عبـــــــدالله خلــــــــيفة:الشاعر البحريني الكبير يوسف حسن: نخلة عطشى في المدينة
[image error]
من الشعراء والباحثين والنقابيين الأدبيين المتميزين في البحرين، وقد واجه في كل حياته العملية والاجتماعية ضغوطاً كبيرة ومنافسات قاسية تجارية، وهو رجل مستقل، ولم يوفر له الوطن مع كل عطائه عملاً، أو مكانة أو تقاعداً مبكراً أو متأخراً، وتركه في عمره هذا يعاني الكثير..
فأن يتحول شاعر وباحث إلى مصحح لغوي لا يستفيد من كل عمره السابق وتجاربه، إلا في البحث عن لقمة العيش، فهو أمر مخجل للبلد وسمعته الحضارية، في حين هو يتيح فرصاً كثيرة وكبيرة لأناس لا يمتلكون أي موهبة سوى موهبة النفاق..
عرفت يوسف حسن حين كانت لديه قرطاسية، وقد ناضل طويلاً في هذه القرطاسية لكي يبقى في السوق، وأن يحصل على فرص فيه دون جدوى، في حين كانت الفرص تنهال على من لديه حظة حظوة.
وكان طوال عمله التجاري هذا لا ينسى همه الأساسي في القراءة والإطلاع؛ وقد واكب الحركة الفكرية والأدبية الحديثة منذ نشأتها، وظل خلال هذه السنوات الطويلة على اتصال روحي معها، ينتج بصمت ويشتغل في مكتبته، حتى برز في السنوات الأخيرة حين احتاجت الحركة الأدبية إلى العاملين فلم تجدهم إلا في نفر قليل، فكرس كثيراً من وقته من أجل بعث الحركة الأدبية عبر أسرة الأدباء والكتاب، واستطاع أن يلملم بعض شظاياها وأن يعيد لها بعض الحراك.
وقد دفعه انعدام الفرص في السنوات الأخيرة إلى أن يبحث عن أي فرصة عمل فسدت في وجهه الأبواب، ولم يجد سوى وظيفة مصحح لغوي في إحدى جرائدنا الوطنية هي أخر ما بقى له من وسيلة للبقاء!
ووظيفة المصحح اللغوي بالنسبة للشاعر هي وظيفة إعدام يومي، فبدلاً من أن يطور إبداعه، ويقرأ التحف الأدبية في الشعر والقصة والنقد، ويسمو بذوقه ويتواصل مع آخر الكتابات الجميلة، عليه أن يعاني مع كتابات الشباب الصحفيين الذين يدهسون قواعد اللغة والفصاحة والبيان، ومع تجاعيد ولفات الوكالات الثقيلة في أخبارها وتقاريرها المروعة عن الجثث والداء والحروب، وأن، يُطبخ بين الأوراق والبروفات والأخطاء النحوية والطباعية التي لا تنتهي، وأن يستمر هذا ثماني ساعات يومياً فيطحن هذا الرجل.
ولا يبقى حينئذٍ من الشاعر سوى رمق بسيط، وينتهي الباحث مغموماً مهدماً بين هياكل الكتابة الميتة.
نحن نقترح على وزارة الإعلام كما فعلت مع نفر من الأدباء والمثقفين أن تقوم بتفريغ الشاعر والباحث يوسف حسن، ليبقى بين أوراقه وكتبه، وأن يتفرغ لإنجاز قصائده وكتاباته.
ومن حق هؤلاء الذين اشتغلوا طوال سنوات في حقل الثقافة أن يتم الاهتمام بهم، خاصة لظروف معاناتهم الكبيرة، وسنهم التي لا تسمح لهم بمثل هذه الأعمال المرهقة.
أننا نرجو كذلك من الجمعيات الفكرية والسياسية الاهتمام بمثل هذه الحالات الإنسانية والنضالية، فليس من المعقول أن تناضل جمعياتنا من أجل الجمهور العادي وتدع المثقفين والمبدعين يذوبون ويحترقون في هذه الحياة القاسية وفي واقع الأنظمة التي لا تفرق بين الزهرة والحصاة، بين القصيدة والحديدة، وتعطي بلا حد للمزورين وتمنع الحقوق عن الصادقين، وهذا كواجب كفاحي وليس كعملً خيري إحسانيً، فنحن لا نطالب بصدقة بل بجهاد من أجل عدم إذلال الفكر والكتابة والثقافة.
ღდღ
يتماهي الشاعرُ والباحثُ يوسف حسن بشكلٍ مستمرٍ ودائبٍ في هذه الومضات المشعة والدراسات مع الشاعر السوري محمد الماغوط ، فهو يكررُ اسمَهُ مراراً ، فهناك موقفٌ مشتركٌ غائرٌ ساخنٌ بين الشاعرين الحزينين الثائرين ، ولدى الشاعر الريفي التائه في الشام يتمظهرُ ذلك بلغة الصراخ ولدى الشاعر البحريني يتجسد بلغة التأمل والهدوء .
يحللُ الأستاذ يوسف موقفَ الماغوط قائلاً :
(فدمشق التي وفد عليها الماغوط فاراً من حجرية الريف السوري وقراه النائمة الوادعة . . آملاً بأن المدينة الكبيرة ستفرشُ له سريرَها وتحتضنهُ بصدرِها الدافئ الفاره وأنه سيلقي في كنفِها تلكَ الحياة التي حلمُ بها وهو في أحضانِ الريف ذي الإيقاع المملِ البطيءِ لكنهُ لم يجدْ سوى التنكر واللامبالاة والغربة والتشرد والتسكع والأنزواء في المقاهي التي لا يكاد يحسُ به أو يعرفه أحد) ، ص 22، من القسم الثاني .
يوسف حسن هو هذا الفلاح المُقتلع من عالمه ، وجدَ نفسَهُ في المدينة ، وفي التجارة ، والثقافة ، فتاهَ كثيراً بين جوانبـِها وغاباتِها ، فالتجارة صارتْ سراباً ، والمدينة غدتْ فخاً ، حصلَ منها في آخر العمر على وظيفةٍ لسدِ الرمق ، فراحَ يشذبُ حقل اللغة العربية المزروع بالشوك والحصى في صحيفةٍ تعيشُ بين الأخطاءِ النحوية والمطبعية وبين التنوير الصعب .
تاهت كثيرٌ من قصائدهِ في الورق الأصفر لصحفِنا الذائبة في الأرشيف ، ولم يهتم كثيراً بإنتاج الدواوين بل صار هو قصيدة في غابتنا الحجرية المسماة مجتمعاً ، هو قصيدة من أجمل شعرنا البحريني ، نحتَ فيها الخيرَ والطيبة والبساطة والكلمة الجميلة .
فهو لا يكتب إلا بصدقٍ شديدٍ متى ما تكاثفتْ في روحهِ المعاني العميقة ، متوقفاً عن الكتابةِ الآلية التي كلما ازدادت نقصَ فيها الشعرُ والشاعرُ ، وحين كتب (من أغاني القرية) ديوانه الوحيد لعله أراد أن يرقص فرحاً مع القرية لكنه كان يرثيها بلوعة ، داخلاً في نسيجها الفلكلوري واحتفالاتها الطقوسية الشعرية ، هاجساً بالمدينة والحفر فيها ، وقد ازهرت القرية عبر هذا الشعر اللغوي والحدثي بالحياة فكانت نخيلـُها وعصافيرُها وشطآنها تموتُ وهي تزهرُ شباباً ولوحات وقصائدَ وغضباً .
إنه الزارعُ البسيط الذي راحَ يرصدُ الكلمة بمتابعاتٍ طويلة ، يتعهدُ النبتات الغضة بالحنانِ ، والماءِ ، يخففُ من إبرية الأشواك ويضعُ وردة وتيجاناً ، يجلبُ الدفاترَ المنسية من مكتباتنا الحاشدة بكل ما هو غريب إلا من بحةِ الغواص البحريني الغارق بين الأسمنت والديون ، ليعلي من الثقافة الوطنية والإنسانية ، يضعُ هذه الكراسات للشعراء والقصاصين والنقادِ الشبابِ أمام الجمهور اليومي المشغول بالستائر والأحذية ، يبحثُ عن نجومٍ صغيرة فيها ، يشجعُ بحة النقد الخافتة ، وبذرة الأنتماءِ المتيبسةِ في تربةِ الأنا ، يترفقُ بلغةٍ غضة ، ينزعُ هذه الوريقات الصفراء الملتفة حول الذات ، يوجه التكالب على الشعر نحو الرواية وتحليل الحياة ، ويوجه الرواية نحو مزيد من الشعر والغوص .
في المتابعة الطويلة المتوترة للبذور الأدبية ، في الصحافة ، وفي أسرة الأدباء والكتاب ، توجه لكي تشق طرقها الخاصة ، وتفتحاتها الذاتية المميزة ، دون فرض قوالب ونصائح أبوية .
في كتاباته النثرية الأخرى التي لم تجمع كثيراً ما يؤكد محبته للينابيع ، والآبار ، وللكواكب المتألقة بالماء في قعر البحر ، وللشعراء المجهولين في خريطة البحرين في عصور العتمة . .
يوسف حسن مشروعٌ مستمر وسوف يكون القادم منه أجمل .
http://www.watanpressonline.com/archives/5709
عبـــــــدالله خلــــــــيفة:الشاعر البحريني الكبير يوسف حسن: نخلة عطشى في المدينة
من الشعراء والباحثين والنقابيين الأدبيين المتميزين في البحرين، وقد واجه في كل حياته العملية والاجتماعية ضغوطاً كبيرة ومنافسات قاسية تجارية، وهو رجل مستقل، ولم يوفر له الوطن مع كل عطائه عملاً، أو مكانة أو تقاعداً مبكراً أو متأخراً، وتركه في عمره هذا يعاني الكثير..
فأن يتحول شاعر وباحث إلى مصحح لغوي لا يستفيد من كل عمره السابق وتجاربه، إلا في البحث عن لقمة العيش، فهو أمر مخجل للبلد وسمعته الحضارية، في حين هو يتيح فرصاً كثيرة وكبيرة لأناس لا يمتلكون أي موهبة سوى موهبة النفاق..
عرفت يوسف حسن حين كانت لديه قرطاسية، وقد ناضل طويلاً في هذه القرطاسية لكي يبقى في السوق، وأن يحصل على فرص فيه دون جدوى، في حين كانت الفرص تنهال على من لديه حظة حظوة.
وكان طوال عمله التجاري هذا لا ينسى همه الأساسي في القراءة والإطلاع؛ وقد واكب الحركة الفكرية والأدبية الحديثة منذ نشأتها، وظل خلال هذه السنوات الطويلة على اتصال روحي معها، ينتج بصمت ويشتغل في مكتبته، حتى برز في السنوات الأخيرة حين احتاجت الحركة الأدبية إلى العاملين فلم تجدهم إلا في نفر قليل، فكرس كثيراً من وقته من أجل بعث الحركة الأدبية عبر أسرة الأدباء والكتاب، واستطاع أن يلملم بعض شظاياها وأن يعيد لها بعض الحراك.
وقد دفعه انعدام الفرص في السنوات الأخيرة إلى أن يبحث عن أي فرصة عمل فسدت في وجهه الأبواب، ولم يجد سوى وظيفة مصحح لغوي في إحدى جرائدنا الوطنية هي أخر ما بقى له من وسيلة للبقاء!
ووظيفة المصحح اللغوي بالنسبة للشاعر هي وظيفة إعدام يومي، فبدلاً من أن يطور إبداعه، ويقرأ التحف الأدبية في الشعر والقصة والنقد، ويسمو بذوقه ويتواصل مع آخر الكتابات الجميلة، عليه أن يعاني مع كتابات الشباب الصحفيين الذين يدهسون قواعد اللغة والفصاحة والبيان، ومع تجاعيد ولفات الوكالات الثقيلة في أخبارها وتقاريرها المروعة عن الجثث والداء والحروب، وأن، يُطبخ بين الأوراق والبروفات والأخطاء النحوية والطباعية التي لا تنتهي، وأن يستمر هذا ثماني ساعات يومياً فيطحن هذا الرجل.
ولا يبقى حينئذٍ من الشاعر سوى رمق بسيط، وينتهي الباحث مغموماً مهدماً بين هياكل الكتابة الميتة.
نحن نقترح على وزارة الإعلام كما فعلت مع نفر من الأدباء والمثقفين أن تقوم بتفريغ الشاعر والباحث يوسف حسن، ليبقى بين أوراقه وكتبه، وأن يتفرغ لإنجاز قصائده وكتاباته.
ومن حق هؤلاء الذين اشتغلوا طوال سنوات في حقل الثقافة أن يتم الاهتمام بهم، خاصة لظروف معاناتهم الكبيرة، وسنهم التي لا تسمح لهم بمثل هذه الأعمال المرهقة.
أننا نرجو كذلك من الجمعيات الفكرية والسياسية الاهتمام بمثل هذه الحالات الإنسانية والنضالية، فليس من المعقول أن تناضل جمعياتنا من أجل الجمهور العادي وتدع المثقفين والمبدعين يذوبون ويحترقون في هذه الحياة القاسية وفي واقع الأنظمة التي لا تفرق بين الزهرة والحصاة، بين القصيدة والحديدة، وتعطي بلا حد للمزورين وتمنع الحقوق عن الصادقين، وهذا كواجب كفاحي وليس كعملً خيري إحسانيً، فنحن لا نطالب بصدقة بل بجهاد من أجل عدم إذلال الفكر والكتابة والثقافة.
ღდღ
يتماهي الشاعرُ والباحثُ يوسف حسن بشكلٍ مستمرٍ ودائبٍ في هذه الومضات المشعة والدراسات مع الشاعر السوري محمد الماغوط ، فهو يكررُ اسمَهُ مراراً ، فهناك موقفٌ مشتركٌ غائرٌ ساخنٌ بين الشاعرين الحزينين الثائرين ، ولدى الشاعر الريفي التائه في الشام يتمظهرُ ذلك بلغة الصراخ ولدى الشاعر البحريني يتجسد بلغة التأمل والهدوء .
يحللُ الأستاذ يوسف موقفَ الماغوط قائلاً :
(فدمشق التي وفد عليها الماغوط فاراً من حجرية الريف السوري وقراه النائمة الوادعة . . آملاً بأن المدينة الكبيرة ستفرشُ له سريرَها وتحتضنهُ بصدرِها الدافئ الفاره وأنه سيلقي في كنفِها تلكَ الحياة التي حلمُ بها وهو في أحضانِ الريف ذي الإيقاع المملِ البطيءِ لكنهُ لم يجدْ سوى التنكر واللامبالاة والغربة والتشرد والتسكع والأنزواء في المقاهي التي لا يكاد يحسُ به أو يعرفه أحد) ، ص 22، من القسم الثاني .
يوسف حسن هو هذا الفلاح المُقتلع من عالمه ، وجدَ نفسَهُ في المدينة ، وفي التجارة ، والثقافة ، فتاهَ كثيراً بين جوانبـِها وغاباتِها ، فالتجارة صارتْ سراباً ، والمدينة غدتْ فخاً ، حصلَ منها في آخر العمر على وظيفةٍ لسدِ الرمق ، فراحَ يشذبُ حقل اللغة العربية المزروع بالشوك والحصى في صحيفةٍ تعيشُ بين الأخطاءِ النحوية والمطبعية وبين التنوير الصعب .
تاهت كثيرٌ من قصائدهِ في الورق الأصفر لصحفِنا الذائبة في الأرشيف ، ولم يهتم كثيراً بإنتاج الدواوين بل صار هو قصيدة في غابتنا الحجرية المسماة مجتمعاً ، هو قصيدة من أجمل شعرنا البحريني ، نحتَ فيها الخيرَ والطيبة والبساطة والكلمة الجميلة .
فهو لا يكتب إلا بصدقٍ شديدٍ متى ما تكاثفتْ في روحهِ المعاني العميقة ، متوقفاً عن الكتابةِ الآلية التي كلما ازدادت نقصَ فيها الشعرُ والشاعرُ ، وحين كتب (من أغاني القرية) ديوانه الوحيد لعله أراد أن يرقص فرحاً مع القرية لكنه كان يرثيها بلوعة ، داخلاً في نسيجها الفلكلوري واحتفالاتها الطقوسية الشعرية ، هاجساً بالمدينة والحفر فيها ، وقد ازهرت القرية عبر هذا الشعر اللغوي والحدثي بالحياة فكانت نخيلـُها وعصافيرُها وشطآنها تموتُ وهي تزهرُ شباباً ولوحات وقصائدَ وغضباً .
إنه الزارعُ البسيط الذي راحَ يرصدُ الكلمة بمتابعاتٍ طويلة ، يتعهدُ النبتات الغضة بالحنانِ ، والماءِ ، يخففُ من إبرية الأشواك ويضعُ وردة وتيجاناً ، يجلبُ الدفاترَ المنسية من مكتباتنا الحاشدة بكل ما هو غريب إلا من بحةِ الغواص البحريني الغارق بين الأسمنت والديون ، ليعلي من الثقافة الوطنية والإنسانية ، يضعُ هذه الكراسات للشعراء والقصاصين والنقادِ الشبابِ أمام الجمهور اليومي المشغول بالستائر والأحذية ، يبحثُ عن نجومٍ صغيرة فيها ، يشجعُ بحة النقد الخافتة ، وبذرة الأنتماءِ المتيبسةِ في تربةِ الأنا ، يترفقُ بلغةٍ غضة ، ينزعُ هذه الوريقات الصفراء الملتفة حول الذات ، يوجه التكالب على الشعر نحو الرواية وتحليل الحياة ، ويوجه الرواية نحو مزيد من الشعر والغوص .
في المتابعة الطويلة المتوترة للبذور الأدبية ، في الصحافة ، وفي أسرة الأدباء والكتاب ، توجه لكي تشق طرقها الخاصة ، وتفتحاتها الذاتية المميزة ، دون فرض قوالب ونصائح أبوية .
في كتاباته النثرية الأخرى التي لم تجمع كثيراً ما يؤكد محبته للينابيع ، والآبار ، وللكواكب المتألقة بالماء في قعر البحر ، وللشعراء المجهولين في خريطة البحرين في عصور العتمة . .
يوسف حسن مشروعٌ مستمر وسوف يكون القادم منه أجمل .
http://www.watanpressonline.com/archives/5709
عبـــــــدالله خلــــــــيفة:الشاعر البحريني الكبير يوسف حسن: نخلة عطشى في المدينة
Published on July 13, 2019 04:14
No comments have been added yet.


