عبـــــــدالله خلــــــــيفة【تفتيتُ المكونات】
[image error]
الكتابُ الدينيون يجسدون بوعيهم المتعددِ التكويناتِ شكلَ الأزمة الفكري في المنطقة.
إنهم يتهمون الفكرَ الليبرالي والفكرَ التقدمي بانهما تابعان للغرب، لكونهما لم يندمجا في المذهبية الدينية، وهما بذلك خارجان عن نسيجِ (الأمة الإسلامية)، وكلمة (الأمة) هذه إحدى إشكالياتِ هذا الوعي المنفصمِ عن التاريخ.
إن كلَ مذهبيةٍ تتصورُ أنها الأمة الإسلامية، فلدينا إذاً مجموعات كبيرة من الأمم الإسلامية: الأمة السنية، الأمة الشيعية، الأمة الدرزية، الأمة الحوثية الخ!
لماذا هذا الاصرار بعد قرونٍ من الثوراتِ الفكرية التي اجتاحتْ العالمَ ونشرتْ مناهجَ علومِ الاجتماع والسياسة والفلسفة، نجدُ كتاباً ينكرون الحراكَ والصراع في المذاهب، ويشكلون أمماً وهميةً وعلى ضوءِ هذه الأمم الوهمية يشكلون برامجَ سياسية وتعليمية واجتماعية ويحركون الخرائطَ البشريةَ من خلالِ تلك التصورات الوهمية؟
يقومُ الديني صاحبُ هذا الوعي بإطلاقِ تلك الألفاظ على ذاته، فهو(الإسلامي) وحين يمر على تياراتٍ مذهبية أخرى يضعها في خانة مغايرة للإسلامي، التي احتكرها لذاته المميزة المنفصلة.
ومن هنا، بطبيعة هذا الوعي، أن يجردَ هذا المذهبي الليبراليين واليساريين من الإسلام، ومن وطنيتهم، ومن قوميتهم، ويعلقهم في دائرة الارتباط ب(الغرب)!
ما هو هذا الإسلام الذي يؤمنُ به؟ هو هذه المذهبية الصارمة الشكلانية في العبادة بدرجة أساسية، لأنه لا يجد خارج هذه الممارسات العبادية شيئاً جوهرياً آخر! خاصة انه يتعامل مع عامةٍ يريدُ الهيمنةَ عليها من خلال هذه العبادات، وخارج هذه العبادات هو لا وجود له. فهو حراكٌ سياسي مذهبي وليس إنتاجاً لأمة متحضرة.
وحين يتعمق ويسير بهذه الممارسات العبادية إلى منتهاها سيُعلبُ التاريخَ، ويسقطُ فهمَهُ المذهبي على التاريخ الإسلامي. ولا نعرف كيف سيحولُ الصحابةَ إلى مذهبيين؟ وإذا لم يكونوا مذهبيين فماذا كانوا؟ وإذا كانوا رموزهُ فلماذا هو مختلفٌ عنهم؟
وإذا كان الصحابةُ ليسوا بمذهبيين فمن أين جاء بمرجعيتهِ المقدسة هذه؟! إذاً هو كائنٌ جذورهُ ملتبسة، لكنه يفرضها بقوة في السياسة خاصة. فلماذا؟؟
هي معضلةٌ عميقةٌ منتشرةٌ أزّمتْ الواقع، والمذهبيون السياسيون قادة الحراك والتأثير الشعبي يشلون الشعوبَ والأمم الإسلامية عن التقدم، والأممُ الإسلاميةُ في أزمةٍ تاريخية خانقة!
حين يكونُ المذهبُ(أمةً) فعلينا أن نفتتَ الأقطار العربية الراهنة حسب مكوناتها (القومية) هذه!
آخرون لا يتحدثون بصراحة عن كون المذهب أمةً، يطرحون مسألة الأخوة المذهبية، السني أخو الشيعي، الدرزي أخو الإسماعيلي، لكن كيف يكون أخوه وهو مختلف عنه، وجذورهما مقطوعة متشكلة من خلال عداء حسب هذا الوعي؟
هي مسائل تطرح بكل فجاجة العصور الوسطى المظلمة، أنها الموادُ الخامُ لتلك العصور، وقد غدتْ سياسةً يومية، وعليك أن تحاورها وتحللها.
عمليةُ جوهرةِ المذهبِ، أي جعلهُ مفارقاً لتطورِ التاريخ، وتعليقهُ في فضاءٍ مجرد، فليس هو تكوينٌ تاريخي تشكل في زمن، بل هو جوهرٌ لا يقبل التغيير، هو مطلقٌ مرتبطٌ بنورٍ إلهي يتصوره هذا المذهبي، وهو قادمٌ من السماء وبالتالي من المستحيل تغييره وتبديله، ومرتبطةٌ به وقائع ورموزٌ، وهو محبوسٌ في هذا الكيان الغيبي السرمدي، ومبرمجٌ في السياسة اليومية على أساسه.
لكن علينا في السياسة وعلم الاجتماع أن نعيش على الأرض ونفهم التاريخ كمادة واقعية. فالإسلام تكون في ذلك الحين في وجود مصادر فكرية دينية سابقة ومن الثقافة العربية (الجزيرية)، ومن الأدب الشعبي (السحري) لكي يقومَ بعمليةٍ سياسيةٍ كبيرة توحيديةٍ تجميعيةٍ للقبائل لتكوين دولة، وبعد أن ظهرتْ الدولةُ برزتْ الصراعاتُ الاجتماعية فيها وتغلبتْ القوى الارستقراطية القبلية الغنية، ونشأتْ المذاهبُ المعبرةُ عن هذه الصراعاتِ الاجتماعية بين أسرِ الأشراف والعامة، وكلٌ منها جعل مصدره غيبياً مطلقاً ومعبراً عن الكل المقدس الخاص به، لكن الأشراف استمروا متحكمين مؤدلجين المذاهبَ لمصالحِهم ومقسمين نواةَ الأمة العربية تلك ثم الأمم الإسلامية التي تكونت بعد ذلك في خريطة الأرض الواسعة إلى مذاهب كل منها ينفي الآخر في صراعاتٍ سياسية واجتماعية. فإلى متى؟
المذهبيُّ السياسي لا يَحتارُ في تاريخه، لأنه لا يشتغلُ في تحليل التاريخ، وهو أيضاً يريدُ(ثورةً) ويريدُ تغييراً للعالم!
كانت الثورةُ الإسلاميةُ المؤسِّسة بلا مذهبيين، فلو كانت قد تشكلتْ بمذهبيين لم تقمْ أصلاً!
لماذا لم يكن الصحابةُ مذهبيين؟!
الجماعةُ المغيرة كانت تضم تجاراً وفقراءً وعبيداً، ولم تخلق بينها تفرقة مذهبية، التوحيدية النهضوية تغورُ فيها، أصولُ القبائل والطبقاتِ لم تكن أساساً للدخول في تجمعها، لولا أن قبليةَ قريش كانت بؤرة محورية فيها، لكن لم تُوضع كشرطٍ للانتماء، ووضعت المساواة بين أفرادها. لكن القرشية أنشأتْ من جهةٍ أخرى وبعد هزيمة الثورة الإسلامية: الارستقراطيات أو أسر الأشراف المتصارعة المؤسِّسة للمذاهب.
المذهبيُّ السياسي وهو يستعيدُ هذه الأسسَ التكوينيةَ لــ(الأمة) ويقصدُ جماعتَهُ المذهبية، يُسقطُ عليها تاريخَه الراهن، قوقعتَهُ الطائفيةَ التي تعزلُ وتضمُ الموادَ حسب قربها من هذه القوقعة، يبعدُ من لم يمضِ في مشروعهِ الطائفي، ويوهجُ ويعظمُ من سار معها.
ويغدو التاريخ ذاتياً، الجماعة الموحدة في ثورتها التأسيسية، يفتتها حسب منطقه. وهو وليد الثورة المضادة على الإسلام يجعل من نفسه ثورياً.
وضعت الوحدةُ اللامذهبيةُ، أساسَ التاريخ الإسلامي والفتوحات والتكوينات القادمة والحضارة.
من أسسَّ التاريخَ لم يكن مذهبياً، المذهبيةُ لا تخلقُ حضارة، أو دولة، المذهبية تستلمُ منجزات سابقة، تستلم دولةً كبيرة ناجزة وتعضُ عليها بضروسِها الحديدية.
حين تستلم المذهبيةُ السياسيةُ الدولةَ التوحيدية تخربُها، حتى لو استمرتْ هذه الدولةُ قرناً كالدولة الأموية، أو قروناً كالدولة العباسية وما بعدها من دول.
تقوم المذهبيةُ بنخرِ الدولة التوحيدية التي أستلمتها، عبر ارستقراطية الشيخ البدوي المهيمن وعائلته وزوجاته وأنماط الثقافة المترافقة معه، وهي التي قفزت إلى السلطة وإنتزعتها من الدولة التوحيدية، هذه الارستقراطية غائرة في تاريخ البداوة والقبلية والاستغلال، تبدأُ من بئرِ الماءِ حتى بئرِ البترول.
يقعُ بئرُ الماء على ضفافِ الاقتصاد تكملهُ مُلكية القطعان والعبيد والتحكم في الفقراء، فلا ميزانية حقيقية، ولا رقابة، ولا ديمقراطية.
تنخر الدولةُ المذهبيةُ في الاقتصاد إستغلالاً وأثرةً لجماعةٍ دون جماعات الناس. ومهما كانت توسعاتُها ومهما كانت حروبُها وغنائُمها فهي ذاهبةٌ لزوالٍ وتفككٍ وتمزيق، فهي لا تنتجُ وحدةً أكبر، بل تنتج شظايا دول ودويلات.
قامت الدولُ المذهبيةُ بإنتاجِ التفتت: تفتيت الإسلام من وحدته ومن مضمونه النضالي التوحيدي، تفتيت الشعوب، تفتيت القبائل، تشكيل الخرافات السياسية والاجتماعية المختلفة، تفقير الفقراء مادةً وثقافةً الخ..
أما ما نراه من إزدهار في فقهٍ وفكرٍ وأدبٍ وفلسفةٍ فهو محاولاتٌ لخقِِ وحدة ونهضة على نموذج الثورةِ المؤسِّسة، وخلق تنوير ومحاولات لتجاوز المذهبية السياسية المُفكِّكة لعُرى العرب والمسلمين. لكن هذه المحاولات لم تنجحْ بسببِ عدم تحليلها العميق لأزمةِ وإنسدادِ بابِ الدولة المذهبية، وكون المعارضين الذين أنشئتهم ظهروا وهم مصابون بنفس وباء المذهبية.
فهي أي هذه النتاجاتُ الفكريةُ والدينيةُ والثقافية كانت ترتكزُ على خلايا المذهبية المصابة بالسرطان الطائفي.
الدولةُ المذهبيةُ تخلقُ دولةً مذهبية أخرى معاديةً منافسة، والدولتان تشيعان الانقسامَ بين المسلمين في كل شيء، وتنشران الانقسامَ في كل مكان، وهذا الانقسام يؤدي إلى إنقسامات مذهبية سياسية جديدة، وهكذا تتوالد التكوينات المريضة تشل الجسد الأمبراطوري الهائل وتحيله إلى فتات.
ولكن المذهبي السياسي المعاصر يتطلعُ بكل فخر لهذا التاريخ.
إنه يستخدم عمليات التنحية للأخطاء والسلبيات، يجوهرُ التكوينَ المذهبي خارج التاريخ، يلونه بالألوان المشرقة، فإذا كان من المستفيدين من الدولة المذهبية خفف أخطاءها، وإذا كان من المتضررين فاقم هذه الأخطاء، والدول المذهبية تعيش على هذه الانقسامات، ويقوم المذهبيون السياسيون المختلفون بالتصادم.
ثم إنهم يريدون تشكيل ثورات ونهضات بهذه الأفكار!
السياسي الفاسد الاستغلالي والمذهبي السياسي وجهان لعملة واحدة، فحين تنحت الدولةُ الإسلاميةُ المؤسسة عن صدارةِ التاريخ، كان هذان الوجهان من العملة غير موجودين، وحين ظهرَ الوجهُ الأولُ من العملة ظهرَ الوجهُ الثاني. هما متلازمان ويحتاج كل منهما إلى الآخر، وان بدا أنهما متعاديان في بعضِ لحظات التاريخ، فحين تأسست الدولة المذهبية حتى بخطواتها المتقطعة: أموية، عباسية، أدرك السياسي الحاكم أنه يقاطع تاريخاً سابقاً، أنه ينقضه ويؤسس تاريخاً مختلفاً، فلابد له من تحويل الآراء الاجتهادية في الدين إلى مذاهب، لابد أن يفتت لحمة المسلمين المتوحدة، فكما أنه استولى على أرزاقهم فقد استولى على تراثهم كذلك، فقام بتحوير التراث التوحيدي وأدلجته، مثلما كرس الجانبَ الأكبرَ من الخراج له ولأسرتهِ وطبقته.
ولهذا فهو بحاجةٍ إلى تفتيتِ وإزالةِ المثقفين التوحيديين، وتصعيد غير التوحيديين المفتتين للناس. لابد أن يهدمَ الاعتزالَ الداعي للتوحيد من منطلقاتٍ عقلية مثالية، وأن يقوي حضورَ المذهبيين الآخرين حتى لو كانوا مخالفين له، أي مخالفين للمذهبِ الذي كرسهُ عبر اضطهادِ الأئمةِ منتجي النصوص الاجتهادية التوحيديين، وإنتاج رجال دين طائعين منتجين للمذهبية الانقسامية.
يتم إيجاد المذهبية السياسية الطائعة للحكم عبر صنوفٍ متعددةٍ من الاضطهاد والاستغلال. فالسياسيلا الفاسدُ وقد استولى على الخراج، يستطيع أن يضطهدَ الاعتزاليَّ التوحيدي، ويَعيشهُ في ضنكٍ وفقرٍ حتى يتعب هذا من إنتاجه للفكر، الموحِّد، لينتج فكراً تقسيمياً، وليحول وعيه المثالي المتابع لانهيار التوحيد والبحث في جذور ذلك وسببياته، إلى أن ينظرَ لهذا التاريخ الاسلامي غير المتسق والمتناقض إلى أنه تاريخٌ متسقٌ وغيرُ متناقض، وأن الدولة المذهبية هي استمرارٌ للدولة الإسلامية التوحيدية، فليس ثمة فروق جوهرية، بل هي ظروف الزمان والمكان، وليس إلى ظروف السيطرة على الاقتصاد وتحويل الفوائض من جموعِ الناس لطبقةٍ مخصوصة.
وهذا ما يتم في الفقه فمن توحيديةِ الأئمة ونقدهم للانقلاب الاجتماعي، ومن إلغاء الشروط العامة للدولة من توحيدية سياسية ومن خراج مخصص للأمة، ومن انتخاب للحاكم، يتم تبديل هذه الشروط، وإنتاج شروط جديدة من صنع رجال دين تابعين للدولة. فتصبحُ شروطُ الحاكم هو من كان سليم الجسم والعقل و(عادلاً) أي تتم صناعة شروط فردية جسمية وليس شروطاً اجتماعية شعبية أي يجري وضع شروط مطابقة للدولة الاستغلالية، حتى يغدو الحاكم أي كائن تفرزهُ ولاداتُ وصراعات الطبقة الحاكمة سفيهاً، أو حتى مجنوناً كما ظهر الحاكمُ في بعض الأحيان وهو يسكر ويضرب القرآن بالسهام، أو يتآمر مع العدو، لكنه حالته العادية غير الاستثنائية هي إهدار مال المجتمع في شؤون الذات اللاهية.
وبتجميع هذه الخصائص من فقهٍ وفكرٍ وثقافة وقد قُطعتا ارتباطاتها بمصالح الناس، وبتقدم المسلمين، وصارت خادمات للسلطان، يُؤسسُ المذهبُ السياسي.
أي تتم تنحية خصائص التوحيد وتُثبت خصائصُ التفريق.
والناسُ بوعيها الغائر في الحاجات اليومية وسوء العيش تتحسسُ من هذه المذهبية، وقد سُيست، والحاكم يدعوها لها لكنها تخشاها، إنها مثل الحاكم صارتْ بعد التطويع والعقود من السنين مذهبيةً، لكنها مذهبيةٌ اجتماعية، غيرُ مُسيسة، بينها وبين الحاكم هوة المصالح المختلفة، واختلاف الطاحن والمطحون وخوف العامي من النار.
المذهبية الاجتماعية وقد كُرست من خلال سنين طويلة جعلت المسلم والمسلمة متقوقعين في شروط العبادة، وقد تقطعتْ بهما السبلُ لفهم الجذور، ولقراءةِ التطور وفهم السببيات. يرى المغايرَ له يتوجهُ للعبادةِ بشكلٍ آخر، فلا يصارعه، فقد قبل التنوعَ، مثلما قبلَ التنوعَ في الديانات، التي الأخرى غدت عبادية.
لكن لابد للعامة خاصة في بعض الأزمات ولحظات الصراع والاضطرابات أن تكون مُسيَّسةً، أو جزءًا منها يغدو مُسيساً، فلابد من إدخالها الجيشَ والشرطة ومصلحة الخراج وغيرها من الدوائر التي تقومُ بإنتاج القوة مع الناس أو ضدهم.
والمذهبيةُ السياسيةُ بطبيعةِ تكوينها هي من نتاجُ الخلافاتِ والصراعاتِ السياسية التفكيكية بين المسلمين، فهي صارعتْ التوحيدَ وعزلتهُ عن المسار التاريخي، وهذه الإزاحةُ لا تشتغلُ في الفراغ، بل تشتغلُ بين الناسِ وبين أفكارِهم وعواطفِهم وأحلامهم، عبر الحروبِ الطويلة والصراعات الدامية والسلمية، والعزل والرفع، فيرى الناسُ أن مقدساتَ الدين غدتْ خادمةً للسياسة، وأن كلَ حزبٍ يقومُ بتبرير سياسته عبر ذات المقدسات، والعامة لا تقدر أن تفهم هذه التناقضات، بأن تعرضَها على مشرحةِ التاريخ فتحللها، فقدراتها لا تسمح بذلك وقد قُطعتْ عن الفكر وعن العلوم، وخُصصت للخدمة وإنتاج الخراج.
لكن الحاكم يحتاج إلى تسييسها، وهو لا يبتكرُ المذاهبَ الأخرى المنافسة أو المعادية، بل هي موجودةٌ من صراع التاريخ نفسه. فتشتغلُ المذهبيةُ السياسيةُ الحاكمة على تأسيس العداءات، مثلما أن المذهبيةَ السياسيةَ الأخرى تقومُ بذلك من موقعٍ آخر، وبمفرداتٍ مقدسة أخرى، وتحرك عامةً آخرين.
يخافُ المذهبي السياسي من التوحيد رغم أنه يلهجُ بلفظهِ كل يوم، فثقافتهُ تقومُ على التفكيك لا التوحيد.
حين كانت عصورُ الظلام، حين كانت الامبراطورياتُ العربيةُ والتركية والفارسية تلفظُ أنفاسَها، كانت ثقافةُ التفكيكِ تنشرُ أجسامَ هذه الدول الكبيرة وتفتتها، كانوا يوحدون الناسَ بالسيف ويفرقونهم بالمذاهب.
وقد سُميتْ عصورُ التفككِ والتخلف لأنهم كانوا يزيلون أفكارَ التنويرِ والتوحد والنهوض المشترك للشعوب والأمم الإسلامية، ويحرقون كتبَ الفلاسفة وعلماءَ الطبيعة وينشرون كتباً تفسر بألف طريقة ثقافة التفتيت.
ومن هنا يصرُ المذهبيلا السياسي الآن على العداء للغرب والعلمانية والديمقراطية، فيخلطُ الاستعمارَ بثقافةِ التوحيدِ من أجل أن يُضفي عليها المظلةَ الاحتلالية ويبعدُ الناسَ عنها حتى لا يتوحدون.
وحين كانت الامبراطورياتُ في حالاتِ الانهيار وتعرضَ المسلمون للتفتيت الجغرافي إضافةً للتفتيت العقلي، لم تستطع المذاهبُ السياسية أن تقوم بدور التغيير والتوحيد وقد كرستْ نفسها في ثقافة التفتيت. لم تستطع هذه الأدواتُ التي بقيتْ محميةً قروناً، وانتفخت أجسادُ أصحابِها من كرم الدول، ونشرتْ ملايين الكتب أن تجعل بضع أوراق تقاوم.
جاءَ التوحيدُ من العدو الغربي. ليس من خلال بنادقه القاتلة أو زنزاناته الواسعة بل من أفكاره. قدم ثمارَ أممٍ ناضلتْ للتوحد وأوجدته، ونهضتْ، تجاوزت تفتيتة رجال السياسة المحافظين ورجالَ الدين وأدوات فكرية قديمة لم تعد قادرةً أن تواكبَ النهضة والتحرر، وبطبيعة الحال لم يقبل هذا الكم الهائل المنتج لثقافة التفتيت ثقافةَ التوحيد سواءً جاءتْ من رجال مسلمين متنورين كجمال الدين الأفغاني أو من مثقفين علمانيين مسلمين وعرب. ولكن معارضاتهم ذهبتْ أدراج رياح التاريخ العاصفة.
انتجتْ ثقافةُ التوحيد العربية المتشربة بجزئيات ديمقراطية الغرب وجزئيات علمانيته أحزابَ النهضة والتحرر وخاضت معارك الاستقلال والحرية، وبعد عقودٍ من التضحيات على مستوى الأجساد والإنتاج المعرفي تحققت هذه الأهداف التي أنجزها (الديمقراطيون العلمانيون) العرب المسلمون والمسيحيون والماركسيون.
موحدو الشعوب العربية من الوطنيين العَلمانيين كالناصريين والقوميين والبعثيين والماركسيين لم يكملوا مهماتهم ويحققوا الوحدة الشعبية لأنهم تلكأوا في مسائل الفصل بين الدولة والدين، وعاد المذهبيون الدينيون يفككون الشعوبَ العربية والإسلامية.
القمع وعدم تحرير النساء والفلاحين والأميين وعدم إنتاج العقلانية في الدين وتحويل القطاعات العامة إلى خاصة في مضمونها وتغييب الديمقراطية، كل هذه انعكستْ على هزيمة التحديثية الوطنية العلمانية، ولهذا حين أخرج الساداتُ المذهبيين السياسيين من القمقم كان يعبرُ عن مرحلة كبيرة جديدة.
لم يكن السادات يدافع عن الإسلام لكنه كان يعيدُ الطبقةَ الاستغلالية بالكامل إلى سدة الحكم، ويجعل من المذهبية السياسية غطاءً لهذا المرور، ومن جهة أخرى يمزق وحدة الأمة العربية ونضالها المشترك.
الدفع بالدينيين السياسيين إلى الواجهة كان يطرح مرة أخرى ماذا لديهم من برنامج لتطوير حال المصريين والشعوب العربية والإسلامية عامة؟
حقيقة ليس لدى المذهبيين السياسيين برنامج حقيقي، لأن البرنامج الحقيقي هو الحداثة والديمقراطية والعَلمانية، هو تحقيق أسس الثورة الصناعية – الديمقراطية، ومعنى ذلك المساواة بين المواطنين، وفصل الدين عن الدولة، وهي قضايا يستحيل أن يقوم بها حزب السادات كحزب مذهبي سياسي يميني بالضرورة، وحزب الاخوان المسلمين كحزب يميني مذهبي بالضرورة.
حزب السادات غير قادر على تطوير نصف علمانيته ونصف ديمقراطيته إلى حداثة ديمقراطية، وحزب الاخوان يعادي هذا، فتشكلت الأجنحةُ المذهبية السياسية: حزب وطني، واخوان، وتكفير وهجرة، وهو أمرٌ يعكسُ أزمة طبقة وسطى طفيلية عاجزة عن الانتقال للحداثة الديمقراطية وتكاليف رفع مستوى العاملين، ولهذا تنطعت الجماعاتُ الدينيةُ المتطرفة التي تغلغلتْ بين الفقراء المعدمين لضرب الحداثة الديمقراطية بالكامل، وتكوين برنامج الرجوع إلى الوراء، وإنشاء جماعات التكفير والهجرة والقاعدة وطالبان والحزب الجمهوري (الإسلامي) الإيراني الخ.
فبما أن البرجوازية لم تدفعْ التكلفةَ الاقتصادية من الثورة الصناعية بدءاً من إنشاء الصناعة الثقيلة، وتحرير الريف من الإقطاع، وتطوير العمالة الرثة والعادية، ونشر التعليم التقني المتطور بشكل واسع، وغيرها من مهمات فقد قامت الفئاتُ المهمشة: الموظفون الكبار الفاسدون، وتجار العملة، والبنوك(الإسلامية)، والدجالون السياسيون، بإنتاج ثورة زائفة تعتمدُ الابقاءَ على تخلف المذاهب السياسية واعتقالها للجمهور، وتحقيق ثورة عاصفة كذلك تعتمد على استعادة الثقافة الدينية المحافظة المتخلفة للعصورِ المظلمةِ وإعادةِ بثها في الفضاء العام!
وهنا لعب النفطُ دورَهُ في إيجاد الوهم بإنتاجِ تحديثٍ على أسسٍ إقطاعية، فيبقى كل هياكل التخلف الدينية الاجتماعية وتغيبُ الديمقراطية والعلمانية والحداثة، لكن تُصنع ثورات زائفةَ تستعيدُ كلَ أشكالِ الدكتاتورية العنفية.
أعطتْ التراجعاتُ في مصر موادَها المسمومةَ لإيران وباكستان ودول الخليج ومناطق أخرى عديدة لإنتاجِ ما يتجاوز حتى المحافظة الدينية للعصر العباسي، حيث يتقدم رجلُ الدينِ المذهبي السياسي بنفسه ليحكم خلافاً للتاريخ الإسلامي كله. ومعنى ذلك ان تفجيرَ المكوناتِ الوطنية وصلَ إلى ذروته.
إن ظهورَ ولايةِ الفقيه السني مماثلةٌ لظهورِ ولاية الفقيه الشيعي، فحين عجزتْ الجماعاتُ المثقفةُ القوميةُ الإيرانية عن الصراع مع الدولة لانجاز العَلمانية الديمقراطية، وتغيير الريف، وتحرير النساء، وإنتاج العقلانية الفكرية، وقبلتْ بسيطرة رجال الدين والحشود من الفقراء الأميين الريفيين على مسار السياسة الوطنية، وأنكرت الحداثة الغربية العلمانية وقعت في فخ الانهيار، ونشوء الدكتاتورية الدينية لتكتسح المنطق.
لم يكن رجل الدين المتجه لأن يكون حاكماً في الثورة الشعبية الإيرانية ثورياً، كان رجعياً، لكن الأمر اختلطَ عليه، ظن انه ثوري مع الجموع الهادرة، وانه مع أحلامِ البسطاء لتغييرِ حياتِهم ولانصبابِ الفوائض الاقتصادية لتغييرِ أكواخهم وحرمانهم، ولم يكتبْ برنامجاً للخروج من الماضي للحاضر ثم للمستقبل المتطور السعيد لهذا الجمهور الذي ضحى.
بل وضع القرية فوق المدينة. جاء بنماذج الماضي وكرسها فوق الحاضر.
الفئة الوسطى الصغيرة من رجال الدين المحافظة كلها انقسمت، والعديد منها يعرف مخاطر القيادة إلى المستقبل، وهناك ادراكٌ غائر فيها هي (أننا لسنا للمستقبل)، نحن نجعل ماضينا العتيق يبقى ويتكيف في العالم القادم، أي أن (نطور مذهبيتنا ببطء من دون أن نتخلى عن أساسياتها لكن السياسة ومغامراتها وصراعاتها الحادة فنحنُ لسنا لها).
هذا هو الاتجاه الشيعي الإيراني الأصيل القديم، كما حدده آياتُ الله الكبار. لكن الاتجاه الآخر اتجاه المغامرة بدأ يطفو على هذا ويتلقى تفكيراً جديداً ظهر في كتب مثل (فلسفتنا) و(اقتصادنا)، يُطرح فيها تحدي العصر ورفضه، يتحدى الاشتراكية والرأسمالية معاً، ويطرح(الخيار الإسلامي). أي أنه يريد العودة للماضي، وبالأحرى البقاء في الحاضر الإقطاعي الديني مع تطور للرأسمالية أو للقطاع العام بشرط أن يكون الولي الفقيه مسيطراً على هذا النظام.
لسانُ حالهِ يقول علينا ألا نتخلى عن قيادة جماعتنا ونمنعها من الذوبان في هذا العالم، نمنعها من أن تكون حديثة ديمقراطية عصرية ذائبة في هيمنة الآخرين، في صراع المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، كما يظهرُ في ذلك الوقت من الخمسينيات والستينيات، ولهذا فإن الذي يقرأ هذه الكتب الآن، لن ينتبه للتضاريس الاجتماعية والسياسية التي كُتبت فيها، وهذا هو نفسه الذي جرى لبعضِ الأديانِ كاليهودية، حين فكر سياسيٌّ كبيرٌ فيها (وهو هرتزل) أن يكون ثمة وطنٌ لليهود يغدو خارجَ الرأسمالية الحديثة كي لا يذوبَ اليهودُ فيها، ثم ظهر قادةٌ سياسيون آخرون في العالم الإسلامي يفكرون بذلك الشكل وهو: (إبعاد المتدينين عن الحداثة والعلمانية وإذا جرى تحديثٌ يكون تحت قيادتنا حتى لا يزول ديننا!).
في ذلك الوقت كان ثمة التباسٌ في من تقود العالم هل هي الرأسمالية أم الاشتراكية، لأن البرجوازية والعمال هم الذين يصنعون هذا العالم الحديث، ويصطرعان على قيادته بقيم وأوضاع وسياسات متضادة.
فقد حدث للاشتراكية في الشرق ما حدث للمذاهب واليهودية وهو القفزات المغامرة في المجهول. وظهر في آسيا أناسٌ يقررون سحقَ الملكية الخاصة والفقر والأديان دفعةً واحدة! وكان لابد أن ينتقلَ الخوفُ والتسرعُ إلى بعض قادة المذاهب المتحمسين ذوي الرأي الحاد الذين يبعدون المذاهبَ عن الفقهاء القدماء.
وبهذا كانت إيران المعمل الأول لتطبيق ذلك، وكان البرنامج هو العودة للماضي، وكان السادات يقول في الوقت نفسه (ضرورة الحفاظ على أخلاق القرية)، مثلما يرفض العديد من شيوخ الدين في الجزيرة العربية الاكتشافات الفضائية والعادات الجديدة.
لم يزد برنامج المحافظين في إيران على إبقاءِ العلاقات الإقطاعية مهيمنة على الفلاحين والنساء والعقول والثقافة بالقهر، وهو برنامجٌ يستجيبُ لأهواء الكثير من الذكور والبيروقراطيين والرأسماليين، لكن ذلك لا ينقل المجتمع للماضي ويظلله بأجنحة الملائكة، ولا يلغي الصراعات الطبقية، لكنه يفرض عليه هيمنةً بوليسية عسكرية طاغية، تمنعُ زيادةَ أجور العمال وتطور النساء الاجتماعي السياسي، وملاحقة الفساد، مما يجعل المحافظين يزدادون شراسةً في عسكرة المجتمع وزيادة جُرَع غيبياته، وهذه أيضاً لا تحل التناقضات المحتدمة، فتنتقل أوهامُ الرسالة التي يحملونها إلى العالم وصراعاته والمنطقة.
إنهم يجابهون يومياً الحداثة والعلمانية والديمقراطية، عبر الفضائيات والموضات والسلع والكتب والسفر وغيرها، وتتحول تلك الأساسيات إلى مطالب لقوى الجمهور المحروم والمستغل والمقيد، وفي مثل حالة إسرائيل تبقى فزاعة العرب لعدم حل إشكال النزيف اليومي وتحقيق الحلم اليهودي، وفي إيران تتوجه الطبقة الحاكمة لتصدير الأزمة للخارج، تغدو لها رسالة وهي تحريك الشيعة سياسياً، وتأزيم الدول الأخرى، ونشر حالات من الإثارة والحركة والمذهبية السياسية الساخنة المتوترة بغرضِ إشغالِ الرأي العام الداخلي، فلا تكفي حتى المواد التراثية التي تحاصرُ المواطنَ يومياً، ولكن هذه تتحول إلى صراعات سياسية وانفجارات اجتماعية وحروب طاحنة.
والدول الأخرى جاهزة بمشكلاتها العميقة التي لا تُحل، وبأهاليها المعذبين، ولكن في العراق والخليج تغدو هذه الحواف القريبة من إيران مشتعلة يوماً بعد يوم، حسب ضخامة تناقاضاتها وكثافة بشرها ومدى حماقات أدواتها السياسية.
وهكذا عبر عقود من(الثورة) الإيرانية أسرع الملايين للذهاب للآخرة، وتفجرت حروبٌ في الخليج، ومازالت الأخطارُ تحدقُ بالمنطقة وفيها الكثير من الجمر الملتهب والحطب اليابس.
لماذا اختلف التطور السياسي في شمال إفريقيا عن المشرق العربي الإسلامي؟ لماذا قدم الشمال تجارب تحولية ديمقراطية بنائية محدودة العنف، في حين عجز المشرق عن ذلك؟
تعودُ الأسبابُ لتنامي السياسة الديمقراطية العلمانية مع تنزيه المذاهب والأديان عن العمليات السياسية.
تونس لها تجربة تحديثية طويلة ولكن مصر بقيتْ فيها الأحزابُ التقليدية والدينية تؤزم التطور وتفككُ صفوفَ المصريين، حتى نأى الشبابُ وطرحوا سياسةً وطنية تغييرية تشمل جميع المواطنين، وطرحوها بشكل يلائم غايتها أي بأسلوب سلمي توحيدي فحققوا الانجاز.
لكن الشباب بحركاتهم الجديدة الغضة لا يدركون جذورَ الدول والجماعات الدينية والحكومية ومناوراتها، وعمليات التفافها، الأمر الذي يبقي التجربة مفتوحة للدرس والقراءة.
أما المشرق بؤرة المذاهب والأديان المتعددة المتصارعة، فقد تغلغلت فيه ولاياتُ الفقيه وهي أشكالٌ سياسية مذهبية دكتاتورية، لتكريس أنظمة محافظة تفكيكية للمسلمين والمواطنين، وغدا العراق المختبر الأول الدامي لهذه السياسات، فقد قامت السياسة المذهبية الإيرانية بجر المنطقة المشرقية الخليجية لأتونها، مما استدعى ولايات فقهية باطشة لتمزق جثث المواطنين الأبرياء في مسالخ واسعة. وتغلغلتْ هذه الأفكار التفتيتية في دول وأحزاب اعتبرت (علمانية) وبهذا فإن أزمة العودة للوراء التاريخي جرّت شعوباً كبيرة في المشرق، في حين تمكنتْ شمالُ افريقيا العربية من توقيفِ هذا المسلسل.
تتوسع على نحو خطر هذه السياسات في منطقة الخليج، وبخلاف التراكم الثقافي الديمقراطي العلماني الذي غرستهُ حركاتُ الشباب التونسية المصرية زرعت الحركاتُ المذهبية في منطقة الخليج والعراق التمزيقَ الواسع، سواءً أكان ظاهراً يشتعل ناراً أم كان متوارياً.
هنا يمكن أن تتلاقى أكبر الحركات المذهبية السياسية اتساعاً وتطرفاً، تغذيها عملية تفتت العراق، وكذلك فإن المجتمعين الكبيرين السعودية وإيران المنتجين لهذه الحركات المُسيّسة عبر عقود، يمكن أن يقتربا من مواجهة . إن أكبر مواجهة يمكن أن تنتج من هذا التنامي للوعي الديني المحافظ بمختلف أشكاله المتجه لحافة البركان، وهو الذي عجزَ عن نسخ الماضي الوردي، ورفض مواكبة الحداثة السياسية الاجتماعية معاً.
وفي قرب هذا الكم الهائل من الحطب اليابس فإن تحريك العامة المأزومين في معيشتهم هو عودُ الثقاب، وهكذا تُنتجُ ظاهرةٌ معاكسةٌ حين يتم توظيف ثورات التوحيد لإنتاج حركات التفكيك، ويتم الابتعاد عن توفير التراكم الديمقراطي الوطني في مصر وتونس وزحزحة المذهبية السياسية فيهما، إلى إشاعة المذهبية السياسية وجر العامة البسطاء إلى أتونِها في الخليج والعراق.
وإذا كان المجتمع السعودي في حالةِ دفاعٍ عن النفس فإنه لم يكوّن التراكمات الديمقراطية العلمانية وإصلاح أوضاع الطبقات الشعبية، وتطوير أوضاع النساء، وتطوير الفئات الوسطى الحداثية للمراكز القيادية بشكل يواكب الزمن، وهو ما تستثمرهُ مذهبيةٌ سياسية مضادة وتشتغلُ عليه سياسياً.
إن جمهورية إيران بحاجة إلى المحافظة على شعوبها وإنجازاتها، ولهذا تتطلب الأمورُ الانتقال من حكومة المذهبية السياسية إلى حكومة التوحيدية الإسلامية، الأمر الذي يعني أن تساعد الدولة مختلف القوميات والمذاهب، وتشكل سياسة دعم لكل الفقراء والعاملين المواطنين، وهو التوجه الذي يمهد للانتقال للدولة الديمقراطية العلمانية حيث تغدو الدولة مُنتخبة من قبل التيارات السياسية وليس للمذهبية وللقومية المُفتتِّة لوحدة الدولة المركزية وهي اتجاهات ستفجرُ هذه الوحدةَ مع استمرار الكبت.
مقاربة الدولتين الكبيرتين للتوحيدية ومن ثم الانتقال للديمقراطية العلمانية هي أمور صعبة ولا شك، وتتطلب مراحل انتقالية، يزدهر فيها التغيير والإصلاح لطبقات الشعب الفقيرة والمناطق المحرومة، وتنتشر فيها ثقافة التوحيد، وتجاوز التعصب والتفتيت، للانتقال إلى مصاف الأمم المتقدمة والمعايير الدولية في الوجود السياسي.
إن قوى التغيير في هذه المجتمعات لم تشتغل وتراكم ثقافة التحديث المشار إليها، وتجري نحو اللحظات السياسية القريبة والعفوية، منجرةً لسطوح الظاهرات والتغييرات عبر إرادات شمولية فتعمق الأزمات بدلاً من أن تستبصر عروقَها الداخلية في باطن الأراضي الاجتماعية، ويبدأ ذلك من فهم تكوّنِ الأممِ الإسلامية وتواريخِها وتحولاتها، في ظل تحولات البشرية، ومسارات مراحلها، فالتحولُ من الإقطاع إلى الرأسمالية، الذي يخض هذه الأمم لابد من استبصاره في هذه الخطوط العريضة لسير البشرية، وتأسيس مراحله وتطوير شعوبه وإعدادها لعواصفه وتجديداته الانتاجية والثقافية.
وهذه الأمور كلها ستجعل الديمقراطية والحداثة والمذاهب والأديان تزدهرُ على أسس جديدة.
عبـــــــدالله خلــــــــيفة【تفتيتُ المكونات】
Published on August 05, 2019 15:10
No comments have been added yet.


