البحرين جزيرةُ الحريةِ الغامضةِ في العصر القديم⇦1

⇦ بين العراق والبحرين
⇦ العصرُ البرونزي في البحرين
⇦ البحرين جزيرةُ الحريةِ الغامضةِ في العصر القديم
⇦ القرامطة

⇦ بين العراق والبحرين
في فجر التاريخ حين غدا العراقُ مركزاً حضارياً استطاع أن يؤثر في البقاع المحيطة حوله، ولكن بأدوات الحضارات القديمة غزواً وسيطرة ولعلها صفة تمتد حتى إلى الحضارات الحديثة.
وكان ظرفُ النهر الكبير العملاق أقوى من الصحارى، والهضاب، ودول الينابيع والأنهار الصغيرة، فما بالك حين تكون الحضارة نتاجَ نهرين كبيرين؟
لقد تمكن العراقُ من صنع إمبراطوريات، فيما كانت الدول المحيطة في علم الغيب أو ظهرت وهي مفككة ومبعثرة، ولم تتمكن من الظهور حتى شاخت حضارة العراق القديمة، أو تمزقت داخلياً بفعل الصراعات الاجتماعية غير المحلولة.
وكان الرأسان العراقي والفارسي في صدام مستمر منذ ذلك الوقت، فقد جاءت الحضارة الفارسية بعد قرون، ووضعت عاصمتها بقرب رأس العراق القوي، في المدائن، وهيمنت في المشرق كله، ثم جاء العربُ وأعادوا للعراق سيطرته، وبُعدت عاصمة الفرس شمالاً، لكن عاد الفرس من جديد عبر بني بويه وغيرهم، وظلت إشكالية الصدام بين الرأسين الكبيرين لمنطقة شمال الخليج مستمرة ليومنا هذا.
لكن عراقَ الحضارة القديمة والحضارة الوسيطة وجد بلداً صغيراً يتحداه بشكل مستمر، وهو بلد البحرين الذي تعددت أسماؤه وتباينت خرائطهُ ولكن ظل البلد الجنوبي البحري، يظهر مرة على شكل سمكة بحرية تسبح بحرية في الخليج، وأحياناً كريح جنوبية عاصفة.
ولهذا فإن حاكم العراق المتأله البابلي حذر بشدة حاكم البحرين الذي يعيش في جزيرة صغيرة من قوة بطشه، وإنه قادر على غزوه وهو في ملجئه المائي الآمن.
وحدث هذا الغزو وتمت السيطرة، ولكن راحت الجزيرة الصغيرة تغزو الحضارة الكبيرة الغازية، فتحولت إلى مكان مقدس، والبوابة الكبرى لعالم الأموات، وهو عالم شديد القدسية في الحضارات القديمة، وظهرت ديلمون كبلد القبور والتلال، أكبر مقبرة مقدسة، حيث تنزل الأرواح إلى العالم السفلي، وتتطهر هناك.
في أدب العراق القديم كانت الآلهة هي التي تتحكم في المصائر وكانت لها أسماء كثيرة، وقد أُدخل إله ديلمون أنكي، إله الينابيع، في محفل الآلهة النهرية المسيطرة، فتم الأعتراف بالينابيع جنباً لجنب مع الأنهارـ أي الأقاليم التابعة مع المركز.
(أجاب أدابا آنو:
سيدي، كنتُ أصطاد السمك
وسط البحر
لمنزل (أيا).
لكنه نفخ البحر وجعلهُ عاصفةً
وهبت الريحُ الجنوبية وأغرقتني!
فأُجبرتُ على المبيت في منزل الأسماك)، (من قصة أدابا العراقية القديمة).
في العصر العباسي أتخذ إقليمُ البحرين مواقف متشددة أكثر، وصار قلبَ المعارضة، وما كان ريحاً جنوبية قوية، وسمكاً مستقلاً، غدا حركات سياسية رهيبة في أساليبها، باطشة لا يقل عنفها عن المركز.
وجد الخوارج مساحة هائلة من البصرة حتى عُمان، وظلوا قرناً كاملاً يناوؤن الدولة الأموية، ويقدمون جحافل وقوافل من الموتى، دون كلل أو ملل، حتى أنهكوا الدولة الأموية وصعدَ الضحاكُ آخر زعيم كبير خارجي في هذه الدولة إلى الكوفة واقترب من دمشق، فكانت تلك خاتمة الأمويين ولكن على أيدي آخرين غير منهكين وأكثر تحضراً.
ومع ذلك فإن البحرين لم تتوقف عن دورها المعارض المركزي الذي يتحدى الأمبرطورية قريباً من خاصرتها، ويقترب من مركزها دون نجاح في السيطرة عليه.
ظهر القرامطة ليصارعوا دولة الخلافة قرناً ونصف وجعلوا من أسم البحرين مرعباً يمتزج بالكفر والمشاعية.
وهذا الدور العجيب المناكف المستمر الذي لا يهدأ في الاحتجاج والمعارضة جعل من أسم البحرين ملفتاً، فلماذا دون أقطار العالم الإسلامي الواسعة يبقى هذا الأسم ويتحدى رغم صحراوية المكان وبُعد الزمان؟
لم يقم الباحثون لهذه القضية بحفر كبير.
منذ بداية الدولة الإسلامية صارت الجزيرة العربية مقسمة بين ولدين إحداهما الحجاز وهو الابن المدلل وثانيهما شرق الجزيرة وهو الابن اليتيم الفقير، فأغدق الخلفاء الأمويون الأموال على الأسر الغنية في الحجاز، كما أن موسم الحج أضاف لهم موارد كبيرة أخرى.
وبهذا نفهم حوادث الردة وحروب الخوارج وحقد القرامطة على الحجاج وعلى الأمكنة المقدسة وأخذهم الحجر الأسود وإلقائه في أحد الأمكنة في الإحساء.
لقد كان شرق الجزيرة مصدر القلاقل والثورات نتيجة لسوء توزيع الثروة، ولم تحل الدولة العباسية والدول التي بعدها هذه المعضلة، وحتى في زمننا النفطي الذي أغدق الثروة نجد الكثير من الطرق خاصة الفرعية الكثيرة غير مرصوفة في بلدان نفطية، ونراها معتمة ونخيلها محطم ومحطات تحلية المياه شحيحة.
كانت اضطربات منطقة الخليج عموماً ناتجة عن نشؤ مراكز من خارجها تسيطر عليها، وتنقل ثرواتها إلى مناطق بعيدة وعواصم تعيش برفاهية أو بمشروعات سياسية كونية أو مناطقية، مما جعل مستويات الغنى الفاحش والفقر المدقع تتجاور، وتغدو أداة لسياسات متطرفة أو مغامرة، فيظهر الغازي السفاح جنباً لجنب مع حاكم الدولة الصغيرة المسالم لكن المبعثر للأموال، والذي لا يجعلها تتجذر في بلده والمنطقة فمرة تسرق على هيئة غنيمة حروب أو تضيع في التداولات المالية الغامضة، أو تغدو رشاوى للحركات والدول.
لم تستطع الدول المطلة على الخليج أن تعقد مؤتمرات تناقش فيه أوضاعها السياسية المحفوفة بالمخاطر رغم كثرة الحروب والمشكلات.
بل أنها لم تعقد مؤتمرات تقرأ تاريخها وتكشف أسباب هذه الخصومات على مدى التاريخ وتفاقمها في الوقت الراهن.
وفي كل مرة يظهر(الرجل المريض) بينها الذي يتم تقاسمه أو جعله يموت.
والبلد الذي كان بينها رمز المركزية وهو العراق صار رمز التشتت وبدايات الدويلات.
لقد تكاثر نموذج حاكم بابل المتأله والذي يريد أن يخضع البلدَ السمكة ويضعها في مقلاته السياسية، والآن تكاثرت الأسماك وكثـُرت مزارعُها وآبارها.

⇦ العصرُ البرونزي في البحرين
لا يكاد الطالب أن يحصل على فكرة واضحة للبحرين في العصر الديملوني، فهي صورةٌ مشوشةٌ ومرتبطةٌ بعصورٍ تالية وبفتراتٍ مختلفة، لكن من الممكن العثور على صورة ولو تقريبية لذلك الزمن إستناداً إلى المعطيات الأثرية وقد ترك لنا المستكشفون العديدَ من الموادِ الأثريةِ والاستنتاجاتِ المفيدة التي تحتاج إلى بحوث متتالية من أجل إستكمالها وإعطاء صورة مدرسية للطلبة بمختلف المراحل لكي يكون لهم تصور عن تاريخنا الوطني.
تعطينا طبيعةُ المعابدِ والقلاع في الجهة الشمالية من جزيرة البحرين الرئيسية ملاحظةً أساسية بإنها هي البؤرة شبه الوحيدة في هذه الجزيرة في لحظة الظهور التاريخي، ونجد لدينا مادةً وفيرةً من أدوات العمل التي إشتغل بها الصيادون والزراع. فالمعابدُ الشمالية والآثار المختلفة لأدوات العمل والقبور كلها تمثل مجتمعاً متتابعاً من الشمال إلى الجنوب.
(وتشير الاكتشافات إلى القسم الجنوبي من الصحراء قد شهدَ إستيطاناً لمجموعة من الفلاحين، أو مغارسي البساتين. والأدوات الزراعية المستخدمة كقطع الصوان الصغيرة التي شُذبت من نهاياتها وحُفرت جوانبها كأسنان المنشار والتي تآكلتْ اثناء حصد المحاصيل)،(البحرين: البعثات الدنماركية في دلمون القديمة، ب، ف. غلوب، ط1 سنة 2003).
وحسب الكتاب فإن جميع الأنصال والرؤوس المُكتشَّفة من موقع ورشةِ عملٍ ومن مختلفِ الأنواع تعودُ إلى نفس النوع الذي عُرف بشرياً خلال جميع الحضارات الزراعية المعروفة في بلاد وادي الرافدين ومصر ويُعتبر من(أفضل النبال المُكتشفة في العالم)، ص28.
ومن شمال جزيرة البحرين حتى منتصفها كان هو المجتمع الدلموني حيث القمة أو البوابة أو الواجهة الشمالية ويظهر المعبد ويمثل القيادة الروحية للمجتمع ثم يأتي وجود السكان فينزل المجتمعُ الزراعي حتى منطقة عالي الحالية، هناك حيث القبور ثم الصحراء.
لقد كان المناخُ معتدلاً والمياه أكثر بكثير مما هي عليه الآن مما يسمح بزراعة واسعة كذلك توفر منتجات البحر وفرةً أخرى من المواد الغذائية والجمالية السلعية خاصة اللؤلؤ.
ووفرة كسارةُ الحصى موادَ البناء(ويمكن العثور عليها على شكل طبقة سمكها متر واحد تحت رمال الصحراء بلون واحد)، (وقد ترسبتْ في قاع البحر لملايين السنين، لكنها خرجتْ عندما وثب قاعُ البحر كدرع هائل فوق سطح الماء)، ص41.
استمرت القبور ثلاثة آلاف سنة حين تم العثور عليها وإكتشافها مع البعثة الدنماركية في خمسينيات القرن العشرين، وقد كشفتْ بعضَ الأفكارِ عن العبادات، ولكن الهام هو تكوينُ صورةٍ عن هذا المجتمع الدلموني الذي يبدو إضافةً إلى إنتاجه الزراعي وصيده الحيواني، إنه كان مقدساً يحرس أكبر مقبرة في المنطقة، كأنه دليل يقود الموتى إلى أعماق الأرض، حيث تلتقي في تصوراتهم السحرية تلك الأعماق مع منابع النهرين المقدسين (دجلة والفرات).
تعطينا ملحمة جلجامش صورة أخرى عن هذا التصور حيث يقوم البطل بالتوجه إلى دلمون فيخطفُ الثعبانُ منه الخلود!
إنها مهنة هائلة لهذه المستعمرات السكانية التي تنامت من صيادي بحر وحيوان حتى إستوطنت هذه الأرض وحولتها لمجتمع، فيما الجزر الأخرى خاوية، بسبب خلوها من الزراعة.
وهنا يمكن عبر دراسة تاريخ تلك المرحلة متابعة تكون المعبودات والآثار المختلفة التي توضح طبيعة النمو التاريخي البطيء بين المصدر في الحضارات النهرية الشمالية ومقبرتها المتحولة لمجتمع حضاري منفصل مضى بسياقه الخاص.
وبطبيعة الحال فإن إرتباط المستعمرات السكانية بصناعة الخلود هذه، قد جعلها مرتبطة بالمفردات الأسطورية للحضارات العراقية القديمة، وحين إنهارت تلك الحضارات فإن مقبرة دلمون الهائلة تراكمت عليها الرمال، ويقدم الكتابُ الآنف الذكر دراسةً كاملةً عن القبور وطرق بنائها ولكن ليس ثمة ربطٌ عميقٌ بين ثقافة القبور المُستنتَّجة والمجتمع الدلموني.
ويظهر كذلك في القبور الحالة الاجتماعية للموتى في ذلك الزمن، حيث ثمة قلة متنعمة ذات قبور واسعة وهناك بقية الناس العاديين المتزاحمين.
ويعطي تكونُ الطبقاتِ المتعددة للمعبد في الشمال فكرةً أن القيادة الروحية السياسية للمجتمع لم تتواصل أو لم تصمدْ خلال هذا التاريخ، فهي تتحول وربما تستبدل.
في حين إن التكوينات الاجتماعية والسياسية الأخرى توجهت لأعماق الريف أو الصحراء كبديل عن الوجود المكشوف في الشمال، وتلك لحظات تاريخية أخرى بطبيعة الحال.

⇦ البحرين جزيرةُ الحريةِ الغامضةِ في العصر القديم
لم تستطع البحرين أن تفلتْ تماماً من الإمبراطوريات العبودية في العصر القديم، لكن وجودَها المستقلَ قليلاً هو بحدِ ذاته كان شجاعة.
قوى التصحرِ والحروب ومطاردة المؤمنين لم تصلْ إليها كما تصل للبلدان البرية حيث تتمكنُ الجيوشُ بسهولةٍ نسبية من إقتحام المدن ولديها وسائل الحرق الفتاكة والسلالم الصاعدة لأسوارها وبيوتها.
تقنياتُ الغزو البحري لم تتطورْ كثيراً لحسن الحظ لتطارد الأحرار وراء السواحل المحمية بالأشجار والقلاع.
إستطاع السكان القدامى المستقلون أن يطوروا إنتاجهم الزراعي الذي كان يحميهم أكثر من معابدهم:
(تقع في الخليج ذاته، جزيرةُ (تيلوس) التي تكسو الغابات قسمها المقابل للشرق، الذي يغمرهُ البحر أيضاً أثناء المد. ويحاكي حجم كل شجرة حجم شجرة التين.. وتنمو على هضبة عليا في الجزيرة ذاتها أشجارٌ تحمل الصوف) بحجم السفرجلة(يتفتحُ متى تنضج ويكشفُ عن كراتِ زغبٍ، يُصنعُ منها قماشٌ غالٍ للثياب)، الخليج في العصور القديمة، ص 873.
فاثنياوس الكاتبُ الإغريقي الذي عاشَ في القرن الثاني الميلادي يذكرُ في كتابهِ(مأدبة السفسطائيين):
(تقع إحدى الجزر في الخليج الذي يُعثر فيه على الكثير من اللؤلؤ)، السابق، ص 881.
وليس غريباً أن تكون ولادة الكنعانيين الذين عُرفوا بعد ذلك باسم (الفينقيين) في جزر البحرين وميناء الجبيل، المسمى قديما بيبلوس، في هذه المدن الصغيرة المتنامية وسط الخليج حيث أعطتهم الولادةُ شيئين عظيمين: صناعةَ السفنِ ومغامرات التجارة.
وإذا كانت الولادةُ صغيرةً فإن الشباب سيغدو كبيراً من اليمن والبحر الأحمر حتى شاطئ المتوسط الشرقي ثم الجنوبي.
وليس من الممكن خلال أربعة آلاف سنة الحصول على جسمِ هذا الشعب الكبير المتقطع عبر قارتين وعبر المدن الكثيرة يتركُ فيها معالمَه من المدن التجارية الكبرى، وإختراعه للكتابة المميزة، وأساطيره الثقافية مولِّدة الإنتاج الإغريقي لغةً ومسرحاً.
كتبتْ السيدةُ بنت في بحثِ(جزيرة العرب الجنوبية)(لندن 1900) عن تلال الدفن في البحرين:
(كان الشك الكامل يكتنفُ أصل هذه التلال ومعرفة من بناها لكنه زال الآن، ولم يعدْ أحدٌ يرتابُ بأصلِها الفنيقي، إعتماداً على الإحالات الكلاسيكية وعلى نتيجة عملنا ذاته، وقد إكتشفنا أثناء تقيباتنا، أشياءً أصلها فينقي مميَّز، فلم يعدْ هنالك مجالٌ للشك بأن التلالَ القائمةَ أمامنا كانت مقبرة واسعة لهذا الشعب المهاجر).
أربعةُ وجوهٍ ممكنةٍ في تاريخ البحرين؛ أن تكون موقعاً لحرية وإستقلال الشعب، ثم أن تكون ملجأً للهروب، وأن تكون مقبرة لساكنيها المترحلين يتركون فيها جذورَهم ويعودون إليها، وتغدو مقبرةً مقدسةً كبيرةً للشعوب المماثلة، وأن تكون أخيراً سجناً يُنفى إليه من لا يقبل العيش العادي في الدول المجاورة وفي الإمبراطوريات التي كانت بحاجة ماسة للسجون.
من الصعب أن تتمكن الدولةُ الفرثية أن تصل للجزر رغم إجتياحها للبر الآسيوي في الخليج، أو الدول التي قبلها كالمقدونيين، وحين يحدث ذلك لا تضمن المحمياتُ بقاءها الطويل.
أما الدولةُ الساسانية فإستطاعتْ أن تفيضَ بسيطرتِها على وادي الرفدين بقوة، وجزر البحرين بشكل محدود اسمي.
ولهذا فإن صنمَ أوال هو عبادة المؤمنين الهاربين اللائذين بالجزر من البطش الساساني، فالاسمُ الخاصُ الغريبُ القادم من فعل(وئال: اللجؤ)هذا يحملُ شيئاً من دلالةِ الاحتماء إضافةً لمعناه الديني العام.
الاسمُ ذاتهُ يحملُ معنى المقاومة (الوطنية) والاستقلال.
يتغيرُ اسمُ (مشامهج) الذي هو حسب النصوص البابلية (بندرٌ يُعثرُ فيه على اللآلئ)، فتلفهُ سحابةُ العصرِ الإمبراطوري الروماني بردائهِا الكنسي، ويحرمُ مطران (مشماهج) من ممارسة عمله الديني، وقد إنتقد بطريرك الكنسيةِ الأرمنية الأسقفَ البحريني إبراهيم المشاهمجي، متهماً إياه بخلق التمرد.
أسكن سابور الثاني الملك الساساني:(بعض بني تغلب في البحرين، نعني دارين وسماهيج).
هكذا تأخذ قريةُ سماهيج تاريخَها من قلبِ الإمبراطوريات ومن تراثها لكن صناعتها للسفن والقوارب وغوصها في البحر هو الذي يؤسسُ بقاءها.
تأخذ الأسماءُ ألوانَها من الديانات والقبائل والعصور ولكن قوى الشعوب ودلالات وجودها المستقل تأخذهُ من عملها وتكونها كقوى متوحدةٍ مدافعة عن أرضها وحريتها.
تجارةُ دلمون خطوةُ الخروجِ إلى العالم
إن المدنَ الصغيرةَ النامية في الخليج في أوائل الألفية الثانية قبل الميلاد، خاصة دلمون، يقودوها وضعُها الجزري المحدودُ للخروج إلى العالم، غير قادرة على البقاء طويلاً في هذه المحارة مع تنامي تطورها الاقتصادي الداخلي وسكانها ومع تنامي التجارة قربها في أهم خطوطِ المبادلات بين الهند والعراق وسوريا.
حتى الآن نحن أمام مادةِ التكونِ الداخلي الأولى في هذه الجزر، ومعرفتنا محدودة ولا نعرف بشكل كبير ما إذا كانت لديها قدرة على تكوين مدن صغيرة تجارية أم مستوطنات صغيرة، وما هي ملامح الاقتصاد وأعداد السكان؟
هذه أسئلةٌ من الصعب الإجابة عليها كلها دفعة واحدة، خاصة إننا نطلُ على دلمون الغامضةِ من خروم إبر، هي هذه المُسماة الأختام الدلمونية.
إنها أجزاءٌ صغيرةٌ تحددُ ملكيةَ الشخصياتِ التجارية بدرجةٍ أساسية، ولها أهدافٌ دينيةٌ وشخصية أخرى، لكن دورها التجاري هو محور وجودها ومنها تكتشف المعلومات الهامة التي تحدد بها الوضع الاقتصادي.
وعلى هذه الأختام تُحفر رسومٌ متعددة، ومن خلال درس هذه الأختام إستطاع الآثاريون أن يقتربوا من ملامحِ المدنِ الصغيرةِ الناهضةِ التي وصلتْ لمرحلةٍ تجارية تبادلية: داخلية وخارجية، وهو أمرٌ يعني تفكك البُنى القبلية ذات الاقتصاد الطبيعي المنغلق، وتحولها لمبادلات على المستويين المحلي والقاري الآسيوي، وتنوع المستويات الاجتماعية المنبثقة عن تنامي التبادل هذا.
تلك الشفراتُ الحجريةُ الفنية المسماة الأختام، أعطت تلك المعلومات الشحيحة، وقد عكف للحصول عليها ودرسها والحوار حولها باحثون كثيرون، وضعوا الخطوطَ العريضة لذلك المجتمع الصغير الطالعِ من بين الأحجارِ والزرع الضاري والبحر المحاصر.
في مستوطنة قرية سار البحرينية ذات التسمية الحديثة التي عكف على درسها الآثاريون الغربيون تتواجد البيوتُ الصغيرة المتقاربة، ذات السكان المعتدلي الأعداد، وثمة شارعٌ رئيسي تصطفُ حوله البيوتُ الأكثر تميزاً إجتماعياً، ووُجدت الأختام في العديد من البيوت بدون أن تكون دليلاً على أمور إقتصادية فحسب.
لكن الملاح التجارية باروة:
هناك (طرود أحتوت على أصناف عديدة من المواد الصلبة من أقمشة و"حُصر" وربما مواد غذائية.) و(تظهر علامةُ مُلاكٍ على جرة مطبوعة، بين رقبة وكتف هذه الجرة مما يعني إنها أحتوت سائلاً كالجعة أو ربما نوع من الزيوت معدة للبيع)،(كتاب الأختام الدلمونية المبكرة من سار، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ص 56).
المفردات التجارية الأخرى عديدة مثل أن الأختام وُجدت بنسبةِ ثلثٍ في بيوت الشوارع الرئيسية المميزة، ولا يُلاحظ وجودُ جهازٍ بيروقراطي وسيطٍ لتداول هذه البضائع، مما يُرجح وجود إنسياب في تدفق السلع من المستوطنة للعالم الخارجي، (كما أن مجموعة صغيرة من الأقراص ربما تم إستخدامها كتعريف أو تصريح من قبل أشخاص خاصين أو رجال أعمال)، ص 75.
(إن بعض السكان كانت لهم نشاطات تتعلق بمنتجات محلية كالجعة والأقمشة والتي تم فيما بعد مقايضتها مع جيرانهم)، (يبدو أن المجتمع في سار كان متساوياً وشبه مستقل).
(يمكن القول أن رجال أعمال مستقلين قد استخدوا هذا النظام البسيط لتمكين مرافقيهم من أداء العمل نيابةً عنهم، فتعطي تلك الأقراص للموزع للاقرار باستلام البضائع أو المؤن، وبالتالي يمكن إستعادة القيمة عند إبراز هذه الأقراص)، ص62.
هذا النظام التجاري التبادلي المكِّون الأساسي للمستوطنة، يظهرُ في مستوطناتٍ أخرى في دلمون، لتغدو البلد جزءً من شريان تجاري عالمي أوله هو منطقة شرق الجزيرة العربية التي لم تكن عربية وقتذاك، وكذلك جزيرة فيلكا، ثم تتكاثر خيوط الاتصالات مع جنوب العراق، ثم سوريا خاصة؛ ويتمكن الباحثون من الربط من خلال أدلةِ الأقراص ورسوماتها؛(وهذا المشهد ذو الجرة الموضوعة على الأرض أكثر شيوعاً في سوريا منها في بلاد الرافدين، ويمكن رؤية نفوذ هذه المنطقة أيضاً في صورة القرد الغريب أو الكائن الذي يشبه النمس على عدد من أختام دلمون المبكرة).
الآثار والكتاب لا يقدم لنا أسباب هذه الصلات القوية بسوريا، لكن نحن نعرفُ بعضَ الخيوط الواهية حول خروج ذلك الشعب الذي أُطلق عليه الشعب البحري والذي سُمي بعد ذلك بالكنعانيين أو الفينقيين حسب مصطلحات الشعوب لتحديدهم، وبعد قرون عديدة وهم يبحرون ويسكنون مرافئ ومناطق الجزيرة العربية الساحلية نحو البحر الأحمر ثم نحو البحر الأبيض المتوسط وتكوين الدويلات المدنية المعروفة على شواطئ البحر الأبيض الشرقية.
أما اللغة التشكيلية في الأختام المركزة على الكائنات الحيوانية فهي تعكس لغة الوعي التي ترى هذه الحيوانات المقدسة كالثور والحيات وغيرها كثير، ويظهر معها الإنسان التي يتداخل بها ويصطادها ولكن مساحة الأختام الصغيرة الصعبة في الحفر والتشكيل لا تتيح تفسيرات مهمة عن هذه العلاقة بين الكائن البشري الذي يظهر عاماً وسلسلة طويلة من الكائنات من الثور حتى القواقع والسرطانات، وهذا كله إنعكاسٌ بسيط لعلاقة الكائن البحري الزراعي بالمخقلوات المنتشرة التي تحيطُ به.

⇦ القرامطة
⏎ الجذور التاريخية
لا بد لكي نعرف حياة أقليم البحرين في العصر الوسيط وتطوره ، لا بد من إلقاء نظرة موجزة ومكثفة على الظروف العامة لتشكله ، ففي ذلك الحين كان إقليم البحرين الممتد من جنوب البصرة حتى مشارف عُمان ، وفي قلب هذا الإقليم يقع ساحل هجر وجزر أوال ، وما يحيطهما من صحراء وبحر . وهذا الإقليم وحده بين شرق الجزيرة والعالم الذي يجمع النقيضين وهما بحران من ماء عذب وملح أجاج ، وقد جاء ذلك في القرآن .
نشأت أسس المعارضة الطويلة في الإقليم بسبب الظروف التي لابست تطور الدولة الإسلامية ، فقد جاء في معاهدة العلاء الحضرمي بأنه :
[هذا ما صالح عليه العلاء الحضرمي أهل البحرين على أن يكفونا العمل ويقاسمونا الثمر] ، ولم تعجب أهل البحرين هذه القسمة فارتدوا مع من ارتدوا عن سيطرة المركز في المدينة ، ولكن جعل الفتوحات الأولى لفارس عن طريق البحرين جعل هذا الإقليم جزءً من عمليات الفتوح الكبرى وآثارها المختلفة ، و في عصر الدولة الأموية تم تجاهل هذا الإقليم تماماً ، حيث غدا جنوب العراق وخاصة البصرة هو مركز التجارة والاستيراد والتصدير ، مما جعل الإقليم مهمشاً على الصعيدين الاقتصادي والسياسي .
[أما الزراعة فكانت مزدهرة هي الأخرى خصوصاً في ساحل هجر وفي جزيرتي أوال وتاروت، وتحيط بهذه المنطقة بادية كان يسكنها عبد القيس وبكر بن وائل وتيمم قبل الإسلام ، وكان جل اقتصادهم يرتكز على الرعي والغزو أو أعمال القرصنة.] ، (1) .
إن موارد الإقليم مهمة في الزراعة والرعي ولكنها تكاد تكفي للحياة الداخلية ، فقد عُرف هذا الإقليم بالفقر الشديد ، ولكنه كان يرسل الخراج بصورة منتظمة إلى العاصمة دمشق ثم بغداد ، مما جعله يتحول إلى مركز دائم للمعارضة والثورات ، فأنتج الخوارج ثم القرامطة وهما أكبر حركتي معارضة في التاريخ الإسلامي والعالمي القديم .
إن هذا يعود لتأثرات القبائل الفكرية والسياسية البحرينية بموجات المعارضة الكبرى التي كانت تنتجها إيران ، والتي كانت تمر أو تختمر في جنوب العراق، ثم تنمو في إقليم البحرين البعيد عن السيطرة المركزية .
فقد عُرفت قبائل عبد القيس وتميم خاصة بالصلة المستمرة بالسواحل الفارسية ، نظراً لتداخل المصالح والهجرة والانتقال السكاني المتبادل على مر التاريخ ، ولم تكن هذه المنطقة ذات كثافة بشرية كبيرة ، فأثر فيها الفرس وحكموها ردحاً طويلاً من الزمن .
وقد تأثرت قبيلة تميم خاصة بالأفكار الثورية القادمة من فارس ، خاصة أفكار المزدكية والمانوية ، وعبر هذه القبيلة تغلغلت أفكار الزهد عند بعض الشخصيات التاريخية العربية ، لكن هذه القبائل وقد رأت الحكم يتركز في قريش أعلنت التمرد، وطرحت شكلاً شعبياً للحكم رفضت فيه الاحتكار القرشي ، ثم تحولت هذه العملية إلى حركة سياسية كبرى ، انتقلت من العراق إلى موطنها الطبيعي ، ومركز قبائلها وهو إقليم البحرين ، الذي قام بحماية الحركة على مدى قرون في حين كانت الحركة تذوب وتتلاشى في الأقاليم العربية الشمالية . ولعل حركة التمرد الطويلة هذه من الأسباب التي زادت هذا الإقليم فقراً على فقره . وأخذ ينعزل عن حركة التطور الاقتصادي الواسعة في الإمبراطورية الإسلامية حينذاك .
لا نستطيع أن نفعل كما يفعل المؤرخون والباحثون بالتركيز على العوامل الفكرية باعتبارها المحرك الأكبر لبعض سكان إقليم البحرين بالتوجه إلى حركات المعارضة العسكرية الكبرى ، بل نرجعها إلى ظروف الفقر الشديد والشظف والبداوة والحرمان وعزل المنطقة عن التجارة المزدهرة وعن الإصلاح التي جعلت هؤلاء السكان يتعاطفون بسرعة شديدة مع تلك الحركات .
فمن الصعب تصديق الرواية القائلة بأن أبي سعيد بن بهرام الجنابي مؤسس الدولة القرمطية في البحرين بأنه شخص يمثل أفكاراً كبيرة وناضجة، فنحن نجد الرجل يلتقي بحمدان الأشعث ثم يعتنق الأفكار التحولية هذه ويندفع إلى البحرين في ظرف زمني قصير ثم يشكل دولته العتيدة .
ولكن إذا حاولنا تفحص هذه المسألة بدقة ، فسنجد إن أبا سعيد كان شخصاً مغامراً يبحث عن فرصة سياسية للصعود، وهو بدلاً من أن يتجه لدعوة فكرية طويلة نراه يبحث عن قبائل الغزو والجريمة لكي يضمها إليه:
[وحين توجه أبو سعيد الجنابي بالدعوة إلى العرب أجابه بنو الأضبط من كلاب.. وهؤلاء ليسوا من قبائل البحرين القديمة ..فجمعهم أبو سعيد فضم إليهم رجالاً وساروا فأكثروا من القتل ] ، (2).
هكذا نجد أبا سعيد وهو يشكل حركته من القبائل المجهولة ومن قطاع الطرق، وكانت أول حركة سياسية عسكرية له هي تدمير مدينة هجر، [ ولم يوفق بالسيطرة عليها إلا بعد أن قطع الماء عنها وفر بعض أهلها في البحر ودخل بعضهم دعوته وخرجوا إليه وبقيت طائفة لم يفروا لعجزهم ولم يدخلوا في دعوته فقتلهم . وأخذ ما في المدينة وخربها فبقيت خراباً وصارت مدينة البحرين هي الأحساء] ، (3) .
وفي حين نجد الحركات الثورية والإصلاحية تقوم ببناء المدن وتشكل نهضة مدنية، نرى أبا سعيد يبدأ تاريخه بهدم مدينة عريقة ، عبر تحالفاته مع القبائل الفقيرة والأعراب وتحويلهم إلى قوة عسكرية ضاربة ، وجعله الغزو المدمر علامة لسياسته التخويفية .
بطبيعة الحال هناك تشنيعات كبيرة بحق القرامطة، لكن ثمة خيطاً من الحقيقة في هذه العمليات العسكرية . فالرجل بعد إنشائه مدينة الإحساء طور الحياة الاقتصادية عبر إصلاح المزارع ومساعدة الفقراء المحتاجين وجعل الإحساء عاصمة كهجر السابقة ، وفي رأيي فإن أبا سعيد لم يفعل ذلك إلا ليؤمن الجبهة الداخلية لنظامه العسكري استعداداً لجعل سياسة الغزو المورد الاقتصادي الحقيقي والواسع للدولة .
ولم يكن غزواً يؤدي إلى توسع الدولة ونمو علاقاتها وتطور مدنها وثقافتها ويشكل انقلاباً حضارياً في جسم الدولة العباسية الشائخة والمتعفنة وقتذاك ، بل كان الغزو هجمات على المدن بغرض السلب والنهب ، فحين غزا القرامطة البصرة سنة307 هـ [ نهبوها وقتلوا وسبوا أهلها] ، [وضعوا السيف في أهلها وأحرقوا البلد الجامع ومسجد طلحة وهرب الناس وألقوا بأنفسهم في الماء فغرق معظمهم] ، (4) .
لا نستطيع أن نفهم هذه العمليات العسكرية بغرض البناء السياسي وإنتاج بديل لنظام قديم أو نعتبرها محاولات لتشكيل نظام في حالة من البحث والمخاض ، فهؤلاء الغزاة لا يحملون فكراً أو علاقات اقتصادية وسياسية جديدة ، إنهم مجموعات من قبائل الغزو والإغارة ، فقد كان بالإمكان حكم البصرة وإعطاء سياسية اقتصادية جديدة ومفيدة للمدينة ، ولكنهم لا يملكون هذا الوعي لقراءة واقع وحياة المدينة ، وبالتالي استبصار مسار الدولة العباسية وتقديم بديل لدولة إقطاعية شائخة . أي لو كان هؤلاء متطورون فكرياً واقتصادياً لوضعوا التاريخ العربي على مسار آخر .
كان البديل سوف يـُنتج لو أنهم حرروا فلاحيهم البحرينيين من الاستغلال والإقطاع ، ولكن نظام السخرة والعبودية واستغلال الفلاحين ظل مستمراً ، فكان هناك [ السادة ] وهي الفئة الحاكمة التي تملك العبيد والخزائن والأراضي والمطاحن ، وبقربها طبقة من الملاكين الخاصين ، وفي القاعدة جمهور الفلاحين والعبيد والبدو .
كان توسع القرامطة في استخدام العبيد تعبيراً عن فقر المنطقة في إنتاج علاقات اقتصادية متطورة وثقافة متطورة ، وكان الاعتماد على القبائل الرعوية المتخلفة يجسد كل ذلك .
تعبر الاختلافات السياسية والفكرية بين الفاطميين والقرامطة عن المدى الكبير بين المستوى الحضاري والمستوى الرعوي المحدود . وحين يقال بأن القرامطة والفاطميين هم نتاج حركة واحدة هي الإسماعيلية فإن ذلك صحيح بالأجمال ، فنجد إن أساس المغامرات السياسية والعسكرية متشابه في نمو هذه الحركة بفرعيها الفاطمي والقرمطي ، حيث اعتمدت كلتاهما على الأفكار الإمامية الإسماعيلية ، وعلى مغامرين سياسيين يتوجهون إلى مناطق التوتر الاجتماعي والسياسي ، فيدّعون رسالات ويزعمون اتصالاً بالغيب الخ.. ويقومون بتنظيم القبائل الرعوية ودمجها في حركتهم والارتكاز عليها لتشكيل دولة وعبر إعطائها الغنائم .
ولكننا نجد إن مسار الفرعين جد مختلف ، فبينما شكل الفاطميون حضارة وثقافة رفيعة ، وتوسعوا ، وأعطوا مصر ركائز لتطور حضاري عميق تال ٍ، نجد القرامطة بلا إرث ثقافي وبلا تشكيل لنهضة مستمرة ، بل قاموا بإفقار المنطقة وتحويلها إلى منطقة بدوية متخلفة بشكل شامل .
وتعود هذه الأسباب ، بطبيعة الحال لمستوى تطور البلدين الاجتماعي : مصر وإقليم البحرين ، ولكن أيضاً للممارسات السياسية المختلفة للجماعتين ، فقد توجه الفاطميون في غالب حياتهم التاريخية للبناء السياسي والاقتصادي والفكري ، في حين عاش القرامطة أغلب تاريخهم على الغزو والحروب .
وإذا كان للفاطميين مشروعهم السياسي الذي لا يحيدون عنه وهو تشكيل دولة موحدة تضم العالم الإسلامي بأكمله ، في حين إن القرامطة كانوا بلا مشروع ، وكانوا قد اقتربوا من بغداد العاصمة تماماً ، ولكن حولوا المعركة إلى مذابح . والأمر لا يعود لقطع أحد الجسور عليهم ، بل لغياب الجسر الفكري والاقتصادي مع السكان ، وعدم قدرتهم على تشكيل بديل حضاري ، بل أن السكان وجدوا في العباسيين على جبروتهم واستغلالهم نظاماً أكثر حماية للنفس والعرض والوجود عامة . لكن الفاطميين هم كذلك لم يستطيعوا حل التناقضات الاجتماعية التي وعدوا بحلها ، لكنهم حافظوا على العلاقة بين الظاهر والباطن ، بين الأحكام الإسلامية العامة وبين الوعي الغيبي الذي يؤمنون به ، في حين عجز القرامطة عن تشكيل جسر بين الظاهر والباطن ، بين السيرورة الإسلامية العبادية والمعاملاتية وبين أفكارهم .
وإذا قيل بأن الدول التي جاءت بعد القرامطة والفاطميين أزالت آثارهم ومحت سيرتهم من ذاكرات الأجيال ، وهذا صحيح ، ولكنها لم تستطع أن تزيل التاريخ الفاطمي والإسماعيلي، نظراً لكثرة التأليف والإنتاج فيه ، واستمراره التاريخي ولكن القرامطة لم يورثوا شيئاً .
ولهذا لا نجد أبنية لهم أو مؤسسات اقتصادية وعمرانية باقية ، مثلما نجد للديلمونيين مع بُعد الحقب بيننا وبينهم و رغم استمرار القرامطة على مدى أكثر من قرنين .
من المؤكد إن ذلك يعود لطبيعتهم الاجتماعية كجماعة مغامرة سياسية ارتكزت على الرعاة والأعراب المتخلفين ، وكان قرامطة البحرين أفضل حالاً من قرامطة سوريا الذين كانوا أكثر عنفاً ، في حين كانت بداية الحركة على يد حمدان بن قرمط في جنوب العراق أكثر تطوراً ، لكونها تحولت إلى حركة تعاونية فلاحية ، وهذا يعود كذلك إلى المستوى الحضاري العراقي ، قياساً بالجزيرة العربية وهيمنة البداوة عليها .
وفي دراسة موثقة بعنوان [ الفاطميون وقرامطة البحرين]، كتبها و.ماد لونغ، وهو أستاذ العربية في جامعة أكسفورد، ومن المختصين القياديين في الدراسات الإسلامية، وهو مرجع مختص بالحركات الإسلامية في العصور الوسطى كما تعرفه دار النشر، يثبت فيها تباين القرامطة عن الفاطميين، ويفند الصلة بينهما ، (5) .
في هذا البحث نجد إن الارتباطات بين الحركتين هي ارتباطات فكرية في بداية الأمر ، ثم ما لبثت كل حركة أن نمت في منطقتها ، بحيث إن الفاطميين تحركوا ليس على المستوى العسكري فحسب ، ولكن على مستويات المعرفة والعلوم والإنتاج الثقافي عموماً ، فظهر مفكرون وباحثون وفلاسفة ، ثم امتدت الحركة إلى سوريا ، وشمال إيران ، وحين وقعت هذه الحركة في مناطق جبلية وقروية ضيقة ، وكان رمزها قلعة الموت، أصيبت بما أصيبت به الحركة القرمطية في البحرين من ضيق فكري وقصر نظر سياسي ، فاعتمدت الإرهاب والاغتيال أداة للتغيير .
وعموماً فإن الحركة الإسماعيلية ذاتها لم تطرح برنامجاً اجتماعياً تقدمياً لتطور العرب والمسلمين ، وتجمدت عند المستوى التقليدي للحركات الدينية.
تبدو ضخامة أخطاء القرامطة في كثرة الحروب والموقف من الدين ، والوجهان معبران عن رؤية داخلية مأزومة.
ومنذ أن تكونت بنية اقتصادية في الإقليم والدولة توجه طاقتها نحو الحرب التي اتسعت رقعتها ؛ من شن الهجمات على العراق وسوريا حتى مصر ، ثم السيطرة على طرق الحجيج ، وكل هذه العملية الاستنزافية هي من أجل المال ، نظراً لأن دولة القرامطة كانت ذات موارد محدودة ومشروعاتها العسكرية لا تتوقف .
وفي الحروب لم تكن لها مواقف ثابتة ، فكانت هجماتها الأولى لسلب المدن العراقية الجنوبية ، ولم تطرح على السكان تبديل نظام الحكم ، والعمل من أجل مشروع سياسي جديد ، لأن حكام الدولة لا يمتلكون أي تصورات مهمة .
واضطراب المؤرخين والباحثين بكون حركة القرامطة منبثقة من الاتجاه الإسماعيلي أو الاتجاه الحنفي ، أو إنها جاءت تحت تأثير الثورة البابكية التي انفجرت ضد المأمون ومن بعده من الخلفاء ، فكل هذه المحاولات للبحث عن شخصية فكرية هي غير مجدية لأن الحركة بلا هوية عميقة ، فهي نتاج مجموعة سياسية عامية ، ازدادت عاميتها وأميتها الفكرية مع اندماجها المتواصل مع أعراب الجزيرة ، واعتمادها على أسلوب عيشهم المتكرس بالغزو .
ويبدو غياب المشروع والأمية والعدمية الثقافية من اعتماد العنف وسيلة للبقاء ، وكذلك الهجوم على الدين ، ويبدو الهجوم هنا ليس نقداً أو تحليلاً واكتشافاً لجذور الأديان في المنطقة ، ومعرفة سببياتها وأهدافها ، بل هي عملية إنكار أمية لها ، تتجاهل شعائرها وقراءة أفكارها ، ثم تصبح استهزاءً بها وعنفاً ضد مظاهرها .
إنها أرستقراطية من نوع جديد ، فهي قطع مع التراث بصورة دكتاتورية ، وهي تعالي على المؤمنين ومقدساتهم ، وسيطرة عنفية على حياتهم وتوجيهها نحو الحرب .
ومن هنا نجد الفاطميين أصحاب مشروع فكري وتنظيم توحيدي بينما هؤلاء مجرد قطاع طرق تاريخية ، ولهذا كان لا بد أن يصطدم الفاطميون والقرامطة ، فالقرامطة كان يخربون المشروع السياسي التوحيدي الفاطمي ، ولهذا كان الإسماعيليون مؤمنين إسلاميين ، لهم رؤية خاصة في هذا الإيمان ، أما القرامطة فأناسٌ عدميون لم يستطيعوا أن يشكلوا لهم رؤية خاصة في الإسلام ، لأن تشكيلهم لرؤية إسلامية خاصة يعني تجذرهم في المنطقة واستيعاب تراثها وطرح برنامج ما لتحويلها ، وإقامة علاقة بالمؤمنين ، وحماية أرواحهم وليس هدر دمائهم .
ويبدو إن القرامطة هم أناسٌ من بقايا ومتشردي الحركة البابكية الفرس الذين انتقلوا للضفة العربية بعد فشل مشروعهم في إيران ، ولهذا نجد معظمهم بأسماء فارسية، كأبي سعيد بن بهرام أو دادويه أو حسين الأهوازي الخ ثم واصلت القيادة القرمطية حياة العزلة العميقة عن المحيط العربي مع هيمنتها على الأموال والأرواح .
وقد وقعت جزر أوال مثل بقية إقليم البحرين في قبضة القرامطة ، لكنها لم تكن عاصمة الحكم ، وفي مركز القرار ، فهي ثالثة الأثافي بعد الأحساء والقطيف ، وقليلة هي الإشارات التي نجدها في الكتب القديمة عن جزر أوال ، وأسم أوال هو في الواقع يعبر عن مرحلة من التداخل بين انتهاء العصر القديم والعصر الوسيط . وهناك إشارات محدودة لأسم أوال في هذه الدراما الرهيبة :
في سنة 361 هـ - 972 م وقعت في أقليم البحرين الذي يسيطر عليه القرامطة ثورة سابور الذي كان أكبر أولاد أبي طاهر الجنابي ، قائد الدولة البارز والراحل ، وسابور وأخوته كانوا قد أبعدوا عن الحكم ، فلم يرض سابور بذلك ، وقام بانقلابه الذي لم ينجح فيه ، فأودع هو وأخوته جزيرة أوال .
وقد وجه المعز حاكم مصر رسالة شديدة اللهجة إلى الحسن الأعصم الحاكم يحتج على وضع أولاد أبي طاهر في السجن بجزيرة أوال ، (6) .
لا يعني ذلك إن أوال كانت سجناً فقط ، بل كانت كالقطيف وجزيرة تاروت تجمع بين الزراعة والغوص من أجل اللؤلؤ ، وتقوم بإرسال دخلها إلى الأحساء . ومن هنا كانت كبقية أجزاء الدولة القرمطية توظف أموالها لحروبهم التي تستنزف الموارد القليلة .
من أفكار عبدان
تحت عبارة من هو عبدان يقول المحقق عارف تامر :
[ كل ما نعرفه إن انتساب هذا الداعي للدعوة الإسماعيلية قد تم على يد حمدان بن الأشعث المعروف [ بقرمط ] ومما نعرفه عنه أيضاً انه تزوج ابنة حمدان ، وأنه تثقف في مدرسة الدعوة بسلمية – سورية وكان من ابرز الدعاة وأغزرهم علماً وفلسفة ، ومن الجدير بالذكر انه قــُتل أخيراً على يد ( زكروية بن مهروية ) الذي قاد جيوش القرامطة في الدور الأول وأزاح من أمامه المعارضين ومنهم عبدان ] ، (7) .
تصاغ أفكارُ عبدان في كتابه [ شجرة اليقين ] بأسلوب غامض مكرور ، تختلطُ فيه الفصحى والعامية ، وهو يجمع بين شخوص الغيب من الإله والأنبياء والملائكة والشياطين والأولياء في عجينة غيبية تمتد من السماء إلى أغوار الأرض السحيقة ، جامعة بين النصوص الدينية القرآنية خاصة بتلفيق واسع ، وبين أفكار غريبة وتحولات باطنية للأئمة القادرين على كل شيء .
يبدأ عبدان كتابه بجعل سطوره معبرة عن الحقيقة المطلقة التي لا تعرف سوى أثنين أما مصدق تام فيكون من المؤمنين الداخلين الجنة وأما من المكذبين الأشرار الذين يدخلون النار :
[ وبعد .. فان من ينظر في آيات كتابنا هذا الدالة على الآفاق والأنفس ويطلب حقائقها ، ويقف على علومها ، ومطابقتها للشرائع والأحكام ، ويتقبلها بالشكر والقبول .. يكون في جملة من أطاعوا الله جل ذكره ..( ...) .. وأن كل من ينظر في هذه الآيات الموجودة في الآفاق والأنفس ، والدلالات الباطنة فيها ، ولا يطلب حقائقها وتأويلاتها من أرباب الدين ، وأصحاب اليقين ، فيكون من الأبالسة والشياطين الذين استوجبوا غضب الله وخذلانه وحرمانه ، كقوله تبارك اسمه : ((إذ قلنا للملائكة )) ، (8) .
يحدد عبدان بأن بيانه هو بيان جماعي ينطق هو به لكنه منتشر يحدد تأويله أرباب الدين ، فهناك جماعة هي وحدها القادرة على تحديد الحقيقة وإدخال الناس فيها .
وهنا يستشهد بآية من القرآن ، فيدغم القول البشري بالقول القرآني : (( إذ قلنا للملائكة )) ، رغم أن الآية ليست ذات صلة بالرأي الذي عرضه ، لكن عبر هذه الآية الُمقحمة يغدو أمر الجماعة المستورة الباطنية هو أمر السماء ، عبر إنزال سياسي على العبارات . ثم يضيف :
[ (( أسجدوا لآدم )) أي اخضعوا للناطق وناطق كل دور من الأدوار مثل آدم – ومعنى آدم أي انه خلق من أديم الأرض وأديم الأرض هو ظاهرها . (( فسجدوا إلا إبليس )) ، ففسق عن أمر ربه – أي خرج عن أمر الناطق وأصبحت ذريته من ( القشرية ) وهم الذين وضعوا أنفسهم في غير موضعها ، وعندما أخبرهم جلّ ذكره فيما ينظر إلى ما خلقه في الآفاق والأنفس من الدلالات والآيات ، لم يتفكروا فيها ، ولم يطلبوا حقائقها . فتبرأ منهم ، وحرمهم من رحمته ورضوانه . ] ، (9) .
يحيلُ عبدانُ آدمَ ، كما يـُـقال في الوعي الديني المشرقي ، بأنه أبو البشر والأنبياء ، إلى ناطق ، إلى زعيم سياسي قائد ، إلى منتمٍ إلى تلك الجنة السماوية ، ويمكن عبر تأويل معاصر أن نقول بأن تلك الجنة هي أرض الفلاح الُمستلبة ، وأن آدم هو بداية للناطقين باسم تلك الحقيقة الأبدية التي تسير فوق الزمان والمكان ، ولكل ناطق خصمٌ يعاديه وينافسه وخصم آدم هو الشيطان ، والهدف هو الجنة السماوية أو الأرض الزراعية والسياسية المعاصرة .
وتعبرُ هذه الثنائيةُ الصراعيةُ عن قوى الشر والخير المتضادة ، وقد تحولت إلى رموزٍ مجردةٍ ، لا تتبلورُ بمضمون معين ، وهي خاضعةٌ لمنطقِ السارد ، وهو عبدان ، الذي يحيلُ كلَ رموز آدم ، أي كل رموز الخير وهم الأنبياء التالون والأئمة وأصحابهم ومن والاهم ، يحيلهم إلى الإيجابي والخلاق في التاريخ أما عنصر الشر وتجلياته فهم الأسماءُ الشريرةُ التي سيذكرُها لاحقاً ، وهي التي ستـُعاقب في جهنم وهي الرمز المضاد للجنة ، في حين يكون موضع الأخيار هو العودة إلى تلك الجنة ، وهي في الحقيقة تملك الأرض السياسية والسيطرة عليها .
ويكمل عبدان :
[ وقد جاء انه لا بد لكل ناطق من النطقاء السبعة من إبليس يكاشفه ويعاديه ويضل أمته عن الصراط المستقيم ، والدليل على ذلك قصة آدم المكررة سبع مرات في القرآن الكريم ، وقد أراد جلَّ ذكره من تكرارها سبع مرات أن يذكر بأن مثل آدم سبعة نطقاء .. أولهم آدم وآخرهم الناطق ..] ، (10) .
يجعل عبدان التاريخ البشري متداخلاً والتاريخ الغيبي ، فإضافة إلى صورة الإله المتحكمة في كل شيء التي يشكلها عبدان ، فإن القرآن يمثل الكتاب السري للتعريف بتلك الحركة المتداخلة بين السماء والأرض ، بين الإله والبشر ، ولهذا فإن القرآن في إشاراته الرمزية تلك ، يعرض قصة آدم سبع مرات لا أكثر ولا أقل لتبيان عدد الناطقين الذين سيظهرون للناس ، دون أن يقوم القرآن بعرض ذلك بشكل مباشر !
ولا يرتبط هؤلاء الناطقون السماويون بأي سببية تاريخية أو بأهداف محددة ، فهم يظهرون بتسللهم السباعي فقط ، وكأن هذا التسلسل السباعي هو من يحدد التاريخ الغائب الملامح والأسباب ، ويقوم عبدان هنا بإدخال حركته السياسية في ذلك التسلسل الإلهي الغيبي المفروض على البشر ، فالقائم هو تتويج لسلسلة الأنبياء وختامهم .
ثم يقوم بذكر هؤلاء السبعة ، [ فإبليس آدم هو عزرائيل وشيطانه قابيل ، وإبليس نوح حام ، وقد جاء في الخبر إنه رأى عورة أبيه وهو نائم ، فأطلع على ذلك أخوته كنعان وسام ويافث ، ولم يستره .. والمعنى : إنه كشف عن ما وصل إليه من أبيه من العلم الذي لا ينبغي كشفه إلا لأهله ، وقد نصحه أبوه فلم يرتدع ، وأصر على المعصية ، ولم يتب فاكتسب مقام الإبليسية ، وغرق في الطغيان ..] ، (11) .
إن صورة الشر لا تكتفي بنموذج غيبي بل تشكل نموذجاً إنسياً كذلك ، فعزرائيل الملاك المكلف بأخذ الأرواح يتحول عند عبدان إلى رمز للشر ، ولم يجد في فترة آدم سوى قابيل ليلصق به وكالة الشر الأرضي . ثم جعل إبليسَ نوح هو ابنه حام ، كما جاء في قصة التوراة الأسطورية لتفسير الأجناس البشرية وهم : سام وحام ويافث . ويرتكب عبدان خطأً تاريخياً هنا حين يجعل كنعان أخاً منهم ، وهو اسم لشعب سامي من الجزيرة رحل إلى الشام .
وقصة التوراة الساذجة لتفسير تعدد الأجناس البشرية تربطها بظهور عورة نوح وسخرية حام من هذه العورة فتحل لعنة نوح عليه ليكون جنساً بشرياً متصفاً بلون معين . لكن عبدان يجعل القصة ذات بعد رمزي ، فتتحول العورة إلى هدف باطني ، والغطاء يصيرُ ستارة الظاهر التي اندفع حام ليزيحها كاشفاً المستور ! ، (12) .
إن الأنبياء والشياطين المتصارعين يرتبطون بلوحة مجردة ، تشكلها عملية الصراع بين التبعية للحاكم المطلق الذي هو الإله ، وبين الشيطان الذي يريد تخريب تلك التبعية ، والطرف الأول يدعو لجوانب معينة ويغدو نقيضها هو المعاصي . ثم تغدو هذه الأوامر الإلهية شريعة بعد آدم لدى موسى ثم تصير عند عيسى هي أمر وشريعة الخ..
وكل هذا يجري في فضاء غيبي ، وعبر صراع إلهي شيطاني تتداخل فيه العفاريت والنجوم والكواكب والأرواح في تكوينات غامضة ، وتتجلى بعد ذلك في الحديد الأصم ثم ترتفع درجة في النبات ثم تتجلى أخيراً في الإنسان .
[ إن المعادن موات ليس فيها من الأرواح شيء ، قوامها من التراب والماء والهواء والنار ، وقوام النبات من القوة النامية ، وإنها على أربع مراتب أسفلها وأقلها الحشيش وهو مقابل الأرض وثانيها في الحيوان وهو مقابل الماء ، وثالثها في الأشجار وهي مقابل الهواء ، ورابعها في البهائم والسباع وهي مقابل النار .. ] ، (13) .
ويتم ترتيب العالم غير المعدني بشكل رباعي له علاقة بتقسيمات أخوان الصفا ، ويتم إسقاط الحالة الرباعية على الكثير من الظاهرات من خارجها ، وليس بدراستها من الداخل ، ثم إدغامها بتكوين مادي عنصري . وهناك عمليات درس مسبقة للظاهرات الطبيعية ولكن يتم قسرها في المنهج المسبق .
فالروح هنا تتصاعد من العالم النباتي حتى تتمظهر في الحيوان الذي تغدو روحه الحسية ذات أربع مراتب كذلك .
فالمرتبة الأولى للسباع أقل الأرواح والأقرب للتراب . ثم في السمك وهي مقابل الماء ، ثم في الطيور وهي مقابل الهواء ، ورابعها في [ الأطفال والمجانين وبعض القشرية وهي مقابل النار.].
هذه هي الروح الحسية ، أما الروح الناطقة للبشر فتنقسم كذلك إلى أربع مراتب :
[ أسفلها وأقلها الأطفال وبعض القشرية المهملين وهي مقابل التراب فلذلك قلنا أن التراب دليل على البهائم ، وثانيها في المستجيبين والمأذونين والأجنحة الذين هم جن بالقوة ، وفي أضدادهم القشرية الذي هم شياطين بالقوة ، فلذلك كلفوا بطلب التأويل ... وهي مقابلة الماء ، وثالثها في اللواحق ، وفي أضدادهم المرتدين والفلاسفة وفقهاء القشرية الذين هم أبالسة بالقوة ، وهي مقابل الهواء ، ورابعها في الأئمة وفي أضدادهم الشياطين بالفعل وفي مقابل النار ] ، (14) .
يشكل عبدان هنا تراتبية ميتافيزيقية اجتماعية كما فعل سابقاً ، فالروح الغيبية تتمظهر تدريجياً وهي تصارع العفاريت ، فتغدو أقرب للتراب وهو شكل محايد ويتمظهر ذلك في الأطفال و[القشرية] المهملة وهم أهل السنة هنا ، ويتضح هنا الطابع الطائفي لهذا الوعي ، فتغدو العامة غير الإمامية وغير الباطنية الجوهرية من فصيلة القشور ، كما أن
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 08, 2019 12:04
No comments have been added yet.