عبـــــــدالله خلــــــــيفة's Blog: https://isaalbuflasablog.wordpress.com , page 103
July 28, 2019
عبـــــــدالله خلــــــــيفة: أفكار سياسية دينية
[image error]
المؤمن والملحد يتحدد إيمانهما أو إلحادهما بدور هذا الإيمان والإلحاد في تقدم جماعة المسلمين، في مقدرتهما على جعل الرموز فاعلة في التقدم، فحين يكون المؤمنُ مفرقاً ممزقاً للجماعة، لا قيمة لإيمانه.
وأهم رموزُ الجماعةِ هي الإيمانُ بالألوهية الواحدة، وهو ليس رمزاً مجرداً، بل واقعاً حياً، فالدولة العريضة التي نشأت في ظلاله، هي جسده الحي على الأرض وبين الناس، وفي حراك التاريخ المتجه للتقدم والمساواة والحرية، ولهذا فإن الحاكم على هذا الجسد السياسي الهائل يغدو غير موحد وهو يمزقُ هذا الجسدَ بخراجه المتعسف، وبأناينته التي جعلت الدولة حكراً على إستغلاله وشهواته.
توحيدُهُ يغدو شكلياً مجرداً وأن لبس مظاهر العبادات المختلفة، ونطقَ بالإرثِ المعتمد لدى لجماعة، فهو ممزقٌ لوحدة ذلك الجسم العريض للدولة؛ موحدٌ شكلاً مفرقٌ عملاً، وهو يجردُ ثقافةَ الجماعة ويجعلها شكليةً عاطلةً عن العمل والوجود الحي.
المؤمن أو الملحد الذي يعارض تفكيك جماعة المسلمين ويعمل على بقائها وإستمرارها في أشكال التوحد والتقدم إنما يقوم بمناقضة فعل حاكم الدولة الواسعة التي تتفكك بفعل سياسة الأنانية الاجتماعية والإدارة البيروقراطية المنفصلة عن حاجات الناس.
هو يفهم الرموز الإسلامية في حراكها بين الناس، في مضمونها الحي، في تطور الأكواخ إلى بيوت، والخراج المتجة للمتع والاستغلال إلى خراج متجه لمصالح الجماعة.
هو يعقلن المجرد، وذاك يفكك المجرد، الأول يحافظ على وحدة الدولة، ووحدة الشعب فيها، والآخر يفكك الدولة ويقسم الناس فئات متعادية تؤدي للدمار.
شكلنة الرموز الدينية ربما تغدو بصراخ هائل، ودعاية ضخمة، وتصرف عليها الأموال، لكن العقول الموحدة لا تأبه بها، وتحلل المضمون، وتبقي الأثر، وتحمي ثقافة التوحيد الحقيقية لا أعلامها الزاهية، وشعاراتها الجوفاء.
لكن العقول غير الموحدة، الممزقة لجماعة المسلمين تستفيد منها وتعيش عليها، بمناقضتها الظاهرية، والسير مع مضمونها الممزقِ لوحدةِ دولة المسلمين الكبيرة، التي تغدو بفضل مثل هذه الثقافات الشكلية المفرِّغة من المضامين، والمؤيدة للتمزق، والتي تركب موجات الانفصالات وتكوين الدويلات، لا لتبقي الأثرَ وتحمي الرموز وتبقي على مضامينها بل لتقوم بما قام به الكبيرُ في مركزِ الدولةِ من إفراغٍ للوحدة من حقيقتها، والوحدانيةِ من مضمونِها المعبر عن حقِ كل مسلم ومواطن في العيش الكريم.
والمفرقُ الممزقُ لوحدة الجماعة يعومُ على اللاعقل، ويجدفُ بموادِ المستنقعات القديمة ليبحرَ في بحور الدماء وعرقِ الجمهور من أجله هو ومصالح جماعته الضيقة، فيخرجُ الأوشابَ العتيقة والعادات الجاهلية والأسطورية من تواريخ جماعاته المفككةِ ليحركها في ثقافة التوحيد، وليجعل العقلَ التوحيدي عقولاً ممزقة، وإرادت مشلولة، وعاطفيات مجنونة.
ولهذا فإن المؤمن والملحد يرى نتاجهما التوحيدي معياراً للإيمان، ولمدى قدرتهما على فهم رموز الأثر في العالم الحديث تعبيراً عن وحدة جماعة المواطنين، ليغدو توحيدهما للدولة والشعب المعيار مجسداً في العصر، أي أن شكلية الكلمات والشعائر وغربة الثقافة تقوض التوحيد، حيث يغدو جسم الدولة والشعب رمز الوحدة لكل شعب، وبين جماعات المسلمين المعاصرة، مدار التعاون والاختلاف، مدار الصراع ضمن الوحدة، والتباين ضمن الدفاع عن الأرض والوطن والإنسان.
وتغدو دول الأمم الإسلامية مجسدة عبر هذه الثقافة التوحيدية، لا التمزيقية والشكلية والاستغلالية، فلا دولة هي مركز مهيمن فتمثل المراكز القديمة التي أضعفت وحدة المسلمين ومزقتهم، فهي وحدة قائمة على المصالح المشتركة وإحداث التقدم، وعودة الخراج الزراعي كما في القديم أو الخراج النفطي الصناعي للبيوت والسكان والمصالح العامة كما في عالم اليوم.
وإذ نأخذ ثقافة الماضين بعقلنا الحديث، نؤيد التعدد في النظر الموجه لخدمة الناس في عالمهم السياسي التوحيدي، فأي ثقافة يغدو عملها تفكيك وتمزيق لإطارات الدولة والشعب تغدو خارجة عن العقلانية.
وعلى مستوى السياسة والنظر الفكري، وإنتاج العلوم.
عبـــــــدالله خلــــــــيفة: أفكار سياسية دينية
Published on July 28, 2019 06:59
July 25, 2019
عبـــــــدالله خلــــــــيفة: جدل الأنا والآخر وقلق الهويّة
[image error]
جدل الأنا والآخر وقلق الهويّة
…………….


…………….د. أنيسة السعدون
مثلت إشكالية الهوية إحدى القضايا الأساسية للرواية العربيّة؛ وقد تناولها عدد من الكتّاب بالنظر إليها من زوايا مختلفة، ووقفوا على وجوه علاقتها مع قضايا شتّى ومتباينة المجالات؛ بما يكشف تعدد الرؤى في رصد مظاهرها، وتعقّد عوام تكوّنها، وما يطبعها من صراع اجتماعي وثقافي وحضاري يجلّي آثارها المكينة في الشخصية العربية.
ولا شك في أن ثمة محددات تضبط هذا التعدد في الرؤى والمآلات، وأبرزها اختلاف طريقة معالجة الكتاب هذه الإشكالية بسبب ما يصدرون عنه من رؤية خاصة تعكس تفاوت درجة وعيهم لها، واختلاف انتماءاتهم الأيديولوجية، واهتماماتهم الفكرية. إلى جانب تبدل ما تشهده كز مرحلة تاريخية من ملابسات، وما تفرضه من قيم وتصورات وأفكار، وما تحتاج إليه من محركات تستجيب إلى مقتضيات المرحلة. ذلك أن الرواية التي صورت محنة الاحتلال ركزت على صورة الصراع بين غرب مستعمِر وبلد عربي مستعمَر، وما يمارسه المستعمر من أشكال القهر والاستلاب، في مقابل صورة العربي المحتج الصامد، أو الثائر من أجل التحرير. وأحسن الروايات عرصاً لهذا الواقع (مدن الملح) لعبدالرحمن منيف، و(الريح الشتوية) لمبارك ربيع، و(اللاز) للطاهر وطار. وقد وقفت روايات أخرى على العرب ما بعد الاستعمار، لتجسد آثار التفوق الصناعي والاقتصادي الذي يتبوأه الغرب على العرب؛ إذ وجدوا أنفسهم أمام صراع حضاري آخر يتجلى في الصراع بين غرب متقدم ومتحضر بينما هم يغرقون في التخلف على أكثر من صعيد، وهكذا اعتنت كثير من النصوص الروائية بأسباب هذا الصراع ومآلاته التي اقتضت ترسيخ هيمنة الغرب، وتعميق أشكال التبعية له، وإثبات مركزيته في مقابل هامشية العالم العربي، وإرساء الروح الفردية، والاقتصاد الرأسمالي. ومن أمثلة الروايات التي اكترثت بالنظر فى هذا الجانب (وليمة لأعشاب البحر) لحيدر حيدر، و(ألف ليلة وليلتان)، و(وشرخ في تاريخ طويل) لهاني الراهب، و( سلالم الهواء) لمحمد عبدالملك. فيما صورت روايات أخرى العلاقة مع الغرب على أنها موضوع افتتان، وأخذت تبحث فكرياً وجمالياً فيما يسود الغرب من قيم الحرية والعدالة والمساواة، وهي ما يتطلع إليه الإنسان العربي، ويتوق إلى تجسيده في أرضه. ومن هنا حرصت هذه الروايات على الدعوة إلى ضرورة الانفتاح على الآخر؛ لأنه «من المستحيل أن ندرك وجود أي كائن بصورة منفصمة عن علاقاته. التى تربطه مع الآخر»(1)، ولكنها بدعوتها هذه لم تغفل الإشارة إلى ضرورة صون مقومات الأصيل في الذات العربية الحضارية. ولعل الكتاب الذين سنحت لهم فرصة السفر إلى الخارج هم أبرز من كتب في هذا الاتجاه. نذكر منهم على سبيل المثال محمد حسين هيكل في روايته (زينب)، وتوفيق الحكيم في روايتيه (عودة الروح)، و(عصفور من الشرق)، ويحيى حقي في (قنديل أم هاشم)، والطيب صالح في (موسم الهجرة إلى الشمال)، ومحمد العروي فى (الغربة). وما ينبغي التأكيد عليه هو أن هذه الاتجاهات في التعبير عن إشكالية الهوية لم ترد في كثير من الروايات على هذا الوجه من التحديد؛ بل جاءت متشابكة
متداخلة تكشف تعقد مسألة العلاقة مع الآخر.
وإذ قد بان أنه لا يمكن قصر هذه العلاقة في إشكالها على صورة واحدة في الرواية، فكيف سيتجلى سؤال الهوية في رواية الأقلف؟ وكيف سيكون تعاطي الشخصيات معه؟ ثم ما موقف الكاتب من هذا السؤال؟
1 ـــ واقع الاستلاب وثورة البحث عن الكيان
(الأقلف) هو عنوان الرواية، وقطب الرحى فيها. إذ يحيل هذا العنوان إلى بطلها، وهو (يحيى) الذي عيره أهل حيه بهذا اللقب لأنه لم يُطَهّر كما هو شأن أي مولود عند المسلمين. وقد أشار الراوي العليم إلى ذلك في أكثر من موضع من الرواية إما على لسانه(2)، وإما على لسان الشخصيات(3). ولعل هذه النزعة التقييميّة في عنونة النص تضيء لنا، منذ البداية، الوضعية الاجتماعية ليحيى؛ إذ إن مخالفته سنة المسلمين؛ قد تفضي به إلى الاصطدام بقيم مستقرة، وأعراف أصيلة يقدسها المجتمع، وبالتالي تجعله محل ازدراء وسخرية، وإدانة ونبذ وتهميش.
جاء السرد في (الأقلف) بضمير الغائب، لراو يحتل درجة أولى من السرد، وقد افتتح النص برواية تفاصيل حياة شاحبة، ومواقف شائكة، تطرح إشكالية الإنسان المقهور. فالأقلف شابٌ لقيط، «وجد نفسه بلا أم ولا أب. ملحق بكوخ، وبأرض خلاء، وبسماء عالية، وثمة امرأة عجوز خرساء تغذيه بصرر الخضروات المنتزعة من البراري، وبكسرات الخبز اليابسة»(4). وقد قاسى (يحيى) كثيراً من بؤس الواقع، وما يسوده من ظلم وقمع واستلاب طبع مسيرة حياته؛ فهو منذ أن «كان طفلاً يتسلل كالقطة الصغيرة إلى الأشياء المهملة والمزابل، فينتزع أشياءه ومأكولاته منها»(5). على هذا النحو يخسر (يحيى) بشريته، ويفقد كرامته، ويأخذه الجوع إلى مكان قصى عن منازل الإنسانية. ولم يكن أهالي الحي، في علاقتهم به، بأحسن حالاً من تلك الظروف القاسية؛ فقد عاملوه بفظاظة وغلظة، وخصوه بأحط النعوت وأوضعها بالطعن في شرفه(6)، وأمعنوا في تعذيبه نفسياً وجسدياً؛ وهو الضعيف العاجز الذي لا حيلة له سوى الهروب، وأنّى له الخلاص منهم وهم يتعقبونه إلى فضائه الذاتي (كوخه)، فلا يستطيع أن يزاول فرديته، ويتحرر ولو إلى حين عن قيودهم وتطاولهم؛ فيقبع هناك «خائفاً من الرجال والأولاد الشرسين الذين يصفعونه، أو يتسلون باكتشاف جسده»(7)؛ إذ «كان شكله المميز؛ ولونه البرونزي؛ وعيناه الجميلتان، مدعاة لتحسسات لاذعة غامضة لجلده (…)، فيخاف ويحزن ويجري بعيداً حيث الكوخ، و”السيخ” الصدئ الذي يمنع أقدامهم من الدخول، لكن كلماتهم الفظة كانت تتقافز من خلال الخوص إلى مسامه مثل قراد الكلاب»(8). هكذا يقف الخارج عامل تهديد وتحد للداخل، فيخضعه لهواه ومشتهاه؛ ممارساً عليه ضرباً من ضروب الإرهاب النفسي الذي يتجسد في اوجه؛ في المقطع السابق؛ من خلال انتهاك ألصق حيز بيحيى وهو جسمه الذي هو موطن حرمة وقداسة في كثير من الثقافات.
ولقد صاغ الراوي بصوته الممزوج بصوت الشخصية الكثير من صور الحرمان ومعاناة الطفولة البائسة التي انفرد بها (يحيى) عن بقية أبناء حيه، ذلك من خلال مقارنات تظهر جوانب اختلافه البيولوجي والنفسي والاجتماعي. وقد ضاعفت هذه الاختلافات درجة حيرته؛ وأججت في نفسه مشاعر الضياع والوحدة وهو «يرى كل شرايين المدينة مرتبطة بالأمومة والأبوة»(9). ويراقب بإعجاب الأولاد تلاحقهم عصيٌ الآباء لتعيدهم إلى المدرسة(10)، ويحلم بعيشة مثلهم وهم «ينتزعون أمكنتهم على المسفرات الكبيرة الملأى بأطباق الأرز ودوائر السمك المشوي»(11). وما أجدت هذه الأحلام، وأنّى لها أن تجدي في محيط ينبذه ويهجوه، ويتربص به ليصيب كرامته في الصميم، بدليل ما ذكره الراوي عنه عندما ذهب متوارياً إلى البحر لــ«يغسل ثوبه الوحيد وملابسه الداخلية الممزقة، وينشرها على الصخور، وينتظر عارياً، محتمياً في الشقوق عن الأنظار (…) وفي غفوة مباغتة، دهش لاختفاء أسماله (…) وفجأة أطل الأولاد برؤسهم حوله، وانفجروا ضاحكين.. ! لم يتركوها إلا عندما وقف غاضباً (…) دهشتهم انفجرت فجأة(…) صاحوا وهم يلقون ثيابه، ورددوا كلمة غريبة جديدة!
شعر في ذلك الموقع المرتفع عن الحي، إنه إنسان مختلف غريب. لقد نبت خطأ، أو ظهر بصورة خارقة.»(12).
هكذا يُحرم (يحيى) من ممارسة صيرورته الخاصة وشرطه الذاتي الذي يكفل إنسانيته؛ فيضطهد اجتماعياً إذ تجاهل الأبُ الاعتراف ببنوته، وفكرياً بحرمانه من التعليم، وجسدياً عبر إرغامه على التعرّي. وضمن هذا السياق والأفق يستلب حقه في مزاولة تجربة الحياة، وينفرط عقد الجماعة في نفسه. ومتى انقطع هذا الرابط، اعتلت علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وعسر التواصل بينهما، واستبد به الشعور بالاغتراب.
وهو ما آل إليه يحيى، وقد ذكر ذلك الراوي بأسلوب تصويري مكثف، ولغة إيقاعية مشبعة بالرمز للإيحاء بمدى انفعال الشخصية، وشدة تأزم واقعها: «يتطلع إلى الطرق الموحشة، وإلى المستنقعات الساخنة، حيث تتراءى كالأدخنة الحارقة حشود الذباب والبعوض، وتمضى الأحذية عائدة إلى المنزل، وإلى الأبواب التي تغلق على الثلل المتعانقة، والشجارات السعيدة، والأكلات الصاخبة، هو وحده الذي يغفو، وتترنح رأسه على الجريد»13.
ما تتفق فيه هذه الأمثلة أنها تؤسس بنية قمعية تتشكل في نطاقها ذات (يحيى) بعد أن قهرها المجتمع وصيرها إلى التهميش، وبمقتضى ذلك تخترم هوية يحيى وتشوه ، فَيَكُفٌ عن التعاطي مع محيطه الاجتماعي، ويجترح لنفسه عالماً خاصاً، ويعقد علاقة صداقة مع كلبة مقتنعاً أن عالمها أوسع عليه، وأرحم به من بني جنسه. وفي ذلك يقول الراوي: «يحتضن كلبة ويطعمها (…) كانت صداقة سريعة وأليفة بينهما. لقد أوجد لها طعاماً بصورة منتظمة، وتخلى عن بعض حصصه (…) لقد قدرت حنانه وتدلهت بحبه. فتروح تمرغ رأسها في حضنه، وتبحث عنه، وتقدم له خدمات كثيرة.. ولكنها لم تَصِرْ أمّهُ»14. لقد عمد الراوي إلى تكرار مشاهد عديدة تجسد ذات (يحيى) المتداعية؛ وذلك لتقوية الإحساس بفظاعة واقعها، وإقناع المتلقي بما تتخذه من قرار.
والحق أن عالم الاستغلال والتشرد والوحدة والاغتراب وتدهور الأصيل من القيم، لم يمنع (يحيى) من ممارسة الوجود، بل كان بمثابة قادح يوقظ في نفسه بوادر الصمود، ودواعي المواجهة لفك أغلال الواقع المتهافت بسؤال المعرفة. يقول الراوي في ذلك: «إن شكله الغريب، ووجوده المريب، لم يجعلاه يدمن الكآبة، فكانت الوحدة والعزلة تدريباً له على الحفظ وترديد أسماء الناس والأشياء، وأسئلة حارقة عن هذا القدوم، والأب المتواري، والأم القاسية»15. ويمكن أن نلمس إصرار (يحيى) على الدفاع عن كيانه، وتجاوز الشعور بالانبتات، من خلال ما نقله الراوي من حديث (يحيى) إلى جدته، وقد غلبت عليه أسئلة إشكالية، تدعوه إلى لون مختلف من التفكير، وتغرس فيه بذور الوعي الأولى في سبيل البحث عن الذات: «يقف فوق رأس جدته (…) ويشير إلى نفسه، ويرسم إشارات استفهام مروعة كبيرة، لو كان يستطيع أن يشحنها بكل جراحه لفعل، يصرخ مزلزلاً الكوخ الأخرس:
– جدتي.. كيف جئت إلى هنا؟
بل كان يريد أن يلعلع بصوته :
– من أنا؟ ِلمَ أنا قطعة من اللحم النتن مرمية على قارعة الطريق ؟ ِلمَ أنا وحيد.. في كل هذا الوجود الصخب الشرس؟»16. إلا أنه أسقط في يده ؛ إذ ليس لأسئلته الممضّة سوى عجوز خرساء يستنطقها فلا تبوح إلا بهمهمات وإشارات معقدة. كما أنه لم يجد إجابة في محيطه الخارجي اللاهي عن كل تغير، والذي يهيمن عليه الروتينى والعادي، فكأنه يكرر نفسه ويلوكها. ومن الطبيعى أن يولد هذا الشعور الانغلاق والانحباس، لأن كل شيء منمّط ومقنن لا يفصح عن جديد، ولا يتيح مجالاً للاستكشاف، ولا يلبّي أسئلة هاجس المعرفة؛ ما يفسر أسباب القطيعة بينه وبين أهل حيه : «كانت الأسئلة الكبيرة تملأ رأسه. ويجد الأفق لا يجيب، والبحر صامت، والنخيل يغرق في العتمات، وأهل الحي تأخذهم الطرق المليئة بالعصيّ، والعجلات، والمآذن والتسابيح ودخان الحشيش والقيود والدم، ويغرقون في النوم، والأكل والشجار، ولا أحد يجيبه»17.
ولكن بعض الملامح العسيرة لهذه الحال ما تلبث أن تولت بقدوم (إسحاق) إلى الحي. وهي شخصية مهمشة تقاسم (يحيى) مغامرة الوجود ومعاناته، فنشأت بينهما صداقة حميمة، ومعها اقتحم يحيى حياة العمل الذي أطلعه على ألوان أخرى من الظلم الاجتماعى تمارس ضد الكادحين. وفى بيان ذلك يقول الراوي: «اندفع مع إسحاق في الأسواق ينقلان الأكياس الثقيلة والألواح وعلب الصبغ وكتل الحديد (…) وحين يريان حصيلة النهار في كوخ أحدهما يفاجآن بذلك المبلغ الهزيل»18. ومن هنا لم يكن هذا العمل عوناً ليحيى على امتلاك ذاته بقدر ما كان أداة هدم واستعباد؛ مما عمق من بؤسه المادي والنفسي، كما أنه لم يجبه عن سؤال الهوية العالق، بدليل مخاطبته إسحاق مستفهماً: «هل سنحيا هكذا.. بلا أسماء.. نخاف من عيون الناس وألسنتهم»19.
غير أن أحداث القصة تشهد منعرجاً حاسماً غيّر مجرى حياته، فمرضه كان سبيلاً له إلى عالم آخر، وكانت عربة (إسحاق) معبراً له وجسراً إلى ذلك العالم حيث مستشفى الإرساليّة الأمريكية. وهناك تعرف إلى (ميري) التى أعجبت به، ووجدت الفرصة سانحة لأن «تجرب رسالتها في هذا الطين البشري الذي لم يتشكل»20. أما يحيى فقد رأى فيها سبيل تعويض لإحباطه النفسي والاجتماعي، ومتنفساً له ومهرباً من حياة القهر والضياع والتشرد، ومجازا إلى الوعي. وبالاشتغال معها بدأ يكتشف ذاته شيئاً فشيئاً، وازداد انبهاره بالآخر، وتضخمت في نفسه علامة الاستفهام ضمن سلسلة من التداعيات الذهنية اضطلع الراوي بنقلها: «لماذا هو مرمي هكذا في الفراغ الأرضي وحيدا، بلا جذور، بلا عكاز، بلا اسم.. هل يبيع جسده وروحه على أول بائع يعرض شراءه؟ أيعطي ماعونه لأغراب يملؤونه بما يريدون؟ (…) هل يمضي وراء الشعاع الجميل الذي أعطاه الحياة والصحة والأمل أم يهرب بعيدا، نحو سوق الصفارين يغوص في الرماد وشرائط النحاس والهباب وضرب المعلمين والزبائن؟»21.
ولا شك في أنه توجس ريبة من هذا التغيير في البداية، وأدرك أنه سيبلغ به مبلعاً من الخطورة؛ إذ كيف يعلن عن مسار حياته الجديد الذي لن يتفهمه حتي صديقه (إسحاق)؟ يبوح لنا الراوي بما يدور في نفس يحيى قائلا: «أحس أنه انقطع عن صديقه. لقد بدا غريباً عنه، وهو بحاجة إلى إنسان يُصغي لأسئلته. ماذا سيقول له، بل ماذا سيقول للناس؟ سيقولون إنه التحق بالكفار الأغنياء المتسلطين القادمين من وراء البحار، وأنه باع نفسه بدريهمات ما! كيف يمكن أن يعرفوا عمق اختياراته؟»22. تنتهي الرواية ولا ينتهي السؤال، فقد تكاثفت مثل هذه الأسئلة في تضاعيف الرواية؛ إذ كانت السبيل الوحيد لاستكشاف الذات، ومواجهة مصير الوجود. وبذلك كانت الرواية سؤالاً لجوجاً متتابعاً ينمو بنمو السرد؛ ليغدو يحيى «شخصية إشكالية تعريفاً، يبحث عن موضوع أضاعه بأدوات تزيده ضياعاً، أو يبحث، ضائعاً، بموضوع لم يلتق به أبدا»23. وقد أفضى به ذلك لأن يخوض صراعاً مزدوجاً مع الذات والعالم الخارجي؛ مما يجلي وجوها شتى من مظاهر التأزم تحكم الواقع على أكثر من صعيد. وتنم عن وعي يعكس إرادة التغيير، وهي الإرادة التي وجد أدواتها ومسالكها عند الآخر.
ومن الطبيعي، والحال هذه، أن ينحاز أهل حيه إلى تصوراتهم ومعتقداتهم القارة، ويبنوا أحكامهم على أساس تقليدي بسيط، وينطلقوا منها لاتهام (يحيى) وتخوينه. ومن الطبيعي أيضاً أن تقعد بهم آفاقهم الفكرية المحدودة عن فهم جوهر القضية التي يحتكم إليها، فهو يريد أن يحدد مصيره، يريد أن يحول عجزه إلى فعل، وضياعه إلى قرار، يربد أن يضع حدا لحالات الفقر والامتهان والقهر والاستلاب، ويرتقي سلم التحضر الذي اعتلاه الآخر، ويحيا أفقاً حياتياً أفضل من الراهن. وبوحي من هذا المنطق تتحقق كرامته وحريته، ويستعيد بناءه الإنساني السامي.
على هذا النحو بدأ سحر الآخر يجتذب (يحيى) بقوة، للتصدي للبنى الذهنية الراسخة في مجتمعه بدأ يعد نفسه للمواجهة، ويجتهد في تقديم المسوغات التي يمكن بها أن يدافع عن اختياره، ويدعم صواب قراره، ويقيم الحجة على قومه. وفي هذا السياق جاءت كل أقواله مندرجة ضمن منطق حجاجى داخلى طرفاه صورة في ذهنه لأهل حيه يحاسبهم على مواقفهم وسلوكياتهم إزاءه، وصورة مقابلة للآخر يكشف فيها مدى دهشته منه وانبهاره به. بالأجنبي هو من أضاء عتمة جهله بنور العلم، ولقد وعى (يحيى) أة سبيل تحرره من قيوده الذاتية وسلطة المجتمع هي المعرفة «التي تصنع كل الأشياء المذهلة، وتقتحم البحار والقارات، وتحلق في السماء، وتجعل الحديد ينطق»24. وأسهم ذلك إيجابياً في تقرير مصيره، وتشكيل وعيه بالوجود، وتحديد رؤيته للعالم بلزوم التحول عن عالم الضياع والتهميش؛ وهو ما دفعه إلى بذل الجهد ليعرف المزيد كما وعد (ميري) : «هناك أشياء كثيرة ينبغى أن تتعلمها..
– سوف أتعلم وأبحث»25.
كما فهم أن مصيره البائس المتقهقر إنما يكمن في تباين أساليب المعاملة بين قومه وبين الأجنبي. وحسبنا دليلاً ما رصده (يحيى) في الشاهد الآتى: «كيف يكون الكفار بهذه الطيبة، يقدمون الطعام والدواء والأسرة والابتسامات المنعشة؟ كيف يصنعون فتاة مثل ميري.. هذه الحمامة الطليقة الخيّرة؟ من هم الكفار حقاً، أليسوا هم هؤلاء الذين ألقوه في المزبلة، وتخلوا عنه؟ أليسوا هم هؤلاء الذين يمرون به، وكأنهم يحاذون طوفة أو جذعاً؟26». وتمتد هذه المقارنات إلى مدى أبعد فتطال قيم المجتمع الفكرية والإيديولوجية؛ إذ إن عمله الجديد في المستشفى جعله يكتشف ما كان خافياً من حقيقة الواقع وملابساته، فنزع إلى انتقاد العقلية التي يصدر عنها أهل حيّه والتي تنهض في مجملها على المحظورات والممنوعات، وتغرق في الترهات والتصورات المشبعة بالتخلف. وهو ما يمكن الوقوف عليه في المناجاة الداخلية الآتية: «ماذا يريد من أولئك الناس الذين ألقوه على قارعة الطريق، ويثقبون جلود المرضى بأسياخ الحديد، ويضعون التمائم على الزنود والصدور، ويحبسون النساء في الغرف المظلمة والألبسة السوداء الثقيلة»27. بهذا الحجاج الموسوم بصبغة انفعالية لا تخلو من السخرية تتباعد المسافة النفسية المعنوية بين (يحيى) ومجتمعه، وبفضلها يبرم الصلح مع الآخر، لا سيما بعد أن عثر على روافد خير وافرة فيما تلاه المدرس نصيف البستانى من آيات مقدسات تواسى المساكين والمحزونين والودعاء، وتهنئ الجياع والعطاشى إلى الحق28.
ولم يبق للأجنبى أخيراً إلا أن يطهر ما تدنس من جسد يحيى، ويعيد إليه ما انتهك من كرامته، وللاتصال بهذه المعاني العزيزة يمنحه (البستانى) جواز سفر إلى رحلة الاختلاف الطاهرة، وذلك عندما أخبره أن (الأب) خلصه من أي ذنب، وعليه فلن يسمع تلك اللفظة القبيحة المؤذية التي ألصقها أهل حيه به29؛ لأنه لم يعد في هذا الدين لقيطاً: «أحس يحيى بأن الرجل هو أبوه الغائب30».
وما يستنتج مما سبق أن (يحيى) يتخذ من الآخر، في جميع الأمثلة السالفة، رمزا للتفوق والمثالية في مناحٍ حياتية شتى افتقدها لدن أهله؛ ليكون بذلك معادلاً موضوعياً للحياة، ويمكن أن يحقق ذاته بمبادئه وقيمه، ويملأ كيانه بتصوراته ومعتقداته. وبمقتضى ذلك كله اقتنع بالمضي قدماً في قراره باعتناق المسيحية، وظن الوجاهة في رأيه فحسب، وقاده ذلك إلي المواجهة الفعلية، بعد أن كانت ذهنية تنطوي في مقام داخلي. نستدل على ذلك من حديثه الآتي عندما ناقشه أحد الرجال في مسألة دينه الجديد:
« ــــــ ليس لدي أي شيء أخسره.. وهذا الوطن لا يخصني!
ــــــ جلدك، دمك، روحك، كلها تخصنا!
ــــــ هذه كلها تعود بملكيتها إلى المزابل، أما روحي فقد أعطيتها لرجل لا تؤمن به»ـ31.
بهذه الحجج يقنع (يحيى) الصوت الشاذ والمتردد فيه بمشروعية ما يود القيام به، ليخلص إلى نتيجة مفادها: «أن يصير مسيحياً الآن لم تعد قضية روحية محضة! 32». والوصول إلى هذه النتيجة ليس حداً للحجج، بل هو منطلق لحجج أخرى ستنكشف مع اكتسابه موقعاً عند الآخر، على نحو ما سنقف عليه لاحقاً.
تلك هي قصة نشوء الوعي الجديد لدى (يحيى)؛ وإرادة التحول التي تجلت بالانفتاح على إشكالية الهوية. وقد عمدت الرواية إلى التعبير عنها جمالياً بمحاورتها أو مخاصمتها أو مجادلتها. وإذا سألنا: إلى أي مصير سيؤول (يحيى)، المعذب بتعاسة ماضيه، المحتار من تشابك حاضره، وهو يعقد العزم على إنفاذ قراره؟ فلا بد لنا، للحصول على إجابة، من ترجمة الرواية إلى دلالات أعمق بالوقوف على بليغ الإشارات التي طفح بها النص. وما يكشفه في هذا المجال ازدواجية الزمن بين الماضي والحاضر، وتداعياته على (يحيى) في علاقته بالآخر.
2 ـــ صراع القيم في ضوء تحولات الزمن
إن ما يميز الزمن فى رواية (الأقلف) هو تفتيت مسار الأحداث بعرضها في وحدات زمنية متكسرة ومتقطعة تنهض الشخصيات بشدها إلى دائرة واحدة هي ذات (يحيى). وقد أتت هذه الشخصيات لتعكس، من جهة أولى، وجوها من قيم الواقع ومظاهر تأزمه وأبعاده المتناقضة التي يواجهها (يحيى) ، وهو يخوض تجربة البحث عن الذات. وتُخضع، من جهة ثانية، الرواية لبنية ثنائية مزدوجة في الزمن، إذ إن التغيير الذي عزم عليه (يحيى) سيصيب مجرى الأحداث في الجوهر، وسيوقفنا على لحظتين زمنيتين حاسمتين، الأولى تقترن بأهل حيه؛ والثانية تتعلق بالآخر. وهاتان اللحظتان تتبادلان في حضورهما في النص؛ لتشير الأولى إلى الماضي، والأخرى إلى الحاضر.
إن رغبة (يحيى) في التحرر من كل أشكال القمع والقهر والتسلط على صعيد الذات واسع بوقفها على شخصيات تمثل إما الزمن الماضى، وأما الزمن الحاضر وإما الزمنين معاً. فبمحور الماضى تتجسد أمامنا شخصيات تبلور الذاكرة التاريخية ليحيى، ومنظومة القيم والعلاقات التي تربطه بها، وتشكل توجهاته وأحكامه. وأبرز من يمثل هذا المحور: الجدة وصديقه (إسحاق)، وأهل حيه. أما محور الزمن الراهن فيتعلق في غالبه بالآخر، وأوضح نموذج له (ميري). إلا أن الحدود بين الزمنين قد تتداخل وتتقاطع فيمْثل الماضي في الحاضر عبر تذكر الأحداث المنصرمة، وما ارتبط بها من وقائع في لحظة السرد. ولم يمنع التقابل بين هذين الزمنين من الانفتاح على المستقبل، وهو الزمن الذي اتخذه الراوي ليفتح النص على تأويلات متعددة تصنع الالتحام بقارئ حر في رسم موقعه.
يحضر الماضي من خلال الجدة الخرساء التي حاول (يحيى) بإصرار أن يستحضر عن طريقها تاريخه، إلا أن رجاءه يخيب بسبب خرس الجدة: «أخبريني.. يا جدتي!
كأنه كان يخاطب الزمن المتواري، والأحبة المختفين وراء القسوة والشهوة. ليس ثمة ذاكرة هنا، ليس ثمة سوى خرس مُحب. يترنح ويسقط في حفرة الفراغ والغياب»33. ولعل خرس الماضي أوهن اتصال (يحيى) به، فشحبت ملامحه داخل نفسه، وسهل عليه الانبتار، والانفصال عن جذوره. فماذا يبقى للإنسان إذا نُحِي عن تراثه وتاريخه، وأهمل تعبئة ذاكرته وصياغة كيانه بهما؟ بل ماذا يبقى من الإنسان إذا خسر كنز الذكريات وجذور الانغراس في نفسه وبيئته؟ إن هذه الذكريات والتاريخ والتراث قصة حياة ووجود وفعل، ومتى طُمست وضُعِت هذه القصة موضع شك، وافتقد الماضي حرارته ووهجه وقيمته ورؤاه فكأنه باطل لا يقبض من ورائه على شيء.
ومن هنا قتلت الرواية الجدة في الوقت المناسب34، قبل أن يأتي مولود (يحيى) الجديد من (ميري) ، وهو يرمز إلى استشراف زمن قادم؛ فإذا كان الماضي قد خرس عن النطق في الحاضر، فماذا عساه يقول في المستقبل؟ هكذا يعطي موت الجدة مسوغاً حكائباً ليشغل يحيى هويته على النحو الذي يشاء.
أما (إسحاق) فقد مثل ليحيى في الزمن الماضي حالة وجودية خاصة؛ إذ كان يشاطره حياة البؤس والاستغلال. إلا أنه ظل مستمسكا بالقيم الموروثة، وبالرغم من هامشيته كان متصالحاً مع الواقع، يستمد من تهافته وتأزمه ما يشحن إرادته بقدرة فائقة على الصمود، فطابت له الحياة، وركن إليها، وحاول أن بوثق حبالها بيحيى ليتمدد الماضي في حاضره. إلا أن إرادة يحيى في التغيير، وانشداده إلى حاضر ينفتح فيه على الآخر يحول بينه وبين مرام إسحاق. وهو ما ولد في نفس هذا الأخير حقداً وكرها ليحيى، ورأى أنه بذلك إنما يتنكر لأصله وقيمه، ويسقط في أوحال الحاضر الذي يستغرق مداه الأجنبيٌ. لذا حاول إسحاق، بعد محاولات خاسرة من النصح، أن يتخلص من يحيى35 ، ولما لم تكن الطعنة قاتلة، عمد إلى إضرام النار في الكوخ الذي تقبع فيه جدته36، والمعنى الرمزي لهذين المشهدين أبين من أن يحتاج إلى دليل، ومؤداه إصرار إسحاق على إنهاء كل علاقة له بيحيى، ونسف هويته المتصلة بتراثه وتاريخه.
أما أهل حيه فلا يختلفون كثيراً عن الجدة فهم الماضي القديم، وهم شبكة القيم والمفاهيم التي يصدر عنها أي فرد ينتمي إليهم، وهم البنية الاجتماعية والعقدية التي تحدد مسار يحيى، وتندس في أعماق لاوعيه، وتكون ذاكرته الجمعية، وتصب ذاته في قالب لا يند عن قوالبهم. ومن أجل ذلك شنوا عليه حرباً ونفسية محمومة عندما علق الصليب على صدره. ولكنهم، على ذلك، ظلوا متمسكين به في حاضره كما ماضيه، بدليل زيارتهم له في المستشفى عندما طعن، إذ وجدهم يتدفقون عليه، ويحيطونه بلطفهم وثرثرتهم وحكاياتهم37. وكذا كان شانهم في وفاة جدته؛ إذ «اندفع الناس إليه، وراح بعضهم يصافحه قائلأ: ـــــ عظم الله أجرك! وهو لا يعرف بماذا يرد، وأمسك بعضهم يده بحراره، وراح يقبله، فهدأ (…) ووجد أبناء حيه يحضرون الأكل، وتصطف الصواني المليئة بالأرز واللحم، وهز جمعٌ غفير المكان، لكن الغرفة اتسعت له، وتداخلت أرجله وسواعده وكلماته وكرات أرزه ولحمه»38. ومن هنا أدرك أنهم، وإن قسوا عليه وحاربوه، سيبقون رمزاً للجذور العميقة الضاربة في أعماق التاريخ، فبوجودهم ينوجد، وبدونهم يستحيل أن تنهض حياته ويستوي عمقه الإنسانى بمختلف أبعاده. وهذا ما أفصح عنه بصوته المندرج في خطاب الراوي: «إنهم أهله، خلاياه الصلبة من قدورهم وأكياسهم (…) أكان من الممكن أن يكون لولا هذا الجمع الإنساني المتواري تحت جلده»39. كما أنهم ظلوا شاخصين أمام مرآه في مستقبله، إذ لا يكادون يغفلون عن ذهنه في كل ما يستشرفه لبناء مستقبل أفضل من الراهن، على نحو ما سيتضح بعد قليل.
أما ميري فقد مثلت المنعطف الرئيسي في حياة يحيى إذ نقلته إلى حاضر راهن يناقض الماضي، ومعها اكتشف دواعي حياة تعترف بكرامته وحقوقه، وكيانه الإنساني النبيل؛ فاضطر إلى مراجعة موقفه من مجتمعه وانتمائه لهم. وقرر نفي الماضي، رغبة في تشكيل حياة تتفق مع إرادته ومآربه. والحق أن ميري أعجبت بيحيى، وأرادت أن تكون معه حياة عاطفية جديدة تصير متنفسا لما كبت في نفسها من رغبات. والشاهد على ذلك تساؤلها عبر حديث داخلى: «أين هو كيانها الخاص وملكيتها العاطفية؟»40. كما أنها شاءت أن ترتبط بيحيى ليعوضها عن تلك العلاقة الشاذة المنحرفة التي أراد أن يقيمها أبوها معها في الماضي؛ فهربت منه؛ لتضطلع بمهمة التبشير في دور ممرضة بمستشفى الإرسالية الأمريكية41. ومن هنا كان يحيى بمثابة المنقذ الذي دفعها إلى مساءلة الماضي المنتكس، وفتح لها آفاق وعي جديد في الحاضر. ولذا أرادت أن تقول لمسؤولها تومسون: « ـــــ أرجوك.. اعفني من هذا العمل! لكنها لم تقلها، لأن انفجار الجملة سيعني عودتها إلى بلادها وحرمانها من هذه الفرصة للعيش وللتجربة الروحية»42.
وأنقى وأشفٌ تجربة روحية يمكن أن تلون بها رحلةُ التطهر من دنس الماضى، لذلك ترفعت عن سفاسف الحياة، وأَنِفَتْ من اتخاذ يحيى طعماً لغاية نفعية. وقد نقل لنا الراوي بصوته ما يجول في خلدها من صراع بقوله: «لكن الضمير الذي اشتعل بعد استلام النقود، وصرخات التأنيب، جعلاها تغوص في بركة الدم والأعضاء المتطوعة، وتمزق الروح (…) إنها الآن تدرك محنتها: إنها لا تستطيع أن تدفع يحيى في طريق التجربة الوعرة، لأنها قد تخسره. إنها لا تستطيع أن تتاجر به، أو تجعله كبش فداء لإرسالية خائبة»43. ولا يقتصر وجود ميري على هذين الزمنين، بل كانت المحرك السردي لولوج المستقبل لأنها تصنع الأمومة، وستضع ليحيى طفلاً سيرسم مصيراً جديداً للإنسان، ويفتح إشكالات ورؤى جديدة تجعل مسألة الهوية تنفتح أبدا على السؤال.
«أما الدكتور تومسون فهو ماضٍ في صفقته مشترياً روحه (يحيى) دون أن يدفع قلقاً أو حباً»44. هكذا تبدى ليحيى أن علاقته بتومسون إنما تنهض على المصالح ومبدأ استغلال طرف لطرف؛ وما البعد الروحي السامي لدينه، والمبادئ المثالية التي يتشدق بها إلا مجرد قناع يتخفى من ورائه لتحقيق منافعه؛ فيتاجر بالإنسان، ويتمعش من يحيى، ويتعاطى معه على أنه غدا سلعة ينبغي التحايل عليها بإخفاء التافه والحقير منها بالتزيين والتهذيب. يقول مخاطباً يحيى: «نحن انتزعناك من مستنقع الوثنيين والمجرمين ورفعناك إلى ألق المسلح؛ صرت تتكلم بلغة لم يحلم أجدادك بمعرفتها، وضعناك في فاترينة ملونة»45. هكذا أخذ (تومسون) يذكر (يحيى) بحقيقته في الماضي؛ ويصور له ما آل إليه بهدي من قيمهم وغاياتهم؛ ليستلب إنسانيته، ويظهر له تميزهم واختلافهم العنصري عن أجداده. وهو اختلاف غالباً ما يسوغ به الاستعمار نفسه، وأحقية وجوده؛ وبالتالي جدارة بنيته الهرمة التي ينهض عليها، والعلاقة بين طرفيها علاقة سيد بمسود.
ويكفينا شاهدا على هذا طلبه بكل بظاظة وصلف من يحيى بالانفصال عن ميري، وإسقاط الجنين46. محولاً بذلك فاعليته التي توهم اكتسابها إلى عجز، ومبطلاً في نفسه جدوى حرية الاختيار، وحق مزاولة الفعل والوعى والتجربة. وليس من الهين على (يحيى) احتمال هذه الحياة القائمة على الطاعة وتطبيق الأوامر التي تُقلص فيه البعد الإنساني؛ وهو الذي تمرد على أهله؛ فما كان منه إلا أن هرب مع ميري47.
|ن الأمثلة الأخيرة في علاقتها مع الأمثلة الأولى تجلي ثنائية الأنا والآخر بشكل صريح، فهي بمثابة المرآة التي تعكس جملة القصة؛ لتعبر عن عمق المعاناة التي يتجرعها يحيى وهو يبحث عن ذاته؛ ويروم تشكيل هويته. فهو دائم الاضطراب بين قيم تتصارع وتتصادم في ذاته ووقعه، وما يكاد يحدد موقفه من الحاضر الذي اعترف به، ووجده معادلاً موضوعياً يعوض به ما افتقده في الماضي، حتى تطالعه علاقات جديدة، ويستجلي رؤى مضادة لما واجهه في مفتتح علاقاته.
ولعل أكثر المواقف تأزماً موقفه مع تومسون؛ إذ انكشف له أنه «لم يفز إلا بقطعة من الحديد معلقة في رقبته، وأصبح محرجاً وهي تهتز وتكاد تبرز هويته، خارجة إلى دهشة العيون !» 48. فاستحال الإعجاب انحداراً وتقهقراً، واتضح له أن الآخر لا يعكس صورته، ولا يمثل شخصيته، والأدهى من ذلك أنه لم يغنم منه إلا تبعية تغريه بزيف الانتماء، ووهم التحضر، وتكرس، في الآن ذاته، مبدأ الإذعان والامتثال لها. وقد سرد لنا الراوي، بلغة تعبيرية موحية، أحاسيس المرارة التي يجترها يحيى نتيجة هذا الوضع الصعب: «الصليب يتوارى في الخزانة (…) السأم يتملكه، والكآبة تستوطن غرفة صدره أبداً (…) ولولا الخمرة والسجائر لألقى بنفسه من النافذة»49.
يتبين مما سبق كيف يضحى الزمن في الرواية محلّ نظر ومساءلة؛ لتتراجع الحكاية إلى الوراء كلما استجدت أحداث في الزمن الراهن.
ومن هنا كان ماضي يحيى متلبساً بفعل التذكر، يستحضر ما انصرم من أحداث، ويعلق عليها، وينظر في أسبابها ومآلاتها؛ ما يكشف إحساسه الحاد بالازدواجية والتذبذب من جهة، وضرورة إثبات الذات، ومواجهة الواقع الجديد، من جهة ثانية، إذ إنه «مع ازدياد الوعي بالحاضر، يزداد الاهتمام بالتاريخ، بوصفه خلفية الحاضر أو (تاريخ الحاضر)»50. ولذلك يحق القول إن الزمن في (الأقلف) ليس ذا وظيفة سردية خالصة، وإنما وظيفته أيضاً تفسيرية تنهض برصد وجوه العلاقة الثنائية بين الأنا والآخر، وتوجيهها وجهة خاصة تكسبها بعداً إيديولوجياً.
ولئن أفضت هذه الثنائية إلى ازدواج البنية الزمنية وتأرجحها بين الماضي والحاضر، واشتركت الشخصيات، المندرجة ضمن طبقتين زمنيتين متباينتين، في إضاءة هذه الثنائية؛ فإنها أفضت أيضاً إلى ازدواجية الفضاء، ليتشكل من بعدين لهما مرجعية قيمية متصادمة.
فما تداعيات ذلك على سؤال الهوية؟
3 ـــ مرجعية الفضاء وإشكالية الانتماء:
إن السمة الأساسية لفضاءات (الأقلف) مرجعيتها الواقعية من خلال أمكنة يسهل استحضارها والتعرف إليها. وهي فضاءات قائمة في بنيتها على ثنائية الأنا والآخر، فهما المستقران اللذان تنقل بينهما يحيى ليرمز الأول إلى القضية الوطنية، ويرمز الثاني إلى القضية الاستعمارية. ومن الملاحظ أيضاً في هذين الفضاءين أنهما مبنيان على أساس طبقى يعطي قيمة الوجاهة والتفوق للمستعمِر المنتصب في المركز، على حساب المستعمَر القابع في الهامش. وسنعمد فيما يلي إلى اختيار أبلغ الأمكنة دلالة، وأقدرها إفصاحا عن سؤال الهوية، وإبرازاً لرمزية المكان المزدوجة.
يقف الراوي منذ مفتتح النص على فضاء مغلق ينزوي فيه يحيى ويتوارى عن الأنظار. يقول في بيان ذلك: «ملحق بكوخ، وبأرض خلاء (…) الأرض الخلاء الواسعة التي تلي الأكواخ، تبدو رمادية كالحة، تنتشر فيها الحفر الكبيرة التي تتخذ أمكنة لقضاء الحاجة، وهي تتحول إلى مستنقعات سبخة عندما ينهمر المطر. وتقع فيها مزابل وأراضٍ رحبة مليئة برمل ناعم»51. كما حرص على وصف الفضاء المحيط بهذا الكوخ.
يقول: «وفي شرق هذه الأرض تقع أكواخ تمتلئ بعبيد سابقين، وفرق الرقص ومنازل الشاذين وشلل القمار والرجال «الإزكرت» ، وبعدها يتراءى البحر. وفي غربها تمتد مستنقعات وأكواخ متناثرة وبنايات قليلة ومقابر غريبه. هذه الساحة، كانت الوجود المرئي والمغذي ليحيى»52. هكذا يدلنا الراوي على فضاء التجربة الحياتية ليحيى في بؤسها وشقائها، وهي مياسم تكفل برسم بعض ملامحها الفضاءُ الذي يجسد الأحياء الشعبية البائسة والفقيرة للمهتشين؛ ليتحول إلى لغة رمزية توحي بسمات الشخوص، وطبيعة أعمالهم، ومشاغلهم، وما يصدر عنهم من قيم أخلاقية وسلوكية. ولعل ما يستفز العين بكل وقاحة وجرأة هو أن هذه الأحياء المعدومة تقع قُبالة أحياء اليهود والنصارى الراقية الغائرة بين بقايا البساتين وثلل الفلل الزاهية الموحية برفه العيش53، ولا يخيم هذا التمايز العنصري والتركيب الطبقي بظلاله الثقيلة على تخوم الحياة، بل حتى على تخوم الموت، فيستقطب تلك الفضاءات التي انزاحت عنها الحياة، وران عليها الفناء ليرسم ملامح الاختلاف والتنافر بين مقبرة المسلمين ومقبرتي المسيح واليهود54. وجميع ذلك يطرح في المكان كمية هائلة من الغبن والظلم، ويضخم الشعور بالقهر والاعتساف وهدر الكرامة.
ولكن بالرغم من قسوة هذا التقابل المرئى إلا أنه كان واقعاً معيشاً يستمرئه الحى الفقير، ويعترف به، ويتعامل معه بنوع من التحجر والتبلد الوجداني دون إحساس بما يطرحه من ظلم، بل إن الأولاد يقضون في تلك البساتين لحظات مرح وحياة، وهم بذلك يقدمون شهادة على استساغة أهل الحي هذا الوجود الطبقي، فهو في اعتقادهم قدر محتوم، وسنة كونية لا سبيل إلى الفرار منها. وفي تأكيد ذلك يقول يحيى: «إن المقامات محفوظة للبشر. إن السمر والسود غير البيض، والغرباء الممتلؤون مالاً وعلماً غير المشردين، ومن يضعون رؤوسهم على وسائد حريرية غير من يضعونها على الأرض ذات «العناصيص»، ومن يمتلكون لغة وسحراً غير الخرس الجياع.. 55». وليس أخطر من هكذا اعتراف يمنح الآخر أحقية التميز والاختلاف؛ ليُختم بالتفوق أبداً، ويقيم دائماً في المركز. ويُقصى إلى الهامش من هو دونه، وتُستلب إنسانيته، ويوصم بالتخلف، ، ويعمد إلى تغرييبه عن وعيه لذاته.
ولئن عبر يحيى بعباراته السابقة عن قناعة متأصلة في البنية الذهنية لحده، فإنه من جانب آخر يكشف بها عن وعيه الحاد بالصراع الطبقي، ولا يخفى ما في مقارناته المتلاحقة والمصطبغة بنزعة قيمية، من رغبة لاعجة في التغيير، وامتلاك البديل. ولن ينتظر طويلاً لتحقيق هذه الرغبة، إذ ستلوح له بشائرها الأولى بانتقاله من الكوخ إلى مستشفى الإرساليّة الأمريكية للعلاج.
يجسد فضاء المستشفى نسقاً مرجعياً ذا دلالة، وخطاباً إيديولوجيا يعكس قيما متشابكة تمثل الآخر في قيمه وتصوراته ومبادئه وغاياته. وقدوم يحيى إليه كشف له ضروباً صارخة من التناقض بين مكانه القديم وبين هذا المكان، ليس فقط في المعالم الميتافيزيقيا، وإنما أيضاً في القيم والرؤى التي تجلت بصورة واضحة من خلال ميري؛ وبمقتضى ذلك انتابه شعور جامح في الانتماء إلى الأجنبي الذي يمثل هذا الفضاء خير تمثيل، مقتنعاً بأن لا قيمة سواه، وكأنه المكان الملاذ في مقابل المكان المرفوض. وعلى هذا النحو يلبي يحيى رسالة هذا المكان في بعدها الروحي، ويعتنق دين الآخر الذي ساع إلى استغلاله على نحو ما سنرى في مبنى الصحافة.
ووفقاً لهذا القرار المصيري الذي أقدم عليه يحيى، وبارتباطه بميري وجد نفسه مجبراً على مشاركة الآخر حياته وتبني تصوراته وقيمه. واقتضى منه ذلك إقامة علاقة جديدة بالمكان مناوئة للمكان السابق، ولم يكن هذا باليسير عليه. ومن الشواهد الدالة على ذلك ما أفشاه الراوي من خواطر مكتومة في نفس يحيى عندما كان جالساً بمعية ميرى إلى جماعة من الأجانب. يقول الراوي: «يأخذهما الجيران إلى أصدقاء لهم في الريف، حيث البيوت الفاخرة المتوارية وراء ثلل النخيل والأشجار، والبرك وضجيج الماء. يثرثرون ويغنون وتمتلئ الطاولات بالأطباق وتنتشر السفافيد التي تقلب لحوم الخراف، وتزهو الكؤوس المترعة.. وهو لا يستطيع أن يمضغ اللحم واللغة، ولا يعرف كيف تراءت له صورة حيه القديم، وعربة علي المدخن تلهب الأرض الساخنة بعجلاتها»56. هكذا يتصارع في ذات (يحيى) مكانان. الأول مكان قديم، ولكنه لا يزال يملأ وجدانه ويكيف سلوكه وتصرفاته بما يحويه من قيم ومشاهد وشخوص، ويصدر عنه في مواقفه وتصوراته وردود أفعاله. ومكان حديث لا يقدر على صياغة مقتضياته في رؤى ومفاهيم وقيم يتمثلها، ويترجمها عملياً في حياته. ونتيجة لذلك ينفصل يحيى عن هذا الفضاء الحديث، إذ يحول بينهما صلابة واقع معيش يحضر في كيانه بأدق تفاصيله وخباياه، وتستولي على مشاعره شخصيات مكدودة التحم بها التحاماً في قريته الفقيرة المعدومة؛ فهم مرآة تعكس ذاته، وتستجلي أغواره الدفينة. وهو جزء لا يكتمل إلا بهم، وكم يعز عليه أن يبقوا ضحايا ظروف القهر المادي والمعنوي، وقد ساقه هذا التعاطف معهم إلى الانتصار لهم في عالمه الخيالي؛ فثبت يقيناً في نفسه أن العدل والحق والكرامة ستحل يوماً ما قريباً من دارهم؛ وتبعاً لذلك نجده في شاهد سابق يقول: «إن سكان الأكواخ كعلي المدخن وابنه غلام وعائشة وسالم الأسود وغيرهم سيندفعون ذات يوم ليسكنوا البيوت والقصور والحدائق.. وسيكون الله معهم.. يعطيهم العالم كله»57.
وقد يفضح انحشار القرية القديمة في كيان يحيى، وهو في حياض الأجنبي، ملمحاً قيميّاً آخر يدلل على أنه لا يعيش الفضاء المنسوب إلى الآخر ليمحي خصوصيته، وذاك الماضي المترسب في الذاكرة الجماعية، بل يعيشه ليدرجه ضمن خطة حجاجية يحاكم بها المستعمِر، ويقيم عليه البرهان الذي يسوغ للمستعمَر التصدي له، والوقوف ضد ما يمارسه من ظلم اجتماعي؛ إذ ليس من العدل أن يستأثر الأجنبي بكل مقومات الحياة الرغيدة، ويترك الفتات والسقط للشعب. ويمكن استجلاء هذه المعاني من خلال المقطع الآتي: «المدينة المرتفعة المسيجة. البيوت من خشب ملون، والسقوف من القرميد، والمداخن تنفث حياة، والأحواش ممتلئة بالأشجار وألعاب الأطفال (…) وجوه متوردة، وسواعد مكشوفة بضة، وكؤوس مترعة وبالونات طائرة، وموسيقى هادرة ورقص وقُبَل، وخدم يوزعون الكؤوس والطعام والأنس (…) أحس أنه غريب.. وأبصر في أسفل الجبل عشش عمال النفط الكثيفة المتراصة، وجاءت روائح وأدخنة فظيعة58».
على هذا النحو يتعمق إحساس (يحيى) بالغربة عن المكان، ويشعر بأنه دخيل وناتئ وممزق بين الذات والموضوع، بين ذاته التي لا قدرة لها على استيعاب نفسها إلا من خلال شبكة العلاقات التي تصلها بتاريخها الماضي المستقر في أولئك العمال الذين أبصرهم؛ وبين الواقع الراهن أمامه، وفيه تلحّ مرجعية الفضاء على معاني البعد والتمييز بين مكان مرتفع تزهو فوقه بيوت الأجانب الخشبية الزاهية التي «امتلأت بقناديل ملؤنة وأشرطة، وكان ثمة فناء واسع مغطى؛ ترامت تحته الطاولات والمقاعد والمأكولات والبشر»59. وبين مكان آخر مقصى خفيض تملأه عشش عمال النفط. لا شك إذن في أن هذا الأجنبي يوجد نفسه في المكان على أساس طبقي، وشساعة المسافة بينه وبين عشش العمال تأتي للإيهام بالاختلاف الحضارى، واستحقاق الرئاسة؛ والإبقاء على السيطرة والنفوذ. والوقوف على هذه الحقيقة أدت إلى اضطراب يحيى لا سيما بعد وقوعه على هوية العمال الوليدة؛ فهو «يعرف كل هؤلاء الرجال القادمين من العشش، غسالي الثياب والبحارة والحمّارين»60.
ولما كانت صلته بهم على هذا النحو من الاتحاد بما يذيب الفوارق المصطنعة، ارتد إلى ذاته متسائلاً: «هل ينزل إلى أسفل الجبل يوزع الطعام، أم يتغذى بلحم أهله؟ أيذوب في هذه الطقوس البهيجة أم يبتر جسده؟»61.
وبما أن الثنائية بين هذين الفضاءين تنهض أصلاً على مبدأ الاستغلال والتسخير؛ فقد كان الصدام حتمياً؛ فما هي إلا لحظات حتى انطلقت «ضجة عالية تصعد من الحضيض. رأوا اضطراباً في عشش العمال وناراً مشتعلة»62. وما إن قامت الثورة حتى انهار كل شيء فجأة؛ وتعرى الأجنبي من مبادئه، وحط عليه القبح، ورفض على الناس حقهم في الكرامة، وأطلق فيهم يد القوة لتنالهم بالضرب والسجن والتقتيل.
عندها فاق يحيى من صدمة الانبهار التي وقع تحت وطأتها، ورأى مَنْ «التصق بهم في حفلات أعياد الميلاد البهيجة، ونافسهم في مخاصرة الفتيات الجميلات، وأصغى إلى خطبة الأحد معهم»63، يطلقون النار على المتظاهرين فتتساقط أجسادهم على الأرض.
بهذه الطريقة يتبين كيف أغرى الأجنبي (يحيى)، وانتزعه من ذاته ومجتمعه، ولم يكتفِ بذلك بل لم يلبث أن جعله عبداً لمخططاته وغاياته. فيسر له مهنة بصحيفة «يصوغها موظفون إنجليز وهنود وعرب، ويروح هو يترجم بيانات وأوامر إدارة الاحتلال»64. ومعها أدرك أنه يتنازل عن هويته ووطنيته، فأخذ يحدث نفسه مستنكراً: «أي تقارير غريبة عليه أن يتقيأها بلغة ناصعة (…) كانت الكلمات تغصّ في حلقه مثل عظام السمك»65. وبما أن المستعمَر في عقلية الأجنبي الإقطاعية ليس سوى موضوع استغلال، وأداة تقوم بوظيفة ما؛ فإن الطريقة الأمثل في التعامل معه إفراغُه من أبعاده النفسية والاجتماعية، وإشباعه بقناعاته هو وثقافته وتوجهاته فهي بالنسبة إليه حقيقة مطلقة ينغلق عليها، ويجعلها شارة للتميّز؛ ولذا رفض الأجنبى مقالات (يحيى) التى يدعو فيها إلى الحوار والتعايش، وردها ساخراً منها. يتجلى ذلك فيما ذكره الراوي عن يحيى: «يود أن يقيم جسراً بين النخيل والغابات. يجمع الصحراء والمحبة. أن يكون لعائشة ابنته فرصة العيش والحلم الجميل. لكن المدير يهزأ من خطبته ويشير إلى الباب والشارع»66.
إن يحيى، في منطق السيد الأجنبي، ليس إلا أجيراً؛ ولذا أرغمه على تحقيق غاياته بــ«كتابة أسطر الزيف، وخداع االحمام؛ وبالسخريات من الثياب والعُقُل والعباءات والمساجد».67 وتجنيده للسخرية من هذه الأشياء يأتي لكونها رمز هويته وموروثه الثقافي؛ وأمارة انتمائه الديني والحضاري وفي امتهانها تغريب للذات؛ وقبولٌ لهوية الآخر، وطمس هوية الأنا وتشويشها.
لقد أطلعت هذه المهنة يحيى على ما كان خافياً عنه من حقيقة الآخر؛ وأغنت وعيه برؤى جديدة أجّجت في نفسه دعوات الالتفاف على قوى القهر المتجسدة في المستعمِر؛ لذا ترقب ذلك المكان المؤمل أن تشتعل فيه الثورة، وهو الشارع رمز الحرية والكرامة؛ وذوبان الفوارق والالتحام، للدفاع عن قضية واحدة تشمل المجتمع هي القضية الوطنية.
وما إن هبت الثورة في الشارع حتى سكنت قلب يحيى فرحة عارمة. يقول الراوي في تأكيد ذلك: «كان ينصت إلى الدويّ العميق الذي يهزّ الأبنية والشوارع، فيشعر بالفرح الغريب والقلق الممَضّ»68.
وعلى إثر مشاركته في الثورة يجرجر إلى السجن؛ وهناك وقف بين يدي «ضابط إنجليزى يحدّق فيه. هذا الوجه سبق أن رآه (…) اسم مألوف مدوّ. ظنه قد اكتنز بحكمة الغرب: عصارة لقطاراته ومكانته وكتبه. لكنه فوجئ بسوقيته، وبهت من يده وهي تجره من قميصه وتصفعه».69 هكذا يظهر الأجنبي على حقيقته؛ فاقداً بذلك أي حسّ إنساني في سبيل تحقيق غايته؛ منصّباً السجن فضاء أبوياً قمعياً، يُخضع من خرج عنه إلى قانونه الخاص الذي يقوم على حق القوة، لا قوة الحق. فالسجن فضاء اضطرار ينهض في كليته على الأوامر والمحظورات، ولا متسع فيه للحديث عن مساحة للتسامح والتساوي والاختلاف والحوار؛ إذ إن «العلاقات الآلية وحدها هي التي تفتقر إلى الطبيعة الحوارية»70. ومن الطبيعي في مثل هذه الحالة، أن تختل صلة يحيى بالآخر، وتنكمش علاقته معه. وهو ما يدل عليه هذا الشاهد: «يحاول أن يتجرد وينسحب من كل هذا العالم المجلوب، الذي بعثر أهله وضميره في شقوقه وألقه»71.
إن كل هذه الفضاءات بما تنطوي عليه من معطيات ايديولوجية وما تطرحه من تجاذبات ومواقف وردود أفعال، قادت يحيى إلى مراجعة موقفه، ومواجهة المستعمِر بتغيير جهة الصراع من الداخل إلى الخارج، بدل الصراع الذاتي الذي استولى عليه في المحورين السابقين. وقد اتخذ يحيى من الكتابة أداة نضال وصمود للانتصار لمقام العمال والكادحين، ومقاومة الغريب، والدفاع عن قضية الشعب المصيرية بامتلاك الأرض التي هي أهم محامل الهوية الوطنية. ولتحقيق ذلك «كان عليه أن ينتقم من جريدته. أن يكشف عن حزوز الأرض وأسنان العلل التي تقضم المجهولين المقبورين في
Published on July 25, 2019 15:01
July 23, 2019
عبـــــــدالله خلــــــــيفة:أسئلة الصمت والقهر في الاستفاقة على أوجاع التاريخ!
㋡ أسئلة الصمت والقهر في الاستفاقة على أوجاع التاريخ !
كمال الذيب*
يلتصق المشروع القصصي للروائي عبـــــــدالله خلــــــــيفة فكرة ولغة، بهموم واقع والعربي، يجترح موضوعات اقاصيصه ورواياته وشخصياتها من الواقع المحلي بامتداداته الخليجية، انتقل من كتابة القصة القصيرة إلى الرواية التي تصب في مجموعها في هاجس تغيير الواقع وملامسة معطياته. هاجس منطقة تعيش بين ثروة ضخمة ومحاولات تغيير مضنية..
قراءة في الينابيع :
من بين الاعمال الروائية الأكثر أهمية ولفتا للانتباه رواية «البنابيع» (ثلاث أجزاء). بالإمكان القول ان الحقل الروائي التخيلي في هذا العمل يطمح إلى نوع من المسح الروائي لـحكاية البحرين الحديثة، حيث يعلن القاص في هامش الصفحة الأولى من الجزء الأول بأن هذا العمل الروائي يتحرك في فضاء زماني ومكان محلي: البحرين في بداية القرن العشرين، وتوحي مجريات هذا الجزء بأن أحداث الرواية تتخذ انطلاقا لها ينابيع مفتتح القرن العشرين.
والزمان والمكان هاهنا متلازمان، وسواء أجاء متطابقين مع الزمان والمكان الواقعيين تطابقاً تاريخياً أم جاء غير متطابقين فإن قراءة الرواية تدخل القارئ في زمان ومكان يتنازعان الواقعية والخيال، فإذا كان المكان البحريني للرواية يمثل الخلفية التي تقع فيها أحداث الرواية، فإن الزمن من صنع الكاتب، ويرتبط بوعيه أو قراءته لأحداث القرن العشرين. وعند مقاربة أهم مكونات هذا العمل الروائي من الداخل، هناك عدد من العناصر المتعلقة بالمداخل وإيحاءاتها تحتاج على وقفة موجزة.
أولاً : العنوان: أية ينابيع؟
إذا كنا نتفق مبدئياً بأن العنوان لا يوضع اعتباطاً من حيث المنطلق، فإن اختيار الروائي للعنوان يفترض أن يكون ذا صلة بمتن الرواية، ونقول: اذ يبدو العنوان اختياراً؛ لأننا نعتقد بأن العنوان ينشأ في ذهن الكاتب ليس من غياهب المجهول أو من الصدفة، وإنما ينشأ من عدد كبير وقد يكون غير محدود من الإمكانيات التي تختزل أو يمكن أن تختزل الرواية في دلالة رمزية ذات طابع شمولي أو جزئي دال أو ممثل لسير الجوهري، والعنوان هنا ليس لحظة بداية مثلما هو الشأن بالنسبة لفاتحة الرواية، وإنما هو لحظة الخروج لتقديم النص إلى القارئ في كلمة أو كلمات ليست اعتباطية.
الينابيع جمع ينبوع، وهي معرفة أي أنها محددة، أي ليست ينابيع، فهي ينابيع محددة بالزمان والمكان البحرينيين، وكل ما توحي به الينابيع من معاني البداية والأصل والجذور، وبما توحي به من خصوبة وحياة، وهي بصيغتها المجردة من التركيب، تكاد تكون مرادفة للجذور، وهي بصيغتها تلك تفتح الباب مشرعاً أمام احتمالات مختلفة لاستكمال البناء الجملي بالوصف أو بالخبر، إلا أن قراءة الرواية تعطي للجملة الناقصة بقاياها التي تقرب المعنى إلى الجذور: جذور الحياة في هذا المكان والزمان، وجذور تلك الروح المتمردة العاشقة للحرية والحياة، كما سنرى في متن الرواية.
ثانياً : الهامش: البحرين في بداية القرن العشرين
في الفصل الأول من الجزء الأول من الرواية في (ص 9) حرص الروائي، وقبل مفتتح الرواية ومع إشارة الإحالة المتصلة بالرقم(1) على أن يحيلنا على هامش مهم، وليس جزءاً من زمن السرد المتخيل، وإنما هو إطار زمني خارجي لتأطير الرواية في ذهن القارئ، فأحداثها تدور في بداية القرن العشرين في البحرين، وعليه فإن القارئ يدخل بهذه الإحالة في شبكة استحضار للتاريخ الفعلي، وهكذا يقحمه الروائي في عمله ليستحضر الأحداث الفعلية، والأشخاص الفعليين، والأمكنة الفعلية، في موازاة الأحداث والأشخاص والأمكنة التخيلية داخل الرواية، وعليه أن ينجز بنفسه عمليات التقاطع ليدرك الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال، ولكنه أيضاً ليؤكد بأن الرواية ليست محض خيال يدعيه الروائي وينسبه إلى عبقريته في الإنشاء، بل هو بحث القارئ على أن يدخل وعيه التاريخي، وهو يحمل معه كشافاً في دروب الرواية المختلفة.
صحيح أن الرواية إنشاء لغوي وأدبي خالص، وإعادة إنتاج لذلك الواقع وفق شروط الذات المبدعة، وفق «أيديولوجية» الكاتب، إلا أنها كما يطرحها عبـــــــدالله خلــــــــيفة في هامشه الافتتاحي إحالة على رواية أخرى موازية، هي رواية التاريخ الذي يحتوي الزمان والمكان والإنسان معاً. وعليه فإننا بهذا الهامش نجد أنفسنا كمتلقين أمام روايتين، وليس أمام رواية واحدة: رواية المتن، ورواية الهامش، وعلى القارئ أن يتهيأ لخوض الرحلة بعد أن أدخله الروائي في لعبة التبعيد «البريختية».
ثالثا ً: فاتحة الرواية
إذا اعتبرنا فاتحة الرواية ـ ولا نقول المقدمة ـ لحظة فريدة، لحظة تأسيس، فإننا سنتعامل معها منطقةً إستراتيجيةً يتم من خلالها عبور الكاتب وعبور القارئ على حد سواء على دروب الرواية، وكل بداية هي لحظة اتصال حسية بين المؤلف والقارئ، ولذلك تتحول إلى علاقة حوار عبر آليات القراءة، والقارئ هنا بما يمتلكه من ثقافة وخبرات أدبية ولغوية قادرة على تحقيق أدبية النص، وتكفيك رموز البدايات الأساسية، وعليه فإن تلك البدايات إما أن تنجح في اجتذابه على عالم الرواية، وإما أنها تفشل في ذلك فيعرض عنها منذ البداية. فكيف بنى عبـــــــدالله خلــــــــيفة مفتتحه الروائي في الينابيع؟ وهل يمثل هذا المفتتح مفاتيح أساسية للدخول إلى عالمها؟
يمثل الفصل الأول من الرواية مفتتحها الكامل دون نقصان، وهو محمل بالأسئلة والقنابل الموقوتة التي ستنفجر في ثنايا النص الروائي فيما بعد.
«كان محمد يصغي إلى صوت العود الواهن..».
«إن الفجر يترنم، كأن وجعاً ينهار في قلب زهرة..».
«كأن الطفلة تصعد إلى ذروة التلة المشتعلة».
«هو ذا العود يسري في الليل، ويجلب الفجر على الفراغ الواسع والبرية الثكلى».
«هو ذا يقطره في ثقوبه، ويحرقه فرشات وصرخات، ويعصره في هذا السرير الفائض بالعرق، والخوف، وتلال القطن اليابس».
«لماذا يتخفى أخوه وراء الجدران، ويعزف وينزف في هذه العتمة المسربلة بدم الضوء الشحيح، ويئد الأوتار في التربة القاحلة؟».
«لماذا يضع الجدران والوسائد فوق تلك الآلة الرهيفة الرقيقة التي حالما أمسكها بكى؟».
«وكأن صهيلاً يندفع فوق التلال المعشوشبة، وتنهار القلاع المتبقية ومدافعها الحديدية الصدئة، كأن الفرسان».
«كأن الفرسان ينامون وتسحب العصافير أسنتهم وأظافرهم».
«كأن الليل صار فتى وامرأة ضوئية ترقص في جرار الخمرة، والسفن تجلب قمحاً وفرحاً، والبلدة الرفيعة فوق التلة تصحو على صوت الدفوف، والديوك، ونوافير اللذة».
«لماذا يعرق ويرتعش كأن حمى صادفته فجأة، أو حياً مات بغتة؟».
«لماذا يبكي ويضحك، ويتسرب بين الدهاليز والأبواب، والنسوة، والأخوات غارقات في النوم، وتكاد أرجله العجلى تخدش الرؤوس، وأطراف أصابعه لا تكاد تحط على جثث الأحلام؟».
ذلك مقطع مدخلي من المفتتح، يرسم الملامح وعلامات الاستفهام، ويغري بالدخول على عالم محمد وأشواقه تتفتح على صوت العود في الفجر، في الفراغ وسط أرض ثكلى، وفي إطار مكاني مجتمعي يكتم أنفاس العود، ويقع الجدران والوسائد فوقها ليكتم أنفاس تلك الآلة الرهيفة.
ويعدّ أنغام العود (فضيحة)، وينصب لها مشانق الهواء، بل إن الأب إذا عرف أن أخا محمد يعزف على هذه الآلة العار فإنه سيقتله. وتكتشف أن محمداً يعيش حالة تناقض صارخة، بين أشواقه النارية المتحفزة إلى معرفة «العود الذي يحبه كثيراً، والذي سيجن بعيداً عنه» وبين أب متحجر، محافظ، مستعد لذبح الفجر «يعود إلى الفراش، ويلعن الفجر المذبوح على نافذة المنزل، يغفو ليجد عصا أبيه وهي تلتهم كتفه وظهره، وصرخاته اللاذعة تقلب ترنيماته وأغانيه الصغيرة إلى ثغاء». ص 10.
نعرف أن محمداً يعيش في أسرة كبيرة العدد، وهو أصغرهم «ويعرف مكانه، في الصف حشد من الأخوة والأخوات البيض، يقف أمامه حاجباً قامة أبيه التي تقود فرقة الصلاة الخاشعة» ص10.
ونعلم بأنه يكره المطوع وحوشه الذي يفتتح به صباحه يومياً، لأن «عصاه تهتز في السماء كنسر جبار يلتذ بلحم الرؤوس وبدموع العيون» ص11.
وحتى عندما يتلذذ محمد بترتيل القرآن فيهتز له وينغمه فإن عصا «المطوع تقع فوق كتفه، وصوته يصرخ: أتغني يا محمد؟». ص 11.
ولكنه بدل أن ينكمش على نفسه ويخضع «اندفع وحيداً عن أخوته، وسحب العود، وراح يعزف، فطلع له من البرية أولاد الرعاة، وجنيّات البئر، ورشقوه بالحصوات، وأغصان الشوك، والسخريات، فوجد الأوتار مثل قوس قزح، تتفتت في الريح والهذيان». ص 11.
ذلك هو المفتتح الروائي، وهو مشهد مدخلي فسيفسائي، ركّبت مادته من صور وليه لطفل كالكرة المطاطية، يريد أن يقفز ويتحرر من محيط خانق محافظ، وهذه نقطة الصفر لبداية الحكي، فالكاتب هنا لم يبدأ من هوامش ثانوية، بل من لحظة حكائية محملة بالأسئلة والحيرة والقلق، تشي بإمكانيات صراعات وأزمات سيعرضها السرد على القارئ في بقية الفصول، بحيث تندفع الأحداث في اتجاه تصاعدي مركب من خلال محمد الدينامو الرمز الذي بتحركه الزماني والنفسي والفكري تتحرك الأحداث التي يحتويها التاريخ، والصراع الطبقي، والتحولات الاجتماعية التي يكشف عنها النص الروائي في فصوله اللاحقة.
أخيراً يمكن أن نشير في هذا المفتتح إلى التقابل الموجود بين نقطتين من الزمن زمن السرد، أحداهما الفاتحة النصية، وتمثلها صيغة الماضي المتذكر (كان محمد)، في حين ترسم الجمل الأخرى المحكومة بأداة التشبيهه (كأن) التي تكررت في هذا الفصل التمهيدي 13 مرة نسقاً إخباريا، وصفياً، موازياً لحركة محمد، ومفسراً لها، ومكثفاً لها، وحافاً بها باستخدام الفعل المضارع: (يشري / يجلب / يتخفى / يعزف / ينزف / يئد / يضع / يندفع..).
فالجملة الماضية (كان) ترسم الماضي المتذكر، والجمل المضارعة ترسم حاضر السرد الذي بالقياس إليه يتشكل وتتحدد صور الماضي المستحضرة في النص، وهي التي ستنفجر من أقسامها خيوط الحياة المستدعاة. ويضاف إلى أفعال المضارعة أسماء الإشارة (هو ذا العود – هو ذا) لترسيخ حاضر السرد المشبع بالانفعالات، والتطلع، والحيرة، والغضب.
وفي الخلاصة، فإن المفتتح المحمل بأسئلة الصمت والقهر الإنكارية، ومن خلال رسم الملامح الأولى للعلاقة بين (محمد) الذي يتصدر المفتتح، وبين المكان، والزمان، والأشخاص في الرواية، في شبكة من العلاقات قد وضع أسس الجذب والجاذبية للقارئ الذي يجد نفسه (متورطاً) في البحث عن إجابات، وقد نجح المفتتح أيضاً في رسم الملامح الإشكالية الأولى لعلاقات (محمد) بالآخرين:
علاقته مع نفسه (حالة صراع وتطلع لخوض معركة الوجود استجابة إلى نداء داخلي واستعداد للعراك).
علاقته بوالده (قائمة على القهر، والعنف، والإذلال، والتحريم).
علاقته بالمطوع (قائمة على الكراهية، والقهر، والاضطهاد، والتحريم).
علاقته بعموم أخوته وأخواته (قائمة على اعتباره طفلاً صغيراً في آخر الطابور، ومصدراً للسخرية والتندر).
علاقته بأخيه الأكبر العازف السري المتستر، فيه إعجاب، وخوف، وحيرة، وتعاطف سري؛ لأن حب العزف والأغاني يجمع بينهما في ما يشبه الممارسة المحرمة.
إن الروائي ها هنا يرسم الملامح الأولى لتصوره، الذي لا ينفصل فيه المتخيل عن الواقع، إذ هناك جدل حيوي بين حيوية التخييل وواقعية التجارب المتذكرة، باعتبارها مادة القص الخام كما وقعت في التاريخ البحريني.
أن المشهد الافتتاحي تراءى لنا كإطار عام تمهيدي لبناء الشخصية، وليس مشهداً استباقياً يعود إليه القاص من جديد؛ ليكشف للقارئ عن طلاسمه، ويمده بالحقائق والتفاصيل، لأن الكاتب ليس معنياً بهذا النوع من البنية القصصية، فاختياره يكاد يكون تاريخياً يبدأ من الأسفل إلى الأعلى في حركة لولوبية، إلا أن ذلك لا يعني أن النص يخلو من الطاقة التشويقية، فمنذ هذا المفتتح نجد تلك الطاقة القائمة على التلميح دون التصريح، أي على ما يسمى بالإمساك الإخباري، بحيث تبدو تفاصيل المشهد معلقة ومحاطة بهالة من الغموض، من خلال الاستفهامات التي طرحها المشهد:
لماذا يتخفى أخوه…؟
لماذا يضع الجدران والوسائد فوق تلك الآلة؟
لماذا يعزف ويرتعش كان حمماً صادفته فجأة وحياً مات بعته؟
لماذا يبكي ويضحك وتسرب بين الدهاليز والأبواب؟
أتريدُ أن تفضحني؟
أتريد أن يقتلني أبي؟
أتغني يا محمد؟
وهذه الاستفهامات تولد استفهامات موازية لدى المتلقي، وهكذا تصبح عملية القراءة جملاً استفهامية متلاحقة تكشف باستمرار عن فراغات عميقة متلاحقة، تضطرنا الرغبة في سدّها إلى متابعة السرد دون تأخير، وهذه هي الوظيفة التسويقية.
رابعاً : بناء المكان… بناء الزمان
إذا ما عدنا إلى المكان والزمان في هذه المفتتح الروائي أمكن تسجيل الملاحظات التالية:
هنالك الزمن الخارجي الإطاري المعلن في الهامش (بداية القرن العشرين)، وهنالك زمن السرد الذي هو الفجر، وهو فجر الأحداث في المفتتح، وفجر الرواية، وفجر القرن العشرين، أي أننا زمانياً قريبون جداً من الينبوع الأول للرواية. وهنالك إطاران للمكان: المكان الواسع الإطار الخارجي (الفراغ البرية الثكلى)، وهنالك المكان الضيق المتمثل في البيت (الدهاليز، والأبواب، والجدران العالية) والمكان الذي يعلم فيه المطوع، والقرآن، والضربات، والجلد. والمكان والزمان متلازمان أو هما توأمان، ويعدّ المكان بمثابة وعاء الزمان، ويمثل كذلك إطار الأحداث في الرواية أو الخلفية التي تقع فيها هذه الأحداث، والمكان هنا يضعه الروائي ويبنيه بكل عناصره، سواء أكان مطابقاً للمكان الواقعي أو غير مطابق له. والمهم أن الإطارين يشيان بوضوح بحالة من الاختناق بالنسبة لمحمد، وحالة من الحصار سوف تبرر (خروجه) و(مروقه) على الأنماط القائمة على (الأب) وعلى (المطوع) وعلى النواميس العبودية الإقطاعية الإخضاعية.
هذا هو الإطار الذي تتفتح به الرواية، وهو إطار يهيئ للخروج والتحولات، فمثلما أفضى الاستعباد الفردي إلى هذا الضيق الذي حاصر محمد فجعله (يخرج)، فإن العبودية الاجتماعية في لواحق الرواية سوف تكون مقدمة لتحولات، وخروج من نوع آخر. إن هذه المقدمة، أو الفصل، أو المفتتح الروائي ليست مجرد فعل تسجيلي بريء، ولكنها لحظة تأسيسية لهوية السردية تصبح نقطة مركزية في صياغة ينابيع التاريخ من بوتقة الذات.
إن الينابيع تبدأ في التدفق من هذه اللحظة لتؤسس لعملية بناء تاريخ المكان البحريني في الزمن المعلن، من خلال بناء التاريخ الشخصي والعائلي لمحمد، ومن خلال الصور المتدفقة عبر التاريخ الواقع والتاريخ المتخيل في الرواية في حلقات الاضطهاد المصغّر والمكبّر، والصراع بين الدوائر، بين الخارج والداخل، وبين الداخل والداخل، وبين محمد ودوائر الاضطهاد الداخلية، بما فيها تلك التي تسكن الوجدان والمخيلة: الأب، والمطوع، والآخر، فالأب يمنعه من العزف والغناء، والمطوع يجرّمه، وسالم الرفاع، والحراس، وثلة المطاوعة. سلسلة من حلقات الاضطهاد والكبت تحاصره، وتتكشف بالتدرج في النص الروائي، وتخلق تدفقه واندفاعاته في بقية الفصول. وهكذا يصبح العالم الروائي عندما يتأسس فاعلاً من خلال تلك اللغة الحية التي اختارها عبـــــــدالله خلــــــــيفة وسطاً بين السرد القصصي والشعرية منذ اللحظة الأولى في الرواية:
كان محمد يصغي إلى صوت العود الواهن: لغة السرد.
كأن الفجر يترنم/ كأن وجعاً ينهار في قلب زهرة / كأن الطفلة تصعد إلى ذروة التلة المشتعلة: لغة الشعر.
في الخلاصة:
إن اختيار عبـــــــدالله خلــــــــيفة لموضوع هذه الرواية المرتبط بعمق تكوينه ومعايشته للواقع البحريني، جعله يعالج موضوع هذه الرواية بنوع من اللغة المشحونة بالانفعال، حتى تخال الكاتب يقترب من تسجيل حياة يعرفها حق المعرفة بكل تفاصيلها، ولذلك نشأت لغة حميمة سيطرت على مخيلة الكاتب حتى أضحت وسيلة لتفريغ الرؤية الذاتية والأفكار الخاصة العامة بالطبع، ووحدة اللغة الحاملة لوحدة المعاناة ردمت أي مساحة قد تفصل ما بين الواقع التاريخي والواقع الروائي،
فتداخل الاثنان في سيرة ساخنة، وانضما لينشدا نشيد بوح الألم والقهر والأمل.
عبـــــــدالله خلــــــــيفة:أسئلة الصمت والقهر في الاستفاقة على أوجاع التاريخ!
[image error]
كمال الذيب*
يلتصق المشروع القصصي للروائي عبـــــــدالله خلــــــــيفة فكرة ولغة، بهموم واقع والعربي، يجترح موضوعات اقاصيصه ورواياته وشخصياتها من الواقع المحلي بامتداداته الخليجية، انتقل من كتابة القصة القصيرة إلى الرواية التي تصب في مجموعها في هاجس تغيير الواقع وملامسة معطياته. هاجس منطقة تعيش بين ثروة ضخمة ومحاولات تغيير مضنية..
قراءة في الينابيع :
من بين الاعمال الروائية الأكثر أهمية ولفتا للانتباه رواية «البنابيع» (ثلاث أجزاء). بالإمكان القول ان الحقل الروائي التخيلي في هذا العمل يطمح إلى نوع من المسح الروائي لـحكاية البحرين الحديثة، حيث يعلن القاص في هامش الصفحة الأولى من الجزء الأول بأن هذا العمل الروائي يتحرك في فضاء زماني ومكان محلي: البحرين في بداية القرن العشرين، وتوحي مجريات هذا الجزء بأن أحداث الرواية تتخذ انطلاقا لها ينابيع مفتتح القرن العشرين.
والزمان والمكان هاهنا متلازمان، وسواء أجاء متطابقين مع الزمان والمكان الواقعيين تطابقاً تاريخياً أم جاء غير متطابقين فإن قراءة الرواية تدخل القارئ في زمان ومكان يتنازعان الواقعية والخيال، فإذا كان المكان البحريني للرواية يمثل الخلفية التي تقع فيها أحداث الرواية، فإن الزمن من صنع الكاتب، ويرتبط بوعيه أو قراءته لأحداث القرن العشرين. وعند مقاربة أهم مكونات هذا العمل الروائي من الداخل، هناك عدد من العناصر المتعلقة بالمداخل وإيحاءاتها تحتاج على وقفة موجزة.
أولاً : العنوان: أية ينابيع؟
إذا كنا نتفق مبدئياً بأن العنوان لا يوضع اعتباطاً من حيث المنطلق، فإن اختيار الروائي للعنوان يفترض أن يكون ذا صلة بمتن الرواية، ونقول: اذ يبدو العنوان اختياراً؛ لأننا نعتقد بأن العنوان ينشأ في ذهن الكاتب ليس من غياهب المجهول أو من الصدفة، وإنما ينشأ من عدد كبير وقد يكون غير محدود من الإمكانيات التي تختزل أو يمكن أن تختزل الرواية في دلالة رمزية ذات طابع شمولي أو جزئي دال أو ممثل لسير الجوهري، والعنوان هنا ليس لحظة بداية مثلما هو الشأن بالنسبة لفاتحة الرواية، وإنما هو لحظة الخروج لتقديم النص إلى القارئ في كلمة أو كلمات ليست اعتباطية.
الينابيع جمع ينبوع، وهي معرفة أي أنها محددة، أي ليست ينابيع، فهي ينابيع محددة بالزمان والمكان البحرينيين، وكل ما توحي به الينابيع من معاني البداية والأصل والجذور، وبما توحي به من خصوبة وحياة، وهي بصيغتها المجردة من التركيب، تكاد تكون مرادفة للجذور، وهي بصيغتها تلك تفتح الباب مشرعاً أمام احتمالات مختلفة لاستكمال البناء الجملي بالوصف أو بالخبر، إلا أن قراءة الرواية تعطي للجملة الناقصة بقاياها التي تقرب المعنى إلى الجذور: جذور الحياة في هذا المكان والزمان، وجذور تلك الروح المتمردة العاشقة للحرية والحياة، كما سنرى في متن الرواية.
ثانياً : الهامش: البحرين في بداية القرن العشرين
في الفصل الأول من الجزء الأول من الرواية في (ص 9) حرص الروائي، وقبل مفتتح الرواية ومع إشارة الإحالة المتصلة بالرقم(1) على أن يحيلنا على هامش مهم، وليس جزءاً من زمن السرد المتخيل، وإنما هو إطار زمني خارجي لتأطير الرواية في ذهن القارئ، فأحداثها تدور في بداية القرن العشرين في البحرين، وعليه فإن القارئ يدخل بهذه الإحالة في شبكة استحضار للتاريخ الفعلي، وهكذا يقحمه الروائي في عمله ليستحضر الأحداث الفعلية، والأشخاص الفعليين، والأمكنة الفعلية، في موازاة الأحداث والأشخاص والأمكنة التخيلية داخل الرواية، وعليه أن ينجز بنفسه عمليات التقاطع ليدرك الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال، ولكنه أيضاً ليؤكد بأن الرواية ليست محض خيال يدعيه الروائي وينسبه إلى عبقريته في الإنشاء، بل هو بحث القارئ على أن يدخل وعيه التاريخي، وهو يحمل معه كشافاً في دروب الرواية المختلفة.
صحيح أن الرواية إنشاء لغوي وأدبي خالص، وإعادة إنتاج لذلك الواقع وفق شروط الذات المبدعة، وفق «أيديولوجية» الكاتب، إلا أنها كما يطرحها عبـــــــدالله خلــــــــيفة في هامشه الافتتاحي إحالة على رواية أخرى موازية، هي رواية التاريخ الذي يحتوي الزمان والمكان والإنسان معاً. وعليه فإننا بهذا الهامش نجد أنفسنا كمتلقين أمام روايتين، وليس أمام رواية واحدة: رواية المتن، ورواية الهامش، وعلى القارئ أن يتهيأ لخوض الرحلة بعد أن أدخله الروائي في لعبة التبعيد «البريختية».
ثالثا ً: فاتحة الرواية
إذا اعتبرنا فاتحة الرواية ـ ولا نقول المقدمة ـ لحظة فريدة، لحظة تأسيس، فإننا سنتعامل معها منطقةً إستراتيجيةً يتم من خلالها عبور الكاتب وعبور القارئ على حد سواء على دروب الرواية، وكل بداية هي لحظة اتصال حسية بين المؤلف والقارئ، ولذلك تتحول إلى علاقة حوار عبر آليات القراءة، والقارئ هنا بما يمتلكه من ثقافة وخبرات أدبية ولغوية قادرة على تحقيق أدبية النص، وتكفيك رموز البدايات الأساسية، وعليه فإن تلك البدايات إما أن تنجح في اجتذابه على عالم الرواية، وإما أنها تفشل في ذلك فيعرض عنها منذ البداية. فكيف بنى عبـــــــدالله خلــــــــيفة مفتتحه الروائي في الينابيع؟ وهل يمثل هذا المفتتح مفاتيح أساسية للدخول إلى عالمها؟
يمثل الفصل الأول من الرواية مفتتحها الكامل دون نقصان، وهو محمل بالأسئلة والقنابل الموقوتة التي ستنفجر في ثنايا النص الروائي فيما بعد.
«كان محمد يصغي إلى صوت العود الواهن..».
«إن الفجر يترنم، كأن وجعاً ينهار في قلب زهرة..».
«كأن الطفلة تصعد إلى ذروة التلة المشتعلة».
«هو ذا العود يسري في الليل، ويجلب الفجر على الفراغ الواسع والبرية الثكلى».
«هو ذا يقطره في ثقوبه، ويحرقه فرشات وصرخات، ويعصره في هذا السرير الفائض بالعرق، والخوف، وتلال القطن اليابس».
«لماذا يتخفى أخوه وراء الجدران، ويعزف وينزف في هذه العتمة المسربلة بدم الضوء الشحيح، ويئد الأوتار في التربة القاحلة؟».
«لماذا يضع الجدران والوسائد فوق تلك الآلة الرهيفة الرقيقة التي حالما أمسكها بكى؟».
«وكأن صهيلاً يندفع فوق التلال المعشوشبة، وتنهار القلاع المتبقية ومدافعها الحديدية الصدئة، كأن الفرسان».
«كأن الفرسان ينامون وتسحب العصافير أسنتهم وأظافرهم».
«كأن الليل صار فتى وامرأة ضوئية ترقص في جرار الخمرة، والسفن تجلب قمحاً وفرحاً، والبلدة الرفيعة فوق التلة تصحو على صوت الدفوف، والديوك، ونوافير اللذة».
«لماذا يعرق ويرتعش كأن حمى صادفته فجأة، أو حياً مات بغتة؟».
«لماذا يبكي ويضحك، ويتسرب بين الدهاليز والأبواب، والنسوة، والأخوات غارقات في النوم، وتكاد أرجله العجلى تخدش الرؤوس، وأطراف أصابعه لا تكاد تحط على جثث الأحلام؟».
ذلك مقطع مدخلي من المفتتح، يرسم الملامح وعلامات الاستفهام، ويغري بالدخول على عالم محمد وأشواقه تتفتح على صوت العود في الفجر، في الفراغ وسط أرض ثكلى، وفي إطار مكاني مجتمعي يكتم أنفاس العود، ويقع الجدران والوسائد فوقها ليكتم أنفاس تلك الآلة الرهيفة.
ويعدّ أنغام العود (فضيحة)، وينصب لها مشانق الهواء، بل إن الأب إذا عرف أن أخا محمد يعزف على هذه الآلة العار فإنه سيقتله. وتكتشف أن محمداً يعيش حالة تناقض صارخة، بين أشواقه النارية المتحفزة إلى معرفة «العود الذي يحبه كثيراً، والذي سيجن بعيداً عنه» وبين أب متحجر، محافظ، مستعد لذبح الفجر «يعود إلى الفراش، ويلعن الفجر المذبوح على نافذة المنزل، يغفو ليجد عصا أبيه وهي تلتهم كتفه وظهره، وصرخاته اللاذعة تقلب ترنيماته وأغانيه الصغيرة إلى ثغاء». ص 10.
نعرف أن محمداً يعيش في أسرة كبيرة العدد، وهو أصغرهم «ويعرف مكانه، في الصف حشد من الأخوة والأخوات البيض، يقف أمامه حاجباً قامة أبيه التي تقود فرقة الصلاة الخاشعة» ص10.
ونعلم بأنه يكره المطوع وحوشه الذي يفتتح به صباحه يومياً، لأن «عصاه تهتز في السماء كنسر جبار يلتذ بلحم الرؤوس وبدموع العيون» ص11.
وحتى عندما يتلذذ محمد بترتيل القرآن فيهتز له وينغمه فإن عصا «المطوع تقع فوق كتفه، وصوته يصرخ: أتغني يا محمد؟». ص 11.
ولكنه بدل أن ينكمش على نفسه ويخضع «اندفع وحيداً عن أخوته، وسحب العود، وراح يعزف، فطلع له من البرية أولاد الرعاة، وجنيّات البئر، ورشقوه بالحصوات، وأغصان الشوك، والسخريات، فوجد الأوتار مثل قوس قزح، تتفتت في الريح والهذيان». ص 11.
ذلك هو المفتتح الروائي، وهو مشهد مدخلي فسيفسائي، ركّبت مادته من صور وليه لطفل كالكرة المطاطية، يريد أن يقفز ويتحرر من محيط خانق محافظ، وهذه نقطة الصفر لبداية الحكي، فالكاتب هنا لم يبدأ من هوامش ثانوية، بل من لحظة حكائية محملة بالأسئلة والحيرة والقلق، تشي بإمكانيات صراعات وأزمات سيعرضها السرد على القارئ في بقية الفصول، بحيث تندفع الأحداث في اتجاه تصاعدي مركب من خلال محمد الدينامو الرمز الذي بتحركه الزماني والنفسي والفكري تتحرك الأحداث التي يحتويها التاريخ، والصراع الطبقي، والتحولات الاجتماعية التي يكشف عنها النص الروائي في فصوله اللاحقة.
أخيراً يمكن أن نشير في هذا المفتتح إلى التقابل الموجود بين نقطتين من الزمن زمن السرد، أحداهما الفاتحة النصية، وتمثلها صيغة الماضي المتذكر (كان محمد)، في حين ترسم الجمل الأخرى المحكومة بأداة التشبيهه (كأن) التي تكررت في هذا الفصل التمهيدي 13 مرة نسقاً إخباريا، وصفياً، موازياً لحركة محمد، ومفسراً لها، ومكثفاً لها، وحافاً بها باستخدام الفعل المضارع: (يشري / يجلب / يتخفى / يعزف / ينزف / يئد / يضع / يندفع..).
فالجملة الماضية (كان) ترسم الماضي المتذكر، والجمل المضارعة ترسم حاضر السرد الذي بالقياس إليه يتشكل وتتحدد صور الماضي المستحضرة في النص، وهي التي ستنفجر من أقسامها خيوط الحياة المستدعاة. ويضاف إلى أفعال المضارعة أسماء الإشارة (هو ذا العود – هو ذا) لترسيخ حاضر السرد المشبع بالانفعالات، والتطلع، والحيرة، والغضب.
وفي الخلاصة، فإن المفتتح المحمل بأسئلة الصمت والقهر الإنكارية، ومن خلال رسم الملامح الأولى للعلاقة بين (محمد) الذي يتصدر المفتتح، وبين المكان، والزمان، والأشخاص في الرواية، في شبكة من العلاقات قد وضع أسس الجذب والجاذبية للقارئ الذي يجد نفسه (متورطاً) في البحث عن إجابات، وقد نجح المفتتح أيضاً في رسم الملامح الإشكالية الأولى لعلاقات (محمد) بالآخرين:
علاقته مع نفسه (حالة صراع وتطلع لخوض معركة الوجود استجابة إلى نداء داخلي واستعداد للعراك).
علاقته بوالده (قائمة على القهر، والعنف، والإذلال، والتحريم).
علاقته بالمطوع (قائمة على الكراهية، والقهر، والاضطهاد، والتحريم).
علاقته بعموم أخوته وأخواته (قائمة على اعتباره طفلاً صغيراً في آخر الطابور، ومصدراً للسخرية والتندر).
علاقته بأخيه الأكبر العازف السري المتستر، فيه إعجاب، وخوف، وحيرة، وتعاطف سري؛ لأن حب العزف والأغاني يجمع بينهما في ما يشبه الممارسة المحرمة.
إن الروائي ها هنا يرسم الملامح الأولى لتصوره، الذي لا ينفصل فيه المتخيل عن الواقع، إذ هناك جدل حيوي بين حيوية التخييل وواقعية التجارب المتذكرة، باعتبارها مادة القص الخام كما وقعت في التاريخ البحريني.
أن المشهد الافتتاحي تراءى لنا كإطار عام تمهيدي لبناء الشخصية، وليس مشهداً استباقياً يعود إليه القاص من جديد؛ ليكشف للقارئ عن طلاسمه، ويمده بالحقائق والتفاصيل، لأن الكاتب ليس معنياً بهذا النوع من البنية القصصية، فاختياره يكاد يكون تاريخياً يبدأ من الأسفل إلى الأعلى في حركة لولوبية، إلا أن ذلك لا يعني أن النص يخلو من الطاقة التشويقية، فمنذ هذا المفتتح نجد تلك الطاقة القائمة على التلميح دون التصريح، أي على ما يسمى بالإمساك الإخباري، بحيث تبدو تفاصيل المشهد معلقة ومحاطة بهالة من الغموض، من خلال الاستفهامات التي طرحها المشهد:
لماذا يتخفى أخوه…؟
لماذا يضع الجدران والوسائد فوق تلك الآلة؟
لماذا يعزف ويرتعش كان حمماً صادفته فجأة وحياً مات بعته؟
لماذا يبكي ويضحك وتسرب بين الدهاليز والأبواب؟
أتريدُ أن تفضحني؟
أتريد أن يقتلني أبي؟
أتغني يا محمد؟
وهذه الاستفهامات تولد استفهامات موازية لدى المتلقي، وهكذا تصبح عملية القراءة جملاً استفهامية متلاحقة تكشف باستمرار عن فراغات عميقة متلاحقة، تضطرنا الرغبة في سدّها إلى متابعة السرد دون تأخير، وهذه هي الوظيفة التسويقية.
رابعاً : بناء المكان… بناء الزمان
إذا ما عدنا إلى المكان والزمان في هذه المفتتح الروائي أمكن تسجيل الملاحظات التالية:
هنالك الزمن الخارجي الإطاري المعلن في الهامش (بداية القرن العشرين)، وهنالك زمن السرد الذي هو الفجر، وهو فجر الأحداث في المفتتح، وفجر الرواية، وفجر القرن العشرين، أي أننا زمانياً قريبون جداً من الينبوع الأول للرواية. وهنالك إطاران للمكان: المكان الواسع الإطار الخارجي (الفراغ البرية الثكلى)، وهنالك المكان الضيق المتمثل في البيت (الدهاليز، والأبواب، والجدران العالية) والمكان الذي يعلم فيه المطوع، والقرآن، والضربات، والجلد. والمكان والزمان متلازمان أو هما توأمان، ويعدّ المكان بمثابة وعاء الزمان، ويمثل كذلك إطار الأحداث في الرواية أو الخلفية التي تقع فيها هذه الأحداث، والمكان هنا يضعه الروائي ويبنيه بكل عناصره، سواء أكان مطابقاً للمكان الواقعي أو غير مطابق له. والمهم أن الإطارين يشيان بوضوح بحالة من الاختناق بالنسبة لمحمد، وحالة من الحصار سوف تبرر (خروجه) و(مروقه) على الأنماط القائمة على (الأب) وعلى (المطوع) وعلى النواميس العبودية الإقطاعية الإخضاعية.
هذا هو الإطار الذي تتفتح به الرواية، وهو إطار يهيئ للخروج والتحولات، فمثلما أفضى الاستعباد الفردي إلى هذا الضيق الذي حاصر محمد فجعله (يخرج)، فإن العبودية الاجتماعية في لواحق الرواية سوف تكون مقدمة لتحولات، وخروج من نوع آخر. إن هذه المقدمة، أو الفصل، أو المفتتح الروائي ليست مجرد فعل تسجيلي بريء، ولكنها لحظة تأسيسية لهوية السردية تصبح نقطة مركزية في صياغة ينابيع التاريخ من بوتقة الذات.
إن الينابيع تبدأ في التدفق من هذه اللحظة لتؤسس لعملية بناء تاريخ المكان البحريني في الزمن المعلن، من خلال بناء التاريخ الشخصي والعائلي لمحمد، ومن خلال الصور المتدفقة عبر التاريخ الواقع والتاريخ المتخيل في الرواية في حلقات الاضطهاد المصغّر والمكبّر، والصراع بين الدوائر، بين الخارج والداخل، وبين الداخل والداخل، وبين محمد ودوائر الاضطهاد الداخلية، بما فيها تلك التي تسكن الوجدان والمخيلة: الأب، والمطوع، والآخر، فالأب يمنعه من العزف والغناء، والمطوع يجرّمه، وسالم الرفاع، والحراس، وثلة المطاوعة. سلسلة من حلقات الاضطهاد والكبت تحاصره، وتتكشف بالتدرج في النص الروائي، وتخلق تدفقه واندفاعاته في بقية الفصول. وهكذا يصبح العالم الروائي عندما يتأسس فاعلاً من خلال تلك اللغة الحية التي اختارها عبـــــــدالله خلــــــــيفة وسطاً بين السرد القصصي والشعرية منذ اللحظة الأولى في الرواية:
كان محمد يصغي إلى صوت العود الواهن: لغة السرد.
كأن الفجر يترنم/ كأن وجعاً ينهار في قلب زهرة / كأن الطفلة تصعد إلى ذروة التلة المشتعلة: لغة الشعر.
في الخلاصة:
إن اختيار عبـــــــدالله خلــــــــيفة لموضوع هذه الرواية المرتبط بعمق تكوينه ومعايشته للواقع البحريني، جعله يعالج موضوع هذه الرواية بنوع من اللغة المشحونة بالانفعال، حتى تخال الكاتب يقترب من تسجيل حياة يعرفها حق المعرفة بكل تفاصيلها، ولذلك نشأت لغة حميمة سيطرت على مخيلة الكاتب حتى أضحت وسيلة لتفريغ الرؤية الذاتية والأفكار الخاصة العامة بالطبع، ووحدة اللغة الحاملة لوحدة المعاناة ردمت أي مساحة قد تفصل ما بين الواقع التاريخي والواقع الروائي،
فتداخل الاثنان في سيرة ساخنة، وانضما لينشدا نشيد بوح الألم والقهر والأمل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب من البحرين
عبـــــــدالله خلــــــــيفة:أسئلة الصمت والقهر في الاستفاقة على أوجاع التاريخ!
Published on July 23, 2019 08:33
July 22, 2019
【مفهوم الحرية في رواية الينابيع للكاتب عبـــــــدالله خلــــــــيفة】
[image error]
د. انتصار البناء✶
مقدمة
يعّد عبـــــــدالله خلــــــــيفة أحد أهم كتاب الرواية في البحرين. شغلته الإيديولوجيا وطموح الحرية والتقدم في كتاباته النقدية والأدبية والفكرية. وليست رواية «الينابيع» إلا قطعة فنية تعبر عن رؤاه الفكرية في قالب أدبي مكتنز بالمضامين والدلالات.
في رواية «الينابيع» يقف القارئ أمام أسئلة تسكنه بعد أن يغادر الصفحات الأخيرة من الرواية. إنها مقاصد الكاتب المهجوس بهموم الإنسان والمجتمع، التي يورط بها القارئ معه، ويستحثه على خلق أجوبه لأسئلة لا يبين لها حل في واقع ملتبس، أبدا، بالتناقضات والانقلابات والمفاجآت. العمل الأدبي، والرواية تحديدا، ليست فسحة ومتعة فحسب. إنها انشغال واشتغال بالأفكار الإنسانية، والأسئلة المصيرية.
يطرح الكاتب عبـــــــدالله خلــــــــيفة إشكالات الفكر التقدمي الجوهرية، وهي أسئلة تمتد في فكرنا العربي منذ زمن النهضة. أسئلة الانتصار والهزيمة… النجاح والفشل.. أسئلة الإرادة والتغيير:
◎ من هو الإنسان الذي يملك حريته؟
◎ وكيف نترجم عن حريتنا بما يخلق إمكانات التغيير في المجتمع ؟
◎ لماذا تتعثر المشاريع الوطنية في أوجها ؟
◎ لماذا يتحقق التغيير من خلال الشخصيات غير التقدمية؟
تلك الأسئلة نهضت بها بنية روائية تناسبت مع انفتاح الأسئلة على مضامين اجتماعية غارت في ردهات المجتمع غير المطروقة، وفي تجاويف النفس غير المالوفة. وكانت اللغة هي الجناح الذي طاف بعناصر السرد المختلفة في ثم التحم بها صيغة فنية تستحق دراستها من زوايا متعددة.
أولا : الينابيع والتاريخ:
ليست ثلاثية «الينابيع» رواية تاريخية، ولكنها تسير على حافة التاريخ. فهي تطوي في فضائها الزمني مرحلة تاريخية في البحرين تمتد من العشرينيات حتى السنوات الأولى من الألفية الثانية. وهذه المدة الزمنية قسمها الكاتب في روايته مراحل ثلاثا نهضت بها أجزاء الرواية. فالجزء الأول «الصوت» تدور أحداثه زمن الغوص، والجزء الثاني «الماء الأسود» تدور أحداثه زمن التنقيب عن النفط وسنوات اكتشافه الأولى، والجزء الثالث «الفيضان» تدور أحداثه عصر ما يسميه عبـــــــدالله خلــــــــيفة في بعض كتاباته زمن اقتصاد النفط .
ولم. تتغّى رواية الينابيع من استدعاء التاريخ توثيق سيرة بحرينية شأنها في ذلك شأن كل عمل فني، بل تغيت طرح رؤية إبداعية للتاريخ، تعيد سرد الأحداث من منظور أدبي وفق رؤية الكاتب. ذلك أن الرواية الأدبية للتاريخ هي سرد لحقيقة أخرى تضمنها التاريخ غير الحقيقة التوثيقية التي تسردها كتب التاريخ «فلا مناص للرواية إذا اختارت الفضاء التاريخي المرجعي مجالا لها من أن تقول التاريخ. ولكنها تقوله على طريقتها، أي أنها لا تكرره وإنما تحينه»(1) ، وتعيد تفسيره بناء على خلق مقاربة بين التاريخ والواقع.
وفي رواية الينابيع نكون بصدد رواية تصدر عن منظور واقعي اشتراكي يعبر عن المدرسة التي انتمى إليها الكاتب عبـــــــدالله خلــــــــيفة وبقي وفيا لها حتى نهاية حياته. فالرواية تقرأ التاريخ البحريني بحثا عن حقيقة خارج الصيغة الجامدة والثابتة، الرواية تقرأ التاريخ باعتباره صيغة متحركة ومتغيرة وليس باعتباره قانونا جامدا يكرر معطياته في كل مرحلة، وفي ظل هذا المفهوم يقول لوكاتش (إن مواضيع التاريخ تبدو مواضيع قوانين طبيعية ثابتة وأبدية. إن التاريخ يتجمد في شكلية لا تتمكن من تفسير الصيغ التاريخية الاجتماعية في جوهرها الحقيقي كصيغ متبادلة بين الناس، إن هذه الصيغ تطرح بعيدا عن هذا المنهل الأكثر صحة لاستيعاب التاريخ) (2) ، وفي مجال الفن فإن السرد هو من أفضل الأعمال التي تفسر التاريخ وتكشف عن الحقيقة الأدبية التي تعبر عن الطابع الحيوي والديموي الذي يجعله حيا فينا.
والصيغة التي تمثلتها الرواية في طرح رؤيتها للتاريخ البحريني في تلك المرحلة الزمنية، هي صيغة أوردت الأحداث التاريخية على تواليها الزمني مستعينة بشخصيات مقاربة لشخصيات تاريخية عاشت تلك المرحلة التاريخية. وهي صيغة تخلق تجربة قراءة فريدة عند القارئ (فإذا اعتقدنا عن وعي أو عن غير وعي أن القصة قد تكون حدثت فعلا، فإننا نستغرق فيها بطريقة خاصة) (3) بسبب التأثير الذي يخلقه حضور الواقع في المتخيل السردي. والرواية بدأت بثورة الغواصين على الطواويش ضد عملية الديون التي لا تنتهي، ثم انتقلت في تسلسلها التاريخي إلى التحول الاقتصادي الحاد الذي مرت به البحرين بانتهاء عصر الغوص وتحول الغواصين إلى عمال ينقبون عن النفط في الجبل، ثم دخول البحرين مرحلة التيارات الإيديولوجية المختلفة. وتخلل كل هذه المراحل سرد لمقاومة الاحتلال الإنجليزي وتشكل الحركات الوطنية وتطورها وتداعيها أمام كل حدث مفصلي في تاريخ البحرين المعاصر.
وأمام هذا الحضور الطاغي للواقع الذي تخلقه (المماثلة) التاريخية؛ فإن الرواية استخدمت أدواتها الخاصة في المباعدة بين الحدث التاريخي بشخوصه وبين المتخيل السردي بدلالاته، فـــ( يضطلع السرد في هذا المقام بدور التمثيل الذي لا يحاكي، لأنه ينشئ المفارقة من رحم المماثلة، ويضطلع بالتبعيد في اللحظة التي يقنع فيها بالتقريب والمماثلة والمماهاة) (4). وتلك هي إحدى السمات الجمالية في الرواية التي جعلت منها قطعة فنية تتوارب بين التاريخية والخيالية.
إن الصيغة السابقة هي التي جعلت مضمون الرواية نقطة ارتكاز تحليلها. فالكاتب عبـــــــدالله خلــــــــيفة كان معنيا بمغامرة المعنى أكثر من خوض مغامرة المبنى. وكان معنيا بتجلية مضمون الرواية ومقاصدها ورؤاها أكثر من اعتنائه بسبك شكلها وتفجير لغتها وتركيباتها. لذلك عُنيت في هذه الدراسة بالغور في أحد المضامين الذي كان التاريخ أحد البوابات المفضية إلى سرادقه في الرواية. وهو مفهوم الحرية الذي كان هاجس الرواية وهاجس شخصياتها في المراحل التاريخية المختلفة التي سردتها الرواية.
ثانيا : الرؤية والبناء في رواية الينابيع:
الحديث عن الرؤية والتشكل هو حديث الرواية اللامنتهي، من حيث إنه حديث عن إبداع الرواية التي تأبى أن تقف عند تشكلات محددة أو رؤى محدودة. وهذه الدراسة تنحو إلى اعتبار قراءة الرواية وتحليلها يقومان على تكامل النظر في المكونات الروائية بما فيها البنية والرؤية.
إذ يصعب فصلهما أو التمييز بينهما تمييزا كليا. وما دراسة المكونات الروائية إلا عملية تحليل وتعمق في بعض المكونات؛ يتعين إتمامها بتتبع الآليات التي تندغم بها المكونات بعضها ببعض مشكلة الحكائية حسب تعبير الناقد إبراهيم عبدالله الذي يعرف المادة الحكائية بأنها. (متن مصوغ صوغا سرديا، وهذا المتن إنما هو خلاصة تماهي العناصر الفنية الأساسية وهي الحدث والشخصية والخلفية الزمانية ــ المكانية. بالوسائل السردية التي نهضت بمهمة نسجها وصياغتها)(5).
ففي سياق الحديث عن بنية رواية «الينابيع»، نتبيّن أن النظام الذي شُيدت عليه بنية الرواية هو نظام يقوم على مكون (شخصيات). وهو نظام يشد إليه باقي مكونات السرد المكانية والزمانية والوصفية ليشكل النسيج الكلي للرواية. فإذا رصدنا الجملة الأولى من كل جزء في الرواية سوف نجدها جملاً ترتكز على «شخصية» يحدد السرد تموضعها في الحدث وفي الفضاء المكاني والزماني عبر التحديد الزمني الماضي.
ففي الجزء الأول «الصوت» تطالعنا الرواية بجملة (كان محمد يصغي إلى صوت العود الواهن). وفي الجزء الثاني «الماء الأسود» يبدأ السرد بجملة (كان الشاطئ مسرحاً لمعركة عليّ). وفي الجزء الثالث «الفيضان» يبدأ السرد بجملة (كان علي يسأل الليل والمطر وأنصال البرق). فالشخصيات في الرواية هي التي تضيء باقي مكونات السرد وتشدها إلى بعضها عن طريق توغل السرد في الشخصيات وتعمقه فيها وفي حركتها في الرواية وتطورها أو تجمدها. وفي الرواية نماذج كثيرة يمكن الاستدلال بها على ذلك. فعبر شخصية «محمد العواد» تكشف الرواية الموقف الاجتماعي من الفن والمرأة والقبيلة. وتكشف أثر المكان في احتواء تلك الأفكار وتناميها، حين انتقل من المحرق إلى المنامة حيث الفارق في التأثير الإيديولوجي الديني بين المدينتين، ثم
حين سافر إلى الهند لإصدار اسطوانته وعاش جزءا من الحياة الحرة التي تمناها.. وعبر شخصية «إبراهيم زويد» تكشف الرواية عن حدة التحول الزمني من عصر اعتمد اقتصاده على الغوص وتجارة اللؤلؤ إلى آخر يحفر طريقه نحو تجارة النفط. وكيف صاحب ذلك تحول آخر في القيم أثر في العلاقات الاجتماعية التي كانت سائدة قبلا.
كما أن سرد الرواية الذي قام على عرض عدد كبير من الشخصيات والتعمق في تركيباتها الشخصية وخلق تواصل اجتماعي مكثف فيما بينها جعل وظيفة بعض الشخصيات التي يمكن وصفها بأنها نمطية وتسير وفق إيقاع ثابت في الرواية؛ تسليط الضوء على قضية القيم في الرواية وكشف نسبية القيم عند بعض الشخصيات دون أن تنجرف الرواية نحو الخطابية والإنشائية. ويمكن اعتبار شخصية «فيّ» التي ظهرت شخصية نمطية في الرواية لم تتطور تركيبتها النفسية أو الاجتماعية ولم يتنالمَ دورها أو وظيفتها في السرد، يمكن اعتبارها، أداة فنية كشفت بها الرواية الفارق القيمي بين شخصية «محمد العواد» الذي استغل حبها له ثم تخلى عنها في أقسى ظرف اجتماعي يمكن أن تواجهه. وشخصية سعيد المناعي الذي أخرجها من محنتها الاجتماعية وتقبلها زوجة تنجب على فراشه ابنا ليس له. ومن خلال شخصيتي «محمد العواد» و«سعيد المناعي» تطرح الرواية الفارق بين الحرية غير الملتزمة التي يطمح إليها العواد، والحرية الملتزمة التي تمثلها شخصية المناعي.
إن الاعتناء ببناء الشخصيات وتوصيف واقعها الاجتماعي هو في حقيقة الأمر أحد مقومات الاتجاه الواقعي الاشتراكي في الأدب الذي تنتمي إليه الرواية، إذ يتعذر دراسة مضمون الرواية دون التطرق إلى السمات الواقعية التي اختصت بها. ومن أهم تلك السمات دراسة الشخصيات، إذ «لا غنى لكل عمل أدبي كبير عن عرض أشخاصه في تضافر شامل لعلاقاتهم بعضهم مع بعض ومع وجودهم الاجتماعي ومع معضلات هذا الوجود. وكلما كان إدراك هذه العلاقات أعمق، وكان الجهد في إخراج خيوط هذه الوشائج أخصب، كان العمل الأدبي أكبر قيمة»(6) من المنظور الجمالي الاشتراكي في الأدب.
واستنادا إلى ما سبق يمكن النظر إلى بنية الرواية على أنها بنية (عنقودية) تقوم على تفريع شخصيات النص، ومحيطها الاجتماعي الذي تنتمي إليه تأثيرات كل من الزمان والمكان، من مسارين تاريخيين واجتماعيين، تمثلهما شخصيتين رئيسيتين.
المسار الأول : مسار شخصية «محمد العواد» وهو مسار مجتمع ما قبل النفط، بعلاقاته المتشابكة وبمحيطه الاجتماعي الخاص بالغواصين والفقراء والعبيد والمشايخ. وكان الاتجاه الإيديولوجي المهيمن على النص هو الاتجاه الديني الذي يُثبت العبودية، ويحرم الفن، ويُضيق على المرأة. ويعطي صلاحيات واسعة لرجال الدين، الذين هم جزء من السلطة.
المسار الثاني : هو مسار شخصية بدر الوزان، وهو مسار عصر النفط في البحرين، وله شخصياته المرتبطة بسياقه التاريخي والاجتماعي. والاتجاه الإيديولوجي المهيمن على النص في تلك المرحلة هو الاتجاه اليساري، الذي تذبذب بين القومية والاشتراكية.
ويلتقي المساران في شخصية عليّ، الذي هو ابن غير شرعي «لمحمد العواد» وتلميذ «بدر الوزان» الذي تمرد عليه. وتعد شخصية عليّ نتاج المسارين فعلا، فهو نتاج رحلة العبيد الذين تدرجوا، تاريخيا، بسبل شتى كي يتحرروا من قيود اللون والنسب والأعرف، وهو نتاج التحولات الفكرية التي شهدتها مسيرة المفكرين والمناضلين في البحرين في تلك المرحلة التاريخية.
ولا تخرج رؤية الرواية عن التركيبة المتشابكة مع بنيتها القائمة على «نظام الشخصيات»، التي تتكامل معها في إنتاج الصيغة الإبداعية للرواية. وحيث إن الرؤية هي «الطريقة التي اعتبر بها الراوي الأحداث عند تقديمها».(7) وحيث إن الرواية اتخذت لنفسها نمط الراوي من الخارج الذي يعلم بكافة مقتضيات الأحداث، فإنها تكون بذلك قد منحت شخصياتها فرصة وافية للتعبير عن نفسها وعن رؤيتها الاجتماعية بصيغ لغوية متعددة كان للضمائر دور بارز فيها.
إن التعبير عن الرؤية الذاتية للعالم هو، كذلك، أحد مقومات المدرسة الواقعية الذي تضطلع الشخصيات فيها بالنهوض بهذه المهمة. فــ«مقدرة الشخصيات الأدبية على التعبير عن نظرتها إلى العالم فكرياً تؤلف جزءاً مكوناً ضرورياً هاماً من الترجمة الفنية للواقع ».(8) لذلك استدعت هذه الدراسة استقصاء رؤى بعض الشخصيات للآخر والمجتمع والكون. فكان أهم ما يشغل معظم شخصيات الرواية تطلعها إلى الحرية وفق رؤيتها ومنظورها الخاص للحرية. وانطلقت كافة الرؤى (التحررية) من موقف كل شخصية من جذورها ومن أزمة هوية تعاني منها العديد من شخصيات الرواية. وهو ما يفسر عنوان الرواية «الينابيع». فليست الينابيع إلا تمثلا آخر لمفهوم الجذور. ولذلك نجد أن قضية معظم الشخصيات في الرواية هي التمرد على ينابيعها/ جذورها.
والرواية في صياغتها لرؤيتها تطرح الأسئلة التاريخية الكبيرة في حياة الشعوب النضالية: فمعظم الشخصيات لم تتمكن من تحقيق أهدافها التي تكللها الأهداف النبيلة والقيم السامية. فها هو السبب؟؛ وباقي الشخصيات التى طرحتها الرواية في إطار انتهازي كانت هي الأقدر على الوصول إلى مبتغاها. فما هو السبب أيضا؟ الذين صنعوا التاريخ والمجد والذين أداروا حركة التغيير لم يكونوا أصحاب القيم التحررية. الذين تزعموا حركة التغيير ونادوا بالقيم التحررية أصبحوا تابعين، في نهاية الأمر، لمن كانوا يختلفون معهم ويناقضونهم في القيم !!. هل ثمة مشكلة في الأهداف أم في الأدوات، أم في كليهما؟
إنّ السرد الذي أخضع الكم الكبير من الشخصيات في متواليات تاريخية (طويلة نسبيا في حياة الفرد / قصيرة نسبيا في حياة الشعوب) يحاول البحث في الأسئلة السابقة من منظور فني دون تقديم إجابات حاسمة عليها، بل بطرح رؤى متعددة واتجاهات مختلفة تفسر بواعث سلوك الشخصيات وتبريرها لمساراتها واختياراتها.
ثالثا : التمرد على الينابيع:
بدت أغلب شخصيات الرواية مأزومة بينابيعها… مهجوسة بجذورها، وبدت الينابيع/ الجذور هي العائق المانع أمام الشخصيات من العيش بحرية، وهذا ما جعل الرواية تصوغ للنضال من أجل الحرية طابع الصراع الطبقي بمستويات مختلفة. وعند تحليل رؤية كل شخصية لمفهوم الحرية ولكيفية الوصول إليها، وبقراءة وظيفة المكونات السردية في تعميق تلك الرؤى؛ يمكننا الوصول إلى الرؤية الكلية للرواية والمقصد الفني للكاتب الذي يصعب إغفال النظر فيه عند دراسة العمل الروائي الواقعي إذ «يحمل كل نص حقيقة ينبغي إبرازها، ولكن يجب التنبه إلى أن هذه الحقيقة إنما انتزعت من مؤلفها انتزاعا. إنه هو الذي يمسك بها ويضمنها في النص»(9) تضمينا أدبيا يترجم رؤاه في نسق فني.
وستقوم هذه الدراسة في هذا الحيز على تقصّي ينابيع/ جذور بعض الشخصيات التي كانت باعثا للكثير من سلوكياتها، وقراءة تلك الينابيع ضمن البنية السردية، ومن ثم النفاذ إلى دلالتها الفنية.
1 ـــ محمد العواد: طيف الأم :
محمد العواد هو ابن شرعي خارج مؤسسة الزواج، والدته إحدى الإماء اللاتي كن يعملن في بيوت السادة. لم يجد محمد العواد من والده أو من المجتمع عدالة ومساواة في المعاملة والتقدير بينه وبين إخوته البيض (الشرعيين)، فهو في كل مرة يقف في الصف الأخير، ويصلي غاضباً، ويأكل مع الخدم ويصفعه أبوه لأي هفوة، وهو يرى إخوته البيض ممتلئين بالشحم والدم، وهو عود يابس يرعى الغنم وينادم الآبار الملأى بالأصداء والأغنيات»(10).
وقد شكلت الأم في وجدانه الطعم الأول للألم والمسوغ العرقي للفن، فكانت الصورة الأولى للإنسان المهمش والصدى الدائم الذي يتردد في ذاكرته عند كل معاناة يتجرعها بسبب اللون والنسب الذي ورثهما من علاقة والده بأمه. فحين علقه والده مرة في البئر ترهيبا له كي يترك العزف والغناء تذكر والدته وفضاء العذاب الذي أحاط بحياتها في منزل والده «الجوع والحشرات والمرايا المشرخة، وقناديل الأخوات والأموت، والعظام الملقاة التي لا مسكها أصابعه، تذكره، بالأم. ذلك الجسد الجميل والوجه الأبنوسي الناعم كان ملجأه الأول والأخير، تمتد أياديها إليه الآن لتقطع الحبال الغائرة في لحمه فلا تستطيع»(11). وحين عشق الفن ربطه بالجينات الأفريقية التي تسللت إلى دمه عبر أمه وخلقت فيه تلك الارتعاشات الراقصة، «رآها أبوه ذات ليلة مملة، بين العبدات فاشتهاها، وصنعه بذلك اللون الأبنوسي والروح الأفريقية. يريد أن لا تدمدم الغابات في عروقه..». (12).
وعلى الرغم من سرد الرواية لمعاناة محمد العواد من حالة التمييز، الاجتماعي عامة والأسري خاصة. التي يعيشها فإنها لم تعبر عن تبرمه الشخصي من لونه أو نسبه لوالدته بصيغ صريحة أو سلوك جلي، ولكن تغلغل التصور الجمعي للفتى الأبيض الشجاع لم تستثن مخيلة محمد العواد هو الآخر لتكشف عن شوق وتوق عميقين لصورة البطل الأبيض، فحين رأى «فارس» ذات مرة استحضر البطولة في بياضه وأناقته، «إنه فتى الشيوخ السارح بين خيامهم وخيولهم وبساتينهم، قريب إلى فؤاد الشيخ حامد، فكيف يبدو الآن صلدا مثل رمح. لِم لمْ يزل البياض والأناقة شرارات القوة والفحولة».(13) وهذه بعض أمارات الشعور بالتأزم الطبقي في نفس محمد العواد.
والمفارقة الطبقية التى يعيشها محمد العواد في تركيبته كانت المؤثر الأهم في تشكل مفهوم الحرية عنده. فهو ليس عبداً مكتملاً، كما أنه ليس حراً بالأصالة؛ ولذلك يمكن النظر إلى الأداة التي استعان بها محمد العواد للتعبير عن رغبته بالتحرر من أزمة الينابيع التي يعيشها على أنها تكمن في الفن وهو أداة (فردية) في طبيعة استخدام العواد لها، غير أنها تمتلك خاصية التأثير والتحريض الجماعي، فالفن له «قدرته على التأثير في فترات أبعد من اللحظة التاريخية التي نشأ فيها، وبذلك كان له سحره الدائم»(14) ، وهو ما حاول محمد العواد ممارسته في بعض أجزاء الرواية غير أنه لم يتمكن من إنجازه حدثاً مكتملاً في بنية الرواية.
وكان الغناء عند محمد العواد هو أقوى أدوات التمرد وعلامة الحرية الكبرى. وكان الفن، في ذلك الوقت، المتمثل في العزف والغناء يواجه الازدراء والاستهجان. فتكاملت أسباب الازدراء في شخصية محمد العواد من نبع واحد نبع الأم التي ورثته السواد والنسب وجريان الطرب في نبض الدم.
وبالفن تمرد محمد العواد على كل مختلف المؤسسات التي كانت تحاربه :
◎ مؤسسة الأسرة: منح العود لمحمد نسباً ولقباً وهوية لم يمنحها له والده. فصار في الرواية محمد العواد، والقارئ لا يجد في الرواية إسماً لعائلة محمد. ولأجل العود والغناء هجر محمد أسرته التي لم تمنحه العدل والمساواة والاعتراف الكامل ولم تقدم له عوضاً عما سبق الحرية في اتباع ما يهوى.
كما تمرد محمد العواد على مؤسسة الزواج نفسها لأنها ستكون عائقاً أمامه في استمرار حريته في ممارسة الفن، يقول لمّا طرح موضوع زواجه من «فيّ» بعد أن حملت منه «أنا الرجل الحر، أحبس نفسي في هذه الخرابة لأصنع أطفالا وأناغي زوجة وأشتري الأدام كل صباح! إنني لم أتغرب وأتعذب وأستشهد في هذه المدينة الحجرية إلا لكي أغني! سأغني! سأغني. أنا فنان أحلم أن أصعد إلى النجوم لا أعيش بين بول الصغار» (15).
◎ المؤسسة الدينية : واجه محمد العواد رجال سالم الرفاعي طوال حياته الفنية، كانوا يلاحقونه ويكسرون عوده وآلاته ويفسدون لياليه وسهراته، واصفين ما يفعله بالدعوة إلى الفجور وإفساد المجتمع. وكانت المؤسسة الدينية هي أول من حارب حبه للغناء والفن، غير أنها لم تتمكن، على طول مرحلة الصراع معها، من كسر عزيمته واثنائه عن إكمال مسيرته الفنية.
◎ الواقع السياسي والاجتماعي: وسم الكاتب الرواية في جزئها الأول بعنوان «الصوت» وبتقصي المفهوم الذي صاغته الرواية للصوت يتعمق مدلول التمرد ثم الثورة في الرواية إلى ان يختتم الجزء الأول حدثه الأخير بحركة احتجاجات كبيرة تنتهي بإطلاق النار على الميجر الإنجليزي. ففي الثقافة الشعبية يعبر مصطلح «الصوت» عن أحد الفنون الشعبية «التي تعتمد على الآلة المحببة في الأوساط الخليجية والعربية (العود)، والتي ترجمت بروح وإحساس ينتميان إلى عروبته وإقليميته الخليجية. فاختيرت له القصائد العربية الجاهلية، وأيضاً التي جاءت بعد الإسلام»(16). وبتقصي دلالة «الصوت» سوف نجدها تتطور من المفهوم الفني الذي تأسست عليه في الثقافة الشعبية وفي المدلول الأول في الرواية إلي الدلالة التعبوية والنضالية التي أخذت تتشكل بتطور البنية التركيبية في الرواية، و«نعني بالدلالة جميع لحظات التلفظ المتكررة والمتماثلة مع نفسها في كل تكرراراتها»(17)، التي ستشكل معنى دالا ضمن سياق السرد.
والنماذج التي سنوردها بمنهجية متسلسلة تطورية لدلالة الصوت. وليست ذات طابع انتقائي موجه. فقد بدأ الجزء الأول، بل بدأت الرواية كلها بجملة افتتاحية هي «كان محمد يصغي إلى صوت العود الواهن»، وهي جملة تؤسس لمعنى الصوت بدلالته الفنية. غير أن هذه الدلالة أخذت في التطور مع اندماج محمد العواد في الحياة الاجتماعية ومع فئات متعددة.
فحين كان محمد العواد بين جموع المحتجين الفقراء الذين تلاحموا وتبادلوا الطعام والصبر والقوة تورد الرواية الجمل التالية : «كانت هذه الأغنية التي انتظرها طويلا، صيحة حرب وإيقاع مارش لصف طويل من المتعبين. وراح صوته يلعلع فوق حشود الشوارع، والكلمات تتسرب، وتتعذب في الأفواه الأمية، ثم تندغم وتنمو وتطير، وتصير سرباً من النوارس»(18). إن تلاحم الفقراء تحول في نفس محمد العواد إلى أغنية لها وقعها الخاص وتأثيرها المختلف.
ويشتد ارتباط مفهوم الصوت الفني بمفهوم الثورة حين يتواجد محمد العواد بين جموع الفقراء إبان ما عرف بثورة الغواصين حين خرجوا على الطواويش محتجين على ديونهم التي تتضاعف ولا تنقضي، يتساءل محمد العواد: «من أية أغوار صعد ذلك الصوت؟ تلك الأنشودة (النهمة) الغائرة في موج الصدر واضطرابات الصواري والروح واللجج والصخور ومتاريس الرمل المحطمة وقيعان الأكواخ الخالية والقدور الناضبة…؟ من أين صعدت تلك (الآه) وأوقفت الأصابع المقطوعة، وجمدت الأرجل الفالتة في الأزقة، وأنضجت الأولاد في دقائق؟ ثمة صوت اندلع،…؛ تحول الهاربون بغتة إلى مغنين… راحوا يجدفون بين التراب، وينهمون في عريهم المجلود،…، الصوت الصغير، الوحيد، المرتجف؛ يتنامى بين كتل الصخور وهو ينظم إلى قطيع البشر المشتت العائد من المسلخ،… ، الصوت الأبح، الخافت، يتوحد بصوته القوي الحزين فيندلع اللهب، وكأن مئات السفن تتوحد في هدير كوني ويصير حجرا متدفقا يرنح الفرسان من صهوات الخيول التي تفح نائية مكسورة. ولتبدو الشوارع مفتوحة حرة»(19). ففي هذا المقطع تكشف الرواية عن براعتها في استخدام اللغة استخداماً يدفع المعاني العميقة إلى التجلي، حيث تتكاتف الألفاظ التي تحشدها الرواية، المرادفة للصوت، في تصاعد يتناغم مع تصاعد الحركة الاحتجاجية للفقراء.
وفي حركة احتجاجات أخرى متجهة نحو القلعة حيث يقبع سجن كبير، يرد في النص التعبير الآتي: «من كان يظن أن هؤلاء المدفونين في التراب لهم صوت؟ وأولئك الفلاحون المعزولون في الدوالي والقرى البعيدة سيندفعون بسيول حميرهم إلى القلعة فيختلط النهيق بـالصراخ»(20).
وعندما تراجع «فارس» ، ذلك الشاب مرموق القبيلة، عن ثورته ضد المستعمر الإنجليزي، التي حشد لها جموع الرافضين لتسلط الميجر الإنجليزي وجموع الفقراء المتضامنين، أكدت الرواية على دلالة كلمة الصوت بمعنى صخب الثورة والاحتجاج: «لماذا لم يدع التيار يصخب، ويدمدم بين الحصى المتقلقل والذائب، ويقلع العشب الأخضر الموحل اللزج، لماذا في قمة النشوة يكسر الإيقاع والصوت؟»(21).
وفي نهاية الجزء الأول يشتد صوت الاحتجاجات وتصل إلى بيت المستشار وتمتزج أصوات المحتجين، التي كانت تصدح بالنشيد أحياناً، بأصوات الرصاص المنطلقة من كاد الجانبين، إلى أن ينتهي الجزء الأول بدوي رصاصة تستقر في رأس الميجر الإنجليزي «إنهم لم يتسللوا بصمت، بل كان نشيدهم يوافق سواعدهم وحبالهم الملقاة فوق الجدران وفي اندفاعات أقدامهم الكثيرة الهائلة بين الأبنية والجدرات وغرف الحبس واندمج صراخهم وغناؤهم برصاصهم وصيحاتهم، وتجمد الحراس الهنود مذهولين، وألقوا بنادقهم ومفاتيحهم، وطلع رفاق البحارة من تحت الحفر ونزلوا من البرج مهللين فرحين…، اندفع الميجر مطلقاً الرصاص نحو البوابة،…، وفجأة دوت رصاصه أمام وجهه…» (22).
إن «تنظيم» الرواية لدلالة الصوت في هذا النسق، هو تنظيم لإحدى وجهات رؤية محمد العواد لمفهوم الحرية. وهو مفهوم ارتبط بالفن من حيث هو قوة محرضة ودافعة.. من حيث هو أداة للتعبئة وحشد الجماهير.
2 ـــ جمعة الحادي :
جمعة الحادي رجل لا ينتمي إلى محيطه. في البدايات هو سليل العبيد الذين اقتيدوا إلى هذه الأرض مختطفين ومكبلين. وفي النهايات هو رجل انتشل نفسه من أهل المزابل والأكواخ فلم يعد منهم.
صورة أجداده المعذبين لم تفارقه، لم تكن لحياتهم قيمة عند سادتهم فلم يوفروا لهم أسباب النجاة حين كان الموت يتخطف الجميع ويخصهم وحدهم دون السادة بالهلاك، «ثم رأى جده في سفينة العبيد وهي تغرق، والسود يصرخون بلغاتهم الغريبة، يشيرون إلى قيودهم، لكنهم راحوا يغرقون والبحارة والتجار يسبحون ويهربون من السفينة الغارقة. أحس كأنه هو الذي يغرق ويختنق، فنهض مذعورا مغتسلا بالعرق»(23). ولم يكن حاضر جمعة وأسرته أفضل حالا من ماضي الأجداد. الحياة التي لم يحرموا منها، لم ينلهم منها إلا الخدمة والمهانة والإذلال واستلاب الحرية والإرادة، يقول في أحد مقاطع الرواية: «أنتم كنتم تعرفون كيف كانت أسرتي؛ وكيف كنت! كنا ملحقين بهامش بيت، هو أشبه بالزريبة؛ وكان أبي وإخوتي يعملون طوال النهار والليل، في تنظيف القدور وطبخ وحمل للرضع وصفعة لأية هفوة والسادة لهم أن يختلوا حتى بالبنات. أتعرف كم تحملت وقاسيت من كل هذه الإهانات؛ وتطاردك كلمة عبد في كل مكان!» (24).
وكان جمعة الحادي واعياً لأزمة لونه وأزمة الطبقة التي يُصنف ضمنها، وقد عبر في غير موقع في الرواية عن ترسب ذلك في نفسه، وعن إدراكه أن بواعث سلوكه وردود فعله تجاه واقعه تجلت في صورة «طموح» جارف نحو الارتقاء الطبقي. و«مقدرة الشخصيات الأدبية على وعي ذاتها تلعب دورا بارزا في الأدب»(25)، من حيث تعبيرها عن التعبير عن نفسها، وعن وضوح إدراكها للحياة والآخر وكيف تحقق أهدافها.
بحث جمعة الحادي عن السبل التي تنتشله من أزمة ينابيعه واهتدى بادئ الأمر إلى طريق العلم؛ وعلى الرغم من كون العلم أداة فردية فإنها تمتلك خاصية التنوير الجماعي؛ وهو ما لم يسعَ جمعة الحادي لتحقيقه، وإن كان عمل في بعض أحداث الرواية المتقدمة على الاستفادة من بعض الشخصيات المتعلمة لبناء الوطن مثل شخصية بدر الوزان. ولكن تلك الاستفادة كانت في إطار (المفهوم الشخصي) لجمعة الحادي في بناء الوطن، المتمثل في الاستعانة، وبناء كتلة منسجمة معه. وليست استفادة قائمة على ترسيخ مفهوم المشاركة.
عكف جمعة الحادي على القراءة في الكنيسة وقرأ كثيراً من الكتب، وأهم ما وجده في الكتب طرح قضية التحرر من العبودية «كان جمعة الحادي يرتعش وهو يتابع السطور الغريبة في مجلة (المقتطف)، كانت كلمات العلم والمدنية تومض مصابيح في الطريق وورشاً ومدارس بنات جميلات وأغنيات وبالونات، …، لينم إذن، أو يجهز على هذه المجلة الرائعة، التي كلما قرأها أحس بروعة الحياة ونشوة العمر، فعما قليل سيخط بقلمه أشياء مماثلة. سيقول رأيه في تجارة العبيد، وفي ذلك النزف من سواحل أفريقيا المسمومة، وفي تلك السفن المشحونة بالصديد والعظام المكسورة. أما آن وقت نبش هذه المزبلة وأصحابها !» (26)، ويظل مأزق العبودية حاضرا عند جمعة الحادي في أغلب مواقفه، فحين تلومه إحدى أخواته على عمله مع الميجر الإنجليزي المعين من قبل المستعمر، يرد عليها لائماً ومعللاً ما يفعله بأنه وسيلة تحرر من العبودية التي يرفض المجتمع عتقهم منها. «لماذا تنقلين إلىّ هذا الهراء؟ ألا تعرفين أنهم يريدوننا أن نظل عبيداً لديهم إلى الأبد، حتى يتلذذون بتحسس عرقنا المتصبب ودمنا؟ إنهم يغارون حين إننا نتعلم ونستطيع بينما هم لا يزالون في بركهم الموحلة وفي أعمال الحمالة والدناءة»(27).
ثم تطورت وسائل جمعة الحادي للتمرد على ينابيعه/ جذوره، فبعد القراءة سوف ينضم للطرف الأقوى في المجتمع، سوف ينضم إلى المستشار الذي يرى فيه ثقافة الحرية والعدل والمساواة «الميجر من أمة عظيمة وراء البحار، وهم أصحاب علوم وتمدن ورحمة، لا عبيد عندهم وكلهم أحرار! إنه يريد كتبه وسأعرض خدماتي عليه. ليس مكاني الغوص وعمارات المسامير والحبال!» (28).
ثم لجأ جمعة الحادي إلى جمع الأموال وامتلاك الأراضي «الشيخ السكير مفلس، وهو بحاجة إلى النقود من أي مكان، وأرضه كبيرة وهامة. تصوروا ماذا سيحدث عندما يمتلك شخص ما نصف المدينة الصاعدة من أنقاض الأكواخ والمزابل؟ أنا أسرعت بشراء قطعة ولعلي أبتلع المزيد. انظروا إلى هؤلاء الناس البهائم، لا يدرون ماذا سيحدث غداً، والأرض كنوز» (29). وامتلاك جمعة الحادي للأرض لم يكن امتلاكاً لشكل من أشكال الثروة فحسب، بل امتلاكاً للهوية والانتماء الذي يفتقد جذوره على هذه الأرض. فالأرض تشكل أزمة من أزمات الهوية عند جمعة الحادي وقد عبر عن شي، من هذا القبيل حين كان يتألم لمصاب أخته التي احترقت والتي كان يتمنى أن تنجب أطفالا يحفرون اسم والده على هذه الأرض. «… كنت أود أن أراها منتفخة البطن، ذات جحفل من الصغار، تغرز اسم ذلك الأب العملاق في رمال هذه الأرض الجامدة. ثم أدفنها كتلة رماد في التراب!» (30).
إن تتبع علاقة جمعة الحادي مع الأرض يكشف عن أزمة مع المكان، فقد عبر جمعة عن جري أطفال المحرق خلفه ونعته بـــ«العبد» وهو يعمل في شقاء، ثم انتقل إلى المنامة وعبر عن تقززه من المزابل التي تحيط به ومن الفقراء الذين يسكنونها. ولذلك كان امتلاك الأرض وسيلة لفرض علاقة جديدة مع المكان يكون جمعة الحادي هو الطرف الأقوى فيها.
ومع كل مرحلة ينجح فيها جمعة الحادي في الترقي الطبقي يطمع في وسيلة جديدة تمنحه هوية جديدة. فيطمح فيما بعد إلى امتلاك النساء البيض في سعي لتغيير التركيبة العرقية لأبنائه وأحفاده «الآن لابد من تملك النساء البيض وعصرهن بين شفتيه، يريد أن يملك ويملك حتى يبتلع كل شيء»(31)، وهو ما يفسر زواجه من أخت بدر الوزان.
3 ـــ بــدر الــوزان :
بدر الوزان من الشخصيات التي ظهرت في منتصف الرواية وقدمتها الرواية شخصية مناضلة للحرية والعدالة ومقاومة المستعمر. ولم يعبر بدر الوزان عن أي شعور بالاغتراب أو عدم انتماء للمكان. ولكن تبرز إشارة في نهايات الرواية تشكك في انتماء بدر الوزان لهذه الأرض عبرت عنها زوجته ظبية في رسالتها له في منفاه في سانت هيلانه «تقول لي عائشة أن نذهب إلى بلدي ولكن هذا قد أصبح بلدي وبلد زوجي يزعمون أنك لست من هذه ا لأرض !» (32). تلك الرسالة فتحت تربة السرد على قضية الينابيع/ الجذور عند بدر الوزان كغيره من شخصيات الرواية.
كانت رسالة ظبية في نهايات رحلته، ولكن في البدايات حين قرر بدر أن يستجمع أسباب القوة والنفوذ لجأ إلى «القبيلة». فرحل إلى فرع عائلته من أهل (والدته) أصحاب القبيلة والنفوذ والنسب العربي الذين لم يتأخروا عن شد رباطه بهم بتزويجه إحدى بناتهم ومنحه كل ما يريد من أسباب القوة: «أخواله وأبناؤهم استقبلوه بحفاوة. دخل ببنطلونه وقميصه في كتلة الثياب والعباءات والعقل وشوارب الصقور والوجوه الصلدة. شعر براحة وهو يتبدل، ذاب في حشد القبيلة الصارم، رفس بقاياه المترددة وهواجسه. ماذا يريد أكثر من هذه الربيات تتراكم في يده، ودكانه الصغير يمتد إلى السفن والبحر والبرية، ومئات الوجوه البدوية تسلفه سجاجيدها وقماشها الملون وكرات لبنها الصلبة وماشيتها وخلاخيلها وفضتها، وهو يبيعها لتجار هنود وفرس يلتهمونها فوق سفنهم ويروح يعصر النجارين والحدادين ويستل الخناجر والخواتيم والأصابع منهم. إنه يتحول إلى صقر، الطيور المسالمة ترتعش تحت مخالبه. يتذوق عصارة الصليب المعقوف وينتزع بيض الأعشاش ويلتهم الفراخ» (33). وهكذا بالالتحام بالقبيلة صار بدر الوزان قوياً في نظره.
إن المقاطع السابقة من الرواية تعبر عن أزمة هوية وأزمة جذور يعيشها المناضل بدر الوزان. فهو يرى أن جذوره غير القبلية هي أحد أسباب ضعفه والعائق أمام إعلانه أي موقف وأمام وقوفه مناضلا في أي قضية. ولذلك كان لجوئه إلى القبيلة وسيلة قوة فردية تحل له أزمة الينابيع/ الجذور التي يشعر بها في أعماقه.
رابعا : ثائرون متصالحون:
استناداً إلى الفكر الواقعي الاشتراكي الذي تصدر عنه رواية الينابيع، فقد قدمت الرواية أغلب الشخصيات باعتبارها ثائرةٍ على الواقع الطبقي رافضة له. ولكنها في الحقيقية كانت متصالحة مع تركيبة هذا الواقع وقابلة بقوانينه؛ وما طموحها في تغيير هذا الواقع إلا طموح فردي مرتبط بتغيير (وضعها الطبقي الذاتي) ضمن المنظومة الاجتماعية ذاتها دون تغيير التركيبة المجتمعية الطبقية. وهو ما يؤدي عادة؛ حسب المدرسة الواقعية الاشتراكية إلى خلق أزمة التغيير في المجتمعات. فإنجلز يرى إن «الإرادات العديدة الفردية العاملة في التاريخ تعطي في أكثر الأوقات نتائج مختلفة عن النتائج المرجوة، وغالباً ما تكون متناقضة لهذه النتائج المرجوة»(34). وهذا ما يفسر على نحو ظاهري للرواية، فشل تلك الشخصيات في تحقيق طموحاتها واحلامها، أو انحرافها عن مسارها.
فعلى الرغم من أن بعض الشخصيات في الرواية كانت متصادمة مع الواقع فإن حركتها المتنامية في السرد كانت تتصالح مع الواقع كلما اقتربت من قوانينه. وأمارة تصالحها مع الواقع انشغالها بذاتها، ولجوؤها إلى أدوات فردية للتغيير، أو تفريد أدوات التغيير القادرة على التعبئة الجماعية، ومن ثم دخولها في عملية ارتقاء طبقي ضمن قوانين الواقع الطبقي ذاته.
وفي السياقات التاريخية التي تمر بها الرواية في أحداثها وشخصياتها، كان لمفهوم الحرية والتعبير عن جوهره. فكل تحرر يجب أن يحدث تغييرا، لكن التغيير يبقى محدودا إذا ارتبط بالاتجاه الفردي. وقد كانت أغلب اتجاهات التحرر فردية، من أجل ذلك لم تحقق التغيير الطموح الذي كانت تنادي به. سنورد فيما يأتي نماذج لتعامل بعض الشخصيات مع الحرية مفهوماً والتغيير هدفاً.
1 ـــ محمد العواد:
على الرغم من مشاعر الألم التي كابدها محمد العواد نتيجة التهميش الأسري والمجتمعي له بسبب لأمه، أو بسبب احترافه الفن، غير أن إرضاء الطبقات العليا من القوم كان أحد أهداف احترافه الإبداع الفني وأحد الوسائل التي أراد انتهاجها للارتقاء الطبقي، ففي حديثه لميّ التي كانت على أعتاب الزواج من رجل مرموق النسب قال «سأغني للكبار فانتظريني. لن يأخذك أحد غيري»(35). «كلهم لا يساوون أغنية مني. صدى هذه الحنجرة سيبقى إلى الأبد، وكل هؤلاء غبار ريح وثغاء خراف!» (36). وهذا التعبير المبدئي عن تقدير الطبقة التي ازدرته جعلته لا يصمد طويلا أمام إغراءاتها إذ يتراجع في آخر الأمر عن مقاطعتها ومقاومتها. فالوصف السردي يقدم محمدا باعتباره مطرب الفئات الشعبية والمهمشة، ومقاطعاً للطبقات الاجتماعية البرجوازية.!» لم يقبل أن يغني لأحد، وعندما يغني في بيته يمتلئ بالحضور والهدايا، وعجز الأغنياء عن ضيافته، ويمكن أن يفاجئ حضوره زواج بحار فقير من الأحياء القريبة، حيث سيعم الذهول وتكتب الليلة في اللوح المحفوظ في صدور الناس!» (37). ولكن بعد أن وقع محمد في غواية الغناء لتلك العائلات البرجوازية يواجهه صديقة إبراهيم زويد بالحقيقة التي آلمته ويكشف له عن حقيقة واقعه طوال سنوات صموده.. «- ماذا فعلتْ طوال هذه السنين الأخيرة؟ سكرٌ واحتضان لنسوةٍ تتبدلُ وجوههن في كلِ ليلةٍ ، ثم لا أغنيةً جميلةً ولا كلمةً تهزُ الناسَ ، عربدةٌ ، والآن دعوةُ الشيخ ، ولا أدري من سيليهِ . . هل ستذهبُ إلى أولئك البشر الذين عذبوك ، لقد سقطتَ ، سقطتَ يا محمد»(38)، وفي حوار آخر يقول إبراهيم زويد لمحمد حين رأى عنده متاعا وأشياء يعجز عن شرائها وتوفيرها بقدرته المالية المحدودة «من أين لك هذه الأشياء؟ وأحس أنه أخطأ فازداد ارتباكاً وألماً، وتكشفت له الأشياء برعب، إنه يصغر صديقه ويحتقره، وهو صار صغيراً فعلاً ، فلا شك أنها هدايا من الشيوخ ، وما هو الثمن؟ وهو الذي قال إنه لا يمد يده أبدا !» (39).
2 ـــ فارس:
تكمن مشكلة فارس أنه ثائر برجوازي، فلديه تحفظاته على أخطاء الطبقة التي ينتمي إليها في تعاملها مع باقي الطبقات، ولكنه في حراكه المتمرد كان معنيا بالحفاظ على طبقته وامتيازاتها لأنه أحد المتمتعين بامتيازاتها. لذلك لم يكن تمرده على الميجر الإنجليزي إلا لحصاره الشيخ وتسلطه عليه. فهو لم يكن من المشاركين في ثورة الغواصين الفقراء ضد جشع الطواويش، وحين تحول الأمر إلى ثورة فقراء انسحب من الحراك وقدم اعتذاره للميجر وشكل ذلك حالة انكسار عميق في حركة الاحتجاجات التي أجهضها استسلام فارس.
وقد خلق الخطاب السردي حالة من التناقض بين خطاب فارس إبان الحركات الاحتجاجية، وبين الحدث الذي يكون هو جزء منه. ففي الحوار الآتي يكون خطاب فارس مظلة لمفهوم الحرية التي تنازل المستعمر البريطاني العداء «لابد أن يلتف الناس حول الشيخ، فما وعود هذا الميجر إلا أكاذيب. إنه يتطلع إلى كرسي هذا البلد وحينئذ ستتبخر كلماته، ويعود هؤلاء البؤساء إلى مستنقعاتهم وبحارهم الساخنة»(40).
وبعد انكسار الاحتجاجات يطلب فارس العفو والحرية من الميجر نفسه، ويسوق خطاب الرواية إشارة إلى حالة التناقض التي تعبر عنها شخصية فارس؛ مفسرا التناقض بالوضع الطبقي الذي ينتمي إليه فارس «لم يصدقوا ما شاهدوه، فارس انحنى للميجر وطلب الغفران؟! ود الرجوع إلى غرفته الهادئة وبيته الكبير، وكأن شيئاً لم يكن وكأن أحداً ما دهس في الدروب، والشيخ الكبير لم يجندل ويحبس في بيت صغير، حارسه عسكري هندي من أقصى العجمة والعتمة»(41).
ثم تورد الرواية انشغال فارس في منفاه في الهند باللهو وبالنساء، وبمراسلة عائلته في البحرين طلبا للصفح والعودة. ثم تخليه عن زميل المنفى … وعودته إلى البحرين وحيدا، وانشغاله بالتجارة وجمع الثروة حين عودته للبحرين.
3 ـــ بـدر الـوزان:
قدمت الرواية شخصية بدر الوزان باعتباره شخصية متمردة ذات انتماء قومي. وكان يرفض الواقع الطبقي ويقاوم انتهازية المنتمين إلى السلطة والمستشار وينحاز إلى العمال والفقراء والمثقفين. وفي موقع سابق عرضت الدراسة باعث التغيير عند بدر الوزان وهو الشعور بأزمة الينابيع/ الجذور التي دفعته إلى تحصين نفسه وتقوية ذاته بالانتماء القبلي. والوزان يرى في النسب القبلي والثروة التي امدته قبيلة أمه وزوجته جاذبا للعناصر المؤيدة له. وبتضافر كل تلك المقومات رأى الوزان أنه صار قوياً ولا يخشى أحداً «الآن لا يخاف من أحد، وراءه ثروة وأرض وقبيلة وسرب كبير من الأصدقاء نما في شتى عروق البلد»(42). والشعور بالخوف والرغبة في التخلص منه هو، في حقيقة الأمر، هاجس ذاتي. وعمليات التغيير التي انشغل بها الوزان كانت تغييرا لواقعه الفردي وفق شروط القوة التي يفرضها المجتمع. وهو لم يَثُرْ على تلك الشروط ولم يطالب بتغييرها كي يتغير الواقع الاجتماعي بالكامل.
من أجل ذلك كان الخطاب السردي يعبر عن الحركة النضالية. لبدر الوزان باعتبارها حالة زعامة فردية تنم عن نفوذ وهيمنة وقدرة على مبارزة السلطة وتوجيه الجماهير «هو في قمة تألقه؛ فوق أكتاف الجموع؛ يحس أنه يسبح في بحر عميق، الرجال طوع أمره، يأمرهم بتنظيف الطريق، وحمل الحجارة الثقيلة فينصاعون لأمره، وكأن كلماته سحر»(43). فبعد موجة احتجاجات شعبية كبيرة كان هو من يديرها يعبر الوزان عن راحة فردية ورغبة في بسط القوة أكثر فأكثر «كانت كل الخيوط تتصل بأصابعه، والهاتف لا يتوقف عن الرنين، كان ينتظر تلك المكالمات الهامة، أن يسمع صوت سميث المتذلل، أن يرى وجه الشيخ نايف التعس..» (44)… وحين قابل هؤلاء للتفاوض تنازل عن اللجنة التي كانت ذات طابع شعبي وهو ما يعكس الاتجاه الفردي في شخصية بدر الوزان، وكان حس الزعامة هو ما يشغله في المقابلة «وفوجئ كيف سيدعوهم للرحيل، كيف سينصاعون لإرادته؟! طلب بضعة شؤون بدت كلها تافهة لما كان يريد، ولكنهم رأوها صعبة حتى وافقوا عليها، ولكن أن يحل تلك اللجنة المهيمنة التي شكلها فوافق»(45). ويعترف بدر الوزان بنزعاته الفردية حين يشعر بثقل رسائل زوجته ظبية التي يتلقاها في منفاه معتبرا إياها «سطل الماء الحار الذي يلقى على رأسي كي تفيق من جنون العظعة»(46).
تلك الشخصيات جميعاً انشغلت بالتغيير الفردي وليس المجتمعي ولذلك فشلت في ثورتها كما حصل مع فارس وبدر الوزان وغيرهما، أو حادت عن مبادئها كما فعل محمد العواد، أو أنها كانت واعية لغاياتها الانتهازية كما فعل جمعة الحادي ومرتضى أكبر وعادل خسرو وأخته ثريا وغيرهم.
إن تلك الشخصيات، وفق المفهوم الواقعي الاشتراكي تفتقد إلى الوعي الطبقي الصحيح القادر على تغيير المجتمع وتحقيق غايات أفراده «إن هذا الوعي ليس إذن حاصل ما يفكر به ويحسه الأفراد الذين يكونون الطبقة، فردا فردا … هذا الوعي ليس الفكر الفردي»(47)، لأنه قد يمثل الرغبات الفردية والطموحات الشخصية التي تكيف نفسها حسب معطيات الواقع، ولكن الوعي الصحيح عند الواقعية الاشتراكية هو الوعي الذي يعبر عن «صلة المجتمع ككلية. لأنه في هذه الصلة فقط يكون الوعي، الذي يستطيع الناس أن يكونّوه في كل برهة عن وجودهم»(48).
إن مفهوم الحرية الذي يؤدي إلي التغير، وفق ما نادت به الشخصيات السابقة لم يتحقق لأن الغايات كانت فردية، وكانت متصالحة مع قانون المجتمع وإن كانت تعبر عن ثورتها عليه.
خامسا : متمردون مؤثرون:
يظن بعض دارسي الأدب أن الاتجاه الواقعي الاشتراكي في الأدب معني بخلق متخيل سردي ينتهي بانتصار الشخصيات (النموذجية) إن جاز التعبير وتحقيق أحلامها في نهاية العمل الفني. وهو تصور غير دقيق يبتعد بالإبداع الفني عن طبيعته الجمالية، بل ويبتعد عن المفهوم الواقعي للأدب «فالشر في الواقع هو الذي ينتصر، وليس هناك إلا جزر صغيرة يمكن للخير أن يلوذ بها لبعض الوقت. والأعمال الفنية الأصيلة تعي ذلك، لذا ترفض الوعود التي يسهل إجزالها؛ ترفض الخاتمة السعيدة التي لا تشوبها شائبة»(49).
ولكن الاتجاه الواقعي الاشتراكي يقوم على إبراز حقيقة العلاقات الاجتماعية القائمة في طبيعتها على الصراع وكشف «ما هو جوهرى في حركة المجتمع، وما هو جوهري هو القانون الأساسي بحركة الأشياء»(50). والرواية تكشف عن قانونين لنمطين من الشخصيات في الرواية. النمط الأول هو النمط الذي قدمته الرواية في صورة انتهازية وقد كشف عن قانونها شخصية أكبر مرتضى «هذه هي الدنيا، فرص وتحولات هائلة غريبة، ومن لم يقف مع الموجة الكبيرة القوية، سحقته كالحطب المهترئ»(51)…. «إن أي صمت منه سوف يحيله إلى صاحب دكان تافه»(52).
ثمة شخصيات أخرى تعي قوانين المجتمع نفسها؛ وماملت معها إيجابا في اتجاه مختلف. وتمكنت؛ من خلالها؛ من تغيير واقعها بالتمسك بالأمل والقدرة على المقاومة؛ أهم هذه الشخصيات سعيد المناعى؛ ميّ؛ ظبية، إبراهيم زويد. وأهم ما ميز تلك الشخصيات معرفة قوانين الواقع والقبول بها والتعامل معها بوضعها في قالب اجتماعي يعبر عن حالة الانتماء للمجتمع التي تدين بها تلك الشخصيات.
يمكن ضم سعيد المناعي إلى فئة العبيد، لكنه لم يعان من مأزق الجذور والينابيع؛ فهو كان مدركا لقانون الواقع الاجتماعي الذي يحكم تلك الطبقة والآليات التي بها تتحرر «مرت سنوات وهو عبد، يحاول أن يجمع دانات ليلغي ديونه، ويتوغل في الماء ليصادق الوحوش والسيوف … ويصنع بيتاً وقارباً ومصائد لكي يرتفع عن حشود العبيد»(53). فجمع المال وتحرر، وحين صار صاحب مال ومركب لم يَقْصُر ماله على خلاصه الفردي وترقيه الط
د. انتصار البناء✶
مقدمة
يعّد عبـــــــدالله خلــــــــيفة أحد أهم كتاب الرواية في البحرين. شغلته الإيديولوجيا وطموح الحرية والتقدم في كتاباته النقدية والأدبية والفكرية. وليست رواية «الينابيع» إلا قطعة فنية تعبر عن رؤاه الفكرية في قالب أدبي مكتنز بالمضامين والدلالات.
في رواية «الينابيع» يقف القارئ أمام أسئلة تسكنه بعد أن يغادر الصفحات الأخيرة من الرواية. إنها مقاصد الكاتب المهجوس بهموم الإنسان والمجتمع، التي يورط بها القارئ معه، ويستحثه على خلق أجوبه لأسئلة لا يبين لها حل في واقع ملتبس، أبدا، بالتناقضات والانقلابات والمفاجآت. العمل الأدبي، والرواية تحديدا، ليست فسحة ومتعة فحسب. إنها انشغال واشتغال بالأفكار الإنسانية، والأسئلة المصيرية.
يطرح الكاتب عبـــــــدالله خلــــــــيفة إشكالات الفكر التقدمي الجوهرية، وهي أسئلة تمتد في فكرنا العربي منذ زمن النهضة. أسئلة الانتصار والهزيمة… النجاح والفشل.. أسئلة الإرادة والتغيير:
◎ من هو الإنسان الذي يملك حريته؟
◎ وكيف نترجم عن حريتنا بما يخلق إمكانات التغيير في المجتمع ؟
◎ لماذا تتعثر المشاريع الوطنية في أوجها ؟
◎ لماذا يتحقق التغيير من خلال الشخصيات غير التقدمية؟
تلك الأسئلة نهضت بها بنية روائية تناسبت مع انفتاح الأسئلة على مضامين اجتماعية غارت في ردهات المجتمع غير المطروقة، وفي تجاويف النفس غير المالوفة. وكانت اللغة هي الجناح الذي طاف بعناصر السرد المختلفة في ثم التحم بها صيغة فنية تستحق دراستها من زوايا متعددة.
أولا : الينابيع والتاريخ:
ليست ثلاثية «الينابيع» رواية تاريخية، ولكنها تسير على حافة التاريخ. فهي تطوي في فضائها الزمني مرحلة تاريخية في البحرين تمتد من العشرينيات حتى السنوات الأولى من الألفية الثانية. وهذه المدة الزمنية قسمها الكاتب في روايته مراحل ثلاثا نهضت بها أجزاء الرواية. فالجزء الأول «الصوت» تدور أحداثه زمن الغوص، والجزء الثاني «الماء الأسود» تدور أحداثه زمن التنقيب عن النفط وسنوات اكتشافه الأولى، والجزء الثالث «الفيضان» تدور أحداثه عصر ما يسميه عبـــــــدالله خلــــــــيفة في بعض كتاباته زمن اقتصاد النفط .
ولم. تتغّى رواية الينابيع من استدعاء التاريخ توثيق سيرة بحرينية شأنها في ذلك شأن كل عمل فني، بل تغيت طرح رؤية إبداعية للتاريخ، تعيد سرد الأحداث من منظور أدبي وفق رؤية الكاتب. ذلك أن الرواية الأدبية للتاريخ هي سرد لحقيقة أخرى تضمنها التاريخ غير الحقيقة التوثيقية التي تسردها كتب التاريخ «فلا مناص للرواية إذا اختارت الفضاء التاريخي المرجعي مجالا لها من أن تقول التاريخ. ولكنها تقوله على طريقتها، أي أنها لا تكرره وإنما تحينه»(1) ، وتعيد تفسيره بناء على خلق مقاربة بين التاريخ والواقع.
وفي رواية الينابيع نكون بصدد رواية تصدر عن منظور واقعي اشتراكي يعبر عن المدرسة التي انتمى إليها الكاتب عبـــــــدالله خلــــــــيفة وبقي وفيا لها حتى نهاية حياته. فالرواية تقرأ التاريخ البحريني بحثا عن حقيقة خارج الصيغة الجامدة والثابتة، الرواية تقرأ التاريخ باعتباره صيغة متحركة ومتغيرة وليس باعتباره قانونا جامدا يكرر معطياته في كل مرحلة، وفي ظل هذا المفهوم يقول لوكاتش (إن مواضيع التاريخ تبدو مواضيع قوانين طبيعية ثابتة وأبدية. إن التاريخ يتجمد في شكلية لا تتمكن من تفسير الصيغ التاريخية الاجتماعية في جوهرها الحقيقي كصيغ متبادلة بين الناس، إن هذه الصيغ تطرح بعيدا عن هذا المنهل الأكثر صحة لاستيعاب التاريخ) (2) ، وفي مجال الفن فإن السرد هو من أفضل الأعمال التي تفسر التاريخ وتكشف عن الحقيقة الأدبية التي تعبر عن الطابع الحيوي والديموي الذي يجعله حيا فينا.
والصيغة التي تمثلتها الرواية في طرح رؤيتها للتاريخ البحريني في تلك المرحلة الزمنية، هي صيغة أوردت الأحداث التاريخية على تواليها الزمني مستعينة بشخصيات مقاربة لشخصيات تاريخية عاشت تلك المرحلة التاريخية. وهي صيغة تخلق تجربة قراءة فريدة عند القارئ (فإذا اعتقدنا عن وعي أو عن غير وعي أن القصة قد تكون حدثت فعلا، فإننا نستغرق فيها بطريقة خاصة) (3) بسبب التأثير الذي يخلقه حضور الواقع في المتخيل السردي. والرواية بدأت بثورة الغواصين على الطواويش ضد عملية الديون التي لا تنتهي، ثم انتقلت في تسلسلها التاريخي إلى التحول الاقتصادي الحاد الذي مرت به البحرين بانتهاء عصر الغوص وتحول الغواصين إلى عمال ينقبون عن النفط في الجبل، ثم دخول البحرين مرحلة التيارات الإيديولوجية المختلفة. وتخلل كل هذه المراحل سرد لمقاومة الاحتلال الإنجليزي وتشكل الحركات الوطنية وتطورها وتداعيها أمام كل حدث مفصلي في تاريخ البحرين المعاصر.
وأمام هذا الحضور الطاغي للواقع الذي تخلقه (المماثلة) التاريخية؛ فإن الرواية استخدمت أدواتها الخاصة في المباعدة بين الحدث التاريخي بشخوصه وبين المتخيل السردي بدلالاته، فـــ( يضطلع السرد في هذا المقام بدور التمثيل الذي لا يحاكي، لأنه ينشئ المفارقة من رحم المماثلة، ويضطلع بالتبعيد في اللحظة التي يقنع فيها بالتقريب والمماثلة والمماهاة) (4). وتلك هي إحدى السمات الجمالية في الرواية التي جعلت منها قطعة فنية تتوارب بين التاريخية والخيالية.
إن الصيغة السابقة هي التي جعلت مضمون الرواية نقطة ارتكاز تحليلها. فالكاتب عبـــــــدالله خلــــــــيفة كان معنيا بمغامرة المعنى أكثر من خوض مغامرة المبنى. وكان معنيا بتجلية مضمون الرواية ومقاصدها ورؤاها أكثر من اعتنائه بسبك شكلها وتفجير لغتها وتركيباتها. لذلك عُنيت في هذه الدراسة بالغور في أحد المضامين الذي كان التاريخ أحد البوابات المفضية إلى سرادقه في الرواية. وهو مفهوم الحرية الذي كان هاجس الرواية وهاجس شخصياتها في المراحل التاريخية المختلفة التي سردتها الرواية.
ثانيا : الرؤية والبناء في رواية الينابيع:
الحديث عن الرؤية والتشكل هو حديث الرواية اللامنتهي، من حيث إنه حديث عن إبداع الرواية التي تأبى أن تقف عند تشكلات محددة أو رؤى محدودة. وهذه الدراسة تنحو إلى اعتبار قراءة الرواية وتحليلها يقومان على تكامل النظر في المكونات الروائية بما فيها البنية والرؤية.
إذ يصعب فصلهما أو التمييز بينهما تمييزا كليا. وما دراسة المكونات الروائية إلا عملية تحليل وتعمق في بعض المكونات؛ يتعين إتمامها بتتبع الآليات التي تندغم بها المكونات بعضها ببعض مشكلة الحكائية حسب تعبير الناقد إبراهيم عبدالله الذي يعرف المادة الحكائية بأنها. (متن مصوغ صوغا سرديا، وهذا المتن إنما هو خلاصة تماهي العناصر الفنية الأساسية وهي الحدث والشخصية والخلفية الزمانية ــ المكانية. بالوسائل السردية التي نهضت بمهمة نسجها وصياغتها)(5).
ففي سياق الحديث عن بنية رواية «الينابيع»، نتبيّن أن النظام الذي شُيدت عليه بنية الرواية هو نظام يقوم على مكون (شخصيات). وهو نظام يشد إليه باقي مكونات السرد المكانية والزمانية والوصفية ليشكل النسيج الكلي للرواية. فإذا رصدنا الجملة الأولى من كل جزء في الرواية سوف نجدها جملاً ترتكز على «شخصية» يحدد السرد تموضعها في الحدث وفي الفضاء المكاني والزماني عبر التحديد الزمني الماضي.
ففي الجزء الأول «الصوت» تطالعنا الرواية بجملة (كان محمد يصغي إلى صوت العود الواهن). وفي الجزء الثاني «الماء الأسود» يبدأ السرد بجملة (كان الشاطئ مسرحاً لمعركة عليّ). وفي الجزء الثالث «الفيضان» يبدأ السرد بجملة (كان علي يسأل الليل والمطر وأنصال البرق). فالشخصيات في الرواية هي التي تضيء باقي مكونات السرد وتشدها إلى بعضها عن طريق توغل السرد في الشخصيات وتعمقه فيها وفي حركتها في الرواية وتطورها أو تجمدها. وفي الرواية نماذج كثيرة يمكن الاستدلال بها على ذلك. فعبر شخصية «محمد العواد» تكشف الرواية الموقف الاجتماعي من الفن والمرأة والقبيلة. وتكشف أثر المكان في احتواء تلك الأفكار وتناميها، حين انتقل من المحرق إلى المنامة حيث الفارق في التأثير الإيديولوجي الديني بين المدينتين، ثم
حين سافر إلى الهند لإصدار اسطوانته وعاش جزءا من الحياة الحرة التي تمناها.. وعبر شخصية «إبراهيم زويد» تكشف الرواية عن حدة التحول الزمني من عصر اعتمد اقتصاده على الغوص وتجارة اللؤلؤ إلى آخر يحفر طريقه نحو تجارة النفط. وكيف صاحب ذلك تحول آخر في القيم أثر في العلاقات الاجتماعية التي كانت سائدة قبلا.
كما أن سرد الرواية الذي قام على عرض عدد كبير من الشخصيات والتعمق في تركيباتها الشخصية وخلق تواصل اجتماعي مكثف فيما بينها جعل وظيفة بعض الشخصيات التي يمكن وصفها بأنها نمطية وتسير وفق إيقاع ثابت في الرواية؛ تسليط الضوء على قضية القيم في الرواية وكشف نسبية القيم عند بعض الشخصيات دون أن تنجرف الرواية نحو الخطابية والإنشائية. ويمكن اعتبار شخصية «فيّ» التي ظهرت شخصية نمطية في الرواية لم تتطور تركيبتها النفسية أو الاجتماعية ولم يتنالمَ دورها أو وظيفتها في السرد، يمكن اعتبارها، أداة فنية كشفت بها الرواية الفارق القيمي بين شخصية «محمد العواد» الذي استغل حبها له ثم تخلى عنها في أقسى ظرف اجتماعي يمكن أن تواجهه. وشخصية سعيد المناعي الذي أخرجها من محنتها الاجتماعية وتقبلها زوجة تنجب على فراشه ابنا ليس له. ومن خلال شخصيتي «محمد العواد» و«سعيد المناعي» تطرح الرواية الفارق بين الحرية غير الملتزمة التي يطمح إليها العواد، والحرية الملتزمة التي تمثلها شخصية المناعي.
إن الاعتناء ببناء الشخصيات وتوصيف واقعها الاجتماعي هو في حقيقة الأمر أحد مقومات الاتجاه الواقعي الاشتراكي في الأدب الذي تنتمي إليه الرواية، إذ يتعذر دراسة مضمون الرواية دون التطرق إلى السمات الواقعية التي اختصت بها. ومن أهم تلك السمات دراسة الشخصيات، إذ «لا غنى لكل عمل أدبي كبير عن عرض أشخاصه في تضافر شامل لعلاقاتهم بعضهم مع بعض ومع وجودهم الاجتماعي ومع معضلات هذا الوجود. وكلما كان إدراك هذه العلاقات أعمق، وكان الجهد في إخراج خيوط هذه الوشائج أخصب، كان العمل الأدبي أكبر قيمة»(6) من المنظور الجمالي الاشتراكي في الأدب.
واستنادا إلى ما سبق يمكن النظر إلى بنية الرواية على أنها بنية (عنقودية) تقوم على تفريع شخصيات النص، ومحيطها الاجتماعي الذي تنتمي إليه تأثيرات كل من الزمان والمكان، من مسارين تاريخيين واجتماعيين، تمثلهما شخصيتين رئيسيتين.
المسار الأول : مسار شخصية «محمد العواد» وهو مسار مجتمع ما قبل النفط، بعلاقاته المتشابكة وبمحيطه الاجتماعي الخاص بالغواصين والفقراء والعبيد والمشايخ. وكان الاتجاه الإيديولوجي المهيمن على النص هو الاتجاه الديني الذي يُثبت العبودية، ويحرم الفن، ويُضيق على المرأة. ويعطي صلاحيات واسعة لرجال الدين، الذين هم جزء من السلطة.
المسار الثاني : هو مسار شخصية بدر الوزان، وهو مسار عصر النفط في البحرين، وله شخصياته المرتبطة بسياقه التاريخي والاجتماعي. والاتجاه الإيديولوجي المهيمن على النص في تلك المرحلة هو الاتجاه اليساري، الذي تذبذب بين القومية والاشتراكية.
ويلتقي المساران في شخصية عليّ، الذي هو ابن غير شرعي «لمحمد العواد» وتلميذ «بدر الوزان» الذي تمرد عليه. وتعد شخصية عليّ نتاج المسارين فعلا، فهو نتاج رحلة العبيد الذين تدرجوا، تاريخيا، بسبل شتى كي يتحرروا من قيود اللون والنسب والأعرف، وهو نتاج التحولات الفكرية التي شهدتها مسيرة المفكرين والمناضلين في البحرين في تلك المرحلة التاريخية.
ولا تخرج رؤية الرواية عن التركيبة المتشابكة مع بنيتها القائمة على «نظام الشخصيات»، التي تتكامل معها في إنتاج الصيغة الإبداعية للرواية. وحيث إن الرؤية هي «الطريقة التي اعتبر بها الراوي الأحداث عند تقديمها».(7) وحيث إن الرواية اتخذت لنفسها نمط الراوي من الخارج الذي يعلم بكافة مقتضيات الأحداث، فإنها تكون بذلك قد منحت شخصياتها فرصة وافية للتعبير عن نفسها وعن رؤيتها الاجتماعية بصيغ لغوية متعددة كان للضمائر دور بارز فيها.
إن التعبير عن الرؤية الذاتية للعالم هو، كذلك، أحد مقومات المدرسة الواقعية الذي تضطلع الشخصيات فيها بالنهوض بهذه المهمة. فــ«مقدرة الشخصيات الأدبية على التعبير عن نظرتها إلى العالم فكرياً تؤلف جزءاً مكوناً ضرورياً هاماً من الترجمة الفنية للواقع ».(8) لذلك استدعت هذه الدراسة استقصاء رؤى بعض الشخصيات للآخر والمجتمع والكون. فكان أهم ما يشغل معظم شخصيات الرواية تطلعها إلى الحرية وفق رؤيتها ومنظورها الخاص للحرية. وانطلقت كافة الرؤى (التحررية) من موقف كل شخصية من جذورها ومن أزمة هوية تعاني منها العديد من شخصيات الرواية. وهو ما يفسر عنوان الرواية «الينابيع». فليست الينابيع إلا تمثلا آخر لمفهوم الجذور. ولذلك نجد أن قضية معظم الشخصيات في الرواية هي التمرد على ينابيعها/ جذورها.
والرواية في صياغتها لرؤيتها تطرح الأسئلة التاريخية الكبيرة في حياة الشعوب النضالية: فمعظم الشخصيات لم تتمكن من تحقيق أهدافها التي تكللها الأهداف النبيلة والقيم السامية. فها هو السبب؟؛ وباقي الشخصيات التى طرحتها الرواية في إطار انتهازي كانت هي الأقدر على الوصول إلى مبتغاها. فما هو السبب أيضا؟ الذين صنعوا التاريخ والمجد والذين أداروا حركة التغيير لم يكونوا أصحاب القيم التحررية. الذين تزعموا حركة التغيير ونادوا بالقيم التحررية أصبحوا تابعين، في نهاية الأمر، لمن كانوا يختلفون معهم ويناقضونهم في القيم !!. هل ثمة مشكلة في الأهداف أم في الأدوات، أم في كليهما؟
إنّ السرد الذي أخضع الكم الكبير من الشخصيات في متواليات تاريخية (طويلة نسبيا في حياة الفرد / قصيرة نسبيا في حياة الشعوب) يحاول البحث في الأسئلة السابقة من منظور فني دون تقديم إجابات حاسمة عليها، بل بطرح رؤى متعددة واتجاهات مختلفة تفسر بواعث سلوك الشخصيات وتبريرها لمساراتها واختياراتها.
ثالثا : التمرد على الينابيع:
بدت أغلب شخصيات الرواية مأزومة بينابيعها… مهجوسة بجذورها، وبدت الينابيع/ الجذور هي العائق المانع أمام الشخصيات من العيش بحرية، وهذا ما جعل الرواية تصوغ للنضال من أجل الحرية طابع الصراع الطبقي بمستويات مختلفة. وعند تحليل رؤية كل شخصية لمفهوم الحرية ولكيفية الوصول إليها، وبقراءة وظيفة المكونات السردية في تعميق تلك الرؤى؛ يمكننا الوصول إلى الرؤية الكلية للرواية والمقصد الفني للكاتب الذي يصعب إغفال النظر فيه عند دراسة العمل الروائي الواقعي إذ «يحمل كل نص حقيقة ينبغي إبرازها، ولكن يجب التنبه إلى أن هذه الحقيقة إنما انتزعت من مؤلفها انتزاعا. إنه هو الذي يمسك بها ويضمنها في النص»(9) تضمينا أدبيا يترجم رؤاه في نسق فني.
وستقوم هذه الدراسة في هذا الحيز على تقصّي ينابيع/ جذور بعض الشخصيات التي كانت باعثا للكثير من سلوكياتها، وقراءة تلك الينابيع ضمن البنية السردية، ومن ثم النفاذ إلى دلالتها الفنية.
1 ـــ محمد العواد: طيف الأم :
محمد العواد هو ابن شرعي خارج مؤسسة الزواج، والدته إحدى الإماء اللاتي كن يعملن في بيوت السادة. لم يجد محمد العواد من والده أو من المجتمع عدالة ومساواة في المعاملة والتقدير بينه وبين إخوته البيض (الشرعيين)، فهو في كل مرة يقف في الصف الأخير، ويصلي غاضباً، ويأكل مع الخدم ويصفعه أبوه لأي هفوة، وهو يرى إخوته البيض ممتلئين بالشحم والدم، وهو عود يابس يرعى الغنم وينادم الآبار الملأى بالأصداء والأغنيات»(10).
وقد شكلت الأم في وجدانه الطعم الأول للألم والمسوغ العرقي للفن، فكانت الصورة الأولى للإنسان المهمش والصدى الدائم الذي يتردد في ذاكرته عند كل معاناة يتجرعها بسبب اللون والنسب الذي ورثهما من علاقة والده بأمه. فحين علقه والده مرة في البئر ترهيبا له كي يترك العزف والغناء تذكر والدته وفضاء العذاب الذي أحاط بحياتها في منزل والده «الجوع والحشرات والمرايا المشرخة، وقناديل الأخوات والأموت، والعظام الملقاة التي لا مسكها أصابعه، تذكره، بالأم. ذلك الجسد الجميل والوجه الأبنوسي الناعم كان ملجأه الأول والأخير، تمتد أياديها إليه الآن لتقطع الحبال الغائرة في لحمه فلا تستطيع»(11). وحين عشق الفن ربطه بالجينات الأفريقية التي تسللت إلى دمه عبر أمه وخلقت فيه تلك الارتعاشات الراقصة، «رآها أبوه ذات ليلة مملة، بين العبدات فاشتهاها، وصنعه بذلك اللون الأبنوسي والروح الأفريقية. يريد أن لا تدمدم الغابات في عروقه..». (12).
وعلى الرغم من سرد الرواية لمعاناة محمد العواد من حالة التمييز، الاجتماعي عامة والأسري خاصة. التي يعيشها فإنها لم تعبر عن تبرمه الشخصي من لونه أو نسبه لوالدته بصيغ صريحة أو سلوك جلي، ولكن تغلغل التصور الجمعي للفتى الأبيض الشجاع لم تستثن مخيلة محمد العواد هو الآخر لتكشف عن شوق وتوق عميقين لصورة البطل الأبيض، فحين رأى «فارس» ذات مرة استحضر البطولة في بياضه وأناقته، «إنه فتى الشيوخ السارح بين خيامهم وخيولهم وبساتينهم، قريب إلى فؤاد الشيخ حامد، فكيف يبدو الآن صلدا مثل رمح. لِم لمْ يزل البياض والأناقة شرارات القوة والفحولة».(13) وهذه بعض أمارات الشعور بالتأزم الطبقي في نفس محمد العواد.
والمفارقة الطبقية التى يعيشها محمد العواد في تركيبته كانت المؤثر الأهم في تشكل مفهوم الحرية عنده. فهو ليس عبداً مكتملاً، كما أنه ليس حراً بالأصالة؛ ولذلك يمكن النظر إلى الأداة التي استعان بها محمد العواد للتعبير عن رغبته بالتحرر من أزمة الينابيع التي يعيشها على أنها تكمن في الفن وهو أداة (فردية) في طبيعة استخدام العواد لها، غير أنها تمتلك خاصية التأثير والتحريض الجماعي، فالفن له «قدرته على التأثير في فترات أبعد من اللحظة التاريخية التي نشأ فيها، وبذلك كان له سحره الدائم»(14) ، وهو ما حاول محمد العواد ممارسته في بعض أجزاء الرواية غير أنه لم يتمكن من إنجازه حدثاً مكتملاً في بنية الرواية.
وكان الغناء عند محمد العواد هو أقوى أدوات التمرد وعلامة الحرية الكبرى. وكان الفن، في ذلك الوقت، المتمثل في العزف والغناء يواجه الازدراء والاستهجان. فتكاملت أسباب الازدراء في شخصية محمد العواد من نبع واحد نبع الأم التي ورثته السواد والنسب وجريان الطرب في نبض الدم.
وبالفن تمرد محمد العواد على كل مختلف المؤسسات التي كانت تحاربه :
◎ مؤسسة الأسرة: منح العود لمحمد نسباً ولقباً وهوية لم يمنحها له والده. فصار في الرواية محمد العواد، والقارئ لا يجد في الرواية إسماً لعائلة محمد. ولأجل العود والغناء هجر محمد أسرته التي لم تمنحه العدل والمساواة والاعتراف الكامل ولم تقدم له عوضاً عما سبق الحرية في اتباع ما يهوى.
كما تمرد محمد العواد على مؤسسة الزواج نفسها لأنها ستكون عائقاً أمامه في استمرار حريته في ممارسة الفن، يقول لمّا طرح موضوع زواجه من «فيّ» بعد أن حملت منه «أنا الرجل الحر، أحبس نفسي في هذه الخرابة لأصنع أطفالا وأناغي زوجة وأشتري الأدام كل صباح! إنني لم أتغرب وأتعذب وأستشهد في هذه المدينة الحجرية إلا لكي أغني! سأغني! سأغني. أنا فنان أحلم أن أصعد إلى النجوم لا أعيش بين بول الصغار» (15).
◎ المؤسسة الدينية : واجه محمد العواد رجال سالم الرفاعي طوال حياته الفنية، كانوا يلاحقونه ويكسرون عوده وآلاته ويفسدون لياليه وسهراته، واصفين ما يفعله بالدعوة إلى الفجور وإفساد المجتمع. وكانت المؤسسة الدينية هي أول من حارب حبه للغناء والفن، غير أنها لم تتمكن، على طول مرحلة الصراع معها، من كسر عزيمته واثنائه عن إكمال مسيرته الفنية.
◎ الواقع السياسي والاجتماعي: وسم الكاتب الرواية في جزئها الأول بعنوان «الصوت» وبتقصي المفهوم الذي صاغته الرواية للصوت يتعمق مدلول التمرد ثم الثورة في الرواية إلى ان يختتم الجزء الأول حدثه الأخير بحركة احتجاجات كبيرة تنتهي بإطلاق النار على الميجر الإنجليزي. ففي الثقافة الشعبية يعبر مصطلح «الصوت» عن أحد الفنون الشعبية «التي تعتمد على الآلة المحببة في الأوساط الخليجية والعربية (العود)، والتي ترجمت بروح وإحساس ينتميان إلى عروبته وإقليميته الخليجية. فاختيرت له القصائد العربية الجاهلية، وأيضاً التي جاءت بعد الإسلام»(16). وبتقصي دلالة «الصوت» سوف نجدها تتطور من المفهوم الفني الذي تأسست عليه في الثقافة الشعبية وفي المدلول الأول في الرواية إلي الدلالة التعبوية والنضالية التي أخذت تتشكل بتطور البنية التركيبية في الرواية، و«نعني بالدلالة جميع لحظات التلفظ المتكررة والمتماثلة مع نفسها في كل تكرراراتها»(17)، التي ستشكل معنى دالا ضمن سياق السرد.
والنماذج التي سنوردها بمنهجية متسلسلة تطورية لدلالة الصوت. وليست ذات طابع انتقائي موجه. فقد بدأ الجزء الأول، بل بدأت الرواية كلها بجملة افتتاحية هي «كان محمد يصغي إلى صوت العود الواهن»، وهي جملة تؤسس لمعنى الصوت بدلالته الفنية. غير أن هذه الدلالة أخذت في التطور مع اندماج محمد العواد في الحياة الاجتماعية ومع فئات متعددة.
فحين كان محمد العواد بين جموع المحتجين الفقراء الذين تلاحموا وتبادلوا الطعام والصبر والقوة تورد الرواية الجمل التالية : «كانت هذه الأغنية التي انتظرها طويلا، صيحة حرب وإيقاع مارش لصف طويل من المتعبين. وراح صوته يلعلع فوق حشود الشوارع، والكلمات تتسرب، وتتعذب في الأفواه الأمية، ثم تندغم وتنمو وتطير، وتصير سرباً من النوارس»(18). إن تلاحم الفقراء تحول في نفس محمد العواد إلى أغنية لها وقعها الخاص وتأثيرها المختلف.
ويشتد ارتباط مفهوم الصوت الفني بمفهوم الثورة حين يتواجد محمد العواد بين جموع الفقراء إبان ما عرف بثورة الغواصين حين خرجوا على الطواويش محتجين على ديونهم التي تتضاعف ولا تنقضي، يتساءل محمد العواد: «من أية أغوار صعد ذلك الصوت؟ تلك الأنشودة (النهمة) الغائرة في موج الصدر واضطرابات الصواري والروح واللجج والصخور ومتاريس الرمل المحطمة وقيعان الأكواخ الخالية والقدور الناضبة…؟ من أين صعدت تلك (الآه) وأوقفت الأصابع المقطوعة، وجمدت الأرجل الفالتة في الأزقة، وأنضجت الأولاد في دقائق؟ ثمة صوت اندلع،…؛ تحول الهاربون بغتة إلى مغنين… راحوا يجدفون بين التراب، وينهمون في عريهم المجلود،…، الصوت الصغير، الوحيد، المرتجف؛ يتنامى بين كتل الصخور وهو ينظم إلى قطيع البشر المشتت العائد من المسلخ،… ، الصوت الأبح، الخافت، يتوحد بصوته القوي الحزين فيندلع اللهب، وكأن مئات السفن تتوحد في هدير كوني ويصير حجرا متدفقا يرنح الفرسان من صهوات الخيول التي تفح نائية مكسورة. ولتبدو الشوارع مفتوحة حرة»(19). ففي هذا المقطع تكشف الرواية عن براعتها في استخدام اللغة استخداماً يدفع المعاني العميقة إلى التجلي، حيث تتكاتف الألفاظ التي تحشدها الرواية، المرادفة للصوت، في تصاعد يتناغم مع تصاعد الحركة الاحتجاجية للفقراء.
وفي حركة احتجاجات أخرى متجهة نحو القلعة حيث يقبع سجن كبير، يرد في النص التعبير الآتي: «من كان يظن أن هؤلاء المدفونين في التراب لهم صوت؟ وأولئك الفلاحون المعزولون في الدوالي والقرى البعيدة سيندفعون بسيول حميرهم إلى القلعة فيختلط النهيق بـالصراخ»(20).
وعندما تراجع «فارس» ، ذلك الشاب مرموق القبيلة، عن ثورته ضد المستعمر الإنجليزي، التي حشد لها جموع الرافضين لتسلط الميجر الإنجليزي وجموع الفقراء المتضامنين، أكدت الرواية على دلالة كلمة الصوت بمعنى صخب الثورة والاحتجاج: «لماذا لم يدع التيار يصخب، ويدمدم بين الحصى المتقلقل والذائب، ويقلع العشب الأخضر الموحل اللزج، لماذا في قمة النشوة يكسر الإيقاع والصوت؟»(21).
وفي نهاية الجزء الأول يشتد صوت الاحتجاجات وتصل إلى بيت المستشار وتمتزج أصوات المحتجين، التي كانت تصدح بالنشيد أحياناً، بأصوات الرصاص المنطلقة من كاد الجانبين، إلى أن ينتهي الجزء الأول بدوي رصاصة تستقر في رأس الميجر الإنجليزي «إنهم لم يتسللوا بصمت، بل كان نشيدهم يوافق سواعدهم وحبالهم الملقاة فوق الجدران وفي اندفاعات أقدامهم الكثيرة الهائلة بين الأبنية والجدرات وغرف الحبس واندمج صراخهم وغناؤهم برصاصهم وصيحاتهم، وتجمد الحراس الهنود مذهولين، وألقوا بنادقهم ومفاتيحهم، وطلع رفاق البحارة من تحت الحفر ونزلوا من البرج مهللين فرحين…، اندفع الميجر مطلقاً الرصاص نحو البوابة،…، وفجأة دوت رصاصه أمام وجهه…» (22).
إن «تنظيم» الرواية لدلالة الصوت في هذا النسق، هو تنظيم لإحدى وجهات رؤية محمد العواد لمفهوم الحرية. وهو مفهوم ارتبط بالفن من حيث هو قوة محرضة ودافعة.. من حيث هو أداة للتعبئة وحشد الجماهير.
2 ـــ جمعة الحادي :
جمعة الحادي رجل لا ينتمي إلى محيطه. في البدايات هو سليل العبيد الذين اقتيدوا إلى هذه الأرض مختطفين ومكبلين. وفي النهايات هو رجل انتشل نفسه من أهل المزابل والأكواخ فلم يعد منهم.
صورة أجداده المعذبين لم تفارقه، لم تكن لحياتهم قيمة عند سادتهم فلم يوفروا لهم أسباب النجاة حين كان الموت يتخطف الجميع ويخصهم وحدهم دون السادة بالهلاك، «ثم رأى جده في سفينة العبيد وهي تغرق، والسود يصرخون بلغاتهم الغريبة، يشيرون إلى قيودهم، لكنهم راحوا يغرقون والبحارة والتجار يسبحون ويهربون من السفينة الغارقة. أحس كأنه هو الذي يغرق ويختنق، فنهض مذعورا مغتسلا بالعرق»(23). ولم يكن حاضر جمعة وأسرته أفضل حالا من ماضي الأجداد. الحياة التي لم يحرموا منها، لم ينلهم منها إلا الخدمة والمهانة والإذلال واستلاب الحرية والإرادة، يقول في أحد مقاطع الرواية: «أنتم كنتم تعرفون كيف كانت أسرتي؛ وكيف كنت! كنا ملحقين بهامش بيت، هو أشبه بالزريبة؛ وكان أبي وإخوتي يعملون طوال النهار والليل، في تنظيف القدور وطبخ وحمل للرضع وصفعة لأية هفوة والسادة لهم أن يختلوا حتى بالبنات. أتعرف كم تحملت وقاسيت من كل هذه الإهانات؛ وتطاردك كلمة عبد في كل مكان!» (24).
وكان جمعة الحادي واعياً لأزمة لونه وأزمة الطبقة التي يُصنف ضمنها، وقد عبر في غير موقع في الرواية عن ترسب ذلك في نفسه، وعن إدراكه أن بواعث سلوكه وردود فعله تجاه واقعه تجلت في صورة «طموح» جارف نحو الارتقاء الطبقي. و«مقدرة الشخصيات الأدبية على وعي ذاتها تلعب دورا بارزا في الأدب»(25)، من حيث تعبيرها عن التعبير عن نفسها، وعن وضوح إدراكها للحياة والآخر وكيف تحقق أهدافها.
بحث جمعة الحادي عن السبل التي تنتشله من أزمة ينابيعه واهتدى بادئ الأمر إلى طريق العلم؛ وعلى الرغم من كون العلم أداة فردية فإنها تمتلك خاصية التنوير الجماعي؛ وهو ما لم يسعَ جمعة الحادي لتحقيقه، وإن كان عمل في بعض أحداث الرواية المتقدمة على الاستفادة من بعض الشخصيات المتعلمة لبناء الوطن مثل شخصية بدر الوزان. ولكن تلك الاستفادة كانت في إطار (المفهوم الشخصي) لجمعة الحادي في بناء الوطن، المتمثل في الاستعانة، وبناء كتلة منسجمة معه. وليست استفادة قائمة على ترسيخ مفهوم المشاركة.
عكف جمعة الحادي على القراءة في الكنيسة وقرأ كثيراً من الكتب، وأهم ما وجده في الكتب طرح قضية التحرر من العبودية «كان جمعة الحادي يرتعش وهو يتابع السطور الغريبة في مجلة (المقتطف)، كانت كلمات العلم والمدنية تومض مصابيح في الطريق وورشاً ومدارس بنات جميلات وأغنيات وبالونات، …، لينم إذن، أو يجهز على هذه المجلة الرائعة، التي كلما قرأها أحس بروعة الحياة ونشوة العمر، فعما قليل سيخط بقلمه أشياء مماثلة. سيقول رأيه في تجارة العبيد، وفي ذلك النزف من سواحل أفريقيا المسمومة، وفي تلك السفن المشحونة بالصديد والعظام المكسورة. أما آن وقت نبش هذه المزبلة وأصحابها !» (26)، ويظل مأزق العبودية حاضرا عند جمعة الحادي في أغلب مواقفه، فحين تلومه إحدى أخواته على عمله مع الميجر الإنجليزي المعين من قبل المستعمر، يرد عليها لائماً ومعللاً ما يفعله بأنه وسيلة تحرر من العبودية التي يرفض المجتمع عتقهم منها. «لماذا تنقلين إلىّ هذا الهراء؟ ألا تعرفين أنهم يريدوننا أن نظل عبيداً لديهم إلى الأبد، حتى يتلذذون بتحسس عرقنا المتصبب ودمنا؟ إنهم يغارون حين إننا نتعلم ونستطيع بينما هم لا يزالون في بركهم الموحلة وفي أعمال الحمالة والدناءة»(27).
ثم تطورت وسائل جمعة الحادي للتمرد على ينابيعه/ جذوره، فبعد القراءة سوف ينضم للطرف الأقوى في المجتمع، سوف ينضم إلى المستشار الذي يرى فيه ثقافة الحرية والعدل والمساواة «الميجر من أمة عظيمة وراء البحار، وهم أصحاب علوم وتمدن ورحمة، لا عبيد عندهم وكلهم أحرار! إنه يريد كتبه وسأعرض خدماتي عليه. ليس مكاني الغوص وعمارات المسامير والحبال!» (28).
ثم لجأ جمعة الحادي إلى جمع الأموال وامتلاك الأراضي «الشيخ السكير مفلس، وهو بحاجة إلى النقود من أي مكان، وأرضه كبيرة وهامة. تصوروا ماذا سيحدث عندما يمتلك شخص ما نصف المدينة الصاعدة من أنقاض الأكواخ والمزابل؟ أنا أسرعت بشراء قطعة ولعلي أبتلع المزيد. انظروا إلى هؤلاء الناس البهائم، لا يدرون ماذا سيحدث غداً، والأرض كنوز» (29). وامتلاك جمعة الحادي للأرض لم يكن امتلاكاً لشكل من أشكال الثروة فحسب، بل امتلاكاً للهوية والانتماء الذي يفتقد جذوره على هذه الأرض. فالأرض تشكل أزمة من أزمات الهوية عند جمعة الحادي وقد عبر عن شي، من هذا القبيل حين كان يتألم لمصاب أخته التي احترقت والتي كان يتمنى أن تنجب أطفالا يحفرون اسم والده على هذه الأرض. «… كنت أود أن أراها منتفخة البطن، ذات جحفل من الصغار، تغرز اسم ذلك الأب العملاق في رمال هذه الأرض الجامدة. ثم أدفنها كتلة رماد في التراب!» (30).
إن تتبع علاقة جمعة الحادي مع الأرض يكشف عن أزمة مع المكان، فقد عبر جمعة عن جري أطفال المحرق خلفه ونعته بـــ«العبد» وهو يعمل في شقاء، ثم انتقل إلى المنامة وعبر عن تقززه من المزابل التي تحيط به ومن الفقراء الذين يسكنونها. ولذلك كان امتلاك الأرض وسيلة لفرض علاقة جديدة مع المكان يكون جمعة الحادي هو الطرف الأقوى فيها.
ومع كل مرحلة ينجح فيها جمعة الحادي في الترقي الطبقي يطمع في وسيلة جديدة تمنحه هوية جديدة. فيطمح فيما بعد إلى امتلاك النساء البيض في سعي لتغيير التركيبة العرقية لأبنائه وأحفاده «الآن لابد من تملك النساء البيض وعصرهن بين شفتيه، يريد أن يملك ويملك حتى يبتلع كل شيء»(31)، وهو ما يفسر زواجه من أخت بدر الوزان.
3 ـــ بــدر الــوزان :
بدر الوزان من الشخصيات التي ظهرت في منتصف الرواية وقدمتها الرواية شخصية مناضلة للحرية والعدالة ومقاومة المستعمر. ولم يعبر بدر الوزان عن أي شعور بالاغتراب أو عدم انتماء للمكان. ولكن تبرز إشارة في نهايات الرواية تشكك في انتماء بدر الوزان لهذه الأرض عبرت عنها زوجته ظبية في رسالتها له في منفاه في سانت هيلانه «تقول لي عائشة أن نذهب إلى بلدي ولكن هذا قد أصبح بلدي وبلد زوجي يزعمون أنك لست من هذه ا لأرض !» (32). تلك الرسالة فتحت تربة السرد على قضية الينابيع/ الجذور عند بدر الوزان كغيره من شخصيات الرواية.
كانت رسالة ظبية في نهايات رحلته، ولكن في البدايات حين قرر بدر أن يستجمع أسباب القوة والنفوذ لجأ إلى «القبيلة». فرحل إلى فرع عائلته من أهل (والدته) أصحاب القبيلة والنفوذ والنسب العربي الذين لم يتأخروا عن شد رباطه بهم بتزويجه إحدى بناتهم ومنحه كل ما يريد من أسباب القوة: «أخواله وأبناؤهم استقبلوه بحفاوة. دخل ببنطلونه وقميصه في كتلة الثياب والعباءات والعقل وشوارب الصقور والوجوه الصلدة. شعر براحة وهو يتبدل، ذاب في حشد القبيلة الصارم، رفس بقاياه المترددة وهواجسه. ماذا يريد أكثر من هذه الربيات تتراكم في يده، ودكانه الصغير يمتد إلى السفن والبحر والبرية، ومئات الوجوه البدوية تسلفه سجاجيدها وقماشها الملون وكرات لبنها الصلبة وماشيتها وخلاخيلها وفضتها، وهو يبيعها لتجار هنود وفرس يلتهمونها فوق سفنهم ويروح يعصر النجارين والحدادين ويستل الخناجر والخواتيم والأصابع منهم. إنه يتحول إلى صقر، الطيور المسالمة ترتعش تحت مخالبه. يتذوق عصارة الصليب المعقوف وينتزع بيض الأعشاش ويلتهم الفراخ» (33). وهكذا بالالتحام بالقبيلة صار بدر الوزان قوياً في نظره.
إن المقاطع السابقة من الرواية تعبر عن أزمة هوية وأزمة جذور يعيشها المناضل بدر الوزان. فهو يرى أن جذوره غير القبلية هي أحد أسباب ضعفه والعائق أمام إعلانه أي موقف وأمام وقوفه مناضلا في أي قضية. ولذلك كان لجوئه إلى القبيلة وسيلة قوة فردية تحل له أزمة الينابيع/ الجذور التي يشعر بها في أعماقه.
رابعا : ثائرون متصالحون:
استناداً إلى الفكر الواقعي الاشتراكي الذي تصدر عنه رواية الينابيع، فقد قدمت الرواية أغلب الشخصيات باعتبارها ثائرةٍ على الواقع الطبقي رافضة له. ولكنها في الحقيقية كانت متصالحة مع تركيبة هذا الواقع وقابلة بقوانينه؛ وما طموحها في تغيير هذا الواقع إلا طموح فردي مرتبط بتغيير (وضعها الطبقي الذاتي) ضمن المنظومة الاجتماعية ذاتها دون تغيير التركيبة المجتمعية الطبقية. وهو ما يؤدي عادة؛ حسب المدرسة الواقعية الاشتراكية إلى خلق أزمة التغيير في المجتمعات. فإنجلز يرى إن «الإرادات العديدة الفردية العاملة في التاريخ تعطي في أكثر الأوقات نتائج مختلفة عن النتائج المرجوة، وغالباً ما تكون متناقضة لهذه النتائج المرجوة»(34). وهذا ما يفسر على نحو ظاهري للرواية، فشل تلك الشخصيات في تحقيق طموحاتها واحلامها، أو انحرافها عن مسارها.
فعلى الرغم من أن بعض الشخصيات في الرواية كانت متصادمة مع الواقع فإن حركتها المتنامية في السرد كانت تتصالح مع الواقع كلما اقتربت من قوانينه. وأمارة تصالحها مع الواقع انشغالها بذاتها، ولجوؤها إلى أدوات فردية للتغيير، أو تفريد أدوات التغيير القادرة على التعبئة الجماعية، ومن ثم دخولها في عملية ارتقاء طبقي ضمن قوانين الواقع الطبقي ذاته.
وفي السياقات التاريخية التي تمر بها الرواية في أحداثها وشخصياتها، كان لمفهوم الحرية والتعبير عن جوهره. فكل تحرر يجب أن يحدث تغييرا، لكن التغيير يبقى محدودا إذا ارتبط بالاتجاه الفردي. وقد كانت أغلب اتجاهات التحرر فردية، من أجل ذلك لم تحقق التغيير الطموح الذي كانت تنادي به. سنورد فيما يأتي نماذج لتعامل بعض الشخصيات مع الحرية مفهوماً والتغيير هدفاً.
1 ـــ محمد العواد:
على الرغم من مشاعر الألم التي كابدها محمد العواد نتيجة التهميش الأسري والمجتمعي له بسبب لأمه، أو بسبب احترافه الفن، غير أن إرضاء الطبقات العليا من القوم كان أحد أهداف احترافه الإبداع الفني وأحد الوسائل التي أراد انتهاجها للارتقاء الطبقي، ففي حديثه لميّ التي كانت على أعتاب الزواج من رجل مرموق النسب قال «سأغني للكبار فانتظريني. لن يأخذك أحد غيري»(35). «كلهم لا يساوون أغنية مني. صدى هذه الحنجرة سيبقى إلى الأبد، وكل هؤلاء غبار ريح وثغاء خراف!» (36). وهذا التعبير المبدئي عن تقدير الطبقة التي ازدرته جعلته لا يصمد طويلا أمام إغراءاتها إذ يتراجع في آخر الأمر عن مقاطعتها ومقاومتها. فالوصف السردي يقدم محمدا باعتباره مطرب الفئات الشعبية والمهمشة، ومقاطعاً للطبقات الاجتماعية البرجوازية.!» لم يقبل أن يغني لأحد، وعندما يغني في بيته يمتلئ بالحضور والهدايا، وعجز الأغنياء عن ضيافته، ويمكن أن يفاجئ حضوره زواج بحار فقير من الأحياء القريبة، حيث سيعم الذهول وتكتب الليلة في اللوح المحفوظ في صدور الناس!» (37). ولكن بعد أن وقع محمد في غواية الغناء لتلك العائلات البرجوازية يواجهه صديقة إبراهيم زويد بالحقيقة التي آلمته ويكشف له عن حقيقة واقعه طوال سنوات صموده.. «- ماذا فعلتْ طوال هذه السنين الأخيرة؟ سكرٌ واحتضان لنسوةٍ تتبدلُ وجوههن في كلِ ليلةٍ ، ثم لا أغنيةً جميلةً ولا كلمةً تهزُ الناسَ ، عربدةٌ ، والآن دعوةُ الشيخ ، ولا أدري من سيليهِ . . هل ستذهبُ إلى أولئك البشر الذين عذبوك ، لقد سقطتَ ، سقطتَ يا محمد»(38)، وفي حوار آخر يقول إبراهيم زويد لمحمد حين رأى عنده متاعا وأشياء يعجز عن شرائها وتوفيرها بقدرته المالية المحدودة «من أين لك هذه الأشياء؟ وأحس أنه أخطأ فازداد ارتباكاً وألماً، وتكشفت له الأشياء برعب، إنه يصغر صديقه ويحتقره، وهو صار صغيراً فعلاً ، فلا شك أنها هدايا من الشيوخ ، وما هو الثمن؟ وهو الذي قال إنه لا يمد يده أبدا !» (39).
2 ـــ فارس:
تكمن مشكلة فارس أنه ثائر برجوازي، فلديه تحفظاته على أخطاء الطبقة التي ينتمي إليها في تعاملها مع باقي الطبقات، ولكنه في حراكه المتمرد كان معنيا بالحفاظ على طبقته وامتيازاتها لأنه أحد المتمتعين بامتيازاتها. لذلك لم يكن تمرده على الميجر الإنجليزي إلا لحصاره الشيخ وتسلطه عليه. فهو لم يكن من المشاركين في ثورة الغواصين الفقراء ضد جشع الطواويش، وحين تحول الأمر إلى ثورة فقراء انسحب من الحراك وقدم اعتذاره للميجر وشكل ذلك حالة انكسار عميق في حركة الاحتجاجات التي أجهضها استسلام فارس.
وقد خلق الخطاب السردي حالة من التناقض بين خطاب فارس إبان الحركات الاحتجاجية، وبين الحدث الذي يكون هو جزء منه. ففي الحوار الآتي يكون خطاب فارس مظلة لمفهوم الحرية التي تنازل المستعمر البريطاني العداء «لابد أن يلتف الناس حول الشيخ، فما وعود هذا الميجر إلا أكاذيب. إنه يتطلع إلى كرسي هذا البلد وحينئذ ستتبخر كلماته، ويعود هؤلاء البؤساء إلى مستنقعاتهم وبحارهم الساخنة»(40).
وبعد انكسار الاحتجاجات يطلب فارس العفو والحرية من الميجر نفسه، ويسوق خطاب الرواية إشارة إلى حالة التناقض التي تعبر عنها شخصية فارس؛ مفسرا التناقض بالوضع الطبقي الذي ينتمي إليه فارس «لم يصدقوا ما شاهدوه، فارس انحنى للميجر وطلب الغفران؟! ود الرجوع إلى غرفته الهادئة وبيته الكبير، وكأن شيئاً لم يكن وكأن أحداً ما دهس في الدروب، والشيخ الكبير لم يجندل ويحبس في بيت صغير، حارسه عسكري هندي من أقصى العجمة والعتمة»(41).
ثم تورد الرواية انشغال فارس في منفاه في الهند باللهو وبالنساء، وبمراسلة عائلته في البحرين طلبا للصفح والعودة. ثم تخليه عن زميل المنفى … وعودته إلى البحرين وحيدا، وانشغاله بالتجارة وجمع الثروة حين عودته للبحرين.
3 ـــ بـدر الـوزان:
قدمت الرواية شخصية بدر الوزان باعتباره شخصية متمردة ذات انتماء قومي. وكان يرفض الواقع الطبقي ويقاوم انتهازية المنتمين إلى السلطة والمستشار وينحاز إلى العمال والفقراء والمثقفين. وفي موقع سابق عرضت الدراسة باعث التغيير عند بدر الوزان وهو الشعور بأزمة الينابيع/ الجذور التي دفعته إلى تحصين نفسه وتقوية ذاته بالانتماء القبلي. والوزان يرى في النسب القبلي والثروة التي امدته قبيلة أمه وزوجته جاذبا للعناصر المؤيدة له. وبتضافر كل تلك المقومات رأى الوزان أنه صار قوياً ولا يخشى أحداً «الآن لا يخاف من أحد، وراءه ثروة وأرض وقبيلة وسرب كبير من الأصدقاء نما في شتى عروق البلد»(42). والشعور بالخوف والرغبة في التخلص منه هو، في حقيقة الأمر، هاجس ذاتي. وعمليات التغيير التي انشغل بها الوزان كانت تغييرا لواقعه الفردي وفق شروط القوة التي يفرضها المجتمع. وهو لم يَثُرْ على تلك الشروط ولم يطالب بتغييرها كي يتغير الواقع الاجتماعي بالكامل.
من أجل ذلك كان الخطاب السردي يعبر عن الحركة النضالية. لبدر الوزان باعتبارها حالة زعامة فردية تنم عن نفوذ وهيمنة وقدرة على مبارزة السلطة وتوجيه الجماهير «هو في قمة تألقه؛ فوق أكتاف الجموع؛ يحس أنه يسبح في بحر عميق، الرجال طوع أمره، يأمرهم بتنظيف الطريق، وحمل الحجارة الثقيلة فينصاعون لأمره، وكأن كلماته سحر»(43). فبعد موجة احتجاجات شعبية كبيرة كان هو من يديرها يعبر الوزان عن راحة فردية ورغبة في بسط القوة أكثر فأكثر «كانت كل الخيوط تتصل بأصابعه، والهاتف لا يتوقف عن الرنين، كان ينتظر تلك المكالمات الهامة، أن يسمع صوت سميث المتذلل، أن يرى وجه الشيخ نايف التعس..» (44)… وحين قابل هؤلاء للتفاوض تنازل عن اللجنة التي كانت ذات طابع شعبي وهو ما يعكس الاتجاه الفردي في شخصية بدر الوزان، وكان حس الزعامة هو ما يشغله في المقابلة «وفوجئ كيف سيدعوهم للرحيل، كيف سينصاعون لإرادته؟! طلب بضعة شؤون بدت كلها تافهة لما كان يريد، ولكنهم رأوها صعبة حتى وافقوا عليها، ولكن أن يحل تلك اللجنة المهيمنة التي شكلها فوافق»(45). ويعترف بدر الوزان بنزعاته الفردية حين يشعر بثقل رسائل زوجته ظبية التي يتلقاها في منفاه معتبرا إياها «سطل الماء الحار الذي يلقى على رأسي كي تفيق من جنون العظعة»(46).
تلك الشخصيات جميعاً انشغلت بالتغيير الفردي وليس المجتمعي ولذلك فشلت في ثورتها كما حصل مع فارس وبدر الوزان وغيرهما، أو حادت عن مبادئها كما فعل محمد العواد، أو أنها كانت واعية لغاياتها الانتهازية كما فعل جمعة الحادي ومرتضى أكبر وعادل خسرو وأخته ثريا وغيرهم.
إن تلك الشخصيات، وفق المفهوم الواقعي الاشتراكي تفتقد إلى الوعي الطبقي الصحيح القادر على تغيير المجتمع وتحقيق غايات أفراده «إن هذا الوعي ليس إذن حاصل ما يفكر به ويحسه الأفراد الذين يكونون الطبقة، فردا فردا … هذا الوعي ليس الفكر الفردي»(47)، لأنه قد يمثل الرغبات الفردية والطموحات الشخصية التي تكيف نفسها حسب معطيات الواقع، ولكن الوعي الصحيح عند الواقعية الاشتراكية هو الوعي الذي يعبر عن «صلة المجتمع ككلية. لأنه في هذه الصلة فقط يكون الوعي، الذي يستطيع الناس أن يكونّوه في كل برهة عن وجودهم»(48).
إن مفهوم الحرية الذي يؤدي إلي التغير، وفق ما نادت به الشخصيات السابقة لم يتحقق لأن الغايات كانت فردية، وكانت متصالحة مع قانون المجتمع وإن كانت تعبر عن ثورتها عليه.
خامسا : متمردون مؤثرون:
يظن بعض دارسي الأدب أن الاتجاه الواقعي الاشتراكي في الأدب معني بخلق متخيل سردي ينتهي بانتصار الشخصيات (النموذجية) إن جاز التعبير وتحقيق أحلامها في نهاية العمل الفني. وهو تصور غير دقيق يبتعد بالإبداع الفني عن طبيعته الجمالية، بل ويبتعد عن المفهوم الواقعي للأدب «فالشر في الواقع هو الذي ينتصر، وليس هناك إلا جزر صغيرة يمكن للخير أن يلوذ بها لبعض الوقت. والأعمال الفنية الأصيلة تعي ذلك، لذا ترفض الوعود التي يسهل إجزالها؛ ترفض الخاتمة السعيدة التي لا تشوبها شائبة»(49).
ولكن الاتجاه الواقعي الاشتراكي يقوم على إبراز حقيقة العلاقات الاجتماعية القائمة في طبيعتها على الصراع وكشف «ما هو جوهرى في حركة المجتمع، وما هو جوهري هو القانون الأساسي بحركة الأشياء»(50). والرواية تكشف عن قانونين لنمطين من الشخصيات في الرواية. النمط الأول هو النمط الذي قدمته الرواية في صورة انتهازية وقد كشف عن قانونها شخصية أكبر مرتضى «هذه هي الدنيا، فرص وتحولات هائلة غريبة، ومن لم يقف مع الموجة الكبيرة القوية، سحقته كالحطب المهترئ»(51)…. «إن أي صمت منه سوف يحيله إلى صاحب دكان تافه»(52).
ثمة شخصيات أخرى تعي قوانين المجتمع نفسها؛ وماملت معها إيجابا في اتجاه مختلف. وتمكنت؛ من خلالها؛ من تغيير واقعها بالتمسك بالأمل والقدرة على المقاومة؛ أهم هذه الشخصيات سعيد المناعى؛ ميّ؛ ظبية، إبراهيم زويد. وأهم ما ميز تلك الشخصيات معرفة قوانين الواقع والقبول بها والتعامل معها بوضعها في قالب اجتماعي يعبر عن حالة الانتماء للمجتمع التي تدين بها تلك الشخصيات.
يمكن ضم سعيد المناعي إلى فئة العبيد، لكنه لم يعان من مأزق الجذور والينابيع؛ فهو كان مدركا لقانون الواقع الاجتماعي الذي يحكم تلك الطبقة والآليات التي بها تتحرر «مرت سنوات وهو عبد، يحاول أن يجمع دانات ليلغي ديونه، ويتوغل في الماء ليصادق الوحوش والسيوف … ويصنع بيتاً وقارباً ومصائد لكي يرتفع عن حشود العبيد»(53). فجمع المال وتحرر، وحين صار صاحب مال ومركب لم يَقْصُر ماله على خلاصه الفردي وترقيه الط
Published on July 22, 2019 13:18
July 17, 2019
عبـــــــدالله خلــــــــيفة : وردة الشهيد
[image error]
أذكره ذلك الفتى القادم من بغداد ، الذي جاء بأحلام الشعر والغد الجميل وكلمات الحب والحمام.
أذكره بطلعته الوسيمة ، وشعره الأسود الفاحم الكث ، ووجهه الأسمر المشرق ، كطفل دخل إلى غابة متوحشة ، وقبل ذلك كنت أراه مع فتيات القرى والمدن في لوريات دائرة الأشغال يحمل الحصى والتراب والحطب ، ويشتغل بين حشود العمال الكهول ، أولئك الذين بقوا من طوفان الغوص والبحر كأشلاء ممزقة ، كقدر شعبنا البسيط أن يسبح في دائرة العوز والبقاء ..
لماذا حمل الفتى أحلامه الكبيرة ، وسافر وتغرب ليجيء بحلم الشعر والوطن ، ليغدو شاعرا لم يكتمل ، كجميع مشاريعنا في النضال التي تتأرجح بين الممكن والمستحيل ..
[سعيد العويناتي] هذا الفتى القروي ، المدني ، العالمي ، الشاعر ، الناثر ، الصحفي ، الشهيد ، جاءنا مثل غيمة ورحل ، مثل عصفور ذو زغب وقتل ، مثل كل شهدائنا الذين تركوا روائحهم وذكرياتهم وأحلامهم في عظامنا ، وذابوا في السفن والمدن.
أذكره وهو بكل صدره المفتوح للغد والأمل ، لم يشيخ ، ولم يكتمل ، باق هناك في روحي ، لم ينزع قمصانه ولا ألقى أوراقه ، بسنه المكسور الأمامية ، بابتسامته الغريبة ، ولكنته وهو يلقي الشعر في ناد بـ[البلاد القديم] ، ولايزال الضؤ يترجرج بالظلام ، ودروب القرية مفتوحة لإجتماعات الفرح والدم ، وهو سعيد بأنه يمتلك كل المشاريع للغد.
أذكره في مثل هذه الأوقات المختلجة برعشة الشتاء ، بين النخيل وعند البحر ، ووجهه كأنه يتحد بالسواحل والتراب ، عبر مشروعاته الكثيرة للتغيير ، والتحديث ، والنضال مع الناس من رفع الأجور حتى إدخال الشعر في كل بيت.
كان طازجا ورقيقا وجلده الغض لايحتمل حتى الكلمات الجارحة ، وقد كيرنا وشخنا ، وامتلأت أجسادنا بالنصال والندوب ، وهو لايزال شابا فتيا متحدا بالصواري والحقول.
شاعرا أبديا في جسد الوطن ، خارج الجروح والسيوف ، معطيا ذاته وكلماته لكل بيت ، ونحن تعبنا وهو لم يتعب ، صامد في دائرته الشفافة ، الخالدة ، فأعجب كيف يتحول الشهيد ويكبر ، وكل مرحلة تعطيه عطرا ولونا ، فتغدو الشهادة مراقبة لنا ولضعفنا ولتخاذلنا وهزائمنا ، محرضة إيانا على الصمود والنضال والإزدهار مادة ومعنى.
كل الشهداء الذين مروا بنا ، ملأوا حديقة الوطن والأرض بالأزهار ، كل منهم وردة ناضجة بالرواء والماء ، كل منهم مشروع لم يكتمل في الحياة وأكتمل في الخلود ، كل منهم عطر أتحد بالشمس والهواء وتغلغل في الروح والدماء.
ليتهم كانوا معنا الآن ، ليروا كيف أن تضحياتهم لم تذهب هباء ، وأن كل شعرة من جسد ، وبيت من شعر ، وكل منشور فسفوري ألقي في زقاق ، وكل عظم تحطم ، وكل كلمة إنفجرت بها الحناجر على الجسر ، وكل صرخة أم ثكلى ، وكل نبض إنتفض ، كلها ، كلها ساهمت في بزوغ فجر الوطن وتحولاته ، في ميلاد مؤسساته الشعبية الديمقراطية ، في قدسية أسم البحرين ،وتحوله إلى حمامة فوق خريطة العالم ..
أراه الآن سعيدا بقافلتنا التي كانت منهكة ، ممزقة ، تائهة في الرمال والرمضاء ، والتي وصلت إلى نبع صاف ، إلى ماء عذب وفرح ومهرجان ..
لازلنا نحبك ياسعيد. لازلتم أيها الشهداء في مآقينا ، تشربون الحرية معنا ، وتسقون أجسادنا ماء التضحية والفداء ، وتناضلون بغيابكم العظيم وحضوركم الأبدي.
عبـــــــدالله خلــــــــيفة
https://abdullakhalifablogspot.wordpress.com/2018/09/03/%D8%B9%D8%A8%D9%D9%D9%D9%D9%D9%D9%D8%AF%D8%A7%D9%D9%D9-%D8%AE%D9%D9%D9%D9%D9%D9%D9%D9%D9%D9%8A%D9%D8%A9-%D8%A7%D9%D8%B5%D9%D9/
Published on July 17, 2019 16:10
July 13, 2019
عبـــــــدالله خلــــــــيفة:الشاعر البحريني الكبير يوسف حسن: نخلة عطشى في المدينة
[image error]
من الشعراء والباحثين والنقابيين الأدبيين المتميزين في البحرين، وقد واجه في كل حياته العملية والاجتماعية ضغوطاً كبيرة ومنافسات قاسية تجارية، وهو رجل مستقل، ولم يوفر له الوطن مع كل عطائه عملاً، أو مكانة أو تقاعداً مبكراً أو متأخراً، وتركه في عمره هذا يعاني الكثير..
فأن يتحول شاعر وباحث إلى مصحح لغوي لا يستفيد من كل عمره السابق وتجاربه، إلا في البحث عن لقمة العيش، فهو أمر مخجل للبلد وسمعته الحضارية، في حين هو يتيح فرصاً كثيرة وكبيرة لأناس لا يمتلكون أي موهبة سوى موهبة النفاق..
عرفت يوسف حسن حين كانت لديه قرطاسية، وقد ناضل طويلاً في هذه القرطاسية لكي يبقى في السوق، وأن يحصل على فرص فيه دون جدوى، في حين كانت الفرص تنهال على من لديه حظة حظوة.
وكان طوال عمله التجاري هذا لا ينسى همه الأساسي في القراءة والإطلاع؛ وقد واكب الحركة الفكرية والأدبية الحديثة منذ نشأتها، وظل خلال هذه السنوات الطويلة على اتصال روحي معها، ينتج بصمت ويشتغل في مكتبته، حتى برز في السنوات الأخيرة حين احتاجت الحركة الأدبية إلى العاملين فلم تجدهم إلا في نفر قليل، فكرس كثيراً من وقته من أجل بعث الحركة الأدبية عبر أسرة الأدباء والكتاب، واستطاع أن يلملم بعض شظاياها وأن يعيد لها بعض الحراك.
وقد دفعه انعدام الفرص في السنوات الأخيرة إلى أن يبحث عن أي فرصة عمل فسدت في وجهه الأبواب، ولم يجد سوى وظيفة مصحح لغوي في إحدى جرائدنا الوطنية هي أخر ما بقى له من وسيلة للبقاء!
ووظيفة المصحح اللغوي بالنسبة للشاعر هي وظيفة إعدام يومي، فبدلاً من أن يطور إبداعه، ويقرأ التحف الأدبية في الشعر والقصة والنقد، ويسمو بذوقه ويتواصل مع آخر الكتابات الجميلة، عليه أن يعاني مع كتابات الشباب الصحفيين الذين يدهسون قواعد اللغة والفصاحة والبيان، ومع تجاعيد ولفات الوكالات الثقيلة في أخبارها وتقاريرها المروعة عن الجثث والداء والحروب، وأن، يُطبخ بين الأوراق والبروفات والأخطاء النحوية والطباعية التي لا تنتهي، وأن يستمر هذا ثماني ساعات يومياً فيطحن هذا الرجل.
ولا يبقى حينئذٍ من الشاعر سوى رمق بسيط، وينتهي الباحث مغموماً مهدماً بين هياكل الكتابة الميتة.
نحن نقترح على وزارة الإعلام كما فعلت مع نفر من الأدباء والمثقفين أن تقوم بتفريغ الشاعر والباحث يوسف حسن، ليبقى بين أوراقه وكتبه، وأن يتفرغ لإنجاز قصائده وكتاباته.
ومن حق هؤلاء الذين اشتغلوا طوال سنوات في حقل الثقافة أن يتم الاهتمام بهم، خاصة لظروف معاناتهم الكبيرة، وسنهم التي لا تسمح لهم بمثل هذه الأعمال المرهقة.
أننا نرجو كذلك من الجمعيات الفكرية والسياسية الاهتمام بمثل هذه الحالات الإنسانية والنضالية، فليس من المعقول أن تناضل جمعياتنا من أجل الجمهور العادي وتدع المثقفين والمبدعين يذوبون ويحترقون في هذه الحياة القاسية وفي واقع الأنظمة التي لا تفرق بين الزهرة والحصاة، بين القصيدة والحديدة، وتعطي بلا حد للمزورين وتمنع الحقوق عن الصادقين، وهذا كواجب كفاحي وليس كعملً خيري إحسانيً، فنحن لا نطالب بصدقة بل بجهاد من أجل عدم إذلال الفكر والكتابة والثقافة.
ღდღ
يتماهي الشاعرُ والباحثُ يوسف حسن بشكلٍ مستمرٍ ودائبٍ في هذه الومضات المشعة والدراسات مع الشاعر السوري محمد الماغوط ، فهو يكررُ اسمَهُ مراراً ، فهناك موقفٌ مشتركٌ غائرٌ ساخنٌ بين الشاعرين الحزينين الثائرين ، ولدى الشاعر الريفي التائه في الشام يتمظهرُ ذلك بلغة الصراخ ولدى الشاعر البحريني يتجسد بلغة التأمل والهدوء .
يحللُ الأستاذ يوسف موقفَ الماغوط قائلاً :
(فدمشق التي وفد عليها الماغوط فاراً من حجرية الريف السوري وقراه النائمة الوادعة . . آملاً بأن المدينة الكبيرة ستفرشُ له سريرَها وتحتضنهُ بصدرِها الدافئ الفاره وأنه سيلقي في كنفِها تلكَ الحياة التي حلمُ بها وهو في أحضانِ الريف ذي الإيقاع المملِ البطيءِ لكنهُ لم يجدْ سوى التنكر واللامبالاة والغربة والتشرد والتسكع والأنزواء في المقاهي التي لا يكاد يحسُ به أو يعرفه أحد) ، ص 22، من القسم الثاني .
يوسف حسن هو هذا الفلاح المُقتلع من عالمه ، وجدَ نفسَهُ في المدينة ، وفي التجارة ، والثقافة ، فتاهَ كثيراً بين جوانبـِها وغاباتِها ، فالتجارة صارتْ سراباً ، والمدينة غدتْ فخاً ، حصلَ منها في آخر العمر على وظيفةٍ لسدِ الرمق ، فراحَ يشذبُ حقل اللغة العربية المزروع بالشوك والحصى في صحيفةٍ تعيشُ بين الأخطاءِ النحوية والمطبعية وبين التنوير الصعب .
تاهت كثيرٌ من قصائدهِ في الورق الأصفر لصحفِنا الذائبة في الأرشيف ، ولم يهتم كثيراً بإنتاج الدواوين بل صار هو قصيدة في غابتنا الحجرية المسماة مجتمعاً ، هو قصيدة من أجمل شعرنا البحريني ، نحتَ فيها الخيرَ والطيبة والبساطة والكلمة الجميلة .
فهو لا يكتب إلا بصدقٍ شديدٍ متى ما تكاثفتْ في روحهِ المعاني العميقة ، متوقفاً عن الكتابةِ الآلية التي كلما ازدادت نقصَ فيها الشعرُ والشاعرُ ، وحين كتب (من أغاني القرية) ديوانه الوحيد لعله أراد أن يرقص فرحاً مع القرية لكنه كان يرثيها بلوعة ، داخلاً في نسيجها الفلكلوري واحتفالاتها الطقوسية الشعرية ، هاجساً بالمدينة والحفر فيها ، وقد ازهرت القرية عبر هذا الشعر اللغوي والحدثي بالحياة فكانت نخيلـُها وعصافيرُها وشطآنها تموتُ وهي تزهرُ شباباً ولوحات وقصائدَ وغضباً .
إنه الزارعُ البسيط الذي راحَ يرصدُ الكلمة بمتابعاتٍ طويلة ، يتعهدُ النبتات الغضة بالحنانِ ، والماءِ ، يخففُ من إبرية الأشواك ويضعُ وردة وتيجاناً ، يجلبُ الدفاترَ المنسية من مكتباتنا الحاشدة بكل ما هو غريب إلا من بحةِ الغواص البحريني الغارق بين الأسمنت والديون ، ليعلي من الثقافة الوطنية والإنسانية ، يضعُ هذه الكراسات للشعراء والقصاصين والنقادِ الشبابِ أمام الجمهور اليومي المشغول بالستائر والأحذية ، يبحثُ عن نجومٍ صغيرة فيها ، يشجعُ بحة النقد الخافتة ، وبذرة الأنتماءِ المتيبسةِ في تربةِ الأنا ، يترفقُ بلغةٍ غضة ، ينزعُ هذه الوريقات الصفراء الملتفة حول الذات ، يوجه التكالب على الشعر نحو الرواية وتحليل الحياة ، ويوجه الرواية نحو مزيد من الشعر والغوص .
في المتابعة الطويلة المتوترة للبذور الأدبية ، في الصحافة ، وفي أسرة الأدباء والكتاب ، توجه لكي تشق طرقها الخاصة ، وتفتحاتها الذاتية المميزة ، دون فرض قوالب ونصائح أبوية .
في كتاباته النثرية الأخرى التي لم تجمع كثيراً ما يؤكد محبته للينابيع ، والآبار ، وللكواكب المتألقة بالماء في قعر البحر ، وللشعراء المجهولين في خريطة البحرين في عصور العتمة . .
يوسف حسن مشروعٌ مستمر وسوف يكون القادم منه أجمل .
http://www.watanpressonline.com/archives/5709
عبـــــــدالله خلــــــــيفة:الشاعر البحريني الكبير يوسف حسن: نخلة عطشى في المدينة
من الشعراء والباحثين والنقابيين الأدبيين المتميزين في البحرين، وقد واجه في كل حياته العملية والاجتماعية ضغوطاً كبيرة ومنافسات قاسية تجارية، وهو رجل مستقل، ولم يوفر له الوطن مع كل عطائه عملاً، أو مكانة أو تقاعداً مبكراً أو متأخراً، وتركه في عمره هذا يعاني الكثير..
فأن يتحول شاعر وباحث إلى مصحح لغوي لا يستفيد من كل عمره السابق وتجاربه، إلا في البحث عن لقمة العيش، فهو أمر مخجل للبلد وسمعته الحضارية، في حين هو يتيح فرصاً كثيرة وكبيرة لأناس لا يمتلكون أي موهبة سوى موهبة النفاق..
عرفت يوسف حسن حين كانت لديه قرطاسية، وقد ناضل طويلاً في هذه القرطاسية لكي يبقى في السوق، وأن يحصل على فرص فيه دون جدوى، في حين كانت الفرص تنهال على من لديه حظة حظوة.
وكان طوال عمله التجاري هذا لا ينسى همه الأساسي في القراءة والإطلاع؛ وقد واكب الحركة الفكرية والأدبية الحديثة منذ نشأتها، وظل خلال هذه السنوات الطويلة على اتصال روحي معها، ينتج بصمت ويشتغل في مكتبته، حتى برز في السنوات الأخيرة حين احتاجت الحركة الأدبية إلى العاملين فلم تجدهم إلا في نفر قليل، فكرس كثيراً من وقته من أجل بعث الحركة الأدبية عبر أسرة الأدباء والكتاب، واستطاع أن يلملم بعض شظاياها وأن يعيد لها بعض الحراك.
وقد دفعه انعدام الفرص في السنوات الأخيرة إلى أن يبحث عن أي فرصة عمل فسدت في وجهه الأبواب، ولم يجد سوى وظيفة مصحح لغوي في إحدى جرائدنا الوطنية هي أخر ما بقى له من وسيلة للبقاء!
ووظيفة المصحح اللغوي بالنسبة للشاعر هي وظيفة إعدام يومي، فبدلاً من أن يطور إبداعه، ويقرأ التحف الأدبية في الشعر والقصة والنقد، ويسمو بذوقه ويتواصل مع آخر الكتابات الجميلة، عليه أن يعاني مع كتابات الشباب الصحفيين الذين يدهسون قواعد اللغة والفصاحة والبيان، ومع تجاعيد ولفات الوكالات الثقيلة في أخبارها وتقاريرها المروعة عن الجثث والداء والحروب، وأن، يُطبخ بين الأوراق والبروفات والأخطاء النحوية والطباعية التي لا تنتهي، وأن يستمر هذا ثماني ساعات يومياً فيطحن هذا الرجل.
ولا يبقى حينئذٍ من الشاعر سوى رمق بسيط، وينتهي الباحث مغموماً مهدماً بين هياكل الكتابة الميتة.
نحن نقترح على وزارة الإعلام كما فعلت مع نفر من الأدباء والمثقفين أن تقوم بتفريغ الشاعر والباحث يوسف حسن، ليبقى بين أوراقه وكتبه، وأن يتفرغ لإنجاز قصائده وكتاباته.
ومن حق هؤلاء الذين اشتغلوا طوال سنوات في حقل الثقافة أن يتم الاهتمام بهم، خاصة لظروف معاناتهم الكبيرة، وسنهم التي لا تسمح لهم بمثل هذه الأعمال المرهقة.
أننا نرجو كذلك من الجمعيات الفكرية والسياسية الاهتمام بمثل هذه الحالات الإنسانية والنضالية، فليس من المعقول أن تناضل جمعياتنا من أجل الجمهور العادي وتدع المثقفين والمبدعين يذوبون ويحترقون في هذه الحياة القاسية وفي واقع الأنظمة التي لا تفرق بين الزهرة والحصاة، بين القصيدة والحديدة، وتعطي بلا حد للمزورين وتمنع الحقوق عن الصادقين، وهذا كواجب كفاحي وليس كعملً خيري إحسانيً، فنحن لا نطالب بصدقة بل بجهاد من أجل عدم إذلال الفكر والكتابة والثقافة.
ღდღ
يتماهي الشاعرُ والباحثُ يوسف حسن بشكلٍ مستمرٍ ودائبٍ في هذه الومضات المشعة والدراسات مع الشاعر السوري محمد الماغوط ، فهو يكررُ اسمَهُ مراراً ، فهناك موقفٌ مشتركٌ غائرٌ ساخنٌ بين الشاعرين الحزينين الثائرين ، ولدى الشاعر الريفي التائه في الشام يتمظهرُ ذلك بلغة الصراخ ولدى الشاعر البحريني يتجسد بلغة التأمل والهدوء .
يحللُ الأستاذ يوسف موقفَ الماغوط قائلاً :
(فدمشق التي وفد عليها الماغوط فاراً من حجرية الريف السوري وقراه النائمة الوادعة . . آملاً بأن المدينة الكبيرة ستفرشُ له سريرَها وتحتضنهُ بصدرِها الدافئ الفاره وأنه سيلقي في كنفِها تلكَ الحياة التي حلمُ بها وهو في أحضانِ الريف ذي الإيقاع المملِ البطيءِ لكنهُ لم يجدْ سوى التنكر واللامبالاة والغربة والتشرد والتسكع والأنزواء في المقاهي التي لا يكاد يحسُ به أو يعرفه أحد) ، ص 22، من القسم الثاني .
يوسف حسن هو هذا الفلاح المُقتلع من عالمه ، وجدَ نفسَهُ في المدينة ، وفي التجارة ، والثقافة ، فتاهَ كثيراً بين جوانبـِها وغاباتِها ، فالتجارة صارتْ سراباً ، والمدينة غدتْ فخاً ، حصلَ منها في آخر العمر على وظيفةٍ لسدِ الرمق ، فراحَ يشذبُ حقل اللغة العربية المزروع بالشوك والحصى في صحيفةٍ تعيشُ بين الأخطاءِ النحوية والمطبعية وبين التنوير الصعب .
تاهت كثيرٌ من قصائدهِ في الورق الأصفر لصحفِنا الذائبة في الأرشيف ، ولم يهتم كثيراً بإنتاج الدواوين بل صار هو قصيدة في غابتنا الحجرية المسماة مجتمعاً ، هو قصيدة من أجمل شعرنا البحريني ، نحتَ فيها الخيرَ والطيبة والبساطة والكلمة الجميلة .
فهو لا يكتب إلا بصدقٍ شديدٍ متى ما تكاثفتْ في روحهِ المعاني العميقة ، متوقفاً عن الكتابةِ الآلية التي كلما ازدادت نقصَ فيها الشعرُ والشاعرُ ، وحين كتب (من أغاني القرية) ديوانه الوحيد لعله أراد أن يرقص فرحاً مع القرية لكنه كان يرثيها بلوعة ، داخلاً في نسيجها الفلكلوري واحتفالاتها الطقوسية الشعرية ، هاجساً بالمدينة والحفر فيها ، وقد ازهرت القرية عبر هذا الشعر اللغوي والحدثي بالحياة فكانت نخيلـُها وعصافيرُها وشطآنها تموتُ وهي تزهرُ شباباً ولوحات وقصائدَ وغضباً .
إنه الزارعُ البسيط الذي راحَ يرصدُ الكلمة بمتابعاتٍ طويلة ، يتعهدُ النبتات الغضة بالحنانِ ، والماءِ ، يخففُ من إبرية الأشواك ويضعُ وردة وتيجاناً ، يجلبُ الدفاترَ المنسية من مكتباتنا الحاشدة بكل ما هو غريب إلا من بحةِ الغواص البحريني الغارق بين الأسمنت والديون ، ليعلي من الثقافة الوطنية والإنسانية ، يضعُ هذه الكراسات للشعراء والقصاصين والنقادِ الشبابِ أمام الجمهور اليومي المشغول بالستائر والأحذية ، يبحثُ عن نجومٍ صغيرة فيها ، يشجعُ بحة النقد الخافتة ، وبذرة الأنتماءِ المتيبسةِ في تربةِ الأنا ، يترفقُ بلغةٍ غضة ، ينزعُ هذه الوريقات الصفراء الملتفة حول الذات ، يوجه التكالب على الشعر نحو الرواية وتحليل الحياة ، ويوجه الرواية نحو مزيد من الشعر والغوص .
في المتابعة الطويلة المتوترة للبذور الأدبية ، في الصحافة ، وفي أسرة الأدباء والكتاب ، توجه لكي تشق طرقها الخاصة ، وتفتحاتها الذاتية المميزة ، دون فرض قوالب ونصائح أبوية .
في كتاباته النثرية الأخرى التي لم تجمع كثيراً ما يؤكد محبته للينابيع ، والآبار ، وللكواكب المتألقة بالماء في قعر البحر ، وللشعراء المجهولين في خريطة البحرين في عصور العتمة . .
يوسف حسن مشروعٌ مستمر وسوف يكون القادم منه أجمل .
http://www.watanpressonline.com/archives/5709
عبـــــــدالله خلــــــــيفة:الشاعر البحريني الكبير يوسف حسن: نخلة عطشى في المدينة
Published on July 13, 2019 04:14
July 12, 2019
الشاعر البحريني الكبير يوسف حسن: نخلة عطشى في المدينة
يتماهي الشاعرُ والباحثُ يوسف حسن بشكلٍ مستمرٍ ودائبٍ في هذه الومضات المشعة والدراسات مع الشاعر السوري محمد الماغوط ، فهو يكررُ اسمَهُ مراراً ، فهناك موقفٌ مشتركٌ غائرٌ ساخنٌ بين الشاعرين الحزينين الثائرين ، ولدى الشاعر الريفي التائه في الشام يتمظهرُ ذلك بلغة الصراخ ولدى الشاعر البحريني يتجسد بلغة التأمل والهدوء .
يحللُ الأستاذ يوسف موقفَ الماغوط قائلاً :
(فدمشق التي وفد عليها الماغوط فاراً من حجرية الريف السوري وقراه النائمة الوادعة . . آملاً بأن المدينة الكبيرة ستفرشُ له سريرَها وتحتضنهُ بصدرِها الدافئ الفاره وأنه سيلقي في كنفِها تلكَ الحياة التي حلمُ بها وهو في أحضانِ الريف ذي الإيقاع المملِ البطيءِ لكنهُ لم يجدْ سوى التنكر واللامبالاة والغربة والتشرد والتسكع والأنزواء في المقاهي التي لا يكاد يحسُ به أو يعرفه أحد) ، ص 22، من القسم الثاني .
يوسف حسن هو هذا الفلاح المُقتلع من عالمه ، وجدَ نفسَهُ في المدينة ، وفي التجارة ، والثقافة ، فتاهَ كثيراً بين جوانبـِها وغاباتِها ، فالتجارة صارتْ سراباً ، والمدينة غدتْ فخاً ، حصلَ منها في آخر العمر على وظيفةٍ لسدِ الرمق ، فراحَ يشذبُ حقل اللغة العربية المزروع بالشوك والحصى في صحيفةٍ تعيشُ بين الأخطاءِ النحوية والمطبعية وبين التنوير الصعب .
تاهت كثيرٌ من قصائدهِ في الورق الأصفر لصحفِنا الذائبة في الأرشيف ، ولم يهتم كثيراً بإنتاج الدواوين بل صار هو قصيدة في غابتنا الحجرية المسماة مجتمعاً ، هو قصيدة من أجمل شعرنا البحريني ، نحتَ فيها الخيرَ والطيبة والبساطة والكلمة الجميلة .
فهو لا يكتب إلا بصدقٍ شديدٍ متى ما تكاثفتْ في روحهِ المعاني العميقة ، متوقفاً عن الكتابةِ الآلية التي كلما ازدادت نقصَ فيها الشعرُ والشاعرُ ، وحين كتب (من أغاني القرية) ديوانه الوحيد لعله أراد أن يرقص فرحاً مع القرية لكنه كان يرثيها بلوعة ، داخلاً في نسيجها الفلكلوري واحتفالاتها الطقوسية الشعرية ، هاجساً بالمدينة والحفر فيها ، وقد ازهرت القرية عبر هذا الشعر اللغوي والحدثي بالحياة فكانت نخيلـُها وعصافيرُها وشطآنها تموتُ وهي تزهرُ شباباً ولوحات وقصائدَ وغضباً .
إنه الزارعُ البسيط الذي راحَ يرصدُ الكلمة بمتابعاتٍ طويلة ، يتعهدُ النبتات الغضة بالحنانِ ، والماءِ ، يخففُ من إبرية الأشواك ويضعُ وردة وتيجاناً ، يجلبُ الدفاترَ المنسية من مكتباتنا الحاشدة بكل ما هو غريب إلا من بحةِ الغواص البحريني الغارق بين الأسمنت والديون ، ليعلي من الثقافة الوطنية والإنسانية ، يضعُ هذه الكراسات للشعراء والقصاصين والنقادِ الشبابِ أمام الجمهور اليومي المشغول بالستائر والأحذية ، يبحثُ عن نجومٍ صغيرة فيها ، يشجعُ بحة النقد الخافتة ، وبذرة الأنتماءِ المتيبسةِ في تربةِ الأنا ، يترفقُ بلغةٍ غضة ، ينزعُ هذه الوريقات الصفراء الملتفة حول الذات ، يوجه التكالب على الشعر نحو الرواية وتحليل الحياة ، ويوجه الرواية نحو مزيد من الشعر والغوص .
في المتابعة الطويلة المتوترة للبذور الأدبية ، في الصحافة ، وفي أسرة الأدباء والكتاب ، توجه لكي تشق طرقها الخاصة ، وتفتحاتها الذاتية المميزة ، دون فرض قوالب ونصائح أبوية .
في كتاباته النثرية الأخرى التي لم تجمع كثيراً ما يؤكد محبته للينابيع ، والآبار ، وللكواكب المتألقة بالماء في قعر البحر ، وللشعراء المجهولين في خريطة البحرين في عصور العتمة . .
يوسف حسن مشروعٌ مستمر وسوف يكون القادم منه أجمل .
ღ დ ღ
من الشعراء والباحثين والنقابيين الأدبيين المتميزين في البحرين، وقد واجه في كل حياته العملية والاجتماعية ضغوطاً كبيرة ومنافسات قاسية تجارية، وهو رجل مستقل، ولم يوفر له الوطن مع كل عطائه عملاً، أو مكانة أو تقاعداً مبكراً أو متأخراً، وتركه في عمره هذا يعاني الكثير..
فأن يتحول شاعر وباحث إلى مصحح لغوي لا يستفيد من كل عمره السابق وتجاربه، إلا في البحث عن لقمة العيش، فهو أمر مخجل للبلد وسمعته الحضارية، في حين هو يتيح فرصاً كثيرة وكبيرة لأناس لا يمتلكون أي موهبة سوى موهبة النفاق..
عرفت يوسف حسن حين كانت لديه قرطاسية، وقد ناضل طويلاً في هذه القرطاسية لكي يبقى في السوق، وأن يحصل على فرص فيه دون جدوى، في حين كانت الفرص تنهال على من لديه حظة حظوة.
وكان طوال عمله التجاري هذا لا ينسى همه الأساسي في القراءة والإطلاع؛ وقد واكب الحركة الفكرية والأدبية الحديثة منذ نشأتها، وظل خلال هذه السنوات الطويلة على اتصال روحي معها، ينتج بصمت ويشتغل في مكتبته، حتى برز في السنوات الأخيرة حين احتاجت الحركة الأدبية إلى العاملين فلم تجدهم إلا في نفر قليل، فكرس كثيراً من وقته من أجل بعث الحركة الأدبية عبر أسرة الأدباء والكتاب، واستطاع أن يلملم بعض شظاياها وأن يعيد لها بعض الحراك.
وقد دفعه انعدام الفرص في السنوات الأخيرة إلى أن يبحث عن أي فرصة عمل فسدت في وجهه الأبواب، ولم يجد سوى وظيفة مصحح لغوي في إحدى جرائدنا الوطنية هي أخر ما بقى له من وسيلة للبقاء!
ووظيفة المصحح اللغوي بالنسبة للشاعر هي وظيفة إعدام يومي، فبدلاً من أن يطور إبداعه، ويقرأ التحف الأدبية في الشعر والقصة والنقد، ويسمو بذوقه ويتواصل مع آخر الكتابات الجميلة، عليه أن يعاني مع كتابات الشباب الصحفيين الذين يدهسون قواعد اللغة والفصاحة والبيان، ومع تجاعيد ولفات الوكالات الثقيلة في أخبارها وتقاريرها المروعة عن الجثث والداء والحروب، وأن، يُطبخ بين الأوراق والبروفات والأخطاء النحوية والطباعية التي لا تنتهي، وأن يستمر هذا ثماني ساعات يومياً فيطحن هذا الرجل.
ولا يبقى حينئذٍ من الشاعر سوى رمق بسيط، وينتهي الباحث مغموماً مهدماً بين هياكل الكتابة الميتة.
نحن نقترح على وزارة الإعلام كما فعلت مع نفر من الأدباء والمثقفين أن تقوم بتفريغ الشاعر والباحث يوسف حسن، ليبقى بين أوراقه وكتبه، وأن يتفرغ لإنجاز قصائده وكتاباته.
ومن حق هؤلاء الذين اشتغلوا طوال سنوات في حقل الثقافة أن يتم الاهتمام بهم، خاصة لظروف معاناتهم الكبيرة، وسنهم التي لا تسمح لهم بمثل هذه الأعمال المرهقة.
أننا نرجو كذلك من الجمعيات الفكرية والسياسية الاهتمام بمثل هذه الحالات الإنسانية والنضالية، فليس من المعقول أن تناضل جمعياتنا من أجل الجمهور العادي وتدع المثقفين والمبدعين يذوبون ويحترقون في هذه الحياة القاسية وفي واقع الأنظمة التي لا تفرق بين الزهرة والحصاة، بين القصيدة والحديدة، وتعطي بلا حد للمزورين وتمنع الحقوق عن الصادقين، وهذا كواجب كفاحي وليس كعملً خيري إحسانيً، فنحن لا نطالب بصدقة بل بجهاد من أجل عدم إذلال الفكر والكتابة والثقافة.
http://www.watanpressonline.com/archi...
يحللُ الأستاذ يوسف موقفَ الماغوط قائلاً :
(فدمشق التي وفد عليها الماغوط فاراً من حجرية الريف السوري وقراه النائمة الوادعة . . آملاً بأن المدينة الكبيرة ستفرشُ له سريرَها وتحتضنهُ بصدرِها الدافئ الفاره وأنه سيلقي في كنفِها تلكَ الحياة التي حلمُ بها وهو في أحضانِ الريف ذي الإيقاع المملِ البطيءِ لكنهُ لم يجدْ سوى التنكر واللامبالاة والغربة والتشرد والتسكع والأنزواء في المقاهي التي لا يكاد يحسُ به أو يعرفه أحد) ، ص 22، من القسم الثاني .
يوسف حسن هو هذا الفلاح المُقتلع من عالمه ، وجدَ نفسَهُ في المدينة ، وفي التجارة ، والثقافة ، فتاهَ كثيراً بين جوانبـِها وغاباتِها ، فالتجارة صارتْ سراباً ، والمدينة غدتْ فخاً ، حصلَ منها في آخر العمر على وظيفةٍ لسدِ الرمق ، فراحَ يشذبُ حقل اللغة العربية المزروع بالشوك والحصى في صحيفةٍ تعيشُ بين الأخطاءِ النحوية والمطبعية وبين التنوير الصعب .
تاهت كثيرٌ من قصائدهِ في الورق الأصفر لصحفِنا الذائبة في الأرشيف ، ولم يهتم كثيراً بإنتاج الدواوين بل صار هو قصيدة في غابتنا الحجرية المسماة مجتمعاً ، هو قصيدة من أجمل شعرنا البحريني ، نحتَ فيها الخيرَ والطيبة والبساطة والكلمة الجميلة .
فهو لا يكتب إلا بصدقٍ شديدٍ متى ما تكاثفتْ في روحهِ المعاني العميقة ، متوقفاً عن الكتابةِ الآلية التي كلما ازدادت نقصَ فيها الشعرُ والشاعرُ ، وحين كتب (من أغاني القرية) ديوانه الوحيد لعله أراد أن يرقص فرحاً مع القرية لكنه كان يرثيها بلوعة ، داخلاً في نسيجها الفلكلوري واحتفالاتها الطقوسية الشعرية ، هاجساً بالمدينة والحفر فيها ، وقد ازهرت القرية عبر هذا الشعر اللغوي والحدثي بالحياة فكانت نخيلـُها وعصافيرُها وشطآنها تموتُ وهي تزهرُ شباباً ولوحات وقصائدَ وغضباً .
إنه الزارعُ البسيط الذي راحَ يرصدُ الكلمة بمتابعاتٍ طويلة ، يتعهدُ النبتات الغضة بالحنانِ ، والماءِ ، يخففُ من إبرية الأشواك ويضعُ وردة وتيجاناً ، يجلبُ الدفاترَ المنسية من مكتباتنا الحاشدة بكل ما هو غريب إلا من بحةِ الغواص البحريني الغارق بين الأسمنت والديون ، ليعلي من الثقافة الوطنية والإنسانية ، يضعُ هذه الكراسات للشعراء والقصاصين والنقادِ الشبابِ أمام الجمهور اليومي المشغول بالستائر والأحذية ، يبحثُ عن نجومٍ صغيرة فيها ، يشجعُ بحة النقد الخافتة ، وبذرة الأنتماءِ المتيبسةِ في تربةِ الأنا ، يترفقُ بلغةٍ غضة ، ينزعُ هذه الوريقات الصفراء الملتفة حول الذات ، يوجه التكالب على الشعر نحو الرواية وتحليل الحياة ، ويوجه الرواية نحو مزيد من الشعر والغوص .
في المتابعة الطويلة المتوترة للبذور الأدبية ، في الصحافة ، وفي أسرة الأدباء والكتاب ، توجه لكي تشق طرقها الخاصة ، وتفتحاتها الذاتية المميزة ، دون فرض قوالب ونصائح أبوية .
في كتاباته النثرية الأخرى التي لم تجمع كثيراً ما يؤكد محبته للينابيع ، والآبار ، وللكواكب المتألقة بالماء في قعر البحر ، وللشعراء المجهولين في خريطة البحرين في عصور العتمة . .
يوسف حسن مشروعٌ مستمر وسوف يكون القادم منه أجمل .
ღ დ ღ
من الشعراء والباحثين والنقابيين الأدبيين المتميزين في البحرين، وقد واجه في كل حياته العملية والاجتماعية ضغوطاً كبيرة ومنافسات قاسية تجارية، وهو رجل مستقل، ولم يوفر له الوطن مع كل عطائه عملاً، أو مكانة أو تقاعداً مبكراً أو متأخراً، وتركه في عمره هذا يعاني الكثير..
فأن يتحول شاعر وباحث إلى مصحح لغوي لا يستفيد من كل عمره السابق وتجاربه، إلا في البحث عن لقمة العيش، فهو أمر مخجل للبلد وسمعته الحضارية، في حين هو يتيح فرصاً كثيرة وكبيرة لأناس لا يمتلكون أي موهبة سوى موهبة النفاق..
عرفت يوسف حسن حين كانت لديه قرطاسية، وقد ناضل طويلاً في هذه القرطاسية لكي يبقى في السوق، وأن يحصل على فرص فيه دون جدوى، في حين كانت الفرص تنهال على من لديه حظة حظوة.
وكان طوال عمله التجاري هذا لا ينسى همه الأساسي في القراءة والإطلاع؛ وقد واكب الحركة الفكرية والأدبية الحديثة منذ نشأتها، وظل خلال هذه السنوات الطويلة على اتصال روحي معها، ينتج بصمت ويشتغل في مكتبته، حتى برز في السنوات الأخيرة حين احتاجت الحركة الأدبية إلى العاملين فلم تجدهم إلا في نفر قليل، فكرس كثيراً من وقته من أجل بعث الحركة الأدبية عبر أسرة الأدباء والكتاب، واستطاع أن يلملم بعض شظاياها وأن يعيد لها بعض الحراك.
وقد دفعه انعدام الفرص في السنوات الأخيرة إلى أن يبحث عن أي فرصة عمل فسدت في وجهه الأبواب، ولم يجد سوى وظيفة مصحح لغوي في إحدى جرائدنا الوطنية هي أخر ما بقى له من وسيلة للبقاء!
ووظيفة المصحح اللغوي بالنسبة للشاعر هي وظيفة إعدام يومي، فبدلاً من أن يطور إبداعه، ويقرأ التحف الأدبية في الشعر والقصة والنقد، ويسمو بذوقه ويتواصل مع آخر الكتابات الجميلة، عليه أن يعاني مع كتابات الشباب الصحفيين الذين يدهسون قواعد اللغة والفصاحة والبيان، ومع تجاعيد ولفات الوكالات الثقيلة في أخبارها وتقاريرها المروعة عن الجثث والداء والحروب، وأن، يُطبخ بين الأوراق والبروفات والأخطاء النحوية والطباعية التي لا تنتهي، وأن يستمر هذا ثماني ساعات يومياً فيطحن هذا الرجل.
ولا يبقى حينئذٍ من الشاعر سوى رمق بسيط، وينتهي الباحث مغموماً مهدماً بين هياكل الكتابة الميتة.
نحن نقترح على وزارة الإعلام كما فعلت مع نفر من الأدباء والمثقفين أن تقوم بتفريغ الشاعر والباحث يوسف حسن، ليبقى بين أوراقه وكتبه، وأن يتفرغ لإنجاز قصائده وكتاباته.
ومن حق هؤلاء الذين اشتغلوا طوال سنوات في حقل الثقافة أن يتم الاهتمام بهم، خاصة لظروف معاناتهم الكبيرة، وسنهم التي لا تسمح لهم بمثل هذه الأعمال المرهقة.
أننا نرجو كذلك من الجمعيات الفكرية والسياسية الاهتمام بمثل هذه الحالات الإنسانية والنضالية، فليس من المعقول أن تناضل جمعياتنا من أجل الجمهور العادي وتدع المثقفين والمبدعين يذوبون ويحترقون في هذه الحياة القاسية وفي واقع الأنظمة التي لا تفرق بين الزهرة والحصاة، بين القصيدة والحديدة، وتعطي بلا حد للمزورين وتمنع الحقوق عن الصادقين، وهذا كواجب كفاحي وليس كعملً خيري إحسانيً، فنحن لا نطالب بصدقة بل بجهاد من أجل عدم إذلال الفكر والكتابة والثقافة.
http://www.watanpressonline.com/archi...
Published on July 12, 2019 16:22
July 10, 2019
حكمٌ دستوري وإلهٌ عادلٌ
اتفقت الآراءُ الديمقراطية الحديثة في العالم على جعل منصب الحاكم شرفياً، غير متدخل في السياسة المباشرة، وذلك ابتداءً من النهضة الأوربية، وعلى جعل الحكومات تنبثقُ من البرلمانات الشعبية المنتخبة، بعد طول تحكم من الملوك والأباطرة والبابوات الذين كانوا رموزاً على الحكم المطلق الذي بدأ منذ فجر التاريخ وشمل الإنسانية كلها.
وقد أدى هذا إلى استقرار تدريجي وتطور كبير في أوربا الغربية وأمريكا اللتين شهدتا أكبر تقدم تحقق في التاريخ.
ومع هذا فإن المسيطرين على الحكم حاولوا العودة للحكم المطلق بأشكالٍ مختلفة، عبر المواد الاستثنائية في الدساتير وعبر إعلان حالات الطوارئ وغيرها من الجوانب التي تشكلُ ثغرات في الدساتير يستغلها الحكام لعودة الحكم المطلق.
ولا يمكن حدوث ذلك في الحكم ما لم يحدث شيء مشابه له في الدين، وهو صنو الحكم، وكان أداة سيطرته واستبداده، وذلك عبرَ نشوءِ فكرٍ ديني ديمقراطي ينتشر في أدوات السيطرة الدينية خاصة في المجمعات الدينية ومراكز القيادة، وفي القواعد الدينية وفي وعي الجمهور، بحيث تزول حكومات الحكم المطلق الدينية وهي التي ترافق حكومات الحكم المطلق السياسية وتدعمها في أحيان وتتصارع معها في أحيانٍ أخرى بقصد السيطرة الحكم وخلق نفس النظام الاستبدادي وهي تزعمُ أنها تحكم باسم السماء.
إن انتشار مفردات الديمقراطية السياسية هي غير انتشار مفردات الديمقراطية الدينية، ففي الأولى يتركز الأمر على نقل السلطات إلى البرلمانات وكتابة دساتير تضمن حقوق الشعب وواجباته وتشكيل سلطات ثلاث مستقلةالخ..
ورغم صعوبة تشكل الديمقراطية السياسية وحدوث ثورات واضطرابات طويلة حولها، إلا أنها أقل صعوبة من تسرب الديمقراطية إلى المؤسسات الدينية التي اعتبرت نفسها دوماً مقدسة لا تعرف معاني الديمقراطية البشرية الموضوعة من قبل الناس.
وهي تستند في حكمها على صورة معينة للإله، وهي صورة الإله المتدخل في كل شيء والمسيطر على كل شيء، وأن رجل الدين هو الحامي لهذه الصورة الأزلية.
ولكن صور الإله تتعدد ولم تعد هذه الصورة تتماشى والعصر الديمقراطي، فهناك صورة الإله الذي ترك للأشياء طرق حركتها ونموها، وللبشر حرياتهم وقوانين تطورهم وتطور مجتمعاتهم.
وهذه الصورة لائمت المجتمع الحديث حيث تم أكتشاف قوانين المواد والحركة في الأشياء وفي الطبيعة، وكذلك قوانين التطور في المجتمع وفي عقل الإنسان نفسه.
ولقد كانت هذه الصورة قديمة وقام الفيلسوف اليوناني أرسطو بتدوينها، فجعل للإله مكانة عليا، وجعل للطبيعة والمجتمع مكانة لها سببياتها وأحوالها، لكن مجتمعات أوربا الدينية في العصر الوسيط رفضتها، بينما تبناها بعض فلاسفة المسلمين كالفارابي وابن سينا وابن رشد، ثم رحلت هذه الصورة لأوربا في عصر النهضة وتبتنتها وجعلت الكنيسة تخرج من السيطرة الكلية على المجتمعات فينفتح عصرٌ جديد في التاريخ.
ونحن بحاجة في العصر الديمقراطي العربي إلى إعادة النظر في ثقافة التحكم الشمولية سواء في السياسة أم في الدين، وأن الحكم المطلق على المجتمع وعلى المؤمنين آن له أن ينقشع.
صراع الطوائف والطبقات في المشرق العربي وإيران
وقد أدى هذا إلى استقرار تدريجي وتطور كبير في أوربا الغربية وأمريكا اللتين شهدتا أكبر تقدم تحقق في التاريخ.
ومع هذا فإن المسيطرين على الحكم حاولوا العودة للحكم المطلق بأشكالٍ مختلفة، عبر المواد الاستثنائية في الدساتير وعبر إعلان حالات الطوارئ وغيرها من الجوانب التي تشكلُ ثغرات في الدساتير يستغلها الحكام لعودة الحكم المطلق.
ولا يمكن حدوث ذلك في الحكم ما لم يحدث شيء مشابه له في الدين، وهو صنو الحكم، وكان أداة سيطرته واستبداده، وذلك عبرَ نشوءِ فكرٍ ديني ديمقراطي ينتشر في أدوات السيطرة الدينية خاصة في المجمعات الدينية ومراكز القيادة، وفي القواعد الدينية وفي وعي الجمهور، بحيث تزول حكومات الحكم المطلق الدينية وهي التي ترافق حكومات الحكم المطلق السياسية وتدعمها في أحيان وتتصارع معها في أحيانٍ أخرى بقصد السيطرة الحكم وخلق نفس النظام الاستبدادي وهي تزعمُ أنها تحكم باسم السماء.
إن انتشار مفردات الديمقراطية السياسية هي غير انتشار مفردات الديمقراطية الدينية، ففي الأولى يتركز الأمر على نقل السلطات إلى البرلمانات وكتابة دساتير تضمن حقوق الشعب وواجباته وتشكيل سلطات ثلاث مستقلةالخ..
ورغم صعوبة تشكل الديمقراطية السياسية وحدوث ثورات واضطرابات طويلة حولها، إلا أنها أقل صعوبة من تسرب الديمقراطية إلى المؤسسات الدينية التي اعتبرت نفسها دوماً مقدسة لا تعرف معاني الديمقراطية البشرية الموضوعة من قبل الناس.
وهي تستند في حكمها على صورة معينة للإله، وهي صورة الإله المتدخل في كل شيء والمسيطر على كل شيء، وأن رجل الدين هو الحامي لهذه الصورة الأزلية.
ولكن صور الإله تتعدد ولم تعد هذه الصورة تتماشى والعصر الديمقراطي، فهناك صورة الإله الذي ترك للأشياء طرق حركتها ونموها، وللبشر حرياتهم وقوانين تطورهم وتطور مجتمعاتهم.
وهذه الصورة لائمت المجتمع الحديث حيث تم أكتشاف قوانين المواد والحركة في الأشياء وفي الطبيعة، وكذلك قوانين التطور في المجتمع وفي عقل الإنسان نفسه.
ولقد كانت هذه الصورة قديمة وقام الفيلسوف اليوناني أرسطو بتدوينها، فجعل للإله مكانة عليا، وجعل للطبيعة والمجتمع مكانة لها سببياتها وأحوالها، لكن مجتمعات أوربا الدينية في العصر الوسيط رفضتها، بينما تبناها بعض فلاسفة المسلمين كالفارابي وابن سينا وابن رشد، ثم رحلت هذه الصورة لأوربا في عصر النهضة وتبتنتها وجعلت الكنيسة تخرج من السيطرة الكلية على المجتمعات فينفتح عصرٌ جديد في التاريخ.
ونحن بحاجة في العصر الديمقراطي العربي إلى إعادة النظر في ثقافة التحكم الشمولية سواء في السياسة أم في الدين، وأن الحكم المطلق على المجتمع وعلى المؤمنين آن له أن ينقشع.
صراع الطوائف والطبقات في المشرق العربي وإيران
Published on July 10, 2019 07:26
•
Tags:
حكم-دستوري-وإله-عادل
July 8, 2019
المسالم والأناني
ثمة فرقٌ كبيرٌ بين رجل الدين البوذي ورجل الدين الإستغلالي المدعي بالإسلام، ذاك يعيشُ في غابةٍ أو عزلة، وهذا يعيشُ في العاصمة بين الحكام والعبيد والجواري!
هذا البوذي يكتفي بطبقِ أرزٍ صغيرٍ أو بمعوناتٍ محدودة من المؤمنين، وهذا يعيشُ في فيلا أو منزل كبير، بين الخدم والحشم!
ذاك البوذي عاش بين جمهوريات كبرى يدعو للحكمة والتخلي عن الأموال والجواري والضياع وعدم قتل الحيوانات والبعد عن السياسة، وهذا مؤيدٌ لسفكِ الدماء وللتدخلِ في كل ساعة في شؤون السياسة ويطمح أخيراً في جعل إتباعه حكاماً وسلاطين وقتلةً في الشوارع ومتدخلين في الضمائر وحفارين عن الإيمان والكفر!
وفي حين تركَ البوذي الديني السياسيين يشكلون نهضاتٍ كبرى هائلةً في الشرق، حققَ هذا المتاجرُ بالإسلام الكوارثَ والتمزقات لبلدان المسلمين وحروبَ العصابات وتخريب المدن وتضييع الميزانيات وحروب البلدان وحرق الإطارات في الشوراع لينشرَ السرطان والأوبئة بين المسلمين والسكان؟!
انظروا لحالِ الصين التي يعيشُ فيها مليار وثلاث مائة إنسان وحققتْ نهضةً كبرى وصناعات متقدمة، وتغزو الغرب ببضائع القماش والدمى والسيارات، وهذا الذي يغزو الغربَ بالطائرات التي تضربُ الأبراجَ الإقتصادية ويفخخُ نفسه ويقتلُ الأبرياءَ ويضعُ المتفجرات في المطارات والطائرات ويصنع القنابلَ الذرية لكي يدمرَ بلدان المسلمين ويسحب الدم الأخير من فقرائه!
جاء هؤلاء بجراثيهم ينشرونها في الجو ويبشرون المساكين بالحلول النهائية لمشكلات الفقر والبطالة والفساد والكفر وجنوح النساء للرذيلة ولمشكلات الرقص والغناء واللعب على السواحل وشرب البيرة والغناء وغياب الحجاب وكثرة الإختلاط وغير هذا من مشكلات يبتكرونها نظراً لرعبِهم من الحداثة وعجزهم عن التطور الإنساني، وخوفهم الأسطوري من النساء.
رجلُ الدين البوذي لا يخافُ من النساء ولا من الجوع ولا من البطالة ولا من الحكومات، ويمشي بسيطاً في شوراع المدن، ليرفعَ طبقَهُ من أجلِ كميةٍ بسيطةٍ من الأرز، وهو مستعدٌ أن يحرقَ نفسه إذا أعتدت الحكومات الأجنبية على شعبه المسالم، وهي تضحية رهيبة لا تصيب الآخرين بسؤ!
وهي أعمالٌ نادرةٌ قاسية رهيبة أتخذها الرهبانُ البوذيون في حربِ فيتنام وقنابل الأمريكان تنهمرُ على المدن! وأي إحتجاج كبير كان بالنفس؟!
أنظرْ إلى رجل الدين البوذي هذا لا يَصعقُ الناسَ بأصواتهِ الحادة المزعجة، ولا يستخدم الآلات للبطش بالبشر وفرض كلامه، ولا يتصور أن الناس سوف تنحرف عن الدين في كل لحظة ولا يضربهم بسوطه، في حين أنظرْ إلى هذا المتاجر بدينك العظيم السمح كيف حولهُ إلى زنزانةٍ يسجنُ فيها العبادَ والبلاد؟!
ذلك لا يتاجرُ بالدين فأزدهرتْ بلادهُ، وتعاظمتْ خيراتهُ، وتعملقتْ شعوبهُ، وهو لا يملكُ لا نفطاً ولا ذهباً، حررَ النساءَ والشبابَ من سلاسله، وشعوبهُ بمئات الملايين، وهذا لديهِ النفطُ والذهبُ وقلة من السكان في بلدان واسعة ملآى بالأنهار والغابات والبحار، ولكنه عاشَ في خرابٍ دائم، وحروب لا تتوقف، وكوارث كلما أنقضتْ قال هل من مزيد؟!
لا يفكر البوذي بمشكلاتٍ إنقضت عليها عشرة أعوام، لأنه حرر نفسه من التحكم في البشر وعلاقاتهم وجذورهم وتطورهم، ترك لهم الحرية فيما يفعلون، داعياً إلى التخفف من الأملاك وأكل اللحوم والزهد في الماديات، مشكلاً علامةً بشريةً مجسدة على التضحية، في حين أن الزاعم بالدين لدينا هو المتدخل الأكبر في حياة الشعوب، والمتوجه للغنائم والحكم والفاشل في تحقيق التطور، والذي يُعيّش الناسَ في الماضي وأحقادهِ وذكرياتهِ السيئة فارضاً عليهم رزنامة الماضي كل يوم بيومه ومفتتاً الصفوف وناثراً خرائط البلدان!
إنه يعجزُ عن تشكيل عالم سعيد مستقبلي، خال من تلك الذكريات والأيام السوداء والحمراء لأنه دكتاتور أناني يريد أن يلتهم الأملاك والغنائم البشرية!
صراع الطوائف والطبقات في المشرق العربي وإيران
هذا البوذي يكتفي بطبقِ أرزٍ صغيرٍ أو بمعوناتٍ محدودة من المؤمنين، وهذا يعيشُ في فيلا أو منزل كبير، بين الخدم والحشم!
ذاك البوذي عاش بين جمهوريات كبرى يدعو للحكمة والتخلي عن الأموال والجواري والضياع وعدم قتل الحيوانات والبعد عن السياسة، وهذا مؤيدٌ لسفكِ الدماء وللتدخلِ في كل ساعة في شؤون السياسة ويطمح أخيراً في جعل إتباعه حكاماً وسلاطين وقتلةً في الشوارع ومتدخلين في الضمائر وحفارين عن الإيمان والكفر!
وفي حين تركَ البوذي الديني السياسيين يشكلون نهضاتٍ كبرى هائلةً في الشرق، حققَ هذا المتاجرُ بالإسلام الكوارثَ والتمزقات لبلدان المسلمين وحروبَ العصابات وتخريب المدن وتضييع الميزانيات وحروب البلدان وحرق الإطارات في الشوراع لينشرَ السرطان والأوبئة بين المسلمين والسكان؟!
انظروا لحالِ الصين التي يعيشُ فيها مليار وثلاث مائة إنسان وحققتْ نهضةً كبرى وصناعات متقدمة، وتغزو الغرب ببضائع القماش والدمى والسيارات، وهذا الذي يغزو الغربَ بالطائرات التي تضربُ الأبراجَ الإقتصادية ويفخخُ نفسه ويقتلُ الأبرياءَ ويضعُ المتفجرات في المطارات والطائرات ويصنع القنابلَ الذرية لكي يدمرَ بلدان المسلمين ويسحب الدم الأخير من فقرائه!
جاء هؤلاء بجراثيهم ينشرونها في الجو ويبشرون المساكين بالحلول النهائية لمشكلات الفقر والبطالة والفساد والكفر وجنوح النساء للرذيلة ولمشكلات الرقص والغناء واللعب على السواحل وشرب البيرة والغناء وغياب الحجاب وكثرة الإختلاط وغير هذا من مشكلات يبتكرونها نظراً لرعبِهم من الحداثة وعجزهم عن التطور الإنساني، وخوفهم الأسطوري من النساء.
رجلُ الدين البوذي لا يخافُ من النساء ولا من الجوع ولا من البطالة ولا من الحكومات، ويمشي بسيطاً في شوراع المدن، ليرفعَ طبقَهُ من أجلِ كميةٍ بسيطةٍ من الأرز، وهو مستعدٌ أن يحرقَ نفسه إذا أعتدت الحكومات الأجنبية على شعبه المسالم، وهي تضحية رهيبة لا تصيب الآخرين بسؤ!
وهي أعمالٌ نادرةٌ قاسية رهيبة أتخذها الرهبانُ البوذيون في حربِ فيتنام وقنابل الأمريكان تنهمرُ على المدن! وأي إحتجاج كبير كان بالنفس؟!
أنظرْ إلى رجل الدين البوذي هذا لا يَصعقُ الناسَ بأصواتهِ الحادة المزعجة، ولا يستخدم الآلات للبطش بالبشر وفرض كلامه، ولا يتصور أن الناس سوف تنحرف عن الدين في كل لحظة ولا يضربهم بسوطه، في حين أنظرْ إلى هذا المتاجر بدينك العظيم السمح كيف حولهُ إلى زنزانةٍ يسجنُ فيها العبادَ والبلاد؟!
ذلك لا يتاجرُ بالدين فأزدهرتْ بلادهُ، وتعاظمتْ خيراتهُ، وتعملقتْ شعوبهُ، وهو لا يملكُ لا نفطاً ولا ذهباً، حررَ النساءَ والشبابَ من سلاسله، وشعوبهُ بمئات الملايين، وهذا لديهِ النفطُ والذهبُ وقلة من السكان في بلدان واسعة ملآى بالأنهار والغابات والبحار، ولكنه عاشَ في خرابٍ دائم، وحروب لا تتوقف، وكوارث كلما أنقضتْ قال هل من مزيد؟!
لا يفكر البوذي بمشكلاتٍ إنقضت عليها عشرة أعوام، لأنه حرر نفسه من التحكم في البشر وعلاقاتهم وجذورهم وتطورهم، ترك لهم الحرية فيما يفعلون، داعياً إلى التخفف من الأملاك وأكل اللحوم والزهد في الماديات، مشكلاً علامةً بشريةً مجسدة على التضحية، في حين أن الزاعم بالدين لدينا هو المتدخل الأكبر في حياة الشعوب، والمتوجه للغنائم والحكم والفاشل في تحقيق التطور، والذي يُعيّش الناسَ في الماضي وأحقادهِ وذكرياتهِ السيئة فارضاً عليهم رزنامة الماضي كل يوم بيومه ومفتتاً الصفوف وناثراً خرائط البلدان!
إنه يعجزُ عن تشكيل عالم سعيد مستقبلي، خال من تلك الذكريات والأيام السوداء والحمراء لأنه دكتاتور أناني يريد أن يلتهم الأملاك والغنائم البشرية!
صراع الطوائف والطبقات في المشرق العربي وإيران
Published on July 08, 2019 13:59
•
Tags:
المسالم-والأناني
July 7, 2019
التحليل والوعي
الكثيرون يريدون أن يكتبوا، والكثيرون يريدون أن يعبروا، وأن يدخلوا ضمن كتاب الأدب والفنون والمقالة، لكن المسألةَ ليستْ في الإنشاءِ والوجاهة الاجتماعية، بل في قدرةِ الوعي على رفدِ هذه الكتابة عبر السنين، وفي قدرةِ الوعي على تجديدِ نفسه وتعميقها بالقراءات الواسعة في الفلسفة والعلوم الاجتماعية والآداب والثقافات المختلفة.
وإذا لم يكن لهذا الوعي وجهة نظر عميقة تتكرس باستمرار عبر مواجهة المواد الحياتية وتحليلها وإكتشاف سببياتها فإنه يدخلُ عمليةَ التآكل، فهو لا يفهم أسباب الظاهرات ويمسك جوانب جزئية متحولة بإستمرار، فيغرق في منولوجاتٍ ذاتية تَشحبُ وتتضاءلُ يوماً بعد يوم.
إن الفكرةَ إذا لم تُقمْ بعلاقةٍ جدليةٍ ساخنةٍ مع الواقع تموت.
والواقعُ متعددُ المظاهر، سواءً كان في المذهب الديني أم في الإبداع القصصي أم في سياسة الدول أم في إدراك الكون.
إن كاتبَ القصة القصيرة لا يتوقفُ بشكلٍ عرضي بل لأن الفكرةَ في ذاتهِ ماتت، فهو يطرحُ أشياءَ وهميةً في قراءةِ الواقع، ويقومُ بتكرارِ هذا الوهم، ويجعلَ أبطالَهُ محصورين، وتصيرُ علاقاتُهم بالحياة ضئيلة، فهم لا يصارعون أشياءَ جوهرية فيه، وهو يُسقطُ عليهم حالاتِهِ الشخصيةَ الشاحبة بسببِ تضاؤل الفكرة الكبيرة في نفسه، فيجد إن القصةَ القصيرة تفلتُ من يده، ولكون نفسه المنسحبة من مواجهة الواقع غدتْ فارغةً من الأفكار الكبيرة.
لا تصلح الثرثرة والمنولوجات العاطلة عن التشريح في إضفاءِ الحياةِ على البشر الورقيين، وهو أمرٌ مرتبطٌ بالمواقفِ الكبيرة في رؤيةِ الحياة، وتحديد وجود روضات الأطفال وبيئات المصانع وعلاقات الزواج وعقوبات القانون، أي بمدى قدرة ذات المبدع على أن تكونَ شاشةً حساسةً للألم والحلم والغضب.
والأمرُ لا يختلف في الخطابات الدينية الناشفة يوماً بعد يوم، فهي لا تلتقطُ المسارات العميقة للشعوب، وتدافع عن جُملٍ مُتيبسةٍ منذ قرون، وتتمسكُ بالمُلكِ العضوضِ وبالسيرِ تحت عباءات السلطات المختلفة، في حين تريدُ الشعوبُ تجاوزَ الأنظمة الشرقية المحافظة البيروقراطية المتخلفة.
لكن كيف يمكن أن يقوم رجلُ الدين بذلك وهو قد حبسَ نفسه في غرفةٍ مظلمة، وإنقطعَ عن الفلسفات والعلوم الاجتماعية والطبيعية والأدب السياسي الهائل المتوفر حتى على الشاشاتِ الصغيرةِ في بيته؟!
إن الفقهَ يحتاجُ أولَ ما يحتاج لقطعِ علاقاتهِ الموقفية بالدول، لكي يكونَ حراً، ولكي يرى ما هي مسارات الناس الحقيقية التي هي مزيدٌ من الحريات ومن الرقابة على مصادر العيش المنفلتة من الإرادات الوطنية، ولكي لا تؤثر عليه عمليةُ الرزقِ في فهمهِ وقولهِ وفي إكتشافهِ لسببياتِ الظلم والفساد والحرية، لكنه لا يستطيع ذلك وقد إرتبطَ بعمقٍ بهذهِ القيود، ما لم تكن لقمتهُ عن طريقِ يده، وبدون ذلك يغدو خطابهُ جامداً، مقطوعاً عن ينابيعِ الألمِ الشعبية، ويصيرُ هو في منعزلهِ أو سجنه الجميل يكرر ذات الخطاب الأصفر المنسوخ من جهاز القهر عبر القرون!
فبدون أن يكونَ الوعيُّ مُحلِّللاً يتآكل، خاصةً في لوحاتِ فنانين يكررون ذات التجريدات الغامضة وينقلونها من بلدٍ إلى آخر وهم متضخمون عابرون على جثثِ الملايين المحروقة في الحروب، ومدن العذابات، والبحار الملوثة، والأزقة التي تفوح بالأوبئة.
إن التحليلات في أرض الحياة تفجر الوعي والمشاعر وتحركُ مسارات التغيير، لكن الدولَ لا تُحّلل، إن أجهزتها البيروقراطية تنمو حسب مشروعات لم تُعرض على الجمهور، بل جاءت لإرضاء أهل المصالح، وطُبقتْ على أرضِ الواقع بأشكالٍ مشوهة لم تُراقب، وتصيرُ الدول غائبةً عن التحليلات هنا، أي عن تلك التحليلات التي تجعل المسئولين ينزلون لأرضِ المشروعات الحقيقية، وتجعلُ الصحافةَ والعقول قادرةً على تحليلها حقاً، بالضد من شبكات المعلومات الزائفة ونتف الأخبار المشوهة وتزييف المنافقين وهيمنة الإعلانات، كما أن التحليلات تتوجه لربطِ أي مشروعٍ بخططٍ عامة للتغيير، أي بوجود أهداف محددة لتطوير العمالة المحلية وتصاعد الدخول الوطنية، وليس لإستنفاع الموظفين الكبار والعمالة الأجنبية وأجهزة المقاولات والشركات العابرة للقارات والرقابات.
إن التحليلَ يغيرُ الحزبَ المناضل الجامد كذلك، فالحزبُ لا يجب أن يموتَ في أكفان الماضي وبطولاته، والحزبُ الذي لا يعرفُ النقدَ الذاتي يفلتُ منه المصير، لأنه يخافُ من أخطائهِ وقصوره وتحنطه، فلا بد أن يكون قابلاً دوماً لتحليل الواقع الذي هو جزءٌ صغيرٌ منه، ورؤية كيفيات تطوراته التي تتغير جيلاً بعد جيل، فالواقع لا يكون هو قبل سنين، فلماذا وقف الحزب عند نسخة قديمة؟ وكيف لم يرتكب أخطاءً في فهم الواقع وإذا كانت فما هي وكيفية معالجتها؟
إن عجزَ الحزب المناضل أي حزب مناضل عن تحليلِ الواقع المتبدل، وسيرورته يشيرُ إلى تجمد العقول وعدم تلاقحها مع الفلسفات والعلوم، مثله مثل رجل الدين المحنط في أدبيات تجاوزها الزمان، مثل القاص الذي لم يعدْ يقرأُ الحياة، فلا يفهم الظاهرات الجديدة ولا يكتشف شيئاً منها.
إن ثمة فروقاً بين المعايشة الآلية للحياة وتحليلها النقدي، وذلك بقدرةِ الوعي على التقاطع مع الظاهرات الفاسدة؛ مع شرائهِ، مع تبلدِ مشاعرهِ وموتِ ضميره، مع لامبالاتهِ بالآلام العامة، من أجلِ عدم قدوم وتغلغل الملوثات إلى محارته المضيئة، حيث لن تصنعَ لآلئاً من ترابِ الحياة بل حشراتٍ سامةً تنخرُ روحَهُ وتعطلُ ملكات النقد والتطور الأخلاقي والتقدم الفكري لديه.
عبـــــــدالله خلــــــــيفة عرض ونقد عن أعماله
وإذا لم يكن لهذا الوعي وجهة نظر عميقة تتكرس باستمرار عبر مواجهة المواد الحياتية وتحليلها وإكتشاف سببياتها فإنه يدخلُ عمليةَ التآكل، فهو لا يفهم أسباب الظاهرات ويمسك جوانب جزئية متحولة بإستمرار، فيغرق في منولوجاتٍ ذاتية تَشحبُ وتتضاءلُ يوماً بعد يوم.
إن الفكرةَ إذا لم تُقمْ بعلاقةٍ جدليةٍ ساخنةٍ مع الواقع تموت.
والواقعُ متعددُ المظاهر، سواءً كان في المذهب الديني أم في الإبداع القصصي أم في سياسة الدول أم في إدراك الكون.
إن كاتبَ القصة القصيرة لا يتوقفُ بشكلٍ عرضي بل لأن الفكرةَ في ذاتهِ ماتت، فهو يطرحُ أشياءَ وهميةً في قراءةِ الواقع، ويقومُ بتكرارِ هذا الوهم، ويجعلَ أبطالَهُ محصورين، وتصيرُ علاقاتُهم بالحياة ضئيلة، فهم لا يصارعون أشياءَ جوهرية فيه، وهو يُسقطُ عليهم حالاتِهِ الشخصيةَ الشاحبة بسببِ تضاؤل الفكرة الكبيرة في نفسه، فيجد إن القصةَ القصيرة تفلتُ من يده، ولكون نفسه المنسحبة من مواجهة الواقع غدتْ فارغةً من الأفكار الكبيرة.
لا تصلح الثرثرة والمنولوجات العاطلة عن التشريح في إضفاءِ الحياةِ على البشر الورقيين، وهو أمرٌ مرتبطٌ بالمواقفِ الكبيرة في رؤيةِ الحياة، وتحديد وجود روضات الأطفال وبيئات المصانع وعلاقات الزواج وعقوبات القانون، أي بمدى قدرة ذات المبدع على أن تكونَ شاشةً حساسةً للألم والحلم والغضب.
والأمرُ لا يختلف في الخطابات الدينية الناشفة يوماً بعد يوم، فهي لا تلتقطُ المسارات العميقة للشعوب، وتدافع عن جُملٍ مُتيبسةٍ منذ قرون، وتتمسكُ بالمُلكِ العضوضِ وبالسيرِ تحت عباءات السلطات المختلفة، في حين تريدُ الشعوبُ تجاوزَ الأنظمة الشرقية المحافظة البيروقراطية المتخلفة.
لكن كيف يمكن أن يقوم رجلُ الدين بذلك وهو قد حبسَ نفسه في غرفةٍ مظلمة، وإنقطعَ عن الفلسفات والعلوم الاجتماعية والطبيعية والأدب السياسي الهائل المتوفر حتى على الشاشاتِ الصغيرةِ في بيته؟!
إن الفقهَ يحتاجُ أولَ ما يحتاج لقطعِ علاقاتهِ الموقفية بالدول، لكي يكونَ حراً، ولكي يرى ما هي مسارات الناس الحقيقية التي هي مزيدٌ من الحريات ومن الرقابة على مصادر العيش المنفلتة من الإرادات الوطنية، ولكي لا تؤثر عليه عمليةُ الرزقِ في فهمهِ وقولهِ وفي إكتشافهِ لسببياتِ الظلم والفساد والحرية، لكنه لا يستطيع ذلك وقد إرتبطَ بعمقٍ بهذهِ القيود، ما لم تكن لقمتهُ عن طريقِ يده، وبدون ذلك يغدو خطابهُ جامداً، مقطوعاً عن ينابيعِ الألمِ الشعبية، ويصيرُ هو في منعزلهِ أو سجنه الجميل يكرر ذات الخطاب الأصفر المنسوخ من جهاز القهر عبر القرون!
فبدون أن يكونَ الوعيُّ مُحلِّللاً يتآكل، خاصةً في لوحاتِ فنانين يكررون ذات التجريدات الغامضة وينقلونها من بلدٍ إلى آخر وهم متضخمون عابرون على جثثِ الملايين المحروقة في الحروب، ومدن العذابات، والبحار الملوثة، والأزقة التي تفوح بالأوبئة.
إن التحليلات في أرض الحياة تفجر الوعي والمشاعر وتحركُ مسارات التغيير، لكن الدولَ لا تُحّلل، إن أجهزتها البيروقراطية تنمو حسب مشروعات لم تُعرض على الجمهور، بل جاءت لإرضاء أهل المصالح، وطُبقتْ على أرضِ الواقع بأشكالٍ مشوهة لم تُراقب، وتصيرُ الدول غائبةً عن التحليلات هنا، أي عن تلك التحليلات التي تجعل المسئولين ينزلون لأرضِ المشروعات الحقيقية، وتجعلُ الصحافةَ والعقول قادرةً على تحليلها حقاً، بالضد من شبكات المعلومات الزائفة ونتف الأخبار المشوهة وتزييف المنافقين وهيمنة الإعلانات، كما أن التحليلات تتوجه لربطِ أي مشروعٍ بخططٍ عامة للتغيير، أي بوجود أهداف محددة لتطوير العمالة المحلية وتصاعد الدخول الوطنية، وليس لإستنفاع الموظفين الكبار والعمالة الأجنبية وأجهزة المقاولات والشركات العابرة للقارات والرقابات.
إن التحليلَ يغيرُ الحزبَ المناضل الجامد كذلك، فالحزبُ لا يجب أن يموتَ في أكفان الماضي وبطولاته، والحزبُ الذي لا يعرفُ النقدَ الذاتي يفلتُ منه المصير، لأنه يخافُ من أخطائهِ وقصوره وتحنطه، فلا بد أن يكون قابلاً دوماً لتحليل الواقع الذي هو جزءٌ صغيرٌ منه، ورؤية كيفيات تطوراته التي تتغير جيلاً بعد جيل، فالواقع لا يكون هو قبل سنين، فلماذا وقف الحزب عند نسخة قديمة؟ وكيف لم يرتكب أخطاءً في فهم الواقع وإذا كانت فما هي وكيفية معالجتها؟
إن عجزَ الحزب المناضل أي حزب مناضل عن تحليلِ الواقع المتبدل، وسيرورته يشيرُ إلى تجمد العقول وعدم تلاقحها مع الفلسفات والعلوم، مثله مثل رجل الدين المحنط في أدبيات تجاوزها الزمان، مثل القاص الذي لم يعدْ يقرأُ الحياة، فلا يفهم الظاهرات الجديدة ولا يكتشف شيئاً منها.
إن ثمة فروقاً بين المعايشة الآلية للحياة وتحليلها النقدي، وذلك بقدرةِ الوعي على التقاطع مع الظاهرات الفاسدة؛ مع شرائهِ، مع تبلدِ مشاعرهِ وموتِ ضميره، مع لامبالاتهِ بالآلام العامة، من أجلِ عدم قدوم وتغلغل الملوثات إلى محارته المضيئة، حيث لن تصنعَ لآلئاً من ترابِ الحياة بل حشراتٍ سامةً تنخرُ روحَهُ وتعطلُ ملكات النقد والتطور الأخلاقي والتقدم الفكري لديه.
عبـــــــدالله خلــــــــيفة عرض ونقد عن أعماله
Published on July 07, 2019 15:15
•
Tags:
التحليل-والوعي


