثل الظواهري الذي يُحال على الخدمة الحربية في إفغانستان، هم أفراد من فئات وسطى تاهت عن طبقتها البرجوازية، التي لم تستطع أن تقوم بمهمتها النضالية الديمقراطية في بلدها وتؤسس الحداثة، تحليلاً للإسلام بتوجيهه نحو الديمقراطية، أو بتعرية القومية كدكتاتورية، أو كنقدٍ ضد ذروة التدهور عبر الظواهري الذي يصير إرهابياً وخارجاً كلياً من المدنية.
إن الجزيرةَ تغرقُهم بالغازِ الإعلامي المالي، لإنتاجٍ خطابات متطرفة حماسية تجذبُ وتخدعُ الجمهور، ويخطفُ الأضواءَ بطلُ المرحلة بن لادن، الممثل لعجز تلك الفئات عن النضال الديمقراطي الحاسم في بلدانهم، فيتحول على العكس إلى ضرباتٍ كارثية في بلدان العرب والمسلمين، وسلخ لشعوبهم وسرقات لثرواتهم البترولية!
ولكن مقدم (الشو) منبهرٌ ويحولُ هذه الكوارثَ إلى عروضٍ جديدة!
إن المضمون المفقود هو جزءٌ من وعي المسئولين القطريين العاجز عن فهم الديمقراطية وعن تصعيد فئات وسطى متحضرة في بلدهم، فلا يستطيع أن يعرض بالنقد الإعلامي وبالشرح الفكري هذه الظواهر المتداخلة وأسبابها العميقة، ولهذا يظهر بن لادن في الجزيرة كبطلٍ عالمي وليس كظاهرةٍ تدميرية!
http://www.ahewar.org/debat/show.art....
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 28, 2019 11:48

قناةُ الجزيرةِ وتزييفُ الوعي العربي ⇦2

قامت الأسرةُ الحاكمةُ في قطر بإنقلابها على الأبِ المؤسس بإلغاء أبسط العادات الإسلامية حيث ينصُ القرآنُ على توقير الأب والأم وعدم قول الأف لهما، وهذا يعني إعتماد الإصلاح المتدرج وتطوير الحياةِ الأسرية والأوطان بشكلٍ عقلاني.
فبعد طعن الأسرة يحلُ كلُ شيء، وتُستباح المحرمات، وتتحللُ الجماعةُ المغامرةُ من الأخلاق، وتبيحُ أي شيء من مغامرات سياسية ومن تلاعب بالأموال العامة وتُدخلُ دولَ الخليج في علاقاتٍ خطرة مع أنظمةٍ وجماعات شمولية إرهابية، وتصيرُ مصلحةُ هذه الجماعة فوق أي عرف وأخلاق وأسس عقلانية وديمقراطية!
وحين تعلمنا المحطةُ بأخلاقِ الإسلام كل يوم يجب أن تعلمَ نفسَها أولاً وتعلمَ الأسرةَ الحاكمة فيها التي إستباحتْ كلَ شيء! أما الساكتون من (علماء الإسلام) على ذلك فهؤلاء من نفس العينة فهم خدم السلاطين المراهقين هذه المرة.
إذن تأسست قناةُ الجزيرة على أسسٍ إيديولوجية إنتهازية مائعة مع غياب نظرة ديمقراطية نابعة من القوى المحلية الوطنية، مثل طبيعة السلطة التي تكونت في قطر حيث الفردية، غير المتجذرة في نمو حضاري ديمقراطي نابع من فئات عليا وسطى تنامت في المجتمع وفرضت مقاييسها التحديثية.
أي أن ظهورها كنخبة فردية متحللة من قوى تقليدية مؤثرة أو شعبية أتاح لها أن تتحرك وسط خيارات دينية محافظة وقومية مضمرة بشكل إنتهازي مغامر قوي، فغدا صعودها بأي طريقة متحللة من الأخلاق والمبادئ ومدعية بها كذلك!
هي ثوريةٌ كاذبةٌ لكن تحاول لصق نفسها بالثورية دون أن تنجح في ذلك للأسباب الموضوعية المذكورة سابقاً، نظراً للمنحى الديني المحافظ القائم على سلطة قبلية سيطرت على موارد دولة غنية بالنفط والغاز، وتحكمت في كيفية توزيع هذه الثروة، دون أن تدخل نفسها في تحويل بلدان الخليج العربية بشكل تنموي نهضوي وديمقراطي مشترك.
من هنا تتشكل سياسة العروض والرغبة في الإبهار ومتابعة الأحداث الساخنة دون موقف نضالي حقيقي، مثل إستخدام الأسماء الكبيرة في الفقه والصحافة القومية، فالنجومية ضرورية وهي تعني القدرة البترولية الغازية على شراءِ الذممِ والأسماء وأدلجتها لصالحِ سياسة العروض.
إن الارتكاز على شخصيتين مثل الشيخ يوسف القرضاوي والأستاذ محمد حسنين هيكل، هو شكلٌ لتلك العروضية المؤدلجة الإبهارية دون مضمون كفاحي حقيقي.
فهو إستخدام لشخصياتٍ توقفتْ عن الحفر الديمقراطي الحديث سواءً في الإسلام أو في القومية العربية، فالشيخ القرضاوي يقدمُ آراءً فقيهةً جزئيةً مطلية ببعض الحداثة، لا تجعله مجدداً وذا حَفرٍ عميق في الفقه والتراث الإسلاميين، فهو يكرسُ المذهبيةَ السنية المحافظة، مرتداً حتى عن مؤسسي التنوير الإسلامي كالأفغاني ومحمد عبده، وليست له علاقة بالتجديدات الجارية بقوة في عمليات التجديد في الوعي الإسلامي، يشتغل مثل المحطة لتصعيد قوى الأخوان والشركات المالية الدينية للهيمنة على العالم العربي.
لقد تخثرَ فقيهاً ونظرياً، وهو ما يؤسسهُ عيشهُ في بلدٍ محافظ كقطر، مؤسس لوعي أخواني تقليدي يتحرك للسيطرة على العالم العربي، فلم يعارك حتى التحولات الفكرية والاجتماعية في مصر منبع هذا الشكل الوسطى المتذبذب من الوعي المذهبي المرتبط بفقهِ الإقطاع، وليس بفقهِ الثورةِ الإسلامية المؤسِّسة.
وهذا بسبب العمل مع دولة إقطاعية المضمون مشكلةً لرأسماليةِ دولةٍ شمولية مستغلةٍ لثروة ضخمة بشكل إستبدادي وربطت نفسها بسياسة المغامرات للدول الشمولية والجماعات الأرهابية .
فهنا تتحول التجديدات الثانوية الفقهية للشيخ إلى عرقلة لتطور المسلمين المحتاجين لثورة فكرية ديمقراطية تنأى بالاستخدام المذهبي الذكوري المتسلط للدين، وتخلق مقاربة بينهم وبين الرأسمالية الديمقراطية العالمية في أقل إحتمالاتها الممكنة في المنطقة الخليجية العربية وتعمل على توجيه الثروة والثورة للتغيير العربي الإسلامي التوحيدي. وهذا ما فعله بدعوة الناخبين في مصر(يوم 21 نوفمبر 2011) بعدم إنتخاب من يشرب الخمرة لأنه فاسق حسب رأيه وهو حكمٌ خطيرٌ يتناقضُ مع قوله بضرورة إنتخاب الأكفأ، وهل يؤدي شرب البيرة إلى تعطيل العقل والفساد السياسي كما تفعل أنت في عاصمة المغامرة؟ ألا يعطل عقلك الديني ما تأخذهُ من أسرةٍ حاكمةٍ لها هذا التاريخ غير المشرف المغامر الخطير على نضال المسلمين ووحدتهم؟!
هذا نموذجٌ لرفعِ الحكم الفقهي الشكلي إلى مصافِ القانون المقدس، وترك التوجيه المقدس في القرآن عن العائلة!
إن تغييبَ الشيخ للمنحى الثوري التأسيسي في الإسلام هو مواكبةٌ إيديولوجيةٌ للإقطاع الحاكم في قطر، مثله مثل تغييب هيكل لمنحى التجديدات الديمقراطية في القومية، فهو قد قام بتحويل عمل المناضل الرئيس جمال عبدالناصر إلى أسطورة أخرى مثلما عمل القرضاوي بتحويلِ الثورة المحمدية إلى أسطورةٍ وهي حراكٌ تاريخي محددٌ له جوانبه الايجابية والسلبية، بدلاً من أن يقوما بدرسِ أسبابِ الثورتين الاجتماعية وصراع الطبقات فيهما، بتجمدِ الديمقراطية في الثورة الأولى وتحولها إلى إقطاع سياسي، وعجز الناصرية عن التحولِ إلى الديمقراطية نظراً لهيمنة رأسمالية الدولة الشمولية مثل الحالة في قطر التي تخلقُ ثورةً زائفةً باسم الثورة الحقيقية التي ترفض الولوج في أولياتها وتترك مراقبة الثروة للشعب عبر برلمانٍ منتخبٍ بل تقوم بتوزع الثروة على الإعلاميين المُضِّللين وفئات النفاق والاستغلال المختلفة.
إن خطابات الضيفين الدائمين على الجزيرة الفضائية السَابقي الذكر نموذجين لتجميد الأفكار الثرة للإسلام والقومية وتحنيطها في أشكالٍ متيبسة، لا تقتحمُ الواقعَ، أو الأوضاع العربية المتفجرة، فتضيئها، وترشد خطواتها وتخلق عقلانية في نضالها، بل تقدم فقهاً ووعياً لما يشتيه السلطانُ الشمولي العابثُ بالأموال العامة ومصير العرب والمسلمين!
ومن هنا فتاريخ القرضاوي الأخواني المضاد للناصرية، وتاريخ هيكل المضاد للأخوان، يمكن أن يتلقيا في برامج منفصلة، وكل منهما يبثُ خطابَه بدون إغتناء مشترك، وبدون تجاوز لخطابات شمولية غدت متحجرةً متصحرةً، في عالمٍ يغلي بالتحولات، لأنهما تيبسا عن المضامين الحية للواقع المضاد للعالم الإقطاعي المحافظ المؤسَّس في الإسلام والمؤسَّس في القومية العسكرية الشمولية معاً!
نحن نأخذُ الشيخَ والأستاذَ في التلفزةِ المؤدلجةِ الجزيرية، كجزءٍ من عروضٍ واسعة، يُقصد بها جذب المشاهد والتعكز على الأسماء ثم تسريب مضامين سياسية عبر موادٍ أخرى مضللةٍ هادفةٍ لترسيخ وعي معين، ونشر سياسات خطيرة مضادة لتطور الأمة العربية والمسلمين، علينا متابعة ظهوره وتشكله.
http://www.ahewar.org/debat/show.art....
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 28, 2019 11:48

قناةُ الجزيرةِ وتزييفُ الوعي العربي ⇦1

دولةُ قطر لم يكن فيها شيء هام في تاريخها سوى هجرة قبائل وهابية إليها قبل عقود طويلة من إكتشاف النفط، فقامت الأسرةُ الحاكمةُ بتجميد حياة الأهالي ومنعهم من شتى أنواع الحريات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فغدت قطر حتى الخمسينيات من أكثر دول الخليج تخلفاً.
تدفق النفطُ وإرتفع مستوى المعيشة ولكن أميرُ قطر السابق إستمر في الهيمنةِ المحافظة على البلد ولم تقدم القبائل أية إمكانية للتطور الاجتماعي الداخلي، بعد تلك العقود الطويلة من غياب المدن والفئات الوسطى والثقافة بأبسط أشكالها.
ووجود البحرين الأصغر منها قربها كان يشكلُ حالةً غريبة من التباين الواسع، فالبحرين ازدهرت إقتصادياً وإجتماعياً وسياسياً وثقافياً مما شكلَّ غيرةً عميقة لدى الجارة وكذلك لعبتْ النزاعاتُ القديمة دوراً في تأجيج تلك الغيرة، ومما يُروى بأنه بعد تدفق النفط وخاصة الغاز المفجر للثروة والطموحات القطرية حاولت الإدارة القطرية تحريك الجو الثقافي الميت فبحثت عن كُتاب فلم تجد سوى واحد لكن أتضح إنه بحريني يعيش في قطر!
تدفق الثروة مع سكان قليلين محافظين لم تُترك لهم فرص في الانفتاح والتطور، وكانت الحياة التقليدية السابقة قد فرضتْ أجواءَ المحافظة الشديدة فلم يُقبل التغيير ولم توجد قوى إحتجاج أو تساؤل من فئات وسطى أو مثقفين أو متمردين!
ولهذا فإن الانقلاب على الأمير الأب وعزله ونفيه كان بمثابة مغامرة سياسية كبيرة، وكان بمثابة صدمة موجعة للتقاليد القبلية والحالة السياسية الأبوية في دول مجلس التعاون الخليجي!
هذا الزلزال الأسري لم يعبرْ عن ثورةٍ إجتماعية، ولم يكن على طريقة السلطان قابوس في التغيير التدريجي، فكان بمثابة مغامرة فردية لم تملك أية أسس حضارية وتقاليد تغيير وديمقراطية، فكانت لعبة وإستعراضاً فردياً ورغبة جامحة في الظهور ولو على حساب الأب شبه المفجوع المُطارد!
فحتى تشكيل أنساق ديمقراطية جنينية أسرية تبررُ هذا التغيير لم تحدث، وحتى الصبر على النمو الحضاري الحذر لم تحدث وجرى أول إنقلاب في الخليج من قبل الابن على الأب!
المغامرةُ التي حدثتْ وتغيرتْ فيها السلطةُ القطرية لم تأت بتحولٍ نوعي في الدولة التي تفتقدُ إلى الإمكانيات الفكرية والثقافية المهمة إلا من بعض الإبداعات الشخصية لنفر حفر بنفسه في الصخور والرمال غير الغازية بدون مساعدة من أحد!
إن الإمكانيات المادية الهائلة التي نتجت من إنتاج الغاز الذي تفجر بوفرة جعلت من الطاقم السياسي الحاكم يبحث عن طريقة للبروز في عالم الشهرة السياسية الساطعة في المنطقة!
وقد كان إنقلابه وعدم تجذره القبلي المتعقل يجعله فريسة للمغامرات وحب العروض والشهرة والسطوع في المنطقة خاصة إنه أمتلك الثروة النفطية الغازية، لكن كيف يحققُ حلمه وحالةَ الاستعراض الكبرى العربية وربما حتى الكونية وهو في صحراء مجدبة من المواهب؟ ولم يكن هناك سوى التزمت الديني السني المتشدد، ولم يوجد سوى تدخين الحشيش والمخدرات تسلية للشباب، حتى غدت حتى الدوائر الحكومية مخدرة!
وكانت جماعة الأخوان المسلمين هي الوحيدة المسموح لها بالتنفس في ذلك الجو الاجتماعي الخانق التي تزيدُ السيطرةَ عليه وتبررُ بلادته ومحرماته الكثيرة.
القبائل الوهابية من جهة والإنقلابيون الحكام المبهورون بذواتهم المتضخمة المنفوخة بغازات نفطية ملأت بشوتهم التي كانت قبل فترة وجيزة مليئة بأتربة الصحراء، إلى درجة البالونات والمناطيد الهائلة التي إرتفعت فوق شبه الجزيرة القطرية ثم فوق المنطقة!
جسمان متعارضان كل منهما لا يتماشى مع الآخر فظلا يعيشان كل منهما في عالم!
فكان لا بد من إستمرار تخدير القبائل بالمنح المالية والبيوت الواسعة والسيارات التي كلها زادتها جدباً في الإنتاج الثقافي!
لكن لا بد من الظهور للإدارة ذات العروض، فلم تقبل تتحول من مثل بعض الدول الخليج التي ركزت على التطوير الثقافي أو التركيز على السياسة والثقافة وتقدم الشعب التدريجي،
فغدت الحالة القطرية حالة فصام بين إدارة تعيش في فضاء، وشعب يعيش في فضاء آخر.
عنصرا الـــ(show) والأخوان المسلمين كيف يلتحمان مع بعض؟
كيف تلتحم لحيةٌ كثةٌ ونصوصيةٌ تقليدية محنطةٌ في عروض تلفزيونية حديثة ومع نسوة متبرجات مغريات لزوم الأغراء في العروض المشوقة؟!
كان عنصر التركيب؛ عنصر لحم هذين المركبين المختلفين، هو في عنصرٍ ثالث هو عنصر الإمبريالية الثقافية البريطانية ذات التاريخ الطويل في العروض الإذاعية والتلفزيونية، (الموضوعية شكلاً المؤدلجة مضموناً) والتي لديها خبرة في كيفية صياغة الخداع والأكاذيب وأنصاف الحقائق، وإعداد المواد حسب سياسة المسيطر السياسي.
إذن كل شيء سوف يخضع لعنصر العرض المبهر المشوق وإستغلال المادة الخبرية حسب المنظور الإيديولوجي للمرحلة المحافظة الأخوانية وجذب الناس إليها عبر تطعيم بعض الحقائق بذلك العرض المؤدلج الخاص، الذي يبث الوعي المحافظ الديني اليميني ويحقق العلو لإدارة البلد ويدخلها في السياسة المناطقية والعربية والعالمية، بدون أن تحتاج لشعب متطور ومثقفين كبار، فالمذيعون والفنيون كثيرون يمكن جلبهم عبر نفس الشبكات الأخوانية والإعلامية الجاسوسية البريطانية والعربية.
http://www.ahewar.org/debat/show.art....
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 28, 2019 11:46

September 26, 2019

العلوم والإنتاج والفلسفة

لم يعرف العرب وهم في جزيرتهم شيئاً مهماً من العلوم الطبيعية والرياضية ، وقد حثهم الإسلام على دراسة ظواهر الطبيعة من كائنات وحيوانات ونبات ، وكذلك من ضرورة النظر داخل الإنسان وأجزائه وظواهره .
وقد بدأت الصلة بالعلوم عبر الترجمة النادرة في زمن الأمويين ، واتسعت في القرون التالية ، عبر العلاقة بالثقافة اليونانية ، وكذلك الثقافة الهندية ، اللتين غدتا المصدرين القريبين من الحضارة العربية، جغرافياً وتاريخاً .
وتتعلق إمكانيات التطور العلمي ليس فقط بالاحتكاك ولكن بالقدرة على الدراسة الموضوعية في ظاهرات الطبيعة ، أي أن يستطيع العقل تحليل الأشياء بدون عقبات أيديولوجية وسياسية .
ولكن القوى المهيمنة وقد اتخذت السقف الفكري الديني الذي ركبته على مستوى النظام السياسي ، معياراً لمدى توغل الوعي في قراءة الطبيعة ، حدت من تطور العلوم باعتبارها مضادة للدين ككل .
إن السقف السياسي - الفكري للنظام الاجتماعي ، يتحدد بهيمنة المركز على الملكيات الزراعية الواسعة ، وتأتي الحرف والتجارة ، تبعاً وكنتائج لهذه السيطرة على الزراعة وقوى إنتاجها ، ونظراً لأن الزراعة تقوم على ركود طويل لقوى الإنتاج ، وتبعية شبه مطلقة لقوى الطبيعة ، فكان هذا عائقاً أساسياً ومستمراً لتطور العلوم وبالتالي لتطور المجتمع والفلسفة .
ولهذا فإن تطورات العلوم تغدو متقطعة ، لارتكازها أولاً على حاجات الأرستقراطية الحاكمة من أبنية ومعالجة وصناعات ضرورية ومكملة لهذا البذخ .
إن السقف السياسي لتطور العلوم يغدو واضحاً بارتباطها اللامباشر بقوى الإنتاج ، فهي تغدو تابعة للعالم الزراعي / الحرفي المهيمن المتواري ، الذي يعيق تقدمها المتواصل .
لكن السقف السياسي للنظام يتواشج ويتداخل مع سقفه الديني ، فقد تركز الوعي الديني التابع للحكام هنا على الحفاظ على ذلك السقف الإنتاجي الراكد ، ولهذا فإن هيمنة هذا النظام السياسي الديني ، كانت تعني الحفاظ على مستوى من الفهم النصوصي المحدود والضيق للقرآن والسنة ، أي الحفاظ على مستوى تطور متدنٍ للعلوم ، خوفاً من اختراقه لسيطرتها على الحياة السياسية والاجتماعية .
ولهذا كان الفهم المتزايد تطوراً للقرآن والسنة ، يتعاضد والفهم المتزايد للفلسفة والعلوم . وكان الاثنان يشقان طريقاً لزحزحة تلك السيطرة السياسية الاقتصادية على قوى الإنتاج الزراعية .
وهي سيطرة واسعة من حيث الجغرافيا ، حيث الحدود الإمبراطورية ، لكنها سيطرة ضيقة من حيث القوة الطبقية ، فهي أرستقراطيات بغداد على وجه الخصوص ، ولهذا كانت الحركة التاريخية التالية هي حل هذا التناقض .
إن الحقبة الأولى من النهضة العربية الإسلامية المواكبة لزمن الدولة العباسية الأولى : 132 / 332 ، يتمثل في تصادم نزعتا التجديد والمحافظة بقوة شديدة .
إن القوى المحافظة تقوم بجعل ثقافة العرب البدوية وكأنها مطابقة لمستوى الإسلام وإمكانياته المعرفية . ولهذا تقوم بنقل ثقافة العرب اللغوية والأدبية والدينية بشكل حرفي من أجل عدم تطويرها من قبل الأمم المتحضرة المحكومة من قبل العرب . ويمكن أن نرى مدرسة الكوفة النحوية والحفاظ على عمود الشعر والارتباط الصارم بتقاليد العرب والنصوصية الفقهية الشديدة والتمسك بالأساطير والخرافات كتنويعات على هذه المحافظة ، التي ووجهت بعمليات تجديد وتفسير عقلي متنوع وكفاحات جماهيرية .
إن تطور الدولة العباسية هو ذاته قد فرض تقدم العلوم المختلفة في القرن الثاني الهجري ، ولكن ذلك يرتبط بمستوى الإمكانيات الموضوعية للتطور التي يحددها أسلوب الإنتاج .
وكان تشكل إمبراطورية واسعة بعاصمة هائلة هي بغداد ، قد أدى إلى تضخم عوائل الأشراف التي كثرت حاجاتها لبناء القصور وأدوات المتع والشفاء ، كما أدى إلى اتساع الفئات الوسطى التجارية والحرفية والإدارية والفقهية ، التي كانت لها هي الأخرى مستويات معيشة جيدة . وكل هذه التطورات المادية كانت بحاجة ماسة إلى تطور علوم الطب والصيدلة والرياضيات والهندسة والفيزياء والكيمياء.
وإذا كان للدولة مصلحة في إزالة الإيديولوجيات الوثنية والتعددية التجسيمية ، فإن هذا أوجد فضاءً فكرياً مساعداً كذلك على نمو العلوم الرياضية والطبيعية ، في حدودها الدنيا أولاً .
فلم تنبثق العلوم من قوى الإنتاج مباشرة ، بل عبر الترجمات من مصادر المعرفة الإنسانية المختلفة اليونانية والهندية والفارسية، ولهذا نجد في هذا العصر السالف الذكر والتوصيف ، العلماء الفرديين ذوي العلوم الوحيدة أو المتقاربة ، كالخوارزمي المتوفى سنة 232 هـ ( الذي صنف كتابه الهام في " الجبر والمقابلة " الذي أفاد منه سائر علماء عصره) ، (1) .
ويُلاحظ هنا إن هذا الطابع الفردي للعلم ، أي المتخصص في علم بعينه ، أو في علوم متقاربة ، قد سبق ظهور الفلسفة ، أي إن مقولات الفلسفة لم تدخل بعد في هذه العلوم ، سواء كان دخولها إيجابياً أم سلبياً ، لأن ظهور الفلسفة سيكون تتويجاً لتطور العلوم .
ولهذا كانت عملية نمو العلوم تتم بدوافع فردية وباجتهادات خاصة ، وبدون علاقة مباشرة بأجهزة الدولة ، فلا يكون لهذه العلوم سقف إيديولوجي ما ، لكن بعض العلماء لا يجد من إمكانية لتطور علمه بدون (رعاية) ما من قبل الدولة كما حدث للخوارزمي في هذا الزمن والأزمان التالية بشكل عام .
كما يُلاحظ في هذا العصر أيضاً ضخامة التقدم الذي حققته العلوم الإنسانية (الأدبية) ، بخلاف العلوم الرياضية والطبيعية التي كانت جنيناً داخل رحم المرحلة .
والعلوم الإنسانية المقصودة في هذا العصر هي العلوم الأقرب للثقافة ، كالنحو والصرف والبيان وقواعد الموسيقى ، نظراً للحجم الكبير من الثقافة العربية الدينية الخام المنقولة من عصر سابق ، والتي قام الوعي بالاشتغال عليها حفظاً ورصداً وتحليلاً .
كما أن العصر كان قريباً من المرحلة السابقة ، الإسلامية التأسيسية والأموية ، ولهذا فإن العلوم الطبيعية لم تحض بمشتغلين كثيرين في هذا الزمن .
لكننا نستطيع أن نلحظ لدى المفكرين فيه بدايات تفكير موضوعي في الكائنات والأشياء والحيوان والإنسان ، فالمعتزلة في طريق بحثهم عن مسئولية الإنسان عن أفعاله ، راحوا يفكرون في الأفعال البشرية وتوالدها ، وفي الطبيعة وأشيائها وفي التاريخ ومسئولية الإنسان فيه . وأبدع كبار مفكريهم ومنهم الجاحظ قراءة فيها الكثير من الملاحظات الدقيقة عن عالم الحيوان ، (2) .
إن صغر حجم العلوم الطبيعية ، بخلاف الرياضيات التي شهدت مولدها ونموها الكبير ، يعود لطبيعة الثقافة الأدبية والنظرية المهيمنة ، في هذا العصر ، ولبداية نمو التفكير النظري ، الذي سيبدأ فلسفياً مع الكندي في أواخر القرن الثاني الهجري وبداية القرن الثالث ، والذي هو يمثل زمن سقوط العصر العباسي الأول ، ذي الدولة المركزية ، ومجيء العصر العباسي الثاني، عصر الدويلات .

:الخطوط العريضة لظهور العلوم
لقد كان تطور الرياضيات في العصر العباسي ملحوظاً في الانتقال من نمط الحساب باليد إلى الحساب العقلي ، وكان هذا يتطلب تبدلاً للأرقام القديمة بمختلف صيغها ، حيث كانت هذه الأرقام المثقلة بالحروف والإضافات تعجز عن متابعة العمليات الكبرى في العد الكمي ، فكانت الأرقام الهندية ، من خلال صيغتيها المشرقية والمغربية ، هي البلورة للوعي الكمي المتزايد لمتابعة العمليات الحسابية المركبة الواقعية ، وكان اكتشاف [ الصفر ] هذا الكم المعدوم ، إنجازاً رياضياً أكثر منه فلسفياً ، لأن العدم الكمي سيؤخذ ككم سلبي متصاعد وليس كمظهر آخر للوجود .
إن تحول أي رقم من الأرقام من الواحد إلى التسعة ، إلى خانات أكبر ، تضيف إلى الرقم الأولي كماً لا نهائياً ، يغدو تحولاً نوعياً للأرقام عبر قدرتها على عكس العمليات المعقدة في الإحصاء الكمي من جانبيه الإيجابي والسلبي .
وتعطينا مسألة دخول الأرقام الهندية إلى الرياضيات العربية فكرة مبسطة عن تداخل العمليات التجارية والثقافية بالعلوم ، فعبر تنامي التجارة في العالم الإسلامي ، وبينه وبين قوى العالم المدنية وقتذاك ، وسيادة المعيار الذهبي والفضي في المشرق والمغرب الإسلاميين ، راح الحساب اليدوي يتحول إلى حساب حديث ، [ فباستخدام النظام العشري – بما فيه الصفر – واستعمال الكسور ، أصبح من السهل إجراء العمليات الحسابية ، مهما تعقدت وتشابكت ، وأمكن تركيب أي عدد سواء أكان كبيراً أم صغيراً ، لا فرق أن يكون عدداً صحيحاً أو كسوراً من عدد صحيح ] ، (3) .
إن الأعداد الصحيحة والكسور ، وتراكيبها المتداخلة تشير إلى التحليل المتنوع المتزايد للكم في شكله المعروف ، أي غير المجهول ، والانتقال من كمه الإيجابي إلى كمه السلبي ، والجمع بين الجانبين ، والقيام بعمليات متداخلة منهما .
ثم تنتقل الرياضيات إلى المستويات الأكثر تركيباً عبر الجبر ، فهنا يصبح الكم المجهول واستخراجه من الكم المعلوم ، طريقة رياضية أخرى للحساب المتوغل في العمليات المجردة .
إن الخوارزمي الُمحتضن من قبل الخليفة المأمون هو الذي قام بهذه الاكتشافات عبر استفادته من الثقافتين الهندية والفارسية ، فيضيفُ ذلك إلى الثقافة العربية عامة ، في القرن الثاني الهجري حيث تجري التطورات الأكبر في ميدان اللغة والثقافة ، فتغدو الرياضيات هي أحد فروع العلم الأكثر استجابة للتطورات ، بحكم تجريديتها وعدم ارتباطها الملموس الواسع بالمادة الطبيعية والاقتصادية ، وقدرتها على النمو المجرد .
ويجري هذا عبر الارتباط كذلك بالثقافة اليونانية التي قدمت المواد الأولية البسيطة في الحساب والجبر ، غير أنها قدمت المادة الأغزر عبر [ الهندسة ] ، فصارت الهندسة الأقليدية مترجمة ومستوعبة عربياً بشكلٍ واسع ، وبدون إضافات كبيرة .
إن الهندسة الأقليدية المركزة على المكان وأبعاده الثلاثة ، ستغدو إضافةً هامة لفرعي الرياضيات السابقين وهما الحساب والجبر ، كما ستدخل في تكوينهيما العضويين ، فتتشكلُ عمليةُ نموٍ مركبة .
لكن الهندسة الأقليدية بتركيزها على أبعاد المكان الثلاثة ، ستعطي الفلسفة أبعاداً محدودة وتقيدها في هذه الأبعاد الظاهرة المتناهية .
وإذا كان الوعي العلمي منذ القرن الهجري الأول أخذ يطرقُ ، ليس كم المادة فقط ، بل أيضاً محتواها الداخلي كيميائياً وفيزيائياً فإنه أخذَ منذ القرن الثاني والثالث الهجريين يندفعُ بقوة لسبر أغوار المادة .
إن الكيمياء والفيزياء أخذتا تتطوران مع تنامي الحرف الصناعية ، حرف الزجاج وصهر المعادن والنسيج الخ ..، وهي الحرفُ التي ازدهرت في زمن الدولة العباسية الأول ، وظهر عدةُ علماء في هذا الزمن كجابر بن حيان في الكيمياء خاصةً :
[ أخذ جابر مادةَ الكيمياء – كما هو معلوم – من مدرسة الإسكندرية التي كانت تقولُ بإمكانية انقلاب العناصر وتحولها بعضها إلى بعض . وأخذ مع هذه الكيمياء فيضاً من الفلسفة الهيلينية والآداب السحرية والتصوف الشرقي والروحية الإيرانية ] ، (4) .
إن جابر بن حيان الذي لم يرتكز على مساندة الدولة في أبحاثه ، بل عبر ارتباطه بالإمام الشيعي البارز جعفر الصادق ، وهكذا كان عمله عبر جهده الفردي وفي فضاء الفكر الإشراقي المعارض ، ومن هنا تلونت استنتاجاته العلمية بدلالات إيديولوجية خاصة .
إن جابر بن حيان في سبيل الوصول إلى صناعة الذهب ، راح يلغي الأفكارَ المتجمدة عن الماهيات الثابتة للأشياء ، من أجل الوصول إلى ميزان [ الطبائع ] ، [ فمن عرف ميزانها عرف كل ما فيها وكيف تركبت ] ، (5) .
إن عمله دخل في تحولات المواد فاكتشف مواداً كيمائية جديدة ، والصناعة هنا تلعبُ دوراً تحويلياً إيجابياً ، فإضافة إلى اكتشافه سلسلة من المواد الكيمائية الجديدة :
[ عرف صناعة استخدام ثاني أوكسيد المنغنيز في صناعة الزجاج ( لإزالة اللون الأخضر أو الأزرق الذي يشوه الزجاج ) . ] ، (6) .
ولجابر بن حيان مجموعة كبيرة من الأبحاث والاكتشافات للمعادن ، (7) تعبر أغلبها عن عمليات صهر وتغيير وتركيب للمعادن ، ويتركز منهجه الفكري على الجمع بين الملاحظات العلمية الدقيقة وبين إقحام الأفلاطونية في البحث العلمي .
وهو يدعو إلى اكتشاف طبائع الأشياء وموازينها ، وكما يقول أحد الباحثين عنه بأن [ العملية الكيماوية عند جابر بن حيان حالة من حالات التأويل ، أي إخفاء الظاهر وإظهار الباطن . إنها عملية نفسية روحية ترمز إلى ارتداد النفس إلى ذاتها ] ، (8) .
إن التناقض بين الجانبين العلمي والإيديولوجي لا يمنع الاكتشافات العلمية لديه وتوصله إلى تركيبات موضوعيةٍ للمادة التي وصل إلى سببياتها الجزئية ، وذلك لأن البحث عن باطن المادة ، عن روحها ، هو بحث عن قوانينها ، مثلما تفعل الحركة الباطنية في البحث عن الباطن في النص الديني ، فتبحث عن الباطن في الواقع وعلاقاتها بالناس .
وإذا تعجز الحركة الباطنية عن الوصول إلى القوانين العامة للتطور والصراع الاجتماعيين ، فإن جابر بن حيان يعجز عن الوصول إلى القوانين العامة لحركة المادة ، لكنه ينجح في اكتشافه قوانين جزئية لتغيرات المادة فيتمكنُ من استخراج الحديد الصلب من خاماته الأولى ، وقد حضّر مجموعةً كبيرة من المواد الكيمائية كأكسيد الزئبق وحمض النتريك الخ..
تبينُ مكتشفاتُ العربِ في الصناعة الإنجازاتَ التي قاموا بها والحدود التي وقفوا عندها ، فإذ تطوروا في صناعة المعادن فإنهم برعوا في صناعة الأسلحة التقليدية :
[ مزج العلماءُ العرب والمسلمون الذهب بالفضة ، واستخدموا القصدير لمنع التأكسد والصدأ في الأواني النحاسية . واستخدموا خبرتهم الكيمائية في صناعة العطور ، ومواد التجميل وصناعة الأقمشة والشموع ، واستخراج الزيوت النباتية ، وتركيب الأدوية ، وصناعة الفولاذ والأسمدة والصابون والزجاج والأواني الزجاجية والمرايا والمصابيح الملونة والبلور . ] ، (9) .
إن كلَ هذه الصناعات وثيقة الصلة بطابع التطور الاجتماعي الذي تهيمنُ عليه الأرستقراطيةُ والفئاتُ الغنية الأخرى ، حيث هي صناعاتٌ استهلاكية لهذه القوى الاجتماعية ، التي تبّذرُ الفائضَ الاقتصادي ، ولهذا فإن الفوائض لا تتوجه للبحوث العلمية أو لتغيير طابع الإنتاج الحرفي ، وهذا يجعل طابع الأبحاث في الكيمياء والفيزياء أغلبها فردياً محضاً .
ولهذا فإن توجه جابر بن حيان لاكتشاف الباطن ، أي لاكتشاف قوانين المادة ، على المستوى الطبيعي ، يعبر عن وعي سحري كذلك بالسيطرة التامة الخارقة على الطبيعة والمجتمع .
وقد سبق أن تناولنا فكر الكندي وإسهاماته في الكيمياء والفيزياء (10) ، ورأينا كيف أن اكتشافاته العلمية تظلُ كذلك في إطار جزئي تقني ، ولم تتحول إلى استنتاجات فلسفية كبيرة ، أي لم يقم بإدغام بحوثه العلمية في نظرة اكتشافية مادية ، مع تمازج هذه البحوث برؤى أسطورية كذلك .
أما في الفيزياء فقد كانت للمسلمين إسهاماتٌ متخصصةٌ متناثرة في علم السوائل وحساب أوزانها النوعية ، وفي الجاذبية ، [ وكانت لديهم آلات كثيرة للرفع كلها مبنية على قواعد ميكانيكية] (11) ، وكانت لديهم اكتشافات للبصريات والضوء وكيفية الأبصار ، نقلت علم الضوء إلى تحول كبير .
[ كما بحث المسلمون في كيفية حدوث قوس قزح ، وسرعة الضوء والصوت ، وعرفوا المغنطيس... وبالجملة كانت المعلومات عن الميكانيكا ، والبصريات والضوء والصوت وخلافها من مباحث علم الطبيعة مبعثرة لا رابط بينها ، وكانت تــُبحث من قبلهم من منظور يستندُ إلى المنهج العقلي والبحث الفلسفي وكان المغلوط فيها أكثر من الصواب ] ، (12) .
توضحُ هذه الفقرات السابقة ضعف الأبحاث في الطبيعة وعدم قراءة قوانين المادة الداخلية ، كما تشيرُ إلى الاستعاضة عن استغلال حركة المادة الداخلية والطاقة باستخدام الحركة الميكانيكية في الروافع ، وهو ما تجسد كذلك في علم الحيل .
إن عدم البروز الكبير في علمي الكيمياء والفيزياء واختلاط أولهما بعلم السحر ، يشير إلى هيمنة الوعي المثالي على العلوم وهو أمر معبر عن قوانين البنية الاجتماعية ، التي تتحكم القوى العليا في إنتاج الوعي وتحديد تطور أشكاله ، وهي كلها أمور متشابكة عرقلت تحول الحرف إلى صناعات .
ولهذا نرى أن علوم الطب والصيدلة والفلك تنمو بشكل كبير ، بسبب الصرف عليها من قبل الطبقات الحاكمة ، فالعلمان الأوليان يرتبطان بصحة هذه الطبقات وبقائها ، كما يرتبط العلم الثالث بسيطرتها ، حيث أن علم النجوم والفلك اعتبر دائماً مُلحقاً بالقصور ، متابعاً لحركة السماء والنجوم المسئولة في رأيهم عن أحداث الأرض وحظوظ البشر .
وفي الطب كان لا بد من البحث بموضوعية عن الأمراض ، وبإلغاء سلسلة طويلة من الخرافات ، وهنا تصبحُ المادةُ الجسمية بلا تدخلٍ خارجي غيبي ، ويتواجد فلاسفةٌ كبارٌ في داخل المباني الاستشفائية ، حيث تقوم هذه بحماية وجودهم الشخصي وتطور ممارستهم الفكرية المتنوعة ، ولا بد في هذه الحالة من تطوير التشخيص الموضوعي للحصول على نتائج مرضية للحكام والأمراء والأغنياء ، ورغم أن الأرواحَ والغيبيات مهيمنةٌ على الفضاء الفكري للمجتمع والتفكير ، إلا أنه لا بد هنا من اكتشافِ الأسباب الموضوعية لمشكلات الأجساد وتكويناتها ، فينفصلُ الجسمُ عن الروح ، ويغدو ذا قوانين مستقلة عن اللامادة ، مثله مثل بقية أشكال المادة ، لكن تبقى السيطرة الأساسية في الكون الثقافي الديني للسماء والأرواح والنصوص الدينية .
ولهذا فإن ثنائية الروح الجسد ، وثنائية السماء والعالم ، لا تعبران عن نقص مستوى العلوم فحسب ، بل عن الضرورة الحتمية لفحص الجسد والعالم بشكل موضوعي تتطلبه الضروراتُ الصحية والإنتاجية .
لكن هذا لا ينفي ، من جهة أخرى ، ضخامة وجود السماء وأفلاكها وكواكبها وعوالم الأرواح والنفس الكلية والعقل الفعال والعقول السبعة والعشرة الخ ..، وسيطرتها على عالم الجسد والمادة .
إن الطب وتابعه علم الصيدلة ينموان باتساعٍ كاشفين سلسلة طويلة من الأمراض والتكوينات العشبية والمادية العلاجية ، ولكن استقلال الروح وهيمنة الغيب يبقيان على علم النجوم والدين كملاذين من نقص هذين العلمين وغيرهما في سيطرة الإنسان على جسده ونفسه وواقعه .

:الحرفية والرؤى الفكرية
انبثق معظمُ المفكرين والفلاسفة وممثلو الحركات الاجتماعية من الفئات الوسطى ، ولا يقود هذا الانبثاق بالضرورة إلى تعبير عن هذه الفئات ، فهذا يعود لمواقف هؤلاء المفكرين والفلاسفة .
إذا نظرنا لمعظم المنتجين المفكرين وجدنا بصمات الحرف والمناطق الريفية أو الفقيرة تعلم نشأتهم كالعلاف والنظّام والحلاج والإسكافي والغزالي والباقلاني الخ.. ، وتدل هذه النشأة كذلك على طابع الفئات الوسطى الصغيرة عادةً المنتجة والمطحونة ، وعلى المستوى التقني السائد ، وينعكسُ هذا المستوى التقني على طابع التفكير .
يقول الباقلاني وهو يثبت أولية الإله :
[ فوجب أن تكون صور العالم وحركات الفلك متعلقة بصانع صنعها ، إذ كانت ألطفَ وأعجب صنعاً من سائر ما يتعذر وجوده من صانع الحركات والتصويرات ] ، (13) .
إن دليلَ الصانع هو دليل تضربه الحركاتُ الدينية في إثبات الخالق ، وهو مستقى من طابع الحرف ، حيث لا توجدُ طاولةٌ أو بابٌ دون نجار ، فتغدو الطبيعة الموضوعية مثل الطبيعة المصنوعة بشرياً ، فكلتاهما لا بد أن تكونا مخلوقتين ، استنتاجاً من البشري المرئي على الغيبي غير المرئي ، وهذا المنطق الصوري ، يتوافق هنا مع صناعة يدوية تقوم بتركيب أجزاء المواد بعضها ببعض لإنتاج أداة ما .
إن المنطق الصوري هو منطق شكلي يقيس المتشابهات في شكلها الظاهري ، ويقيم تضادات لا تقبل التداخل ، ولا يعرف النمو النوعي المنبثق من تراكم سابق في المادة والأشياء ، ويستنتج من فكر المقابلة غير الجدلي استنتاجات كبرى متضادة كلياً ، والإنسان الحرفي الرجل هنا الذي صنع البيت وركب الباب ، ووضع القنديل ليضيء ليلاً ، عكس تصوراته على الكون وعملية خلقه ، فهو كالإله ركّبَ سقفَ البيت وصنع القنديل والكرسي والطاولة وجعل المرأة تابعة له ، وكل ذلك في عدة أيام ، ثم استراح في اليوم السابع ، (14) .
وتقوده معلوماتــُهُ الجديدة عن الكون إلى إدغامها بهذه الرؤية الحرفية وكما غدت السماء شكلاً للسلطة السياسية ، فكذلك صارت شكلاً للسلطة الفكرية عبر العلوم المنتجة بهذه الأدوات الفكرية .
إن فكرة الصناعة الحرفية البشرية تــُطرح على أكبر الأجسام وهو الكون كما تطرح على أصغر الأجسام . يقول أبو هذيل العلاف :
[إن الجسم يجوز أن يفرقه الله سبحانه ويبطل ما فيه من الاجتماع حتى يصير جزءاً لا يتجزأ ، وأن الجزء الذي لا يتجزأ لا طول له ، ولا عرض ، ولا عمق ، ولا اجتماع فيه ولا افتراق ، وإنه يجوز أن يجامع غيره ، وأن الخردلة يجوز أن تتجزأ نصفين ثم أربعة ، ثم ثمانية ، إلى أن يصير كل جزء منها لا يتجزأ ] ، (15) .
إن أبا هذيل يناقش قضايا عميقة ، ويبحث في قضايا تكوين المادة ، لكنه كما يحددُ سقفَ الكون بالسماوات السبع ، فهو يحددُ سقفَ الجزء الذي لا يتجزأ الذي لا بد أن يصلَ إلى حدٍ معين ويقف عنده ، وهنا يطرح [ الخردلة ] هذه النبتة الزراعية المنتجة بشرياً ، والتي يفلقها إلى أجزاء فيقف تكوينها الظاهري عند حد معين لا يتجاوزه .
إن أبا هذيل لا يمتلك مختبرات ولا أجهزة لكي يغوص في تكوين هذه الخردلة ، مكتفياً بنظره ، وتعطيه هذه القدرة الحرفية والإيمان الديني المسبق ، استنتاجات ليس عن تكوين الخردلة بل عن تكوين المادة عموماً . لقد قفز من الخردلة إلى المادة الكونية التي لا بد أن تقف عند حد معين .
بطبيعة الحال لو كان يمتلك تلك الأجهزة ، وهي تعبرُ عن عصرٍ آخر ، لربما غير من رأيه الديني الواقف عند ذلك المستوى الحرفي .
إن أبا هذيل يرى المادة وهي ساكنة ، جامدة ، مُـقطعة بالأصابع البشرية ، ومرئية بالنظر المجرد ، فلا يرى أنها متحركة ، وأن لها حركة داخلية غير مرئية ، ومن هنا قطع سيرورتها الطبيعية ، أي لم ير كيف كانت قبل ذلك كجزء من النبات ، وتطورت بقوانينه ، وأنها الآن وهي بين أصابعه تتحلل وتعود لجزئيات صغيرة غير مرئية .
وحتى لو أن الرائي هو النظّام فإنه سيرى الخردلة وهي تتجزأ ولكنه سيراها بشكل عقلي بأنها سوف تتجزأ إلى مالا نهاية ، بحكم وعيه العقلي المسبق ، في حين سيرى الكون واقفاً عند حد معين من النمو ، فتغدو اللانهائية في جهة واحدة . حيث لا تسعفه أدوات البصر للنظر إلى الكون البعيد .
وهكذا فإن المنتجين الفكريين ستكون آراؤهم العقليةُ واتجاهاتهم الفكرية متلونةً تجاه معرفة الأشياء ، لكن هذه المهن والمواقف ومدى قربها من الأشياء ، ستؤدي إلى أفكار أكثر تطوراً .
ولهذا فإن المهن التي يمارسها الفلاسفة قد تطورت ، فثمة مسافة بين أبي هذيل العلاف وبين ابن سينا ، ليس لأن الأول لم تكن لديه مهنة محددة ، وإنه كان شبه مقتلع من جذوره الاقتصادية و [القومية] ، وأن الآخر كان في بيئة اجتماعية أكثر تماسكاً وقوة وتجذراً [ قومياً ] ، وإنه كان صاحبَ مهنةٍ راسخة هي مهنة الطب التي يحتاج إليها الناس بشدة ، ليس هذا فحسب بل أنه كان أقرب إلى العلوم والمواد المدروسة ، فكان يقوم بالعلاج والتشريح ، وكانت تحيطه موادٌ ثقافية أكبر وأعمق ، أي كان العقل [ الفعال ] ، ليس المتواجد في السماء ، بل الـُمنتّج على الأرض والذي يمثل التراكم الثقافي ، ذا كثافة أكبر سمحت له أن يتوصل إلى نظرة أكثر عمقاً واتساعاً من أبي هذيل العلاف ، فأصبح العالمُ المادي لا نهائياً في سيرورته العامة ، ومسيطراً عليه إلهياً ، أي محكوم سياسياً من قبل مركزٍ ما . أي أنه قام بالجمع بين مادة خالدة ، وأبنية دينية متحكمة في الوجود البشري .
أي أن تطور الفكر الفلسفي لن يتوقف على المهن الحرفية فقط ، فهي وجهٌ بسيط يقدم مواداً أولية محدودة ، ولكنه يعتمد أيضاً على التطور الثقافي عامة الُمحتضن من قبل قوى اجتماعية واسعة ، تتراوح بين جذور قومية لم تتكشف بعد ، وفئات وسطى طامحة ، وقوى تقليدية لا تزال مهيمنةً وبقوة على الفضاء الاجتماعي .
وفي حين كانت علوم الكيمياء والفيزياء والرياضيات لا تجد اهتماماً حكومياً كبيراً كانت علوم الطب والفلك والهندسة تلقى ذلك الاهتمام ، وهو أمر ترسخ منذ العصر القديم .
فنجد دور العلاج والمستشفيات التي تقام في المدن يوضع على رأسها أطباء كبار . ومن سيرة الرازي نقرأ :
[ عـُين رئيساً لأطباء مستشفى الري ، ثم عهد إليه بتدبير مستشفى بغداد ] ، (16) ، كذلك أنشأ المأمون فريقاً لقياس محيط الأرض بسبب تضارب القدماء فيه فأراد [حسم هذا الخلاف والوصول إلى القياس الدقيق ، فأمر بعمل الآلات واختيار موضع لهذه المساحة ] ، ( 17) ، في حين لما أراد البيروني في زمنٍ ووضعٍ آخر أن يتحقق من دقةِ هذا القياس قام بعمل فردي شاق .
إن كلَ هذه الظروف الاجتماعية والثقافية المتداخلة قد جعلت العلومَ مشتتةً ، فاقتربت من قوانين حركة الأجسام الكبيرة الخارجية ، المتاح رؤيتها والتعامل معها ، في حين بقي الفضاء الخارجي وداخل المادة ، نائيين عن هذه العلوم .
كذلك فإن العلوم تبعت حركة السيطرة الاجتماعية وطبيعة الصرف السياسي ، فتجسدت التطبيقات لها في بناء القصور والمساجد والمستشفيات والصيدلة ومشروعات الري .
ولم تنمُ العلومُ الإنسانية غير الدينية وغير اللغوية والأدبية نمواً كبيراً بل بدأت في أواخر هذا العصر عبر ابن خلدون وتلامذته في الانفصال عن هيمنة العلوم الدينية وبدأت تستكشف قوانين الاجتماع والتاريخ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية
الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلاميةالاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلاميةالاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية
مصادر :
(1) : (سوسيولوجيا الفكر الإسلامي، محمود إسماعيل، مصدر سابق ، ص44، ج 3 ) .
(2) : ( راجع الفصول التي كتبت عن أسباب ظهور التفكير الفلسفي وأعمال الجاحظ والكندي في الجزء الثاني من هذا المشروع ) .
(3) : ( الجامع في تاريخ العلوم عند العرب ، الدكتور محمد عبدالرحمن مرحبا ، منشورات عويدات ، ط 2 1988 ، ص 388 ) .
(4) : ( المصدر السابق ، ص 315 ) .
(5) : (قول جابر بن حيان ، استناداً للمصدر السابق ، ص 316 )
(6) : ( المصدر السابق ، ص 320 ) .
(7) : ( راجع قائمة مكتشفاته في الصناعة الكيمائية في ص 462 من العلوم عند العرب في الموسوعة العربية العالمية ، مجلد 16 ، مصدر سابق ) .
(8) : ( الجامع في تاريخ .. ، ص 318 ) .
(9) : ( الموسوعة العربية العالمية ، ص 460 ) .
(10) : ( راجع الجزء الثاني من هذا المشروع ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، فصل الكندي ) .
(11) ( الموسوعة العربية العالمية ، ص 464 ) .
(12) : ( السابق ، نفس الصفحة ) .
(13) : ( مذاهب الإسلاميين ، عبدالرحمن بدوي ، 602 )
(14) : ( راجع العهد القديم ، سفر التكوين ) .
(15) : ( مذاهب الإسلاميين ، ص 182 ) .
(16) : ( الجامع في تاريخ العلوم ، ص 259 ) .
(17) : ( السابق ، ص 434 ) .
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 26, 2019 07:11 Tags: العلوم-والإنتاج-والفلسفة

الوعي والمادة

جسد فهم المجتمعات للمادة، وهي الأشياء والعالم الخارجي الموضوعي، خارج العقل البشري، مدى قدرة البشر على السيطرة على الطبيعة والمجتمع، ومدى قدرتهم على التصنيع وخلق تراكم للعلوم الطبيعية والاجتماعية.
وقد بدأ العرب يقاربون الحضارة الحديثة منذ أن تفتحت عيون المثقفين في النهضة الحديثة، ومن ثم راحوا يراكمون وعياً جديداً مختلفاً عن (المادة) منذ الأنظمة الملكية الليبرالية فالأنظمة العسكرية الوطنية والثقافة التنويرية العلمانية وراح يتصاعد بتقطع وضعف دون أن قطع بجذورهم الإسلامية والقديمة والإنسانية.
وهذا التصاعد والتقطع والاستمرارية تعبر كلها عن حصيلة الصناعة والعلوم والحرية وعن جذور ضعيفة في حفر الأرض المادية.
لقد كان الحصول على معنى المادة ومعنى العلم وكشف سببيات الوجود لتلك القبائل التي خرجت من الجزيرة العربية أمراً صعباً محفوفاً بالمخاطر ولجماعاتٍ أميةٍ محدودة الأرث العلمي، والتي إنتجت منها فئات وسطى حرفية وثقافية في ظل الإمبراطورية وراحت تتساءلُ عن معنى الوجود وكيفية فهمه وكيف السيطرة عليه؟
إن الشعوبَ لا تفهم الطبيعةَ والمجتمعَ بشكلٍ مجرد سحري غيبي تلقائي عجائبي بشكلٍ أساسي، وإن كانت هذه هي المراحلُ الدنيا لتشكلِ العقول، لكنها تتجاوزها، لأنها ذات مستويات دنيا، ولاعتمادها على الحدس وهو أدنى أشكالِ الفكر وعلى التجارب البسيطة غير المعللة وغير المجربة تجريباً حديثاً.
لكن هذه الأشكال الدنيا ملاصقة كثيراً للعرب والمسلمين لأنهم في المستويات الدنيا من الإنتاجين الصناعي والعلمي، ومن هنا فالأشكال الأخرى من السحر والدين غير العقلاني تبقى مترافقةً مع هذا التطور ذي المستوى المنخفض.
ومن هنا كانت الجهود الجبارة للعلماء العرب والمسلمين في إنتزاع أسرار الطبيعة والمجتمع، وهم في بدايات الحضارة، وهو أمر مهدهُ علماءُ اللغةِ والكلامِ ثم الفلاسفة، الذين وضعوا جميعاً القواعدَ الأولى لبناءِ العقلية العربية الموضوعية النقدية، التي تراكمُ لبناتِ المعرفةِ الموثَّقة، والتي تكشفُ خلايا المادةِ وعملياتِ التغلغلِ فيها بشتى أشكالِ تمظهراتها، سواءً كانت جسم إنسان أو حيوان أو أشياء مادية بمختلف حالاتها، أو كانت كوكباً أم نجماً.
ولا تنفصلُ العلومُ الإنسانيةُ هنا عن العلوم الطبيعية، بل كانت هي مقدمتها، فتطورُ علومِ النحو والصرف والبيان ودراسة جذور اللغة وحياة العرب الاجتماعية، قادَ إلى وضعِ لغةٍ كبيرة ذات إمكانيات تعبيرية وإشتقاقية حيوية تحت تصرف علماء الطبيعة والرياضيات والطب والفلك والكيمياء وغيرهم.
فتغيرت الرياضيات بداية من تغيير الأرقام إلى جعل الصفر فيها وجعلها بالتالي سهلة ولا نهائية الحساب، لأن المادة لانهائية، وعبر الجبر تم إظهار الكم المجهول من الكم المعلوم، فغدت الرياضيات أداةً أخرى، وتطورت الهندسة الأقليدية، خاصة عبر التلاقح مع الثقافة اليونانية، ثم بدأت الكيمياء والفيزياء بالتطور مع تطور الحرف والصناعات.
لكن هل تنفصل العلوم هنا عن الشعوذة خاصة مع هذه النشأة الأولى الضعيفة؟
(أخذ جابرٌ«بن حيان» مادة الكيمياء – كما هو معلومٌ – من مدرسةِ الإسكندرية التي كانت تقولُ بإمكانيةِ انقلابِ العناصر وتحولها بعضها إلى بعض، وأخذ مع هذه الكيمياء فيضاً من الفلسفة الهيلينية والآدابَ السحريةَ والتصوف والروحية الإيرانية)، (الجامع في تاريخ العلوم عند العرب، الدكتور محمد عبدالرحمن مرحبا، منشورات عويدات ط2، 1988، ص 315).
إن إمكانياتِ الوصولِ إلى الأبعادِ المتعددة للمادةِ مسألةٌ مرهونةٌ بقوى الإنتاجِ السائدة في المجتمع وتجلياتها في البحثِ العلمي خاصةً مدى تقدم الحرف ومن ثم وجود معامل الإختبار، وظهور وتعمق تخصصات العلماء، وتنوع أدوات السبر والصهر والتحليل المختلفة.
ولهذا فإن حدوثَ جدلٍ عميقٍ بين الصناعة والعلوم لم يحدث:
(مزجَ العلماء العرب والمسلمون الذهبَ بالفضة، وإستخدموا القصديرَ لمنع التأكسد والصدأ في الأواني النحاسية، وإستخدموا خبرتَهم الكيمائية في صناعةِ العطور ومواد التجميل وصناعة الأقمشة والشموع..) الخ، الموسوعة العربية العالمية، ص 460.
لنلاحظ هنا كيف أن منهجيات البحث العقلي كانت محدودة وكذلك فإن توجه الطبقات الحاكمة للاستئثارِ بجانبٍ كبيرٍ من الفيضِ الإقتصادي، وجهَ الصناعات نحو الصناعات الاستهلاكية التابعة للقصور وكبارالتجار، مثلما أن الحركة الفلسفية لم تقمْ بتحليلات عميقة للمواد الطبيعية والاجتماعية.
إن المادة هنا باعتبارها مواداً وكواكب ونجوماً، أي مادةً كونيةً، لم تتغلغلْ الأبحاثُ فيها، فجثمت أشكالُ الوعي العربي العلمية على سطوح المواد والعمليات، وهي الموادُ المقاربةُ للاستهلاكِ أو للصحةِ الجسدية البسيطة، أو للتنجيم، وهو الثقبُ الأسودُ الذي إنهالتْ فيهِ موادُ الخرافةِ الواسعة وبلعتْ العقولَ والحضارة العربية.
وحتى شبكة العلوم الطبيعية كانت خاضعةً لأهدافِ الطبقاتِ العليا، فالطبُ والتنجيمُ والصيدلةُ يتمُ الصرفُ عليها، في حين لا تحظى علومٌ أخرى بمثل ذلك.
إن أشكال الوعي من دين وفلسفة وعلوم لم تستطع أن تصل إلى المادة إلا بمستويات محدودة وعجزتْ عن كشفِ تنوعاتِها والوصولِ إلى مكوناتِها الأصغر، وفي مختلفِ تجليات المادة الحية والجامدة على السواء، كما لم تصلْ – تلك الأشكال- إلى فهم عمليات المادة الأكثر تطوراً وهي الحياة الاجتماعية البشرية ونتاجها الأعمق وهو الظاهرات الفكرية.
ومن هنا فقدتْ مفاتيحَ إستمرار النهضة والتقدم وتوقفت وتخلفت.
إن أحجامَ إكتشاف المادة في الحضارتين الكبريين الإغريقية والعربية والحضارات الأخرى كذلك مثل الصينية والهندية، لم تصل إلا لكشف سطوح المادة، لكن في الحضارة الغربية التي تصاعدت منذ القرن الخامس عشر بدأت ظروف جديدة تتشكل، فقد أزيلت الدولة الكلية الإستبدادية وأُبعدت أحجارُ سيطرتِها وهي الأديان الكاتمة على حريات العقول وإنفتح المجال للتجريب العلمي الحر.
لكن ذلك إستغرق زمناً طويلاً وبتفاعل البُنى الاقتصادية والفكرية لكل المجموع النهضوي الغربي، بحيث تمَ تجاوزُ الحرفةَ، بظهورِ الصناعتين اليدوية فالآلية، والأخيرة هي الذروة ولأول مرة في التاريخ، وبهذا فإن المادة بمختلف تجلياتها الكونية والأرضية وُضعت تحت أصابع وعيون البشر لتفحصها، بشكلٍ تاريخي متدرجٍ يعكسُ تطورَ الصاعاتِ والملاحةِ وسيطرتهم على الأشياء والمنتجات والخريطة الأرضية.
إن الأجسامَ الفضائية كالكواكب والنجوم أُعيد النظر إليها، ورئُيتْ حركةُ الأجسام الكوكبية بشكلٍ صحيح، فبدأت المناظير تتجه إلى المواد الأصغر فالأصغر، دون أن يتوقف تحليل المواد الكبرى.
وهذه المراحلُ الأولى من الإكتشافاتِ الجغرافية والصناعة أعطتْ إقتراباً من الأجسامِ الفلكية الكبرى وساهمَ ذلك في إستعادةِ وحدةِ الكرة الأرضية، وبتواضعِ الأرض في المجموعة الشمسية لكنها صارت أقوى، ودخلتْ في تشكيلةٍ تاريخية جديدة هي الرأسمالية جعلتْ المادةَ البضائعية هي محور الاقتصاد والمعامل.
أعطت هذه المرحلة تغلغلات كبيرة في المواد الصناعية، فتمكن تشارلس داروين من فهم سببيات تطور الأحياء، وكشف كارل ماركس مادة البضاعة وتناقضاتها الاجتماعية، وهو مستوى لا يعود للبيولوجيا بل للعلوم الإنسانية، وتغلغل فرويد في فهم مادة العقل وطبقاته في الوعي واللاوعي إضافة لعلماء آخرين كشفوا جوانب أخرى من هذه المادة المُـفَّكرة، وهذه كانت ذروة العلوم في القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين.
في القرن العشرين تعرت المادة تعرية واسعة جداً، إتسع الكون إتساعاً عظيماً، ورُئي كمجراتٍ تشكلتْ في الانفجار العظيم، وهو الكون المرئي التاريخي لنا، أي كوننا، لأنه من الممكن أن تكون هناك أكوان أخرى، وكذلك فإن مادة هذا الكون دُرست وحُللت.
(المادة في الفيزياء الكلاسيكية هي كل ما له كتلة وحجم ويشغل حيزاً من الفراغ)، الموسوعة. لكن هذا هو الشكل الكلاسيكي للمادة فقد تداخلت المادة والطاقة، صارتا نوعاً واحد بوجهين.
وكما أن المادة لانهائية في الكبر فهي لا نهائية في الصغر، والحديث عن وجود حدود لها هو مجرد ظن:
(تتكون المادة من جسيماتٍ بالغة الصغر تسمى الجزيئات، وهي عبارة عن تجمعات لجسيمات أصغر هي الذرات. وتلك بدورها تتكون من جسيمات أصغر. ويُعتقد حالياً أن المادة تتكون من أجسام صغيرة جداً لا تتجزأ، حيث أنها لا تتكون من جسيمات أصغر بل هي أصغر شيء. وتـُسمى هذه الجسيمات بـ"الجسيمات الأولية"، ومع هذا فليس من المُثبت بعد أنها فعلاً أصغر الأجسام المكوّنة للمادة.)، موسوعة
كشفتْ المادةُ عن كونِها حركةً صراعية، فأجزاء الذرة الداخلية متضادة، دائبة الحركة، والمادة الطبيعية الكونية في صراع دائم بين مكوناتها وفي العلاقات بينها، وهي في حالة سيولة دائمة من الحركة.
المادة هي جزء من كوننا، ولا يُمكن إطلاق هذا المطلح على ما وراءه. ويُعتقد حالياً أن المادة تـُشكل 27% من كلتة الكون، 4% فقط هي المادة الطبيعية، والتي تنقسم إلى نوعين رئيسيّين: مادة مضيئة وغير مضيئة، وتــُشكل الأولى 0.4% من كتلة الكون، في حين أن الثانية تـُشكل 3.6% من كتله. أما الـ23% الأخرى فهي المادة المظلمة، والـ73% الباقية هي الطاقة المعتمة.
ليست قدرات العلوم الغربية وإمكانيات الثورة التقنية التي عصفت بالقرن العشرين هي مجرد إهرامات من الأفكار المجردة بل هي تحولات كبيرة في العلاقات الدولية قادت إلى إنقلاب أوضاع الدول وتأكيد الغرب لقيادته للمسيرة العالمية تبعاً لمصالحه ومن خلال موقعه المتميز، وبالعصف بنظم ماقبل الراسمالية والرأسماليات الحكومية الشرقية.
لقد برز صراع العلوم والثورة المعلوماتية والتقنيات الغربية في مواجهة وأمية العالم الثالث وتخلفه الثقافي ومحدوديته العلمية وتبلور في كونهِ صراعَ أساليب إنتاج وثروات تنتقل من جهة الشرق لجهة الغرب، فقد بلغ نسبة إنتاج العالم النامي 7% من الإنتاج الصناعي العالم، وبلغ حجم ديونه 2 تريليون دولار، رغم ضم هذا العالم النامي 70% من سكان العالم.
إن مجموع الارباح التى حولتها الاستثمارات الغربية لبلادها قد بلغ 139,7 بليون دولار خلال عقد 1970 – 1980.
فليست الثورة العلمية والتقنية هي مجرد أفكار مجردة، وليست هيمنة العلوم على المواد، هي أشكال ثقافية، بل سيطرة على المواد الخام، والاستثمارات والثروة المعرفية الجديدة.
إن عجز العالم النامي، ومنه العالم العربي، هو في أبنيته الاجتماعية – الثقافية المتخلفة، فعقلنة العالم وقراءاته السببية والقانونية، تترافق مع تغيير العلاقات بين الثقافة والتربية والتعليم وبين الإنتاج، مع تغيير الهياكل الاجتماعية الذكورية، مع تغيير الهياكل الحكومية البيروقراطية، مع الإنتقال للديمقراطية.
إن الثورة العلمية والتقنية الغربية تتغلغل كذلك في تغيير المواد التي ينتجها العالم النامي كذلك، فهي تطيح باقتصاده التقليدي كذلك:
(ومن الأمثلة على الصناعات التى قامت على الهندسة الوراثية (التكنولوجية الحيوية) والتى تم بها ايجاد منتجات تحل محل الانتاج الزراعي في العالم المتخلف التوصل الى انتاج النيلة(منتج صناعي يُستخدم في الصباغة) التى تنتجها الهند، وانتاج خيوط مخلقة لتحل محل السيزاك والمطاط، وانتاج حبوب الفانيليا بدلا من الطبيعية التى تنتجها مدغشقر وإنتاج حوالى ثلاثين بديلاً للصمغ العربي الذي ينتجه السودان)،(تاج السر.
إذا قرأنا هذه التحولات العاصفة الغربية وإنعكاساتها على المستوى الفكري، وربطنا بين إنهيار العقلانية العربية بعد ابن رشد، وعجز القوى الفكرية المختلفة عن العودة حتى إلى هذه العقلانية الفلسفية الدينية المثالية، فسوف نرى إنهيار المجتمعات العربية وعجزها عن الارتفاع لتحديات العلوم الغربية وثورتها المشار إليها، فغياب العقلانية الفلسفية يشير إلى عجوزات مختلفة؛ عدم القدرة على نشر التصنيع وخلق قوى عاملة متقدمة ماهرة تقنياً، وضعف وعي النساء وحضورهن التقني والعلمي، وهيمنة الثقافة السحرية على الوعي العام الخ.
أي أن الحضور العربي الراهن هو بسبب إنتاج المواد الخام الثمينة وأهمها البترول، الذي يجعل العديد من الدول العربية لا تعلن أفلاسها وإنهيارها الاقتصادي، ولما سببه البترول من حراك إقتصادي شمل دولاً عربية عديدة كذلك.
وقيام الاقتصاديات والأبنية الاجتماعية العربية على إقتصاد نفطي يؤكد غياب العرب عن ثقافة العالم المعاصر العلمية، وتشكل هذا العالم على الوعي غير العلمي.
فليس الوعي بالمادة كرؤية فلسفية مسألة تجريدية، بل تتعلق بصميم التطور البشري، فحين يرفض أبوحامد الغزالي السببية في زمن الثقافة العباسية، ولا تدخل هذه كرؤية شاملة في مختلف تجليات الظاهرات الطبيعية والاجتماعية، وأن لا تزال هذه الرؤية سائدة في الثقافة العامة، فهذا يظهر الفرق بين ثقافة غربية أحتوت عالم المواد وصنعتها كذلك وبين ثقافة لا تزال تعيش على الحرف وإنتاج المواد الخام.
لقد غدت هذه الثقافة الغربية التقنية تدخل إلى نسيج المواد وتغير تركيبها الطبيعي، وقد أمكنها صناعة الخلية الحية والقيام بالاستنساخ.
رأس المال الحكومي الشرقي
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 26, 2019 07:08 Tags: الوعي-والمادة

September 25, 2019

2⇦ البحرين جزيرةُ الحريةِ الغامضةِ في العصر القديم

✗ البحرين في بدء التحديث
كان مجيء الاستعمار البرتغالي بداية لدخول العصر الحديث إلى منطقة الخليج، حيث عبر عن لحظة المفصل بين العصرالوسيط والعصر الحديث، فعالمياً كان النظام الرأسمالي في طور التشكل، وكانت مرحلته ومعركته التجارية مشتدة بين أجسامه البارزة في أوروبا الغربية، التي انتقل إليها التراكم النقدي والثقافي العالمى.
إن البرتغال لم تعبر سوى عن مرحلة الاستيلاء على الغنائم والمواد الخام بصورة عسكرية، ولهذا كانت معتمدة على الأساطيل الحربية والقلاع. ولكن البرتغال لفتت الأنظار الغربية إلى أهمية الشرق، خاصة الهند، ثم المناطق القريبة منها. وبانتقال قيادة الرأسمالية إلى بريطانيا تكون مرحلة جديدة من تطور العلاقات الاقتصادية العالمية قد تشكلت، واعتمدت على نمو الصناعة وتصدير البضائع ورأس المال.
ومن خلال الهيمنة على الهند انتقلت بريطانيا إلى الخليح العربى، عبر مداهنة القوى الرئيسية فيه، كالإمبراطورية العثمانية والدولة الصفوية الفارسية، في حين لم يكن ثمة ممثل للقومية العربية التى كانت لا تزال فاقدةً الملامح الاجتماعية والفكرية.
وقد اعتمدت بريطانيا في سيطرتها على الخليج على تفتيت علاقاته بالعالم، وعلى تفتيت علاقاته الداخلية، بل على تفتيته الوطنى، بحيث تبقى اجزاؤه المختلفة متضادة. وكانت هذه خطة بعيدة المدى وذات نتائح أقوى وتكاليف أقل.
ولهذا وجدت جزر أوال نفسعها في مرحلة تاريخية جديدة، تم شيئاً فشيئاً قطع علاقتها بالضفاف الشواطئية الختلفة لها، ضفتا الجزيرة العربية الغربية والجنوبية، وبالتالي قطعها عن جسمها الخليجى العربى.
فعبر هذا تكون عملية الابتلاع اكثر سهولة وأقل خطورة، وقد اعتمدت بريطانيا في نمو سيطرتها على وضع الاقتصاد المحلى عموماً على مدى فخامة وغلاء المواد الأولية، وكذلك على أحجام الأسواق. ولهذا كانت الهند درة التاج البريطاني، لدورها في تطوير التصنيع الإنجليزي بشكل مركب مواد وسوقاً.
ومن هنا كانت جزر أوال ذات أهمية محورية نظرا إلى وجود المادة الخام و السلعة الثمينة في ذات الوقت وهى اللؤلؤ، حيث كانت هى مركز إنتاجه في توسطها لمصائده الطبيعية الكبرى.
واذا نحن نظرنا في ذلك الوقت إلى أية مواد خام أخرى ذات اهمية كبيرة لم نجد في الخليج سوى اللؤلؤ، كذلك لم يكن الخليج سوقاً كبيرة، نظراً إلى ضعف عدد سكانه وتبعثرهم وسوء أحوالهم المعيشية. وكان بالإمكان خلال القرن التاسع عشر تسلم هذه المادة السلعية دون صعوبات، لنشوء الترابط الوثيق بين الهند والخليج، التى عملت بريطانيا على نسجه من خلال تشجيع التجارة مع الهند.
ونظراً إلى طبيعة المواد الخام وأحجامها في الخليج فلم تكن بريطانيا في القرن التاسع عشر بحاجة إلى وضع اليد على الخليج، كما فعلت في الهند، ولكنها كانت بحاجة إلى ترتيب البيت الخليجى للسيطرة الشاملة القادمة، عبر تفتيته وقطع صلته بالساحل الشرقى لإفريقيا، والقضاء على اشكال التهديدات المسلحة التى يكن أن تنمو فيه، ولهذا كانت قوانين واتفاقيات منع تجارة الرقيق و"االقرصنة" والحروب، وكل ذلك يعنى تقسيم مناطق الخليج، والقضاء على أساطيله الحربية، وتوجيه الحياة الاقتصادية والسياسية لما يفيد التجارة البريطانية، حيث أخذت مصالح دول الخليج ترتبط تلقائيا بأسواق الهند وشرق افريقيا.
وفي ذلك المستوى من التطور الاقتصادي البريطاني لم يكن ابتلاع دول الخليج مفيداً، لكن التطور البريطاني الداخلى، واتساع الصلات مع دول الخليج، وتفاقم الصراع بين دول أوروبا الغربية حضّر الظروف للانتقال إلى السيطرة المباشرة.
قادت الظروف العامة لمنطقة الخليج وموقع البحرين في القرن التاسع عشر لتحولها إلى المركز الرئيسي لإنتاج اللؤلؤ. وهذا أدى إلى تبدل طبيعة السكان، فالمستوى الزراعي شبه الكلي، أخذ يعطي المكان لاقتصاد البحر. ومع تدفق عائدات هذا الاقتصاد بدأت القرى الساحلية في التحول إلى مدن. كما راحت القرى تنمو بصورة واسعة، بسبب هذا الترابط والنمو المشتركين. فإنتاج النخيل يقدم الكثير من المواد الأولية للسكان، كالمواد الغذائية والبنائية والاستهلاكية المختلف. وهذا يقود بدوره إلى تطور الزراعة.
إن عملية تشكل السوق الوطنية، تحدث من ترابط نسيج الحرف المختلفه، فحرفة صناعة السفن تعود بآثارها على حرفة الغوص، وسعف النخيل يصنع بيوت السعف الأكثر انتشاراً وقتذاك، والحدادة والقلافة والنسيج وغيرها تتعاضد لتقديم المواد الأولية للحرف واستهلاك البيوت ولنمو المدن وتضخم اسطول الغوص، الذي تعود عائداته بالتالي على هذه الحرف ومنتجيها بشكل نسبي.
كان هذا الإنتاج يحتاج إلى أمكنة للتبادل، فالمزارعون لا يبيعون سلعهم مباشرة، وكذلك الحدادون والنساجون الخ... ومن هنا أخذت الأسواق الصغيرة تكتسب نمواً مطرداً، وأخذت الأسواق الريفية تخلي مكانها للاسواق المدنية، بصورة ليست سريعة، وممتدة عبر عقود، وامتازت أسواق المدن القديمة كالمحرق وجدحفص بارتباطها الوثيق بالإنتاجين البحري والزراعي، فقد نشأت من خلال عمليات تبادله وفيضه النقدي .فكانت سوق المحرق تعتمد على جلب المواد المتعلقة بالسفن ومهن البحر المختلفة والاستهلاك، في حين كانت سوق جدحفص مرتبطة بفيض المواد الزراعية والحيوانية الناتجة عن القرى المختلفة.
كانت أهمية المدينتين انهما تعبران معاً عن إنتاج ما قبل الصناعي والرأسمالى الحديث، وتعبران عن عالم الحرف وتشابكاته المختلف.
وعمليات التبادل تقوم وتطور الرأسمال النقدي والفئات المرتبطة به، كالطواشين، وهم تجار اللؤلؤ، الذي يحتلون في هذا العصر مكانة محورية في عمليات التبادل، ولهذا أخذت هذه الفئة بالنمو مع ترسخ وتنامي اقتصاد اللؤلؤ، فغدت لها شرائح مختلفة، كالتجار الكبار الذين غدت لهم محلاتهم المحددة في قلب الأسواق، في حين ظهرت شرائح صغيرة تتاجر باللؤلؤ بأشكال كثيرة، سواء بانتظار الغواصين أم بالتوجه إليهم في عرض البحر أو السفر وبيع هذه المادة في الخارج الخ..
ونظرا إلى تحول البحرين إلى مركز الخليج لإنتاج وتصدير اللؤلؤ فقد أخذت عائلات تجارية من الخليج في القدوم إليها، لتنمو عمليات التبادل على أصعدة مختلفة، حيث أخذ الاستلاك الترفى بالظهور، عبر إنشاء البيوت الكبيرة، كذلك فان الاستهلاك السلعي العادي أخذ بالنمو والتوسع. كذلك فان الإدارة السياسية المحلية أخذت تتحول إلى مصدر للنمو التجاري والسلعي.
وكل هذا أدى إلى توسع الفئات التجارية، حيث برزت الفئة المرتبطة بإنتاج الغوص، وفئة التجارة العامة، وهناك عمليات تداخل بينهما عبر زمن ازدهار الغوص، لكن في أزمنة تدهوره كان الرأسمال ينتقل بصورة دائبة إلى الفرع الثاني.
ولم تظهر في هذا الزمن مؤسسات تمويل كبرى، كالمصارف واعتمد الأمرعلى مؤسسات الصرافة الصغرة، ونظراً إلى طابع العصر الوسيط المستمر في الحضور عبر الإنتاج التقليدي، فإنه كان يشارك المسلمين في عمليات التمويل والتسليف هذه المسيحيون واليهود بخبرتهم المميزة في هذا الجانب.
لكن إلي أي مدى كانت علاقات الإنتاج متداخلة في هذا الزمن؟ فمن المعروف ان علاقات إنتاج الغوص والزراعة، اعتمدت على العلاقات الإقطاعية وبقايا العبودية وكان حجم العلاقات الرأسمالية الحديثة محدوداً.
ويمكننا اعتبار السفينة قطعة أرض زراعية يقوم النوخذة (وهواللفظ الفارسى البرتغالي المنتشر خليجياً ويعنى: قائد أو ربان البحر) بتقاسم محصولها مع المنتجين وهم على درجات حسب مشاركتهم في العملية الإنتاجية، وهذه المشاركة مزدوجة فمن جهة يأخذ الربان حصة مساوية للمنتج الرئيسى وهو الغواص، كذلك فإن السفينة التى ملكها أو يستأجرها تأخذ هى الأخرى ذات الحصة. في حين يأخذ المنتج المشارك مساعد الغواص [السيب] نصف سهم.
فلا ترتبط عملية الغوص بالأجور بل بالحصص، فالمحصول يقسم على أسهم، بعد خصم تكاليف الرحلة، فيأخذ الربان سهمين فى حين يأخذ الغواص سهماً واحداً، والمساعد نصف سهم، ولكن العملية لا تتشكل من هذا الوضوح فإن الربان أو التاجر، يقوم بتسليف البحارة، ويكتب مبالغ السلف لديه أو لا يكتبها، مما يجعل البحارة مدينين بصورة دائمة. وهكذا لا يبقى عن الاسترقاق سوى خيوط واهية.
وفي الماضى الأكثر قسوة كان الغواص ينزل مقيداً كعبد، مما يشير على طبيعة الرق الكاملة حينذاك.
ان العلاقات البضاعية والنقدية تتوارى لصالح العلاقات الإقطاعية، وبقايا العبودية، مما يضعف من تطور الرأسمالية وتوسع السوق ومن تطور أدوات الإنتاج ودخولها في هذه العملية، وبالتالي تغيب أدوات النضال المعاصرة. كما يضع ذلك الأساس لتخلف الغواصين واميتهم وأمية أولادهم، وبقية عالميهم الاجتماعى والثقافى. ولا تختلف اوضاع الفلاحين عن اوضاع البحارة وربما كانت أسوأ، فهى تعتمد أسلوب الإقطاع المقام على [الضمان] الزراعى، وهو شكل متوارث من التاريخ العربى، مع استمرار علاقات السخرة.
وفي زمن بداية دخول العتوب إلى الغوص كان الشكل القبلى أساسياً فى الإنتاج: [فترى العائلات تدخل هذه الصناعة بشكل جماعى فرب العائلة ملك السفينة أوعدة سفن يستخدمها للغوص على اللؤلؤ، والاخوة والأبناء وأبناء العمومة والأخوال يعملون جميعاً على ظهر السفينة أو السفن التى تتملكها]، [محمد الرميحى، البترول والتغير الاجتماعى]، نقلا عن فاروق أمين، «دراسة حول واقع الأسرة البحرينية»، ص 011
هذا الأسلوب العائلى ربما كان معتمداً في الزراعة ايضاً ولكن تطور القرية الأسري له سار خاص، يعود إلى توطن القبائل العربية القديمة جزر أوال كعبدالقيس، ولا تزال قرية [كليب] تحمل ذكرى ذلك. وقد قسمت مدينة المحرق على أساس الأفخاذ القبلية، فلكل فخذ حي خاص، ثم تحول ذلك إلى أحياء مدنية وإلى الاختلاط مع تنامى التقسيمات والتباينات في الدخول وفي مواقع الإنتاج، بحيث أخذ الفقراء يتكدسون فى أحياء متقاربة.
لكن العلاقات القرابية ظلت مهمة مع بقاء أسلوب الإنتاج التقليدي، وبقاء التجارة على ضغاف هذا العالم. وفيما بعد، وفي زمن القرن العشرين، فإن البحارة سيمثلون مصلحة مشتركة واسعة، ويغدون قوة اجتماعية مختلفة، مما يشير إلى طبيعة التطور الاجتماعى الذي تنامى في عقود الغوص الأخيرة.
لكن في الجهة المقابلة، فإن معظم ملكيات الغوص من سفن وديون و[أرباح] انتقلت إلى كبار تجار اللؤلؤ، فظهرت بيوتات مالية. عقارية. وغدت هذه فيما بعد أساس تطور الطبقة الوسطى البحرينية، خاصة فى شرائحها الوسطى والصغيرة.
أما الشريحة الأخرى، والتى نمت من التجارة الخارجية، فإنها لم تكن كببرة فى زمن الغوص، وأخذت تتسع مع الاعتماد المستمر على الاستيراد، وأصبحت مهيمنة بعد أن دب الضعف في الغوص. ولكن هذه التقسيمات بين الفئتين الأساسيتين للطبقة الوسطى لم تكن راسخة، لأن التوظيفات كما قلنا متداخلة بشكل كبير بين الجانبين.
اعتمد اقتصاد البحرين بشكل شعبه كلى على الغوص، ففى سنة 1824 كان حجم ما بيع من اللؤلؤهو320,000 جنيه إسترلينى، أي ما نسبته 97,03,%، بينما بلغت مساهمة القطاعات الأخرى الزراعية والحرفية 1,02%.
وقد تزايد هذا الدخل في الثلث الأول من القرن العشرين، ليصل إلى ذروته سنة 1930، حيث بلغ: 2,125,000، لكنه وصل في سنة 1936 إلى657,000، وقد أدى هذا إلى تقلص أعداد السفن والبحارة، وبدأت علاقات اجتماعية كاملة بالتبدل.
عبرت الفترة السابقة للتدهور عن المنظومة الاجتماعية البحرينية الوطنية التقليدية، حيث تشكلت أسس للوحدة الوطنية عبر الاقتصاد التقليدي المفكك، أي من خلال التعاون غير المباشر بين أشكال الاقتصاد التقليدي، كالغوص والزراعة، وعبر التجارة المحدودة، وتداخلات التعاون الاجتماعى المباشرة.
فرافقت هذه المنظومة الاجتماعية أشكال من الثقافة التقليدية، المعتمدة اساساً على الثقافة الشعبية الشفهية الموروثة والمقداولة، والتى لا يجري فيها تغير كبير، بل إعادة إنتاج بسيطة مثل الحفظ والاستفادة من الأمثال القدمة لتطبيقها على واقع جديد، وثمة قصص مستعادة وإنتاج بسيط للشعر العامى. والتكرار والنمطية هما سمتا الوعى والواقع.
وهناك إنتاج ثقافي دينى تقليدي عزير يتواصل مع هذه البنية التقليدية، فتغدو الاستعادة المذهبية لأواخر العصر الوسيط هى طريقة الوعى السائدة، نظرا إلى وجود شعب في حالة تبلور وانتقال من منظومة إلى بوادر منظومة لم تتضح بعد على الصعيد الإقليمى. وحتى الآن لم تجر دراسات موثقة حول هذا الإنتاج الفكري، بحيث تتكشف أبعاده الجاثمة وراء نصوصه التقليدية المثقلة بالماضي.
لكن كان تبدل هذه التركيبة الاجتماعية يعتمد على طبيعة الرأسمالية البريطانية المسيطرة حينذاك، والتى بدأت بالانتقال إلى منظومة جديدة مع انتهاء القرن التاسع عشر، حيث أخذت عملية إرسال الرساميل بالتحول إلى أسلوب هام من أساليبها، فبدأت الشركات والبنوك البريطانية بالتغلغل في الاقتصاد المحلى.
وقد كانت عمليات الهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية تتنامى منذ القرن التاسع عشر، فكان للبريطانيين امتيازات سياسية واقتصادية مثل وضع ضريبة لا تتجاوز الخمسة في المائة على البضائع البريطانية وغير ذلك من الامتيازات السياسية والقضائية. ولكن في بداية القرن العشرين انتقلت البحرين إلى التبعية للاستعمار البريطاني. وفي هذه السنوات قدمت شركات البرق والبريد وجري مكنزي والبنك البريطاني.. الخ، فغدا الاقتصاد المالي يحكمه البنك البريطاني، والتجارة الخارجية بيد جري مكنزي وأخذت السلع الإنجليزية بالانتشار الواسع.
وقد أدى غياب أي حماية للاقتصاد المحلي إلى أن بدأت شبكة الحرف بالتدهور المستمر، ولهذا وجد صناع السفن و النسيج والمداد والفخار.. الخ انفسهم يفقدون أعمالهم، وبطبيعة الحال تحولت هذه الظاهرة إلى سيل جارف مع انهيار الغوص، ولهذا أخذت البحرين تتحول من مركز اقتصادي إلى هامش اقتصادي.
ان انهيار النظام التقليدي تم ببطء كما ان تشكل النظام الحديث تم ببطء مماثل، وهذا ما شكل أزمة عميقة للمجتمع، خاصة في عقود الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات، وفي السبعينيات فقط بدأ النظام الحديث في إنتاج ثماره.
وهذا التحول ترك بصماته على مختلف جوانب الحياة المادية والثقافية، بدءاً بنمط العمران، وهو الأقرب إلى البنية الاقتصادية، أو في اشكال الوعى الفكرية وهى أبعدها عن الالتصاق بها. ونجد بيوت الفقراء الأقل تعرضاً للتبدل، فقد ظلت مادة الخوص والجريد المادة الأساسية لها، وحتى الستينيات. في حين بدأت الفئات الوسطى منذ الثلاثينيات استخدام المواد البحرية في تجديد مساكنها.
كان الاختلاف بين المحرق والمنامة هو العلامة الفارقة للتحول بين العصرين الوسيط والحديث، فقد كانت المحرق عاصمة نظام الغوص وأزهى فترات العصر الوسيط البحرينية، حيث البنية المستقلة والمزدهرة نسبياً، لكنها عاصمة غير قادرة على أن تكون عاصمة توحيدية تحديثية للبلد، بسبب طبيعة العلاقات الاقتصادية التقليدية المفككة للشعب، والواقع الجغرافي المحصور والضيق للمدينة، وقد كانت هي الموقع الرئيسي للعمل السياسي المناهض للاحتلال، كذلك فقد قامت السياسة البريطانية على الابتعاد عن كتلة المنتجين البحرينيين المترابطين فيها، ولهذا قامت بتطوير موقع المنامة، التي كانت مصيفاً، وفيها فراغات كبيرة وقتذاك.
كانت المواقع البنائية محدودة في المنامة، وتحيطها مجموعة من القرى المتباعدة التي تشتغل بمجموعة من الحرف، وقد أدت التطورات الاقتصادية من انهيار نظام الغوص والزراعة والحرف إلى نزوح السكان وبحثهم عن أعمال خلال عقود الانهيار والتحول، فبدأت المنامة تنمو بشكل سريع.
تحول المنامة إلى عاصمة كان ثمرة للاندثار الريفي والحرفي وللتحول إلى سوق، فتصبح المركز السياسي والاقتصادي للمجتمع، وتقوم بالنموعلى حساب الرقعتين الزراعية والبحرية، فغدت مكانتها المتوسطة الجغرافية وسيلة لتوحيد المجتمع، فأصبح الاقتصاد الحديث أساساً أقوى وأوسع للبناء الوطني، ولظهور مجموعات سكانية حديثة.
وقد تعرضعت الطبقة الوسطى للتبدل بناءً على هذا النمو للاقتصاد الحديث على حساب تلاشي الاقتصاد التقليدي، فاندثرت فئة الطواشين والفئات المرتبطة بالنمط القديم، وأصبح المستوردون هم الفئة البارزة في الطبقة الوسطى، وأصبحت البيوتات المالية المعنية أساساً بالاستيراد في مجتمع الغوص هي الطالعة من خراب العام القديم، أو تلك التي حافظت على التنوع وعلى الاستثمارات العقارية، مما أعطى بناءً اقتصادياً خاصاً للطبقة الوسطى، كانت له تأثيراته على حقول الوعي والسياسة.
ولهذا كانت الشرائح المرتبطة بالاقتصاد القديم، وهي عائلات الاقتصاد البحري أو الريفي من جهة أخرى وبمستويات متباينة بين المدينة والريف، هي التي واجهت الغزوالاستعماري، لتضرر مصالحها بشكل مباشر، حيث كانت تزاوج بين السيادة الاجتماعية والغوص وتجارة الرقيق والسلاح، وتعتمد على علاقات وأفكار قديمة ولكنها تعبر عن مضمون وطني تقليدي.
فنجد أن معارضة الثلث الأول من القرن العشرين تتركز في المحرق وبين عائلات الامتيازات ((البحرية))، فهي تعمل على إبقاء النظام القديم بأساليبه ونظامه السياسي، في حين كان هذا النظام قد تجاوزه العصر، وعملت القوة البريطانية على تغيير بعض جوانبه غير العميقة، دون أن تقوم بتغيير البنية الإقطاعية ــ المذهبية بل حافظت عليها. أي قامت بإلحاقها كنظام تابع بالهند اولاً مع إجراء التحسينات الضرورية لظهور جوانب من الاقتصاد الحديث.
لكن من خلال هذا الصدام بدأت تتبور خريطة الوعي الوطني المتصاعدة على مدى القرن العشرين، فالتقليديون وهم يواجهون الاستعمار، كانوا يبعثون مختتلف أشكال الوعي: الشعر، والمقالة، والرسائل، وهذا هو المستوى المبكر من هذا الوعي، وفي مرحلة الثلاثينيات مع توسع الحياة الثقافية عبر المدارس، والأندية وصحيفة البحرين، ظهرت أشكال أخرى: المسرحية الشعرية، والقصة القصيرة، والترجمة، والنقد.
لكن راحت أشكال الوعي المختلفة تعبر عن الفئات الوسطى بشكل متزايد، حيث غدت هي المنتشرة والقادمة من النسيج الوطني عموماً، ولهذا فإنها لم تجد في الأفكار الدينية التقليدية مادة جاهزة للنضال الوطني، فراحت تستوعب الأفكار العربية والإسلامية المبثوثة في الفضاء العربي؛ حيث كان الانبعاث القومي الإسلامي هو الصوت الرائج في المشرق العربي.
كذلك فإن المؤسسات الدينية . المذهبية لم تكن قاعدة للوحدة الوطنية والعمل المشترك، فأصبح التنوير والنهوض الثقافي أداة للوحدة وللحرية.
كان نمو الطبقة الوسطى البحرينية يعتمد على نمو ذنيك التوجهين الفكريين المتشكلين من جذور عالم الغوص والتجارة، فالاتجاه السلفي التحديثي، والاتجاه الليبرالي، أخذا يبرزان بصعوبة فيها. ويمكن ملاحظة ان الجسم البارز من المنحى الأول يبرز فى المحرق بصفة خاصة، نظرا إلى حجم تركيبة النمط القديم فيها، وتوجهه الوطني القومي الديني. فى حين ان الجسم الليبرالي الأكبر ظهر فى المنامة، بسبب النمو المتسارع للتجارة والحداثة فيها.
ولهذا نجد المنتديات ذات الطابع القومي الديني تبرز فى المحرق وتكون مقراً للنادي الأدبي وللمنتدى الإسلامي، فتكون أقرب للتركيبة التقليدية، فى حين كان الجسم الفكري فى المنامة يبحث عن توجهات جديدة لم تتبلور بوضوح. وفى البداية ظهرت نفس التوجهات [المحرقية]،فالتوجه القومي الديني هو الذي وجه النخبة، لكن النمو الليبرالي الأكبر لم يتبلور فى حركة أو اتجاه متأصل، وقد ظهر فى حركة الهيئة لكنه لم يصبح اتجاهاً، بسبب مستوى الطبقة ومحدوديتها التاريخية والاقتصادية، فليست هناك جذور عميقة موضوعية وثقافية راسخة للحداثة.
لقد استطاعت الاتجاهات الشمولية أن تهيمن على أبرز قطاعاتها، لسهولة وعاطفية شعاراتها، الأقرب إلى الأمية، ومن هنا كان الإنتاجان الفكري والسياسي محدودين قياساً بنظيراتها في الدول العربية، وتجربتها السياسية لا تعطيهما فرصة للتراكم وخلق أجيال من المتشبعين بثقافتها .ولهذا لم ينفرز الاتجاهان الليبرالي والديني، وحين انفرزا بعد عقود، تحول الأول إلى ليبرالية مقلدة للغرب بلا جذور، وصار الآخر متشدداً شكلياً بلا معرفة عميقة بالإسلام.
وكانت العلاقات مع الضفاف الإيرانية وجنوب العراق تجري كما كانت عبر التاريخ، ولكنها أخذت الآن تنموعبر الحدود الوطنية المعاصرة، فالاتجاهات المزدكية والمانوية الإيرانية والعراقية الضاربة الجذور، تتحول إلى تيارات ماركسية ودينية، وقد برز الاتجاه الماركسي الإيراني عبر حزب توده وامتداده السياسي في تجربة البحرين، منذ حركة مصدق وانهيارها ولجوء مناضلين إيرانيين إلى البحرين. لقد قام هذا الاتجاه بنقل حرفي لتجربته إلى البلد، خاصة إلى القطاع العمالي، في حين كان الاتجاه الديني، المتصف بالتوجه اليميني يتغلغل في شريحة التجار الصغار والموظفين. ومن هنا برزت في المنامة عملية النمو الفكرية والسياسية الأكثر وضوحاً وتبسيطية0 ولهذا فإن الاتجاهات الوسطية الأخرى لم تشهد نمواً متواصلاً 0
لكن النقل الحرفي للتجربة الإيرانية سيكون متكرراً فى تجربة البحرين السياسية، هو أمر يعود إلى تاريخ قديم كما رأينا في التجربة القرمطية، وقد تقاطع بالتجربة النضالية العربية القومية واليسارية، ثم ما لبثا أن تداخلا في فترة لاحقة.
أن تجربة المنامة الفكرية والسياسية سوف تتسرب بطبيعة الحال إلى المناطق المختلفة، حيث ستجد في المناطق الريفية حاضنتها الأكبر نتيجة للتأزم الاجتماعي الاوسع، وإذا كانت مدينة المحرق لم تشهد مثل ذلك النمو، فالأمر لا يعود إلى الجذور فحسب، بل أيضاً إلى محدودية التداخل والنمو المشترك الغني للمدينتين.
فالوعي الحديث غير قادر على دراسة جذوره، والقديم متقوقع في تجربته المحدودة، وفيما بعد سيكون للحركة الثقافية قدرة على بدء باوز هذه الثنائية.
أما الوعيان الفكري والسياسي فهما غير قادرين على تجاوز هذه الثنائية بسبب تلك التجربة الحدودة فى العمل السياسي العلني والجماهيري، وضعف أدوات البحث والاتصال.
https://isaalbuflasablog.wordpress.co...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصادر القرامطة :
( 1 ) : ( القرامطة بين الدين والثورة ، حسن بزون ، دار الانتشار العربي ، ص64) .
( 2 ) : ( المقريزي ، اتعاظ الحنفا ، نقلاً عن المصدر السابق ، ص67] .
( 3 ) : ( المقريزي ، عن السابق ، ص 68].
( 4 ) : (النجوم الزاهرة ، ج 3 ، ص ، نقلا ً عن القرامطة بين الدين والثورة ، 197].
( 5 ) : ( الإسماعيليون في العصر الوسيط ، مصدر سابق ) .
( 6 ) : ( المصدر السابق ، ص 55 ) .
( 7 ) : ( كتاب شجرة اليقين ، تأليف الداعي القرمطي عبدان ، تحقيق عارف تامر ، دار الآفاق الجديدة ، ص 6)
( 8 ) : ( المصدر السابق ، ص 10 ) .
( 9 ) : ( المصدر السابق ، ص 10) .
( 10 ) : ( المصدر السابق ، ص 10 ) .
( 11 ) : ( نفس المصدر ونفس الصفحة ) .
( 12 ) : ( القصة في سفر التكوين بالعهد القديم ) .
( 13 ) : ( شجرة اليقين ، ص 73 – 74 ) .
( 14 ) : ( المصدر السابق ، ص 74 ) .
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 25, 2019 17:49

وردة الشهيد

أذكره ذلك الفتى القادم من بغداد ، الذي جاء بأحلام الشعر والغد الجميل وكلمات الحب والحمام.
أذكره بطلعته الوسيمة ، وشعره الأسود الفاحم الكث ، ووجهه الأسمر المشرق ، كطفل دخل إلى غابة متوحشة ، وقبل ذلك كنت أراه مع فتيات القرى والمدن في لوريات دائرة الأشغال يحمل الحصى والتراب والحطب ، ويشتغل بين حشود العمال الكهول ، أولئك الذين بقوا من طوفان الغوص والبحر كأشلاء ممزقة ، كقدر شعبنا البسيط أن يسبح في دائرة العوز والبقاء ..
لماذا حمل الفتى أحلامه الكبيرة ، وسافر وتغرب ليجيء بحلم الشعر والوطن ، ليغدو شاعرا لم يكتمل ، كجميع مشاريعنا في النضال التي تتأرجح بين الممكن والمستحيل ..
[سعيد العويناتي] هذا الفتى القروي ، المدني ، العالمي ، الشاعر ، الناثر ، الصحفي ، الشهيد ، جاءنا مثل غيمة ورحل ، مثل عصفور ذو زغب وقتل ، مثل كل شهدائنا الذين تركوا روائحهم وذكرياتهم وأحلامهم في عظامنا ، وذابوا في السفن والمدن.
أذكره وهو بكل صدره المفتوح للغد والأمل ، لم يشيخ ، ولم يكتمل ، باق هناك في روحي ، لم ينزع قمصانه ولا ألقى أوراقه ، بسنه المكسور الأمامية ، بابتسامته الغريبة ، ولكنته وهو يلقي الشعر في ناد بـ[البلاد القديم] ، ولايزال الضؤ يترجرج بالظلام ، ودروب القرية مفتوحة لإجتماعات الفرح والدم ، وهو سعيد بأنه يمتلك كل المشاريع للغد.
أذكره في مثل هذه الأوقات المختلجة برعشة الشتاء ، بين النخيل وعند البحر ، ووجهه كأنه يتحد بالسواحل والتراب ، عبر مشروعاته الكثيرة للتغيير ، والتحديث ، والنضال مع الناس من رفع الأجور حتى إدخال الشعر في كل بيت.
كان طازجا ورقيقا وجلده الغض لايحتمل حتى الكلمات الجارحة ، وقد كيرنا وشخنا ، وامتلأت أجسادنا بالنصال والندوب ، وهو لايزال شابا فتيا متحدا بالصواري والحقول.
شاعرا أبديا في جسد الوطن ، خارج الجروح والسيوف ، معطيا ذاته وكلماته لكل بيت ، ونحن تعبنا وهو لم يتعب ، صامد في دائرته الشفافة ، الخالدة ، فأعجب كيف يتحول الشهيد ويكبر ، وكل مرحلة تعطيه عطرا ولونا ، فتغدو الشهادة مراقبة لنا ولضعفنا ولتخاذلنا وهزائمنا ، محرضة إيانا على الصمود والنضال والإزدهار مادة ومعنى.
كل الشهداء الذين مروا بنا ، ملأوا حديقة الوطن والأرض بالأزهار ، كل منهم وردة ناضجة بالرواء والماء ، كل منهم مشروع لم يكتمل في الحياة وأكتمل في الخلود ، كل منهم عطر أتحد بالشمس والهواء وتغلغل في الروح والدماء.
ليتهم كانوا معنا الآن ، ليروا كيف أن تضحياتهم لم تذهب هباء ، وأن كل شعرة من جسد ، وبيت من شعر ، وكل منشور فسفوري ألقي في زقاق ، وكل عظم تحطم ، وكل كلمة إنفجرت بها الحناجر على الجسر ، وكل صرخة أم ثكلى ، وكل نبض إنتفض ، كلها ، كلها ساهمت في بزوغ فجر الوطن وتحولاته ، في ميلاد مؤسساته الشعبية الديمقراطية ، في قدسية أسم البحرين ،وتحوله إلى حمامة فوق خريطة العالم ..
أراه الآن سعيدا بقفلتنا التي كانت منهكة ، ممزقة ، تائهة في الرمال والرمضاء ، والتي وصلت إلى نبع صاف ، إلى ماء عذب وفرح ومهرجان ..
لازلنا نحبك ياسعيد. لازلتم أيها الشهداء في مآقينا ، تشربون الحرية معنا ، وتسقون أجسادنا ماء التضحية والفداء ، وتناضلون بغيابكم العظيم وحضوركم الأبدي.
https://iakalbuflasa.wordpress.com/20...
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 25, 2019 17:33 Tags: وردة-الشهيد

وعي النهضة عند سلامة موسى დ

يعتبر سلامة موسى الكاتب العربي، أحد القلائل الذين أثاروا الجدل الفكري على مدى القرن العشرين، بسبب جرأة أفكاره وثباته الفكري الطويل لغرس قيم الوعي بالنهضة، عبر الكتابة والدعوة المستمرة لعدة عقود.
كان أبوه من الموظفين الكبار في الإدارة، فحصل على فرص كبيرة للقراءة والدراسة والسفر والتفرغ للفكر والإطلاع، ولكنه لم يفلح في الدراسة المنظمة سواء على مستوى الدراسة الابتدائية أو الثانوية أو الجامعية، وهو يقول: إن ذلك كان بسبب محدودية المناهج ورغبته في الخروج من قيودها، ولكن من الواضح أيضاً انه لم يكن ذا قدرة على التركيز الدراسي والبحثي العميق، فاتسمت كتاباته بالسهولة الشديدة والتنوع والتضارب في الأفكار والرؤى، رغم أنها كانت تدعو للنهوض بشكل عام.
وقد سافر إلى باريس، بشكل مغاير لسفر الطهطاوي، حيث كانت السرعة في السفر والتوجه إلى اليسار الأوروبي تحديداً، وخاصة الاشتراكيين والتطوريين، والصداقة مع أعلام الفكر الغربي كـ برنارد شو. وقد ذهل من دفاع اليسار الأوروبي عن قضية الشعب المصري، ودور برنارد شو خاصة في فضح محاكمة دنشواي الشهيرة التي قتلت مجموعة من الفلاحين غير المذنبين.
فوجئ في الغرب بكثافة الاهتمام بالحضارة المصرية القديمة، وغيابها شبه الكلي عن الثقافة المصرية المعاصرة وقتذاك، فكرس جزءاً كبيراً من وقته لزيارة المتاحف والاطلاع على الحضارة القديمة.
كذلك سافر ودرس في لندن الحقوق من أجل جلب شهادة، ولكنه كعادته لم يستمر في ذلك؛ وساح في الثقافة والأدب والعلوم، وحين عاد ركز على النشر، وكان أول كتاب له هو (مقدمة السوبرمان) سنة 1912، ثم أصدر سلسلة من الكتب، ورأس تحرير مجلته الخاصة، التي كرسها لنشر فكر الحداثة كما يراه.
يعبر كتيبه هذا، أي مقدمة السوبرمان، عن هذه العملية الفكرية التي بتضافر فيها العمق والسذاجة، وتتحد النوايا الطيبة بغياب الدرس العميق، ففكرة السوبرمان هي فكرة نيتشويه، دعا إليها مفكر الفاشية الألمانية: نيتشه، لخلق عرق متميز، يغدو بمثابة الإنسان الأعلى. الذي يتخلص من الإنسان الضعيف، وكانت هذه الفكرة تفتح فيما بعد الباب لعمليات التطهير والمذابح في العروق (الخسيسة) عند النازيين.
وبطبيعة الحال فإن سلامة موسى أخذ الفكرة بحسن نية، دامجاً إياها في فكرة علمية أخرى، هي نظرية التطور لـ دارون. فهذه الفكرة الكبرى في القرن التاسع عشر والتي فجرها العالم البريطاني دارون بكتابه (أصل الانواع)، كشفت لأول مرة ان العالم الحيواني خضع لتطور كبير، بدأ من ظهوره في الحياة البحرية ثم ارتقائه سلم التطور حتى ظهور أنواع الثدييات التي منها الإنسان.
وقد دمج سلامة موسى هاتين الفكرتين، ولكن عبر تطبيقهما على المستقبل، حيث سيظهر في اعتقاده إنسان متطور يختلف عن الجنس السائد حالياً. وهذه الفكرة هي التي عزفت عليها النازية. المتنامية منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى, وهي التي دمجت أيضاً بين الارتقاء المزعوم بالإنسان الحيوان وبين الاشتراكية.
هذه الفكرة التي بدأ سلامة موسى حياته الفكرية بها، تعبر عن ذلك المزيج الفكري المضطرب، فقد مزج بين فكرة علمية هي نظرية التطور التي قدم حولها كذلك سلسلة من الاستعراضات الشائقة، وبين فكرة ايديولوجية خطرة ليست سوى واجهة للعنصرية، وهكذا فإن سلامة جمع بين فكرين متناقضين، الأول هو فكر التطور الموضوعي للأجناس وللمجتمعات، والفكر الآخر هو فكر الفاشية البيولوجية، لكنه لم ير الدلالات المتوارية وراءها. ولديه هنا ذلك الخلط الذي استمر طويلاً بين البيولوجيا والاجتماع، بين التطور العضوي ذي القوانين الخاصة، والتطور الاجتماعي، مما يعبر هنا عن داروينية اجتماعية.
في رؤيته للنهضة وكيفية تحقيقها فإن سلامة موسى يواصل موقفه المبسط لها، فهو ببساطة يدعو للالتحاق بالنهضة الأوروبية، وترك العروبة والإسلام والماضي، وركوب القطار المتوجه إلى الحداثة.
يقول في أحد كتبه من سنوات أواخر العشرينيات من القرن الماضي وهو (اليوم وغداً).
«فالرابطة الغربية هي الرابطة الطبيعية لنا، لأننا في حاجة إلى أن نزيد ثقافتنا وحضارتنا، وهي لن تزيد من ارتباطنا بالشرق بل من ارتباطنا بالغرب. اننا اذا ارتبطنا بالغرب تعلمنا فلسفة عالية وأدباً راقيًا ووقفنا على اختراعات عديدة واكتشافات لا حصر»، ومن عناوين هذا الكتاب:
لسنا شرقيين، الدم الشرقي فينا جلبه علينا العرب، الجامعة المصرية هي أداة للثقافة الحديثة، الأزهر هو أداة الثقافة «المظلمة»، ليس علينا للعرب أي ولاء، لغة المتنبي ليست لغتنا، الرابطة الشرقية سخافة، الرابطة الحقيقة هي رابطة الثقافة وهي رابطتنا بأوروبا.
يعبر هذا الوعي عند سلامة موسى عن لغة التبسيط في تشكيل النهضة، فالنهضة هي استيراد كاستيراد البضائع، فهي علاقة كمية فتعبيره «أن نزيد» يعبر عن هذه الفكرة، فما علينا لكي نلتحق بأوروبا سوى أن نكثر من استيراد كافة الأشياء النهضوية كالاختراعات، وإذا كانت هذه الأشياء من الممكن استيرادها فعلاً وهي مفيدة جداً، فإن ذلك لا ينطبق على المؤسسات الفكرية، والعلاقات الاجتماعية التاريخية، فكيف يمكن أن ننقل عمليات التحول التي جرت أوروبياً في عدة قرون؟ هل نشحنها أم نقلدها؟
إن الوعي الاستيرادي لتجار الجملة واضح هنا، ويتوجه سلامة موسى إلى الدعوة لنقل تلك المنتجات الغربية، ولهذا لا بد من الانفصال عن الرابطة العربية والإسلامية، وعن العلاقة مع الأمم الشرقية المتخلفة، بل عن التاريخ العربي والدم العربي، وهذا ما يمكن أن يحدث قطيعة مع التراث ومع الثقافة المتخلفة، وبالتالي تتحقق النهضة.
هذه التبسيطية تتحقق في الواقع عبر انسلاخ مجموعات من الفئات الوسطى عن البنية الاجتماعية الإقطاعية، وهذا الانسلاخ لا يحدث الا عبر جلب مظاهر حضارية غربية مستوردة، لا يحدث لها أي جذر في تلك البنية، لأنها تتشكل كقشور ملونة فوقها.
إن ارتباط مصر بالعرب أو بالشرق ليس ارتباطاً لغوياً أو ثقافياً، بل هو ارتباط منظومة اجتماعية متماثلة، متعددة مستويات التطور، هي المنظومة الإقطاعية - المذهبية العربية في طور أزمة العلاقة مع التطور الرأسمالي الحديث.
وما يقوله سلامة موسى عن الانسلاخ من منظومة والالتحاق بأخرى، هو وهم طبقي، أي أنها أفكار وممارسات تتحقق عند مجموعات في الشرق تتوهم انها تتحضر عبر استيراد النهضة وليس إنتاجها، وهي هذه الفئات المستوردة للبضائع الغربية والافكار الغربية.
هكذا يكّون سلامة موسى الأفكار النهضوية لشريحة من الفئات الوسطى الحديثة، ذات المستوى المعيشي الجيد، والتي لا تدخل في علاقة صراع عميقة وواسعة مع الغرب الإمبريالي، مثلما لا تدخل في عملية صراع مماثلة مع الشرق الاقطاعي، ولكنها في الوقت الذي تريد فيه المماثلة والذوبان في الغرب، فإنها تريد الانسلاخ من الشرق.
إن هذه الطريقة الاستهلاكية والاستيرادية للمنتجات الفكرية والسلعية الغربية، لا تترافق مع عمليات إنتاج فكرية وسلعية وطنية، ولهذا فإن سلامة موسى لا يقيم مصنعاً لإنتاج الوعي الوطني، بقدر ما يفتتح دكاناً لجلب البضائع من المركز، وبطبيعة الحال فإنه يريد تطوير وتقدم البلد عبر ذلك، ولهذا يحرص على جلب أفكار النهضة والتطور وحرية المرأة والعلمانية وأهمية العلوم ونشر الأدب الشعبي والتخلي عن أدب الأبراج العاجية وضرورة تعلم الرقص الرفيع . . الخ.
وكل هذه تقدم أحياناً كمقالات مطولة وقصيرة في أغلب الاحيان، وتتجه إلى عرض الفكرة والترويج لها، بدون تحليلات معمقة. وكثيراً ما تقوده هذه الافكار الشعارية إلى الاصطدام مع القوة الاجتماعية المهيمنة، أي الاقطاع بنوعيه السياسي والمذهبي.
وإضافة إلى الطابع الاستفزازي فإن غياب التحليل العميق للشعار المراد جلبه ونشره في الشرق يؤدي إلى نتائج عكسية.
لكن علينا أن نعتبر فكرته بضرورة تغييب الرابطة العربية والإسلامية من تطور مصر الحضاري المنتظر، هو خطأ فكري مزدوج، فهو خطأ في قراءة سيرورة مصر، المتكونة بشكل عربي وإسلامي في العصر الوسيط، حيث حدثت نهضة كبيرة بفضل هذه المرحلة، ولكن النظام الذي هيمن غيب تلك الإنجازات، فيبدو التطور العربي الإسلامي عند سلامة موسى كفعل سلبي فحسب، فهو يغفل العناصر الديمقراطية والنهضوية في هذا السياق، مركزاً على الأشكال التي سيطر بها الاقطاع المذهبي على المسلمين، معتبراً هذه الأشكال هي كل ما أنتجه العرب والمسلمون.
ولا شك أن فرز هذه العناصر المتضادة يحتاج إلى دراسات معمقة، وتحليلات في البنية الاجتماعية ومستوياتها، وهي أمور لم يقم بها سلامة موسى، فيجد أمامه الثقافة العربية الإسلامية كثقافة تقليدية يجب الإطاحة بها، وحتى هذه الإطاحة تبقى غير مبلورة، بل هي شعارات موجهة ضد لغة عربية متكلسة، وهو أمر صحيح، وقد ساهم هو في زحزحة هذه اللغة المقعرة الجامدة، بلغته الرشيقة السهلة الواضحة. ولكن مسائل إزاحة الجمود والتخلف في ثقافة هي غير إلغائها، ويبقى وعي سلامة موسى غير قادر على كشف هذه اللوحة المعقدة والمركبة للثقافة العربية والإسلامية.
ليس لأنه يأتي إليهما من الخارج، بل لأنه لم يدرسهما بشكل عميق، وأغلب قراءاته هي للنتاج الغربي عموماً، وهو يريد إدخال شعارات هذا الغربي المتطور إلى عالم يرفضه ويريده ان يتغير.
إن رغبته فى تشكيل مصر بالصورة التي يريدها، حيث لم يقم بالكتابة عن اي بلد عربي آخر، ودوره في هذه الكتابة الطويلة وخلق القراء، لا تؤدي إلى نتائج كبيرة في الواقع والمناخ الثقافي الفكري، وعلى العكس فإن المناخ يتجه إلى نقيض افكاره، وجهده في خلق تنوير يُستبدل برواج الاتجاهات السلبية والمحافظة.
وهذا المصير الفكري والاجتماعي هو غير مسئول عنه، ولكن هذا المصير يحدد كيف تضيع سنوات من العمل الفكري وتتدمر بذور التنويريين، من دون أن يروا آفاق عملهم.
كان التطور الاجتماعي والفكري في مصر يتجه بخلاف آراء سلامة موسى بضرورة اعتماد التدرج الاشتراكي في عمليات الإصلاح، فالمدينة الاقطاعية التي أسستها السلالة الملكية كانت تتجه إلى الانفجار، والتحولات الرأسمالية على مدى قرن كامل، لم تستطع تشكيل تحول رأسمالي جذري، على صعيد تشكيل سلطة ديمقراطية أو على أساس نمو تحديثي في كافة مستويات البنية، فبدأت المدن تتضخم سكانياً من جراء تطورات رأسمالية متضادة، وبدأ الريف يضغط، ونستطيع أن نعتير سيطرة الضباط الأحرار هو انتصار للفلاحين المتوسطين بثقافتهم الدينية والحديثة المتداخلة، بحيث حافظوا على التعايش بين النظام الإقطاعي والنظام الرأسمالي، وعبر سيطرتهم على رأسمالية الدولة، انتقلوا الى صفوف الأغنياء، وأدى هذا التطور العسكري، إلى استنفار القوى المحافظة وعودتها بعدئذ إلى الهيمنة بشكل أقوى من السابق.
موسى ناضل من أجل نمو التحديث والليبرالية والإصلاحات الاجتماعية التي يسميها الاشتراكية، ولكن ما حدث هو نمو الاتجاهات الشمولية، ولم يسهم في رصد هذا الصعود بسبب أدوات تحليله المبسطة، أي عدم قراءة البنية الاجتماعية وبالتالي لم يشكل تياراً يقاوم هذا الاكتساح المستقبلي، رغم اهتمامه الشديد بالمستقبل، وذلك عبر عدم جمعه بين العروبة والإسلام والتحديث، بين العلمانية وتحليل الجذور التاريخية للأمة، بين الانتماء للشرق والانفتاح على ثمار الأمم النهضوية، بين الدفاع عن الديمقراطية وتقدم الأغلبية. . الخ.
هذه التركيبة الجدلية كانت تستدعي دراسات على مستويات الماضي والحاضر، الشرق والغرب، وهذه الإمكانية التوليفية لم تكن ممكنة لجيل كامل من النهضويين، تقاطع وعيهم بين قطبين، قطب الشرق والتراث، وقطب الغرب والمعاصرة، وهو أمر يعكس هيمنة الفئات الوسطى غير الصناعية، والمستوردة، التي تستورد الموديلات الجاهزة من الماضي أو من الحاضر الغربي، وليست قادرة على التصنيع وإعادة تشكيل الواقع، وهو أمر يتطلب تغيير المواد الخام التراثية والراهنة، تبعاً لتطور مصالح الأغلبية من الشعب والأمة.
إن الشعارات السهلة والتنويرية لا تقود إلى محصول كبير، فمن السهل المطالبة بزوال الأزهر كمؤسسة دينية ولكن من الصعب دراسة هذه المؤسسة وتيارات الوعي فيها، وطرح اجتهادات في الخطاب الديني نفسه، وهذا ما أخذت التيارات النهضوية العربية الجديدة تعيد النظر فيه، وبدأت دراسات علمية فى هذه الجوانب.
والدراسة العميقة تودي إلى غياب الشعارية والتسييس الُمبسّط والخطر وتقترب من رصد الحالة الموضوعية للتطور، واحتمالاتها المختلفة، وبالتالي تغدو أكثر تبصراً على صعيد التأثير اليومي.
بطبيعة الحال أسهم سلامة موسى في نشعر ثقافة تنويرية ونهضوية في حدود معينة، وهناك أجيال من الشباب تدين له بالفضل بسبب دعواته للعلم والثقافة والتمدن، وقد شرح العديد من النظريات ببساطة، ولكن يبقى أن يؤخذ تراثه بقراءة جديدة وبحذر علمي.
وهناك دراسات كبيرة كتبت عنه، ولكنها إما أن تمدحه بإفراط أو ترفضه بتعصب شديد، ولهذا فإن دراسة موضوعية عنه، وتجميع كتبه في طبعات جديدة كاملة، هي أمور ضرورية لاكتشاف وعينا العربي المعاصر بشتى جوانبه.
لقد كتب عنه الباحث المغربي عبدالله العروي في تقويم أقرب إلى الدقة حين وصفه بانه نموذج لـ سبنسر، وهو المؤلف البريطاني الذي مزج بين الداروينية البيولوجية والحياة الاجتماعية.
وليس صحيحاً ما قاله المفكر محمود أمين العالم عن سلامة موسى ورفضاً لرؤية العروي: إن سلامة موسى له جذور بابن خلدون وغيره من المؤرخين والباحثين العرب.
عبـــــــدالله خلــــــــيفة : السرد في زمن الإبداع
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 25, 2019 11:52 Tags: وعي-النهضة-عند-سلامة-موسى-დ

September 24, 2019

عبـــــــدالله خلــــــــيفة ‏‏‏‏‏‏: النظر بموضوعية في تاريخ الإنسان





لا يمثل تاريخ الأديان سوى واحد بالمائة من تاريخ البشر، في حين تحتل الأسطورة الــ99% منه.





أما تاريخ العلم فحتى الآن لم يصل لشيءٍ من ذلك.





ولهذا حين ظهرتْ الأديانُ حاولتْ أن تخفف من الأسطورة بالاعتماد على بعضِ ركائزها.





تاريخُ العلوم الضئيل لا يعني عدم أهميته الجبارة ولكن نسبة وجوده في حياة البشر محدودة، وحتى في العصر الحديث فإن الاختراعات والصناعات هائلة لكن أن تتجسد كتاريخ فكري علمي في حياة الناس فهذا أمر آخر.





ومن هنا نجد أن تاريخ المجانين والطغاة والمرضى النفسيين وأصحاب الهلوسة الذين صاروا زعماء وقادة امبراطوريات وأحزاب وأشعلوا الحروب التي راح ضحيتها الملايين من البشر وكذلك الغابات والمدن والأشياء من الجماد والنبات، فهم أكثر بكثير من الفلاسفة العقلانيين.





وكذلك كانت الجماعات الدينية المهلوسة والعصابية والمجنونة بفكرها وسلطاتها وأحكامها الباترة بقتل البشر والتضحية بهم واستغلالهم أكثر من قطرات المحيطات وشعور الرؤوس في شتى الأزمنة!





فكما أن العلوم مثل قطرة في المحيطات، فكذلك العقل الإنساني لحظة وامضة نادرة في الوجود.





الإنسان كائنٌ خرافي، لا يعترف بأنه جزءٌ ضئيل من الطبيعة، أمه التي انقطع عن ثديها بأوهامه الخيالية، ومع ذلك فلايزال يعتبرُ الأسدَ ملكهُ في الغابة، والذئبَ رفيقه في حملاته لتصفية المعارضين، والحية سيدته التي تقدم له السموم،(وكان العسلُ المسموم مادة لتغيير التاريخ والحكام).





الإنسان الخرافي يستخدم شتى الأفكار ليجعل من نفسه الكائن المختلف عن الطبيعة، ولكن قوانينها سارية في جسمه، فأقل خطأ بيولوجي في تركيبه يحيله إلى عدم.





عاش الإنسان بأغلبية تاريخه على الأوهام، وذلك لأسباب موضوعية خارجةٍ عن إرادته ككائن، فالطبيعة مسيطرة عليه بميلاده وموته، وهي طبيعة ليست في خدمته، بل معادية له، لأنه نشأ داخل تطوراتها التي لم يتحكم فيها، فوجد نفسه داخلها، فراح يسيطر عليها بصعوبات جمة كثيرة خارقة، وتاريخه الحقيقي مبنى على هذه السيطرة المحدودة.





كما واجه من داخل تاريخه الإنساني عقبات لا تقل خطورة ومأساوية عن عقبات الطبيعة الضارية العائشة على لحمه وعقله، فظهرت أنظمة حيوانية طبيعية، وهي تاريخية مع ذلك، تنهش أيامه القليلة في الوجود، هي امتداد لحيوانية الأسد والذئب والحية، فغدا مثل نقطة الزيت على الصفيحة الملتهبة، فكيف ينتج منه فكر عقلاني؟





يغدو دفاع الإنسان الأول هو التمسك بالمعيشة البسيطة، أن يكون له منزل وعائلة وامتداد، أن يكون أعلى درجة من الجمل والضفدع، وحتى في هذه المكانة الحيوانية المتدنية فلا الطبيعة القاسية تتركه ولا الطبيعة الحيوانية السياسية تدعه يعيش بكرامة. فكلتا الطبيعتين لها البراكين والزلازل والفيض البحري والأمراض، وللطبيعة الثانية السجون والدكتاتوريات والحروب والتجارب النووية والأنظمة الباطشة اللامسئولة العداونية.





فيظل ملجأه الأمل والحلم الأسطورة والدين، هما يخلقان له عالماً سعيداً له أوله ونهايته، وقد يتحولان هما أيضاً إلى جزء من الطبيعة الحيوانية الباطشة، لأنهما جزء من تفكير الإنسان التاريخي، لهما دور نهضوي لإحداث تقدم في حياته، ولهما دور الزنزانة التي تعتقل قدراته وتحجم عقله، من أجل مصلحة القوى الحيوانية الاستغلالية التي حولتهما إلى دور تعطيلي بدلاً من الدور النهضوي.





ولهذا فإن تاريخ الإنسان بمعظمه هو تاريخ الحيوان الضاري، فانظر إلى جيوشه واسمائها، كيف أخذت من الحيوان رموزها، ومن الطبيعة الجائرة عناوينها: جماعة الفهود السود، والصاعقة، والرعد، والشهاب اللامع، والأسد، والضبع، والفهد الخ..





وأخذت من الطبيعة البعيدة اللامبالية بالمشاعر والقلوب والعقول رموزها، فقالوا دولة الشمس وحددوا الضباط بأنهم ذوو رتب من النجوم ليكرسوا فيهم الابتعاد عن الإنسان، وقالوا آلهة القمر ودولة القمر والتيجان ووضعوا النسور والمناشير والسيوف رموزاً في أعلامهم لتدل على الأسنان والمخالب الضارية!





فهي تعترف صراحة بأنها جزء من الطبيعة القاسية ومن الجماعة الحيوانية الآكلة لحم البشر!





وفي الخيال تقول انها غير ذلك، وهي الاكتمال والطهارة والقداسة، وهي دولة الوطن الواحد والقانون والدستور والديمقراطية!





لا تريد الدول أن تقول إنها جعلت الأسود تحكم لتنهش من اللحوم وتستأثر بالأموال وتتلاعب بأموال الفقراء الهزيلة، بل انها تضع أقنعة (إنسانية) فوق وجوهها وقد قال الشاعر (إذا رأيتَ نيوبَ الليث بارزة..)، وهو تعبير ليس عن مشابهة شكلية بيانية بل إدراك لطبيعة السلطات.





وقال العامي الفصيح (الذيب ما يهرول عبثاً)، فحتى هرولة هذا الوحش التي تبدو صنيعاً إنسانياً تستهدف اللحم الاقتصادي أو البروتيني، وقد تداخلت اللحوم.





وكما أن العلوم تمثل شيئاً رمزياً في الاحصاء العقلاني لتاريخ البشر اللاعقلاني والخرافي فإن الجهود المناضلة لأنسنة تاريخ الإنسان هي مثل ذلك، وربما أقل، لأن الجهود في تشكيل مجتمعات إنسانية خالية من الأسود والفهود وشموس المناجل والمطارق النازلة على جماجم البشر، هي نادرة وقلما تفلح وتصمد لأن الحيوانات البشرية تظهرُ بشكلٍ مستمر من داخل هذه الجماعات والمجتمعات بسبب قصور التنظيمات والوعي والمراقبة وتخلف أساليب الإنتاج لدى البشر عموماً.





فهذه الحيوانات البشرية تريد أن تستحوذ على الغنيمة الاقتصادية وتنهشها بسرعة وتحتفظ بها، وتجعل ذلك أسلوب عيشها وسيطرتها. وهذا يعتمد على مدى يقظة المذبوحين والمسلوخين والعمال، دجاج التاريخ الطازج، هل ينتبهون ويقاومون أم يتركون الذئاب ترعى في مرعى الغنم؟





 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 24, 2019 12:09