التحليل والوعي
الكثيرون يريدون أن يكتبوا، والكثيرون يريدون أن يعبروا، وأن يدخلوا ضمن كتاب الأدب والفنون والمقالة، لكن المسألةَ ليستْ في الإنشاءِ والوجاهة الاجتماعية، بل في قدرةِ الوعي على رفدِ هذه الكتابة عبر السنين، وفي قدرةِ الوعي على تجديدِ نفسه وتعميقها بالقراءات الواسعة في الفلسفة والعلوم الاجتماعية والآداب والثقافات المختلفة.
وإذا لم يكن لهذا الوعي وجهة نظر عميقة تتكرس باستمرار عبر مواجهة المواد الحياتية وتحليلها وإكتشاف سببياتها فإنه يدخلُ عمليةَ التآكل، فهو لا يفهم أسباب الظاهرات ويمسك جوانب جزئية متحولة بإستمرار، فيغرق في منولوجاتٍ ذاتية تَشحبُ وتتضاءلُ يوماً بعد يوم.
إن الفكرةَ إذا لم تُقمْ بعلاقةٍ جدليةٍ ساخنةٍ مع الواقع تموت.
والواقعُ متعددُ المظاهر، سواءً كان في المذهب الديني أم في الإبداع القصصي أم في سياسة الدول أم في إدراك الكون.
إن كاتبَ القصة القصيرة لا يتوقفُ بشكلٍ عرضي بل لأن الفكرةَ في ذاتهِ ماتت، فهو يطرحُ أشياءَ وهميةً في قراءةِ الواقع، ويقومُ بتكرارِ هذا الوهم، ويجعلَ أبطالَهُ محصورين، وتصيرُ علاقاتُهم بالحياة ضئيلة، فهم لا يصارعون أشياءَ جوهرية فيه، وهو يُسقطُ عليهم حالاتِهِ الشخصيةَ الشاحبة بسببِ تضاؤل الفكرة الكبيرة في نفسه، فيجد إن القصةَ القصيرة تفلتُ من يده، ولكون نفسه المنسحبة من مواجهة الواقع غدتْ فارغةً من الأفكار الكبيرة.
لا تصلح الثرثرة والمنولوجات العاطلة عن التشريح في إضفاءِ الحياةِ على البشر الورقيين، وهو أمرٌ مرتبطٌ بالمواقفِ الكبيرة في رؤيةِ الحياة، وتحديد وجود روضات الأطفال وبيئات المصانع وعلاقات الزواج وعقوبات القانون، أي بمدى قدرة ذات المبدع على أن تكونَ شاشةً حساسةً للألم والحلم والغضب.
والأمرُ لا يختلف في الخطابات الدينية الناشفة يوماً بعد يوم، فهي لا تلتقطُ المسارات العميقة للشعوب، وتدافع عن جُملٍ مُتيبسةٍ منذ قرون، وتتمسكُ بالمُلكِ العضوضِ وبالسيرِ تحت عباءات السلطات المختلفة، في حين تريدُ الشعوبُ تجاوزَ الأنظمة الشرقية المحافظة البيروقراطية المتخلفة.
لكن كيف يمكن أن يقوم رجلُ الدين بذلك وهو قد حبسَ نفسه في غرفةٍ مظلمة، وإنقطعَ عن الفلسفات والعلوم الاجتماعية والطبيعية والأدب السياسي الهائل المتوفر حتى على الشاشاتِ الصغيرةِ في بيته؟!
إن الفقهَ يحتاجُ أولَ ما يحتاج لقطعِ علاقاتهِ الموقفية بالدول، لكي يكونَ حراً، ولكي يرى ما هي مسارات الناس الحقيقية التي هي مزيدٌ من الحريات ومن الرقابة على مصادر العيش المنفلتة من الإرادات الوطنية، ولكي لا تؤثر عليه عمليةُ الرزقِ في فهمهِ وقولهِ وفي إكتشافهِ لسببياتِ الظلم والفساد والحرية، لكنه لا يستطيع ذلك وقد إرتبطَ بعمقٍ بهذهِ القيود، ما لم تكن لقمتهُ عن طريقِ يده، وبدون ذلك يغدو خطابهُ جامداً، مقطوعاً عن ينابيعِ الألمِ الشعبية، ويصيرُ هو في منعزلهِ أو سجنه الجميل يكرر ذات الخطاب الأصفر المنسوخ من جهاز القهر عبر القرون!
فبدون أن يكونَ الوعيُّ مُحلِّللاً يتآكل، خاصةً في لوحاتِ فنانين يكررون ذات التجريدات الغامضة وينقلونها من بلدٍ إلى آخر وهم متضخمون عابرون على جثثِ الملايين المحروقة في الحروب، ومدن العذابات، والبحار الملوثة، والأزقة التي تفوح بالأوبئة.
إن التحليلات في أرض الحياة تفجر الوعي والمشاعر وتحركُ مسارات التغيير، لكن الدولَ لا تُحّلل، إن أجهزتها البيروقراطية تنمو حسب مشروعات لم تُعرض على الجمهور، بل جاءت لإرضاء أهل المصالح، وطُبقتْ على أرضِ الواقع بأشكالٍ مشوهة لم تُراقب، وتصيرُ الدول غائبةً عن التحليلات هنا، أي عن تلك التحليلات التي تجعل المسئولين ينزلون لأرضِ المشروعات الحقيقية، وتجعلُ الصحافةَ والعقول قادرةً على تحليلها حقاً، بالضد من شبكات المعلومات الزائفة ونتف الأخبار المشوهة وتزييف المنافقين وهيمنة الإعلانات، كما أن التحليلات تتوجه لربطِ أي مشروعٍ بخططٍ عامة للتغيير، أي بوجود أهداف محددة لتطوير العمالة المحلية وتصاعد الدخول الوطنية، وليس لإستنفاع الموظفين الكبار والعمالة الأجنبية وأجهزة المقاولات والشركات العابرة للقارات والرقابات.
إن التحليلَ يغيرُ الحزبَ المناضل الجامد كذلك، فالحزبُ لا يجب أن يموتَ في أكفان الماضي وبطولاته، والحزبُ الذي لا يعرفُ النقدَ الذاتي يفلتُ منه المصير، لأنه يخافُ من أخطائهِ وقصوره وتحنطه، فلا بد أن يكون قابلاً دوماً لتحليل الواقع الذي هو جزءٌ صغيرٌ منه، ورؤية كيفيات تطوراته التي تتغير جيلاً بعد جيل، فالواقع لا يكون هو قبل سنين، فلماذا وقف الحزب عند نسخة قديمة؟ وكيف لم يرتكب أخطاءً في فهم الواقع وإذا كانت فما هي وكيفية معالجتها؟
إن عجزَ الحزب المناضل أي حزب مناضل عن تحليلِ الواقع المتبدل، وسيرورته يشيرُ إلى تجمد العقول وعدم تلاقحها مع الفلسفات والعلوم، مثله مثل رجل الدين المحنط في أدبيات تجاوزها الزمان، مثل القاص الذي لم يعدْ يقرأُ الحياة، فلا يفهم الظاهرات الجديدة ولا يكتشف شيئاً منها.
إن ثمة فروقاً بين المعايشة الآلية للحياة وتحليلها النقدي، وذلك بقدرةِ الوعي على التقاطع مع الظاهرات الفاسدة؛ مع شرائهِ، مع تبلدِ مشاعرهِ وموتِ ضميره، مع لامبالاتهِ بالآلام العامة، من أجلِ عدم قدوم وتغلغل الملوثات إلى محارته المضيئة، حيث لن تصنعَ لآلئاً من ترابِ الحياة بل حشراتٍ سامةً تنخرُ روحَهُ وتعطلُ ملكات النقد والتطور الأخلاقي والتقدم الفكري لديه.
عبـــــــدالله خلــــــــيفة عرض ونقد عن أعماله
وإذا لم يكن لهذا الوعي وجهة نظر عميقة تتكرس باستمرار عبر مواجهة المواد الحياتية وتحليلها وإكتشاف سببياتها فإنه يدخلُ عمليةَ التآكل، فهو لا يفهم أسباب الظاهرات ويمسك جوانب جزئية متحولة بإستمرار، فيغرق في منولوجاتٍ ذاتية تَشحبُ وتتضاءلُ يوماً بعد يوم.
إن الفكرةَ إذا لم تُقمْ بعلاقةٍ جدليةٍ ساخنةٍ مع الواقع تموت.
والواقعُ متعددُ المظاهر، سواءً كان في المذهب الديني أم في الإبداع القصصي أم في سياسة الدول أم في إدراك الكون.
إن كاتبَ القصة القصيرة لا يتوقفُ بشكلٍ عرضي بل لأن الفكرةَ في ذاتهِ ماتت، فهو يطرحُ أشياءَ وهميةً في قراءةِ الواقع، ويقومُ بتكرارِ هذا الوهم، ويجعلَ أبطالَهُ محصورين، وتصيرُ علاقاتُهم بالحياة ضئيلة، فهم لا يصارعون أشياءَ جوهرية فيه، وهو يُسقطُ عليهم حالاتِهِ الشخصيةَ الشاحبة بسببِ تضاؤل الفكرة الكبيرة في نفسه، فيجد إن القصةَ القصيرة تفلتُ من يده، ولكون نفسه المنسحبة من مواجهة الواقع غدتْ فارغةً من الأفكار الكبيرة.
لا تصلح الثرثرة والمنولوجات العاطلة عن التشريح في إضفاءِ الحياةِ على البشر الورقيين، وهو أمرٌ مرتبطٌ بالمواقفِ الكبيرة في رؤيةِ الحياة، وتحديد وجود روضات الأطفال وبيئات المصانع وعلاقات الزواج وعقوبات القانون، أي بمدى قدرة ذات المبدع على أن تكونَ شاشةً حساسةً للألم والحلم والغضب.
والأمرُ لا يختلف في الخطابات الدينية الناشفة يوماً بعد يوم، فهي لا تلتقطُ المسارات العميقة للشعوب، وتدافع عن جُملٍ مُتيبسةٍ منذ قرون، وتتمسكُ بالمُلكِ العضوضِ وبالسيرِ تحت عباءات السلطات المختلفة، في حين تريدُ الشعوبُ تجاوزَ الأنظمة الشرقية المحافظة البيروقراطية المتخلفة.
لكن كيف يمكن أن يقوم رجلُ الدين بذلك وهو قد حبسَ نفسه في غرفةٍ مظلمة، وإنقطعَ عن الفلسفات والعلوم الاجتماعية والطبيعية والأدب السياسي الهائل المتوفر حتى على الشاشاتِ الصغيرةِ في بيته؟!
إن الفقهَ يحتاجُ أولَ ما يحتاج لقطعِ علاقاتهِ الموقفية بالدول، لكي يكونَ حراً، ولكي يرى ما هي مسارات الناس الحقيقية التي هي مزيدٌ من الحريات ومن الرقابة على مصادر العيش المنفلتة من الإرادات الوطنية، ولكي لا تؤثر عليه عمليةُ الرزقِ في فهمهِ وقولهِ وفي إكتشافهِ لسببياتِ الظلم والفساد والحرية، لكنه لا يستطيع ذلك وقد إرتبطَ بعمقٍ بهذهِ القيود، ما لم تكن لقمتهُ عن طريقِ يده، وبدون ذلك يغدو خطابهُ جامداً، مقطوعاً عن ينابيعِ الألمِ الشعبية، ويصيرُ هو في منعزلهِ أو سجنه الجميل يكرر ذات الخطاب الأصفر المنسوخ من جهاز القهر عبر القرون!
فبدون أن يكونَ الوعيُّ مُحلِّللاً يتآكل، خاصةً في لوحاتِ فنانين يكررون ذات التجريدات الغامضة وينقلونها من بلدٍ إلى آخر وهم متضخمون عابرون على جثثِ الملايين المحروقة في الحروب، ومدن العذابات، والبحار الملوثة، والأزقة التي تفوح بالأوبئة.
إن التحليلات في أرض الحياة تفجر الوعي والمشاعر وتحركُ مسارات التغيير، لكن الدولَ لا تُحّلل، إن أجهزتها البيروقراطية تنمو حسب مشروعات لم تُعرض على الجمهور، بل جاءت لإرضاء أهل المصالح، وطُبقتْ على أرضِ الواقع بأشكالٍ مشوهة لم تُراقب، وتصيرُ الدول غائبةً عن التحليلات هنا، أي عن تلك التحليلات التي تجعل المسئولين ينزلون لأرضِ المشروعات الحقيقية، وتجعلُ الصحافةَ والعقول قادرةً على تحليلها حقاً، بالضد من شبكات المعلومات الزائفة ونتف الأخبار المشوهة وتزييف المنافقين وهيمنة الإعلانات، كما أن التحليلات تتوجه لربطِ أي مشروعٍ بخططٍ عامة للتغيير، أي بوجود أهداف محددة لتطوير العمالة المحلية وتصاعد الدخول الوطنية، وليس لإستنفاع الموظفين الكبار والعمالة الأجنبية وأجهزة المقاولات والشركات العابرة للقارات والرقابات.
إن التحليلَ يغيرُ الحزبَ المناضل الجامد كذلك، فالحزبُ لا يجب أن يموتَ في أكفان الماضي وبطولاته، والحزبُ الذي لا يعرفُ النقدَ الذاتي يفلتُ منه المصير، لأنه يخافُ من أخطائهِ وقصوره وتحنطه، فلا بد أن يكون قابلاً دوماً لتحليل الواقع الذي هو جزءٌ صغيرٌ منه، ورؤية كيفيات تطوراته التي تتغير جيلاً بعد جيل، فالواقع لا يكون هو قبل سنين، فلماذا وقف الحزب عند نسخة قديمة؟ وكيف لم يرتكب أخطاءً في فهم الواقع وإذا كانت فما هي وكيفية معالجتها؟
إن عجزَ الحزب المناضل أي حزب مناضل عن تحليلِ الواقع المتبدل، وسيرورته يشيرُ إلى تجمد العقول وعدم تلاقحها مع الفلسفات والعلوم، مثله مثل رجل الدين المحنط في أدبيات تجاوزها الزمان، مثل القاص الذي لم يعدْ يقرأُ الحياة، فلا يفهم الظاهرات الجديدة ولا يكتشف شيئاً منها.
إن ثمة فروقاً بين المعايشة الآلية للحياة وتحليلها النقدي، وذلك بقدرةِ الوعي على التقاطع مع الظاهرات الفاسدة؛ مع شرائهِ، مع تبلدِ مشاعرهِ وموتِ ضميره، مع لامبالاتهِ بالآلام العامة، من أجلِ عدم قدوم وتغلغل الملوثات إلى محارته المضيئة، حيث لن تصنعَ لآلئاً من ترابِ الحياة بل حشراتٍ سامةً تنخرُ روحَهُ وتعطلُ ملكات النقد والتطور الأخلاقي والتقدم الفكري لديه.
عبـــــــدالله خلــــــــيفة عرض ونقد عن أعماله
Published on July 07, 2019 15:15
•
Tags:
التحليل-والوعي
No comments have been added yet.


