عبـــــــدالله خلــــــــيفة's Blog: https://isaalbuflasablog.wordpress.com , page 102

August 5, 2019

عبـــــــدالله خلــــــــيفة【تفتيتُ المكونات】

[image error]


الكتابُ الدينيون يجسدون بوعيهم المتعددِ التكويناتِ شكلَ الأزمة الفكري في المنطقة.
إنهم يتهمون الفكرَ الليبرالي والفكرَ التقدمي بانهما تابعان للغرب، لكونهما لم يندمجا في المذهبية الدينية، وهما بذلك خارجان عن نسيجِ (الأمة الإسلامية)، وكلمة (الأمة) هذه إحدى إشكالياتِ هذا الوعي المنفصمِ عن التاريخ.
إن كلَ مذهبيةٍ تتصورُ أنها الأمة الإسلامية، فلدينا إذاً مجموعات كبيرة من الأمم الإسلامية: الأمة السنية، الأمة الشيعية، الأمة الدرزية، الأمة الحوثية الخ!
لماذا هذا الاصرار بعد قرونٍ من الثوراتِ الفكرية التي اجتاحتْ العالمَ ونشرتْ مناهجَ علومِ الاجتماع والسياسة والفلسفة، نجدُ كتاباً ينكرون الحراكَ والصراع في المذاهب، ويشكلون أمماً وهميةً وعلى ضوءِ هذه الأمم الوهمية يشكلون برامجَ سياسية وتعليمية واجتماعية ويحركون الخرائطَ البشريةَ من خلالِ تلك التصورات الوهمية؟
يقومُ الديني صاحبُ هذا الوعي بإطلاقِ تلك الألفاظ على ذاته، فهو(الإسلامي) وحين يمر على تياراتٍ مذهبية أخرى يضعها في خانة مغايرة للإسلامي، التي احتكرها لذاته المميزة المنفصلة.
ومن هنا، بطبيعة هذا الوعي، أن يجردَ هذا المذهبي الليبراليين واليساريين من الإسلام، ومن وطنيتهم، ومن قوميتهم، ويعلقهم في دائرة الارتباط ب(الغرب)!
ما هو هذا الإسلام الذي يؤمنُ به؟ هو هذه المذهبية الصارمة الشكلانية في العبادة بدرجة أساسية، لأنه لا يجد خارج هذه الممارسات العبادية شيئاً جوهرياً آخر! خاصة انه يتعامل مع عامةٍ يريدُ الهيمنةَ عليها من خلال هذه العبادات، وخارج هذه العبادات هو لا وجود له. فهو حراكٌ سياسي مذهبي وليس إنتاجاً لأمة متحضرة.
وحين يتعمق ويسير بهذه الممارسات العبادية إلى منتهاها سيُعلبُ التاريخَ، ويسقطُ فهمَهُ المذهبي على التاريخ الإسلامي. ولا نعرف كيف سيحولُ الصحابةَ إلى مذهبيين؟ وإذا لم يكونوا مذهبيين فماذا كانوا؟ وإذا كانوا رموزهُ فلماذا هو مختلفٌ عنهم؟
وإذا كان الصحابةُ ليسوا بمذهبيين فمن أين جاء بمرجعيتهِ المقدسة هذه؟! إذاً هو كائنٌ جذورهُ ملتبسة، لكنه يفرضها بقوة في السياسة خاصة. فلماذا؟؟
هي معضلةٌ عميقةٌ منتشرةٌ أزّمتْ الواقع، والمذهبيون السياسيون قادة الحراك والتأثير الشعبي يشلون الشعوبَ والأمم الإسلامية عن التقدم، والأممُ الإسلاميةُ في أزمةٍ تاريخية خانقة!
حين يكونُ المذهبُ(أمةً) فعلينا أن نفتتَ الأقطار العربية الراهنة حسب مكوناتها (القومية) هذه!
آخرون لا يتحدثون بصراحة عن كون المذهب أمةً، يطرحون مسألة الأخوة المذهبية، السني أخو الشيعي، الدرزي أخو الإسماعيلي، لكن كيف يكون أخوه وهو مختلف عنه، وجذورهما مقطوعة متشكلة من خلال عداء حسب هذا الوعي؟
هي مسائل تطرح بكل فجاجة العصور الوسطى المظلمة، أنها الموادُ الخامُ لتلك العصور، وقد غدتْ سياسةً يومية، وعليك أن تحاورها وتحللها.
عمليةُ جوهرةِ المذهبِ، أي جعلهُ مفارقاً لتطورِ التاريخ، وتعليقهُ في فضاءٍ مجرد، فليس هو تكوينٌ تاريخي تشكل في زمن، بل هو جوهرٌ لا يقبل التغيير، هو مطلقٌ مرتبطٌ بنورٍ إلهي يتصوره هذا المذهبي، وهو قادمٌ من السماء وبالتالي من المستحيل تغييره وتبديله، ومرتبطةٌ به وقائع ورموزٌ، وهو محبوسٌ في هذا الكيان الغيبي السرمدي، ومبرمجٌ في السياسة اليومية على أساسه.
لكن علينا في السياسة وعلم الاجتماع أن نعيش على الأرض ونفهم التاريخ كمادة واقعية. فالإسلام تكون في ذلك الحين في وجود مصادر فكرية دينية سابقة ومن الثقافة العربية (الجزيرية)، ومن الأدب الشعبي (السحري) لكي يقومَ بعمليةٍ سياسيةٍ كبيرة توحيديةٍ تجميعيةٍ للقبائل لتكوين دولة، وبعد أن ظهرتْ الدولةُ برزتْ الصراعاتُ الاجتماعية فيها وتغلبتْ القوى الارستقراطية القبلية الغنية، ونشأتْ المذاهبُ المعبرةُ عن هذه الصراعاتِ الاجتماعية بين أسرِ الأشراف والعامة، وكلٌ منها جعل مصدره غيبياً مطلقاً ومعبراً عن الكل المقدس الخاص به، لكن الأشراف استمروا متحكمين مؤدلجين المذاهبَ لمصالحِهم ومقسمين نواةَ الأمة العربية تلك ثم الأمم الإسلامية التي تكونت بعد ذلك في خريطة الأرض الواسعة إلى مذاهب كل منها ينفي الآخر في صراعاتٍ سياسية واجتماعية. فإلى متى؟
المذهبيُّ السياسي لا يَحتارُ في تاريخه، لأنه لا يشتغلُ في تحليل التاريخ، وهو أيضاً يريدُ(ثورةً) ويريدُ تغييراً للعالم!
كانت الثورةُ الإسلاميةُ المؤسِّسة بلا مذهبيين، فلو كانت قد تشكلتْ بمذهبيين لم تقمْ أصلاً!
لماذا لم يكن الصحابةُ مذهبيين؟!
الجماعةُ المغيرة كانت تضم تجاراً وفقراءً وعبيداً، ولم تخلق بينها تفرقة مذهبية، التوحيدية النهضوية تغورُ فيها، أصولُ القبائل والطبقاتِ لم تكن أساساً للدخول في تجمعها، لولا أن قبليةَ قريش كانت بؤرة محورية فيها، لكن لم تُوضع كشرطٍ للانتماء، ووضعت المساواة بين أفرادها. لكن القرشية أنشأتْ من جهةٍ أخرى وبعد هزيمة الثورة الإسلامية: الارستقراطيات أو أسر الأشراف المتصارعة المؤسِّسة للمذاهب.
المذهبيُّ السياسي وهو يستعيدُ هذه الأسسَ التكوينيةَ لــ(الأمة) ويقصدُ جماعتَهُ المذهبية، يُسقطُ عليها تاريخَه الراهن، قوقعتَهُ الطائفيةَ التي تعزلُ وتضمُ الموادَ حسب قربها من هذه القوقعة، يبعدُ من لم يمضِ في مشروعهِ الطائفي، ويوهجُ ويعظمُ من سار معها.
ويغدو التاريخ ذاتياً، الجماعة الموحدة في ثورتها التأسيسية، يفتتها حسب منطقه. وهو وليد الثورة المضادة على الإسلام يجعل من نفسه ثورياً.
وضعت الوحدةُ اللامذهبيةُ، أساسَ التاريخ الإسلامي والفتوحات والتكوينات القادمة والحضارة.
من أسسَّ التاريخَ لم يكن مذهبياً، المذهبيةُ لا تخلقُ حضارة، أو دولة، المذهبية تستلمُ منجزات سابقة، تستلم دولةً كبيرة ناجزة وتعضُ عليها بضروسِها الحديدية.
حين تستلم المذهبيةُ السياسيةُ الدولةَ التوحيدية تخربُها، حتى لو استمرتْ هذه الدولةُ قرناً كالدولة الأموية، أو قروناً كالدولة العباسية وما بعدها من دول.
تقوم المذهبيةُ بنخرِ الدولة التوحيدية التي أستلمتها، عبر ارستقراطية الشيخ البدوي المهيمن وعائلته وزوجاته وأنماط الثقافة المترافقة معه، وهي التي قفزت إلى السلطة وإنتزعتها من الدولة التوحيدية، هذه الارستقراطية غائرة في تاريخ البداوة والقبلية والاستغلال، تبدأُ من بئرِ الماءِ حتى بئرِ البترول.
يقعُ بئرُ الماء على ضفافِ الاقتصاد تكملهُ مُلكية القطعان والعبيد والتحكم في الفقراء، فلا ميزانية حقيقية، ولا رقابة، ولا ديمقراطية.
تنخر الدولةُ المذهبيةُ في الاقتصاد إستغلالاً وأثرةً لجماعةٍ دون جماعات الناس. ومهما كانت توسعاتُها ومهما كانت حروبُها وغنائُمها فهي ذاهبةٌ لزوالٍ وتفككٍ وتمزيق، فهي لا تنتجُ وحدةً أكبر، بل تنتج شظايا دول ودويلات.
قامت الدولُ المذهبيةُ بإنتاجِ التفتت: تفتيت الإسلام من وحدته ومن مضمونه النضالي التوحيدي، تفتيت الشعوب، تفتيت القبائل، تشكيل الخرافات السياسية والاجتماعية المختلفة، تفقير الفقراء مادةً وثقافةً الخ..
أما ما نراه من إزدهار في فقهٍ وفكرٍ وأدبٍ وفلسفةٍ فهو محاولاتٌ لخقِِ وحدة ونهضة على نموذج الثورةِ المؤسِّسة، وخلق تنوير ومحاولات لتجاوز المذهبية السياسية المُفكِّكة لعُرى العرب والمسلمين. لكن هذه المحاولات لم تنجحْ بسببِ عدم تحليلها العميق لأزمةِ وإنسدادِ بابِ الدولة المذهبية، وكون المعارضين الذين أنشئتهم ظهروا وهم مصابون بنفس وباء المذهبية.
فهي أي هذه النتاجاتُ الفكريةُ والدينيةُ والثقافية كانت ترتكزُ على خلايا المذهبية المصابة بالسرطان الطائفي.
الدولةُ المذهبيةُ تخلقُ دولةً مذهبية أخرى معاديةً منافسة، والدولتان تشيعان الانقسامَ بين المسلمين في كل شيء، وتنشران الانقسامَ في كل  مكان، وهذا الانقسام يؤدي إلى إنقسامات مذهبية سياسية جديدة، وهكذا تتوالد التكوينات المريضة تشل الجسد الأمبراطوري الهائل وتحيله إلى فتات.
ولكن المذهبي السياسي المعاصر يتطلعُ بكل فخر لهذا التاريخ.
إنه يستخدم عمليات التنحية للأخطاء والسلبيات، يجوهرُ التكوينَ المذهبي خارج التاريخ، يلونه بالألوان المشرقة، فإذا كان من المستفيدين من الدولة المذهبية خفف أخطاءها، وإذا كان من المتضررين فاقم هذه الأخطاء، والدول المذهبية تعيش على هذه الانقسامات، ويقوم المذهبيون السياسيون المختلفون بالتصادم.
ثم إنهم يريدون تشكيل ثورات ونهضات بهذه الأفكار!
السياسي الفاسد الاستغلالي والمذهبي السياسي وجهان لعملة واحدة، فحين تنحت الدولةُ الإسلاميةُ المؤسسة عن صدارةِ التاريخ، كان هذان الوجهان من العملة غير موجودين، وحين ظهرَ الوجهُ الأولُ من العملة ظهرَ الوجهُ الثاني. هما متلازمان ويحتاج كل منهما إلى الآخر، وان بدا أنهما متعاديان في بعضِ لحظات التاريخ، فحين تأسست الدولة المذهبية حتى بخطواتها المتقطعة: أموية، عباسية، أدرك السياسي الحاكم أنه يقاطع تاريخاً سابقاً، أنه ينقضه ويؤسس تاريخاً مختلفاً، فلابد له من تحويل الآراء الاجتهادية في الدين إلى مذاهب، لابد أن يفتت لحمة المسلمين المتوحدة، فكما أنه استولى على أرزاقهم فقد استولى على تراثهم كذلك، فقام بتحوير التراث التوحيدي وأدلجته، مثلما كرس الجانبَ الأكبرَ من الخراج له ولأسرتهِ وطبقته.
ولهذا فهو بحاجةٍ إلى تفتيتِ وإزالةِ المثقفين التوحيديين، وتصعيد غير التوحيديين المفتتين للناس. لابد أن يهدمَ الاعتزالَ الداعي للتوحيد من منطلقاتٍ عقلية مثالية، وأن يقوي حضورَ المذهبيين الآخرين حتى لو كانوا مخالفين له، أي مخالفين للمذهبِ الذي كرسهُ عبر اضطهادِ الأئمةِ منتجي النصوص الاجتهادية التوحيديين، وإنتاج رجال دين طائعين منتجين للمذهبية الانقسامية.
يتم إيجاد المذهبية السياسية الطائعة للحكم عبر صنوفٍ متعددةٍ من الاضطهاد والاستغلال. فالسياسيلا الفاسدُ وقد استولى على الخراج، يستطيع أن يضطهدَ الاعتزاليَّ التوحيدي، ويَعيشهُ في ضنكٍ وفقرٍ حتى يتعب هذا من إنتاجه للفكر، الموحِّد، لينتج فكراً تقسيمياً، وليحول وعيه المثالي المتابع لانهيار التوحيد والبحث في جذور ذلك وسببياته، إلى أن ينظرَ لهذا التاريخ الاسلامي غير المتسق والمتناقض إلى أنه تاريخٌ متسقٌ وغيرُ متناقض، وأن الدولة المذهبية هي استمرارٌ للدولة الإسلامية التوحيدية، فليس ثمة فروق جوهرية، بل هي ظروف الزمان والمكان، وليس إلى ظروف السيطرة على الاقتصاد وتحويل الفوائض من جموعِ الناس لطبقةٍ مخصوصة.
وهذا ما يتم في الفقه فمن توحيديةِ الأئمة ونقدهم للانقلاب الاجتماعي، ومن إلغاء الشروط العامة للدولة من توحيدية سياسية ومن خراج مخصص للأمة، ومن انتخاب للحاكم، يتم تبديل هذه الشروط، وإنتاج شروط جديدة من صنع رجال دين تابعين للدولة. فتصبحُ شروطُ الحاكم هو من كان سليم الجسم والعقل و(عادلاً) أي تتم صناعة شروط فردية جسمية وليس شروطاً اجتماعية شعبية أي يجري وضع شروط مطابقة للدولة الاستغلالية، حتى يغدو الحاكم أي كائن تفرزهُ ولاداتُ وصراعات الطبقة الحاكمة سفيهاً، أو حتى مجنوناً كما ظهر الحاكمُ في بعض الأحيان وهو يسكر ويضرب القرآن بالسهام، أو يتآمر مع العدو، لكنه حالته العادية غير الاستثنائية هي إهدار مال المجتمع في شؤون الذات اللاهية.
وبتجميع هذه الخصائص من فقهٍ وفكرٍ وثقافة وقد قُطعتا ارتباطاتها بمصالح الناس، وبتقدم المسلمين، وصارت خادمات للسلطان، يُؤسسُ المذهبُ السياسي.
أي تتم تنحية خصائص التوحيد وتُثبت خصائصُ التفريق.
والناسُ بوعيها الغائر في الحاجات اليومية وسوء العيش تتحسسُ من هذه المذهبية، وقد سُيست، والحاكم يدعوها لها لكنها تخشاها، إنها مثل الحاكم صارتْ بعد التطويع والعقود من السنين مذهبيةً، لكنها مذهبيةٌ اجتماعية، غيرُ مُسيسة، بينها وبين الحاكم هوة المصالح المختلفة، واختلاف الطاحن والمطحون وخوف العامي من النار.
المذهبية الاجتماعية وقد كُرست من خلال سنين طويلة جعلت المسلم والمسلمة متقوقعين في شروط العبادة، وقد تقطعتْ بهما السبلُ لفهم الجذور، ولقراءةِ التطور وفهم السببيات. يرى المغايرَ له يتوجهُ للعبادةِ بشكلٍ آخر، فلا يصارعه، فقد قبل التنوعَ، مثلما قبلَ التنوعَ في الديانات، التي الأخرى غدت عبادية.
لكن لابد للعامة خاصة في بعض الأزمات ولحظات الصراع والاضطرابات أن تكون مُسيَّسةً، أو جزءًا منها يغدو مُسيساً، فلابد من إدخالها الجيشَ والشرطة ومصلحة الخراج وغيرها من الدوائر التي تقومُ بإنتاج القوة مع الناس أو ضدهم.
والمذهبيةُ السياسيةُ بطبيعةِ تكوينها هي من نتاجُ الخلافاتِ والصراعاتِ السياسية التفكيكية بين المسلمين، فهي صارعتْ التوحيدَ وعزلتهُ عن المسار التاريخي، وهذه الإزاحةُ لا تشتغلُ في الفراغ، بل تشتغلُ بين الناسِ وبين أفكارِهم وعواطفِهم وأحلامهم، عبر الحروبِ الطويلة والصراعات الدامية والسلمية، والعزل والرفع، فيرى الناسُ أن مقدساتَ الدين غدتْ خادمةً للسياسة، وأن كلَ حزبٍ يقومُ بتبرير سياسته عبر ذات المقدسات، والعامة لا تقدر أن تفهم هذه التناقضات، بأن تعرضَها على مشرحةِ التاريخ فتحللها، فقدراتها لا تسمح بذلك وقد قُطعتْ عن الفكر وعن العلوم، وخُصصت للخدمة وإنتاج الخراج.
لكن الحاكم يحتاج إلى تسييسها، وهو لا يبتكرُ المذاهبَ الأخرى المنافسة أو المعادية، بل هي موجودةٌ من صراع التاريخ نفسه. فتشتغلُ المذهبيةُ السياسيةُ الحاكمة على تأسيس العداءات، مثلما أن المذهبيةَ السياسيةَ الأخرى تقومُ بذلك من موقعٍ آخر، وبمفرداتٍ مقدسة أخرى، وتحرك عامةً آخرين.
يخافُ المذهبي السياسي من التوحيد رغم أنه يلهجُ بلفظهِ كل يوم، فثقافتهُ تقومُ على التفكيك لا التوحيد.
حين كانت عصورُ الظلام، حين كانت الامبراطورياتُ العربيةُ والتركية والفارسية تلفظُ أنفاسَها، كانت ثقافةُ التفكيكِ تنشرُ أجسامَ هذه الدول الكبيرة وتفتتها، كانوا يوحدون الناسَ بالسيف ويفرقونهم بالمذاهب.
وقد سُميتْ عصورُ التفككِ والتخلف لأنهم كانوا يزيلون أفكارَ التنويرِ والتوحد والنهوض المشترك للشعوب والأمم الإسلامية، ويحرقون كتبَ الفلاسفة وعلماءَ الطبيعة وينشرون كتباً تفسر بألف طريقة ثقافة التفتيت.
ومن هنا يصرُ المذهبيلا السياسي الآن على العداء للغرب والعلمانية والديمقراطية، فيخلطُ الاستعمارَ بثقافةِ التوحيدِ من أجل أن يُضفي عليها المظلةَ الاحتلالية ويبعدُ الناسَ عنها حتى لا يتوحدون.
وحين كانت الامبراطورياتُ في حالاتِ الانهيار وتعرضَ المسلمون للتفتيت الجغرافي إضافةً للتفتيت العقلي، لم تستطع المذاهبُ السياسية أن تقوم بدور التغيير والتوحيد وقد كرستْ نفسها في ثقافة التفتيت. لم تستطع هذه الأدواتُ التي بقيتْ محميةً قروناً، وانتفخت أجسادُ أصحابِها من كرم الدول، ونشرتْ ملايين الكتب أن تجعل بضع أوراق تقاوم.
جاءَ التوحيدُ من العدو الغربي. ليس من خلال بنادقه القاتلة أو زنزاناته الواسعة بل من أفكاره. قدم ثمارَ أممٍ ناضلتْ للتوحد وأوجدته، ونهضتْ، تجاوزت تفتيتة رجال السياسة المحافظين ورجالَ الدين وأدوات فكرية قديمة لم تعد قادرةً أن تواكبَ النهضة والتحرر، وبطبيعة الحال لم يقبل هذا الكم الهائل المنتج لثقافة التفتيت ثقافةَ التوحيد سواءً جاءتْ من رجال مسلمين متنورين كجمال الدين الأفغاني أو من مثقفين علمانيين مسلمين وعرب. ولكن معارضاتهم ذهبتْ أدراج رياح التاريخ العاصفة.
انتجتْ ثقافةُ التوحيد العربية المتشربة بجزئيات ديمقراطية الغرب وجزئيات علمانيته أحزابَ النهضة والتحرر وخاضت معارك الاستقلال والحرية، وبعد عقودٍ من التضحيات على مستوى الأجساد والإنتاج المعرفي تحققت هذه الأهداف التي أنجزها (الديمقراطيون العلمانيون) العرب المسلمون والمسيحيون والماركسيون.
موحدو الشعوب العربية من الوطنيين العَلمانيين كالناصريين والقوميين والبعثيين والماركسيين لم يكملوا مهماتهم ويحققوا الوحدة الشعبية لأنهم تلكأوا في مسائل الفصل بين الدولة والدين، وعاد المذهبيون الدينيون يفككون الشعوبَ العربية والإسلامية.
القمع وعدم تحرير النساء والفلاحين والأميين وعدم إنتاج العقلانية في الدين وتحويل القطاعات العامة إلى خاصة في مضمونها وتغييب الديمقراطية، كل هذه انعكستْ على هزيمة التحديثية الوطنية العلمانية، ولهذا حين أخرج الساداتُ المذهبيين السياسيين من القمقم كان يعبرُ عن مرحلة كبيرة جديدة.
لم يكن السادات يدافع عن الإسلام لكنه كان يعيدُ الطبقةَ الاستغلالية بالكامل إلى سدة الحكم، ويجعل من المذهبية السياسية غطاءً لهذا المرور، ومن جهة أخرى يمزق وحدة الأمة العربية ونضالها المشترك.
الدفع بالدينيين السياسيين إلى الواجهة كان يطرح مرة أخرى ماذا لديهم من برنامج لتطوير حال المصريين والشعوب العربية والإسلامية عامة؟
حقيقة ليس لدى المذهبيين السياسيين برنامج حقيقي، لأن البرنامج الحقيقي هو الحداثة والديمقراطية والعَلمانية، هو تحقيق أسس الثورة الصناعية – الديمقراطية، ومعنى ذلك المساواة بين المواطنين، وفصل الدين عن الدولة، وهي قضايا يستحيل أن يقوم بها حزب السادات كحزب مذهبي سياسي يميني بالضرورة، وحزب الاخوان المسلمين كحزب يميني مذهبي بالضرورة.
حزب السادات غير قادر على تطوير نصف علمانيته ونصف ديمقراطيته إلى حداثة ديمقراطية، وحزب الاخوان يعادي هذا، فتشكلت الأجنحةُ المذهبية السياسية: حزب وطني، واخوان، وتكفير وهجرة، وهو أمرٌ يعكسُ أزمة طبقة وسطى طفيلية عاجزة عن الانتقال للحداثة الديمقراطية وتكاليف رفع مستوى العاملين، ولهذا تنطعت الجماعاتُ الدينيةُ المتطرفة التي تغلغلتْ بين الفقراء المعدمين لضرب الحداثة الديمقراطية بالكامل، وتكوين برنامج الرجوع إلى الوراء، وإنشاء جماعات التكفير والهجرة والقاعدة وطالبان والحزب الجمهوري (الإسلامي) الإيراني الخ.
فبما أن البرجوازية لم تدفعْ التكلفةَ الاقتصادية من الثورة الصناعية بدءاً من إنشاء الصناعة الثقيلة، وتحرير الريف من الإقطاع، وتطوير العمالة الرثة والعادية، ونشر التعليم التقني المتطور بشكل واسع، وغيرها من مهمات فقد قامت الفئاتُ المهمشة: الموظفون الكبار الفاسدون، وتجار العملة، والبنوك(الإسلامية)، والدجالون السياسيون، بإنتاج ثورة زائفة تعتمدُ الابقاءَ على تخلف المذاهب السياسية واعتقالها للجمهور، وتحقيق ثورة عاصفة كذلك تعتمد على استعادة الثقافة الدينية المحافظة المتخلفة للعصورِ المظلمةِ وإعادةِ بثها في الفضاء العام!
وهنا لعب النفطُ دورَهُ في إيجاد الوهم بإنتاجِ تحديثٍ على أسسٍ إقطاعية، فيبقى كل هياكل التخلف الدينية الاجتماعية وتغيبُ الديمقراطية والعلمانية والحداثة، لكن تُصنع ثورات زائفةَ تستعيدُ كلَ أشكالِ الدكتاتورية العنفية.
أعطتْ التراجعاتُ في مصر موادَها المسمومةَ لإيران وباكستان ودول الخليج ومناطق أخرى عديدة لإنتاجِ ما يتجاوز حتى المحافظة الدينية للعصر العباسي، حيث يتقدم رجلُ الدينِ المذهبي السياسي بنفسه ليحكم خلافاً للتاريخ الإسلامي كله. ومعنى ذلك ان تفجيرَ المكوناتِ الوطنية وصلَ إلى ذروته.
إن ظهورَ ولايةِ الفقيه السني مماثلةٌ لظهورِ ولاية الفقيه الشيعي، فحين عجزتْ الجماعاتُ المثقفةُ القوميةُ الإيرانية عن الصراع مع الدولة لانجاز العَلمانية الديمقراطية، وتغيير الريف، وتحرير النساء، وإنتاج العقلانية الفكرية، وقبلتْ بسيطرة رجال الدين والحشود من الفقراء الأميين الريفيين على مسار السياسة الوطنية، وأنكرت الحداثة الغربية العلمانية وقعت في فخ الانهيار، ونشوء الدكتاتورية الدينية لتكتسح المنطق.
لم يكن رجل الدين المتجه لأن يكون حاكماً في الثورة الشعبية الإيرانية ثورياً، كان رجعياً، لكن الأمر اختلطَ عليه، ظن انه ثوري مع الجموع الهادرة، وانه مع أحلامِ البسطاء لتغييرِ حياتِهم ولانصبابِ الفوائض الاقتصادية لتغييرِ أكواخهم وحرمانهم، ولم يكتبْ برنامجاً للخروج من الماضي للحاضر ثم للمستقبل المتطور السعيد لهذا الجمهور الذي ضحى.
بل وضع القرية فوق المدينة. جاء بنماذج الماضي وكرسها فوق الحاضر.
الفئة الوسطى الصغيرة من رجال الدين المحافظة كلها انقسمت، والعديد منها يعرف مخاطر القيادة إلى المستقبل، وهناك ادراكٌ غائر فيها هي (أننا لسنا للمستقبل)، نحن نجعل ماضينا العتيق يبقى ويتكيف في العالم القادم، أي أن (نطور مذهبيتنا ببطء من دون أن نتخلى عن أساسياتها لكن السياسة ومغامراتها وصراعاتها الحادة فنحنُ لسنا لها).
هذا هو الاتجاه الشيعي الإيراني الأصيل القديم، كما حدده آياتُ الله الكبار. لكن الاتجاه الآخر اتجاه المغامرة بدأ يطفو على هذا ويتلقى تفكيراً جديداً ظهر في كتب مثل (فلسفتنا) و(اقتصادنا)، يُطرح فيها تحدي العصر ورفضه، يتحدى الاشتراكية والرأسمالية معاً، ويطرح(الخيار الإسلامي). أي أنه يريد العودة للماضي، وبالأحرى البقاء في الحاضر الإقطاعي الديني مع تطور للرأسمالية أو للقطاع العام بشرط أن يكون الولي الفقيه مسيطراً على هذا النظام.
لسانُ حالهِ يقول علينا ألا نتخلى عن قيادة جماعتنا ونمنعها من الذوبان في هذا العالم، نمنعها من أن تكون حديثة ديمقراطية عصرية ذائبة في هيمنة الآخرين، في صراع المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، كما يظهرُ في ذلك الوقت من الخمسينيات والستينيات، ولهذا فإن الذي يقرأ هذه الكتب الآن، لن ينتبه للتضاريس الاجتماعية والسياسية التي كُتبت فيها، وهذا هو نفسه الذي جرى لبعضِ الأديانِ كاليهودية، حين فكر سياسيٌّ كبيرٌ فيها (وهو هرتزل) أن يكون ثمة وطنٌ لليهود يغدو خارجَ الرأسمالية الحديثة كي لا يذوبَ اليهودُ فيها، ثم ظهر قادةٌ سياسيون آخرون في العالم الإسلامي يفكرون بذلك الشكل وهو: (إبعاد المتدينين عن الحداثة والعلمانية وإذا جرى تحديثٌ يكون تحت قيادتنا حتى لا يزول ديننا!).
في ذلك الوقت كان ثمة التباسٌ في من تقود العالم هل هي الرأسمالية أم الاشتراكية، لأن البرجوازية والعمال هم الذين يصنعون هذا العالم الحديث، ويصطرعان على قيادته بقيم وأوضاع وسياسات متضادة.
فقد حدث للاشتراكية في الشرق ما حدث للمذاهب واليهودية وهو القفزات المغامرة في المجهول. وظهر في آسيا أناسٌ يقررون سحقَ الملكية الخاصة والفقر والأديان دفعةً واحدة! وكان لابد أن ينتقلَ الخوفُ والتسرعُ إلى بعض قادة المذاهب المتحمسين ذوي الرأي الحاد الذين يبعدون المذاهبَ عن الفقهاء القدماء.
وبهذا كانت إيران المعمل الأول لتطبيق ذلك، وكان البرنامج هو العودة للماضي، وكان السادات يقول في الوقت نفسه (ضرورة الحفاظ على أخلاق القرية)، مثلما يرفض العديد من شيوخ الدين في الجزيرة العربية الاكتشافات الفضائية والعادات الجديدة.
لم يزد برنامج المحافظين في إيران على إبقاءِ العلاقات الإقطاعية مهيمنة على الفلاحين والنساء والعقول والثقافة بالقهر، وهو برنامجٌ يستجيبُ لأهواء الكثير من الذكور والبيروقراطيين والرأسماليين، لكن ذلك لا ينقل المجتمع للماضي ويظلله بأجنحة الملائكة، ولا يلغي الصراعات الطبقية، لكنه يفرض عليه هيمنةً بوليسية عسكرية طاغية، تمنعُ زيادةَ أجور العمال وتطور النساء الاجتماعي السياسي، وملاحقة الفساد، مما يجعل المحافظين يزدادون شراسةً في عسكرة المجتمع وزيادة جُرَع غيبياته، وهذه أيضاً لا تحل التناقضات المحتدمة، فتنتقل أوهامُ الرسالة التي يحملونها إلى العالم وصراعاته والمنطقة.
إنهم يجابهون يومياً الحداثة والعلمانية والديمقراطية، عبر الفضائيات والموضات والسلع والكتب والسفر وغيرها، وتتحول تلك الأساسيات إلى مطالب لقوى الجمهور المحروم والمستغل والمقيد، وفي مثل حالة إسرائيل تبقى فزاعة العرب لعدم حل إشكال النزيف اليومي وتحقيق الحلم اليهودي، وفي إيران تتوجه الطبقة الحاكمة لتصدير الأزمة للخارج، تغدو لها رسالة وهي تحريك الشيعة سياسياً، وتأزيم الدول الأخرى، ونشر حالات من الإثارة والحركة والمذهبية السياسية الساخنة المتوترة بغرضِ إشغالِ الرأي العام الداخلي، فلا تكفي حتى المواد التراثية التي تحاصرُ المواطنَ يومياً، ولكن هذه تتحول إلى صراعات سياسية وانفجارات اجتماعية وحروب طاحنة.
والدول الأخرى جاهزة بمشكلاتها العميقة التي لا تُحل، وبأهاليها المعذبين، ولكن في العراق والخليج تغدو هذه الحواف القريبة من إيران مشتعلة يوماً بعد يوم، حسب ضخامة تناقاضاتها وكثافة بشرها ومدى حماقات أدواتها السياسية.
وهكذا عبر عقود من(الثورة) الإيرانية أسرع الملايين للذهاب للآخرة، وتفجرت حروبٌ في الخليج، ومازالت الأخطارُ تحدقُ بالمنطقة وفيها الكثير من الجمر الملتهب والحطب اليابس.
لماذا اختلف التطور السياسي في شمال إفريقيا عن المشرق العربي الإسلامي؟ لماذا قدم الشمال تجارب تحولية ديمقراطية بنائية محدودة العنف، في حين عجز المشرق عن ذلك؟
تعودُ الأسبابُ لتنامي السياسة الديمقراطية العلمانية مع تنزيه المذاهب والأديان عن العمليات السياسية.
تونس لها تجربة تحديثية طويلة ولكن مصر بقيتْ فيها الأحزابُ التقليدية والدينية تؤزم التطور وتفككُ صفوفَ المصريين، حتى نأى الشبابُ وطرحوا سياسةً وطنية تغييرية تشمل جميع المواطنين، وطرحوها بشكل يلائم غايتها أي بأسلوب سلمي توحيدي فحققوا الانجاز.
لكن الشباب بحركاتهم الجديدة الغضة لا يدركون جذورَ الدول والجماعات الدينية والحكومية ومناوراتها، وعمليات التفافها، الأمر الذي يبقي التجربة مفتوحة للدرس والقراءة.
أما المشرق بؤرة المذاهب والأديان المتعددة المتصارعة، فقد تغلغلت فيه ولاياتُ الفقيه وهي أشكالٌ سياسية مذهبية دكتاتورية، لتكريس أنظمة محافظة تفكيكية للمسلمين والمواطنين، وغدا العراق المختبر الأول الدامي لهذه السياسات، فقد قامت السياسة المذهبية الإيرانية بجر المنطقة المشرقية الخليجية لأتونها، مما استدعى ولايات فقهية باطشة لتمزق جثث المواطنين الأبرياء في مسالخ واسعة. وتغلغلتْ هذه الأفكار التفتيتية في دول وأحزاب اعتبرت (علمانية) وبهذا فإن أزمة العودة للوراء التاريخي جرّت شعوباً كبيرة في المشرق، في حين تمكنتْ شمالُ افريقيا العربية من توقيفِ هذا المسلسل.
تتوسع على نحو خطر هذه السياسات في منطقة الخليج، وبخلاف التراكم الثقافي الديمقراطي العلماني الذي غرستهُ حركاتُ الشباب التونسية المصرية زرعت الحركاتُ المذهبية في منطقة الخليج والعراق التمزيقَ الواسع، سواءً أكان ظاهراً يشتعل ناراً أم كان متوارياً.
هنا يمكن أن تتلاقى أكبر الحركات المذهبية السياسية اتساعاً وتطرفاً، تغذيها عملية تفتت العراق، وكذلك فإن المجتمعين الكبيرين السعودية وإيران المنتجين لهذه الحركات المُسيّسة عبر عقود، يمكن أن يقتربا من مواجهة . إن أكبر مواجهة يمكن أن تنتج من هذا التنامي للوعي الديني المحافظ بمختلف أشكاله المتجه لحافة البركان، وهو الذي عجزَ عن نسخ الماضي الوردي، ورفض مواكبة الحداثة السياسية الاجتماعية معاً.
وفي قرب هذا الكم الهائل من الحطب اليابس فإن تحريك العامة المأزومين في معيشتهم هو عودُ الثقاب، وهكذا تُنتجُ ظاهرةٌ معاكسةٌ حين يتم توظيف ثورات التوحيد لإنتاج حركات التفكيك، ويتم الابتعاد عن توفير التراكم الديمقراطي الوطني في مصر وتونس وزحزحة المذهبية السياسية فيهما، إلى إشاعة المذهبية السياسية وجر العامة البسطاء إلى أتونِها في الخليج والعراق.
وإذا كان المجتمع السعودي في حالةِ دفاعٍ عن النفس فإنه لم يكوّن التراكمات الديمقراطية العلمانية وإصلاح أوضاع الطبقات الشعبية، وتطوير أوضاع النساء، وتطوير الفئات الوسطى الحداثية للمراكز القيادية بشكل يواكب الزمن، وهو ما تستثمرهُ مذهبيةٌ سياسية مضادة وتشتغلُ عليه سياسياً.
إن جمهورية إيران بحاجة إلى المحافظة على شعوبها وإنجازاتها، ولهذا تتطلب الأمورُ الانتقال من حكومة المذهبية السياسية إلى حكومة التوحيدية الإسلامية، الأمر الذي يعني أن تساعد الدولة مختلف القوميات والمذاهب، وتشكل سياسة دعم لكل الفقراء والعاملين المواطنين، وهو التوجه الذي يمهد للانتقال للدولة الديمقراطية العلمانية حيث تغدو الدولة مُنتخبة من قبل التيارات السياسية وليس للمذهبية وللقومية المُفتتِّة لوحدة الدولة المركزية وهي اتجاهات ستفجرُ هذه الوحدةَ مع استمرار الكبت.
مقاربة الدولتين الكبيرتين للتوحيدية ومن ثم الانتقال للديمقراطية العلمانية هي أمور صعبة ولا شك، وتتطلب مراحل انتقالية، يزدهر فيها التغيير والإصلاح لطبقات الشعب الفقيرة والمناطق المحرومة، وتنتشر فيها ثقافة التوحيد، وتجاوز التعصب والتفتيت، للانتقال إلى مصاف الأمم المتقدمة والمعايير الدولية في الوجود السياسي.
إن قوى التغيير في هذه المجتمعات لم تشتغل وتراكم ثقافة التحديث المشار إليها، وتجري نحو اللحظات السياسية القريبة والعفوية، منجرةً لسطوح الظاهرات والتغييرات عبر إرادات شمولية فتعمق الأزمات بدلاً من أن تستبصر عروقَها الداخلية في باطن الأراضي الاجتماعية، ويبدأ ذلك من فهم تكوّنِ الأممِ الإسلامية وتواريخِها وتحولاتها، في ظل تحولات البشرية، ومسارات مراحلها، فالتحولُ من الإقطاع إلى الرأسمالية، الذي يخض هذه الأمم لابد من استبصاره في هذه الخطوط العريضة لسير البشرية، وتأسيس مراحله وتطوير شعوبه وإعدادها لعواصفه وتجديداته الانتاجية والثقافية.
وهذه الأمور كلها ستجعل الديمقراطية والحداثة والمذاهب والأديان تزدهرُ على أسس جديدة.
عبـــــــدالله خلــــــــيفة【تفتيتُ المكونات】
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 05, 2019 15:10

August 3, 2019

غازي القصيبي

【تفتخر بك البحرين يا غازي!】

الوزير السعودي، البحريني، العربي، الكوني، الشاعر الناثر، السفير المتجول أبداً، والمقيم باستمرار في قلب الهموم البشرية، الممتلئ بالشفافية قبل أن تتكون الديمقراطية الخليجية، المعبأ بالإنسانية والروح الشعرية، الوزير غازي القصيبي، هو أنشودة مدح وغناء في المملكة العربية السعودية، وأين نزلت بأحياء البسطاء تجد اسم هذا الشاعر الوزير مقروناً بكل آيات الثناء والاحترام!
حين يرفرف اسم مثقف في أحياء الموظفين الصغار والعمال فمعنى ذلك إن ثمة معجزة حدثت . آية من النور والنار تشكلت، واستطاع ابن التجار الكبار أن يخترق سدم وغبار الطبقات ويصير جزءاً من غناء الفقراء وأسطورة تبقى للزمان.
غازي القصيبي الذي كان يسخر من شعار الكلمة من أجل الإنسان في البحرين أيام زمان، والذي اعتذر في مناسبة أخرى عن جهله لأهمية هذا الشعار في مسيرة الفنان، تشكل من نبض الإنسان، وهو في قمة الثراء، أدرك أن النضال من أجل تغيير أوضاع البشر ليست مقصورة على يسار أو يمين، بل هي مهمة كل إنسان، بشرط ألا ينزلق إلى الفساد، ولا يكون من ضمن جوقة اللصوص، حتى لو انتشرت حوله صناديق الذهب والمرجان، وصكوك استغلال العمال الأجانب بالمجان، فإنه لن يتلوث ولن يدخل قرشاً واحداً في جيبه بسبل الحرام!
لقد ارتفع الرجل في نظر الناس ليس فقط بكلماته الغزلية الرقيقة، وسخرياته الشعرية الدقيقة، ولا برواياته الهجائية وكتاباته ومقالاته النقدية في كل شئون الحياة، بل أيضاً لأنه بقى نظيفاً . فالناس لا تهتم كثيراً بالكلام، فالكثيرون يتكلمون، ولكن من الذي استطاع ألا يتلوث، وأن تبقى أياديه بيضاء ناصعة، فلم يجدوا عليه شيكاً مزوراً ولا وضع اسمه بين أسماء من وضعوا في كوبونات صدام، وكانت تجري تحته وأمامه أنهار النفط والغاز والكهرباء والماء والعمال الأجانب والمحليين والعرب، أمامه ثروات التزوير والسفارات والعقارات، ولكنه بقى يقول كيف أخدم الناس، وأنظف الوزارات وأطهر الإدارات من المحسوبية ومن الغش والتزوير وأجعل معاملة الإنسان البسيط تجد الحلول.
ها هم اليساريون واليمينيون يزحفون على بطونهم من أجل شيك ومن أجل أن تمتلئ أرصدتهم بالمال الحرام، ها هم يبيعون تاريخهم الذي شكلوه بأرخص الأسعار، ويبقى ابن تجار اللؤلؤ الذي عاش على الخير الوفير يأبى أن يدنس نفسه بدينار واحد من أموال الناس!
كيف لا تكون هذه معجزة؟
كيف لا يحبه الناس ويرفعون اسمه إلى الذرا؟
كيف لا يكون رمزاً للنظافة في وقت يغتسل فيه المسئولون العرب في برك السباحة الصابونية دون أن يتطهروا؟
نحن لا نريد إنجاح معاملة لدى وزير العمل السعودي، ووزير الأمل الخليجي، بل نريد ان نقول كلمة حق، وكلمة مدح عريضة، في زمن عزت فيه النماذج المضيئة وصغرت فيه القامات، نبحث عن النموذج المضيء أينما كان، تدعونا إليه الهتافات الشعبية الوفيرة، والحب الغامر من البسطاء، مثلما كان الشاعر العربي يرنو إلى قامات الجبال والذرا المشتعلة بالضوء، وإلى القمم الإنسانية المتدثرة بالتواضع والاستقامة والشهامة، فيتغزل برجالات صنعوا السلام ونماذج مبهرة في الدياجي الاجتماعية المعتمة، وفي الليل السياسي الراهن البهيم.
لم يكن اللبن الفكري الذي أرضعتك إياه البحرين يا غازي بمتسرب إلى تراب.
لم يكن الدم النقي النضالي التحديثي العربي الذي تشربت به عروقك بمتبخر في هواء الخليج اليابس العاصف الحار.
لم تذهب سدى كلمات أحياء المنامة الضيقة وأنفاس الشعر الأولى فقد تعملقت وأزهرت شعراً ونقاء إنسانياً!
تألق غازي في قلوب الناس فتدفق شعراً وضياءً!
【بداية غازي القصيبي】
في بدايتهِ الأولى حين بدأ يكتب في جريدةِ (الأضواء) الأسبوعية البحرينية وقد ظهرتْ في نهايةِ الستينيات من القرن الماضي، كان يزاوجُ في كتاباتهِ النثريةِ بين القصيدةِ والحكايةِ في معالجاتٍ ساخرةٍ ناقدة وموجهةٍ ضد موجة اليسار والشعر والقصة المتعاطفين مع قضايا (الكادحين والإنسان).
بداياتٌ غريبةٌ شكلَها الكاتبُ والشاعر الراحل وبعد عقودٍ نراهُ في موقعٍ آخر مثير هو التعاطف الشديد مع قضايا الإنسان، وهي أمورٌ محيرةٌ في مسيرةِ هذا الكاتبِ ابن الأغنياء والوزير في أغنى دولة في المنطقة بعد ذلك والذي كلما كُثرتْ أموالهُ غاصَ في هموم الإنسان!
لعل هذه النشأةَ المرفهةَ أغنتهُ عن إنزلاقاتِ العديد من الكتابِ الذين بدأوا على العكس فقراء وكانت أصواتُهم صاخبةً من أجلِ البؤساءِ والفقراء، ثم تبدلتْ كلماتُهم.
مسيرةٌ متضادةٌ ولكن بنيةَ التعبيرِ لدى غازي في تلك الإطلالة النثرية الممزوجة بالشعر إختلفتْ كثيراً عن نتاجاتِ النضج النثرية من حيث الغنى والإتساع ومن حيث الأفكار والدلالات.
صحيح إن الثيمةَ الأساسية وهي لغةُ السخريةِ وبناءُ المقاطعِ النثريةِ الشعرية المتداخلة وعرض النماذج الكاريكاتيرية، هي نفسها إستمرت بعد تلك العقود، ولكننا في الكتب الروائية الحاوية على البذور القديمة أمام بنايات كبيرة ومستويات فنية مختلفة.
وقد وجد أن أفضل تسمية تُدخلُ هذه الكتابات الغريبة حيزَ الأجناسِ الأدبية هي كلمة (رواية)، حيث تقوم على بناءٍ قصصي واسع، وتعتمد البنية الاعترافية المنولوجية، وهي بنيةٌ أقربُ لمستوى وعي فني أعتمد الشعر أداةً فنية طوال عقود تركَ فيها تلك القصاصاتَ التعبيرية لجريدة الأضواء.
فعلى مدى تلك العقود كان يغني شعراً، وكان الصوتُ الذاتي بؤرةَ التعبيرِ المركزية في أعماله.
وكان غنياً في تعبيره الشعري، ذا تصوير آخاذ، لكنه يعيش في عالم فردي حميم، عالم الحب والضنى والسهر والدموع والآهات النازفة الحارقة!
في كلماتهِ ومقالاتهِ وقصائدهِ وقتذاك كان يواري إنتماءه ، وكانت ثمة ظلالٌ على ولادتهِ الروحية النضالية في بحرين الخمسينيات.
إنها العائلةُ السعوديةُ المواطنةُ في البحرين، والبحرين تضجُ بالمظاهرات والكتابات الثورية الزاعقة، والعائلة الثرية تتحسسُ من هذا المناخ الحارق.
والد غازي القصيبي التاجر المتوسط لم يكن يؤمنُ بالنماذجِ الدكتاتورية العالمية والعربية، في حين كان غازي يضجُ حباً بالعربية منها.
البحرين هي المحارةُ الجميلة لـ غازي، أعطتهُ المناخُ الرومانسي الأول والحميم، وكونت جذورَ رؤاه.
ديوانه الأول: (كلمات من جزائر اللؤلؤ) يجسد ذلك:
(أرضي هناك.. مع الشواطئ../ والمزارعِ.. والسهولِ)، (في موطنِ الأصدافِ والشمس/ المضيئةِ .. والنخيلِ)، (أمي هناك.. أبي.. رفاقي/ نشوة العيش الظليلِ).
(الضوءُ لاح.. فديتُ ضوءكِ/ في السواحلِ يا منامة)، (فوق الخليج أراكِ زاهيةَ/ الملامحِ كابتسامة)، (2).
هنا تصويرٌ ومشاعرٌ رومانسيةٌ معبرةٌ عن الذات الفردية والوطن السعيد الجميل، الملون بمفردات الطبيعة المعزولة عن الكل الاجتماعي، فتزهو في ذاتها.
نلمحُ في دواوينهِ وذكرياتهِ الأولى هنا الاهتمامَ بالقصة، فالمبنى الحدثيُّ يتسربُ للشعر، والقصائدُ فيها شخوص، وثمة بُنى شعرية متماسكة متنامية درامية.
في سيرتهِ الشعريةِ يحدثُنا عن أنماطٍ من الشعر والشعراء يفضلها، فالبنى الشعريةُ الغامضةُ الفلسفيةُ كما لدى البياتي وأدونيس لا يستسيغُها، ويفضلُ السيابَ بقصائدهِ القصصية ومطولاته: (كانت رائعةُ السياب «المومس العمياء» هي أول ما قرأتُ له وقد بلغ أعجابي بها أنني كنتُ أحفظها كاملةً ولا تزال حتى اليوم في ذاكرتي مقاطع منها)،(3).
إن المآسي التي عاشها في عائلته: خاصة فاجعة موت أخيه نبيل وبصمات الميلاد البحرينية والتوجه للقاهرة وهي تموجُ بالمدِ القومي وإنفجاراته الثقافية، ثم الاحتكاك الطويل مع الغرب، لم تحطمْ المبنى الشعري الرومانسي كلياً، فثمة عدةُ دواوينٍ تصدرُ يغلبُ عليها هذا الطابعُ المريرُ وخاصة (معركة بلا راية)، لكن منذ هذا الديوان نفسه نلمحُ الضرباتَ الأولى لتغييرِ قصيدةِ الأنا الحزينة العاشقةِ المفجوعةِ بالوجودِ والمنفصلةِ عن المعارك الاجتماعية.
لقد توجه خلال الدراسة في مصر والغرب إلى جانبٍ غريب لا ينسجمُ مع هذه الشخصية الرومانسية وهو دراسة القانون، ثم في دراسةِ الدكتوراة توجه للسياسة والفكر، وهو المستقرُ الأكبرُ لهذه الشخصيةِ وهي تخرجُ من تلك الأنا المتوقعة. فمن العشقِ والآهاتِ في جزائر اللؤلؤ إلى أن يذهبَ لليمن في زمنِ الإمامةِ ويدرسُ الوضعَ تحضيراً لدراستهِ العليا ومُشّرحاً وناقداً الرؤى الفكرية السياسية في العالم الحديث، ثم ينخرطُ في العمل السياسي والاجتماعي عبر الحياة السعودية.
في هذا المشوارِ الطويل، بالتصاقهِ بالشعوب ومعاناتِها، وبعمقِ محبتهِ للناس، وبتكريسِ ذاتهِ للخير والنهوض، عصفتْ السياسةُ بشعره، ودخلَ ميدانَ النثرِ من أوسع أبوابهِ: من بابِ الرواية.
التجربة الروائية
كانت روايةُ غازي القصيبي « شقة الحرية » هي أولى رواياته وهي ذاتُ المقاربةِ مع الروايةِ الكلاسيكية الواقعية، لكنها رواية تسجيلية محضة، فهي تصورُ فترةً تبدأُ من سنة 1956 ومن شهر أكتوبر فيها وتنتهي في سنة 1961 وبشهر أكتوبر كذلك، وتدور حول مجموعة من الطلبة البحرينيين وزملائهم العرب تعيشُ في القاهرة في تلك الفترة (القوميةِ) الملتهبةِ في صراعاتِها السياسية وتحولاتِها الفكرية والاجتماعية.
التأريخُ جزءٌ من المنهجِ الفني التسجيلي، وهو عمليةُ رصدٍ لما حدثَ للمجموعةِ ولعلاقاتِها فيما بينها وفي محيطِها المصري من مُلاكِ عماراتٍ ومن أصدقاءٍ وعمالٍ يخدمون المجموعةَ ومن علاقاتٍ نسائية تنشأُ في خضمِ ذلك، إلى الدائرةِ الأكبر السياسية الحاكمةِ والأعمال التي تقومُ بها من سيطرة وتأثيرٍ في المنطقة والعالم.
إن بؤرةَ التصويرِ التسجيلي هي المجموعة، والسارد الروائي الشاعر غازي القصيبي مُلتصقٌ بشخصيتهِ الحقيقية (فؤاد الطارف)، التي يبدأُ منها بنسجِ خيوطِ الرواية.
إنه يفتتحُ الروايةَ:
(كانت الأسئلة التي في ذهنهِ لا تنتهي. ولا يعرف جواب أي منها. والآن يشغله قائد الطائرة بسؤال جديد)، (4) فهو يتتبعُ تفاصيلَ الرحلةِ الجوية من البحرين للقاهرة بحذافيرِها، فهي تولدُ لدى الساردِ الذكريات الملموسة الحارة المتتالية، وهي تفاصيلٌ كثيرة صغيرة طويلة، لا تدخلُ معمارَ رواية مكثفة ملمة بجوهريات الحبكة والمرحلة بل تنتشرُ فيها طولاً وعرضاً. إن الروائي الساردَ يبقى عند المادةِ التاريخيةِ الحقيقية.
وهو ينتقلُ من الشعرِ إلى الرواية، مثلما منطقته الخليجية الجزيرية العربية تنتقلُ من الشعرِ الرومانسي للروايةِ التسجيليةِ في غالب الأحيان، فيسجلُ كلَ شيء وها هو يرصدُ مخاوفه مما قد يحدث في المطار، ثم يبحثُ عن أصدقائهِ ويعثرُ عليهم بعد زمن وهو يروي كل هذه التفاصيل وهو يتجول، ويشدو بحبِ مصر، فالناصري العاطفي جاءَ إلى عاصمةِ (الثورة)، ثم تتالى التفاصيلُ المختلفة للسكن في شقةٍ غيرِ مناسبةٍ ثم العثور على شقةٍ واسعةٍ مناسبة للعزاب الأربعة الطلبة الذين سوف يسكنون فيها، ثم تتالى الفصولُ المتابعةُ للأشهر الدراسية خلال تلك السنوات مفصلةً حيناً ومجملة حيناً آخر!
وفي أثناء ذلك تظهرُ شخصياتٌ عديدةٌ ثم تختفي: (عمال المطار، وسائق التاكسي، والبواب الخ!)، وتستقرُ الروايةُ على الشخصياتِ البحرينية الأربع التي تعيشُ في الشقة، وهي أصدقاء فؤاد الطارف، وهو يتحدثُ عنهم وعن سماتِهم الفكرية قبل أن يلتقي بهم، ثم تنهمرُ أعمالُهم وقصصُهم مفصلةً في متن العمل، فيتكلمُ عنهم أو يعيشون فقراتهم الخاصة.
الشخصياتُ الأربعُ تخلقُ شبكةً من الأحداث والعلاقات، وهي كلها لها تفاصيلها الخاصة، والساردُ يتسربُ لهذه التفاصيل بطريقة الحكواتي، الذي يقدمُ فرجةً عن كل شيء، إن الشخصيات لا تعيش في منولوجاتِها الذاتية وعلاقاتها التفصيلية فقط، لكنها تعيشُ مع الخطب المطولة عن النظام سواءً معه أم ضده، وكل شخصية لها موقف وهذه المواقف كلها تُنشرُ بحذافيرِها في العمل.
وتنهمرُ تفاصيلُ التيارات والأحزاب السياسية: الناصرية بؤرة رئيسية بحكمِ البلدِ وقائدها وهزته الكبيرة للعالم العربي، ثم البعث والشيوعية والقومية.
وإذا كان الحديثُ عن مصر فهو يتنوعُ بين الشخصيات، كما تظهرُ مصرٌ بكلِ مشكلاتها وتناقضها الرئيسي بين نظامٍ (ثوري) محبوب وعظيم، وبين نظام عسكري حلّ محل الإقطاع السابق.
والساردُ المؤلفُ موضوعيٌّ في سردِ الجانبين، ونلاحظُ تطورَ شخصية فؤاد الطارف الممثلة لغازي القصيبي، حيث يتباعدُ عن الناصرية العسكرية والقومية والبعث وكل التيارات الشمولية مؤيداً الاتجاه الاشتراكي الديمقراطي بطريقةِ حزبِ العمال البريطاني.
هذه العاصفةُ من التيارات والأفكار والتنظيمات والاجتماعات كلها تُسردُ وكأن الروائيَّ مؤرخٌ سياسي معنيٌّ بملاحقةِ كلِ شعرةٍ من المرحلة.
هذه المقالات والأحاديث التقريرية والخطب تتضافر مع الحواراتِ الشخصيةِ الحميمة، ومع السردِ المشهدي التحليلي للشخوص ولحظاتهم الصراعية العنيفة والعادية.
والمواقف الحميمية للشخصيات من معيشةٍ ولقاءات ذاتية تنفصل عن صراعات المرحلة، والعروضَ الفكرية لا تندمج في عظام الشخوص، والمواقف الحدثية، بل تنهمرُ على القارئ حواراً وخطباً ومقالات وقصص قصيرة كذلك مبثوثة في الرواية من تأليف فؤاد الطارف أو صديقه عبدالرؤوف تعرضُ تطورَ السارد الإبداعي!
إن البؤرةَ المفترضةَ وهي الدراسة تغدو عرضيةً ولكنها مغذية للدراما القصصية، فيما العلاقاتُ العاطفية والجنسية والفكرية والسياسية تغدو هي البؤرة، وهي بؤرةٌ واسعةٌ مشتتة، موزعةٌ على الشخصيات الرئيسية وتنضمُ إليها شخصياتٌ أخرى ثانوية كثيرة، وتخرجُ منها دون علاقةٍ عضويةٍ بهيكلِ الرواية المفترض، فتدخل حتى شخصيات من الحياة الواقعية كجمال عبدالناصر وإبراهيم العريض ونجيب محفوظ وطه حسين وصدام حسين وغسان كنفاني وجورج حبش وغيرهم!
والممتعُ في الروايةِ هي حكاياتُ هذه الشخصياتِ الأربع؛ فؤاد نفسه إضافةٍ لـ قاسم وهو شخصيةٌ ثريةٌ يعرضُ آراءه الرافضة لأفكارِ المرحلةِ القومية المزيفة في تصورهِ بحسمٍ وقوة، فيما يعقوب شخصية فكرية سياسية متقلبة، فهو يبدأ فرويدياً ماركسياً ثم يصيرُ وجودياً ثم يعودُ للنضال الماركسي عبر الخلايا المصرية ثم يشكُ بكلِ هذه الأفكار السياسية من خلال خطاب السارد. أما شخصية كريم فهو خارج التيارات السياسية، ويعيشُ أغلب وقته في قصةِ حبٍ فاشلة، وتحدثٌ مقارناتٌ بين وضعهِ كابنٍ لرجلِ دينٍ شيعي وحبهِ لفتاةٍ مصرية ورفض أهله الزواج بها، لكن الفتاةَ تتزوجُ فيعيشُ توتراً حاداً ثم يحبُ فتاةً مصرية أخرى ويريد الزواج منها لكنه لا يحسم موقفه وتُصاب الفتاة بمرض وتموت فجأة فيعيش حالة من الهلوسة تذكرنا بما سوف يأتي لاحقاً من هلوسات فنية في الروايات التالية.
حين يعرض السارد حكاية عبدالكريم يقوم كذلك بشرحِ (المعضلة) المذهبية:
(رغم أن عبدالكريم ولد وترعرع في بيت شيخ من أكبر مشائخ الشيعة في البحرين، إلا أن هذه الأسئلة لم تعرض له على هذا النحو قط)،(5). ثم يقومُ الساردُ بالإستطرادِ الإخباري عن الشيعة والفروق بين البحرين ومصر في هذا الصدد، وما سببهُ ذلك من وضعٍ محرج لـ عبدالكريم، والعملُ يمتلئُ بهذه الإمتدادات في كلِ جانبٍ وفي كلِ حدث.
فحين يعاني فؤاد من مسائل فكرية أو دينية يلجأ أحياناً لسؤالِ شخصياتٍ حقيقية ويقومُ بسردِ السؤال والإجابة المطولة كما حدثَ لسؤالهِ الشيخ أبوزهرة عن العلاقةِ بين القوميةِ العربية والإسلام، ويجيبهُ الرجل (6)، ثم يطرح نفس السؤال على جورج حبش حين إنضم قليلاً للقوميين العرب، أو كما هو سؤال المجموعة للدكتور أحمد الخطيب القومي الكويتي عن حركةِ القوميين العرب، حيث يتدفق الرجلُ بالإجابات (7)!
والمصادفة إن تجربةَ الطلبة الأربعة في لحظتهم الدارسية خلال أربع سنوات تتوافق مع تجربة الوحدة بين مصر وسوريا، ثم الإنفصال فيها، وكأنهم جاءوا لرصدِ هذه الفترة ثم يرحلون بعد إنتهائها.
تتم العروضُ للشخصيات من خلال التجربةِ الشخصية وخاصة التجارب العاطفية والجنسية، ولا شك أن التجربةَ الجماعية تتيحُ للسارد المؤلف وهو إحدى هذه الشخصيات أن يتغلغل في الجزئيات التفصيلية للشخوص، ويكملها بصورٍ تخيلية مُعمقة.
ما يهم الساردُ المؤلفُ المراقبُ الداخلي كذلك عرض الشخصيات والخيوط الكثيرة التي يمدونها في نسيجِ الحياةِ المتعدد، فتكون أمامنا لحظاتٌ قصصيةٌ متضافرة، موضوعيةُ الرصدِ، متابعةٌ لتطورِ هذه الشخصيات، في كلِ مجالاتها، ففيما يتفهم فؤادُ الطارفُ الحياةَ الفكرية السياسية وينتقلُ من فوضويتها وشموليتها إلى أفقٍ منفتحٍ ديمقراطي، يتعمقُ وعيه العاطفي الجنسي، ويتخلى عن العلاقةِ الحيوانية نحو ذاتٍ مفتوحة لحب متكامل.
ويبقى قاسم ابنُ العائلة الثرية رأسمالياً في وعيهِ رافضاً المغامرات السياسيةَ العربيةَ بكلِ تلاوينِها الشمولية، كاشفاً ومكتشفاً النظامَ في مصر، ومستغلاً وضعها كذلك للتجارة والربح.
فيما كريم المحافظ يعيشُ علاقاته الغراميةَ الخائبة، ويقدمُ منولوجاً في ختام هذه الصدمات يجمع بين الجمل المتدفقة الحارة ولغة الكوابيس، وهو أسلوبٌ مغايرٌ لأسلوب التصوير السائد في هذه الرواية وسوف يُعممُ في الروايات التالية.
أما يعقوب المنتقلُ من الفرويديةِ إلى الماركسية فترتكزُ حياتهُ على البحثِ عن الفكرةِ وتطبيقها ففي العدوان الثلاثي يسارع بالتطوع، وفي حالاتِ رؤيتهِ للتفاوتات الطبقية الحادة ينتقلُ للماركسية حيث يكتشفُ تناقضات النظام (الاشتراكي) بين شعارات تُرفع من أجل الفقراء وبين ممارساتٍ لإستغلالهم، لكنه يتكشفُ عن شخصيةٍ شعارية خاوية من الداخل.
والساردُ يعطي كلاً من هذه الشخصيات فقرات متتالية متتابعة متقطعة لعملياتِ التحول الداخلية، فكرياً وعاطفياً، وبشكلٍ موضوعي، وعبر شبكة العلاقات العامة في الشقة وفي البلد، مسجلاً شعيرات تطورها، ولهذا فهناك بناءٌ درامي متوترٌ متصاعد، يتقاطع مع الشبكةِ الأخرى المنهمرة بالتقارير والخطب والتحليلات السياسية.
وكلا الجانبين رغم تضادهما التعبيري لكنهما مشوقين متداخلين، نظراً لطبيعة السرد المرح الذي يجمعهما، فأي شخصية تمرض فكرياً وسياسياً تُقدمُ لها الأجوبة والمداخلات، التي تكشفُ أخطاءها أو غبائها أو تُقدمُ من خلالها معرفةٌ موضوعيةٌ بالفترة.
وهذا هو أسلوبُ الكاتب الذي يقوم على التجميع الواسع للمواد الفنية وغير الفنية، الذي يحولُ السردَ إلى مسرحٍ يعرضُ فوقه الشخصيات بموضوعية، ويتحدث فيه آخرون بالخطب الشارحة عن الفترة والأفكار.
الطابع التسجيلي مرتبط بثقافة الكاتب كما قلنا سابقاً، حيث القفزة من القصيدة الذاتية إلى الرواية، وهو يغوص محلللاً كاشفاً ناقداً للمجتمع المصري، مُراقباً من بعيد وغيرَ ناقدٍ بعمق للمجتمع البحريني، وهذه الإزدواجية تعطينا الموقف الإيديولوجي للسارد، حيث يتمكن بحريةٍ من نقد المجتمع المصري، وليس البحريني أو الخليجي، بسبب المحاذير التي تقع دون هذا النقد.
ومن هنا حين يتحول الروائي إلى شخصيةٍ حكومية ومتنفذة في السعودية لا يعود البناءُ الواقعي التسجيلي ممكناً، بحفرهِ النقدي المتراكم وبخطاباته السياسية إلا من خلال الهذيان(المشروع وغير المُرَّاقب سياسياً!)، فلا بد من بناءٍ آخر، ولغة تعبيرية ذات ظلال كثيرة، ولا بد من وجودِ شخصياتٍ مائعةٍ غامضة، لكن النقد لا بد أن يتغلغلَ ويُبث، بعد تشكل الثمار الديمقراطية في وعي الكاتب وإنعطافهِ عن الرؤى الشموليةِ والمشروعاتِ السياسية العُنفيةِ الكاسحة، ومن هنا سنرى إنعطافَ التجربة لدى الكاتب.
فرؤية الوفد المصري التي تظهرُ بندرةٍ في الرواية مثلما تبزغُ الرؤى الديمقراطية هنا وهناك، مشتتةً، كتشتتِ الفئاتِ الوسطى المُنتجَّةِ لها، والساردُ ينحاز لها.
أبو شلاخ البرمائي
في روايةِ « أبوشَلاخ البرمائي » إنهيارٌ للمبنى الروائي التقليدي الواقعي تماماً، فأمامنا مقابلةٌ صحفيةٌ غيرُ حواريةٍ، يقومٌ بها صحفي إسمه توفيق خليل توفيق، يظلُ بلا قيمةٍ فنية فهو يسألُ ويقاطعُ بعض الأحيان، لكن لا دورَ له ويفتقدُ نموَّ الشخصية والتداخل مع المُحاوَّر.
أما المحاوَّر فهو الذي ينهمرُ بالأجوبة ويجري فوق المسرح وحده زاعقاً ومجلجلاً وناثراً الأكاذيب والمبالغات التي تخترق العقل، حيث يمخر جميعَ العوالمِ السياسيةِ والطبيعية والغيبية، ويجمعُ بين عالم الجن والأنس، والشرق والغرب، والثورة والاستعمار، فهو الوحيدُ الصانع لهذا الوجود، وغيره من البشر والقيادات والكائنات ما هي سوى أدواتٍ وعرائس يحركُها كيفما يشاء.
يعقوب المفسخ كائنٌ كاريكاتيري يتحولُ إلى إسم آخر هو (أبوشلاخ البرمائي) (مرادفٌ لأبولمعة بالتعبيرِ المصري)، في ولادتهِ هو قادرُ على الكلام وإصدار الأوامر ويخرجُ من بطنِ أمه متحدثاً ويرفضُ المرضعةَ ويتسببُ في موتها، ويجمع العربية الفصحى والعامية، والأشعار الكلاسيكية ولغة بدو الجزيرة وحكاياتهم والأمثال واللغة الفكرية السياسية المعاصرة والأساطير في سيولةٍ تعبيرية طاغية:
(كنتُ، يا أبولمياء، مصاباً بإكتئاب نفسي ناشىء عن عقدة ذنب مصدرها أني سبب وفاة الوالدة، قررت الإضراب عن الطعام حتى الموت. كان الاضراب عن الطعام، وقتها، ممنوعاً في منطقتنا، وقرر الكبار رفع الأمر للسلطات المختصة، قسم الأطفال الرضع المضربين عن الطعام)،(8).
تتوالدُ الصورُ الساخرة الكاريكاتيرية بأشكالٍ غريبة، وتتضخمُ المبالغات، ويتغلغل أبوشلاخ في عالم الجن، مثلما ينزل في عالم الواقع اليومي الصارخ.
يعقوب المفسخ له جذرٌ إجتماعي، فهو عاملٌ من المنطقة الشرقية بالسعودية حيث ظهرَ النفطُ، ويحدثنا في لفتةٍ واقعيةٍ كيف ظهرَ العمال، وكيف كانت مساكنهم الرثة، ثم تنفجرُ الفنتازيا حين يقومُ هو وثلته الصغيرة بمدِ خطوطِ التابلاين من رأس تنورة حتى لبنان، وفي عالمِ الفقرِ والمرض تعلم كيف يحولُ أكلَ الجرادِ إلى تجارةٍ مربحة، عبرَ زراعةِ الجراد في إستراليا، وخلق شطائر الجراد المغذية! وهذه الصناعة تمثل (الرأسمالية البدوية) وآثارها في الاقتصاد والثقافة، حيث تُجلب صناعاتٌ مثل هذه، ومثل تصنيع لحم الجمال كذلك ونتاجات أخرى غرائبية ضاحكة ناقدة لهذا النمط من الرأسمالية!
تحولَ أبو شلاخ إلى تاجر كبير، وتداخل الواقع بالفنتازيا هنا له سلسلة متشعبة فكهة طويلة، وفي جذرِها نرى كيف تتشكلُ الفئةُ الوسطى خارج حاجات الناس والحياة ويظهر أصدقاءُ أبوشلاخ من البدو وكلهم مثله ولهم مهارات عجائبية، وهم يؤسسون الاقتصاد والعلوم في عالم أبوشلاخ، وفي ثقافتِهم السحرية توجدُ كلُ الاختراعات الغربية كالاستنساخ وغيره فهم العباقرة السابقون لكل الأمم، وثمة شخصية تقوم بإستنساخ الكائنات والشخصيات بكل مهارة، وتتشابك هذه مع فانتازيا ألف ليلة وليلة والعلاقة مع عالم الجن، وعبر هذا تتشكل صلات هذه الشخصيات بالقيادة الأمريكية من روزفلت ومن تلاه من قيادات، كما تقدم كل المساعدات لمن يطلب من أهل المعاناة والثورات.
وتبلغ من (عظمة) هذه الشخصيات إن القيادةَ الأمريكية تستعينُ بها في كلِ لحظةٍ للخروج من المآزق كنشلِ سرِ القنبلة الذرية من موسكو أو تحطيم الاتحاد السوفيتي! والراوي لا يترك شخصية الرئيس المصري عبدالناصر هنا كذلك الذي يستعينُ بأبوشلاخ نظراً لقدراتهِ الخارقة لكن تنشأ منافسةٌ مع الصحفي الكبير المهيمن على الرئيس أبوخالد، وهو يجسدُ أبوشلاخ مصرياً فتتقاطعُ الشخصيتان مراراً!
تمثل هذه الرواية هلوسة البدوي الجزيري بين وجودهِ كفقاعةٍ وتخيله لعظمةٍ كلية هائلة، وتبدأ الشخصيةُ المحوريةُ الإشكالية الكبرى في عالم الروائي بالظهور وهي شخصيةُ البدوي الحداثي، المنقسم، المتضخم الذات، المريض تاريخياً، ويظهرُ معها أسلوبُ الروي الحر، بأداتهِ التعبيرية الأساسية وهو إستخدام ضمير المتكلم، الذي يقللُ من إمكانياتِ الرواية التقليدية، من وصفٍ وسردٍ وبناءٍ متدرج، ويوجه المبنى التعبيري إلى بناءٍ هذياني كوابيسي، متداخل بكل الممكنات التعبيرية.
【رواية « سبعة »】
إنتقال المفاجئُ من الشعرِ العاطفي البوحي إلى البناءِ الروائي لم تسبقهُ تجاربٌ فنيةٌ قصصية قصيرة أو طويلة، فهو قد قفزَ مباشرةً من الشعرِ الرومانسي الوجداني ومن الشعر السياسي ومن الشعر المرتجل وشعر الأخوانيات الساخر نحو الرواية. (يحدثنا الروائي الساردُ في « شقة الحرية » بأنه ألفَ قصصاً قصيرة لكننا لم نعثر عليها).
أخذت ملامحُ روايةِ التداعياتِ الحرةِ تصيرُ هي الروايةُ السائدة فتغدو جلسةً مفتوحةً للكلام الهذياني مليئةً بالمقالات والقصائد والخطب والتصوير للشخوص المريضة المأزومة خاصةً الشخصية الإشكالية الكبرى.
علينا أن نرى كذلك إن تدفقَ الروايات ووصلت إلى سبع روايات، إضافةً لمجموعةٍ من كتب الرأي والذكريات والمراجعة الإدارية! وهي كلها تصدر وغازي ينتقل بين وظائف إدارية كبيرة في السعودية بين مدير للسكك الحديدية إلى سفير إلى وزير صحة ووزارات أخرى. وتغدو الكتبُ لديه وخاصة الروايات وسائل نقد وتحليل لما يجري عبر أقنعة متعددة، كما سنلاحظُ في روايتهِ المقرؤةِ هنا بعد تمهيد وهي رواية « سبعة » إنها تتويجٌ لتطوره في بناء الشكل المقارب للرواية الواقعية الحديثة، لكن دون أن تكون تجربته السعودية معروضة بأشكال واضحة.
فبناءُ الشخصياتِ وخلق المعمار الروائي ووجود الثيمات المشتركة في تلك الشخوص والأحداث، لم تكن من إهتماماته المركزية، وكوّنَ بناءَ التداعيات الحرة ومحورَ السارد الممتع الساخر المهيمن على النص، أي خلق منولوجات متدفقة حرة مثل روايته العصفورية. وهي تتحدثُ عن مريضٍ نفسي يتحدث طوال الرواية، وقد قلتُ عنها سابقاً:
(إن الراوي السارد/المؤلفَ المتمتع بالسلطة (الكلية) في النص، يستطيع أن يوجهَ العرضَ في أي جانبٍ يشاء، بأن يتحدث عن الجن أو أن يقيمَ صلاتٍ قصصيةً معها، أو أن يواصلَ التعريض بالمتنبي على طول النص أو أن يمدحَ المذهب الوهابي، أو أن ينتقد الحزب الجمهوري الأمريكي ويؤيد الليبرالية، وأن يسخرَ سخرية مضخمة جداً بمجمعات اللغة العربية)، (9).
ومهما كانت الآراءُ المطروحةُ على لسانِ الشخصية والمتسمة بالتناقض أو بالسطحية فإن الروايةَ لا تهتم بذلك بل تريدُ عرضَ الحركة النفسية التعبيرية للشخوص.
الشكل الذي إختاره غازي في هذه الرواية هو شكلٌ مفتوح، والعلاقة البنائية الروائية بين المريض الشخصية الأساسية والطبيب الشخصية الثانوية محدودة، فتغدو « العصفورية » سلسلةً من الخطب، والروائي يقومُ بالحفر الشخصي في البطل لكن بشكلٍ غير واسع، ويعتمد على ضمير المتكلم وسيطرته على البناء، مما يؤدي لغلبةِ الحوار على السرد والوصف.
لكن ما هو الجانب الهام الدلالي الذي يركز عليه المؤلف؟ إنه السخرية بالعالم المتخلف، بالعرب المتدفقين على الغرب، بالعرب المرضى النفسيين الفكريين، عارضاً إياهم بطرقٍ ساخرةٍ مرحة، ومباشرة وبلغةٍ (شعبية) وهو ما يُضفي على أعمالهِ الكتابيةِ النثرية طابعَ المتعة رغم إنه عرضٌ مؤلمٌ لهذه الشخوص المتضخمة الفقيرة فكرياً والمدعية.
وفي تصوري بأن عمله (7) أو « سبعة »، يشكلُ تطوراً في بنائهِ الإبداعي، فهذا العمل البالغ 340 صفحة،(10)، ليس من نوع التدفق المنولوجي المطول لشخصية واحدة، بل هو تدفقات منولوجية لعدةِ شخصيات على مدى هذا العمل، كلٌ منها يقومُ بعرضِ عدة أيام من حياته، ومن خلالِ يومياتٍ محددةٍ متصاعدة، منضبطة الروي، مما يشكلُ حبكةً تجميعية لهذه الشخوص التي ينفصلُ كلٌ منها عن الآخر، لكنها تلتقي في بعض الأعمال الوامضة نتيجة عيشها في مدينةٍ واحدة هي لندن، وكونها شخصيات من (عربستان×).
(عربستان×) هي العالمُ الذي يضمُ كلَ هذه الشخوص، وهي العالمُ المنقود، والذي يهجسُ به الراوي المتعددُ الشخصيات، وهي العالم البعيد الحاضر، الذي أفرزَ هذه الكائنات الحربائيةَ وجعلَها وهي في قمة الحضارة البشرية تجسد ألواناً غريبة من السلوك والأحداث الغرائبية. الروايةُ هي عروضٌ للفسادِ في العالم العربي.
تتحدثُ في روايةِ « سبعة » سبعُ شخصياتٍ عربيةٍ مهاجرة إلى لندن، كلٌ منها يحاولُ الوصولَ لقلبِ الحسناء جلنار وكلٌ منهم يموت، وكلُ واحدٍ يقومُ بعرضِ يومياتٍ من حياتهِ وعرض اليوميات يصورهم في مهنِهم وعلاقاتِهم بالناس، مما يكشفُ عن الطبائعِ المختلفةِ لثلةٍ من المحتالين وجامعي الأموالِ والشهرة والنساء.
الأولُ شاعرٌ من الحداثيين الذين يكتبون الشعرَ الغرائبي، والساردُ يختارُ هذه الشخصيةَ القريبةَ منه لينطقها شعراً ساخراً مضحكاً، كما يتجولُ من خلالها في عالمِ الأدباء وبيع الكلام للحصول على الأموال والنساء والرحلات المجانية.
ثمة طرافةٌ بلهاء في لغةِ هذا الشاعر: (عيون مازارين آبار منقربه/تؤدي لعالم أسفل/أعلى/اسمّعلتْ الفراشة السوداء/فليتبربخ صانعو الملح في كل مكان)!
يقومُ الشاعرُ بالكتابةِ لفتى يدخلُ المسابقة ويفوز ويستلمُ من أبيه مبلغاً كبيراً، ويدخلنا الساردُ مهرجانات الشعر العربي لنضحك على اللغاتِ الشعرية التقليدية الضاجة بمفرداتٍ عصماء أو بشعرٍ حداثي مضحك، وتقابلهُ صحفيةٌ وتكشفُ سرقتَهُ لقصيدةٍ من شاعر غربي قديم، فيتوارى عن الرد.
لغةُ تعبيرِ الشاعرِ مضحكةٌ ومليئةٌ بالشتائمِ وهي غيرُ لغاتِ تعبيرِ الشخصياتِ القادمةِ الأخرى، فـ(فيلسوف باشا) الساردُ الثاني تخلو لغتهُ من ألفاظِ الشاعر المنفلتة، وهو يعرضُ صراعات الأستاذةِ الجامعيين الطويلة حول المصطلحات وكيف يضربون بعضَهم البعض بسببِ مفردة، ويؤسسُ فيلسوف باشا فلسفةَ الإنتقائيةِ التي يعتبرُها هي تتويجُ الفلسفةِ في العالم، وهو ليس له أي موقف حقيقي من القضايا، فهو مع الدين والعلم، والسلطة والناس، أي مع أي جهةٍ فيها مصلحة، يدعو للمثالية والمادية حسب الظروف والمواقع، ويستغلُ مركزَهُ لعلاقاتٍ تجاريةٍ نفعية، ويقبلُ الهدايا الثمينة خاصةً ويُصَّعدُ جهلةً لشهاداتٍ رفيعة.
أما رئيسُ التحريرِ لأقدمِ جريدةٍ عربيةٍ مُهاجرة ظهرت في لندن، فهو إنتهازي آخر لكن على مستوى كبير، يلتقي بضابطٍ يعطيه سرَ صفقةٍ لشراء دبابات لدولةٍ عربيةٍ والدباباتُ عتيقةٌ باليةٌ والصفقة مُكلفة، فيقومُ بحملةٍ ترويجيةٍ أولية عن الخبر القادم، لكن الجهة الأخرى المتضررةَ من النشرِ فيما لو حدث تدفعُ له أكثر وتهدده فيختفي الخبرُ ويعتذرُ للضابط عن عدم النشر بسببِ قصورِ المعلومات وعدم دقتها!
نموذجٌ آخر هو نموذجُ السياسي الطائفي الذي يسمي حزبَهُ إسماً نضالياً ثورياً مزاوجاً بين الذهاب للضيعة والسيطرة على الجماعة الدينية، وتتهمهُ مذيعةٌ فضائية في مقابلةٍ مباشرةٍ بالإزدواجية في كونه إقطاعياً مهيمناً على القرية من خلالِ العائلةِ والأرض والمذهبِ ويدعي النضالَ والتغيير، لكنه ينفي ذلك مُستعرضاً إسم حزبه الإشتراكي التقدمي، وموجهاً بضعة أفراد للمشاركةِ أثناء المقابلة ليدافعوا عنه عبر سيطرتهِ كوزير على الاتصالات!
أما نموذج رب العمل فهو ينوعُ وقتَهُ بين إبتكارِ سلعٍ إستهلاكية غريبة والسفر وتصيد النساء، ومن أهم السلع التي يسافر عبر القارات من أجلها هي (همبرجر) خاص من لحم الجِمال و(سمبوسة) معلبة حين تُفتح وتُسخن تغدو طازجةً تماماً! وهي ذاتُ الشخصيةِ البدوية الإشكالية، لكن الشخصية تغدو هنا إشكالية عربية قومية مشتركة، وهو أمرٌ يوسعُ البناءَ الروائي ويتجاوزُ أسلوبَ التداعيات الحرة الكلية.
يقوم الساردُ بعرضِ ثقافةِ ربِ العمل هذا وكيف لطشَ رأسَ مالهِ، وكيف يروي لعشيقاتهِ قصصاً مزيفةً عن بطولاتهِ في البادية، وكيف يظهر منتقلاً من نيويورك إلى لندن إلى الهند واليابان صارفاً الكثير على المرافقات الحسناوات والمشعوذين الهنود خاصة.
عديدةٌ هي الشخصياتُ التي تتدفقُ بالأسرارِ والفضائح والعلاقات في الرواية، وتدهش من كميةِ التفاصيل التي يرويها المؤلفُ الساردُ عن عوالم هذه الشخصيات وكيف يجلبُها من خبرةٍ ومعايشة، فتجدُ أسرارَ الصحفِ العربية في العاصمة البريطانية جنباً لجنبٍ مع قضايا الدول العربية وما يجري في دهاليزِها من طبخاتٍ سياسية وإقتصادية فاسدة، وترى العالمَ السفليَّ المروعَ لهذه الشخصياتِ الغنيةِ المثقفة المهيمنةِ على عوالم السياسة والمال والصحافة.
وتبقى الحبكةُ التي يقيمُها المؤلفُ عن السبعةِ العشاق لجلنار وموتهم المشترك بسببِ المشروبات والغرق والتدخين المشبوه، مجردَ أداةٍ شكليةٍ على طريقةِ شهرزاد، للبوحِ بالأسرارِ التي يعرفُها الكاتبُ والسفير والوزير عن البلادِ العربية ومن خارجها.
وهي ثيمةٌ رمزيةٌ رومانسية في كون جلنار الفتاة الجميلة تبقى نقيةً عذراء رغم هجوم هذه السباع عليها! فكأنها رمزُ الواقعِ أو الحلم غيرُ المدنسِ المبثوث في عالم القصيبي الشبابي!
حيلةٌ فنيةٌ شكلية رغم أن القصيبي إهتمَّ بشخصيةِ جلنار هذه وبثَّ قصتَها في إنحاءِ العمل، ثم أفردَ لها فصلاً خاصاً تعري فيه ما هو مفضوح في الواقع، مثلما أوجدَ بعضَ العلاقات بين بعض الشخوص، وحاولَ أن يرتقي بعملهِ إلى مصافِ الرواية ذات التداخل والبناء المترابط الفني الغني.
【رواية « الجنية »】
في رواية « الجنية » تُقدم الشخصيةُ الإشكاليةُ البدويةُ التحديثية المأزومة بنفسِ ضميرِ المتكلم السائد في روايات المؤلف، لكن من خلالِ مبنى سردي رصين متصاعد ذي تداعيات منضبطة معقلنة، والراوي يقدمُ نفسَهُ منذ البداية ويقدم الإشكالية الاجتماعية في حدث يمثل بؤرة الرواية، وهو لقاؤه مع فتاةٍ جنية تدخلهُ عالمَ الجن الغرائبي الذي يتضحُ إنه عالمٌ معقول بخلافِ عالم الإنس غير المعقول.
الأستاذ الجامعي ضاري ضرغام الضبيع المختزل في ض. ض. ض، هو هذا البدوي المثقف، الدارس في أمريكا والذي تغوص قدماه في ثقافةِ السحر يلتقي بفتاة مغربية ويحبها ويقتربان من تجربة زواج لكنها تموت، وتحل بدلاً منها جنيةٌ تتقمصُ شكلَها، وتدخل في علاقة عشق مع ضاري.
تُقدم حيثياتٌ كثيرةٌ لتبرير أن الفتاة هي من عالم الجن، فهي قادرةٌ على التلون في أجساد عديدة وإختراق الأزمنة وعلى الحضور والإختفاء، ولا ينجح زواجها مع ضاري بسبب إنه لا يريد مثل هذا الزواج السحري المنسجم الكامل، بل يريدُ زواجاً فيه بعض المشكلات والتضاد حتى يشعر ببشريته.
تتشكلُ حلقاتُ التطور السردي من عقلية الأستاذ الجامعي الذي يبحثُ الإشكاليةَ السحرية من خلال المراجع الدينية والعلمية المختلفة، وهو يعرضُ علينا بعضاً منها، مناقشاً ومفنداً ومؤيداً، وهو يبدأ الرواية كأطروحةٍ عارضاً كيفية ظهور الخرافات في الجزيرة العربية وأهم الشخصيات الرموز فيها ومن خلال تصوير متلونٍ ساخر متوتر، ويستشهد بمراجع لمثقفين يشككون في الظاهرة لكن ثمة رموز أعلام موقرة تؤيدها مثل كتاب آكام المرجان في أحكام الجان للشبلي:
(إلا أن الموضوع الأكثر أهمية وإثارة في آكام المرجان هو"مناكحة الجن". يقسم المؤلفُ الموضوعَ إلى قسمين، أولهما بيان إمكان ذلك ووقوعه، وثانيهما بيان مشروعيته)، (10).
يتداخل السردُ بالمصادر، وتتنامى المصادر إلى رموز الحركة السلفية والإسلامية عامة، ولا يأتي القرآن في خلال ذلك، بل بشكلٍ بعيدٍ متوارٍ، وكل هذه المصادر تؤيد وجود الجان.
وإذ يترك الراوي المصادر يدخلُ في ثنايا الحركة السردية، ونرى الشخصيةَ الراويةَ الساردة تقومُ بهذه العلاقات المتداخلة مع الجان، خاصة الجنية وأخيها (قنديش بن قنديشة)، فتُعرضُ تفاصيلُ هذه العلاقات عبر الرسائل والهاتف الجوال المختص بعالم الإرسال الجني، وعبر اللقاءات المباشرة، بين لقاءات عاطفية حميمة وعلاقات حوار ثقافية – علمية مع الأخ الجني المثقف الذي يعرضُ عوالمَ الجن المتحضر المسلم، وهي غير عوالم الشياطين الشريرة، والتي يرى إنها هي التي خلقت الدكتاتوريات في عالم البشر..
رؤية ضاري المسرودة هي رؤية المسلم العادي المنقسمة بين عالمين، حقيقي وغيبي، وهو أذ يعرضُها بسخرية يجسدُها بجدية وعبر عالمٍ متحقق فعلي، فيحشد الحيثيثات كعالمٍ إنثربولوجي التي تعري وتؤرخُ وتنقدُ تشكلَ هذه الظاهرة المتخيلةَ في الوعي البشري، ويقدم حيثياتٍ أخرى خاصةً تجربتَهُ في التعايشِ مع الجن!
تعبر هذه الرواية المكثفة، ذات اللغة التعبيرية الجميلة، الخطابية، السردية المتلونة، عن تحويل إشكالية البطل المنقسم إلى إشكالية إجتماعية إيديولوجية تراثية معاصرة، متنقلاً بين سرد حياة الشخصية المركزية وعرض مراجعها، فيتجسدُ البطل مشروخاً بين التراث والعصر، بين وضعه الأكاديمي المعارض لمثل هذه الخزعبلات وبين تأييدها والعيش داخلها كإنسانٍ عادي، وعبر تكوين كافة التفاصيل السردية وتشكيل الشخوص والأحداث الإنسانية والجنية، في دراما متصاعدة ساخرة من هذه التناقضات.
【استنتاجات】
لم يستطع البناءُ الموضوعي العادي لبناء الرواية في تجربة غازي القصيبي أن يتشكل بعد « شقة الحرية » فظهرَ نسف للبناء الروائي المتراكم الوحدات، المتنامي الشخصيات، المتوجه لتحليلات عميقة نقدية كاشفة للأبنية الاجتماعية، خاصة لبلد ومنطقة الروائي، وقد لاحظنا إزدواجية نقد مصر وعدم نقد الخليج في « شقة الحرية »، ومن هنا قامت العناصر السردية المبثوثة في تجربة غازي القصيبي في إحتلال مكان تلك العناصر الكلاسيكية الروائية.
فمن أشعار الأخوانيات والمشاغبات والمطارحات الشعرية الهزلية والجادة وطرق الحكايات العربية كألف ليلة وليلة تشكلت روايات ما بعد شقة الحرية التي تقوم على الهذيان والسخرية الاجتماعية السياسية واللامعقول والمعقول والمنولوجات الكاسحة والتقارير والخطب والأشعار الفصيحة والبدوية، حيث تنشر خطاباً نقدياً لمجتمعات متخلفة حولت الثروات إلى خرافات وبنايات آيلة للسقوط، والدين إلى شعوذة وجمود، وهذا كله في أشكال فكاهية هازئة ناقدة وفي خيوط من العبث والغموض والوضوح.
كما تواجه الخليج والعالم العربي عامة بالتعميمات والترميز، ولهذا تنتشرُ تسمياتٌ مثل أبوشلاخ البرمائي وعربستان× وسبع شخصيات تعيش في لندن لا في البحرين أو الرياض أو القاهرة،
ولهذا فإن الشكل التحليلي الكلاسيكي لا يتقارب وتجربة شاعر رومانسي إرستقراطي، ناقد، نهضوي، لا يتلوث بفساد، بل يسعى للبناء الاقتصاي الاجتماعي التحديثي، فتبدو خطاباته النثرية والروائية رجراجة، متعدد الأبعاد، تنقدُ بخفة وتلوذ بالأستار.
يقوم هذا البناءُ الروائي المترددُ بين المقالة التحليلية، وبين السرد على إعتمادِ ضمير المتكلم بصفة كبيرة، فينبثقُ الراوي الساردُ المتحدث، وهو الشخصيةُ الرئيسية المعبرة عن إشكالية البدوي التحديثي وتناقضاته، والتي تعتمد على البوح والتداعيات الحرة وبعض المشهديات الرابطة بين الكلام التقريري وبين الكلام السردي، وتنأى عامة عن الأمكنة الواضحة المحددة وعن المواجهة التحليلية السردية، وتدخلُ أمكنةً مبهمة، وتتناول قضايا إجتماعية عامة يعيشها العالم العربي، وتبتعد عن مواصفات الرواية العادية بإعتماد الوصف والعرض وتنمية الشخصيات في تضاريس الأرض الاجتماعية والحفر النقدي التحليلي فيها.
هذه السمات ليست فقط معبرة عن خاصية غازي القصيبي الأسلوبية بل هي كذلك تعبير عن منطقة إجتماعية جغرافية تأخر فيها تكون الرواية وتأخرت فيها الديمقراطية (بل وحتى الإختلاط وحقوق النساء العادية)، فصارتْ الروايةُ بين مرحلتين، مرحلة ما قبل الرواية وما يسودُ فيها من تقنياتِ الإنشاء والخواطر والمغامرات وأشكال القصص القديمة، وما هو في زمن الرواية من إعتماد الحبكة المترابطة التحليلية النقدية العميقة للواقع وسيادة للواقعية.
ولدى غازي القصيبي تغدو الأمورُ أكثر ذبذبةً ومراوحة، فهو شاعرٌ يعيشُ في الطبقة الحاكمة، وتغدو كلماته وأعماله الثقافية والإبداعية مرصودةً، فلا يستطيع أن يتوغلَ في الحفر الكاشف الواضح.
ومن هنا تأتي غيومهُ الفنيةُ الكثيفة وإعتماد أساليب البوح الذاتية المضطربة المتداخلة بين المعقول واللامعقول، بين الوضوح والغموض، بين الكشف والترميز.
لكنه كفردٍ من فئات وسطى نهضوية تداخلتْ بعالم الغرب التحديثي الديمقراطي يسعى لتجاوز التخلف والشمولية وهي فئاتٌ ضعيفة محاصرةٌ في العالم العربي الإسلامية عامة وفي الجزيرة العربية خاصة، ومن هنا كذلك يتم الابتعاد عن الواقعية المكشوفة كما في شقة الحرية وتنمو الفنتازيا واللامعقول وتتغلغل التحليلات والانتقادات عبر طبقات كثيفة من الرموز والظلال.
ومن هنا فإن الشخصيةَ الإشكالية (البدوي التحديثي) التي تعيش مرحلةً إنتقال تعبيرية وإجتماعية حادة، يضع قدميه في عالمين مختلفين مضطربين، ويعبر عن هذه المرحلة الانتقالية ومن خلال فئات ذات نفوذ وقدرات مالية كبيرة، وموضوعات بعضها يعبر عن سيادة سكان معينين جاءوا متأخرين للحداثة كما يحدث في رواية « الجنية ».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصادر:
(1) دليل الناقد العربي تأليف سعد البازعي وميجان الرويلي.
(2): المجموعة الشعرية الكاملة، ص13، 14، دار المسيرة، البحرين.
(3): سيرة شعرية، ط2، ص39، تهامة، السعودية.
(4): شقة الحرية، دار رياض الريس، بيروت، ط5، ص 17.
(5): المصدر السابق ص 49.
(6): المصدر السابق ص 255.
(7): المصدر السابق ص 271.
(8):أبوشلاخ البرمائي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط 5، ص 23.
(9): تجاربٌ روائيةٌ من الجزيرة العربية، عبدالله خليفة، ص23، وكالة الصحافة العربية ، مصر.
(10): سبعة، دار الساقي، بيروت، 1998.
(11): الجنية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط 3، ص87.
https://abdullakhalifa.blogspot.com/2...
عبـــــــدالله خلــــــــيفة عرض ونقد عن أعماله
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 03, 2019 15:03 Tags: غازي-القصيبي

July 30, 2019

يوسف كرم ⊛

يوسف كرم مؤرخٌ للفلسفةِ ومفكرٌ فيها، جاءت عائلتهُ المسيحيةُ من لبنان وعاشتْ في مصر في ضنكٍ، وعبر اعتمادٍ على عصاميتهِ استطاع يوسف كرم أن يتعلمَ حتى يصل إلى السفر إلى فرنسا ونيل الدكتوراة ، ثم اشتغلَ في التعليم وقامَ بعرضِ الفلسفات الغربيةِ عبر مؤلفاتهِ عن الفلسفة اليونانية والفلسفة الأوربية الوسيطة فالحديثة، ( 1 ) .
بدأ في صياغةِ رؤيتهِ الفلسفية الخاصة عبر كتابيه (العقل والوجود) و (الطبيعة وما بعد الطبيعة) .
يحاولُ يوسف كرم أن يقيمَ توازناً بين العقل والدين ، بين الوعي الإنساني وما بعد الطبيعة ، عبر مركزيةِ موروثهِ الديني المشرقي وبجذورِ الفلسفةِ الأرسطية والإسلامية في العصر السابق ، وهي الموروثاتُ التي تعرضتْ في الغرب لعواصفِ المدارس الفلسفية الحديثة .
وهو يقيمُ تأريخَهُ الفلسفي عبر عرضِ مقولاتِ كل فيلسوف ومفكر ، بدون العلاقة الجدلية بين النص الفلسفي الُمنتّج والوعي الفكري العام والوسط الاجتماعي .
❜❜ ضد الحسية والتصورية
يفتتحُ يوسف كرم كتابَهُ ( العقل والوجود ) بمناقشةِ من يسميهم ( الحسيون ) ، يقول :
(ينكر الحسيون وجود معانٍ في أذهاننا ، ويبنون هذا الإنكار على اعتبارين : أحدهما أنه لما كان كل موجود حسياً كانت معارفنا إما احساسات أو راجعة إلى احساسات . والاعتبار الآخر أن المعنى الكلي تصورٌ متناقض يلغي عجزه صدره إذ الكلية تمنع المعنى من التعيين ، بينما كل موجود وكل تصور فهو معين حتماً .) ، ( 2 ).
إن الحسيين كما يصفهم يوسف كرم ، أو التجريبيين كما يسمون أنفسهم ، يشددون على قضيةِ الوصول للعام من خلال استقراء وبحث الخواص ، فهم لا ينكرون وجود معان بل ينكرون أن يوجد في الذهن أو في الوعي كائنات وأفكار عامة غير مفحوصة معملياً وبحثياً ، ولكن يوسف كرم هنا ينقدهم على هذا التشدد لكنه يعرض رؤيتهم للكل :
(إنها صورةٌ تــُـكتسب بالانتباه إلى الخصائص المشتركة بين الجزئيات وفصلها عن الخصائص الذاتية لكل جزئي ، وهذا هو التجريد عندهم )، ( 3 ) .
لكنه لا يقوم هنا بعرضِ كيفية وسببية هذا التدقيق والاشتراط من قبل التجريبيين للوصول إلى الكلي ، حيث اعتمدت النهضة الأوربية لعزل التصورات غير العلمية عن الأشياء وأفكارنا عنها ، إلى عدم الوصول إلى تعميمٍ بدون تجربة .
ولهذا فهو يحاكم هذه التجريبية بمنطق فلسفي قديم ، يقول :
(ونبدأ بالكلام على الصورة المركبة فنقول : إن الحصول على صورة من هذا القبيل يقتضي أن تكون الصور الجزئية قليلة العدد شديدة التشابه ، فإذا حُذفت إحداها أو أضيفت أخرى تعدلت الصورة الناتجة عنها )، ( 4 ) .
إنه يتوجه إلى عمليةِ تحليلٍ صورية للمعنى الكلي العام ، فــ( كيف نحصل على صورة متوسطة للحيوان باستخدام صور الأنواع الحيوانية .. ؟ ) ، وهو لهذا يستشهد بابن سينا الذي يقول :
(ليس يمكن في الخيال البتة أن نتخيل صورة هي بحال يمكن أن تشترك فيه جميع أشخاص ذلك النوع [ أي الممثل بالصورة ] فإن الإنسان المتخيل يكون كواحد من الناس ) ، ( 5 ) .
إن الوصولَ إلى العام هو رهنُ استقراءِ الخواص ، وهذا في التعميمات العامة النظرية ، أما الوصول إلى استنتاجات كلية ، أي الوصول للقانون في الظاهرة فيحتاج إلى فحص كل جزئي وخاص بشكل تجريبي ، وتحديداً فيما يتعلق بالظاهرة المحددة .
لهذا فإن المنطق النظري التعميمي لابن سينا في عبارته المستشهد بها هنا فإنه لا يصلح في زمن الاكتشاف التجريبي الحديث . فالعام رغم أنه غير موجود إلا في الوعي الفاحص للجوانب المشتركة في الجزئيات ، إلا أن الوصول إليه في هذه الأشياء الخاصة المتعددة ، يأتي عبر الاكتشاف التجريبي الدقيق لخواصها . وبهذا يحدث التعميم .
إن هذه اللغة الفلسفية القديمة للباحث لا تقف أمام أهمية هذه التجريبية :
(ويلاحظ أرسطو في مطلع كتاب السماع الطبيعي تأييداً لهذه أن الأطفال يميزون بين الإنسان واللاإنسان قبل أن يميزوا بين إنسان وآخر ) ، ( 6 ) إن هذا صحيح فيما يتعلق بهذه التعميمات الكبيرة أما في قراءة جزئيات المادة وعلاقاتها الداخلية فالأمر لا يحتاج إلى فحص العادات الاجتماعية والاستعانة بالمنطق الصوري بل عبر البحث التجريبي الذي يظل مفتوحاً دون نهائية معرفية أخيرة.
ويواصل يوسف كرم تحليل هذه القضية قائلاً :
(لا نقصد أن العقل ينفذ فوراً إلى صميم الأشياء ويبلغ دفعةً واحدة إلى خصائصها الجوهرية . إننا لا نزعم للعقل الإنساني مثل هذه المقدرة ، بل لا نخشى أن نعلن أنه لا يصل أبداً إلى ماهيات الماديات ولا يكشف عن فصولها النوعية ، فلا يحدها الحد الذي يشترط المنطق في العلم الكامل ، اللهم فيما سوى الماهية الإنسانية التي نعرف أن النطق فصلها النوعي )، ( 7 ) .
إن كلمات مثل : ( جوهر ) و ( ماهيات ) و ( الحد ) و (الفصل النوعي النطقي للإنسانية ) والتي تشيرُ إلى اللغةِ الفلسفية القديمة ، يتجاوزها الباحثُ حين يتحدث عن ( تعريف العناصر الكيمائية بوزنها وألفتها وآثارها ) ، ( وتــُعرف النباتات والحيوانات بالهيئة الخارجية والتكوين الداخلي ونوع الغذاء ) ، وهي ألفاظٌ تقربنا من العمليات الداخلية المركبة والمتحولة باستمرار في الطبيعة لكن ليس في الظاهرات الاجتماعية التي لا تدخلها العلوم حسب مادة يوسف كرم الفلسفية .
إنه بعد أن توصل إلى خلاصة نظرية عامة بإمكانية الوصول إلى التعميم [العلمي] بشكل نظري مجردٍ عقلي في الطبيعة ، فإن الرياضيات مفروغٌ منها؛ (فمعاني الدرجة الثانية التي هي موضوعات الرياضيات معقولات صرفة من غير شك ، فإنها بريئة عن المادة المحسوسة التي تحجب الماهية ) ، ( 8 ) .
إن كلمة ( بريئة عن المادة ) تحيلنا إلى قاموس الفلسفة العربية الدينية القديمة ، وإلى كون المادة ( حجاب ) عن الماهية ، بخلاف ما اقترب منه سابقاً بأن المادة مجموعةُ عملياتٍ وليست ماهيات متوحدة خارج المادة . كما أن الرياضيات هي ذروة تجريدية لحركية وتداخلات كم المادة وليست جوهراً عقلياً مفارقاً .
وهذا الانتقال المتصاعد ارتفاعاً فوق التجريبية والمادية الملموسة له جانب معقول هو الوصول إلى عملية تجاوز الحسية المباشرة المتجمدة عند هذا المستوى ، غير أن الباحث يريد كذلك الصعود نحو عالم الغيب وما وراء الطبيعة عبر ما يسميه ب ( أحكام العقل).
يقول :
(ومعاني الدرجة الثالثة المجردة عن كل مادة محسوسة أو معقولة ، كمعاني ما بعد الطبيعة والنفس والأخلاق والمنطق . ) ، ( 9 ) . (وعلى ذلك يخطئ الذين يفسرون الكون بتطور المادة ، واضعين في الأصل القوة والاختلاط زمناً غير متناهٍ ، ولو صح زعمهم لما أمكن أن تخرج الأشياء من القوة إلى الفعل ، ومن الاختلاط إلى النظام . وبفضل هذه البديهيات يتفق العقل مع الوجود ، ويصعد إلى فاعل أول . ) ، ( 10 ) .
إن الجانب الأول من رؤيته صحيح تماماً ، ( فإن الصورة الجزئية لا تفسر المعنى على أي وجه أخذناها ) ، ( ص 23 ) ، لكن ليس صحيحاً التجريد الذي ينقله يوسف كرم عن ابن سينا :
(إنه انتزاع الكليات المفردة عن الجزئيات على سبيل تجريد لمعانيها عن المادة وعن علائق المادة ولواحقها) ، ( 11 ) .
فالكليات غدت ليس تجريداً عن المادة ولواحقها بل هي الوصول لقانون عن حركة لها . والوصول إلى هذا القانون يتمظهرُ بأشياءِ المادة ولواحقها ، وإذا أخذنا المادة كذلك بشكلٍ موسع باعتبارها العمليات الموضوعية خارج الذهن .
فإذن يتراكبُ المجردُ والحسي في القانون العلمي الذي يزداد اقتراباً من حركة المادة دون أن يستطيع التطابق الكلي معها . فيغدو مقاربةً لا مطابقة ، أدواته الأولى ظاهراتها للوصول إلى سببياتها . والسببيات هنا هي علاقة مطردة بين أشيائها وحركاتها .
ينهي يوسف كرم هذا المقطع بقوله : ( التجريد إحالة المحسوس معقولاً ) . إن الإحالة إلى التجريد دون الترابط الوثيق بين الظاهرات وسببياتها الداخلية ، قد يقود إلى ما وراء الطبيعة ، خاصةً مع عدم فهم عمليات المادة وكون تغيراتها نتاج تضاداتها الداخلية .
وإذا عدنا لعبارته السابقة ، بقوله (يخطئ الذين يفسرون الكون بتطورِ المادة ، واضعين في الأصل القوة والاختلاط زمناً غير متناهٍ ، ولو صح زعمهم لما أمكن أن تخرج الأشياءُ من القوة إلى الفعل ، ومن الاختلاط إلى النظام الخ . . ) .
تشير العبارةُ هنا كذلك إلى مفرداتِ الفلسفة الدينية القديمة ، حيث المادة الناقصة العاجزة عن التطور ، وكون الأشياء في حالتين : حالة القوة الكامنة غير المعروفة المصدر ، وحالة الفعل الناجز غير المردود إلى حركية المادة الداخلية.
ويصيبُ يوسف كرم في أحكامٍ له عن الحسيين الاسميين الذين يوقفون تطور العمليات الادراكية عند المستوى الحسي، ويرفضون الارتفاع إلى التعميم :
(يلزم من ذلك أن العلوم تدور على أشياء لا على ألفاظ كما يدعون . وقد اعتقد باركلي أنه يؤيد المذهب الحسي في هذه الدعوى باستشهاده بالحساب والجبر كعلمين اسميين يدوران على علامات عرفية لا على أشياء ولكنه كان واهماً : فقد نسلم جدلاً باسمية هذين العلمين فتبقى لدينا موضوعات سائر العلوم وهي تمثل أشياء واقعية ، فهي تتطلب تفسيراً آخر غير الأسمية).
بل أن المؤلف يتراجع عن حكمه السابق بانفصال الرياضيات عن المادة ) فكل الحروف المستخدمة في الجبر، ولكل الأعداد المستخدمة في الحساب، دلالة خاصة تجعل المدلول في حكم الشيء الواقعي) ، (12) .
وعبر هذا المنطق المعقول يريد يوسف كرم أن يجمعَ مرةً أخرى كما جمع فلاسفةُ المسلمين والمسيحيين بين المنطقِ الأرسطي والفلسفة الأرسطية وبين العقلانية المعاصرة، مؤكدين إمكانية تعقل المادة، وتعقل ما هو راء الطبيعة كذلك، غير أنه يتجاوز ارسطو الذي أكد استقلالية العالم نحو جوانب غيبية أبعد، تجمعُ بين العلوم وتجاوز التخلف عبرها، وبين الحفاظ على المبنى الديني:
(وإنا لنلفت النظر إلى هذه النقطة، فقد اختلط الأمر على بعض الفلاسفة، وفي مقدمتهم الحسيون: فإذا قلنا إن لأفعال الكائن الحي علة نسميها النفس، وإن للعالم علة نسميها الله ، قالوا أنهم لا يرون النفس ولا يرون الله ، ونحن لا نطلب إليهم أن يروهما ، بل أن يؤمنوا بوجودهما كما يؤمنون بوجود النار ولنفس السبب الذي هو ضرورة العلة . .)، (13) .
إن من حق المؤلف أن يجعل ثوابت المنطقة كركائز إيمانية وحضارية لتطورها الحديث ، ولكن مسألة تشكيل وعي عقلاني وعلمي مسألة شائكة ومركبة، ونحن لا بد أن نبعدَ الركائزَ الدينيةَ والسياسية والإيديولوجية المختلفة عن مسألةِ البحث العلمي هذه .
إن مسألةَ الوصولِ إلى وعي بالقانون في الظواهر الطبيعية والنفسية وغير ذلك من ظاهرات إنسانية رهن التداول العلمي، وهو بحدِ ذاتهِ أمرٌ قائمٌ على دراسة دواخلها، أي دراسة كياناتها الداخلية والوصول إلى قوانينها بالتالي، والفلسفة الأرسطية لم تستطع الوصول إلى حركية المادة الداخلية، ومن هنا فإن يوسف كرم يسوقُ عبارته السابقة الذكر عن المحركِ من خارجِ المادة ، وهذا إسقاطٌ ديني مباشر، لأننا في مجال دراسة الطبيعة والحياة النفسية والاجتماعية، وهذه الأخيرة لا تحظى بالدخول في عالم الدراسة الموضوعية مثل الطبيعة المباشرة، كما حدث ذلك في الفلسفة العربية القديمة.
فالإيمان الديني مجاله مجالٌ آخر وليس عبر إدراجه من داخل البحث العلمي .
ومن هنا والمؤلف يناقشُ فلاسفةَ التحديثِ الأوربي ، وهو لا يضعهم في سياقهم التاريخي ، بل يأخذُ آراءهم بمعزلٍ عن البنية الاجتماعية التاريخية التي تشكلت فيها ، فيجادلُ ديكارت في ذلك الموقف الفرنسي العقلي الأول في زمن تفتح الحداثة ، فيقول :
(ومن الفلاسفة ، وعلى رأسهم ديكارت وسبينوزا ، من جافوا منطقَ أرسطو حتى تجاهلوا هذا الفهم للحكم ، وقرروا أن في النفس معاني ، وأن الحكم هو التصديق بالمعاني . قال ديكارت : إن العقلَ قوة انفعالية بحتة ، وبالعقل وحده لا اثبت ولا انفي ، بل اقتصر على تصور الأشياء التي أستطيع أن أثبتها أو أنفيها ، والإرادة هي القوة الفاعلية ، وهي التي تحكم الخ . .) ، ( 14 ) .
ويرد يوسف كرم على ديكارت قائلاً بأن ) ليس من شأن الإرادة الإثبات أو النفي ، إلا بتسويغ من العقل) .
وهذا الكلام كأمرٍ مجردٍ صحيح ، ولكن ما هو [ العقل ] في زمن ديكارت ؟ إن العقل التجريبي شبه غائب وهو يتشكل تحت عباءة العقل الديني المسيطر ، ولهذا فإن هذا العقلَ الديني له ثقافة كبرى مسيطرة على العلوم وهي كلها غير مرتكزة على بحث تجريبي ، ومن هنا فإن ديكارت لا يفصلُ العقلَ عن التجربة ، بل يفصل العقلَ الديني عنها ، من أجل أن يتكون مسارٌ ثقافي علمي متراكم ، ولكن يوسف كرم يحاكم ديكارت بشكلٍ تجريدي ، وليس من خلال زمنه التاريخي المعرفي ، كذلك فإنه لا يعتبرُ تلك الخلفيةَ الدينية ، أي ذلك العقل الديني معرقلاً لتطور المعرفة العلمية ولهذا يأخذ كلمة [ العقل] بشكلٍ مجرد وبمعنى وحيد .
ويوسف كرم يقول هو نفسه عن تصورات ديكارت المنهجية :
(ولكن الفكر أشتاتٌ من تصورات جزئية يراها ديكارت غامضة مختلطة ، وتصورات يراها جلية متميزة مرتبطة بعضها ببعض ارتباطاً ضرورياً . الطائفة الأولى تضم احساسات الحياة العادية ، والطائفة الثانية تضم الموضوعات العلمية . ولقد كان من الأهمية بمكان عظيم عند ديكارت ومعاصريه صون العلم وتبريره . . . )، ( 15 ) .
وبهذا قاد المنهجُ ديكارت (في تفسيره لموضوعات العلوم إلى أنها مؤلفة من ( طبائع بسيطة ) غريزية ، مدركة إدراكاً حدسياً بالعقل وحده فلا يخطئ فيها العقل ، وإنما هو يتخذ منها أصولاً لاستنباط العالم أجمع ) ، ( 16 ) .
إن حالةَ ووضع ديكارت في القرن السابع عشر تشبه حالة يوسف كرم والعرب والمسلمين عموماً في القرنين 20 و 21 ، من حيث نقص ارتباط الوعي الفلسفي بمعامل التجريب وبحقول الدراسة في الجامعات ، ولكن ديكارت وهو في حالة التخلف المعرفية – التقنية تلك ، كان يزيحُ الطبقةَ الكثيفة من الوعي العام ، مستنداً على عقلٍ حدسي متوجهاً إلى الوقائع المحددةِ ، تاركاً للوعي الديني مجاله الميتافيزيقي والاجتماعي خارج العلوم .
ومن هنا كان التوجسُ العلمي لدى ديكارت ومعاصريه من الأوهام والظنون ( خارج العارف ) ، ويواصلُ يوسف كرم القولَ عن ذلك:
(ومتى كانت هذه طبيعة المعرفة فهي لا تقع إلا على موضوع باطن ، فلا يسع العارف أن يعرف غير ذاته ، لا يسعه أن يهرب إلى خارج لكي يعرف موضوعاً خارجياً .. ) ، ( 17 ) .
وبطبيعة الحال فهو كما يقول يوسف كرم فإن [ استبعاد الشيء الخارجي ] هو أمرٌ غير ممكن ، فالمثالية الفلسفية هنا لدى التجريبيين والعقليين ، تقوم بحصر المعرفة بين العقل وعملياته الداخلية ، لكونها تتصور الوعي هو الموجود وما هو خارجه غير موجود ، ولهذا فهو يتساءل ؛ (وكيف يمكن أن نحصل على عين الاحساسات إذا لم يكن هناك أشياء ؟)، ص 77 .
لكن التجريبيين والعقليين في ضوء الخروج من ثقافة الكهنوت كان لا بد لهم من التركيز على المعرفة العلمية المحضة ولهذا ( لا يلجأون إلى الله لتعليل اعتقادنا بوجود الأشياء)، ص 77 ، لكن يوسف كرم لا يتابعُ عملياتِ النفي المستمرة لفلسفة المثالية الذاتية ، أي التي تحصر المعرفة بوعي الذات ، حيث قامت الفلسفةُ الهيجلية بتجاوز جدلي بإدغام العقل والأشياء في وحدة جدلية معرفية تنمو بشكل متصاعد ولكن عبر مثالية موضوعية كبرى .
ومن هنا كانت اكتشافات فلاسفة عصر الثورة الصناعية والتنوير المعرفية تقوم على هدم ثقافة العصور السابقة غير الجدلية وغير التاريخية ، كتصور جان لوك بكون عقل الطفل صفحة بيضاء ، على اعتبار أن المعرفة والثقافة عامة تتشكل منذ البدء .
وبعد ذلك حين تتجذر الثورةُ الصناعية في البلدان الأوربية الرئيسية يتمُ تجاوزَ منهجيةِ ديكارت وهيوم ولوك إلى مستوياتٍ أرقى ، ولكن يوسف كرم لا يأخذُ المبنى الفلسفي كنصٍ داخلِ بنيةٍ اجتماعية تاريخية ، ويرى أن المثالية الذاتية تم تجاوزها ، في مثاليات موضوعية كفلسفة هيجل ، أو في فلسفة المادية الجدلية .
ويواصلُ يوسف كرم نقدَهُ للفلسفات المثالية القاصرة عن رؤيةِ الواقع والأشياء الخارجية ، وهو نقدٌ صائب ، كنقدهِ لفلسفةِ ( كانت (الذي يقولُ بأن الامتدادَ ) صورة ذهنية يضيفها الذهن إلى المحسوس ، بدليل أن التجربة جزئية حادثة)، ص 78 . إن (كانت) هنا في تأكيدهِ لقصور الامتداد ، يجعل الذهنَ يتحكمُ في العالم الخارجي ، وينفي كرم ذلك قائلاً : (بل من السائغ جداً أن نقول على مذهب أرسطو إننا نكتسب بالحواس صور الأمكنة الجزئية الحادثة ، ثم نجرد منها معنى المكان البحت بأقطاره الثلاثة ، والمعنى المجرد كلي ضروري كما نعلم ، والقضايا التي تضيف إليه محمولات ذاتية هي كذلك كلية ضرورية . )، ( ص 79 ) .
إن المكان كلي وجزئي ، متصل ومنقطع ، أرضي وكوني ، ومتداخل بالزمان ، ولم يعد منطق أرسطو رغم احتوائه على خلية موضوعية قادراً على فهم المكان بصورة حديثة ، ولكن يوسف كرم وهو يناقش [كانت ] ، كانت ثورات علمية قد جرت لم يضف ثمارها إلى منهجه .
يستند الباحث على الإحساس كباب أولي للمعرفة ، ثم على العقل عبر اعتماد الأدوات التقنية المساعدة ، (ولولا العقل والبحث العلمي لاعتقدنا أن الشمس لا يزيد قطرها على قدم واحدة ) ، (ص 84 ) .
❜❜ أنواع المثاليات
ويفند الباحثُ الفلسفات المثالية المتطرفة كفلسفة أفلاطون والمثالية الذاتية الحديثة ، ويسميها [ النظريات التصورية ] ، ويلاحظ بأن المثاليين ( مع إيمانهم بباطنية المعرفة ، مؤمنون بالعلم الطبيعي الدائر على الأجسام وتغيراتها ) ، كرؤية الفلاسفة المثاليين المسلمين عادة فالمعقولات ليست مرئية في الله ، ( ولكنها نازلة من عقل مجرد في ذاته يسمونه العقل الفعال أو عقل فلك القمر ، يصدر إلى العقل الإنساني ضوءاً يجردُ به الماهياتِ الحالةَ في المادة ، أو يصدر صورَ هذه الماهيات ، وصور الماهيات المجردة في أنفسها ، فنعقلها . ) ، ( 18) .
وكان ديكارت أول من كون المثالية الحديثة بشكل مغاير للمثاليات الدينية القديمة ، ورغم أنه أعطى الدين سيطرة على الوجود إلا أنه في مجال المعرفة اعتبر ( وجود النفس أنها مشتملة منذ وجودها على معانٍ غريزية أو فطرية بسيطة أولية ، ومن ثمة جلية متميزة ، تؤلف منها أشياء كثيرة ، ومن الأشياء عوالم كثيرة ، فلا تحتاج إلى التجربة إلا لتعلم أي عالم هو موجود فعلاً . ) ، ( 19 ) .
ويواصل يوسف كرم تحليل المثاليات ورؤيتها للمعرفة فيضيف :
( وفطن { كانت } إلى وهن هذا الأساس ، وأخذ على عاتقه أن يشيد نظرية العلم حسب مقتضيات المذهب التصوري ، ولكن لا التصورية المطلقة الجاحدة للوجود الخارجي ، وإلا فاتتنا مادة العلم ، بل التصورية المعتدلة التي تعترف بحقيقة للوجود ، بدليل أن الإحساس انفعال ، وأن المنفعل خاضع لتأثير شيءٍ فعال ، وإن كنا لا ندرك من الأشياء سوى انفعالنا بها ) ، ( 20 ) .
ويواصل يوسف كرم تقاليدَ المدرسة الأرسطية و يفند المدارسَ العربيةَ الإسلامية المثالية السابقة والمدارس المثالية الأوربية الحديثة ما قبل هيجل ، متوصلاً إلى نتيجة هامة قائلاً بأن المدرسة الأرسطية :
( وهي تعارض تصور النفس الإنسانية كأنها ملك كريم هبط من السماء حاملاً المعاني أو على استعداد لقبولها من روح علوي ، وتقرر أن الحس متصل بالأشياء اتصالاً مباشراً ، وإن العقل لا يكتسب معرفةً ما إلا إذا تلقى مادتها من الحس ) ، ( 21 ) .
وهكذا فإن يوسف كرم يعطي معنيين مختلفين للعقل المنفعل والعقل الفعال ، بجعلهما داخل ( الوعي ) ، وهو يستخدم تعبير النفس القديم ، فيغدوان مستويين من التحليل فيحدث في الوعي (الانتقال من المحسوس إلى المعقول بتجريد عقلي ) ، ص 92 .
والخلاصة الكبيرة هنا : ( إن اعتقدنا بضرورة القوانين سلمنا بالمطابقة بين العقل والوجود ، وإن لم نعتقد بتلك الضرورة لم يبق لدينا ضمان للعلم . ) ، ص 95 .
هذه الانتقادات هي جوانب جيدة استطاع من خلالها الباحثُ عبر منهجية أرسطو أن يفند محدودية المدارس المثالية الذاتية الحديثة ، فاتحاً الطريق لعلاقة جدلية بين العقل ومعرفة الأشياء لكنها الأشياء الطبيعية وليست الظاهرات الاجتماعية التي تتسربُ من بين أصابع منهجه .
فالوجودُ الذي طالب العقلَ بالمطابقةِ معه ، يظلُ هو القسم الطبيعي ، أما القسم الاجتماعي فإن قضيته أكثر تعقيداً وتركيباً . فهو يريدُ (إثبات النفس والله ومعاني الحرية والخير والفضيلة والجزاء والواجب الخ ) ص 99 ، ولكن كيف؟
إذا كانت المدارس المثالية الذاتية محدودة النظر في مجال فهم التاريخ فإن المدارس المثالية الموضوعية التي قرأت التطور الاجتماعي التاريخي كانت أغنى بمادتها العلمية ، خاصة لدى أوجست كونت وهربرت سبنسر وهيجل ، لكن يوسف كرم لا يستفيد من هذه المادة الاجتماعية المقدمة لقراءة التاريخ ولوضعِ تلك المجردات الميتافيزيقية في دائرة البحث .
فحول نظرية المراحل التاريخية الثلاث لأوجست كونت يقول :
( فدعامة المذهب نظرية الأدوار الثلاثة . لكن أحداً لا يستطيع أن يقيم الدليل على أنها تاريخية . فإن قيل إن الدور اللاهوتي يوافق ما قبل التاريخ وأوائل العهد التاريخية ، أجبنا : إن الإنسان قد عاش في تلك العصور الطويلة وهو يحارب قوى الطبيعة ويستغل ذخائرها ويخترع الصناعات للأستقواء في تلك الحرب وذلك الاستغلال ، وإن كل هذا لم يكن ليتسنى بغير الملاحظة الدقيقة والوقوف على طبائع الأشياء . وإن قيل إن الدور الميتافيزيقي يوافق العصر القديم ، سألنا عن الأرصاد الفلكية ، والصناعات المختلفة في المدنيات الشرقية الخ . . . ) ، ( 22 ) .
يقيمُ يوسف كرم تفنيدَهُ لنظريةِ المراحل التاريخية : السحر ، الدين ، العلم ، على أساس أنها شاملة كاملة ، فعند حدوثِ مرحلةٍ فلا بد أن تقضي على المرحلة السابقة كلياً ، وهو تصورٌ مثالي ميكانيكي ، فهذه المراحلُ المعرفية التاريخية في الواقع ، لا تحدث بهذه الصورة لكن بشكل تاريخي كبير ومتفاوت بين المناطق والمستويات داخل البلدان نفسها ، وعبر قرون عدة ، والجوانبُ المعرفيةُ الجديدة مرتبطةٌ بأساليبِ الإنتاج ، وكما أن أساليبَ الإنتاج تتداخلُ فكذلك المستويات المعرفية الكبرى ، التي تتداخل كذلك مع أشكال الوعي الإيديولوجي ، فزمن السحر يأخذ مدى واسعاً في عصر الانتقال من المشاعيات البدائية حتى العبودية والإقطاع ، لكن أشكال المعرفة السحرية لا تزول ، بل تواصلُ الحياةَ ، بسبب أن حياة الجمهور العامل خلال هذه الحقب لم تتغير بصورةٍ مهمة ، فيظل معتمداً على السحر وعلى الدين بشكل أكبر .
وتتشكل جزرٌ علمية في هذا المحيط الأمي ، ولكن هذه الجزرَ لا تسود ، بل تظل عند نخبٍ معينة . لكن السحرَ كقوةٍ مسيطرة كما كان الأمر في العهود السابقة يتضاءل وينحصر ، ويرتفع الوعي الديني لأسباب فكرية واجتماعية وتاريخية كبرى وهكذا . .
هنا يقومُ يوسف كرم بتفنيدِ مقولات أوغست كونت بطريقةٍ جداليةٍ وليس عبر العودة للتحليل ، كما كان يفعل مع النظرات التجريبية التي يتفوق عليها من جوانب معينة أساسية ، ويقول :
( وإن من مسائل الفلسفة مالا يحتمل المعالجة بالتجربة مطلقاً ، كمسائل النفس والله والواجب والحق والعدل ، لأن موضوعها غير محسوس ظاهراً وباطناً فلا يتناوله المنهج التجريبي . .) ، ( 23 ).
إن العلومَ الاجتماعية لا تتعامل مع الغيبيات بل مع الإنتاج الفكري والاجتماعي ، فمسائل الإيمان خارجة عن هذا النطاق ، بل يجري البحث في كيفية تصور الناس والمفكرين للذات الإلهية وأشكال الفكر الاجتماعي لمسائل العدل والضمير والواجب الخ . . وهذه تــُبحث بأشكالٍ ملموسة كما قلنا حول آراء التجريبي المنطقي زكي نجيب محمود .
وهو يعرضُ رأي هربرت سبنسر كذلك ، رافضاً لا أدريته حول مسائل الإيمان والغيب ، يقول :
( وعلى ذلك فلا محل لما بعد الطبيعة ، والبحث فيه ينتهي إلى متناقضات كثيرة ، فالقوة القائمة خارج الفكر والتي ندل عليها بتلك المعاني لا تشبه ما نعرفه داخل الفكر ، وليس يقابل ما بعد الطبيعة في عقلنا سوى استعداد طبيعي لتوحيد المعرفة ، وهذا الاستعداد يجد رضاه في الفلسفة الواقعية التي هي عبارة عن توحيد العلوم توحيداً تاماً بواسطة قانون علمي وهو قانون التطور من المتجانس إلى المتنوع ) ، ( 24 ) .
إن هذا القانون العلمي للتطور ينطبق على أشكال الوعي الدينية والفكرية الأخرى ، وبالتالي فإن الدين نفسه يتم تطور وانسلاخه من الأشكال البدائية نحو الأشكال التجريدية ، حسب مستوى تطور المعرفة والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية ، ولكن يوسف كرم لا يستفيد من تطورية هربرت سبنسر لتحليل الدين سواء كان مسيحية أم إسلاماً ، ولا يدمج هذه الجوانب التطورية لهربرت سبنسر في منظومته الفلسفية ، وينتقل من فهم الأشياء إلى فهم العلاقات والتطور الفكري والاجتماعي .
بل يقوم بالابتعاد عن نقدها ويطمئن إليها :
( بيد إن هذه اللاأدرية ليست مرادفة للإلحاد ، فإنها تعترف بالمطلق ، وتعتبره أسمى من الإنسان ، وهي إذن تدع الباب مفتوحاً أمام الدين ، وفي الإنسان أصل عميق للعاطفة الدينية . . ) ، ( 25 ) .
يدل رفض المدارس التطورية الاجتماعية للصراع مع الدين على علمانية فكرية غربية ، عبر التركيز على جوانب الوعي التقني والتطوري وإتاحة الفرصة لها للنمو في وعي الناس جنباً لجنب مع المفاهيم الدينية العريقة ، وهو أمرٌ تكرس في الغرب وقاد إلى تحولات عميقة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية ، وفي ذات الوقت فإن لهذه المدارس تحليلاتها للظاهرات الدينية كما لدى أوغست كونت ، ومع هذا فإن يوسف كرم لم يوظف هذه المدارس التطورية الاجتماعية ويدغمها بفلسفته العقلية لكي تكون لها جذور اجتماعية عربية وإسلامية ومسيحية ، بل قام بإبعادها عن دائرة البحث الفلسفي – التاريخي ، فغدت فلسفته قائمة على إرث ارسطي وعربي فلسفي قديم ، يؤكد وجود قوانين لتطور الطبيعة ، ولكن لا يبحث قوانين تطور المجتمع والتاريخ والفكر ، بل يجزئ هذه الجوانب الأخيرة في قيم مطلقة عن [ الله ] و [ الخير ] و [الخلود ] ويضعها في دوائر خارج مسارها الرؤيوي والتحليلي .
إن المقدمات الجيدة التي بدأ بها يوسف كرم فلسفته راح يتخلى عنها مع اقترابه من فلسفة الاجتماع والتاريخ ، وهي نقطةُ ضعفٍ أساسية رأيناها في تاريخ الفلسفة العربية القديمة ، فحول المعرفة البشرية وأصولها راح يرجعها إلى خلفية إلهية ، فيقول :
( فلا بد أن نرجعها إلى عقل أعلى هو قانونها وخالقها كما أن العقل الإنساني قانون مصنوعاته وموجدها . ومن هذه الوجهة العليا نقول إن الحق موجود في العقل فقط : موجود أولاً في العقل الإلهي مصدر الحق ، وثانياً في العقل الإنساني صورته ، وبينهما الأشياء صورة علم الله ومصدر علم الإنسان ، فتلحقها الحقية من الناحيتين : من ناحية العلم الإلهي ، وهذه نسبة ذاتية ، ومن ناحية العلم الإنساني المكون عنها بالتجربة والاستدلال ، وهذه نسبة عرضية إن وجدت لم تزد عليها شيئاً ، وإن عدمت لم تنقص منها شيئاً ) ، ( 25 ) .
إن مطابقة يوسف كرم بين العقل البشري والعقل الإلهي حيث إن الأخير هو المصدر للأول ، يدخل علم المعرفة في الغيبيات مرة أخرى بعد العصر الوسيط ، وهو لهذا وجه انتقاداته الكثيرة المطولة لعلوم الغرب التجريبية و ل( التصورية ) التي هي المثالية الموضوعية المعترفة بالإله ولكن خارج نطاق علم المعرفة ، فيعيد العلوم الطبيعية والإنسانية إلى ما قبل ديكارت ، ويؤسس منهجاً لاهوتياً في الفلسفة .
إن الأشياء تصبحُ لديه هي علم الله مجسداً ، وعلم الإنسان هو الباحث في هذه الأشياء ، والإنسان عندما يبحث في الأشياء يصلُ إلى الله . ولكن لماذا هذه اللفة الطويلة ؟
إن العلوم الطبيعية والإنسانية لا تستهدف الوصل إلى صورة للإله ، بل إلى قوانين المادة والمجتمع للسيطرة عليها وخلق تطبيقات تقنية وسياسية واجتماعية منها ، أما مجال عبادة الإله فهو ميدان آخر .
وبدلاً من استثمار كل تلك العقلانية المتراكمة من أرسطو مروراً بابن سينا وابن رشد فإنه يدخلُ البحثَ الفلسفي الاجتماعي ميدانَ المثاليات المفارقة في بحثه للمسائل الأخلاقية والفكرية العامة.
ويعود هذا كذلك لاستمرار المنهج الأرسطي اللاجدلي ، حيث تغيبُ وحدةُ الأضداد ، وهو لهذا يعيدُ أسباب التغيرات والحركة في الأشياء إلى الخارج ، وليس من داخل بناها ولهذا فهو يقول ( فمبدأ عدم التناقض يعطينا الصيغة الكلية لليقين ] ص 147 . ( أن ما لا قوة له فهو لا يفعل ، اللهم إلا بتحريك خارجي ) ، 154 .
ونستعيدُ العبارةَ السابقة المستشهدَ بها لنواصل قراءةَ المنهجية الغائرة :
( فما من متغير إلا وله مُغير ، أو ما متحرك إلا وله محرك . وعلى ذلك يخطئ الذين يفسرون الكون بتطور المادة ، واضعين في الأصل القوة والاختلاط زمناً غير متناهٍ ، ولو صح زعمهم لما أمكن أن تخرج الأشياء من القوة إلى الفعل ، ومن الاختلاط إلى النظام . وبفضل هذه البديهيات يتفق العقل مع الوجود ، ويصعد إلى فاعل أول . ) ، ص 158 .
إن عدمَ وجودِ التناقض كمحركٍ للأشياء يفتحُ البابَ لمحرك خارجي ، فتغدو الأشياء متجوهرة في ذاتها ، أي تغدو كائنات جوهرية لا تتحرك فعلياً عبر احتدام تناقضاتها الداخلية ، فتظهرُ بشكلِ وجودٍ بالقوة ووجودٍ بالفعل ، فالوجودُ بالقوة لا يعرف تناقضه الُمحرك ، والوجود بالفعل هو صعود التحول الداخلي غير المعروف الأسباب .
ويتحول الموجود إلى موجود بالجوهر وإلى الأعراض ، وهي سمات منهجية تعود للفلسفة الدينية القديمة وقد قام حتى فلاسفة عرب بتجاوز جوانب منها كابن رشد ، ( 26 ) .
ــــــــــــــــــــــــ
انظر عبــدالله خلـــــيفة: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية ، الجزء الرابع ، تطور الفكر العربي الحديث , وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة , 2015 .
ـــــــــــــــــ
المصادر :
( 1 ) : ( راجع الكلمة التي كتبها عنه عاطف العراقي في كتابه (العقل والتنوير ) مصدر سابق . ) .
( 2 ) ، 0 3 ) : ( العقل والوجود ، يوسف كرم ، ص 18 ، دار المعارف بمصر ، 1964 ) .
( 4 ) : ( المصدر السابق ، ص 19 ) .
( 5 ) ، ( 6 ) : ( المصدر السابق ، ص 20 ) .
( 7 ) : ( المصدر السابق ، ص 21 ) .
( 8 ) ، ( 9 ) : ( المصدر السابق ، ص 22 ) .
( 10 ) : ( المصدر السابق ، ص 158 ) .
( 11 ) : ( المصدر السابق ، ص 24 ) .
( 12 ) : ( المصدر السابق ، ص 25 ) .
( 13 ) : ( المصدر السابق ، ص 30 – 31 ) .
( 14) : ( المصدر السابق ، ص 72 ).
( 15 ) : ( المصدر السابق ، ص 72 ) .
( 16 ) ، ( 17 ) : ( المصدر السابق ، 73 ) .
( 18 ) ، ( 19 ) ، ( 20 ) : ( المصدر السابق ، ص 87) .
( 21 ) : ( المصدر السابق ، ص 88 – 89 ) .
( 22 ) : ( المصدر السابق ، ص 103 ) .
( 23 ) : ( المصدر السابق ، ص 104 ) .
( 24 ) ، ( 25 ) : ( المصدر السابق ، ص 105 ) .
( 26 ) : ( راجع في هذه المنهجية خاتمة كتاب الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية ، الجزء الثالث ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ) .
الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية+الجزء الرابع
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 30, 2019 06:50 Tags: يوسف-كرم

July 29, 2019

إبراهيم العُريّض

■ الشعر وقضيته
○ بيان العريض الشعري ودلالاته المضيئة الباقية
الشاعر والباحث الكبير إبراهيم العريض من الشخصيات القليلة في الجزيرة العربية والخليج الذي استطاع ان يبلور نظرة عميقة في رؤية الشعر وتطوره، حتى ان كتاباته النقدية والشعرية القصصية والملحمية لا تزال تخصب الواقع الثقافي وتحرض العقول على الكشف الادبي والبحث النقدي، خاصة كتابه (الشعر وقضيته في الأدب العربي الحديث). الطبعة الثانية سنة 1974، مطبعة حكومة الكويت.
الرؤية العربية الرصينة والكلاسيكية عند إبراهيم العريض كانت ضرورية للأجيال الشعرية الشابة في الجزيرة العربية والوطن العربي، لكنها ابتعدت عنها، ولم تتلاقح معها، وتستفيد من اعماقها وخبراتها.
الشعر لدى إبراهيم العريض كائن ذاتي وموضوعي معا، فهو وليد الذات الشخصية وتجاربها وعطائها، وهو ايضا نتاج الاحوال الاجتماعية والظروف الموضوعية. فالعريض يقوم بخلق جدلية عميقة بين ما هو شخصي وخاص وذاتي، وبين ما هو موضوعي وعام.
فما يصر عليه البعض من ان الانتاج الشعري وليد النبع الداخلي الخاص المحض، وشكل من تجلياته الغامضة غير المحددة في سياق، هو أمر مرفوض من الاستاذ الناقد، كذلك فان تصور البعض الآخر بأن الشعر والادب عامة، هو انعكاس للظروف الخارجية والعامة، هو أيضا امر غير صحيح.
والعريض يتغلغل أولا في الاسباب الموضوعية لتكون الشعر، معددا تجلياتها المتعددة، ابتداء من الظواهر الطبيعية المختلفة، التي تترك تأثيراتها المتباينة على نفوس ولغات الشعراء، مرورا بظروف الحياة، حتى الجذر العميق للحياة البشرية المتمثل في (العلاقات الاجتماعية التي عادة تنشأ جيلا بعد جيل بين أفرادهم، ذكورا واناثا وشيوخا وشبابا، وفئات واحزابا، ثم ظلت تتجدد وتتكاثر في المجتمع الواحد، وفي اكثر من مجتمع بين الرؤوس والاتباع، أو الملوك والسوقة، أو السادة والعبيد) ص 452.
هذه الاسباب الموضوعية هي التي يحددها العريض كأساس مادي لتشكيل الظاهرة الابداعية، الشعرية خاصة، فالانقسامات الجنسية والجيلية والطبقية، هي التي تلعب دورا حاسما في صنع الاساس الموضوعي العام للابداع.
والعريض في بحثه عن الجذور الخلفية للظاهرة الذاتية، يعتبر كافة العوامل السابقة ذات أدوار متساوية في صنع الظاهرة، فالاجيال والانقسام الاجتماعي تظل مؤثرات متكافئة ومتداخلة في تشكيل الأدب، ولا يلعب مؤثر منها دورا حاسما ومطلقا، مقتربا بهذا من نظرية العوامل المتعددة في صنع التاريخ والثقافة.
ومن خلال هذا الاساس الموضوعي لتشكل الشعر ينطلق العريض الى تاريخية الشعر وتوزعه على الزمن الاجتماعي، محافظا على هذا الهيكل المادي لتكون العملية الابداعية.
فهو يتبع الانواع الشعرية الثلاثة وهي الملاحم والمسرحيات والأغاني، أي الشعر الملحمي والدرامي والغنائي، في تجليها الاغريقي وخطها العلمي المستمر حتى الآن، معتبرا هذه الانواع أو الاصناف الادبية الرئيسية اساس تكون الظاهرة الشعرية العامة. وهو يرتبها حسب أهميتها ونموها التاريخي كذلك.
فالملاحم والمسرحيات الشعرية هي التي انبعثت أولا، في ظل الاحتفالات الباخوسية واحتفالات الشعوب القديمة بآلهاتها وأعيادها الربيعية والموسمية، ثم انبثق الشعر الغنائي بعدئذ، بعد انفصام المجموعات العشائرية وظهور الملكية الخاصة والشعور بالذات الفردية.
والعريض لا يقوم بتحليل أسباب تشكل هذه الانواع الشعرية تاريخيا، معيدا اياها الى جذورها الاجتماعية والروحية، لكنه يبحث عن أسباب تشكلها بشكل عام عند الاغريق، ثم تعثر تشكيلها عند الشعوب الاخرى، وخاصة لدى الهنود والفرس.
وهنا يقف العريض عند الأسباب الروحية في تشكل الشعر، حيث يرجع تطور اليونانيين الابداعي الى «نظرتهم» المؤنسنة للآلهة، وكيف انزلوها الى مصاف البشر، في حين كان عجز الهنود المسرحي يرجع لنظرتهم الصوفية، «وسموهم» بالإنسان الى مصاف الآلهة و«الزفانا»، أي الفناء في الوجود الأكبر.
وهذه الخلاصة هي نظرة مهمة للجانب الروحي وتأثيره الحاسم على الابداع، وان كانت المسألة تعود ايضا الى ظواهر متشابكة وأهمها المستوى الاقتصادي الاجتماعي للشعب الاغريقي، حيث المدن التجارية الحرة الديمقراطية، التي لعبت دورا حاسما في توجيه الارث الثقافي اليوناني، والشرقي القديم، نحو تعددية الاصوات، وتعميق ثقافة الحوار ــ الديالوج، والانسنة وحب الحياة والطبيعة، مما ولد الابعاد الدرامية خاصة.
في حين كان الشعب الهندي يعيش نظام الاستبداد الآسيوي والمشاعة الحرفية المغلقة، فتكون لديه نظام الطبقات المغلق والصوفية، وهي الحرمان المصعد والمتظاهر بالسمو. وهذا جعل نتاجه الشعري دينيا.
ويصل العريض هنا الى خلاصة هامة لافكاره، فيقسم الشعر الى منحيين، هما اللذان يخترقان ويشكلان ظواهره كلها، وهما المنحى «الواقعي» الذي يكون ذات الشاعر وخصوصيته، وهو ما نسميه في الوقت الراهن «الخاص»، وهو الذي يؤسس الشعر الغنائي والذاتي، حين ينطلق الشاعر متغنيا بأفراحه وآلامه، مصورا هذه الذات في تقلباتها وهجائها للآخرين أو مدحها لهم، وهي كلها ظاهرات ذاتية داخلية، لأن الشاعر يصف عواطفه واعجابه بدون تجسيدات موضوعية كأن يمسرحها في نماذج.
وهناك المنحى «المثالي» حين يخرج الشاعر من ذاته فعلا، عبر تقميص وتجسيد ذوات اخرى وشخصيات وأفكار مغايرة. وهو ما نسميه البعد الدرامي والملحمي للشعر، وهو أكبر من صفة «العام» المقابل للخاص. وأقرب تعبير له هو المنحى الموضوعي في الشعر. لأن تعبيري «الواقعي» و«المثالي» أقرب للفلسفة منهما للنقد الأدبي.
وتطور الشعرية لدى الشاعر هو في سيره من الذاتي الى الموضوعي، في نموه من ذاته نحو ذوات أكبر وتجسيدات موضوعية أشمل، كما يرى العريض.
ان الانواع الملحمية والدرامية هي الانضج والأهم شعريا، كما يرى العريض، في حين يبقى النوع الغنائي هو الأقل تطورا، ومن هنا، كما يضيف، نجد عمالقة الشعر الانساني هم صناع الملاحم والمسرحيات كـ هوميروس واسخيلوس وشكسبير وغيرهم. وهذا ما يجعل الشعر العربي ذا مكانة متدنية في الادب العالمي نظرا لسيطرة الغنائية عليه.
ان هذه الرؤية انقلابية في النقد العربي الحديث، فبدلا من أن يغدو الشعر العربي قمة من القمم في العطاء الشعري العالمي، يغدو في مكانة محدودة، نظرا لضعف الألوان والأصوات المتعددة داخله، وصدوره عن عالم صحراوي قليل العمق، مكرور التجربة، يعيد انتاج نفسه عبر الحقب، فلا يصنع ملاحم ولا مسرحيات بل قصيدة تصف وتمدح وتهجو، واذا تطورت في العصر العباسي فذلك عبر ادخال الفلسفة والحكمة داخل هذا الصوت الذاتي المسيطرة.
ويقول العريض هذا المعنى لكي يجنب عمالقة الشعر العربي كالمتنبي وأبي العلاء المعري ذلك الحيز الذي وضعهم فيه التصنيف النقدي الذي شكله.
والعريض مصيب في نظرته العمومية المجردة، فالشعر الغنائي ظل أقل مستوى من الشعر الملحمي والدرامي، نظرا لتأسيس هذين النوعين على بنى واسعة متكاملة تعتمد بنائية الصورة وتشكل النماذج والحبكات القصصية العميقة، التي ظلت تحاور البشر عبر العصور، رغم انطلاقها من ظروف مختلفة.
وعدم قدرة العرب على صياغة النوعين من الادب تعود لطبيعة تطورهم ومرحلتهم التاريخية. فهذان النوعان ارتبطا بالمرحلة الوثنية الطقوسية واحتفالاتها ومدنها وزراعتها، ومن الغريب المستبعد ألا تكون الشعوب العربية قبل الاسلام قد عرفت هذين النوعين، خاصة إذا عرفنا ان الشعوب السامية، الشجرة التي ينتمي اليها العرب، قد عرفت الملاحم الشعرية كملحمة جلجامش وغيرها. ويجوز ان تكون المرحلة الدينية الجديدة قد طمست الآثار الشعرية القديمة المرتبطة بتعددية الآلهة.
وفي وقت كتابة بحث الاستاذ العريض سنة 1954، لم تكن الدراسات الخاصة بوعي الشعري واللغوي والاسطوري قد وصلت الى ما هي علية الآن.
وكما شهد الشعر العربي تطورات جمة في النهضة العباسية، عبر نمو المدن والاحتكاك بالشعوب الاخرى. فانه شهد تطورات أخرى باحتكاكه بالحضارة الغربية ويعتبر العريض، مستشهدا بنازك الملائكة، أن أسباب التطور الشعري تعود إلى التأثر بالحضارات الأكثر تقدما وهذا أمر فيه بعض الصواب ولكن أمر التطور العميق يعود لتغيرات اجتماعية وروحية تجري في الأمة ذاتها يسرعها الاحتكاك الخارجي وينميها.
وهكذا فان الغرب ساهم في خلخلة العمود الشعري العربي. وخلق الأشكال الشعرية الجديدة، غير ان الدلالات والمناخ الفكري يعود للتربية العربية فالتطورات الفكرية المتصاعدة هي التي كسرت شكل القصيدة الكلاسيكية، وأفضت الى الاشكال الجديدة.
ومنذ وقت مبكر حذر العريض من الانطلاقات الفوضوية في شكل القصيدة، مطالبا بالحفاظ على بنية مرنة وكلاسكية، بل ومقدرا حتى قصيدة التفعيلة كما يكتبها نزار قباني، وكان هذا وعيا ناضجا لم تستفد منه الحركة الشعرية في البحرين كثيرا فيما بعد، نتيجة القطيعة بين الاجيال، وعدم أخذ تجربة العريض الغنية بعين الاعتبار.
في مختارات العريض للشعر المرافقة لهذا البحث، يقدم مختلف أنواع القصيدة الحديثة، والعديد من الاصوات الرومانسية والثورية والذاتية، معبرا عن تعددية جميلة ورصينة.
وكل الاصوات المتعددة التي يقدمها العريض كعبدالوهاب البياتي وفدوى طوقان وعلى محمود وايليا أبوماضي وأحمد الصافي والجواهري وعمر أبوريشة ونزار قباني، تؤكد الابعاد المتعددة التي يريدها العريض للصوت الشعري، وهي جزء من نظرته الى الذات الشعرية، حيث يعتبرها متعددة الموجات والمراحل، ولا يمكن سبر أغوارها، فهي لا نهائية التطور.
فالشاعر من الممكن أن يعبر عن اصوات متعددة، ومواقف مختلفة، ويلبس أقنعة كثيرة، وتبقى ذاته مستمرة التشكل، ولهذا فان الصنف الشعري الغنائي، المعبر بجلاء عن الذات، هو النوع المبسط، قليل العمق ومعدوم الاقنعة، في حين ان الصنفين الدرامي والملحمي هما الاقدر على اخفاء ذات الشاعر، واعطاء صوره بقاء وتنوعا، كما يتيحان له البقاء وسط التحولات والتقلبات.
نظرة الاستاذ العريض هنا لم تتوجه الى مسألة تشابك الاصناف الشعرية، حيث انه من الممكن ان تحوي أبعادا درامية وملحمية، والعكس صحيح كذلك.
ومن هذه الزاوية، يمكن رؤية جدلية الاصناف الشعرية، تعبيرا عن جدلية الانواع الادبية كذلك، فالشعر والقصة والمسرحية، يمكنها ان تتصل، محافظة على انواعها المستقلة. وفي النوع الواحد كالشعر، لا توجد حدود كبيرة، رغم أهمية الحفاظ على قانونية الصنف أيضا. فقد خلق احمد شوقي قصائد غنائية شعرية لا دراما شعرية.
وفي تجربة العريض المهتمة بالتشكيل الموضوعي للشعر، أي بتجسيده قصصيا وملحميا، كذلك، الغنائية المتفجرة، المتقطعة، الملتحمة. ومن هنا كان اعتماد العريض على التسلسل المنطقي والزمني والبنائية الصارمة، اقترابا منه لمعمار القصة المتعدد الاقنعة.
هل نقول ان كل ما طرحه العريض عن الشعر وأصنافه وذات الشاعر وأقنعته المختلفة، ليس سوى بيان العريض عن شعره وعالمه الابداعي الواسع؟
أليس كل هذا الوعي عن الآخرين وأفكارهم، سوى تجسيد لصوت العريض ونظراته؟
■ القصة الشعرية عند إبراهيم العريض
اشتهر الشاعر إبراهيم العريض كشاعر قصصي كبير، استطاع ان يخلق القصيدة القصصية الرومانسية الطويلة، بعد عمليات خلق شعرية دؤوبة، ان هذا الروح القصصي العالي كان مثار ملاحظة واسعة من قبل العديد من الدارسين والشعراء.
يقول عنها الاستاذ حسن الجشي في مقدمة ديوان العريض:
[ويبدو ان العريض اكتشف نزعة القص عنده من خلال قصيدة «مي» التي كانت تحتل مكانة بارزة في نفسه، ولعل فرحة الاكتشاف هذه هي لتي جعلت هذه القصيدة اثيرة على قلبه، بيد ان الاهم من ذلك انها كما قلنا بداية نقلة جديدة تحول بعدها العريض من القصيدة الغنائية البحتة التي ضاقت بأحاسيسه ورؤاه وخبراته الانسانية الى القصيدة الموضوعية ذات الطول المديد في حركة متطورة . .] ديوان ابراهيم العريض، طبعة دولة الكويت سنة 1979.
ويضيف الاستاذ الجشي داخلا الى نسيج تجربة العريض الشعرية القصصية:
[ان اكثر قصصه . . ذو بنية مركبة ولهذا نجد منه التعميم والبناء العضوي، والتخلص من الخطابة ومن الاسلوب الوعظي الذي يشيع في قصص مطران الشعرية . . وهو في هذا البناء يستخدم الحوار والمناجاة واحياناً المونولوج الداخلي . . ويتميز الرد القصصي عنده بطابع فني غالباً . .].
ويقول عن شعر العريض القصصي الاستاذ غازي القصيبي ما يلي:
[لقد ارادت طبيعة العريض له ان يكون روائيا وأراد هو ان يكون شاعراً فكان لكل منهما ما أراد، واصبح شاعراً روائياً، أو روائيا شاعراً، ان العريض لا يستطيع ان يكتب قصيدة دون ان يحولها الى رواية أو على الاقل اقصوصة] غازي القصيبي، قصائد أعجبتني، دار ثقيف للنشر والتوزيع، 1982، ص 69.
سنأخذ قصيدة «بين عشية وضحاها»، ص 145، من الاعمال الشعرية الكاملة، كمثال تطبيقي لهذا النفس القصصي، الذي لفت الأنظار وسنحاول فض بعض اسرار هذا النص الأدبي، في عملية نموه القصصي، بالدرجة الاولى.
القصيدة تتكون من فقرتين رئيسيتين، حددهما الشاعر برقم (1) و(2)، وبدا ان العنوان ينطبق على تقسيم الفقرتين، فالرقم الأول يقابله «عشية»، والثاني يقابله «ضحاها»، فهاتان الفقرتان الكبيرتان، تقسمان الزمن الى ماض، وحاضر، أو هما تجسدان حكاية، لها أولها، ولها خاتمتها، والفقرة الكبيرة الأولى هي عن الحاضر، الذي ينقلب الى ماض، والحاضر يبقى كنهاية للحكاية، وبين الماضي والحاضر هناك خط الحكاية المضفور من علاقة حب سريعة خاطفة بين فتى صياد وفتاة غنية، في ليلة عاصفة، في بنية اجتماعية متناقضة، لا تسعف الحب ان ينمو ويتشكل، وتؤدي بالحبيب الى الافتراق التام القاطع، ثم التلاقي بعد عشرين سنة، في موقع آخر، لم تتغير فيه البنية الاجتماعية المتناقضة، بل تغيرت احوال الحبيبين، فصار الفتى الصياد الفقير فناناً شهيراً، وصارت الحبيبة زوجة وأماً، وبقى شيء واحد لم يتغير هو ذاتا الحبيبين المفعمتان بحب فاشل.
هذه الحكاية لا يلقيها علينا الشاعر دفعة واحدة، بل هو يرسمها لحظة بلحظة، وينميها عبر الوسطين «الطبيعي» و«الاجتماعي» أي مظاهر الطبيعة وأحوال المجتمع، لكن سرعان ما ينزاح «الاجتماعي»، ليبقى «الطبيعي» مسيطراً على اللوحة، ولهذا فان التنمية الشعرية القصصية، عبر تشكيلها للمناخ المحيط بالشخصيتين، تعطي فرشة موضوعية، الى حد ما. وارضية لتنقل «البطلين»، تفسر بها افعالهما وحياتهما، ولكن نظرا لانزياح «الاجتماعي»، وسيطرة «الطبيعي» فان تلك الارضية تختفي.
في الفقرات الشعرية الصغيرة داخل الفقرة الشعرية الكبيرة، هناك محافظة كمية على عدد الابيات، حيث تبقى بشكل ثابت تسعة ابيات، ما عدا نهاية الفقرة الكبيرة الأولى، حيث يزيد بيتان، وما عدا نهاية الفقرة الكبيرة الثانية حيث ينقص بيتان.
الهندسة البنائية الدقيقة تتشكل منذ ضربات الفرشاة الأولى حيث التصوير للقرية بمناخاتها الطبيعية والاجتماعية، واللقطة الأولى هي لقطة عامة للقرية في شكلها الواسع، الرابض عند البحر، ويبدو واضحا طابع القص الذي يسيطر على العملية الشعرية، يقطعها ويوزعها، لكي ترسم ملامح الاشياء والظاهرات.
على شاطئ البحر في قرية تلـوح بعـزلتهـا الـدائمـة
كأن الدجى لفها بالسكون فما برحت دهرها نائمة
فتصوير المكان المحدود للقرية، سرعان ما يندفع الى رسم زمانها، ليندغم هذا الوقت الليلي، الغروبي، بحياة القرية العميقة، الغائرة وراء الظاهرات المباشرة، فكأن لحظة العزلة المكانية، والانحباس عند البحر، هو اللحظات الدائمة المستمرة لتخلفها، لنومها في الظلام، ومفارقتها «للحضارة» والمدنية.
فيغدو الانحصار المكاني، والظلمة، بوابة سريعة لدخول عالمها الداخلي الحبيس في العصور القديمة.
وليس الانحصار المكاني، إلا تتمة للانحصار الزماني، فالزمن رغم مروره الدائم فوق هذه القرية، إلا انها تبقى خارجة، فهذه الشمس «عروس النهار» تطل عليها، لكنها لا تلبث في جوها إلا «حالمة»، لا مغيرة، وهذا البدر يطبع قبلة طويلة، لكنها لا تؤدي الى خصب وتبديل، فيبقى كل شيء كما كان.
والوصف هنا متسلسل، متتابع، منطقي، تتداخل فيه بكثرة حروف العطف تربط بين الصور المنسابة بتلقائية، وتجمعها في لوحة مكثفة، تصف عالم القرية، حتى تصل في خاتمة الفقرة الصغيرة، الى كشف القوة المضادة لعالم القرية، انه البناء الشامخ المطل عليها.
وفوراً يكشف الشاعر، هذا التناقض الكبير في البنية الاجتماعية، التي يرصد بطله فيها. فهذا البناء:
يقيم به نائب . . أمـره مطاع . . وسطوته غاشمة
فلو ايقظ البحر امواجه لمــرت بــأعتــابــه لاثمــه
ان التداخل بين الاجتماعي والطبيعي يبرز هنا كذلك. فالقرية ليست محصورة في شق مكاني فحسب، بل في زاوية اجتماعية كذلك، فهي تنحشر اسفل هذا البناء الشامخ، وتركع تحت سياط هذا النائب ذي السطوة.
ويواصل الشاعر رصد هذا التناقض، عبر وصف شعور اهل القرية تجاه هذا «النائب»، وحياتهم الصعبة داخل تلك الأكواخ.
المقطع الصغير التالي يتجه لرسم صورة «البطلة»، الشخصية الأنثوية الرئيسية في الحكاية. وهذا الاتجاه الأول والاساسي للتركيز على الشخصية الانثوية ، ليس عفوياً، فهذا جزء من الوعي الرومانسي، النهضوي، تكون المرأة غالباً لدى العريض ينبوع الحب وبؤرة الصدام الدرامي ــ القصصي، وغالباً ما تكون هذه المرأة تعيش في عالم مبهر، غني، مرفه، وأيضاً: شاعري، وطاهر، فهي ليست سوى الجمال والنقاء اجتمعا في الانسان.
إن البطل ذا المنبت الارستقراطي، غالباً ما يكون محور الحكاية، أما البطل الفقير، فهو يخرج عادة من دائرة الوصف القصصي، وهذا يعبر عن حدود النزعة الرومانسية لدى الشاعر في تحليلها للحياة والنموذج الانساني، هذه الصورة الرومانسية لا ينثرها الشاعر في قصيدته، بل هو يخلقها عبر الفعل القصصي، الذي سيبدأ بعد، يتوقف تدفقه، مقطع مقتضب حول الطبيعة، وقد طالعتها هذه المرأة الشابة «الخود». حيث ترى الشمس في حالة عشق للإله، والبحر يصير انثى تلملم اردانها امام النسيم الذكوري، تغدو العلاقة بين النسيم والبحر علاقة حب مطردة وكأنها اشارة لما سوف يجري لاحقاً.
ومرة اخرى يظهر التضفير بين الطبيعي والاجتماعي، ولكن الاجتماعي الآن، هو النفسي المحض، المشاعر والعواطف، وقد انفصلت عن تربتها. يتم التركيز منذ الآن على عواطف المرأة والرجل.
فها هي المرأة ترى قارباً نشطاً يحمل فتية متجهين للصيد، فتعلن التمرد على القصر وتنطلق الى البحر.
مثل هذه الحركة القصصية تبدو غريبة، إبان الثلاثينات من هذا القرن، ولكن الشاعر لا يصف واقعة فعلية جرت في الخليج. أو في الهند، بل هو يشكل علاقة غرامية «خيالية»، استقت من بعض جوانب الواقع، لكن تم تغييرها واطلاقها، عبر هذا الوعي الرومانتيكي.
وتركيز الشاعر القاص على الفتاة، هو لكون المنبت الارستقراطي غير معبأ بمشكلات وتضاريس القرية، كما هو حال الفتى، وسوف يتيح نموذجها السياحة خارج التفاصيل الملموسة للواقع، فالمرأة سرعان ما تحررت من سجن القصر والقرية معاً، وطارت كالحمامة، أو النجمة، وبدا أن كل شيء في الطبيعة يمارس الحب معها، وخاصة هذا النسيم الذكوري الذي يقبلها فيصير ندى.
ولكن هذه اللقطات الجزلة، سرعان ما تتحول الى لقطات عاصفة، فيثور الموج. وينكسر زورقها، فتغدو الطبيعة عاملا داخلاً في الحدث كذلك، ومؤثراً ملموسا في تشكيل العلاقة بين الحبيبين المنتظرين، فتلك الكف التي سارعت لانقاذها من «الغيب» هي لذات الفتى الذي سيكون الحبيب، والتي تتعهدها بالعلاج وتسمعها الانغام الجميلة من عودها.
[ونعجب هنا كيف لم يقم القصر بحملة بحث عن الفتاة الضائعة، وكيف سمحت الظروف المتخلفة القروية لتلك العلاقة بين فتى وفتاة ان تنمو؟ انه الوعي الرومانسي في قطعه للمشاعر من سياقها البيئي، وامتلاك هذه المشاعر لطبيعة القص].
ان العواطف الطاهرة والموسيقى النورانية القادمة من وراء الغيب، كلها تجتمع لخلق العلاقة الغرامية بين البطلين، ويتشكل الحب تلقائيا عفوياً، وكأنه جاء من مصدر نوراني، وليس علاقة انسانية مباشرة.
ان هذه العلاقة الغرامية الرومانسية ــ الصوفية، هي فوق الوقائع المباشرة والملابسات اليومية، ولهذا فان كل التغيرات الفادمة والسنين، لن تفعل شيئاً في تغيير «الداخل»، فما الخارج، بتكويناته الاجتماعية ومظاهره، سوى قشرة رقيقة «زائفة».
ولكن ثمة شيئاً ينفجر ويدمر هذه العلاقة، وهو مع ذلك جزء من هذا الخارج «العابر». انه انتماؤها للقصر، وعلية القوم، والاب النائب الشرس، ان التناقض في البنية الاجتماعية، بين القصر والقرية، يعود هنا، بصورة حديثة، مجسدة، عبر التناقض بين الفتى والفتاة.
لِمَ لَمْ يعتبر الفتى هذا التناقض جزءاً من هذه القشور الخارجية، ولم يكتف بالداخل النوراني العميق؟ لم حول هذا التناقض الخارجي الى بتر لهذه العلاقة «المقدسة»؟
ان الفتاة تقر بظلم أبيها، وهي تعود الى بيتها، في منولوج تعليقي على الحدث السابق، ولكنها تصل الى لحظة تنويرية خاصة، ان رد حبيبها على ظلم ابيها هو ظلم ايضاً، ولكن بحقها. إن الحبيب لم يتميز عن الأب، فلم ينسج من سيطرة الخارج، ليسمو فوق التضاريس الاجتماعية، بل انحشر فيها، ولم يرتفع كما ارتفعت هي، فأكتمل حبها وتطهرها.
وغــاظــك ان ابـي ظــالم ألست بظلمك لي صاحبه؟
وبهذه الفقرة انتهى الحاضر، وصار ماضياً، وانتقل الزمن عشرين سنة، تبدلت فيها الاشياء، وهي المظهر، ولم تتبدل القلوب، وهي الجوهر.
وهنا تبدو العلاقة منقطعة، معدومة، بين القرية والقصر، فلم يكن ثمة تفاعل، فالفتاة تنقطع كلية عن الفتى، وتتجه لخدمة زوجها واطفالها، وتنجب طفلة هي نسخة منها. وكأن دورة الحياة الرومانسية تعيد آليتها بشكل دائم عبر هذا التكرار. فأيضا الابنة هي قمة الفتنة والطهر والعذوبة، وهي ايضا ستتجه لرؤية البحار السابق، وقد تحول هنا، بعد دورة الزمن هذه، الى فنان موسيقي كبير.
والشاعر القاص لا يضيع نسجه القصصي هباء، فرغم استطالته في وصف الابنة، إلا انه يستخدمها كصورة من الأم فقط، وكوسيلة لتنمية الحدث القصصي، وبعث المشاعر الداخلية العميقة التي لم تمت، فلقد هصرت سنوات الزواج المرأة، واذبلت ابتساماتها، ولا تشتعل هذه الابتسامة إلا عندما تذكر حبها القديم، والبحار المنقذ، فكأن الزواج هو جزء من الظاهر، والحب هو وحده الفرح الحقيقي المفقود.
وتتجه الأم والابنة الى الحفلة الموسيقية، وتكون ثمة صدفة جديدة في سلسلة المصادفات، أو قمتها، وهي الالتقاء بالبحار السابق، الموسيقي حاليا، وهو يعزف العود ويحرك الجماد.
ان هذه اللقطة الأخيرة، هي قمة كل المشاعر والحدث، فالموسيقي يرى المرأة، ويعرفها بسرعة، فمظاهر العشرين سنة لا تستطيع ان تحجب الجوهر، ويعزف بوله لها، ويندم في غنائه على تضييعه للحب، وتسأل الفتاة امها، عن هذا المغني المعذب، فتخبرها الأم، ببساطة، انه أحبها يوما، وليست كلماته الغزلية، المشبوبة الاداء الآن، سوى كلمات طالعة من قلب اقفر ومات! وتنتهي الحكاية.
وهكذا عندما وصل الفتى البحار، الموسيقي الناضج حاليا، الى ذات الموقف الرومانسي المكتمل، تكون هي قد ابتعدت عنه، رغم ان ذاتها كانت مليئة بحبه.
هذه المفارقات العاطفية سببتها تلك البيئة الاجتماعية المتناقضة، والوعي المندس في شقوقها، لا الطائر المحلق بعيدا عنها، ان الموسيقي الآن قد حل اشكاله الخاص مع البيئة، وارتفع، ولم يعد بحاراً فقيراً، ووصل الى مرتبة الحبيبة الاجتماعية، والآن هو قادر فحسب، على ان يحبها حقا، وان تكون له، ولكنه لم تعد له.
ان التمسك بالبيئة الاجتماعية ومراتبها، هو قشور حسب وعي إبراهيم العريض ورؤيته الرومانسية، سواء كان هذا التمسك سلباً ام ايجاباً، ثورة أو قمعا، وهذا هو سر المأساة. فلو ارتقى البحار في تلك اللحظة القديمة، عن غضبه، وارتقى الى «الجوهر» الانساني، الى النقاء والطهر الروحي، بعيدا عن «مظاهر» الفقر أو الغنى، القرية أو القصر، كما فعلت الفتاة «النقية» لكان سعيدا الآن.
هنا نرى رؤية العريض، التي ترى الصراع الاجتمااعي، ولكنها تعتبره من القشور، لأن الجوهر الانساني الخالد يسمو فوقه. ولا يمكن للفنان ان يبقى حبه إلا بالسمو فوق النزاع «العارض»، ولا يحدث الرقي والنور، إلا عبر هذا التجاوز للتضاريس الاجتماعية ولا يمكن للقرية، بالتالي، ان تصعد، للنور، للنهضة، إلا عبر هذا التسامي.
وإذا كانت القرية ككل لم تصعد، فان الفنان ابنها، ارتقى، عبر احدى أدوات النور، وهو الفن، وحين وصل، الى ذات المكانة الاجتماعية، اكتشف، ان كل تلك المستويات المتناقضة، هي مجرد مظاهر، ولكن في اثناء الرحلة، كان قد فقد حبيبته.
ان آلية الوعي الرومانسي تتحكم في البنية الفنية هنا، فالطبيعة قوة اساسية متداخلة ومؤثرة في الاحداث والمشاعر، وتمتلك كينونتها النقية، والمشاعر المرتفعة فوق الزمان والمكان هي القوة المهيمنة في نسيج الحياة، وهي كالمواهب والأفكار من مصدر علوي، والصدف هي التي تلعب الدور الحاسم في تنمية الاحداث، كوجه من اوجه تجلي القدر المهيمن على نسيج العالم.
والشاعر يعتمد في تجسيد هذا الوعي الرومانسي على قوانين نمو الحدث القصصي في جزء من الواقع. فيجسد الجو العام للحكاية، وينمي الحدث، ويرسم الشخصية المحورية، من خلال تصاعد الحدث، لكن هذا الحدث ينسحب تدريجيا من أفقه الاجتماعي، ليجنح في عالم المشاعر، وهي مشاعر شخصية واحدة، اثيرية، حالمة، وليس عبر تعدد المشاعر وتناقضها، وحتى حين يحدث التناقض النفسي يدور في سياق العاطفة الرومانسية وحدها.

■ من المعارك الادبية في البحرين
○ إبراهيم العريض في مواجهة كاتب مجهول
مقابلة صغيرة قامت بها مجلة «القافلة» في سنة 1954، بالبحرين مع الاستاذ إبراهيم العريض ادت الى حدوث مناقشة أدبية ساخنة لبعض قضايا الأدب، وطرحت أسئلة جوهرية حول ماهية الأدب وعلاقته بالمجتمع. سوف نقرأ جزءاً من هذه المقابلة، وبالأخص المقاطع التي استدعت الحوار بادئ ذي بدء:
القافلة . . تسأل والأستاذ إبراهيم العريض يجيب:
● أنت ــ وإن تواضعت ــ استاذ روحي لجيل من الشباب البحريني الحي وأديب عالمي . . فما هي النصيحة التي تقدمها للأدباء الناشئين من الجيل الجديد؟
○ نصيحتي للأدباء الناشئين من الجيل الجديد بألا يقطعوا صلتهم بمصادر الثقافة العربية القديمة. فبدونها لا يمكن أن يقوم للعرب كيان قومي. وهلكت أمة لا تاريخ لها. ولست أعني بهذا بأن يعيشوا عالة على عصرهم فان لكل عصر مشاكله الخاصة. والشعب الذي يتنكر لشئون عصره يصبح في حكم الأموات إذ تلفظه الحياة.
ولقد كانت مصيبة الأمة العربية طوال العصور هي في تصور أبنائها انهم يستطيعون ايقاف عجلة الزمن.

🍃 المثل الأعلى للجمال
● ما هو المثل الأعلى للجمال؟
○ الجمال نسبي. فلا يمكن أن يكون له مثل أعلى. فكل ما هذب ذوقك ووسع احساسك بالحياة وزادك بها على تطاول العمر متعة وسروراً وكان عاملاً على رفع هذه الغشاوة عن عينيك بحيث ترى الدنيا زاهية الالوان لا مجرد سواد أو بياض. كل ذلك بالنسبة اليك والى من لهم علاقة بك هو الجميل.
● يتهمك كثير من المعجبين بك بأنك انطوائي تضن على أبناء مجتمعك بما من الله عليك من شاعرية فذة وتفكر سليم . . لماذا لا تحاضر في الأندية الادبية فترضي المتعطشين الى ادبك؟
○ لا أدري كيف يجتمع الاعجاب والتهمة في آن؟! على ان كلمة «انطوائي» مطاطية تستطيع أن تحملها ما شئت من معنى . . ولن تصل بها الى نتيجة. ولو أردنا التحديد لقلنا ان من الادب ما يعالج مشكلة الفرد في ظروفه الغابرة وهي لا تتجاوز زماناً بعينه في هذا المكان أو ذاك، كالقضايا التي تعرض على المحاكم أو كالوصفة الخاصة التي يصفها الطبيب الى مريض مثلاً تحت العلاج، فهذه لا بد من تغيرها من يوم الى يوم. وكذا أدب الصحافة. ومن الادب ما يتجاوز هذه النظرة الضيقة الى أفق الحياة الأوسع حيث تلبس المشكلة رداءها الانساني وتخرج من نطاق الفردي بحيث يسري حكمها على «الإنسان» في كل زمان ومكان فلا تعود قضية خاصة.
ويضيف الاستاذ العريض:
ولقد كنت دائماً أهتم من الادب بهذا الجانب الذي يرى المشكلة انسانية قبل كل شيء، أي لا تخص زيداً أو عمرواً من الناس فحسب بل تتعداهم الى «الإنسان» الجانب الذي لا يتقيد لذلك في الحكم لها أو عليها بظروفها العابرة التي قد تختلف باختلاف الأحوال. ولعل من هنا فضل القصة ــ عند بعضهم ــ حتى على وقائع الحياة. وصح اعتبارها باباً من أبواب الادب الرفيع اليوم وان كانت محض خيال، وترى لذلك شعري كله قصصاً . . حتى ما دار منه حول مأساة فلسطين.

🍃 أين الحقيقة؟
ويثير هذا الرأي حفيظة أحد القراء ــ ولا أظنه إلا أحد الكتاب ــ فيكتب في زاوية «آراء حرة» مقالة بعنوان «أين الحقيقة!»:
اريد أن أقول للأستاذ العريض ان هذا الادب الصحافي الذي يعالج هذا المجتمع الصغير. الذي هو جزء من المجتمع الانساني الكبير هو أدب انساني ايضاً، وكذلك أرض الشهداء. أما اخت شيرين وورقة التين وبيني وبينها وزهرات من خميلة الخيام وغيرها فليست أدباً انسانياً وليس الاستاذ العريض أديباً بالمعنى المفهوم، أديباً لا يجده زمان ومكان كطاغور مثلا الذي تغنى ببلاده وصور ريفها ومدنها وعاش وطنه بقراه وسهوله وبساطته وغموضه حياً خالداً في ادبه.
اما ما (يقوله) الاستاذ الفاضل على الادب اليوم من أن القصة تأخذ مجالاً بارزاً فيه ويفضلها بعضهم حتى على وقائع الحياة رغم انها خيال محض (فخطأ) الآن. الأدب اليوم لا يحتضن من القصة إلا ما يصور وقائع الحياة ويعالج المجتمعات الانسانية قبل كل شيء. فـ غوركي وهوارد فاست وتولستوي وغيرهم من أعلام القصة لم يكتبوا خرافات وأساطير خيالية، وإنما كتبوا قصصاً واقعية من صميم الحياة (....) فمن صميم الشعوب اغترف هؤلاء العمالقة أدبهم، من وقائع الحياة، لا الخيال المحض.
هناك تناقضات عديدة بين رأي الاستاذ العريض وذلك الكاتب المجهول. انهما يقفان على طرفي نقيض، ويتقبلان بشكل غير جدلي، الأمر الذي يشير الى وحدة الرؤية رغم الاختلاف.

محاولة للقراءة
سنحاول هنا أن نقرأ الحوار على ضوء وقته.
للعريض تصور خاص ذاتي للجمال وهو ان الجمال ما يجعل عينيك تريان كل شيء زاهياً. ان «الجميل» هنا هو أمر خاص بالفرد، بالذات الخاصة المنعزلة عن الآخر، فكل ما يجعلها تتمتع وتسر كان جميلاً.
لكن لدى الكاتب المجهول ان الجمال هو في رؤية الواقع على مرارته. ان تركيزه «الواقع» و«الحياة» و«الوطن» وان في اكتشافه رغم وجود السوء والقبح والتعاسة فيه، هو الأمر الباعث والخالق للجمال في الادب، هو أمر هام هنا جداً. فالكاتب يريد جر العريض الى مصدر الجمال ومقياسه الحقيقي والموضوعي، وليس الى الذات وأحاسيسها الفردية المنعزلة.
وتتضح شقة الخلاف بين المفهومين عندما يؤكد الاستاذ العريض ان الادب لا يعالج مشكلة الانسان في «ظروفه العابرة» بل يتجاوز المكان والزمان.
أما الكاتب فيرى على العكس ان في الغوص وراء هذه «الظروف العابرة» والاتجاه الى الواقع بكل مظاهره وبشره هو مهمة الادب.
وحقاً كيف يمكن الارتفاع عن «الظروف العابرة»؟ وهل يمكن للأدب أن يكون خارج الزمان والمكان؟
ولم يكن أدب العريض نفسه خارج الزمان والمكان، بل كان داخله، ولكن اتجه الى مناطق بعيدة وأزمان مختلفة، الى «فلسطين» والى «الاندلس» وغابت ملامح البلد، أي البحرين، في زمن العريض ذاته، عن أدبه بشكل واضح.
أي ان الخلاف ليس هو حول الخروج من الزمان والمكان بشكل مطلق، وذلك مستحيل، ولكن الخلاف يتركز على الخروج من زمان ومكان محددين والزمن هو النصف الثاني من القرن العشرين والمكان هو: البحرين.
ان الادب المتواضع المتواجد حينذاك حاول أن يتجه بقوة الى الحياة، وكان أدباً «صحفياً» كما وصفه العريض. لأنه اهتم بالكثير من القضايا «العابرة» فعلاً كتعدد الزوجات، ضرر الطلاق، الشعوذة . . الخ.
ان هذا حقاً لم يتوغل في الحياة، ولم يتجذر فيها بسبب ان الوعي الفني المتشكل حينذاك فحسب لم يكن بعيداً عن «الوعي الصحفي» كانت الرغبة في التأثير السريع، وكذلك عدم التمكن من فهم واستيعاب ادوات الادب والفن، ومناخ الخطابة السائد، من الأسباب التي أدت الى عدم تحول هذا الادب الصحفي الى أدب حقيقي.
ولكن على الرغم من ذلك فلو ان الادب الصحفي قدر له ان ينمو في بيئة صحفية مستمرة، ومناخ مزدهر، لأمكنه فعلاً أن يتجاوز صحفيته وسرعته الى الادب وهذا ما بدأ يتشكل بعد ذلك في مرحلة تالية من نمو الصحافة البحرينية، ولكن مع فارق جوهري هو نمو وعي اجتماعي مختلف.

🍃 تضــاد غير جـدلي
ويتضح التضاد غير الجدلي بين العريض والكاتب المجهول في الحديث عن «الخيال» فالأدب لدى العريض هو خيال محض، فهو يعتبر القصة من أبواب الادب الرفيع وان كانت «محض خيال». وهنا يبدو الخيال في تصوره متعارضاً بشكل مطلق مع الحقيقة والواقع.
أما الكاتب الآخر فيندفع الى الجهة المعاكسة تماماً فيرفض ذلك «لأن الأدب اليوم لا يحتضن من القصة إلا ما يصور وقائع الحياة . .» فيبدو الخيال هنا خارج الادب، فينتمي الكاتب بهذا الى «الوقائع» الى «صميم الحياة» بينما العريض يتوجه كلياً الى «الخيال».
هنا نجد مفهوماً غير حقيقي عن الادب، فالخيال ــ وهو ميزة جوهرية في الابداع ــ يقف على طرف نقيض من التصوير الادبي الذي يجب ان يكون «واقعياً» أي بمعنى أن يسجل ويعكس بشكل حرفي ما يدور في الحياة.
وهذا الرفض للخيال، رغم خطأه الطفولي، مبني على عداء واضح للأدب الذي لا يتجه لاكتشاف الواقع، للأدب المنتمي الى مدرسة «الفن للفن».
نجد أن ثمة نقيضين هنا لا يتآلفان جدلياً: الواقع المباشر والخيال، فالأدباء الحقيقيون في تصور الكاتب المجهول هم المتجهون الى هذا الواقع والمبتعدون عن الخيال، الذي ليس سوى هروب وكلام فارغ. أما في تصور العريض فالأدباء الحقيقيون هم المغمورون بهذا الخيال والمبتعدون عن هذا الواقع المباشر المتغير الزائل الصالح للصحافة.
ان ادب العريض كما لاحظ الكاتب فيه الكثير من تجاهل الواقع المحلي، تجاهل للفقر والعذاب والاضطهاد الاجنبي انطلاق الى قضايا وجدانية شخصية أو اتجاه لأدب يتحدث عن قضايا «قومية». انه أدب يفتقد التماس مع الواقع البحريني، فهو أدب بهذا المعنى، غارق في الخيال، ويسكن «البرج العاجي» ولا ينزل الى السوق والحارات.
في تلك الفترة، أي في سنة 54 وما تلاها، كان ثمة زخم وطني تحرري كبير في البحرين، فقد اندفعت الطبقة الوسطى للصراع المباشر مع الانجليز واستغلت الصحافة والأندية وكافة الاشكال المتوفرة لنشر الوعي واستقطاب الناس لآرائها.
وكان العريض بؤرة أدبية هامة، وشخصية لامعة على المستويين المحلى والعربي، فكان أمر جذبة لهذا الصراع الدائر، والاستفادة من كتاباته وآرائه، مطروحاً بقوة لدى المثقفين البارزين في الطبقة.
وكان هذا الحوار والتعليق ــ الذي يبدو انه من أحد كتاب المجلة نفسها ــ والمناقشات التي تلت هي جزء من عملية التأثير في هذه الشخصية الادبية البارزة.
لكن المسألة كانت أكبر من ذلك. فإبراهيم العريض قد كرس لنفسه منحى مختلفاً، فهو ذو علاقة وثيقة بالوضع السائد، وقد أبعد أدبه بشكل عام عن نقد هذا الوضع، واتجه الى موضوعات بعيدة محافظاً بهذا على استمراريته في الكتابة وعلاقاته معاً.

🍃 الموقــف والظــرف
ان «الظروف العابرة» وهو التعبير الذي ورد في الحوار معه يشير الى هذه الأحداث الصاخبة في الخمسينيات والمشكلات السياسية المتفجرة، وهي قضايا رئيسية وكبيرة ولكنه يعتبرها «عابرة» و«هامشية»، والمهم لديه هو الدخول الى القضايا التي تبقى وتستمر خارج هذه الظروف المتغيرة.
وهذا الرأي غير الجدلي، الذي لا يربط بين الآني والمستقبلي ولا يتصور العلاقة الوثيقة بين المشكلات الحالية ووضع الانسان العميق، يريد في الحقيقة أن يبتعد عن اتخاذ موقف تجاه الواقع.
ان ظروف الخمسينيات لم تكن ظروفاً عابرة، بل كانت صراعاً جوهرياً وأساسياً ليس في البحرين فحسب ولكن على مستوى العالم ان الصراع بين الشعوب والاستعمار هو صراع أساسي وملمح رئيسي من ملامح تاريخ الانسان المعاصر.
انه صراع ملحمي له ظلاله المختلفة، فهو صراع القديم والجديد، الشر والخير، السلبي والايجابي، اللااخلاقي والاخلاقي، السيطرة الاجنبية والتحرر، الاغنياء والفقراء الـخ . . وعلى ذلك فهو مادة هامة جداً للأدب.
ونفس هذا الصراع كتب عنه العريض، ولكن عندما تعلق بفلسطين، أي انه لم يكن ضد الكتابة عن هذا الصراع «العابر» بشكل مطلق!
ان الكاتب المجهول كان يعرف ذلك، وتفريقه بين كتابات العريض المختلفة دليل على ادراكه الصحيح لجوانب أدبه المتناقضة، ومحاولته لتوجيه هذا الادب نحو الواقع المحلي، أي لحل التناقض داخل ذلك الادب!
وهو في طرحه أسماء مثل «غوركي» و«هوارد فاست» و«تولستوي» قد استوعب بحسه ان الادب العميق يستطيع أن يضفر بين المشكلات الآنية وأوضاع الانسان الجوهرية، فليس ثمة تناقض بين تحليل الانسان في واقع محدد، وان يكون الادب باق وخالد. بل على العكس ان تأثير الادب في الاجيال القادمة نتاج ادراكه العميق لمشكلات وقته.
لكن الكاتب المجهول لم يستطيع ان يستوعب ذلك نظرياً، اضافة الى ان الفهم المنتشر للأدب وقتذاك بين طليعة المثقفين هو الادب المتجه لمعالجة قضايا مباشرة. وليس ذلك الادب الواقعي الرفيع كما وصل لدى تولستوي وغوركي.
ان وعي مثقفي الطبقة الوسطى تركز على شحن الناس ببعض القضايا والهموم الساخنة وبشكل قريب من الصحافة وليس الادب. كما لم يكن بإمكانهم التغلغل الى عمق مشكلات المجتمع ونماذجه.
وأسباب هذه الظاهرة ترجع لتاريخية هذا الوعي. فهو وعي لم يكن يقف فوق أرضية صلبة من النهضة التعليمية والثقافية، كما يرجع للطابع «المؤقت» لصراع الطبقة ضد الاستعمار، فهو صراع تريده سريعاً، خفيفاً، يتركز حول بعض المطالب الهامة وليس صراعاً يتجه لتغيير شامل وجذري.
هذا ما يتعلق بالطبقة «الوسطى» القائدة للزخم، أما الناس فكانوا في وضع ثقافي متخلف جداً، ولذا كانت مشاركة المعبرين عن طموحهم في الادب، تكاد أن تكون معدومة.

🍃 التحــديث والتغــريب
من هنا كان العريض غير ملتفت الى هذا النوع من «الشغب» الادبي، فقد عمل من بداية الثلاثينات في نشر وعي مؤمن بالحضارة الغربية وقيمها. وكان التحديث لديه لا يصطدم بذلك التملك الاجنبي، بل على العكس يفترض الصداقة والتعايش معه.
ونجد في المقابلة ايحاء بذلك، فهو بعد أن يوجه نصحه للأدباء الناشئين بعدم قطع صلتهم بمصادر الثقافة العربية القديمة يطالبهم بعدم الوقوف عند تلك المصادر والانقطاع اليها ثم يضيف «ولقد كانت مصيبة الامة العربية طوال العصور هي في تصور أبنائها انهم يستطيعون ايقاف عجلة الزمن».
لقد كان الصراع الفكري وقتذاك يدور بين تيارين فكريين هامين استحوذا على وعي مثقفي الطبقة الوسطى وهما التيار القومي بروافده وبين التيار «التحديثي» الغربي.
وإذا كان التيار الاول هو الذي قاد عملية الانطلاق الوطني وكرس الاهتمام بالتراث بدرجة اساسية فان التيار الآخر كان في موقع الرفض لتلك الانطلاقة والتأكيد على منحى آخر.
فاستعادة المواقع التراثية، أو العودة الى الماضي العربي الزاهر، أو توقف الزمن على حد تعبير العريض، لن يؤدي الى نتيجة حقيقية، فالزمن يندفع باتجاه الغرب، والتماثل معه والذوبان فيه. وهذا هو الحل!
من هنا تصور العريض ان ذلك «الشغب» سيكون «عابراً». وان الطبقة الميسورة «المأزومة قليلاً الآن» والمتمردة ستعود من جديد الى الحضن الدافئ. وهذا ما كان فعلاً فالأغلبية الساحقة من مثقفي البرجوازية البحرينية تركوا تلك القضايا العابرة الساخنة واندمجوا في المناخ العام الدائر حول المركز الغربي. وما عادوا يرددون أسماء تولستوي وغوركي، بل ان الحياة الادبية الجديدة في الستينيات عندما استعادت هذه الاسماء بشكل اكثر نضجاً اثيرت زوابع حولها!

🍃 ســــوء تفـاهـــم
ان اهتمام العريض لم يكن موجهاً لإلغاء «التغريب» بل على العكس كان يؤكده. ولهذا راح يؤكد من بداية الثلاثينيات على قيم «العلم» و«التعلم» و«الفن والأدب الانساني» و«حرية المرأة» و«الحب» و«العقل» و«النهضة» . . وكل هذه هي معايير للطبقة الوسطى «الخالدة» أي ان هذا هو برنامجها عبر كل المراحل والتطورات الآنية.
أما أن تتجه الى أبعد من ذلك فهو أمر «عابر»، نتاج أزمة طارئة، ولحظة صدام لا تلبث أن تزول، وسوء تفاهم «عائلي» ومن ثم تعود الامور الى مجراها الطبيعي.
ان العريض بحسه كان يفهم طبقته التجارية العقارية، التي تعيش بالتوكيلات الاجنبية، وغير الصناعية، وغير الواسعة والمحاطة بأناس أكثر حدة وجذرية منها، لهذا فهم الشاعر الافق البعيد لها.
لقد شارك في أوائل الخمسينيات في كل نهضتها الادبية، بل وكان من الممهدين لمثل هذه النهضة، ولكنه لم يؤيد فورتها الآنية. وبقى «منعزلاً» و«انطوائياً» عن ندواتها وأدبها الصحفي الصاخب السريع، منتظراً انتهاء عاصفتها.
وسرعان ما ارتدت الطبقة الى رؤية واندمجت في المناخ «التحديثي التابع» ولم تعد تطرح بعد ذلك الدرس القوي أي تغيير جذري وصمت كتابها وابتعدت عن الادب الساخن العابر، بل وعن الادب برمته!

■ المثقفون البحرينيون وإبراهيم العُريّض
لسنوات طويلة ظل الأستاذ إبراهيم العريض الشاعر والناقد الوحيد الهام المعروف من البحرين، ولربما من منطقة الخليج والجزيرة كلها، وظل اسمه يتردد في المحافل الادبية والمجلات الثقافية العربية المشهورة، منذ الثلاثينات وحتى الستينيات.
لقد قام العريض بإبداع جوانب جديدة في أدب المنطقة، وواكب نشوء القصيدة الرومانسية واسهم بنصيب وافر من انتاجها، واتجه الى خلق الملحمة الشعرية، ثم ركز، بعد وفرة الإنتاج الشعري والملحمي، على كتابة النقد وتحليل الشعر، بدءا من نظراته النقدية المتفردة إلى أدب المتنبي وانتهاء برؤيته للإنتاجات الشعرية العربية المعاصرة له حينذاك.
والملاحظ في هذا الإنتاج الشعري والنقدي الوفير، قلة الاهتمام برصد الثقافة في المنطقة، وعوالم الحياة فيها.
ان انتاجه الشعري يرتكز على موضوعات تراثية أو عربية بعيدة كقضية فلسطين، وهو نتاج يحوم بعيدا عن مشكلات وطنه وقضاياها، الأمر الذي جعل العريض ظاهرة ملفتة للنظر، ومحل تساؤل وخلاف، من قبل التيارات الادبية التي تشكلت وتغيرت طوال هذه الحقبة المديدة.
لقد كان العريض مثار اعجاب مثقفي الثلاثينات والأربعينات البحرينيين، الذين رأوا عربيا فتيا يقدم من الهند، وهو لا يكاد يفقه من اللغة العربية شيئا، ويقوم بتعلمها واستيعابها والتفوق فيها الى درجة ان يصبح فقيها فيها ومرجعا لشواردها وعوالمها القصية.
ثم لا يكتفي بذلك بل يصبح ضليعا في لغة ثالثة هي الفارسية، اضافة الى عبقريته في اللغة الانجليزية التي ينتج بها شعرا!
ثم يقوم بالتجديد في أنواع الأدب. يؤسس المسرح التاريخي ويشكل القصيدة العاطفية النابعة من الأنا، غير المادحة والمتسولة، التي تعج بظاهرات الطبيعة الحية. ويطور هذه القصيدة الى ان تكون قصة، لها كل خصائص القصة، من شخصيات وأحداث وعقدة ونمو، وتتحول هذه القصة ايضا الى ملحمة، تتطور كثيرا عن أن تكون قصة محدودة لشخصيات مغمورة، بل تكون قصة لقضية كبيرة.
هذا كله جعل المثقفين «البسطاء» حينذاك يرونه كبيرا، ورمزا لما يريدون أن يقوموا به من انهاض للثقافة والمجتمع.
وقد قام المثقفون المتنورون حينذاك بتأسيس مجلات نهضوية هامة في المنطقة كـ«صوت البحرين» و«القافلة»، واتجهت الثقافة العربية في منطقة الخليج إلى التطور، والتغلغل في ظاهرات الحياة وأزمات المجتمع ووجود المستعمر، مما أدى إلى بروز انواع ادبية جديدة، كالقصة الواقعية والمسرحية «الاجتماعية» الارتجالية وغيرهما.
ومن هنا وجه هؤلاء المثقفون الجدد نقدا الى ادب العريض الشامخ، وخاصة الى جوانبه «الخيالية» والمغرقة في الرومانسية، ودعوا في مقالات نشرتها «القافلة» في الخمسينيات إلى ان ينزل العريض الى الشارع وان يعبر بقلمه عن هموم الناس.
ولكن العريض كان له أفقه المختلف. بل لقد كان مبهورا بقصيدة مدح وجهها الى ملكة بريطانيا في عيد ميلادها، حسب ما طرح في العدد الخاص الذي أصدرته مجلة كتابات عنه.
لقد كان العريض ارستقراطيا في نظرته للحياة، واعتبر العالم ينقسم الى نخبة مميزة، دورها الاصلاح والثقافة والتوجيه، وعامة تعيش ظروفا صعبة لا تؤهلها للصعود الكبير أو تغيير الحياة.
ومن هنا فإن صعود تحالف الم
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 29, 2019 07:18 Tags: إبراهيم-الع-ري-ض

2⇦ عبدالله الزائد

【الزائد بؤرة المرحلة الجديدة】
لقد تكونت (الطبقة) الوسطى لتعلب دور المحرك الجديد للتغيير . إن شرائحها تتكون من تجار الغوص والطواشين السابقين ، ومن فئة التجار المستوردين ، أصحاب الوكالات وهي الفئة التي ستغدو القسم الأكبر من كيان (الطبقة) الوسطى ، وهناك فئة المقاولين الذين استدعت وجودهم الانشاءات الجديدة وتوريد العمال إلى شركة النفط ، وهناك أصحاب المؤسسات الحرفية والانتاجية الصغيرة .وشجع ذلك أيضاً (تحول رأس المال التجاري تدريجياً من النقل البحري الذي كان يرتبط بالمناشط التقليدية إلى الاستثمار الداخلي والتجارة الخارجية)،(17) .
وفي سنوات الثلاثينيات خاصةً كان نمو هذه الطبقة واضحاً وقوياً ، مما جعل المرحلة الجديدة فترة تشكلٍ واختمار ، أساسها تكوين الروابط الفكرية والاجتماعية لبروز شعب بحريني حديث وطبقة وسطى حديثة ووطنية وطليعية .
وقد عمل الزائد ، تحديداً ، لخلق الحلقة الأولى المهمة حينئذٍ للتطور السياسي والفكري الوطني الجديد في البلد .
فأرستقراطية الغوص كما أوضحنا كانت سنية ، وغير قادرة أن تكون طليعية وطنية عامة ، أما الطبقة الوسطى التي تشكلت من الطائفتين واندماجهما الحديث ، فقد راحت تلعب هذا الدور ، الذي بدأ ثقافياً وفكرياً في سنوات الثلاثينيات وانتهى سياسياً في الخمسينيات .
وقد تشكلت في شخص الزائد مختلف البؤر المجمعة لهذه المرحلة التحضيرية من التطور الاجتماعي .
فالزائد قدم من القيادة(الوطنية) للبنية الاجتماعية السابقة ، وتشرب تاريخها وعلاقاتها ، وهو أيضاً من شريحتها التجارية المتفتحة ، كما أنه انتقل إلى مواقع الطقة الوسطى الحديثة ، باعتباره تاجراً ومستورداً وصاحب مؤسسة طباعية .
والزائد يمتلك علاقات وثيقة بالأرستقراطية ، وصديق وقريب من شيوخٍ بارزين ، كما أنه عقد صداقة مع بعض المسئولين الانكليز في مرحلته الجديدة ، فهو إذن ذو علاقات وطيدة بالكتل الاجتماعية ــ السياسية البرزة وشخصية شعبية .
من هنا كان الزائد محطة استقطاب واستهاض لمختلف البذور والجماعات الأيديولوجية والإبداعية ، التي ستنمو وتتخصص بسبب نشاطه الصحفي والاجتماعي .
وكان التركيز على الشؤون الثقافية ف يهذه المرحلة ، وفي جريدة البحرين ، هو الوسيلة غير المباشرة والمكشوفة لتنامي عناصر العمل الوطني في مرحلة جديدة ومختلفة .
لقد حتمت المرحلةُ الجديدة بروز وظائف التنوير والتخفيف من التعصب وتنامي العمل الوطني . ومن هنا كان عمل الزائد الصحفي والتنويري ، هو خلق هذه الحلقة الأولى الضرورية ، التي لن يستطيع خطاب الزائد الفكري ، فميا بعد ، استيعابها .
إن الحلقة الأولى من تشكل الوعي السياسي الديمقراطي للطبقة الوسطى اعتمدت على الأشكال الثقافية ، حيث ساد الاهتمام بالتعليم وتجسدت المسرحيات التاريخية وانتشرت الأندية وتشكلت بذور الأنواع الفكرية والأدبية من نقد وقصة ومقالة .
كما أن الزائد يمتلك في ذاته الفكرية مختلف البؤر الأدبية للمرحلة ، فهو خطيب وشاعر وناثر .
لكن أعماله الشعرية لم تستطع أن تنقله إلى صفوف الشعراء(18).
كما أن نثره الجيد ، لن يتكون بصورة متخصصة وعميقة ، فلم يتخصص في نوعٍ أدبي معين ، فهو يكتبُ الخاطرة وما يشبهُ القصة ثم يتخصص في المقالة ، التي تعددت أغراضها أيضاً فهي سياسية واقتصادية وريبورتاجية وخبرية .
من هنا كان الزائد محطة للمرحلة الأولى ، استقطبت البذور والأنواع والاتجاهات الإيديولوجية الجنينة، وحضّرت لتحولٍ نوعي تالٍ .
【تفعيل جديد ومختلف】
يلفتُ النظرَ في عمل الزائد التجاري إنه ليس عملاً تجارياً صرفاً ، أي إنه لم يتخصص في تجارةِ استيراد ويقومُ بدفنِ نفسهِ ثقافياً وسياسياً ، بل هو قد أختار الأعمال التجارية الجديدة الخطرة والمؤثرة ، وذات المردود المالي المحدود نسبياً ، كإنشاء مطبعة وجريدة وسينما ، الأمر الذي يعني استمراره في رسالته النهضوية التحويلية رغم النفي السابق والتشرد ، ولكن الرسالة تؤدى الآن بوسائل أكثر مرونة وأوسع تأثيراً ، فليست هي قصائد صاخبة وهجوم بالقوافي على التخلف والتبعية ، بل هي تطوير ملموس ويومي للنهضة .
السينما ــ المطبعة ــ الجريدة ، كلها خطوطٌ لتفعيل الوعي المحلي ، وربطه بالعصر ، صورةً وكلمة .
إن هذه الوسائل الثلاث تعاضدت من أجل خلق فعلٍ ثقافي مشترك ، فالجريدة تقومُ بالدعاية للسينما ، والمطبعة تؤسس الجريدة ، والجريدة تسرع في نمو المطبعة وتخصصاتها وتقنيات الطباعة والعاملين .
وكانت الجريدة هي ذروة الفعل الثقافي والسياسي ، ففيها اللقاء الواسع المباشر بالمثقفين والقراء ، والتحريك لإنتاج الوعي الثقافي .
إن ظهور جريدة البحرين سنة 1939 هو بحدِ ذاته حدثٌ كبير . ولم يظهر إلا لأسباب الصراع العالمي الدائر بين بريطانيا والدول الغربية ، وفيما بعد قوى (الحلفاء) من جهةٍ ، ودول المحور من جهةٍ أخرى .
لقد برز الخطر الفاشي في وسط أوربا ثم أتسع ليشمل العالم بأسره ، مما ترتب عليه تشكيل جبهة ديمقراطية عالمية ، ضد هذه الخطر .
ولعبت إذاعات المحور ، وخاصةً إذاعة برلين ، دور الهجوم الذكي على الاستعمار البريطاني وجرائمه في الشرق العربي خاصةً ، مما أدى إلى تأجج المشاعر المعادية للإنكليز عند العرب والمسلمين .
هذا جعل الإنكليز بأمس الحاجة إلى استقطاب القوى المتفتحة العربية ، وجذب المتنورين والوطنيين للحفاظ على الاستقرار في مستعمراتها المعرضة للهجوم النازي .
وإذا كان الناس البسطاء قد اختاروا غريزياً المحور الألماني ضد عدوهم التقليدي البريطاني ، فإن ذلك يعزز ضرورة الإصلاح والانفتاح .
إذن وُجدت مصلحة مشتركة بين الوطنيين البحرينيين والسلطة البريطانية المحتلة ، عبر توسيع الاصلاحات التعليمية والطبية والثقافية .
ولكن السلطة الاستعمارية لم تكن مستعدةً لظهور حريات سياسية ، وغير مستعدة للقيام بإصلاحات مهمة ، بل كانت أعمالهم التهادنية مع الوطنيين تجميداً للصراع السياسي المحلي ، واستفادةً من طاقة الوطنيين لأجل المجهود الحربي البريطاني . لكن أيضاً كانت آمال الوطنيين الثقافية والفكرية تحضيراً للتطور السياسي فيما بعد .
لقد حاولت السلطة البريطانية أن تهتم بالشؤون المعيشية المباشرة للجمهور كضرب احتكار وتخزين السلع الضرورية وتوزيع الأغذية بالبطاقة ،إضافة إلى السماح بظهور جريدة البحرين وتوسيع أنشطة المسرح المدرسي الخ . .
【الجريدة ذروة التحول】
لقد أحدثت جريدة البحرين نقلة ثقافية في البلد ومنطقة الخليج العربي ، وبرغم إنه (كانت مواد الجريدة موجهة لصالح الحلفاء مما أثر على صدق الأخبار وسلامتها) وخصصت (مساحتها للمادة الدعائية والحربية وتعبر عن وجهة نظر الحلفاء)(19) ، كما يقول د.هلال الشايجي إلا أنها كما يضيف:
(استطاعت هذه الجريدة على الرغم من اتجاهها الدعائي وظروف نشأنها أن تجذب لها كثيراً من القراء والكتاب في منطقة الخليج ، وكانت تطبع ما يقرب من خمسمائة نسخة أسبوعياً ، وصلت بعد ذلك إلى ألف نسخة أثناء الحرب وقدمت خلال سنتين من صدورها نحو ألفين من المقالات . . وعالجت جميع الموضوعات من أدبية وعلمية وسياسية ودينية ورياضية وتربوية ، ورعت دوراً ثقافياً مهماً في هذه المرحلة وكثر تناول المواد الأدبية المختلفة خلال السنوات الثلاث الأخيرة بشكلٍ ملحوظ)،(20) .
إنه بغض النظر عن قيود عملية التعاون مع السلطة البريطانية ، وكانت تلك مسألة مبررة ف يزمن الرب العالمية الثانية الموجهة ضد الهتلرية ، فإن جريدة البحرين دفعت حركة الوعي الوطني الناشىء إلى الأمام ، بإبرازها عشرات الكتاب والمثقفين ، وبالاهتمام بقضايا الوطن والعالم ، وطرحها مسائل الإصلاح الاجتماعي الداخلي خاصة في سنة 1939،(21) .
لكن دفاع الزائد عن سياسة الانكليز في مواجهة دول المحور ، غدا علامة شكٍ في وطنية الزائد .
هذا الدفاع صدم نفراً من المثقفين والقراء ، وحدث الاستغراب من هذا التحول في موقف الزائد ، الذي كان قد انتقل من العداء والحدة إلى الدفاع المستميت عن السياسة البريطانية !
لقد كان الزائد ينشرُ بيانات الثورة وإذا به من المؤيدين للنظام الاجتماعي وسياسته ، الأمر الذي أحدث أزمة حقيقة بين الزائد والجماعة الوطنية،(22) .
لقد كانت الماسحة المعطاة للزائد للتعبير عن رأيه الخاص والمختلف عن الإنكليز ، مساحة ضيقة جداً ، وكان من واجبه كمسئول أول لجريدة البحرين أن ينشر البيانات الحربية والسياسية المختلفة للسلطة البريطانية ، في حين إن معالجاته للقضايا الوطنية المحلية محدودة وغدت معدومة ، وتلاشى النقد في أحيانٍ كثيرة .
ولم يعش الزائد بعد سنوات الحرب العالمية الثانية تلك لكي يعمق موقفه الوطني ، ويلونه في ظروف أخرى أقل حدةً وخطورةً ، مما جعل تلك التساؤلات السياسية الموقفية باقية .
وقد ظهرت أصواتٌ خافتةٌ مؤيدة لدول المحور ، بشكلٍ ذاك الاهتمام الشعبي العفوي بإذاعة برلين ، مما يشير إلى وجود موقفين سياسيين أساسيين من الأحداث،(23) .
وهكذا حدث انقسامٌ على مستوى المثقفين ومستوى الشعب ، عبر ظهور فريقين متنابذين ، فهناك الفريق المؤيد للحلفاء ، والفريق المؤيد لدول المحور .
إن الفريق الأول سيكون من أطروحاته المهمة:
النهضة ، والديمقراطية ، والإصلاح ، وحرية المرأة والعروبة الخ . .
والفريق الثاني ستكون اطروحاته هي:
اسقاط السلطة البريطانية وتحقيق الحرية والعدالة الخ . .
وسيغدو (هتلر) رمز الحرية لهذا الفريق والرجل المحبوب من رجل الشارع !!
وسيكون لهذا الوعي (الشمولي) المتوافق مع البنية الاجتماعية التقليدية ــ تطوراته الخطيرة اللاحقة ونموه في مسارات جديدة .
ولم يكن هذا الصراع الفكري السياسي ، مكشوف الجهتين والفريقين ، فنحن نعرف الجهة الأولى والتي لديها أدوات النشر والعلانية ، في حين أن الجهة الثانية ستكون مغيبة (وسرية) ورغم هذا فهي الفعالة!
إن هذه العملية الانقسامية في الوعي الوطني ستكون دائماً مطروحة في الزمن اللاحق بصور متعددة ، عاكسةً البناء الاجتماعي التاريخي العربي الديني العتيق .
مثل ذلك التباين حول عبدالناصر أم الغرب والمشروع الرأسمالي الليبرالي ، أو حول صدام حسين ووحدويته العسكرية أم التعددية السياسية والتعاون مع الغرب الديمقراطي ، وكذلك حول الموقف من الحركات المذهبية السياسية المختلفة الخ . .
【نحو الديمقراطية】
وقد ظهرت المسألة في زمن عبدالله الزائد وحول موقفه كبؤرة رئيسية من بؤر الاختلاف ، فيكف أمكن للزائد أن يجمع بين موقفه الوطني وموقفه المؤيد للحلفاء ، وهل استمر مع شعبه كما كان أم تحول إلى أداة دعائية بريطانية ؟
أي هل استطاع أن يقدم لشعبه بعض التقدم والتنوير وأن لا يتنازل عن دعواه الأساسية بضرورة التحرر من الإنكليز برغم من التعاون معهم ضد المحور ؟
تعطينا مقالة (الحرب الظاهرة والحرب الخفية) المنشورة سنة 1940 نموذجاً لعملية التوجه الوطني رغم التحالف مع الإنكليز ، فهو يتتبع مظاهر الصراع بين الدول المتحاربة ، بشكلٍ عام ودون تحديد ، مؤكداً أهمية القوة الروحية في الانتصار على القوى المادية الكبيرة الغاشمة . ويقوم بضرب أمثلةٍ عصرية في النهاية ، منتقياً تجربة نضال الفلنديين ضد الاجتياح الروسي لبلادهم ، مبرزاً صمود الفلنديين رغم صغر بلدهم قياساً إلى دولة كبيرة كالاتحاد السوفيتي . إن هذا المثل يعطى للقارئ في البحرين والخليج بكل دلالته الواضحة ، بل أن الزائد يأتي إلى صلب المشكلة وهي الاستعمار البريطاني ، مذكراً بمثال دولة إيرلندا التي تحررت من الهيمنة الإنجليزية بعد نضالٍ طويل وشاق .
إن الزائد يبرز القوة الخلاقة لظهور الأمم وإرادتها الحرة ، وهو يفعلُ ذلك بصورة إنشائية لا تغوص بالتحليل الملموس للعلاقات الاجتماعية ، مستمراً في نهجه العاطفي ، ولكنه يصلُ أحيانا إلى استنتاجات وتنبؤات مدهشة ، كتوقعه تحرر الشعوب الأوربية من السيطرة النازية ، وإن ذلك الفعل المستقبلي سيلعبُ دوراً هاماً في تحجيم الاستعمار العالمي ولظهور (الحضارة الصحيحة التي لا تفرق بين شعب وشعب ولا تميز بين الجنس ولا تعرف فضل لون على لون)،(24) .
إن الزائد يدرك هنا أن تصفية الهتلرية ستقود إلى عملية تحرر واسعة في العالم ، ولكن تعبيره (الحضارة الصحيحة) الضبابي يعبر عن عالمٍ تسودهُ المساواة بين الأمم واحترام كل منها لسيادة الآخر .
إن وصول الزائد لهذا المفهوم يعبرُ عن خوضه معركة الحرية من داخل التحالف مع الانكليز(25) .
وإذا قرأنا مقالته ودعوته من أجل الديمقراطية وعلاقتها بالإسلام(26) فإننا سنجدُ نصاً مهماً يعبرُ بوضوح عن توجه الزائد الإسلامي ، الذي لم يكن يبرز بهذا الشكل عبر بياناته الشعرية السياسية السابقة ، ولكن دعوته للإسلام تغدو كدعوةٍ من أجل مــُثــُـل الثورة الفرنسية كذلك . فهو يعتقد إن هذه الثورة التي طرحت قيم الحرية والإخاء والمساواة ، ليست سوى امتداد أوربي للإسلام ، فهذا الدين احتوى هذه الدعوة الليبرالية (العادلة) منذ نشأته الأولى .
هنا يدمجُ الزائد بصورةٍ عاطفية تعميمية ، مرحلتين من التاريخ الإنساني بسهولة ، غير واضعٍ كل من المرحلتين في شروطها الاقتصادية والاجتماعية الخاصة ، وهو لم يقم بعملية مقارنة فكرية وسياسية دقيقة ، تبين كيف تشكلت شعارات الثورة الفرنسية في الحرية والإخاء والمساواة ، في العصر الإسلامي .
إن الزائد أسرع إلى لاقتطاف بعض الأقوال من الدعوة الإسلامية ودمجها بشعرات الثورة الفرنسية فقد (دعا الإسلام إلى بسط راية الإخاء على الناس جميعاً مسلمين وغير مسلمين على شرط ألا يعتدوا على المسلمين) وأضاف (وبالمساواة أمر الإسلام)،(27) .
إن الزائد يستخرج مــُـثــُل الثورة الفرنسية الحديثة من داخل نصوص الإسلام ، ويقوم بتعميقها في أذهان القراء ، مما يوضح إن موقفه الوطني الداعي للتحرر من الإنكليز وسيطرتهم ، يترافق وإيمانه بالمثل الديمقراطية المعاصرة ، رغم إن عملية الاستخراج والمقارنة تتم من خلال منهج براجماتي مبسط ، يستهدف نقل النموذج الغربي الحديث إلى الواقع العربي في الخليج ، وهو فعلٌ عظيم وريادي .
ومن الواضح إن لغة التفكير السهلة والسريعة التي يكتبُ بها الزائد تجعله شعارياً تبسيطياً لظواهر ، ولكن علينا أن ندرك أن هذه اللغة تمثل مستوىً متقدماً من الوعي السياسي والاجتماعي في منطقة الخليج والجزيرة العربية ، فمثل هذا الفهم الوطني الليبرالي للإسلام ، أو جعل الغرب امتداداً جديداً نموذجياً للإسلام ، لمحتواه الإنساني المغيَّب في عصور ، هو تعبيرٌ عن حركة (طبقة) برجوازية تجارية تقومُ بالنقل السريع للمنتوجات الاقتصادية والاجتماعية والإيديولوجية الغربية ، دون أن تمتلك القدرة على تصنيع هذه المنتوجات في واقعها المحلي والمناطقي ، والزائد كأسرع وأحد ذهن في هذه الفترة ، يعبرُ بأدواته التعبيرية والمفاهيمية عن عملية النقل هذه ، فهو ينقلُ المطبعةَ ــ السينما ــ الجريدة ، واضعاً فيها مضموناً بحرينياً ــ عربياً بسيطاً ، ينمو أو يتضاءل حسب مستوى الأداة الفنية ــ الفكرية ، فهو في السينما مجرد ناقل للأفلام البريطانية والأمريكية والعربية والهندية ، حيث يقوم بالدعاية التجارية لها ، دون أن يمتلك قدرةً على معالجة هذه السينما ونقدها (وبالتأكيد يستحيل الحديث حينئذٍ عن تصنيع سينمائي بحريني) ، ولكنه في المطبعة أقرب للمضمون الوطني ، حيث يجعل المطبعةَ عربيةً ، تهتمُ بنشرِ المطبوعات التجارية ، ثم يوظفها في الكتابة وإنتاج الوعي السياسي البحريني الحديث ، وذلك بخلق جريدة البحرين وفاعليتها الفكرية ، رغم أن الجريدة (نقلت كثيراً من مقالاتها وتعليقاتها التي تطغى عليها الصيغة الدعائية من بعض الجرائد العربية مثل «المقطم» و«الأهرام» وغيرهما، وتسد ما يبقى من مساحة في نشر المواد الأدبية وبعض الأخبار حول منطقة الخليج)،(28) .
إذن يتوجه الوعي البرجوازي التجاري الوطني هنا ، وممثله النشط الزائد ، إلى عملية النقل والاستيراد ، ويندغمُ ذلك بنشر الشعارات النهوضية والتحديثية ، التي تتركز في المجالات الثقافية العامة ، دون أن تتغلغل فيها ، وكذلك لا تمتد هذه الشعرات بقوةٍ إلى نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، لكون هذا التغلغل والامتداد يحتاجان إلى أدوات منهجية وفكرية أكثر عمقاً ، ولغة مفاهيمية أكثر تطوراً ، كما يتطلب إرادة كفاحية أشد صلابة .
【ليبرالية الزائد المحدودة】
لو أخذنا بعض المسائل الأساسية في تطور الحياة الاجتماعية ، سنجد أن الوعي الوطني النهضوي الشعاري لا يستطيع أن يتجذر فيها ، أو هو يحذر من التطرق إليها .
ففي العدد 17 من جريدة البحرين ، الموافق للتاسع والعشرين من يونيو سنة 1939 ، طالب أحد القراء الواعين بجعل التعليم الابتدائي إجبارياً ــ وبضرورة عدم إهمال مدارس القرى ، وإنه ينبغي أن يجلب إليها معلمون أكفاء ، كما ينبغي وضع قسم لدراسة الصناعة وآخر لدراسة الزراعة في المنهج التعليمي .
ويطالب صاحب الرسالة بإلغاء الكتاتيب ووضع رواتب المعلمين البحرينيين أسوةً بالمعلمين الوافدين ، (29) .
وبدلاً من المناقشة العميقة لهذا الوضع التعليمي والاستفادة من الأفكار النيرة لصاحب الرسالة فإن الزائد يرفض هذه المقترحات .
أما المسألة الأكثر أهميةً فهي مناقشة وضع شركة النفط (بابكو) وظروف عمل العمال البحرينيين ، وبطبيعة الحال من المستحيل حينئذٍ الحديث عن مسائل الامتيازات البترولية المجحفة . ولقد جرت مناقشة قضايا عمال النفط المعيشية تحت إلحاح حدث المظاهرة العمالية التي جرت قبل ذلك .
لقد كتبت الجريدةُ تثني على أوضاع العمال المعيشية في الشركة ، ولكنها تستثني مساكنهم في الصحراء (حيث إن هذه البيوت باردةً في الشتاء ، حارة في الصيف ولها سقف من الصفيح «الجينكو» وبدون كهرباء) .
ثم يقوم الزائد بإجراء حديث (قصصي) مع مدير الشركة الأجنبي والسيد حسين يتيم, ويتم تبرير التخفيض الكبير لأجور العمال ، حيث قام المقاول يتيم بانقاص الأجر من روبية واحدة إلى ست آنات في اليوم نظراً لرخص تكاليف المعيشة الذي قيل!(30) .
وبعد هذه المقابلة توقف عرض مسألة النفط في الجريدة ، وظهرت إعلانات شركة بابكو على صفحات الجريدة لتوقف عملية النقد لأكبر شركة استغلالية في البلد ، حتى بروز المسألة مرةً ثانيةً ، وبشكلٍ متفجر في صحاف الخمسينيات!
وقد واصل الزائد رغم كل ذلك في وضع أسس التفكير الليبرالي والديمقراطي في البحرين بدعوته إلى سن قانون مدني وجنائي ، وهو مطلب تم تبنيه في الخمسينيات ، ودعا إلى إصلاح وضع الشرطة بجعلها بحرينية ، كما أهتم بإصلاح السجون والخدمات الطبية وبإيفاد البعثات التعليمية إلى الخارج،(31) .
وإضافةً إلى اهتمامه بوضع ركائز التقدم الاجتماعي الداخلي ، التفت الزائد إلى تبديل وضع السياسة الخارجية للبحرين ، عبر دخولها في اتحاد خليجي ، يمكن أن يلعب دوراً استقلالياً عربياً في المنطقة ، يضع مرتكزات موضوعية وذاتية قوية للخروج من الهيمنة البريطانية ، ولكن مثل هذه المقترحات لم تكن تنطلي على المستعمرين ، وهم الذين أسسوا التمزيق السياسي ، فظل المشروع نائماً حتى استجدت الظروف المعاصرة لبعثه على هيئة مجلس التعاون لدول الخليج العربية ، الذي لم يستطع حتى الآن استيعاب مقترات ورقة الزائد المطروحة في جريدة البحرين ، حيث إنها تدعو إلى اندماج اقتصادي اجتماعي وثقافي قاعدي واسع ، في حين تجعل القيادة لمجلس موسع من الملوك والأمراء والحكام .
ومهما قيل بأن مقترحات الزائد هذه منقولة عن مصدر آخر ، فإن طرحها وتفعيلها في الخليج ، يمثل نقلةً نوعيةً لتلك المقترحات،(32) .
كذلك حاول الزائد أن يلعب دوراً في عقدةٍ أخرى من عقد وضع البحرين السياسي ــ الجغرافي ، وهي مسألة الادعاءات الإيرانية تجاه البحرين ، لكن حركته الدبلوماسية الشخصية، كما يقول مبارك الخاطر، لم تنجح،(33).
لقد تحرك الزائد على الوضعين الداخلي والخارجي ، من أجل تقدم وتحرر البحرين ، فإضافة إلى عمله لتكوين أسس النهضة الداخلية التي ستقطع التبعية عبر تناميها ، توجه إلى تغيير وضع البحرين السياسي بإدخالها في كتلةٍ عربية أكبر وذات فاعلية أوسع لعملية التحرر تلك ، ولكن كل هذه الخطط والأعمال لم تقض على التناقضات الموضوعية الحادة المتنامية بين الوطن والسيطرة الأجنبية .
【الخطاب والواقع】
إن الوعي النهضوي الإصلاحي ، ممثلاً في الزائد ، لم يستطع أن ينتج أدوات التحليل المعرفية ، إلا بشكلٍ أولي شعاري مفيد ، محافظاً على علاقاته ومصالحه المندمجة في النظام الاجتماعي التابع ، فهذه المصالح تقلل من طاقاته النقدية الجذرية ، ومن تشكيله لخطاب وطني واسع وعميق ، مما يؤدي إلى انفصاله تدريجياً عن الجمهور العريض ، الذي يصطدم على نحو حثيث بالاستعمار ، وخاصةً في مسائل النفط وإدارة الشئون العامة والحياة المعيشية ونظام الخدمات .
هنا يعجز ذلك الخطاب النهضوي الموجود داخل النظام عن تبرير تفاقم التناقضات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، مما يجعل شعاراته في الديمقراطية والحرية الليبرالية ونهوض المرأة ، أي احتذاء النموذج الغربي ، محل شك ثم رفض عند الجمهور والمثقفين ، الذين ستحولون تدريجياً عن النموذج الغربي ، ومحبذه عبدالله الزائد ، باحثين عن نظام قومي فاشتراكي فديني مركزي ومتشدد ومعادٍ للغرب .
ولكن في سنوات الزائد الأخير وبعد وفاته ، لم تكن هذه الخطوط السياسية ــ الإيديولوجية معروفة ، والتطور الموضوعي ونمو الوعي ، هما اللذان سيجعلان هذين الخطين متقاطعين .
فالزائد الذي أسس الحلقة الأولى من الكفاح الوطني ، هو الذي نشط وغذى الجماعات الليبرالية والديمقراطية التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية ، التي طرحت مطالب الإصلاح والديمقراطية داخل النظام الاجتماع ، وذلك بدعوتها إلى القيام بــ(إصلاحات عامة جذرية في الجهاز الحكومي ، وذلك بإشراك الشعب في إدارة شئونه)،(34).
ولكن المستعمرين لم يقبلوا بحدوث مثل هذه الإصلاحات الداخلية ، التي ستكون نموذجاً لشعوب الخليج العربية ، فهزمت التوجهات الليبرالية والديمقراطية الإصلاحية لصالح النماذج الشمولية التي ستتنامى في العقود التالية .
فالنموذج الشمولي في وعي الجماعات التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية هو الذي سيكون مسيطراً ومعبراً عن مستوى تفكير النخب والناس ، وهو الممكن الوحيد الذي اتاحهُ العسفُ الأجنبي .
لقد أكدت التجربةُ الناصرية منذ سنة 1952 أهمية هذا النموذج الذي بدأ قومياً حاداً ، ثم انعطف إلى الوعي القومي ــ الاشتراكي ، إلى أن تحول الآن ، في بعض قسماته ، إلى المذهبية السياسية الشمولية .
إن هزيمة الخطاب السياسي الليبرالي التنويري تبدأ من زمن الزائد نفسه ، فقد هوجم انحيازه للإنكليز في الحرب العالمية الثانية ، وفي موقفه العام ، وجاءت الحرب بنموذج هتلر المحبوب «محلياً»!)، وساهم الحصار الإنكليزي للتنوير وللوطنيين وتدهور الأحوال المعيشية في إحراج الزائد وشعوره بالهزيمة.
إن أسلوب القبضة الحديدية الإنكليزي ، لم يكن بالإمكان التغلب عليه إلا بأسلوب مشابه ، وهكذا فإن كافة اللبراليين والإصلاحيين قد تم إجهاض أحلامهم في مسيرة تطورية سلمية .
ولكن خطوات التطور الاجتماعي متناقضة ومتداخلة ، فالزائد الذي بدأ وطنياً هجومياً وانتهى إصلاحياً ليبرالياً ، هو الذي غذا النزعتين الوطنية الثورية ، والوطنية الإصلاحية ، ومهد لتحولات الخمسينيات الكبيرة بمفارقاتها المتعاضدة والمتضادة .
وفي زمن الاستقلال وتكون التجربة الوطنية الحالية ، تبرز أهمية استعادة منهج الزائد الليبرالي والتنويري والإصلاحي على تطور الوطن بشكلٍ سلمي ، وصولاً إلى مجتمع مزدهر ومتطور .
خاتمة:
【الزائد : الإمكانية الليبرالية والديمقراطية الضائعة !】
يمثل الزائد ــ في تصوري ــ الإمكانية الليبرالية والديمقراطية وهي تنو في المجتمع البحريني ــ الخليجي ، صغيرةً ، محدودة ، ثم تكبر وتتعرض للجفاف والحصار .
ومن الغريب أن ينبثق الزائد الليبرالي من منظومة إقطاعية عتيقة ، وكانت تمارس علاقات اجتماعية متخلفة ، حيث بدأ كشاب مؤيداً ومحارباً من أجلها ، ولكن علينا أن نميز هنا بين تأييده للنظام الوطني السياسي ، وبين مستوياته الاقتصادية والاجتماعية المتخلفة ، التي اضمحلت فيما بعد ، فهو إذ نراه موالياً للنظام الوطني وقيادته ، التي تحلقت حولها ارستقراطية الغوص والقبائل ، خاصةً في مدينة المحرق ، فإننا لم نقرأ له آراءً مؤيدة للاستبداد أو للتخلف الاجتماعي ، ورغم أن فكره الديني ــ المذهبي ، يجعله ضمناً في قطب المسيطرين بكل ظلاله .
ولكن خلافاً للوعي القبلي الحاد الذي انفجر في العشرينيات ، فإن الزائد ركز على جوانب التصدي للهيمنة الأجنبية وافشالها سياسياً ، وقد قادت دعوته إلى تكون بذور وطنية ، في مدينة المحرق خاصةً ، التي صار الحماس الوطني العارم أحد مميزاتها لاحقاً .
إن دعوته (الثورية) كانت جزءاً من وعي ذاتي ، يشعرُ بالإحباط والهزيمة ، وأضعاف لمدينته وقبائله وتفضيل المنتصر للأجانب ، فمضى يحلق خارج شروط الواقع ، وهذا يعبر عن كون الوعي للطبقة العربية المسيطرة ، والمبعدة من قبل الأنكليز ، كانت تتصور إمكانية الفعل الاجتماعي المحوِّل ، بقدرتها الخاصة ، وبدون التعاون مع الطبقات الفقيرة ، وخاصةً في القسم الريفي ، الذي يشكلُ الخلاف الاجتماعي والمذهبي حائلاً كبيراً ، دونه .
ونظراً لفشل هذه الدعوة ، ولعدم قراءتها لقانون تطور المجتمع والناس ، فإنها تتجه إلى أدانة هؤلاء البشر ، وتظل تعمل سياسياً وفكرياً بدونهم ، ومن خلال عملها الاجتماعي والشخصي الخاص .
ولكن ذات النظام الاجتماعي الجديد ، بشروطه (الرأسمالية) وبعلاقات التبعية فيه ، هو الذي يضع الشروط الموضوعية الجديدة للكفاح الوطني .
هنا نرى الزائد يستجيبُ للشروط الجديدة ويطرحُ الشعارات المتوافقة مع تناميها ، حيث يتم التركيز في مرحلته الوطنية الأولى ، على نشر الوعي الفكري والسياسي ، ووضع مقدمات أسس النهضة الاجتماعية الوطنية الموحدة ، وهنا يغدو (الشعب) البحريني ، وهو يتكون بصورته الحديثة ، حيث يخف الاستقطاب الطائفي ، الذي حاول الاستعمار المحافظة على ركائزه ووجوده ــ مستجيباً للدعوة الإصلاحية الجديدة ، مبعداً مسائل الاختلافات المذهبية جانباً ، مركزاً على ما هو إسلامي وما هو عروبي وقومي ، بحيث راحت الفئة المثقفة ، ومن كلا الطائفتين ، وهي الفئة التي لعبت دور الطليعة ، وكان الزائد في مقدمة من قدموا لها اللغة الإيديولوجية ، المصاغة بنثر دقيق وسهل وهو الذي كون لغة الصحافة الحديثة في البحرين والخليج .
لا يمكن تفسير ليبرالية الزائد الخارج من المحرق عاصمة الغوص ، بعوامل موضعية فحسب ، مثل دور المدينة الانفتاحي ، التي كانت ميناءً وعلى صلةٍ مستمرة بالعالم والبحر ، وبوجود مستوى رأسمالي هام في عروقها الاجتماعية .
بل لا بد من تفسيرها بسيرة الزائد الذاتية الصعبة والذكية كذلك: سفراته الدائمة إلى الهند وأوربا والبلاد العربية ، ونهمه إلى المعرفة والاكتشاف ، واستيعابه لخط التطور الرأسمالي والليبرالي في العالم ، لقد أعطاه ذلك إمكانية القفزات في منظومته الفكرية ، حيث تفصل بين تحولاته سنوات قليلة ، بل وإن كانت حياته قصيرة وامضة .
لقد توقفت حياة الزائد في لحظةٍ دقيقة ومريرة ، فخطابه الليبرالي الديمقراطي لم يتجذر ، وبقى كشعارات عامة ومقالات لم تتغلغل إلى طبقات الأرض الاجتماعية والتاريخ ، وهذا ما ساهم في جعل الخطاب بذوراً ديمقراطية ، وليس تصوراً شاملاً وليس تياراً فكرياً بطبيعة الحال ، لكنه حرك البحيرة الراكدة ، وبعده ظهرت التكوينات الفكرية والسياسية البحرينية ، والتي خلقت مرحلةً تاريخية كاملة .
إن خطاب الزائد الليبرالي ، المنتقل من فكرٍ إقطاعي إلى فكر (رأسمالي) ، لم يتجذر في الجانبين ، فهو إذ ينسلخ من جوانب الأول الاجتماعية المتخلفة ، ويؤيد المستوى السياسي ، فإنه لم يدخل بعمق واتساع في الفكر الثاني .
هذا يجعل الزائد مؤيداً لتوليفة من النظامين الاجتماعيين ، حيث تتحول القاعدة الاقتصادية إلى التجارة ، بينما تظل جوانب عديدة في النظام قديمة .
فهو ــ مثل غيره من الليبراليين العرب ــ لم يتحول إلى تحرري شامل ، لكون هذه العملية صعبة على مستوى علاقة الرجل بالنظام الاجتماعي ، وعلى مستوى تطور الرأسمالية البحرينية ، التي ظلت تجارية وعقارية ولم تتجه للصناعة إلا مؤخراً .
إن هذه العملية لم تتجذر ليس عند الزائد فحسب ، بل عند (طبقته) الرأسمالية المتنامية ، التي لم تصل إلى صيغةٍ لبناء نظام الاقتصاد الحر بشكل شامل .
وهذا لا يتعلق بهذه (الطبقة) فحسب ، بل بعلاقاتها ودورها في المنظومة الرأسمالية العالمية المسيطرة ، التي جعلت البلدان المتخلفة تابعة ، ومصدرة للمواد الخام ، وبعيدة عن الثورة الصناعية والعلمية دائماً .
لهذا قامت بالتصدي للاستعمار قوى شعبية ، رفضت النموذج الليبرالي وحققت تطورات مهمة ، لكن النظام الرأسمالي الليبرالي فرض ذاته عالمياً ، وصار هو الأفق المنظور للبشرية حالياً .
ومن هنا تغدو دعوة الزائد المخنوقة في الحرب العالمية الثانية ، هي الدعوة الهامة حالياً ، والمطلوبة ، ومن هنا تغدو شخصيته وإرثه السياسي والفكري هاماً لمراجعة تاريخ الوطن ومستقبله .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر والهوامش :
1 - مجلة الوثيقة ، تجارة البحرين منذ فتح العتوب وحتى ظهور النفط ، بقلم خالد الخليفة ، العدد السابع ، يوليو 1985 . وأنظر (صناعة الغوص) لعبدالله خليفة الشملان ص 81 حيث يقول (وكان عدد السفن سنة 1926 يبلغ 515 سفينة ليصل سنة 1936 إلى 264 ، وكان عدد البحارة سنة 1926 يبلغ 19250 رجلاً بينما وصل سنة 1936 إلى 9800 رجل) .
2 - عبدالله خليفة ، قراءة في تاريخ صحافة البحرين ، جريدة أخبار الخليج ، يوم 26ـ9ـ1983 .
3 - كتاب (نابغة البحرين: عبدالله الزائد) ، مبارك الخاطر ، الطبعة الثانية ، ص 143 ، المطبعة الحكومية لوزارة الإعلام بدولة البحرين .
4 - المصدر السابق ، ص 144 .
5 - المصدر السابق ، ص 213 .
6 - المصدر السابق ، ص 215 .
7 - المصدر السابق ، ص 48 .
8 - لمعرفة جوانب من الوعي المحافظ وبواكير التجديد ، أقرأ (القاضي الرئيس قاسم المهزع) الطبعة الثانية ، مبارك الخاطر ، مطبعة وزارة الإعلام ــ البحرين. يقول الخاطر عن القاضي المهزع إنه كان يتألم كثيراً من عدم وجود (الوعي الإسلامي عند القضاة) ، ص 54 ، حتى أن بعضهم وقف ضد الاجراءات الصحية الموجهة للتصدي لمرض الطاعن! وفي التحفة النبهانية (أمر معتمد بريطانيا بمنع السلاح والرقيق في البحرين فهاجت الأهالي وماجت) ، عن المصدر السابق .
9 - عبدالله خليفة ، المصدر السابق .
10 – مبارك الخاطر ، نابغة البحرين ، ص 196 .
11 - المصدر السابق ، ص 199 .
12 - .. (يساءل الزائد في معرض رثائه للزعيم الشيخ عبدالوهاب الزياني (من للقضية بعد موتك) ص 142 ، وهي المرة الأولى التي ترد فيها هذه المفردة في شعر المرحلة الإصلاحية الوطنية ، وكذلك مفردة (الشعب) ص 144، علوي الهاشمي ، كتاب (السكون المتحرك) الجزء الثالث ، ص 119 ، منشورات اتحاد كتاب وأدباء الإمارات ، الشارقة .
13 - مبارك الخاطر ، نابغة البحرين ، ص 203 .
14 - القاضي الرئيس ، مبارك الخاطر ، المرجع السابق .
15 - مبارك الخاطر ، نابغة البحرين ، ص 210 .
16 - يتكلم حسن المدني في كتابه (مواجي وحراسين) عن هذا التداخل والتمازج الوطني بصورة عفوية ، طالع يومياته في بابكو ص 60 ، من إصدارات مؤسسة الأيام للصحافة والطباعة والنشر ، البحرين .
17 - كتاب ( الصحافة في الكويت والبحرين منذ نشأتها حتى عهد الاستقلال ) د . هلال الشايجي ، ص 97 ، مطبوعات بانوراما الخليج ، البحرين .
18 - (. . لعبت حدة العقل وقوة التفكير وتعدد مظاهرها دوراً أفسد في معظم الأحيان قصائد الزائد التي كانت جميعها تقريباً ، حسبما ذكرنا ، تدور في فلك الهموم السياسية ، مما طغى طغياناً واضحاً على صوى العاطفة الخاصة) ، علوي الهاشمي ، المصدر السابق ، ص 53. والواقع إن الأمر لا يعود لقوة التفكير، أو الدوران في فلك الهموم السياسية ، حسب المنهج الشكلاني هنا ، بل لغياب التصوير وسيطرة التقرير.
19 – هلال الشايجي ، المصدر السابق ، ص 106 - 107 .
20 – نفسه ، ص 108 .
21- نفسه ، ص 108 ، 111 .
22- (ورد إلينا صباح أمس كتابٌ غفلٌ من الإمضاء ، خلاصته إننا نناصر الأنجليز ، ونتكتب ونحرر في سبيل مصالحهم لغرض غير وطني ، وقال الكاتب في آخر كتابه إننا غيرنا سيرتنا الوطنية وما تستوجبه العروبة بعد أن كنا مثالاً يُحتذى في لاذب عن قضية الأوطان والشعوب الناطقة بالضاد. ثم ذكر حوادث قمنا بها وأخذ يقارنها بما نفعله الآن مدعياً أن الأمر فيه تناقض مدهش ، وإن كثيراً من الناس في الخليج يعجبون من هذا التحول الغريب . وجوابنا لهذا الكاتب الذي نعتقد إنه ساذجٌ مخدوعٌ ، لا يدرك شئون العالم وسياسات الدول وأطماعها ما يكفي لأن يرده إلى الصواب) ، عبدالله خليفة ، قراءة في تاريخ صحافة البحرين ، أخبار الخليج 22ــ 9 ــ 1983 .
23-(من إذاعة برلين كنا نستمع إلى يونس بحري (. . .) لا أخفي إنني كنتُ أستمتع كل الاستمتاع وأنا أستمع إلى تلك الأخبار والتعليقات والتي كانت تلقى الصدى والقبول من قبل عددٍ من المتابعين المهتمين الذين كانوا يوالون . . الألمان وحلفاءهم ويتمنون لهم الانتصار في الحرب) ، حسن المدني ، المرجع السابق ، ص 41 .
24- مبارك الخاطر ، نابغة البحرين ، ص 253 .
25-(وانغماس الزائد في شؤون السياسة ، واتصاله المباشر مع الأنكليز واضطراره الخضوع لأوامرهم وتوجيهاتهم معظم الأحيان ، وانتسابه للعائلة الحاكمة وعلاقته الوطيدة بالحركة الوطنية وزعمائها ، وانبراؤه مصلحاً اجتماعياً ورائداً من رواد الثقافة والصحافة والأدب ، كل ذلك وغيره جعل هاجس الحرية لدى الزائد قوياً خاصةً على الصعيد الوطني ــ السياسي ، في الوقت الذي جعل حديثه عنها محاطاً بالمحاذير والصعوبات والموانع) ، الهاشمي ، السكون المتحرك ، ص 54 .
26- مبارك الخاطر ، نابغة البحرين ، ص 253 – 263 .
27- المصدر السابق ، ص 254 .
28- هلال الشايجي ، المصدر السابق .
29- عبدالله خليفة ، المصدر السابق .
30- عبدالله خليفة ، المصدر السابق ،
31- مبارك الخاطر ، المصدر السابق ، 127 .
32- يعترض هلال الشايجي على ما ذكره مبارك الخاطر في كتابه عن الزائد في حديثه حول مشروع الاتحاد بين البلدان العربية في الخليج ، من ص 123 إلى ص 126 ، والذي يصوره الخاطر كفكرةٍ خاصة للزائد ، راجع ملاحظة الشايجي في كتابه المذكور سابقاً ص 111.
33-(كان من الممكن تنفيذ هذا المشروع العظيم . . لولا وقوف المصالح الفردية والأجنبية في وجهه واقفاله) مبارك الخاطر ، المصدر السابق ، ص 126 .
34-القافلة البحرينية ، يوم 29 اكتوبر سنة 1954 .
*- يستخدم الباحث كلمات مثل (الطبقة) الوسطى وهو تعبير فيه محاذير ، حيث أنها فئات وسطى ، هذا الفرق يعود للتجذر في مثل هذه الموضوعة الهامة في أعماله التالية .
https://abdullakhalifa.blogspot.com/2...
عبـــــــدالله خلــــــــيفة عرض ونقد عن أعماله
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 29, 2019 07:08 Tags: 2-عبدالله-الزائد

1⇦ عبدالله الزائد

الخطاب السياسي عند عبدالله الزائد
【ظهوره وجذوره وتحولاته】
يعتبر عبدالله الزائد من العلامات الفكرية البارزة في تاريخ البحرين خلال النصف الأول من القرن العشرين ، حيث عاش بين سنتي (1899 ــ 1945) ، وقد استطاع أن يُعبر عن هذه المرحلة بشكل نموذجي وبارز ، وانعكست على حياته وأفكاره تحولاتها وصدماتها ، بشكلٍ ساطع ، وقد حاول أن يؤثر تأثيراً بارزاً في أحداثها السياسية والفكرية ، فإذا كان هو ابن مرحلة بداية القرن ، فإنه قد صدم بتحولات العشرينيات السياسية الحادة ، وبتحولات الثلاثينيات الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة ، التي انعطفت بالنظام الاجتماعي المحلي ، وقد حاول هو أن يكافح هذه الانعطافة الاقتحامية الأجنبية ، إلا أن مجريات التطور الموضوعي والذاتي ، فاقت قدراته الفردية بطبيعة الحال ، فقام بإجراء تغيير انقلابي في خطابه السياسي والفكري في الثلاثينيات وأواخرها تحديداً .
إنا لا بد أن نضع خطابه في مجريات التطور ، منقبين عن أبعاد اجتماعية وإيديولوجية جديدة هي التي كونت وحولت الخطاب .
إننا نرى الشخصية ــ وهي الزائد هنا ــ باعتبارها جزءاً من نسيج اجتماعي وإيديولوجي متحول ، ووضعها في هذا النسيج يكشف طبيعة هذا الوعي وتحولاته التي لم ترصد بهذا الشكل ، ويحدد مفاهيمه وقدراته المعرفية ، وإمكانياته في تحويل هذا الواقع كذلك .
فعبدالله الزائد كان مناضلاً ، ومتوجهاً لتغيير الحياة من منطلقاته الخاصة ، وبحدود وعيه في الفترات المختلفة ، الذي هو أيضاً ثمرة لمستوى كفاح طبقته وشعبه .
【بين بنيتين】
وقعت حياة عبدالله بن علي بن جبر الزائد القصيرة الحافلة ، في لحظةِ تغير بنيوية اقتصادية ــ سياسية ــ ثقافية واسعة ، حيث كان نمط الإنتاج والحكم والوعي ينتقل من بنية إلى أخرى ، وقد وجد الزائد نفسه في حضن البنية الاجتماعية القديمة مدافعاً عنها ، وعن امتيازاتها وعالمها السياسي ، في حين كانت هي تتجه إلى الهزيمة والأفول ، ثم وجد نفسه مكافحاً من أجل تصعيد ونمو البنية الجديدة بحيث تغدو حديثة ديمقراطية دون أن يتحقق ذلك .
ولا بد من التغلغل في اللوحة القديمة أولاً وبشكل موسع ومتعدد المستويات ، لكي نضع الشخصية في نسيجها العام .
لقد كانت بُنية مجتمع الغوص في عز ازدهارها لحظة مولده وشبابه ، ففي سنة 1900 بلغ قيمة المصدر من اللؤلؤ 000 ، 500 جنيهاً استرلينياً ، ووصل بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى إلى 323 ، 701 ، وفي نهاية عقد العشرينيات كان الخط التنازلي لتصدير اللؤلؤ (1).
كانت علاقات البنية الاجتماعية المشكلة لإنتاج الغوص والزراعة ، تعتمدُ على سيطرة كبار الملاك والطواشين والنواخذة لنتاج الغوص والزراعة ، وإبقاء العاملين والنساء في حالة استغلال عتيقة ، تسودها السخرةُ والديون وبقايا الأشكال العبودية، والأمية، وتخلف المرأة ، وفقدان التعليم والحقوق.
هذه الشبكةُ العتيقةُ من العلاقات الإنتاجية والفكرية ، وجد الشاب عبدالله الزائد نفسه ، مدافعاً عن استمرارها واستقلالها ، في مواجهة طوفان انجليزي ورأسمالي توغلي واسع النطاق .
ولكن مهما كانت هذه الشبكة متخلفة وارستقراطية ، فهي الإنتاج الوطني بكل مؤسساته الاقتصادية المستقلة ، من غوص بحري مزدهر ، ذي فائض مالي كبير ، إلى أراضٍ زراعيةٍ خصبة ، وإلى سلسلةٍ من الحرف والصناعات اليدوية المكملة لذلك الإنتاج ، وإلى تجارةٍ خارجية مغذية لإنتاج واستهلاك هذه الشبكة ، وكذلك وجود مستوى ثقافي وطني بتوجهه الإسلامي ــ الثنائي الطائفة ، وفلكلوره وتراثه الشعبي ، وفوق هذا كله سلطة بحرينية تمثل هذا الاستقلال .
إن السيطرة الاستعمارية الأجنبية كانت تتجه إلى تدمير كل هذه البنية القديمة ، وقد دمرت جزءاً كبيراً منها ، وراحت تحل بنية اقتصادية ــ ثقافية ــ سياسية جديدة ، من أشكال تجلياتها البنك الانجليزي وشركة التلغراف والبوارج الحربية وتدمير الأسطول البحريني وقطه شرايين السياسة الخارجية ، والبوليس الهندي والمحاكم الجديدة والقوانين الجديدة ، تتويجاً على هذا كله بوضع مسئول بريطاني مطلق التصرف .
وظهرت التجلياتُ الثقافيةُ لهذه السيطرة ، بتواجد جمعيات التبشير المسيحية ، وبإعطاء الأراضي لبناء الكنائس ، وجلب الصحافة المؤيدة للانجليز ، والسيطرة على التعليم الأهلي الخ. .
وكان على البنية الاجتماعية الوطنية القديمة أن تدافع عن وجودها على مختلف المستويات السياسية والفكرية والاقتصادية .
وقد نشأ عبدالله الزائد في حضن هذه البنية السابقة الآفلة ، فأساتذته وأصدقاؤه هم أركان هذه البنية ، أمثال الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة ، وعبدالوهاب حجي الزياني والشيخ محمد بن عيسى آل خليفة .
وكانت (المحرق) هي عاصمة الغوص ، والعاصمة السياسية والإيديولوجية لهذا العالم الاجتماعي الوطني الغارب ، ومن هنا عملت هذه الطبقة على خلق أشكال المقاومة المتعددة لمنع السيطرة الأجنبية ، وهي أشكال مقاومة رقيقة ، هينة ، وليست عنيفة أو شعبية واسعة ، فهي حوارات وتساؤلات مع السلطة الجديدة ، ورسائل إلى عاصمة الإمبراطورية البريطانية وسفر إليها ، ونقد لرموزها المحلية ، ودفاع أدبي وأخلاقي عن السلطة الوطنية واستقلالها، ولكن كل هذه الأشكال لا تؤثر بشيءٍ ، كما أن هذه الوسائل لا تصل إلى تكوين قاعدة محلية واسعة مناوئة للتدخل الأجنبي، تقومُ بإجراءات عملية لتكوين مثل هذه القاعدة ، أو للجبهة الوطنية العريضة بتعبيرنا المعاصر ، كالتخفيف عن الغواصين والمزارعين ، وإلغاء المظاهر الحادة للاستغلال ، مما جعل السلطة البريطانية المتشكلة محلياً ن تخترقُ الإجماعَ الوطني ، وتحيله إلى جزرٍ متنابذة ، عن طريق تقديم بعض (الإصلاحات) للفئات الأشد تضرراً ، وإحداث الشقاق بين المثقفين وقوى الإنتاج الفكري المؤثر .
وقد لعب عبدالله الزائد الدور التعبوي والفكري ضد هذه التدخلات الاستعمارية الحادة ، وعبرت كتاباته عن الموقف الأكثر وضوحاً ودقةً وعلانيةً في هذه المواجهة ، وكانت رسالته إلى المندوب البريطاني في الخليج ، تعليقاً ساخناً ومباشراً على هذه الأحداث(2) .
إن وعي الزائد في هذه المرحلة ، الذي برز بقوة ، خلافاً لعشرات الشخصيات البحرينية الأخرى ، يؤكد الدور المحوري والمؤثر لشخصه .
وفي هذا الجيشان السياسي والاجتماعي ، وفي ذروة الصراع بني بنيتين وطنية مهزومة واستعمارية مقتحمة ، وفي سنة 1922 ، نقر هذه المقتطفات الشهيرة من خطبة الزائد في الترحيب بأمين الريحاني ، الذي حلَّ ضيفاً على المثقفين .
يسوق الزائد خطابه بشكلٍ عاطفي ، محولاً الريحاني إلى قوة سحرية قادرة على أن تفعل فعلها في الغرب ومؤسساته . فهو يجرد ذلك العالم الغربي من قواه الاقتصادية والعسكرية ، ويحوله إلى كتلةٍ مجردةٍ مستعدةٍ للإصغاء إلى الريحاني ووعظه الأخلاقي الرفيع ، مثلما الزائد يقوم بذات التأثير الوعظي في الريحاني ، فيقول له:
(أيها السيد/ إن في ذمتك للشرق عامةً ، وللعالم العربي خاصةً أمانة يجب أداؤها ، وأمنية لا أخالك تغفلها ونصيحة غايتك بذلها . أجل ستؤدي الأمانة ، وتحقق الأمنية ، وتبذل النصيحة .)،(3) .
ويضيفُ بعدئذٍ:
(قلْ لهم بربك ، قل لهم إني زرت (. . .) فرأيتُ شعوباً تتوقُ إلى مصافحتكم كأصدقاء وإلى مصادقتكم كزملاء . ولكنها لا ترضى بحالٍ من الأحوال أن تكونوا لها بمثابة الأسياد مطوقة برقبة الاستعباد ) ، (4) .
إن الزائد يريدُ إقامةَ صداقةٍ نزيهةٍ بين الغرب الاستعماري والشرق التابع ، وهو وعيٌ يعبر عن تلك القوى الاجتماعية التي رغبت في تعايشٍ مشترك بين الطرفين المتضادين ، عبر خلق مناطق نفوذ مستقلة لكلٍ منها ، وهذا الوعي الوهمي كان لا بد أن يتشكل بأدواتِ الفكرِ المجرد والعاطفي الرومانتيكي ، فالزائدُ لا يدرك ما هو الغرب ، وتطوره الاقتصادي التاريخي عبر انتقاله إلى منظومة الاستعمار ، التي بدأت تتشكلُ منذ أواخر القرن التاسع عشر ، وهي التي تؤدي إلى احتواء المنظومات الوطنية ذات القواعد الزراعية ــ الحرفي ، وإلحاقها باقتصاده وتحويلها إلى أسواق لصادراته ولإنتاج مواده الرخيصة .
كما أن الزائد لا يلتفتُ ، هنا ، إلى الشرق الذي يريد التعبير عنه ، حيث يصفهُ بالراغب في علاقة صداقة نزيهةٍ مع الغرب ، وإنه قادرٌ على رفض الاستعباد إذا لم تتشكل هذه الصداقة ، حيث إن هذا التجريد ، هو ابتعادٌ عن التحليل الملموس والحقيقي للشرق ، أي للعالم العربي ، المفتت ، المتخلف ، الذي يُلحق بقوة ، وقسوة بالعالم الغربي الاستعماري .
ومن هنا يطالبُ الزائد الغربَ بأن يكون هو الناصح المحرر ، لا الجبار المسيطر ، للبلدان العربية التابعة ، أي أن يتخلى عن مناطق نفوذه ، وأسواقه التي تمدُ مصانعه بالمواد ، وهي مناطق النفوذ التي استعرت عليها حربٌ عالميةٌ أولى كلفت الملايين من البشر ، لكي يتحول الغرب إلى الأستاذ الحضاري لها ، ويرفعها إلى مستواه ويجعلها تزيحه اقتصادياً وسياسياً .
وهو يقولُ هنا (دعوا الزمان الذي كيفكم يكيفهم) ، حيث يقومُ بتجريد الزمان التاريخي من ملموسيته المحددة ، فهذا الزمان الذي كيفهم هو عدة قرون تمتدُ من عصر النهضة مروراً بعصر الثورة الصناعية حتى عصر التوسعات والنهب الإمبريالي للكرة الأرضية .
وإشارة الزائد التجريدية هذه ، ورغم ذلك الشكل الطوباوي ، هي أيضاً علامة على إدراكه لتطور العلاقات الموضوعية وأثرها في تشكيل البشر ، وهو إدراك مبهم ، مثالي وأخلاقي ، لم يتغلغل إلى ما وراء الزمن المجرد ، أي إلى شبكة العلاقات الاقتصادية السياسية والصراعات الاجتماعية . .
ورغم هذا الوعي الطوباوي الرومانسي للزائد ، فإنه يستدرك في ختام خطابه قائلاً (أدرسوا نفسيته وساعدوه على تحقيق أمنيته ، وإلا فإن التطور العالمي كفيل بتحقيقِ مطالبه) ، وهذا الاستدراك هو عودةٌ إلى الحقائق الموضوعية ، وإلغاء للطريقة الوعظية في التحليل السياسي ، وتبدو كلمة (التطور العالمي) كلمة مبطنة مبهمة تحتوي إشارات كثيرة .
والتطور العالمي هو الذي تحقق فعلاً ، بنشوءِ حركاتِ التحرر الوطني ، وحدوث ذلك التفاعل الصدامي ، بين المنظومة الرأسمالية الغربية المتحكمة ، والعالم الثالث ، والذي نتج فيه (زمانٌ) تكيفي مختلفٌ عما تخيله الزائد ، وهو زمانٌ تداخلت فيه الصدامات والثورات وتبادل المعرفة والتأثير .
إن الوعي الخيالي الذي جسدهُ الزائدُ في تلك اللحظةِ التاريخية من بداية العشرينيات ، لا ينطبقُ على المسار العربي المجرد ، بل كذلك لا ينطبق على المسار البحريني الملموس .
فهو أيضاً إشارة إلى ضرورةِ علاقةِ صداقةٍ بين الشعب البحريني والاستعمار البريطاني ، وقد جاءت الدعوةُ قبيل الانقلاب البريطاني في سنة 1923 ، حيث سيعي الزائد حينها استحالة تلك الصداقة ، وإلى سنوات قليلةٍ تالية .
فهذا الانقلاب لم يُشر إلى تحكمهم في شئون السلطة فحب بل إلى إعادة تحويلهم للمجتمع ككل ، وإخضاعه لسيطرتهم الاقتصادية والفكرية أيضاً . فهو سيقول بعد عدةِ سنوات في قصيدة رثاء الشيخ عيسى بن علي آل خليفة :
يا للشهامة نجدة عربية الناسُ أحرارٌ ، ونحن عبيدُ(5)
أو قوله :
قل للبغاةِ تفننوا في بغيكم فكل شي آخر وحدود(6)
فتلك الصداقة المقترحة لم تتشكل ، وبدأ التغلغل البريطاني يصير أنساناً حديدية تشقُ اللحمَ الوطني ، وتدمر إنتاجه الحرفي ــ الزراعي وتحيله إلى سوق .
【جذور الزائد الاجتماعية】
لكن موقف الزائد الطوباوي السابق له جذورٌ اجتماعية ، فالزائد ابن تاجر اللؤلؤ ، وتاجر اللؤلؤ(7) ، والذي يقيم مصاهرة وصداقة مع الطبقة العربية الحاكمة ، ليس هو في حالة تضاد اقتصادي حاد مع المستعمر ، فتجارة اللؤلؤ كانت تأخذ بضاعتها من سفن الغوص ، دون أن تتدخل بعمقٍ في عمليات الإنتاج ، بل هي تدع لــ(النواخذة) ــ ربابنة السفن ــ طريقة تشكيل الإنتاج وأدائه .
فرغم إن علاقات إنتاج الغوص كانت إقطاعية ، وذات ذيول عبودية كذلك ، إلا أن تجار الغوص (الطواشون) لم يكونوا على صلةٍ مباشرةٍ بالإنتاج ، بل كانوا يشترون المنتوج النهائي ويبيعونه في الأسواق ، مما جعلهم فئة محافظة ومجددة في ذات الوقت .
فهم فئةٌ محافظةٌ ، نظراً لكونهم مؤازرون لعملية الإنتاج الإقطاعية تلك ، حيث يشتركون في استغلال الغواصين مع النواخذة ، ويعيشون على قوة عمل ذلك الغوص الصعب والمُدمِّر ، محافظين على شروطِ عيشةِ البحارة بكل بؤسها ، فأي تطور في وضع المنتجين البحريين سيكون على حساب مداخيلهم .
من هنا ، لم يساهم الطواشون في تغيير أوضاع البحارة ، لا بتحسين مداخيلهم ولا بفتح المدارس ونشر التعليم وتغيير الأوضاع الاجتماعية .
ولكنهم ، من جهةٍ أخرى ، كان الطواشون منفتحين على الأسواق والدول والتطورات الحديثة فيها ، فكانوا شريحةً برجوازية حديثة داخل نسيج إقطاعي ، وفئة رحالة ومطلعة داخل مجتمع راكد . وليس غريباً أن يكون مثقف كبير آخر ، كإبراهيم العريض ، نتاج هذه الشريحة الاجتماعية .
والواقع إن الحدود كانت متداخلةً بين النواخذة والطواشين وملاك الأرض والعقار ، فقد ظهرت جماعةٌ مهيمنةٌ من كبار التجار في يدها تجارة اللؤلؤ والأملاك ، وهي لم تخاطر كثيراً بملكية السفن وتحمل مخاطر الخسائر فيها ، تاركةً للنواخذة ذلك الأمر ، ولكنها راحت تسيطرُ على تسويق اللؤلؤ ، حيث نبعت أكثر الأرباح وأقل الخسائر .
من هنا دعمت هذه الطبقة ، بشرائحها المتعددة ، الوعي المحافظ ، وبررت الرق شرعياً ، مؤكدةً على تشريع إسلامي قديم ، مكيفةً إياه حسب مصالحها ، راغبةً في عالم اجتماعي قروسطي كما كان في الماضي ، ولكن النذر الخطيرة الحاصلة ، وخاصةً بدء تدخل الاستعمار الإنكليزي في الحياة الاجتماعية المباشرة ، جعلتها تتجه إلى دعم موقفها بتشكيل المؤسسات التعليمية والفكرية.(8) .
فكان التجديدُ محدوداً في عالمها ، مقتصراً على تعلم بعض الذكور م أنباء هذه الطبقة واطلاعهم على ما يجري في العالم العربي ، ونقل الإيديولوجية الإسلامية كما تشكلت لدى محمد رشيد رضا ، وهي الإيديولوجية السنية المناوئة للاستعمار .
ولكن ظروف الطبقة وممارستها الاجتماعية والسياسية ، لا تجعلها منطبقةً تمام الانطباق على الذات الشخصية التي ندرسها ، وه يهنا عبدالله الزائد ، فرغم إن الزائد هو ابن هذه الطبقة ، ولكنه أيضاً ذا حراك خاص ، وسيرورة تاريخية شخصية مميزة ، ستجعله أكثر المعبرين عن صدامها السياسي المحدود ، وتحولها الاقتصادي المتجه للتجارة الحديثة .
إن هذه الجماعة سوف تتعرضُ شرائحها المتعددة ؛ النواخذة ، والطواشون ، والملاك ، إلى زلزال عنيف ، مع بدء المسار النازل لإنتاج الغوص ، والزراعة ، فسوف نرى انهياراً لتلك الفئات وسقوطاً اجتماعياً ، هدمها ، وبعثر أغلبها نحو القاع الاجتماعي ، ونحو الطبقات الجديدة الناتجة من البنيةِ الجديدة الرأسمالية التابعة الصاعدة .
ولهذا ستغدو هذه الشرائح من قوى المعارضة المهمة للتدخل الأجنبي ، مؤكدة على تمسك قوي بــ(الشرع والإسلام والعروبة) .
ولكن مسألة الشرع والإسلام ستكون هنا مرتبطةً بسيطرتها الاقتصادية - السياسية ، حيث يغدو المذهب السني ، هو هذا الإسلام الرسمي .
وقد كان عبدالله الزائد متحمساً لهذا المذهب ، كجزءٍ من تلك السيطرة السياسية والإيديولوجية .
أي أن الوعي الديني ــ المذهبي هنا قد حجب الوعي الوطني ، وعرقل ظهوره لسنوات قليلة . وقد حاول هذا الوعي الديني ــ المذهبي أن يتصدى للاستعمار البريطاني في تلك السنوات الأخيرة من العقد الثاني والسنوات الأولى من العقد الثالث ، عبر تحركه التعليمي والحديث المحدود ، وعبر توجهه للحوار مع المذهب الديني الآخر(الشيعة) ، لتشكيل قوة موحدة ضد التدخل الأجنبي ، إلا أن زمان هذا التوحيد لم يكن هو بين ذينك العقدين .
فقد عمل الاستعمار بقوة للدخول في ذلك الشرخ الاجتماعي الموضوعي ، واستغلال التضادات المتشكلة عبر عشرات السنين ، خاصةً إنها مقامة فوق تباين طبقي كبير ، فقاموا بتأجيج الصراع الاجتماعي – المذهبي ، ففي المدن ألبوا الغواصين ضد الشرائح الدنيا من الطبقة المسيطرة التقليدية ، أي ضد النواخذة ، وفي القرى ألبوا الفلاحين ضد الملاك ، وبالعكس ، أي استطاعوا أن يؤججوا مختلف الصراعات ثم قاموا بالسيطرة عليها ، مظهرين إدارتهم السياسية الجديدة باعتبارها التوجه الحضاري والإصلاحي والقانوني الوحيد .
لقد جعلتهم هذه السياسة المخادعة يسيطرون على مختلف القوى الاجتماعية والمسرح السياسي الوطني .
وكما قلنا ، فإن الطبقةَ ذاتها بأسلوبها الإنتاجي القديم ، لم تستطع أن تشكلَ قيادات قادرةً على فهم التطور واللحظة الوطنية المعقدة ، فوعيها يرتكزُ على مذهب ديني بعينه* ، ولم يتشكل بعد كوعي وطني فهو يعجزُ عن تكوين تحالف وطني .
وعي الزائد في هذه المرحلة هو وعي طبقته القديمة ، الارستقراطية ، ذات المذهب الديني الخاص ، والتي تتعرض لانهيار سياسي واقتصادي متداخل ومعقد ، فهي على المستوى السياسي تفقدُ الحكم وعلى المستوى الاقتصادي تفقد إنتاجها البحري .
وكان على الزائد أ ينتجَ ركائز الوعي الوطني النهضوي القادر على لم الشعب ، وتجاوز ثنائيته الطائفية ، وأن يطرح خطاباً موحِّداً . ولكنه في تلك الفترة ،وفي سنة الانقلاب البريطاني سنة 1923 ، كان في وعيه السابق .
إنه يوجهُ خطاباً سبق ذكره إلى المندوب البريطاني في الخليج ، يكتبه بصورة حوارية انفعالية قوية ، موضحاً طبيعته ككاتب نثر جيد وبارز بالدرجة الأولى ، ومحاولاً التأثير في الشخصية المستعمرة الكبيرة وتحويلها عن موقفها ، فهو يقول:
(يا صاحب الفخامة: يدلُ هذا الإعلان على أنكم فهتم من العرائض ، إن أهالي البحرين يمقتون الإصلاحات ويرغبون في التوحش والهمجية؟
لا يا صاحب الفخامة ، إننا متمدينون لا متوحشون ، ولا نسعى إلا إلى الإصلاح ، إننا من أمةٍ كانت متمدينة قبل التاريخ ، ولكن لا نقبل أن يسمى الشيء بغير اسمه . أيستطيع أحدٌ أن يقولَ أن ما جرى ويجري في البحرين إصلاح؟ أمن الإصلاح استبدال شرطة المنامة بشرطةٍ أجنبية مسلحة كانت ولا تزال السبب المهم في الفتن (. . .) أمن الإصلاح تحويل واردات البلاد إلى البنك الإنجليزي بدون رأي الأمة (وهو مالها دفعته من جيبها ؟ الخ . .)،(9).
إن الزائد يحول الصراع التاريخي بين شعب صغير واستعمار عالمي إلى حوار بين شخصين يمكن لأحدهما أن يقوم بإقناع الآخر منطقياً ، كأن المسئول البريطاني ليس أداةً لإمبراطورية عالمية تلتهم الشعوب .
إن الزائد يستمر في منهج الوعظ الأخلاقي كما عبر حينها لأمين الريحاني ، مجرداً الصراعات الاجتماعية الكبرى من تضاداتها الحادة ، مستمراً في الدعوة لمنهج التعاون الخلاق بين العرب والغرب الاستعماري ، هادفاً إلى إبقاء البنية الوطنية القديمة ، بركائزها السياسية والعسكرية والمالية خاصةً ، في حين كان التطور الموضوعي وانقلاب ميزان القوى بدأ يعصفُ بتلك البنية ويدمرها .
إن الزائد يدركُ إن سياسة (الإصلاحات) البريطانية شكل من أشكال المناورة قــُصد بها اختراق الصفوف والسيطرة على الجميع ، ولكنه لا يقدم برنامجاً إصلاحياً مضاداً لتخفيف الاستغلال البشع للبحارة والغواصين وأعمال السخرة والإفقار ضد المزارعين ، وهو سكوتٌ يعبر عن استمرارية البنية الاجتماعية العتيقة بكل رواسبها القروسطية .
【الزائد وعبدالوهاب الزياني】
مثّل الشيخ عبدالوهاب بن حجي الزياني وأحمد بن لاحج البوفلاسة الدينامو الثنائي لقلب الحركة السياسية (الوطنية) ، فالأول خاصةً هو المتواجد عبر العرائض المختلفة لتشكيل المجلس التشريعي المنتخب ، المقدمة إلى شيخ البحرين عيسى بن علي آل خليفة ، وهو المتحرك ضد استيلاء الإنكليز على السلطة في سنة 1923 .
إن عبدالوهاب الزياني كان من كبار ملاك زمن الغوص ، والشخصية النموذجية على المستوى الاقتصادي ــ السياسي ــ الإيديولوجي للطبقة المسيطرة ، ومثــّل مصيره ومصير رفيقه في رحلة النفي أحمد بن لاحج مصير ملاك الغوص وعالمهم الآفل .
وكما ربط عبدالله الزائد نفسه بالطبقة المهيمنة ككل ، فقط ربط نفسه بهذين الزعيمين في الوطن ، والمنفيين بعدئذٍ إلى الهند ، حيث كان معهما أثناء الكفاح في الداخل ، كما كان معهما في المنفى زائراً ومحاوراً .
أي أن الزائد حاول أن يلعب دور الرابط السياسي والفكري بين القيادة المنفية وجسمها الاجتماعي المبعثر بعد ضربات الإدارة البريطانية المتتالية .
زيارات المتكررة لهما في الهند(10) توضح هذه العلاقة السياسية الخفية التي حاول الزائد القيام بها ، رابطاً حلقات العمل الوطني المتعددة مع بعضها البعض ، فهو إذ يقابل الزعيمين المبتعدين ، فإنه ذو صلات جيدة مع الشيخين محمد وعبدالله ابني عيسى بن علي ، وهما كانا المؤيدين للتحرك الوطني ، كما له صلاته بالمثقفين . .
من هنا كان الزائد هو القائد السياسي الصغير الطالع من خلال الحطام لتحول سنة 1923 ، ولنرى بعض أفكار منظومته في رثاء الشيخ عبدالوهاب الزياني المتوفى سنة 1925 ، حيث هي ذات دلالة دقيقة على موقفه وتطوره .
ويبدو عبدالوهاب الزياني في هذه المنظومة وكأنه كل (الحركة الوطنية) ، فهو الوحيد الذي ملأ خشبة المسرح السياسي ، وبدونه ليس ثمة سوى الموت والانهيار .
كنتَ الغياثَ وكنتَ نبراس الهدي غبشت بفقدكَ ظلمة وضلال
أو قوله :
والقوم في نومٍ وجــــــهل وفي صف العــــــــدو أمالهم فأمالوا
ماتت نفوسهمُ ووهت عزماتهمُ فمصيرهم بعد الخمول زوالُ(11)
ليست هذه اللغة انفعالية فحسب ، ولكنه تقرير حاد لتحول جذري في الحياة السياسية ، حيث تلاشت المقاومة ، وقبل الجميع بالسيطرة الأجنبية ، التي لم تعد شخصاً قابلاً للحوار ، بل (عدواً).
إن الزائد يقيمُ تضاداً حاداً ، هو جزءٌ من منهجه العاطفي الساخن ، بين قسمين في المجتمع: الأول هو عبدالوهاب الزياني: فهنا العلم والكفاح والتضحية والهدى والمطر والمكرومات و(قمر الحياة) والدين والإخلاص والأفضال والفعل والذكاء ، وهناك في القسم الثاني نقائض ذلك ، أي الجهل والأنانية والتأخر والهوى والنوم والخمول وغيرها .
في هذا المنهج التعميمي التجريدي ، تحويلُ الواقع إلى فردٍ ذي صفاتٍ عظيمة أو رديئة ، وتتلاشى ن هذا التصور عمليات التحليل للواقع وللظروف ، وبذلك يفتقد التصور قدرته على التجذر والاستمرارية ، ويغلب عليه الانفعال والذاتية .
لا يوجد في المجتمع حسب تصور الزائد قوى حية تواصل رسالة الزياني (الوطنية) ، إلا (صحبة حاذقون وآل) ، وهذه الصحبة الحاذقة الحية هي الوحيدة الخارجة من تلك الصفات المذكورة أعلاه.
إن (الصحبة الحاذقة) تشير إلى وجود نواة وطنية مستعدة لمشوار الكفاح ، وليست قصيدة الزائد إلا بيانها السياسي يدبجهُ الناظمُ كمنشور مستغلاً أدوات الشعر لنشره ، مع غياب الصحافة . وسيغدو الشعر للزائد نظماً بيانياً سياسياً للمهمات المطلوبة وطنياً . وهو ليس شعراً في حد ذاته ، حيث تسودُ الخطابية والنثرية والصرامة العقلية .
وكما قرأنا كلمة (عدو) ، حيث تتحول السلطة البريطانية إلى احتلال معادٍ ، فإننا نقرأ كلمة (الشعب)(12) ، ونقرأ كلمات (الثورة) وكل ظلالها . ونجد الدعوة القومية ، واعتبار ثورة البحرين جزءً من ثورات العرب ضد الاستعمار .
وقد اختار الزائد في منشوره الشعري ثورتي السوريين والمغاربة ضد الفرنسيين كمثال للثورة المطلوبة محلياً ، سواء كانت بشكل هبة شعبية كما فعل السوريون ، أو بشكل نضالٍ مسلح كما فعل المغاربة ، وعدم التطرق إلى الدول التي يحتلها الإنكليز هو إشارة واضحة لما ينبغي فعله وضد من .
لقد اختار الزائد مناسبة وفاة الزياني المؤثرة لينشر بياناً فيه نقد شديد للمتقاعسين عن النضال ، ثم فيه برنامج محدد للثورة التي ينبغي أن يقوموا بها فوراً !
وإذا كان الغرب صديقاً محتملاً فإنه الآن شيءٌ آخر ، والمطلوب إزالة سيطرته .
والغرب أغدر خائنٍ وقعت به رغم التجارب والعظات رجالُ
والمطلوب هو:
إن الشعوب مصيرها في كفها تسدي النفوسُ وتبذلُ الأموالُ
إذن قرر الزائد المهمة الأساسية وهي: الثورة !
هذا القرارُ الذي أتخذه ونشره في الوطن والعالم العربي أيضاً ، قد يكون قراره الشخصي ، أو قرار (الصحبة الحاذقة) ، لكنه بكل تأكيد كان يمثل فعل النخبة الوطنية السنية في ذلك الوقت ، وحراكها المستمر نحو الوعي الديمقراطي العام ، أي بدء انتقالها الملموس من التعبير عن الطائفة إلى التعبير الوطني الشعبي العام .
ولكنه أيضاً وبكل تأكيد ، يمثل هذا القرار قفزة في الهواء ، فهو فعل سياسي لنخبةٍ صغيرة جداً ، لا توجد لها علاقات عميقة وواسعة بالناس ، الذين لا يزالون مقسمين ، ولم يتبلور لديهم رأي وطني عام يجمعهم لرفض التدخل والاحتلال .
أي أن اندفاع هذه النخبة لخلق ثورة ، في سنة 1925 حيث الثورتان السورية والمغربية مشتعلتان ، لا يمتلك أية أسس موضوعية وذاتية ، ولا يؤدي سوى إلى انكسارات واحباطات لدى تلك النخبة ، وخاصةً لدى الناطق الشعري ــ النثري ــ البياني باسمها وهو الزائد .
و لا يزال النهج الفكري العام للزائد متواجداً تحت ثنايا كلماته ، فالغرب يغدو خائناً ، لأنه كان صديقاً ، مما يعبرُ عن استمرارية النهج ، وانقلاباته النفسية ، دون المراجعة الفكرية العميقة .
فهذه الطريقة شخصنةٌ للقوى الموضوعية ، وتذويب للواقع بطبقاته وقواه ، مما يؤدي إلى ذبذبة الموقف وقابليته للانكفاء ، وهذه الشخصنة للتطور والموقف ستكون مسئولةً كذلك عن الانقلاب المضاد للزائد بعد سنوات .
【بعض ركائز إيديولوجية الزائد التنويرية】
في سنوات العقدين الأول والثاني من القرن العشرين كان الفكر الديني المحافظ هو المسيطر الكلي على الوعي ، وشعاراته الأساسية تجسدت لدى الشيخ قاسم المهزع في عدم الخروج على (الشرع) وبرفض البدع والانضواء تحت لواء (الملة) الإسلامية ، أي عدم القبول بفكرة القومية العربية وبالآراء الحديثة المختلفة ، المعبرة عن تنامي دور الطبقة الوسطى الفكري والسياسي،(14) .
ورغم السيطرة الشديدة للوعي المحافظ ، إلا أن صلات المجتمع البحريني بالدول الأكثر تطوراً في المنـــــــطقة ، والتوغل البريطاني و(بدعه) المختلفة ، كانت قد بدأت تخلخل هذا الوعي الذي رافق البحرين في القرون السابقة ، على مستوى البلدة البحرية ، وعلى مستوى القرية ، أي على مستوى النظام الاجتماعي ككل .
وفي قصيدة رثاء الشيخ عبدالوهاب الزياني لا يذكر الزائد (الأديان) ، بل يركز إلى الدعوة للعمل ، ويرى تطور الماضي مرتبطاً به ، ومن هنا يطالب بإعادة نشره ، ويدعو الشباب إلى السيطرة على الحاضر وتحويل الواقع ، من خلاله .
في هذه القصيدة يرى العالم العربي من خلال بعض المشكلات المحددة الخاصة ، فهو ينقد الأغنياء البخلاء ، وأطباء العلاج الاجتماعي المرضى ، ولا ندري من هؤلاء ، فهل هم رجال الدين ؟ إن الزائد لا يفصح عن ذلك ، ولكن سنرى إن ذلك يتضمنهم بكل تأكيد .
لقد حوّل تاريخ الماضي العربي إلى تاريخِ عزٍ وعدالة مطلقة تشعُ على العالم ، إنها النظرة التجريدية المثالية إلى الماضي ، والتي تحولهُ إلى شعارٍ مشعٍ ، وتحاول استعادته حاضراً ، دون أن تتمكن من الدخولِ إلى سيرورته العميقة والحقيقية ، مثلما هي لا تقومُ بالدخول إلى تضادات الحاضر البعيدة .
لكن هذه الدعوة التعميمية تبتعدُ ، بشكلٍ واضحٍ ، عن التفكير الديني المحافظ ، ودون أ، تعاديه أيضاً ، وهي تركزُ حول دور العلم في الماضي ، وأهمية انتشاره في الحاضر :
(يعوزُ رقينا أبناء علم ـــ إذا ما فكروا أتضح المعمى) ، (يعوزُ رقينا تعميم علم ـــ وتشييد المدارس حافلات) ، (فيا شرق انتصر بالعلم) الخ . .
هذا الإلحاح على العلم ، وربطه بالشباب ، ودعوة الشباب لامساك اللحظة الحاضرة ، تتوافق مع طبيعة الزائد الشابة عام 1922 ، المتجهة إلى تكوين غضبة مناوئة للاستعمار ، والتي كان الشيخ عبدالوهاب الزياني قائدها السياسي ، ولكن الزائد يتقدمُ على الجميع بهذه الإيديولوجية التنويرية ، وهذا التوجيه الشبابي ، الذي يعني ابعاد القوى المحافظة عن توجيه الرأي العام ، فهؤلاء المحافظون يسجنون الوعي الوطني في مسارات طائفية ، ومن هنا كان لا بد من تغيير هذه المسارات المتوازية ، في تيار وطني عريض .
فإذا أخذنا المنظومة المتناثرة من التعبيرات الزائدية المستخدمة وهي:
العلم ــ الشباب ــ العدو الأجنبي ــ الشعب . .
فسوف ندرك أن ثمة لغة إيديولوجية جديدة تنبثق من خلال وعي الزائد ، وتتحركُ في الحياة ، جامعةً الشباب في طليعة حديثة ، تتجاوزُ ثنائية المذهبين ، متجاوزةً القوى العتيقة غير القادرة على فهم الوضع وتوجيهه ، ورغم إنها لغةٌ إيديولوجية عامة ، مجردة ، ليست ذات تحليل موسع للواقع ، ماضياً وحاضراً ، وإنها لغةٌ انفعالية ، صاخبة ، ذاتية ، إلا أنها الإيديولوجية الجديدة الخطيرة وهي تنبثق من القديم ، معبرةً عن الجديد المتشكل والصاعد لتجاوز نظام التبعية .
【الزائد عند وفاة الشيخ عيسى بن علي】
كان وضع البحرين في نهاية العقد الثالث هو الاحتضار الواضح للمنظومة الاجتماعية القديمة ، وبدء تشكل البنية الجديدة ، أي بنية البحرين التابعة ، المسيطر عليها سياسياً واقتصادياً وثقافياً حتى سنة الاستقلال 1971 .
في سنوات 1925 ــ 1928 ، حاول الزائد أن يدعو للثورة دون أن تتشكل شروطها الموضعية والفكرية ، مما جعلهُ هدفاً واضحاً للسلطة البريطانية ، فحدثت له قضية مفتعلة هي قضية اللؤلؤة الزائفة ، وتم نفيه عن البحرين لمدة سنتين من 28 إلى 1932 .
كانت البلد في ذروة الأزمة: انهيار أسعار اللؤلؤ وتفجر الأزمة الاقتصادية العالمية وعدم وجود مورد اقتصادي جديد للبلد ، ولعدة سنوات تالية لم يتحسن الوضع إلا عندما بدأ استخراج وتصدير النفط .
لقد بدأ مسارٌ آخر ، لم تعد فيه قوى الغوص ــ الزراعة مؤثرة في التشكيلة الانتاجية ، وقد كانت هي الأساسُ الموضوعي لثنائية الطائفتين ، وبدأت طبقات جديدةٌ في التبلور وهي طبقات العمال والتجار المستوردين والشرائح البرجوازية الصغيرة والطلبة والموظفين الخ . .
حينئذٍ بدأت المراكزُ الدينية تــُنافسُ من قبل المؤسسات الحديثة ، وهي المدارس والأندية والجمعيات الثقافية ، التي تهيأت لها الفرص لزرع أيديولوجية عامة في الشعب لتوحيده في مواجهة الهيمنة الأجنبية .
وكان الزائد قد بدأ يلقي بذور هذه الأفكار في التربة المهيأة والمستعدة للتحول الجديد .
في سنة 1932 ، وبعد سنوات من الغربة والتشرد والترحال والاكتشاف ، فإن الزائد لم يفقد إيمانه بالتحرر والشعب وقضية التقدم . وواصل إنتاجه ونشره لتلك الإيديولوجية التنويرية التي كان الواقع في أمس الحاجة إليها .
في هذه السنة المضطربة التي حدثت فيها انتفاضة الغواصين وهدمت فيها دور الغناء البري ، توفى الشيخ عيسى بن علي ، رمز السلطة الوطنية لدى الجيل السابق ، فرثاه الزائد في بيان نظمي آخر ، لكنه أقل حدةً ومباشرةً من بيانه في رثاء الشيخ الزياني ، فقد علمته الغربةُ والتجربة . وكن إلى أي حد تطور خطابه السياسي التحويلي للحياة ؟
لم يزل الزائد في منظومته مؤيداً للحكم الوطني السابق في شخص الشيخ عيسى بن علي ، الذي أبكاه فقده ، وتخيله محاكماً للذين خذلوه وداعياً الناس للوحدة . يقول:
إن انقسام الرأي أقوى هادمٍ أبداً عدواً للشعوب لدودُ(15)
إن وحدة الناس ، في الطبقات العليا والدنيا ، صارت ضرورةً لمقاومة الاستعمار ، وهذا الوعي الذي توصل إليه الزائد ، سوف يــُرجم إلى شعار وطني أساسي ، ستنبثق عبره كافةُ الحركات الفكرية والاجتماعية الوطنية .
هنا تم تجاوز الثنائية المذهبية ، و الابتعاد عن الطرح الديني / المذهبي ، ومن خلال تشكيل إيديولوجية تنويرية ، ولم يبق إلا انتشار الدعوة وتجذرها .
إذن استطاع الزائد أ، يبلور خطاً فكرياً جديداً ، معتمداً على مقولات النهضة العربية وحركة التحرر العربية المتنامية ، وهو خطٌ فكري شامل ، لكنه يعتبر نقلة كبيرة وهامة في مسار الوعي البحريني .
لقد بدأت هذه الأفكار الوطنية تتعزز مع تطور البنية الاجتماعية الجديدة ، ذات العلاقات الرأسمالية ، والتي أوجدت طبقات وفئات تمازجت فيها الطائفتان ، وتداخلت فها المدينة والقرية ، سواء كان ذلك في الأوساق ، أم مدينة المنامة ، التي غدت عاصمة البحرين (الرأسمالية) ، خلافاً للمحرق عاصمة الغوص والبنية القديمة ، أو في الدواوين الحكومية وأمكنة الإنتاج المختلفة.(16)
إن تعزز الأفكار الوطنية غذاه التطور الموضوعي للحياة، وكذلك أنشطة النخبة المثقفة في الأندية والتي بدأت منذ العشرينيات مستوحيةً شعارات النهضة العربية: النادي الأدبي ــ النهضة ــ العروبة الخ . .
وكذلك غذاه التبادل الثقافي والشخصي مع البلدان العربية والأجنبية كالهند .
【تحول الزائد】
لكن الزائد الذي لعب دور البلورة الفكرية لخط الوحدة الوطنية والمواجهة ، هو الذي راح يتعاون مع النظام الاجتماعي في سنوات الثلاثينيات وما تلاها .
فما الذي حدث بين سنوات 1932 إلى سنة 1939 والتي افتتح فيها جريدة البحرين؟
ما الذي دعاهُ إلى هذا الانقلاب في توجهه السياسي؟
هل يعودُ ذلك إلى انهيار عمله كتاجر لؤلؤ والانهيار العام للغوص؟
هل يعودُ ذلك إلى صلاته الحميمة ببعض الشيوخ الذين هم أنفسهم راحوا يتعاونون ويساهمون في النظام الاجتماعي؟
هل يعود ذلك لتوجهه لآمال تجارية مختلفة كالاشتراك في ملكية صالة سينما البحرين ، التي كانت أول سينما وإلى بدئه التعامل التجاري مع الشركات البريطانية الأمريكية؟
إن الأمر يعودُ إلى كل ذلك ، وهناك قرار ــ على ما يبدو ــ أتخذه الزائد للتعامل بإيجابية مع النظام الاجتماعي الجديد ، والذي ترسخ ، فراح يتخذ مسلكاً سياسياً جديداً ، كان من شأنه ، تبدل حياته الشخصية الصعبة المنهكة ، واستمراره في نشر أفكاره وبطريقة مختلفة وواسعة الانتشار والتأثير بالتالي في مجرى الحياة .
إن النظام فتح أبواباً اقتصادية جديدة ، ولعب استخراج النفط وتصديره دوراً ضخماً في أبعاد شبح الأزمة الاقتصادية وتغيير حياة الناس المعيشية إلى حدٍ ما .
من هنا دخلت شعاراتُ الزائد المحرضة ضد الاستعمار ، في منطقة انعدام الوزن السياسي ، وأدت الصداقات المهمة دورها في التعجيل بهذا التحول ، خصوصاً إن أصحابها كانوا متفقين سابقاً مع الزائد في رفض التدخل الأنكليزي في الشؤون الداخلية ، والآن عادوا للتعامل مع السلطة الجديدة التي ثبتت أقدامها في الواقع والتحق الأهالي في مشروعاتها المختلفة .
لم يعد للمقاومة من قاعدةٍ ، تلك المقاومة المتجهة لتحويل النظام بالقوة .
لكن المقاومة انتقلت إلى ميادين أخرى . ميادين تثبيت المشروعات النهضوية ، خاصةً عبر المؤسسات الصناعية والاقتصادية والمدارس العامة والخاصة والمسارح والمطابع والجرائد والأندية وترقية أحوال الناس المعيشية ونشر الخدمات المختلفة .
هذه البنية الجديدة التي أندمج بها الشعب ، المتحول من طائفيتين إلى نسيج وطني واحد ، لعبت فيها (الطبقة)* الوسطى دوراً سياسياً مركزياً ، دافعةً الأمور نحو التصادم الكبير مع الاستعمار ، خاصةً في سنوات 1954 ــ 1956 .
ولكن عملية التصادم الكبيرة والشاملة احتاجت إلى عدةِ عقود لكي تبرز بتلك الصورة القوية الواسعة ، فكانت هناك عدة حلقات تطورية قادت إليها ، وحتمت الانفجار فيها .
ويأتي دور الزائد في الحلقة الأولى ، حيث راح ينشر فكرَ النهضة والإصلاح ويستقطب قوى التنوير في مشرعاته الثقافية .
https://abdullakhalifa.blogspot.com/2...
عبـــــــدالله خلــــــــيفة عرض ونقد عن أعماله
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 29, 2019 07:06 Tags: 1-عبدالله-الزائد

تنوير وتحديث نجيب محفوظ

الكاتب والروائي العربي نجيب محفوظ من رواد التنوير القلائل الذين اتخذوا شكل الرواية وسيلة للتفكير العميق في شئون الحياة الاجتماعية المصرية والعربية، وإذا كان قد بدأ في الثلاثينيات كتاباته الفلسفية فسرعان ما تركها مركزاً على العمل الإبداعي؛ بادئاً هذه الحياة بمجموعة من القصص القصيرة (همس الجنون) ثم رواياته التاريخية الثلاث: عبث الأقدار – رادوبيس – كفاح طيبة.
اتخذت الروايات الثلاث تاريخ مصر القديم الفرعوني مادة لها، وكان هذا تعييراً عن المنحى الليبرالي المتجاوز للفترة العربية الإسلامية، باعتبارها فترة التخلف حسب رؤية المنحى الليبرالي التنويري الذي شكله سلامة موسى ولويس عوض، والذي كان نجيب محفوظ قريباً من نفسه الفكري، فيلاحظ في الثلاثية، الرواية الكبرى في عمل محفوظ، تخصيصه لسلامة موسى فصلاً، وذلك حين يلتقي كمال عبدالجواد، بطل الرواية المثقف والباحث عن الحقيقة، رئيس تحرير مجلة كانت تعني إحدى المطبوعات التي أصدرها سلامة موسى.
وكان صوت التنويرية العلمانية (المتغربة) قد تردد بشكل متقطع في العديد من الشخصيات الثانوية، على سبيل المثال في (خان الخليلي) حيث المثقف الذي يردد أسماء ماركس وفرويد ودارون..
كانت هذه التنويرية الليبرالية تنمو في أعمال نجيب محفوظ بصورة دائبة، وتعبر الروايات التاريخية الثلاث سابقة الذكر، عن المنحى الوطني المصري الذي تشكل في بدء القرن، حيث مصر هي شخصية تاريخية قائمة بذاتها، وليس جزءاً من المحيط العربي، وهي تطمح عبر فئاتها الوسطى النامية إلى الالتحاق بالضفاف الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، ومغادرة عالم التخلف بتاريخها الثر، وقد ربطت الفئات الوسطى هذه العملية الانتقالية بالتحرر من الاستعمار البريطاني والسراي الملكي التركي، والعائلات التركية والشركسية الإقطاعية.
لكن القوى الإقطاعية المختلفة: السلطة البريطانية والملكية والإقطاع الديني، قاومت الفئات الوسطى الليبرالية وحزب الوفد
وتجليات الحداثة المتنوعة. وروايات نجيب محفوظ هي لوحة واسعة لهذا الصراع الذي خاضته هذه الفئات من أجل التحديث والوصول للسلطة وبرجزة المجتمع المصري التقليدي.
ولهذا نستطيع أن نقسم أدب محفوظ إلى ثلاث مراحل، المرحلة الأولى هي مرحلة الثورة والصعود، والمرحلة الثانية هي مرحلة الهزيمة والانكفاء، التي ترافقت مع مجيء ثورة 23 يوليو، والمرحلة الثالثة هي مرحلة العودة للحلم.
ومن هنا كانت الروايات التاريخية هي بداية هذا الصعود لصوت الفئات الوسطى المصرية لتشكيل عالمها، ولكن نجيب محفوظ باتخاذه مادة تاريخية من التاريخ القديم، كان يشكل تضاد؛ مع حلمه وتجسيداته، فهذا التاريخ الفرعوني يكاد يخلو من وجود فئات وسطى مستقلة عن الهيمنة الفرعونية الاستبدادية، ولهذا فإن محفوظ أضفى صفات وطنية وإنسانية على الحكام الفراعنة.
أن إضفاء نجيب محفوظ صفات الوحدة الوطنية الصلبة على جسم المجتمع المصري القديم, وجعل الحكام الفراعنة ملتحمين بالناس, وبتصويره عدم وجود تناقضات داخلية في جسم هذا المجتمع, كان يضفى طابعاً رومانسياً على التاريخ الوطنى, كصدى للعملية السياسية الجارية في وقته.
كذلك كان يقوم بعملية نقد للجسم الإقطاعى الذي تكدس فوق الجسد الوطنى المصري على مر التاريخ, سواء بتجاهله للتاريخ العربى, أم بنقده للسيطرة البريطانية التركية على مصر.
ولكن هذا النقد تم بلبس الملابس التاريخية, وهنا كانت الأدوات الفنية تنمو بالتداخل والصراع والتعاون مع الرؤية التي كانت في غبش الظهور والتشكل.
ولهذا جاءت مرحلة الرواية الاجتماعية المعاصرة، أي حين تم ترك الموضوعات التاريخية القديمة، وبدأ بتحليل المجتمع المعاصر. وهذه المرحلة هى التى استمرت طوال تاريخه الفنى إلا من عودة وامضة للتاريخ الفرعوني مرة أخرى.
وقد بدأت المرحلة الاجتماعية بشخصيات مركزية من الفئات الوسطى، وهى بؤرة الفاعلية الكفاحية لهذا المجتمع وللطبقة الوسطى التى هى في سيرورة الممكن، وليس التشكل الناجز, وإلا ما كان هذا الأدب.
ومن هنا كانت عمليات تحليل هذه الفئات ونقدها لتقوم مهمتها التاريخية في تشكيل مجتمع الحداثة, لتكون (طبقة) طليعية, فإذا تتبعنا روايات مثل: القاهرة الجديدة، وزقاق المدق، وبداية ونهاية، فسنجد عرض الشخوص السلبية والإيجابية بين هذه الفئات المضطربة في توجهاتها, التى تقع الشخصية السلبية في بؤرة العرض الفنى فيها , وهى التى يتوجه العرض لتحليلها وتبيان فشل طريقها, كما حدث لمحجوب عبدالدايم في القاهرة الجديدة الذي كان تجسيداً للانتهازية الفاقعة في بيع ذاته
للوصول إلى الثروة والمناصب, والذي أسس لنفسه مبادئ عدمية هى تعبير عن الالتحاق بالإقطاع الحاكم المخرب للذمم والنفوس, وعدم شق طريق نهضوي تترافق فيه الكرامة بالحرية والديمقراطية.
وإذ يُعطى نجيب محفوظ أطيافاً من شخصيات مرافقة للبطل المركزي, غالباً ما تعكس أطياف التيارات في الفئات الوسطى, فإنه لا يقوم بتحليلها, بل يجعلها كمرايا تبين الجوانب المضادة عند الشخصية الرئيسية.
فحميدة في زقاق المدق هي الانتهازية والذاتية المريضة التى تبيع جسمها هذه المرة للوصول إلى حياة مرفهة, حتى لو كانت بين أحضان الجنود الإنجليز وقواديهم.
لكن الطريق الكفاحى الشعبى يتجسد فى عباس الحلو, الحلاق البسيط الذي يريد ان يتزوج حميدة, ورغم سطحية الترميز هنا بين حميدة ومصر, وعباس والمستقبل, فإن محفوظا لا يقوم بالتحليلات المعمقة في الصراع الاجتماعى, أي لا يرينا كيف يمكن أن يتطور عباس هذه الشخصية الشعبية ليصبح رمزاً نضالياً, فيعتمد هنا على الخطوط الاجتماعية العامة المنمطة والشخوص.
وهذه العملية تعبر عن نظرة محفوظ المنبثقة من الفئات الوسطى التى ترى ذاتها مركز الفعل, في حين أن الشعب والقوى الفقيرة تظل مادة للفعل القادم من الخارج.
وهذا ما نراه أيضاً في (بداية ونهاية) حيث العائلة التى مثل الفئات الوسطى, واتجاهاتها الاجتماعية المحدودة هذه المرة, ولكن الفئات الوسطى هنا تدخل طور أزمة شديدة, حيث موت الأب يعنى شبه انهيار للعائلة, التي تجد نفسها أمام سبل الخيارات الاجتماعية, بين موقف انتهازي تسلقى يمثله الأخ الأصغر الذي يصبح ضابطا, وبين موقف الأخ الأوسط الذي يواصل سيرة عباس الحلو وسيرة الكدح الصابر المتواضع النبيل.
لكن اتجاه الانتهازية والرخص والغرور المتمثل في الأخ الضابط وأخته نفيسة التى تبيع جسمها, يقوم بتدمير العائلة مجدداً.
أن هذه الروايات المتعددة التى استغرق نجيب محفوظ في كتابتها عشرين سنة تبين عملية التفكير الفنى المتواصل في مادة الحياة, الذي بدأ بنسج العلاقة بين فكر التنوير والناس, حيث لا يصبح الشعب مادة مجردة بل شخصيات حية, وصراعات اجتماعية, فكيف يحدث التقدم وكيف تنتصر إرادة التغيير لديه؟
يُلاحظ في هذه المادة الروائية الاجتماعية التصاقها بمادة ملموسة وبحيثيات حياتية اجتماعية, أكثر منها مادةً سياسية وفكرية, فالاتجاهات السياسية والفكرية لا تظهر, إلا كأصداء بعيدة خافتة.
لكنننا نستطيع أن نرى مادة الوعى المتنور في تصوير العلاقات المتضادة بين الشخوص, و في الانهيارات المستمرة في الوعى الانتهازي, وفي تصعيد نماذج الإنسان البسيط من هذه الفئات الوسطى كنموذج للعمل والتضحية والصمود.
أن محفوظا لا يحشر الأسئلة الكبرى الفكرية والفلسفية في هذه النماذج, ولكن هذه الأسئلة غائرة في عملها وموقفها المجسد, كذلك فإن التيارات تحصل على رموزها من الشخوص العرضية غالباً, فالرمزان الدينى والتقدمى باطيافهما, هما منتشران دون أن يكون لهما حضور حقيقى. فقط النموذج المركزي القادم من الفئات الوسطى وهو أمل تكون الحداثة, هو الذي يحاور الشعب سلباً أم إيجاباً, ويحاوره عبر الأمثولة التي يقدمها وليس بالعلاقة النضالية معه.
عبرت ثلاثية نجيب محفوظ وهي (بين القصرين؛ وقصر الشوق، والسكرية)، عن التطبيق الملحمي الواسع للعناصر الفنية والفكرية السابقة الذكر.
فمحفوظ يعرض الفئات الوسطى، بل يختار عائلة كاملة هي عائلة تاجر متوسط، ليعرض نماذجها وعلاقاتها الاجتماعية والسياسية والفكرية. وهناك التمثل الرمزي الذي غالباً ما يشكله الكاتب بين مادته الفنية، والتطورين الاجتماعي والسياسي، فهذه العائلة تعبر عن حالة البلد في خلال نصف قرن من التطور، وكما تتعرض السلطة الدكتاتورية للاهتزاز والضعف الشديد، كذلك فإن سلطة احمد عبدالجواد الأب في هذه العائلة، تتعرض هي الأخرى للضعف وبداية الهزيمة.
إن محفوظ هنا استطاع أن يجسد النظام الإقطاعي بمستوياته المتعددة، السياسية في النظام الملكي وفي الأرستقراطية، وفي الهيمنة الذكورية الاستبدادية المتجسدة في تسلط الأب، وتدهور أوضاع المرأة، وهيمنة المفاهيم الفكرية المتخلفة.
إذن فإن الإقطاع بمستوييه السياسي والاجتماعي في طريق الأفول.
يقيّم محفوظ الشخصيات والأحداث التاريخية ليس من خلال عرضها والدخول فيها، بل من خلال انعكاساتها على العائلة المحورية، فهكذا يظهر التاريخ دائماً خارج العائلة، لكنها تتأثر بأحداثه، وإذا كان فهمي الابن المسيس للأب، يغدو شهيداً
ورمزاً للكفاح الوطني، فإن العائلة لا تشارك في صنع التاريخ، وهنا فنحن أمام عائلة من الفئات الوسطى، يغمرها التاريخ شيئاً فشيئاً، حيث تتفكك علاقاتها الإقطاعية وتتسرب إليها المفاهيم والعلاقات الحديثة. لكن العلاقات القديمة لا تزول، والعلاقات الحديثة لا تنتصر كلياً. فالمسألة ماخوذة على أساس النضال الوطني الديمقراطي العام الذي نسمع به أو نراه أحياناً، ولكنه ليس سوى أحد روافد الرواية.
ومحفوظ في هذه الرواية متفائل بفاعلية العلاقات الحديثة المتوغلة بقوة في البناء الاجتماعي، ويتضح هذا من تغير ظروف المرأة ومواقفها، وبروز نموذج. تقدمي فيها، لكنه أيضاً لا يغفل صعود التيارات الدينية كذلك.
أما ما يمثل بؤرة الرواية فهو الشخصية المثقفة المتنورة المحورية: كمال عبدالجواد، هذه الشخصية التي هي ابن الدكتاتور العائلي، أحمد عبدالجواد، ولكنها هي النقيض الذي ينمو، وهي رمز الفئات الوسطى الحائرة المتذبذبة في تشكيل مجتمع الحداثة.
إننا نشهد في الرواية تتبع طفولة هذه الشخصية، وشبابها وبدء كهولتها، وكيف تتزعزع عملية اعتقادها بالأطر الدينية التقليدية، مشرئبة إلى الأفكار والنظريات الحديثة، ودون معالجة نقدية وجدلية بالإرث الإسلامي المسيحي، بل عبر الانقطاع عنهما، ولكن عبر حيرة طويلة.
ويتوجه كمال عبدالجواد لحب عايدة، النموذج الأرستقراطي، وهي العلاقة الرمزية المباشرة، للعلاقة بين الفئات الوسطى والأرستقراطية، والتطلع إلى الذوبان فيها، واعتبارها هي الحل بديلاً عن تكوين الفئات الوسطى شخصيتها المستقلة وتحولها إلى قوة اجتماعية مهيمنة، ولكن هذا التطلع يفشل لأن عايدة تتوجه لابن طبقتها.
وبعد سنوات يشارك كمال في جنازة دون أن يعرف الميت، فيتضح أن الميت هو عايدة نفسها. لقد ماتت الأرستقراطية كأفق
شخصي لكمال وللفئات الوسطى. وهي نبوءة متسرعة من نجيب محفوظ .
وتتحول أخت عايدة الصغيرة بعد أن تهاوت مكانة أسرة عايدة الاجتماعية، وصارت جزءاً من الفئات الوسطى، إلى مهوى جديد لعاطفة كمال ولكن فرق السن يحول دون ذلك.
ويتضح في كمال الجانب الفكري والرمزي لمخاض الطبقة الوسطى كحاملة للنظام الجديد، ولكن هذا المخاض لا يبدو داخلياً إلا على شكل فكري بعيد الصلة عن تحليل الواقع والإرث الفكري والاجتماعي الديني، حيث إن الكاتب نفسه لا تتمثل لديه الحداثة إلا عبر (التغرب) أي باستيراد الموديل الغربي الجاهز، وليس من خلال إنتاج الحداثة بالصراع في بنية اجتماعية مصرية، لها مستوياتها الاقتصادية والاجتماعية والإيديولوجية.
كذلك يغدو مخاض كمال التأملي والنخبوي، وهو منهج نجيب محفوظ نفسه، نائياً عن تحليل الصراعات الاجتماعية والمشاركة بها، مما يقود على مستوى مصائر البنية الاجتماعية إلى التفاؤل بالتقدم الحثيث للفئات الوسطى لاستلام زمام
التاريخ المصري.
إن أسرة أحمد عبدالجواد التي تتسع بالمصاهرة تنتج شخصيات تنتمي إلى تيارات دينية (الإخوان) وتيارات تقدمية (الماركسيون)، ومن الملاحظ ان محفوظ يجعل هذين التيارين ينبثقان من العائلة، التي تشير رمزياً للمجتمع والناس
عموماً، ولكنها تشير كذلك إلى الطبقة الوسطى. والرؤية المحفوظية تطابق بينهما.
وقيام عائلة أحمد عبدالجواد بإفراز هذين التيارين الشموليين من داخلها الواعد بالديمقراطية والحداثة، بدلاً من أن يصبح كمال عبدالجواد هو النموذج، مما يعبر عن الأزمة الاجتماعية المتصاعدة، وعدم قدرة تيار الفئات الوسطى الليبرالى على تقديم المظلة الفكرية التي تستظل التيارات الأخرى تحتها، فلا يملك تصوراً ديمقراطياً عن الإسلام يسحب البساط من تحت أقدام التيار الديني الشمولي، ولا يستطيع تقديم الإصلاحات الواسعة لجذب الفلاحين والعمال إلى صفوفه.
وهذا يتبلور في نهج حزب الوفد وتأملية كمال عبدالجواد سواء بسواء.
تنويرية نجيب محفوظ الديمقراطية الحداثية تتحول على مستوى الفن إلى ترميز فكري – اجتماعي، وهذا الترميز يتحول في نهاية المرحلة إلى قالب. وبين حيوية الترميز وامتلائه بالمادة الحياتية، وبين تيبسه وتحوله إلى هيكل عظمي، يقع مشوار محفوظ الأكثر خصوبة .
ونحن إن نركز هنا على التنوير وجذوره ودلالاته السياسية، لا بد لنا من رؤية الترميز وخطوطه العريضة. فكما رأينا صاغ محفوظ بنيته الفنية على أساس تطوير فاعلية الفئات الوسطى للتحول إلى قوة تغيير للمجتمع التقليدي، وعبر شخوص تصارع قيماً متضادة، فهناك الوطن أوالاحتلال، الحداثة أو التخلف، العلم أو الدين، الحرية أو الاستبداد.. الخ.
وقد شكل الوعي العربي التحديثي بناءه على شكل متضادات شبه مطلقة كالسابقة، أي عدم قدرته على التضفير العميق بينها، وهذا الوعي الذي استظلت به بنية محفوظ الفنية، ولكن هذه الرموز لم تنفصل عن البناء الاجتماعي، فكمال الذي يرمز للوطن الحديث المتشكل تقابله عايدة التي ترمز للأرستقراطية الآفلة، ولكن الترميز لا يخلو هنا من شحنات شخصية واجتماعية ملموسة تكاد تغيب الرمز.
وهكذا يؤسس محفوظ رؤيته للتيارات ونموها وصراعها على شكل شخوص متضادة، وكانت لديه مشروعات روائية قبل ثورة 23 يوليو 41952 لكنه توقف عنها وبدأ مسيرة فنية مختلفة.
إن انتكاسة مشروع محفوظ هنا يعود لأن التحليل الذي اعتمد عليه في رؤية تطور المجتمع المصري من خلال الثلاثية، والتي كانت آخر عمل في السلسلة السابقة، ثبت خطأه، وأن انتصار الطريق الليبرالي الديمقراطي، وصعود البرجوازية كطبقة تعيد تشكيل النظام التقليدي، لم يتحقق بل لقد وثبت التيارات الشمولية من الفئات الوسطى نفسها الى السلطة وشكلت مساراً شمولياً ووطنياً وأطاحت بالتراكم الليبرالي والديمقراطي السابق.
هذا ما يمكن أن يبعث على الحيرة و الاضطراب الفكري والفني عبر المسار التفاؤلى المحفوظي السابق ذكره. إن تناقضات الفئات الوسطى برزت على السطح التاريخي، وانفجرت التناقضات الداخلية في عائلة السيد أحمد عبدالجواد. وكانت أزمة مارس 1954 هي ذروة الصراع, وحسم فريق العسكر الوطني الشمولي المعركة لصالحه.
فماذا يفعل الروائى الليبرالى النهضوي من الرعيل الأول، هل يتخلى عن مساره وينضم للطبالين الكثيرين أم يواصل الحفر لرؤيته بأدوات تعبيرية مختلفة؟
إن تطابق سنوات أزمة الخيار السياسي لمصر وتوقف محفوظ عن الكتابة يشير إلى البحث عن اًسلوب جديد لتجسيد المعاني القديمة، ولهذا فإن الأسلوب الملحمي النقدي الواسع للثلاثية، الذي يظفر بين التشخيص الكبير والترميز، والذي يحوي صراع الطبقات بشكل مكشوف، هذا الأسلوب لا بد أن يتبدل علي ضوء المرحلة العسكرية التي لم تكتف ببوليسها الواسع ورقابتها بل بجمهورها العاطفي الهائج.
فإذن كان الاختمار المحفوظي من أجل إذكاء الأدوات التعبيرية الديمقراطية في زمن دكتاتوري، ولهذا تبدل التحليل الواسع والنفس الملحمي، نحو ضمور الروح الملحمية والتحليلية الواسعة، إلي الكثافة التعبيرية واتساع الرمز، ومع تبدل الموضوعات وبقاء البنية الترمزية الاجتماعية السابقة، بنية التحديث والديمقراطية.
يواصل نجيب محفوظ نقد النظام الوطني الاستبدادي عبر طرق فنية طورت أسلوبه التعبيري.
في روايات مثل (اللص والكلاب) و(السمان والخريف) و(الطريق).. الخ. نجد هذه الكثافة والرموز المتغلغلة في بنية الحدث وفي الشخوص. ففي اللص والكلاب, نرى سعيد مهران اللص يهاجم معلمه المثقف السابق رؤوف علوان الذي صار قطباً في القوى الصاعدة, وكما رأينا فالبنية الرمزية الاجتماعية هنا تشير إلى كون الطبقات الفقيرة التي زعم رؤوف علوان النضال من أجلها, لا تزال مضطهدة ومسروقة, ولكنها الآن تُسرق من قبل رؤوف علوان, وبقية (الكلاب).
وكل الرواية الخادعة للبوليس الشمولي تتركز في الصراع بين سعيد مهران ورؤوف علوان في الحقيقة, والذي موهه محفوظ بأشكال عدة من الكلاب, ولكن الصراع بين اللص الشريف والحرامية الجدد غير الشرفاء هو لب الرواية.
ففي الوقت الذي تحاول الطبقات الفقيرة فيه الحصول على الثروة بنفس الأسلوب الذي اتبعته تلك القوى التي وثبت إلى السلطة, فإنها تُسجن وتقتل.
ولهذا فإن الذين وثبوا للسلطة بأساليب العنف والتضليل الإعلامي يقاومون سعيد مهران الذي يلجأ إلى أساليب العنف أيضاً ولكن من أجل الحق.
أن محفوط هنا في سبيل انتقاد السلطة الشمولية يلجأ إلى حيثية حقيقية متمثلة في قصة السفاح الشهيرة, ويقود منولوج البطل سعيد مهران في كشف تختلف أنواع الكلاب, الذين خانوا صيغة التعايش الزوجية السابقة, ( عليش ونبوية), والجدد.
وتعبر رواية (السمان والخريف) عن هذه الثيمة الرمزية بشكل أوضح وأكثر اتساقاً, فبطل الرواية تحيله حكومة الثورة العسكرية إلى التقاعد السياسي, مثلما تحل حزبه الوفد.
وتكشف فصول الرواية كيف ان الفئات الوسطى تتصارع على السلطة بشكل محموم, والتي يعبر عنها محفوظ عادة بالترميز فخطيبة عيسى البطل الوفدي, تتخلى عنه وترتبط بنافسه العائلي الذي يصعد في السلطة الجديدة.
ويتشرد عيسى ويحل زمن الخريف عليه ويذهب إلى الاسكندرية حيث يلتقي امرأة بسيطة ويعاشرها وحين تحمل منه يطردها. وفيما بعد يكتشف ان طفلتها تحمل ملامحه الجسدية بشكل مدهش.
وقـد عبر ت هـذه العلاقة عن العلاقة الترميزية بين قوى الليبرالية الديمقراطية والناس, حيث التخاطب غير قانوني والثمرة محرمة, والرمز الطليعى يعيش زمن الخريف بين التحلل والنضال.
تكشف هذه الرواية استمرار البنية الرمزية الاجتماعية وقد ضمر جانبها التحليلي الاجتماعي, وتمركُز الطليعية في نموذج وحيد مفصول عن الجماهير, ومتقوقع في ذاته, مما يؤثر في بنية السرد والشخوص, فتلجأ إلى الشعرية اللغوية والتأملات الداخلية المفصولة عن وهج الصراع الاجتماعي.
وهذا ما يمكن متابعته في (الشحاذ) ايضاً, حيث عمر الحمزاوي يكتشف أن استمراره في وظيفة المحاماة الناجحة التي أغنته مالياً, قد أفقرته روحياً, لغياب أي قضية عنده, ولا يوضح محفوظ الأسباب المباشرة لغياب الانتماء والخصوبة الداخلية, بل يدع بطله يهجر هذه الحياة البرجوازية غير المشكّلة للطبقة الطليعية لمجتمع الحداثة, و في غيابات وهجرات معاكسة لما ينبغي أن يكون, كالاتجاه نحو اللذائذ الجنسية المتنوعة والواسعة, والتي تتكشف عن خواء, وكذلك الاتجاه المعاكس أي الاتجاه نحو التصوف وترك اللذة والحس كلياً, مما يقوده إلى الغيبوبة والهذيان وشبه الجنون.
في حين ان زميله النضالي الذي خرج من سجن النظام العسكري يواصل الكفاح ويتزوج ابنة عمر, في تعبير تزاوجي آخر عن الخصوبة السياسية والفكرية, ولكن في النهاية يتم مهاجمة هذا المناضل الذي لجأ إلى قريبه عمر في عزلته, تعبيراً عن كون النظام الشمولي تتوحد مصائر الهاربين والمنتمين في قبضته.
في رواية (الطريق) يواصل نفس الرؤية بثيمات أخرى, ولكنه في رواية (ميرامار) التي تدور في بنسيون صغير, يواجه مباشرة النظام عبر تناقضات اجتماعية صارخة من شخوص تمثل عمليات التفسخ التي تنتهي إلى الجريمة.
ويُلاحظ أن محفوظ لم يصور النظام الوطني بأي إيجابية لافتة, فلم تعبر ريشته عمليات البناء الضخمة الجارية, مركزاً على غياب الحرية السياسية, وهذا يعود لمنهجه الفني الفكري ذي التضادات المطلقة والذي لا يظفر بينها بتكوين اجتماعي حقيقي.
تحتاج هذه الحلقات التي تدخل ربما في لب عمل نجيب محفوظ المتواري كثيراً عن النقاد الذين يسحبونه نحو ايديولوجياتهم أكثر مما يفسرون نصوصه, إلى وقفة أخرى.

تحديث نجيب محفوظ
يرى نجيب محفوظ التيارات الفكرية وتاريخ المنطقة الديني من خلال الحارة المصرية، فهي المستودع الذي تعيش فيه تمثلات الفلسفة العالمية وانعكاساتها وحكايات الأنبياء وأصداء صراعات العالم.
ولهذا فتاريخ العرب وحضارتهم لا تتشكل عبر أعمال خاصة، بل هى موجودة كأصداء فى شخوص الحارة حين تظهر نماذج الدينيين. وقد سبق لمحفوظ أن ساير السينما المصرية في تصور العرب باعتبارهم البدو الذين يعيشون في صحراء سيناء، كما فعل في الفيلم الشهير الذي أعده كسيناريو للسينما باسم (عنترة وعبلة) في أواخر الأربعينيات، وهكذا كانت قبائل الجاهلية تتكلم باللهجة البدوية لعرب سيناء!
ومن هنا كانت رموز التراث التي تظهر لأبطال الحارة أثناء صراعاتهم الداخلية والعامة كما جرى الأمر في رواية (ثرثرة فوق النيل)، فهي رموز من التراث الفرعوني، الذي هو باعث للهمة وللنهوض (القومي). وفي الوعي المصري الليبرالي كان التفريق بين الوطني والقومي غير واضح.
إن رواية (ثرثرة..) تواصل خط الرواية الفلسفية الذي اتبعه محفوظ، وبطلها الرئيسي هو إنسان مسطول (أنيس زكي)، ويعيش مع شلته فوق ظهر عوامة على النيل، وهي رموز واضحة لمصر أو للقاهرة على وجه الخصوص، ولكن اختيار بطل مسطول ولديه ماض وطني مقموع أو مغيب، هو شكل التجلي للرؤية الليبرالية المقموعة في العهد الناصري، والتي تبحث عن انثيالاتها وتداعياتها من خلال مونولوج البطل المسطول وجماعته من المدمنين السكارى
الغارقين في المتع والنشوات و(الأنس).
وفى حين كان الخارج يتحدث عن معارك ( الاشتراكية) والتأميم، وإزالة الطبقات وضرورة تطوير الوعي، كان الأمر في العوامة يجري على نقيض ذلك، حيث كان تغييب الوعي وسحقه، والانقطاع عن معارك الخارج كليةً.
بل إن الخارج نفسه كان متناقضاً ففي حين يتم الحديث عن فوارق الطبقات كانت الطرقات تكتظ بالسيارات الخاصة، ص72.
فلماذا كان هذا التباين الشديد بين الخارج والداخل، بين ما يجري في الدولة وما يجري في العوامة (مصر) ؟ ما الذي يوحد (الاشتراكية) بالحشيش ؟!
ان البطل المركزي الذي تجري الرواية حول تداعياته هو موظف عتيق، يشبه فى عمره ووظيفته الكاتب محفوظ نفسه، ولكنه لا يكاد يفيق من إدمانة سواء في العوامة أم خارجها، وتجري الانثيالات في أحيان عديدة حول الماضي وأمجاده، في حين ان الحاضر هو كابوس!
كابوسية الحاضر تتجلى في الشخوص التي تحضر العوامة وتمارس طقوس الغياب والفرح الفارغ، وهي شخصيات طفح بها واقع العوامة المصرية في ظل الدكتاتورية الوطنية العسكرية، فهي نماذج من الكتاب والصحفيين والفنانين والفنانات المتسلقين والانتهازيين، الذين خلوا من أي فكر أو فن عميق، حيث يمارسون ترديد الشعارات عن الاشتراكية والتقدم في الخارج، ويمارسون تذويب ما بقي من شخصياتهم في دخان الحشيش، وقد غدت العوامة غرزة من الغرز؛ وكأن مصر قد منع فيها التفكير وانطفأت جذوة الوعي والحوار.
إن النقد العميق للشمولية، والذي يجري من جهة السلب فقط؛ والذي يقارن بعهد الحريات الفكرية السابق الغائب في ومضات لا تكاد تُسمع في هذيان البطل، أو بعهد النهضة الفرعونية، ان هذا التقد يتخفى ويتوارى كثيراً، فهو الصوت الديمقراطي الروائي شبه الوحيد في علم الصحافة الرسمية الجماهيرية (حيث تُنشر الرواية على حلقات في جريدة الأهرام: المتحدث الرسمي بلسان الانقلابيين العسكريين).
إن عدم رؤية نجيب محفوظ أي جانب إيجابي في ثورة يوليو52؛ هو بطبيعة الحال عملية ناتجة من المنهج الفني التجريدي العام، الذي يقولب التجربة الإنسانية في قوالب رمزية متضادة، أي ليس هو منهج تحليلي فني يغوص في تضادات التجربة الملموسة، بل هو يسقط عليها آليات وعيه الليبرالية في تضاداتها المطلقة فهناك: اما حرية وإما استبداد، اما ديمقراطية وإما دكتاتورية، اما تقدم وإما تخلف الخ، أي لا يرى ان هذه التضادات ليست مطلقة، بل متداخلة، وان الإيجابي والسلبي في كيان واحد متصارع، وان مصر ليست عوامة فقط بل مصنع وسد ومعارك، تقدم وفساد... الخ.
ولهذا نرى البطل المحوري ذا الماضي الوطني، وهو صدى سوف يتكرر بشكل عام، ينسحب كلية من الصراع، ويتلاشى وعيه في سحابة كثيفة من المخدر.
لكن ليس هذا التصوير السلبي مطلقاً، فشخصية صحفية شابة ناقدة وواعية ( سمارة بهجت )، تتغلغل في هذه العوامة وتفضح رموزها، ولكن الفضح يتجه لكي يستعيدوا وعيهم ويناضلوا، ولكن بأي اتجاه؟
بالضد من هذه الشخصيات السلبية والفاقدة للوعي، هناك حارس العوامة (عم عبدة)، تلك الشخصية الشعبية المتوارية واللغز، التي تمسك بيديها حبال هذه العوامة وتستطيع أن تدعها تغرق في النيل، وهى رمز لشخصية الشعب، وجذوره المصرية القديمة، ولتنوع هذا الشعب وعمره المديد وتضاداته الأخلاقية وصبره ونضاله اليومي الصبور الدؤوب، بعكس فئات وسطى عديدة ثقافية غارقة في التفاهة.
وفي هذه الرواية الساخرة الناقدة هناك عشرات من الموتيفات التي ترجع لتاريخ مصر القديمة، وكلها تنثال من خلال لا وعي الحشاش الأكبر أنيس زكي، فيجمع محفوظ النقد المرير بالضحك
والفرجة، وهي تقنية شديدة المكر.
لهذا فإن شخصية الدكتاتور هي الحاضرة كثيراً في تداعيات أنيس زكي، وهو شخصية مثقفة مولعة بالتاريخ، ولهذا فلا تناقض بين عمليات استرجاعها لشخصيات وكلمات مثل نيرون والفاشية والفرعون الطاغية.
يقول فى أحد السطور: إنه لم يكن عجيباً أن يعبد المصريون فرعون ولكن العجيب أن فرعون آمن بأنه اله، ص23 .
ويواصل نقد التجربة:
(كل قلم يكتب عن الاشتراكية على حين تحلم أكثرية الكاتبين بالاقتناء والإثراء وليالي الأنس في المعمورة. .)،56.
ويبكي فرعون وهو في أسر قمبيز الفارسي الغازي قائلاً عن أحد جنوده: هذا الرجل! طالما شهدته وهو في أوج أبهته فعز عليّ أن أراه وهو يرسف في الأغلال!
وياتى البديل على شكل ساخر بأن يقوم هؤلاء الحشاشون بتنظيم أنفسهم وكيف يحققون الاشتراكية على أسس شعبية ديمقراطية لا زيف فيها ولا قهر..، ص 100.
ويوجه محفوظ خطاباً غير مباشر في الرواية إلى جمال عبدالناصر حيث يقول على لسان حكيم مصري قديم:
(ما هذا الذي حدث في مصر/ إن النيل لا يزال يأتي بفيضانه / إن من كان يملك أضحى الآن من الأثرياء) ثم تأتي الرسالة:
(لديك الحكمة والبصيرة والعدالة/ ولكنك تترك الفساد ينهش البلاد/ انظر كيف تمتهن أوامرك / وهل لك أن تأمر حتى يأتيك من يحدثك بالحقيقة ؟) ص 126.
ويتضح المنهج الترميزي التجريدي في تصويره للشعب من خلال نموذج بواب العوامة، فوضع الشعب داخل قالب شخصية متفردة، مهما كانت عملقتها، لا يستطيع أن يكشف دورها الحقيقي وتناقضاتها وتراكم الوعي والمواقف فيها.
ولكن هكذا كان الشعب لدى محفوظ خلفية لمواقف الفئات الوسطى، حيث تكمن القيادة لديها.
إن الرواية التي انعكس فيها تاريخ المنطقة الديني هي رواية (أولاد حارتنا)، وهي الرواية التي أثارت الضجة، وكما نرى فإن وجود كلمة حارتنا، يشير إلى أن هذا التمثُل المستمر للواقع أو للتاريخ الديني والفكري، عبر الحارة وموتيفاتها وأجوائها. وهو أمر سيكرره محفوظ أيضاً في روايته (الحرافيش).
وموتيفات الحارة الشعبية كمهنها وأوقافها ومقابرها... الخ، هي عملية تحليل طبقية أخذ محفوظ يشكلها بدءاً من رواية (زقاق المدق)، ونظراً لتركيزه على الفئات الوسطى، التي لها دور محوري قيادي يعكس الرؤية الليبرالية التى يؤمن بها، فقد جعل هذه الفئات فى مقدمة المشهد الروائي، وتمثل خياراتها الأخلاقية والفكرية جوهر الصراع الروائي.
لكن العملية الروائية بتوسعها المستمر لتحليل أزمة هذه الفئات الوسطى، وعجزها عن إعادة تشكيل المجتمع المتخلف باتجاه الحداثة والتقدم، كان لا بد للكاتب من البحث عن سر فشلها، وهنا لا بد من بحث علاقاتها مع الشعب العامل، مادة هذه الفئات الوسطى البشرية، في إعادة تشكيل الحارة المتخلفة، أو عوامة الغياب.
لكن محفوظ نفسه لا يمتلك تجربة في التعامل مع العمال والفلاحين، فى مصانعهم وحقولهم، ولهذا فقد راح يحللهم من خلال شخوصهم التي دخلت الحارة. ولهذا فإن المادة البشرية المتنامية عنهم تأخذ في التوسع والتبدل، لكنهم يظلون كجمهور خلفي، أو كرمز للشعب أو التاريخ القديم، فلا يتدخلون كقوة اجتماعية فاعلة مغيرة لنماذج الفئات الوسطى الحائرة والمتصارعة.
إن اتساع وجودهم نلحظه في الثلاثية بدلاً من الروايات التاريخية التي كان فيها الشعب أشبه بالعدم، ثم يتنامى هذا الحضور في الروايات الكبيرة (الملحمية): أولاد حارتنا، والحرافيش.
ولكن تظهر موتيفات الحارة هنا لكى تعوض غياب التحليل الاجتماعي والاقتصادي في الأعمال السابقة، فتركيز محفوظ على مسألة (الوقف) فى هاتين الروايتين الملحميتين، لا يشير فقط إلى الجذور الاقتصادية للصراع الطبقي، بل أيضاً إلى عملية التضفير بين نضال الفئات الوسطى والجمهور الشعبى، الذي سرقت منه هذه الأوقاف ووضعت في خدمة الأقليات المستمرة في إنتاج وجودها عبر التاريخ.
وتطرح هذه الرواية معضلات التطور في المنطقة بشكل رمزي، وهنا نرى خروج محفوظ من المادة المصرية المحضة، ولكنه جعل تطور الوعي الدينى يمر من خلال عدسة هذه الحارة المصرية، وهكذا فإن المثقفين الذين يظهرون تباعاً: أدهم، وجبل، ورفاعة، وقاسم، وعرفه، يشكلون علاقة نضالية مع سكان الحارة الفقراء، ويقيمون تصحيحاً لوضع (الوقف) الذي احتكرته القلة الظالمة.
ولكن العلاقة التي يقيمونها مع الجمهور هي التي تتيح لبعضهم أن ينتصر، ويسحق (الفتوات)، ولا نعرف أسباب هذه التكرارية في البعث، أي في تكرار ظهور الشخصيات الفاعلة، وفي غياب الإرادة والفعل لدى الجمهور الذي يظل مادةً للفعل التاريخي لشخصيات الفئات الوسطى.
نقول الفئات الوسطى، على الرغم من كون الرواية تقوم بإعادة إنتاج للتاريخ الديني من خلال التمثل المجازي، والقناعي، والرمزي، فهي لا تناقشن فقط التاريخ الديني، بل أيضاً وجود الأديان في الحارة المصرية كذلك.
إن وجود الشخصيات المثقفة الفاعلة يجري في مشهدية الحارة، وبالتالي من أجل تغيير السلطة والإنتاج، الذي يأخذ سمة مجردة هي (الوقف).
والوقف والأحباس هي الأملاك التي تُوضع من قبل السابقين للصرف على الفقراء والمحتاجين، وهي بالتالي لا ترقى كرمز إلى مسألة قوى الأنتاج، بل هي ذاتها ملكيات تشير إلى عالم الملكية الإقطاعية الدينية، الذي هو عقبة أمام تطور العلاقات الاقتصادية الحديثة.
ولكن الرمز هنا يشير إلى الملكية العامة، بشكل مجرد، أي بشكل مُنتزع منه الجذور التاريخية، ليوضع في دورات تاريخية مجردة هي الأخرى، وإن أُلصق بها بعض السمات التاريخية الملموسة، لتعطي الشخصية الفنية مماثلةً خارجية ترميزية للشخصية الحقيقية التاريخية.
وهذه المماثلة الخارجية الترميزية أفقرت الشخصية الفنية، كما قامت بتكرارها، عبر تكرار أنماطها ومعاركها من أجل الوقف نفسه.
إن الوسط وهو الحارة لا يتغير، كما أن أهل الحارة، أي الشعب الذي كان يُفترض فيه تراكم هذه التجربة التاريخية الثرة، لا يتغير ويظل في موقعه التحتي، كمادة طينية تنتظر المثقف الفاعل.
وهكذا فإن هذه الرواية القائمة على التخطيطات الترميزية فقدت المادة الحية، ولعلها أظهرت إشكالية المنهج الفني القائم على التجريدات المطلقة الُمعممّة.
لدينا مجموعة مركبة من الملاحظات حول رواية «أولاد حارتنا»، فهنا لأول مرة في سياق الوعي الليبرالي المصري، المتحدر من سلامة موسى ولويس عوض، نجد عمليات التحليل للتاريخ الديني في المنطقة؛ وتاريخ الإسلام بصفة خاصة، ولأول مرة يجري اعتبار الإسلام ثورة تمثل استمرارية للنضال الثوري الذي قام به الأنبياء، وبالتالي حدثت انعطافة عن التفكير الليبرالي السابق، الذي وضع الميراث النضالي الديني في سلة التخلف.
لا شك أن هذه الانعطافة المحفوظية تشير إلى الريادة والطليعية اللتين قامت بهما الرواية الواقعية عند محفوظ في الحفر تحت أساسيات الحارة المصرية، ورؤية أنها جزء من تاريخ المنطقة.
كذلك فإن هذه الرؤية استطاعت النفاذ إلى عملية الصراع الاجتماعي الذي خاضته الأديان في بواكيرها ضد الاستغلال، ثم تمكن القوى المستغلة من إعادة الأمور إلى سابق عهدها .
لكن الرواية تعجز عن الإجابة عن أسئلة جوهرية في رؤية مسار هذه الأديان، وتلاوينها وتياراتها وتعبيرها عن مناطق وقوى معقدة، فتقوم بنسخها في «موتيفات» عامة، تجعلها هياكل شاحبة أمام الأصل الحي والغني بالألوان.
وهنا تكشفت طريقة محفوظ الروائية الترميزية التي تضع الأفكار فوق هياكل عظمية من الشخوص، حيث يقوم وعي |لقارىء بالمقارنة المستمرة بين الأصل والنسخة المحفوظية لتاريخ الأديان.
من جهة أخرى، تبين هذه الرواية دور المرجعية الغربية التحديثية ودورها المركزي في وعي نجيب محفوظ، فسلسلة الأديان تنتهي بـ«عرفة» الذي يرمز لدور العلم وتغلبه على دور الأديان، واعتباره البديل الحديث عنها، ولكنه لا يقوم بتغيير الحارة عبر الكفاح السلمي بل عبر العنف والديناميت، وهو ما يشير كذلك إلى ارتباط عرفة بالماركسية، وقيامها بالتغيير عبر الصراع المسلح ضد الأنظمة القديمة، لكن عرفة يخلي السبيل إلى رمز علمي وثوري آخر يعقد التصالح مع الميراث الديني ويقوم بالنضال السلمي؛ وهو ما يشير إلى نزعة الديمقراطية الاشتراكية التي انتهى إليها نجيب محفوظ وتياره الفكري التنويري في مصر، أي تيار سلامة موسى ولويس عوض. وهو تيار بقي ثقافياً نادراً في وسط تيارات الشمولية الاستبدادية العنيفة المنتشرة.
ولكن محفوظا تجاوز التيار «الفرعوني» العازل لتاريخ مصر عن المنطقة، رابطاً الأخيرة بتطور الفكر في العالم، مما يشير إلى تجاوز الرواية الواقعية المحفوظية الدوائر المغلقة الوطنية والإقليمية الضيقة، وإذا كان ذلك قد جرى بتخطيطية روائية ترميزية، إلا أن أسلوب الرواية النوعي، القائم على العرض المشوق، ولغة البساطة، قد جعل من التجاوز المحفوظي الفكري حدثاً واسع النطاق، مما فتح للوعي التنويري والنهضوي إمكانيات تجاوز التناقضات الفكرية المطلقة القائمة بين الأديان والحداثة، بين الماضي والمستقبل.
وهكذا فإن هذا التجاوز الذي تم بادوات الرواية، سوف يتشكل فى دوائر الوعي الأخرى عبر أدواتها الخاصة، وسيقوم مفكرون آخرون بوضع الحارة ليس كجسم جغرافي فقط، بل ايضاً كجسم تاريخي مركب، متعدد الحارات عبر المناطق والمراحل والقوى الاجتماعية، وعبر التراكم والتقاطع الفكريين، أي سيتحول إلى بحث اجتماعي وثقافي ولغوي واسع الاجتهادات.
لكن تبقى الخلاصة المحفوظية، هذا الحدس الفني العميق، عملية رائدة في تاريخ الوعي في المنطقة، وقد حاول عبر «أولاد حارتنا» أن يستعيد بساطة وحيوية وعظمة الكتب الدينية؛ التي يتجلى فيها الأسلوب السهل والعميق وذو الآثار التاريخية الكبرى.
إن المثقف التنويري عبر نجيب محفوظ وصل إلى الخلاصات الكبرى، ونستطيع أن نعده أحد «أولاد حارتنا» الذي واصل فعل الرسالات العظيمة بنكرانها لذاتها وتضحيتها ودفاعها عن الوقف
المسروق ونضالها لتطوير حياة العاملين.
نجيب محفوظ من الرواية التاريخية إلى الرواية الفلسفية
https://isaalbuflasablog.wordpress.co...
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 29, 2019 07:05 Tags: تنوير-وتحديث-نجيب-محفوظ

ظهور المادية الجدلية

لم يكن لدى الفلسفات الغربية وهي تخرج من العصر الوسيط الديني المسيحي سوى الاعتماد على فلسفة أرسطو مادةً ومنهجا، وكانت التطورات الصناعية والتحولات المختلفة تدفع العلوم نحو استيعاب مختلف للحركة، وقد قام ديكارت ونيوتن بطرح مفهوم جديد للحركة هو الفلسفة الميكانيكية، وقد رأينا الفلسفة العربية الإسلامية السابقة وهي تستعين بمنهج أرسطو ذاته ورؤيته لفهم الحركة فكان أقصى جهد لها هو فهم حركة الأجسام في المكان.
ولكن الأدوات والمعلومات التي توفرت في العصر الأوروبي الجديد، التي قام بها غاليلو وكوبرنيكس وغيرهما من العلماء أتاحت فهم حركة الكواكب والشمس بطريقة مختلفة عن السائد في العصر القديم، مما جعل ميكانيكا فهم الأجسام الكبيرة تسيطر على الوعي العام بالحركة. وقد تمظهرت هذه لدى نيوتن بقوانين الجاذبية. وحددت هذه الفلسفة ميكانيكا الأجسام عموماً حيث الحركة في المكان- الزمان تقوم على قوانين مادية محضة، أي قوانين من داخل المادة، ولكن الداخل هنا بمعنى حركة الأشياء، فظل التناقض المادي الجسمي الخارجي الآلي هو المسيطر على فهم هذه الحركة الأبدية العامة، لكن كان لا بد من وجود مصدر لظهور هذه الحركة فكان الإله. وهنا تتآلف الفلسفة الميكانيكية مع الدين بإعطائه إشارة خلق الساعة الكونية، وتوقيتها، وربما إنهائها، لكنها كذلك تفصل الحركة عن عمليات خلق الكون الغيبية، وأدى طرحها بأن الشمس مركز المجموعة الشمسية وتكون المجموعة من سديم، إلى توجه العلوم نحو إعادة النظر في المعطيات الفكرية الأرسطية بشأن مصدر الحركة وبشأن الطبقات السفلى من تاريخ الكون والمادة، وبالتالي يفتح الآفاق لقراءة الظاهرات المادية الصغرى والمواد والكائنات المختلفة.
وهكذا فإن الفلسفة الميكانيكية وهي تنشئُ العلومَ الحديثة كانت تتعرضُ هي نفسها للزوال. فهذه الفلسفة الميكانيكية بتطبيقها على مجالات الحركة في أجسام أصغر، وظاهرات ذات تحولات مركبة كعمر طبقات الأرض وكيفية احتراق المواد وكيفية ظهور أنواع الأحياء لم تستطع أن تصنع إجابات علمية. كان تطبيقها على هذه الظاهرات يقوم على إرجاع عنصر التحول إلى عوامل خارجية وإلى غازات غير محددة، لكن تطورَ الصناعة الكبير كان يخضع هذه المواد المجهولة إلى الكشف، فغدت عوامل تحول المادة الفيزيائية والكيميائية تقوم على الذرات والجزيئيات الداخلية، وبدا يظهر أن المادة تتحول إلى طاقة والطاقة تتحول إلى مادة، وان قانون بقاء المادة قانون علمي أساسي.
أظهرت الجيولوجيا أن طبقات الأرض لها تحولات طويلة وأنها لا تتوقف عن الحركة. المواد كعناصر محددة تكشفت وظهر لتكوينها ولتمازجها قوانين محددة. تم اكتشاف تطور الخلية الحية، وأن أنواع الأحياء نتاج تطور تاريخي طويل.
إن كل أنواع الحركة هذه مغاير للحركة الميكانيكية وقوانينها، وكان ذلك يستدعي قيام فلسفة جديدة، تكشفُ الطبيعةَ المعقدة المركبة للحركة وأنواعها في كل أقسام العلوم الطبيعية والاجتماعية كذلك، والأخيرة قد دخلها زلزال التحول أيضا، وكان ظهور فلسفة جديدة يستدعي تفكيك الارتباط بين الفلسفة الميكانيكية والدين، ولكن أخذت المعضلة هذه تتعقد مع ارتباطها بالصراعات الفكرية والسياسية، حيث يلعب الدين التقليدي دوراً محوريا.
إن كشف أنواع الحركة في الأجسام الطبيعية من داخلها، وهو أمر يتناقض مع الفكر الديني التقليدي حيث الحركات قادمة من الغيب، قد ترافق مع تفكيك السلطات الدكتاتورية الدينية والسياسية، فأخذ «الشعب» ينتزع السلطات وراح المنورون يجدون في البناء الاجتماعي قوانين تطوره الداخلية بمعزل عن المؤثرات الخارجية الغيبية.
إن تركيز السلطة في البرلمان هو أشبه باكتشاف قوانين الحركة في المادة، والمادة هذه الكينونة المحتقرة من قبل الفلسفة الأرسطية والدينية السابقة غدت هي بؤرة الوجود.
إن رؤية أسباب التحولات داخل المادة الطبيعية والاجتماعية والبشرية، كان يعني صراعاً طبقياً بين المنتصرين على الإقطاع السياسي- الديني الحاكم، فقد ظهر جناحان للمنتصرين، الجناح البرجوازي الذي آلت السلطة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية إليه، والجمهور العمالي الذي كان عليه أن يعمل بشكل شاق وفي ظروف متدنية من أجل أن تنتصر وتحكم البرجوازية.
لهذا فإن هذا الانقسام الطبقي انعكس على فهم الحركة وفهم الفلسفة، وأخذت القوى البرجوازية تتحالف مع الأقسام الثقافية الدينية والمثقفين التقنيين من أجل إعادة صياغة الفلسفة بحيث تتوارى لغتها الثورية السابقة، ويتم كشف الحركة في المادة، من أجل أن تستمر العلوم الطبيعية والمصانع، دون أن يكون لهذا الكشف دلالات على الصراع الطبقي الدائر.
بدأت هذه الحركة الارتدادية التقنية الفلسفية في البلد الذي انتصرت فيه البرجوازية أولاً وهو إنجلترا، فظهر جان لوك وديفيد هيوم وجون ستيوارت ميل وصاغوا فلسفةً تعتمد على إنكار وجود قوانين موضوعية في المادة، المستقلة عن الوعي، بل قالوا انه لا يوجد سوى الحس البشري وهو الذي يدرك، والعملية العلمية تدور في مجال هذا الحس فقط، وما هو خارجه ليس في بؤرة الوعي. وعضدت ألمانيا هذه الفلسفة لأسباب تاريخية، فالبرجوازية كانت متخلفة عن قريناتها في البلدان الأوربية الأخرى، وقد ساندت الإقطاع البروسي العسكري، فتأسست فيها فلسفاتٌ متضادة كثيرا، منها الكانتية ومؤسسها عمانويل كانت وهو نفسه العالم الذي اكتشف السديم في المجرة وطرح تصوراً لكيفية نمو المجموعة الشمسية، حيث ركز هو الآخر على كون المعرفة حسية بدرجة أولى، ولكنه أكد موضوعية المعرفة وطرائق الوصول إليها، دون الوصول الكلي للحقيقة لأنه ستبقى أجزاء من الظاهرات خارج الكشف. أما الفلسفات المادية والجدلية فقد تنامت هي الأخرى في ألمانيا، فظهر الجدل لدى هيجل، ولكن جدل هيجل مبنيٌ على كون الفكرة المطلقة أو الروح هي التي تقومُ بالحركة، فهي فكرة مطلقة غيبية لكنها في حركة تالية تتحد بالطبيعة وفي حركة ثالثة تتحد بالعقل، وهذه التحولات الثلاثة تشير إلى حركة الفئات الوسطى الألمانية عبر منظور هيجل المتواري، حيث تنفصل عن الفكر الديني والسلطة المطلقة وتتحد بالمادة الطبيعية والفكرية، ثم تتوجُ في العقل الذي هو أيضاً الدولة البروسية!
إن الفئات الوسطى بالمنظور الهيجلي استطاعت أن تنفصل عن الدولة- الدين ولكن ليس بشكل كلي، فتتمظهر في حركة «الروح». وهذا أسلوب فلسفي يوناني وشرقي قديم. ولكن ما يهم هنا هو طريقة الروح في التحول عبر موقف أول الذي يتم تجاوزه في حركة نفي مضادة، لأن الروح تعيش حالة صراع وتناقض، فتحل حالةُ تركيبٍ وتجاوز للنقيضين في موقف جديد، ولكن الموقف الجديد يستتبع وجود تناقض آخر يؤدي إلى حركة جديدة وهكذا. هذا المنهج الجدلي كان اختراعاً ألمانيا، أي ظهر في حالة ألمانيا الإقطاعية المتخلفة عن برجوازيات التحول الكبرى، وفي وجود الفئات الوسطى التي لم تتشكلْ كطبقةٍ قيادية، ومن هنا فالجدل يظهرُ في شكلٍ ديني مثالي موضوعي، فهناك الفكرةُ المطلقة أو الروح وهي المعبرة عن الطبقات العليا المسيطرة، لكنها تلتحم بالطبيعة والمادة المعبرة عن الطبقات الشعبية، وفي هذا السديم الفكري الاجتماعي، المعبر عن حالة ألمانيا القلقة، تدور فلسفةُ هيجل، منهجها الجدلي ثوري، وغلافها الفكري محافظ، وبين الثلاثينيات والأربعينيات من تاريخ ألمانيا وأوروبا في القرن التاسع عشر، تنفجرُ ألمانيا وتنفجر فلسفة هيجل معاً!
لم تحصل ألمانيا على فرصة تاريخية مطولة كي تشكل تحولها الديمقراطي، والبرجوازية تمشي في حضانة عسكرية من قبل الدولة، وجاء هيجل بجدله التحولي ليطرح منهجاً مهماً في فهم وتفعيل الحركة على مختلف الأصعدة، فانتقلت قيادة الحركة الاجتماعية إلى الفئات البرجوازية الصغيرة، ومنها ظهر فورباخ بماديته النافية لمثالية هيجل، وظهر اليسار الهيجلي، وهي قوى حاولت دفع البرجوازية لكي تنقض على الإقطاع دون فائدة.
وهذا هو ميلاد الماركسية. تشكلت في لحظتها الأولية تلك كنقيض للطبقتين الإقطاعية والبرجوازية معا. أي اندفعت نحو العمال كملاذ أخير من الجمود السياسي الاجتماعي. وهنا كانت أشبه بصرخة سياسية أكثر منها علما. ومن هذه الصرخات سوف يرى لينين الماركسية. وهذه القضية ستبقى مشكلة كونية للبلدان المتخلفة عن البلدان المتقدمة ولرغبتها القومية الحادة في اللحاق بالمتقدمين.
كانت عقلية «البيان الشيوعي» المكتوب من قبل ماركس وإنجلز تطرح تصوراً كونياً لقرون قادمة وليس لحل إشكاليات الصراع الطبقي الراهن في ألمانيا نفسها، فكانت ألمانيا بحاجة إلى تشكيل تحالف برجوازي- عمالي يبعد القوى الإقطاعية العسكرية المتطرفة عن السلطة وليس لإزاحة البرجوازية التي لم تكن تحكم!
إن لغة المثقفين المنتمين للبرجوازية الصغيرة يسقطون هنا وعيهم السياسي التحويلي على الواقع الموضوعي فيطرحون مهمات غير ممكنة سياسيا، في إطار إيديولوجي مُسقط، وبطبيعة الحال يطرحون ذلك كصوت للطبقة العاملة، وهذا على المدى التاريخي صحيح، لكنه في الواقع الراهن غير واقعي، وتداخل المدى التاريخي واللحظات السياسية الراهنة، بمهماتها العملية الكبيرة، لا يتطابق ويتداخل بصورة جدلية، فهيمنة الطبقات العاملة تتم بعد قرون من التراكم السياسي والاقتصادي والثقافي لكنها كمهمة مرحلية غير ممكنة. وترتبت على لغة أقصى اليسار بمظاهرها الاجتماعية وثورتها هذه توجه البرجوازية الألمانية نحو أقصى اليمين، كذلك فإن ذهاب ماركس- أنجلز للعيش في إنجلترا أضفى على لغتهما الثورية العاطفية الألمانية بعداً أكثر موضوعية، وبدأت عمليات الاكتشاف العلمي العميقة للرأسمالية والعلوم، التي حصيلتها كتب موسوعية مثل «رأس المال» و«جدل الطبيعة» وغيرهما، لكن الاستنتاجات ظلت في الإطار التاريخي العام وليس داخل صراعات البنى الرأسمالية الوطنية بمختلف مستوياتها وليس البحث كذلك في كيفية التغلب على الدوائر المتطرفة سياسياً وفكريا.
إن انتصار البرجوازيات الكبيرة في الأقطار الرأسمالية الرئيسية تحقق بفضل انتصار أسلوب الإنتاج الرأسمالي وتوسعه العالمي وتدفق فيوضه على الفئات المالكة والوسطى، وأعطت ألمانيا نموذج الجمع بين الفكر الإقطاعي السابق والفكر البرجوازي التابع فكان الجمع بين أشكال الفكر الدينية والصوفية واللاعقلانية وبين أشكال من العقل والليبرالية المحدودة والمهيمن عليها وهي الثقافة البرجوازية- الإقطاعية الهجينة التي ترتبت على قيام البروسية البسمركية في السيطرة على البرجوازية الخاضعة. ومن هنا رأينا ألمانيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وهي تتخلى عن الجدل الهيجلي وتروجُ فيها الكانتية والكانتية الجديدة والوضعية المنطقية والتجريبية. يقول جورج لوكاش: «إن جدل هيجل حين يحاول السيطرة على هذه المسائل في منظور تاريخي، هو ذروة الفلسفة البرجوازية. إنه يمثل أقوى مشروع حاولته للتغلب على هذه المعضلات الجديدة: محاولة صهر طريقة قادرة على ضمان الفكر الإنساني كاقتراب لا محدود وانعكاس للواقع بالواقع نفسه»، «تحطيم العقل، جزء 1، ص 76 - 77».
إن مشروع هيجل يظل مشروع فئات برجوازية لم تتشكل كطبقة قائدة لعملية التحول، ولهذا هو مفكّكٌ بين منهج جديد وبناء تقليدي، وتخلي هذه الفئات عن الجدل واتجاهها للعلموية الوضعية، لكشف المادة الجزئية المحدودة المنقطعة عن قوانين بنية المادة الطبيعية والاجتماعية، فهي هنا تمثل البرجوازية التي تدير المصانع المحتاجة للتقنية، في حين أن اتجاهها للاعقلانية والصوفية وفلسفات الحياة هي للسيطرة على الوعي العام وإدارة الدولة والمجتمع، وهذا الانقسام بين وضعية علموية تجريبية وكانتية وبين فلسفة الحياة المتجهة للفاشية، جانبان يتكاملان يعبران عن هذا التزاوج الإقطاعي- البرجوازي وقد تحول إلى طبقة سائدة ذات أصول بروسية عسكرية وبرجوازية نهمة للاستيلاء على المستعمرات.

عبـــــــدالله خلــــــــيفة عرض ونقد عن أعماله
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 29, 2019 07:04 Tags: ظهور-المادية-الجدلية

الثلاثة الكبار

يحتاج الشباب العربي إلى بعض الكبسولات الثقافية السريعة من أجل قراءة الخطوط الفكرية العريضة في العالم المتقدم، وأسباب تطور قدراته الاجتماعية والسياسية.
وقد اعتمد الغرب في تطوره حديثاً على ثلاثة مفكرين كبار لعبوا دور النقلة، والانعطافة الفكرية له، وهم تشارلس داروين مكتشف نظرية التطور، وكارل ماركس مكتشف نظرية فائض القيمة، وسيجموند فرويد مكتشف نظرية اللاوعي.
وليس المهم الآن هو تفنيد بعض جوانب أفكارهم، فقد تجاوزت الأبحاث العديد من أفكارهم، ولكن المهم أنهم وضعوا الأساس الفكري للمناهج العلمية في درس الظاهرات الطبيعية والاجتماعية والنفسية.
يتحد الثلاثة الكبار هؤلاء في اعتماد الدرس الطويل، والبحث المضني للوصول إلى حقائق التطور في حقول مختلفة، ومترابطة في كونها تكشف جوانب مختلفة من حياة الإنسان.
وكذلك في اعتمادهم على أنفسهم للوصول إلى هذه الحقائق، حيث كان اعتمادهم على جهدهم الذاتي الخاص، وشقهم طرقاً جديدة كانت مرفوضة من قبل مجتمعاتهم التي عاشوا فيها، بل تمت مناوأتهم ورفض أفكارهم لسنوات طويلة، غير أن تطور العلوم الاجتماعية والطبيعية قد أثبت صحة أفكارهم، وكون بحوثهم تصدر عن نزعات موضوعية وقراءات مدققة في الجوانب التي درسوها.
تعبر أبحاثهم عن ثلاثة مستويات لقراءة الإنسان، فداروين بحث عن تطور الأنواع، واكتشف ارتباط الكائنات النباتية والحيوانية في سلم من التطور، انطلاقاً من الأسماك التي بدلت عيونها الثلاث إلى عينين، وطورت أجهزة التنفس فيها، إلى الحيوانات البرمائية، إلى الحيوانات الثديية المتعددة.
توجه داروين إلى بحث سببيات التطور العميقة التي رجح حدوثها في التكيف مع البيئة والصراع بين الأنواع المتخلفة والأنواع المتطورة، كما حدث للإنسان القرد وانتصار الإنسان العاقل عليه.
في اكتشاف داروين العلمي لتطور الإنسان ظهر عصر جديد من رؤية الحياة البشرية كظاهرات تخضع لقوانين وسببيات عميقة، وبهذا تم إعادة وضع الإنسان إلى بيئته، ورؤية الظروف الموضوعية التي شكلته، من أجل مزيد من التطور الخلاق المستقبلي في قدراته. وهذه العلمية في قراءة التطور البيولوجي انتقلت إلى صعيد التطور الاجتماعي والتاريخي، حيث اكتشف ماركس حلقات التطور التاريخية وأساليب الإنتاج التي مرت بها البشرية، ودرس على مدى ثلاثين سنة أسلوب الأنتاج الحالي وقوانين تطوره في البقعة التاريخية التي نضج فيها، وهي الغرب الحديث. ولكن ماركس لم يأخذ بعين الاعتبار كون الغرب كبقعة تطورية خاصة، لا تستطيع أن تصل إلى نهايتها التحولية، بدون العالم المتخلف التابع لها. وهكذا فإن انتشار أسلوب الإنتاج الرأسمالي عالمياً سيخضع سيرورة طويلة معقدة، لم تكن المواد العلمية المتاحة في زمنه إلا أدلة على الماضي وعلى حقبة الولادة لهذا الأسلوب من الإنتاج. وتعكس طبيعة الاستنتاجات السياسية له مشكلات الفقر والاستغلال للبروليتاريا الصناعية في زمنه. ومن هنا كان لينين يعبر عن مشكلات البلدان المتخلفة في محاولاتها للحاق بالتطور الرأسمالي، وقد بدا له ذلك كمحاولة أخيرة لصنع التاريخ.
أما فرويد فقد اكتشف قوانين اللاوعي، وهي تلك الطبقة المتوارية من العقل والشعور الإنساني، باعتبارها القعر العميق للنفس، ومن خلال منهج التحليل النفسي، حيث توجه إلى اختراق الطبقات الشعورية الفوقية للوصول إلى جذور الأزمات في الحياة الشعورية وأسباب الاضطرابات. وإذا كان قد اعتبر العامل الجنسي بمثابة العامل الوحيد الكلي، إلا أن هذا لا يقلل من شأن اكتشافه، الذي فتح أفاق الدراسات النفسية العميقة على مصراعيها، وبهذا تكون الأنسانية قد وصلت إلى الاكتشافات الكبرى لفحص جذورها البيولوجية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 29, 2019 07:03

أن تكتب الأدب في السجن

عند التفكير بالكتابة عن أدب السجون في البحرين، لا يستطيع أحد تجاوز الروائي والمناضل الراحل عبـــــــدالله خلــــــــيفة وآخرين كثيرين من شعراء وأدباء (أحمد الشملان، قاسم حداد، عبد الحميد القائد، علي الشرقاوي وآخرون). في الموسيقى مجيد مرهون، رسامون: (علي دويغر، خليفة اللحدان) وأيضاً نحاتون وضعوا بصماتهم على صخور معتقل جزيرة جدا آنذاك .. ما هي ابتكاراتهم لتحقيق هذا المنجز الإبداعي أو ذاك، وكيف يواجهون الأخطار للحفاظ وتأمين ما أنجزوه حتى يخرج من الظلمات إلى النور … من السجن إلى خارجة بعيداً عن أعيّن الشرطة؟
عبدالله خليفة واحد من هؤلاء، كيف كان يكتب قصصه ورواياته ودراساته النقدية في الأدب والفكر خلف القضبان؟..
على أية ورق يكتب، في حين يمنعه السجان التزوّد بالورق وحتى بدفتر مذكرات، وبأي قلم يكتب والأقلام ممنوعة على المعتقلين وسجناء الرأي والضمير حتى لو كان قلم رصاص طوله أصبع لكتابة خواطره فترة التغييب القسري؟.. كيف كانت تُهرّب هذه الكتابات من داخل السجن إلى خارجه لتطبع على ورق مصقول وتتلاقفها الأيدي سراً خلسة عن الرقيب؟.
من الروايات والقصص التي تمّ تهريبها من السجن إلى خارجه طيلة فترة اعتقال عبدالله خليفة الذي استمرَّ ست سنوات منذ الهجمة على الوطنيين بعد حل المجلس الوطني في العام 1975 حتى أفرج عنه في العام 1981 والتي كُتِبَتْ على رقائق غلاف عُلب السجائر: روايات «اللآلئ» و«القرصان والمدينة» و «الدرويش والذئاب»، وهذه الأخيرة لم تنشر بعد، إضافة إلى قصص قصيرة حوتها فيما بعد مجموعة «الرمل والياسمين».
يروي أحد رفاقه الذين عايشوه حرارة الأوضاع في السجن، كيف كانت المعاناة لتوفير قلم وأوراق، كنا لا نرمي الأكياس ولا عُلب السجائر وننقل قلم «البنسل» – قلم الرصاص، والاسم الحركي المتعارف عليه بيننا: «حمبوص» من زنزانة لأخرى عبر مخابئ في حمامات السجن الذي نقضي فيه حاجاتنا، نلتقط الإشارات البعيدة عن أعين الرقيب والشرطة. وأحيانا بمساعدة شرطة متعاونين ومتعاطفين مع مظلوميتنا لتأمين الورق والأقلام للمبدعين ومن بينهم الراحل الرفيق عبدالله خليفة الذي كان غزير الإنتاج الإبداعي، نهم في القراءة، له عالمه الخاص، كتُوم، قليل الكلام كثير العمل والاجتهاد ويطلق النكات أحياناً، يلتقط العابر ليوظفه في رواية أو قصة.
ما أن يتم توفير بعض الأوراق وجمعها من زنزانة وأخرى حتى يقضي عبدالله عليها، وفي اليوم التالي يطلب المزيد وقلم رصاص آخر حتى أطلق عليه لقب أكبر مستهلك في السجن للورق والأقلام، وأي ورق وأي أقلام، الآن فهمنا، كيف استطاع هذا المبدع والمفكر أن ينتج أكثر من أربعين مؤلفاً، بين رواية وقصة قصيرة وكتب نقدية في الأدب وأربعة أجزاء من كتابه الضخم: «الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية» وخلال عام من مرضه العضال لم يتوقف عن الكتابة ولديه 15 رواية لم تطبع بعد إضافة إلى 13 رواية لم ينته من كتابة كامل فصولها و بأحجام مختلفة.
أثناء المقابلات في السجن مع عبدالله خليفة يتقصد شقيقة عيسى بوضع قلم في جيبه الأمامي بشكل لافت ويتربص فرصة مغافلة الرقيب لتهريبه له.
في إحدى المقابلات جلس عيسى في مقابله وجهاً لوجه، بينما والده وشقيقته جلسا على جانبيه، الأيسر والأيمن، كانت عيناه وهو يتحدث إلينا تمعن بحركات تمويهية على القلم وأكاد أرى لعابه يسيل مثل جائع يرى أمامه وجبة دسمة يريد التهامها، يقول عيسى، في ذلك اللقاء حدث شيئاً طريفاً، حيث كان يراقبنا الضابط راشد عبدالرحمن، خرج ثوانٍ لظرف ما لا نعرفه، أغلق الباب وراءه، فقام عبدالله بفتح جورابه ومدَّ رجله أمامي. في إشارة لوضع القلم في فتحة الجوراب، تداركت ببديهية لما كان يريد، فوضعت القلم وكان له ما أراد، أسند ظهره إلى الكرسي وعاد للحديث معنا بارتياح شديد وكأن شيئاً لم يكن.
شقيقه عيسى، لا يزال يتذكر.. كان قلم حبر جاف، ماركة «باركر» من أجود أنواع الماركات آنذاك، وكان ذلك في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي.
كان عبدالله يكتب نصوصه الأدبية ورسائله التي تصلنا بقلم الرصاص، وفيما بعد يستخدم قلم الحبر الجاف، وأدركت من خلال نصوصه الأدبية الجديدة أن عملية تهريب «الباركر» في جورابه بالرجل اليسرى قد نجحت، فها هو يخط بذاك القلم الذي وضعته بيدي في جورابه.. اجتاحتني فرحة كبيرة وتمنيت أن يسقط مطراً لأمشي تحته كي يُبللني.
«تفخيخ» برواية «اللآلئ»
علم رفاق (ع ج س) قرب الإفراج عنه خلال أيام ففكروا كيف يهربون معه رواية «اللآلئ» لعبدالله خليفة ونصوص للصحافي إبراهيم بشمي، قال له أحدهم في يوم الإفراج سنهدي لك بنطلوناً من بنطلوناتنا ذات الجودة بدل بنطلونك «الكحيان» هذا، لتقابل أهلك بهندام نظيف، تبادل معهم الابتسامات البريئة دون علمه بخططهم في تهريب «أوراق ممنوعة» من داخل السجن إلى خارجه.
قبل أيام من مقابلة إدارة السجن للإفراج عنه كانوا يخيطون الأوراق الصغيرة في البنطلون الهديّة، رزم من الأوراق، كل فصل من فصول الرواية بجانبه فصل آخر يخاط بإتقان يُبعد الشبهات.
تزامن موعد الإفراج عن (ع -ج) مع الانتهاء من «تفخيخ» بنطاله بالنصوص الأدبية، أعطوه رسائل شفوية للقاء شخص ما بالبنطال ذاته كشفرة متفق عليها، وعند وصوله المنزل اكتشف تلغيم بنطاله برواية «اللآلئ» لعبدالله خليفة ونصوص بشمي.. فسلم الأمانة إلى أصحابها وكان يضحك على نفسه لعلمه متأخراً عن هدية الإفراج من رفاقه الذين غادرهم إلى فضاء الحرية وهم لازالوا خلف القضبان.
الملعون
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 29, 2019 07:03 Tags: أن-تكتب-الأدب-في-السجن