1⇦ عبدالله الزائد
الخطاب السياسي عند عبدالله الزائد
【ظهوره وجذوره وتحولاته】
يعتبر عبدالله الزائد من العلامات الفكرية البارزة في تاريخ البحرين خلال النصف الأول من القرن العشرين ، حيث عاش بين سنتي (1899 ــ 1945) ، وقد استطاع أن يُعبر عن هذه المرحلة بشكل نموذجي وبارز ، وانعكست على حياته وأفكاره تحولاتها وصدماتها ، بشكلٍ ساطع ، وقد حاول أن يؤثر تأثيراً بارزاً في أحداثها السياسية والفكرية ، فإذا كان هو ابن مرحلة بداية القرن ، فإنه قد صدم بتحولات العشرينيات السياسية الحادة ، وبتحولات الثلاثينيات الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة ، التي انعطفت بالنظام الاجتماعي المحلي ، وقد حاول هو أن يكافح هذه الانعطافة الاقتحامية الأجنبية ، إلا أن مجريات التطور الموضوعي والذاتي ، فاقت قدراته الفردية بطبيعة الحال ، فقام بإجراء تغيير انقلابي في خطابه السياسي والفكري في الثلاثينيات وأواخرها تحديداً .
إنا لا بد أن نضع خطابه في مجريات التطور ، منقبين عن أبعاد اجتماعية وإيديولوجية جديدة هي التي كونت وحولت الخطاب .
إننا نرى الشخصية ــ وهي الزائد هنا ــ باعتبارها جزءاً من نسيج اجتماعي وإيديولوجي متحول ، ووضعها في هذا النسيج يكشف طبيعة هذا الوعي وتحولاته التي لم ترصد بهذا الشكل ، ويحدد مفاهيمه وقدراته المعرفية ، وإمكانياته في تحويل هذا الواقع كذلك .
فعبدالله الزائد كان مناضلاً ، ومتوجهاً لتغيير الحياة من منطلقاته الخاصة ، وبحدود وعيه في الفترات المختلفة ، الذي هو أيضاً ثمرة لمستوى كفاح طبقته وشعبه .
【بين بنيتين】
وقعت حياة عبدالله بن علي بن جبر الزائد القصيرة الحافلة ، في لحظةِ تغير بنيوية اقتصادية ــ سياسية ــ ثقافية واسعة ، حيث كان نمط الإنتاج والحكم والوعي ينتقل من بنية إلى أخرى ، وقد وجد الزائد نفسه في حضن البنية الاجتماعية القديمة مدافعاً عنها ، وعن امتيازاتها وعالمها السياسي ، في حين كانت هي تتجه إلى الهزيمة والأفول ، ثم وجد نفسه مكافحاً من أجل تصعيد ونمو البنية الجديدة بحيث تغدو حديثة ديمقراطية دون أن يتحقق ذلك .
ولا بد من التغلغل في اللوحة القديمة أولاً وبشكل موسع ومتعدد المستويات ، لكي نضع الشخصية في نسيجها العام .
لقد كانت بُنية مجتمع الغوص في عز ازدهارها لحظة مولده وشبابه ، ففي سنة 1900 بلغ قيمة المصدر من اللؤلؤ 000 ، 500 جنيهاً استرلينياً ، ووصل بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى إلى 323 ، 701 ، وفي نهاية عقد العشرينيات كان الخط التنازلي لتصدير اللؤلؤ (1).
كانت علاقات البنية الاجتماعية المشكلة لإنتاج الغوص والزراعة ، تعتمدُ على سيطرة كبار الملاك والطواشين والنواخذة لنتاج الغوص والزراعة ، وإبقاء العاملين والنساء في حالة استغلال عتيقة ، تسودها السخرةُ والديون وبقايا الأشكال العبودية، والأمية، وتخلف المرأة ، وفقدان التعليم والحقوق.
هذه الشبكةُ العتيقةُ من العلاقات الإنتاجية والفكرية ، وجد الشاب عبدالله الزائد نفسه ، مدافعاً عن استمرارها واستقلالها ، في مواجهة طوفان انجليزي ورأسمالي توغلي واسع النطاق .
ولكن مهما كانت هذه الشبكة متخلفة وارستقراطية ، فهي الإنتاج الوطني بكل مؤسساته الاقتصادية المستقلة ، من غوص بحري مزدهر ، ذي فائض مالي كبير ، إلى أراضٍ زراعيةٍ خصبة ، وإلى سلسلةٍ من الحرف والصناعات اليدوية المكملة لذلك الإنتاج ، وإلى تجارةٍ خارجية مغذية لإنتاج واستهلاك هذه الشبكة ، وكذلك وجود مستوى ثقافي وطني بتوجهه الإسلامي ــ الثنائي الطائفة ، وفلكلوره وتراثه الشعبي ، وفوق هذا كله سلطة بحرينية تمثل هذا الاستقلال .
إن السيطرة الاستعمارية الأجنبية كانت تتجه إلى تدمير كل هذه البنية القديمة ، وقد دمرت جزءاً كبيراً منها ، وراحت تحل بنية اقتصادية ــ ثقافية ــ سياسية جديدة ، من أشكال تجلياتها البنك الانجليزي وشركة التلغراف والبوارج الحربية وتدمير الأسطول البحريني وقطه شرايين السياسة الخارجية ، والبوليس الهندي والمحاكم الجديدة والقوانين الجديدة ، تتويجاً على هذا كله بوضع مسئول بريطاني مطلق التصرف .
وظهرت التجلياتُ الثقافيةُ لهذه السيطرة ، بتواجد جمعيات التبشير المسيحية ، وبإعطاء الأراضي لبناء الكنائس ، وجلب الصحافة المؤيدة للانجليز ، والسيطرة على التعليم الأهلي الخ. .
وكان على البنية الاجتماعية الوطنية القديمة أن تدافع عن وجودها على مختلف المستويات السياسية والفكرية والاقتصادية .
وقد نشأ عبدالله الزائد في حضن هذه البنية السابقة الآفلة ، فأساتذته وأصدقاؤه هم أركان هذه البنية ، أمثال الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة ، وعبدالوهاب حجي الزياني والشيخ محمد بن عيسى آل خليفة .
وكانت (المحرق) هي عاصمة الغوص ، والعاصمة السياسية والإيديولوجية لهذا العالم الاجتماعي الوطني الغارب ، ومن هنا عملت هذه الطبقة على خلق أشكال المقاومة المتعددة لمنع السيطرة الأجنبية ، وهي أشكال مقاومة رقيقة ، هينة ، وليست عنيفة أو شعبية واسعة ، فهي حوارات وتساؤلات مع السلطة الجديدة ، ورسائل إلى عاصمة الإمبراطورية البريطانية وسفر إليها ، ونقد لرموزها المحلية ، ودفاع أدبي وأخلاقي عن السلطة الوطنية واستقلالها، ولكن كل هذه الأشكال لا تؤثر بشيءٍ ، كما أن هذه الوسائل لا تصل إلى تكوين قاعدة محلية واسعة مناوئة للتدخل الأجنبي، تقومُ بإجراءات عملية لتكوين مثل هذه القاعدة ، أو للجبهة الوطنية العريضة بتعبيرنا المعاصر ، كالتخفيف عن الغواصين والمزارعين ، وإلغاء المظاهر الحادة للاستغلال ، مما جعل السلطة البريطانية المتشكلة محلياً ن تخترقُ الإجماعَ الوطني ، وتحيله إلى جزرٍ متنابذة ، عن طريق تقديم بعض (الإصلاحات) للفئات الأشد تضرراً ، وإحداث الشقاق بين المثقفين وقوى الإنتاج الفكري المؤثر .
وقد لعب عبدالله الزائد الدور التعبوي والفكري ضد هذه التدخلات الاستعمارية الحادة ، وعبرت كتاباته عن الموقف الأكثر وضوحاً ودقةً وعلانيةً في هذه المواجهة ، وكانت رسالته إلى المندوب البريطاني في الخليج ، تعليقاً ساخناً ومباشراً على هذه الأحداث(2) .
إن وعي الزائد في هذه المرحلة ، الذي برز بقوة ، خلافاً لعشرات الشخصيات البحرينية الأخرى ، يؤكد الدور المحوري والمؤثر لشخصه .
وفي هذا الجيشان السياسي والاجتماعي ، وفي ذروة الصراع بني بنيتين وطنية مهزومة واستعمارية مقتحمة ، وفي سنة 1922 ، نقر هذه المقتطفات الشهيرة من خطبة الزائد في الترحيب بأمين الريحاني ، الذي حلَّ ضيفاً على المثقفين .
يسوق الزائد خطابه بشكلٍ عاطفي ، محولاً الريحاني إلى قوة سحرية قادرة على أن تفعل فعلها في الغرب ومؤسساته . فهو يجرد ذلك العالم الغربي من قواه الاقتصادية والعسكرية ، ويحوله إلى كتلةٍ مجردةٍ مستعدةٍ للإصغاء إلى الريحاني ووعظه الأخلاقي الرفيع ، مثلما الزائد يقوم بذات التأثير الوعظي في الريحاني ، فيقول له:
(أيها السيد/ إن في ذمتك للشرق عامةً ، وللعالم العربي خاصةً أمانة يجب أداؤها ، وأمنية لا أخالك تغفلها ونصيحة غايتك بذلها . أجل ستؤدي الأمانة ، وتحقق الأمنية ، وتبذل النصيحة .)،(3) .
ويضيفُ بعدئذٍ:
(قلْ لهم بربك ، قل لهم إني زرت (. . .) فرأيتُ شعوباً تتوقُ إلى مصافحتكم كأصدقاء وإلى مصادقتكم كزملاء . ولكنها لا ترضى بحالٍ من الأحوال أن تكونوا لها بمثابة الأسياد مطوقة برقبة الاستعباد ) ، (4) .
إن الزائد يريدُ إقامةَ صداقةٍ نزيهةٍ بين الغرب الاستعماري والشرق التابع ، وهو وعيٌ يعبر عن تلك القوى الاجتماعية التي رغبت في تعايشٍ مشترك بين الطرفين المتضادين ، عبر خلق مناطق نفوذ مستقلة لكلٍ منها ، وهذا الوعي الوهمي كان لا بد أن يتشكل بأدواتِ الفكرِ المجرد والعاطفي الرومانتيكي ، فالزائدُ لا يدرك ما هو الغرب ، وتطوره الاقتصادي التاريخي عبر انتقاله إلى منظومة الاستعمار ، التي بدأت تتشكلُ منذ أواخر القرن التاسع عشر ، وهي التي تؤدي إلى احتواء المنظومات الوطنية ذات القواعد الزراعية ــ الحرفي ، وإلحاقها باقتصاده وتحويلها إلى أسواق لصادراته ولإنتاج مواده الرخيصة .
كما أن الزائد لا يلتفتُ ، هنا ، إلى الشرق الذي يريد التعبير عنه ، حيث يصفهُ بالراغب في علاقة صداقة نزيهةٍ مع الغرب ، وإنه قادرٌ على رفض الاستعباد إذا لم تتشكل هذه الصداقة ، حيث إن هذا التجريد ، هو ابتعادٌ عن التحليل الملموس والحقيقي للشرق ، أي للعالم العربي ، المفتت ، المتخلف ، الذي يُلحق بقوة ، وقسوة بالعالم الغربي الاستعماري .
ومن هنا يطالبُ الزائد الغربَ بأن يكون هو الناصح المحرر ، لا الجبار المسيطر ، للبلدان العربية التابعة ، أي أن يتخلى عن مناطق نفوذه ، وأسواقه التي تمدُ مصانعه بالمواد ، وهي مناطق النفوذ التي استعرت عليها حربٌ عالميةٌ أولى كلفت الملايين من البشر ، لكي يتحول الغرب إلى الأستاذ الحضاري لها ، ويرفعها إلى مستواه ويجعلها تزيحه اقتصادياً وسياسياً .
وهو يقولُ هنا (دعوا الزمان الذي كيفكم يكيفهم) ، حيث يقومُ بتجريد الزمان التاريخي من ملموسيته المحددة ، فهذا الزمان الذي كيفهم هو عدة قرون تمتدُ من عصر النهضة مروراً بعصر الثورة الصناعية حتى عصر التوسعات والنهب الإمبريالي للكرة الأرضية .
وإشارة الزائد التجريدية هذه ، ورغم ذلك الشكل الطوباوي ، هي أيضاً علامة على إدراكه لتطور العلاقات الموضوعية وأثرها في تشكيل البشر ، وهو إدراك مبهم ، مثالي وأخلاقي ، لم يتغلغل إلى ما وراء الزمن المجرد ، أي إلى شبكة العلاقات الاقتصادية السياسية والصراعات الاجتماعية . .
ورغم هذا الوعي الطوباوي الرومانسي للزائد ، فإنه يستدرك في ختام خطابه قائلاً (أدرسوا نفسيته وساعدوه على تحقيق أمنيته ، وإلا فإن التطور العالمي كفيل بتحقيقِ مطالبه) ، وهذا الاستدراك هو عودةٌ إلى الحقائق الموضوعية ، وإلغاء للطريقة الوعظية في التحليل السياسي ، وتبدو كلمة (التطور العالمي) كلمة مبطنة مبهمة تحتوي إشارات كثيرة .
والتطور العالمي هو الذي تحقق فعلاً ، بنشوءِ حركاتِ التحرر الوطني ، وحدوث ذلك التفاعل الصدامي ، بين المنظومة الرأسمالية الغربية المتحكمة ، والعالم الثالث ، والذي نتج فيه (زمانٌ) تكيفي مختلفٌ عما تخيله الزائد ، وهو زمانٌ تداخلت فيه الصدامات والثورات وتبادل المعرفة والتأثير .
إن الوعي الخيالي الذي جسدهُ الزائدُ في تلك اللحظةِ التاريخية من بداية العشرينيات ، لا ينطبقُ على المسار العربي المجرد ، بل كذلك لا ينطبق على المسار البحريني الملموس .
فهو أيضاً إشارة إلى ضرورةِ علاقةِ صداقةٍ بين الشعب البحريني والاستعمار البريطاني ، وقد جاءت الدعوةُ قبيل الانقلاب البريطاني في سنة 1923 ، حيث سيعي الزائد حينها استحالة تلك الصداقة ، وإلى سنوات قليلةٍ تالية .
فهذا الانقلاب لم يُشر إلى تحكمهم في شئون السلطة فحب بل إلى إعادة تحويلهم للمجتمع ككل ، وإخضاعه لسيطرتهم الاقتصادية والفكرية أيضاً . فهو سيقول بعد عدةِ سنوات في قصيدة رثاء الشيخ عيسى بن علي آل خليفة :
يا للشهامة نجدة عربية الناسُ أحرارٌ ، ونحن عبيدُ(5)
أو قوله :
قل للبغاةِ تفننوا في بغيكم فكل شي آخر وحدود(6)
فتلك الصداقة المقترحة لم تتشكل ، وبدأ التغلغل البريطاني يصير أنساناً حديدية تشقُ اللحمَ الوطني ، وتدمر إنتاجه الحرفي ــ الزراعي وتحيله إلى سوق .
【جذور الزائد الاجتماعية】
لكن موقف الزائد الطوباوي السابق له جذورٌ اجتماعية ، فالزائد ابن تاجر اللؤلؤ ، وتاجر اللؤلؤ(7) ، والذي يقيم مصاهرة وصداقة مع الطبقة العربية الحاكمة ، ليس هو في حالة تضاد اقتصادي حاد مع المستعمر ، فتجارة اللؤلؤ كانت تأخذ بضاعتها من سفن الغوص ، دون أن تتدخل بعمقٍ في عمليات الإنتاج ، بل هي تدع لــ(النواخذة) ــ ربابنة السفن ــ طريقة تشكيل الإنتاج وأدائه .
فرغم إن علاقات إنتاج الغوص كانت إقطاعية ، وذات ذيول عبودية كذلك ، إلا أن تجار الغوص (الطواشون) لم يكونوا على صلةٍ مباشرةٍ بالإنتاج ، بل كانوا يشترون المنتوج النهائي ويبيعونه في الأسواق ، مما جعلهم فئة محافظة ومجددة في ذات الوقت .
فهم فئةٌ محافظةٌ ، نظراً لكونهم مؤازرون لعملية الإنتاج الإقطاعية تلك ، حيث يشتركون في استغلال الغواصين مع النواخذة ، ويعيشون على قوة عمل ذلك الغوص الصعب والمُدمِّر ، محافظين على شروطِ عيشةِ البحارة بكل بؤسها ، فأي تطور في وضع المنتجين البحريين سيكون على حساب مداخيلهم .
من هنا ، لم يساهم الطواشون في تغيير أوضاع البحارة ، لا بتحسين مداخيلهم ولا بفتح المدارس ونشر التعليم وتغيير الأوضاع الاجتماعية .
ولكنهم ، من جهةٍ أخرى ، كان الطواشون منفتحين على الأسواق والدول والتطورات الحديثة فيها ، فكانوا شريحةً برجوازية حديثة داخل نسيج إقطاعي ، وفئة رحالة ومطلعة داخل مجتمع راكد . وليس غريباً أن يكون مثقف كبير آخر ، كإبراهيم العريض ، نتاج هذه الشريحة الاجتماعية .
والواقع إن الحدود كانت متداخلةً بين النواخذة والطواشين وملاك الأرض والعقار ، فقد ظهرت جماعةٌ مهيمنةٌ من كبار التجار في يدها تجارة اللؤلؤ والأملاك ، وهي لم تخاطر كثيراً بملكية السفن وتحمل مخاطر الخسائر فيها ، تاركةً للنواخذة ذلك الأمر ، ولكنها راحت تسيطرُ على تسويق اللؤلؤ ، حيث نبعت أكثر الأرباح وأقل الخسائر .
من هنا دعمت هذه الطبقة ، بشرائحها المتعددة ، الوعي المحافظ ، وبررت الرق شرعياً ، مؤكدةً على تشريع إسلامي قديم ، مكيفةً إياه حسب مصالحها ، راغبةً في عالم اجتماعي قروسطي كما كان في الماضي ، ولكن النذر الخطيرة الحاصلة ، وخاصةً بدء تدخل الاستعمار الإنكليزي في الحياة الاجتماعية المباشرة ، جعلتها تتجه إلى دعم موقفها بتشكيل المؤسسات التعليمية والفكرية.(8) .
فكان التجديدُ محدوداً في عالمها ، مقتصراً على تعلم بعض الذكور م أنباء هذه الطبقة واطلاعهم على ما يجري في العالم العربي ، ونقل الإيديولوجية الإسلامية كما تشكلت لدى محمد رشيد رضا ، وهي الإيديولوجية السنية المناوئة للاستعمار .
ولكن ظروف الطبقة وممارستها الاجتماعية والسياسية ، لا تجعلها منطبقةً تمام الانطباق على الذات الشخصية التي ندرسها ، وه يهنا عبدالله الزائد ، فرغم إن الزائد هو ابن هذه الطبقة ، ولكنه أيضاً ذا حراك خاص ، وسيرورة تاريخية شخصية مميزة ، ستجعله أكثر المعبرين عن صدامها السياسي المحدود ، وتحولها الاقتصادي المتجه للتجارة الحديثة .
إن هذه الجماعة سوف تتعرضُ شرائحها المتعددة ؛ النواخذة ، والطواشون ، والملاك ، إلى زلزال عنيف ، مع بدء المسار النازل لإنتاج الغوص ، والزراعة ، فسوف نرى انهياراً لتلك الفئات وسقوطاً اجتماعياً ، هدمها ، وبعثر أغلبها نحو القاع الاجتماعي ، ونحو الطبقات الجديدة الناتجة من البنيةِ الجديدة الرأسمالية التابعة الصاعدة .
ولهذا ستغدو هذه الشرائح من قوى المعارضة المهمة للتدخل الأجنبي ، مؤكدة على تمسك قوي بــ(الشرع والإسلام والعروبة) .
ولكن مسألة الشرع والإسلام ستكون هنا مرتبطةً بسيطرتها الاقتصادية - السياسية ، حيث يغدو المذهب السني ، هو هذا الإسلام الرسمي .
وقد كان عبدالله الزائد متحمساً لهذا المذهب ، كجزءٍ من تلك السيطرة السياسية والإيديولوجية .
أي أن الوعي الديني ــ المذهبي هنا قد حجب الوعي الوطني ، وعرقل ظهوره لسنوات قليلة . وقد حاول هذا الوعي الديني ــ المذهبي أن يتصدى للاستعمار البريطاني في تلك السنوات الأخيرة من العقد الثاني والسنوات الأولى من العقد الثالث ، عبر تحركه التعليمي والحديث المحدود ، وعبر توجهه للحوار مع المذهب الديني الآخر(الشيعة) ، لتشكيل قوة موحدة ضد التدخل الأجنبي ، إلا أن زمان هذا التوحيد لم يكن هو بين ذينك العقدين .
فقد عمل الاستعمار بقوة للدخول في ذلك الشرخ الاجتماعي الموضوعي ، واستغلال التضادات المتشكلة عبر عشرات السنين ، خاصةً إنها مقامة فوق تباين طبقي كبير ، فقاموا بتأجيج الصراع الاجتماعي – المذهبي ، ففي المدن ألبوا الغواصين ضد الشرائح الدنيا من الطبقة المسيطرة التقليدية ، أي ضد النواخذة ، وفي القرى ألبوا الفلاحين ضد الملاك ، وبالعكس ، أي استطاعوا أن يؤججوا مختلف الصراعات ثم قاموا بالسيطرة عليها ، مظهرين إدارتهم السياسية الجديدة باعتبارها التوجه الحضاري والإصلاحي والقانوني الوحيد .
لقد جعلتهم هذه السياسة المخادعة يسيطرون على مختلف القوى الاجتماعية والمسرح السياسي الوطني .
وكما قلنا ، فإن الطبقةَ ذاتها بأسلوبها الإنتاجي القديم ، لم تستطع أن تشكلَ قيادات قادرةً على فهم التطور واللحظة الوطنية المعقدة ، فوعيها يرتكزُ على مذهب ديني بعينه* ، ولم يتشكل بعد كوعي وطني فهو يعجزُ عن تكوين تحالف وطني .
وعي الزائد في هذه المرحلة هو وعي طبقته القديمة ، الارستقراطية ، ذات المذهب الديني الخاص ، والتي تتعرض لانهيار سياسي واقتصادي متداخل ومعقد ، فهي على المستوى السياسي تفقدُ الحكم وعلى المستوى الاقتصادي تفقد إنتاجها البحري .
وكان على الزائد أ ينتجَ ركائز الوعي الوطني النهضوي القادر على لم الشعب ، وتجاوز ثنائيته الطائفية ، وأن يطرح خطاباً موحِّداً . ولكنه في تلك الفترة ،وفي سنة الانقلاب البريطاني سنة 1923 ، كان في وعيه السابق .
إنه يوجهُ خطاباً سبق ذكره إلى المندوب البريطاني في الخليج ، يكتبه بصورة حوارية انفعالية قوية ، موضحاً طبيعته ككاتب نثر جيد وبارز بالدرجة الأولى ، ومحاولاً التأثير في الشخصية المستعمرة الكبيرة وتحويلها عن موقفها ، فهو يقول:
(يا صاحب الفخامة: يدلُ هذا الإعلان على أنكم فهتم من العرائض ، إن أهالي البحرين يمقتون الإصلاحات ويرغبون في التوحش والهمجية؟
لا يا صاحب الفخامة ، إننا متمدينون لا متوحشون ، ولا نسعى إلا إلى الإصلاح ، إننا من أمةٍ كانت متمدينة قبل التاريخ ، ولكن لا نقبل أن يسمى الشيء بغير اسمه . أيستطيع أحدٌ أن يقولَ أن ما جرى ويجري في البحرين إصلاح؟ أمن الإصلاح استبدال شرطة المنامة بشرطةٍ أجنبية مسلحة كانت ولا تزال السبب المهم في الفتن (. . .) أمن الإصلاح تحويل واردات البلاد إلى البنك الإنجليزي بدون رأي الأمة (وهو مالها دفعته من جيبها ؟ الخ . .)،(9).
إن الزائد يحول الصراع التاريخي بين شعب صغير واستعمار عالمي إلى حوار بين شخصين يمكن لأحدهما أن يقوم بإقناع الآخر منطقياً ، كأن المسئول البريطاني ليس أداةً لإمبراطورية عالمية تلتهم الشعوب .
إن الزائد يستمر في منهج الوعظ الأخلاقي كما عبر حينها لأمين الريحاني ، مجرداً الصراعات الاجتماعية الكبرى من تضاداتها الحادة ، مستمراً في الدعوة لمنهج التعاون الخلاق بين العرب والغرب الاستعماري ، هادفاً إلى إبقاء البنية الوطنية القديمة ، بركائزها السياسية والعسكرية والمالية خاصةً ، في حين كان التطور الموضوعي وانقلاب ميزان القوى بدأ يعصفُ بتلك البنية ويدمرها .
إن الزائد يدركُ إن سياسة (الإصلاحات) البريطانية شكل من أشكال المناورة قــُصد بها اختراق الصفوف والسيطرة على الجميع ، ولكنه لا يقدم برنامجاً إصلاحياً مضاداً لتخفيف الاستغلال البشع للبحارة والغواصين وأعمال السخرة والإفقار ضد المزارعين ، وهو سكوتٌ يعبر عن استمرارية البنية الاجتماعية العتيقة بكل رواسبها القروسطية .
【الزائد وعبدالوهاب الزياني】
مثّل الشيخ عبدالوهاب بن حجي الزياني وأحمد بن لاحج البوفلاسة الدينامو الثنائي لقلب الحركة السياسية (الوطنية) ، فالأول خاصةً هو المتواجد عبر العرائض المختلفة لتشكيل المجلس التشريعي المنتخب ، المقدمة إلى شيخ البحرين عيسى بن علي آل خليفة ، وهو المتحرك ضد استيلاء الإنكليز على السلطة في سنة 1923 .
إن عبدالوهاب الزياني كان من كبار ملاك زمن الغوص ، والشخصية النموذجية على المستوى الاقتصادي ــ السياسي ــ الإيديولوجي للطبقة المسيطرة ، ومثــّل مصيره ومصير رفيقه في رحلة النفي أحمد بن لاحج مصير ملاك الغوص وعالمهم الآفل .
وكما ربط عبدالله الزائد نفسه بالطبقة المهيمنة ككل ، فقط ربط نفسه بهذين الزعيمين في الوطن ، والمنفيين بعدئذٍ إلى الهند ، حيث كان معهما أثناء الكفاح في الداخل ، كما كان معهما في المنفى زائراً ومحاوراً .
أي أن الزائد حاول أن يلعب دور الرابط السياسي والفكري بين القيادة المنفية وجسمها الاجتماعي المبعثر بعد ضربات الإدارة البريطانية المتتالية .
زيارات المتكررة لهما في الهند(10) توضح هذه العلاقة السياسية الخفية التي حاول الزائد القيام بها ، رابطاً حلقات العمل الوطني المتعددة مع بعضها البعض ، فهو إذ يقابل الزعيمين المبتعدين ، فإنه ذو صلات جيدة مع الشيخين محمد وعبدالله ابني عيسى بن علي ، وهما كانا المؤيدين للتحرك الوطني ، كما له صلاته بالمثقفين . .
من هنا كان الزائد هو القائد السياسي الصغير الطالع من خلال الحطام لتحول سنة 1923 ، ولنرى بعض أفكار منظومته في رثاء الشيخ عبدالوهاب الزياني المتوفى سنة 1925 ، حيث هي ذات دلالة دقيقة على موقفه وتطوره .
ويبدو عبدالوهاب الزياني في هذه المنظومة وكأنه كل (الحركة الوطنية) ، فهو الوحيد الذي ملأ خشبة المسرح السياسي ، وبدونه ليس ثمة سوى الموت والانهيار .
كنتَ الغياثَ وكنتَ نبراس الهدي غبشت بفقدكَ ظلمة وضلال
أو قوله :
والقوم في نومٍ وجــــــهل وفي صف العــــــــدو أمالهم فأمالوا
ماتت نفوسهمُ ووهت عزماتهمُ فمصيرهم بعد الخمول زوالُ(11)
ليست هذه اللغة انفعالية فحسب ، ولكنه تقرير حاد لتحول جذري في الحياة السياسية ، حيث تلاشت المقاومة ، وقبل الجميع بالسيطرة الأجنبية ، التي لم تعد شخصاً قابلاً للحوار ، بل (عدواً).
إن الزائد يقيمُ تضاداً حاداً ، هو جزءٌ من منهجه العاطفي الساخن ، بين قسمين في المجتمع: الأول هو عبدالوهاب الزياني: فهنا العلم والكفاح والتضحية والهدى والمطر والمكرومات و(قمر الحياة) والدين والإخلاص والأفضال والفعل والذكاء ، وهناك في القسم الثاني نقائض ذلك ، أي الجهل والأنانية والتأخر والهوى والنوم والخمول وغيرها .
في هذا المنهج التعميمي التجريدي ، تحويلُ الواقع إلى فردٍ ذي صفاتٍ عظيمة أو رديئة ، وتتلاشى ن هذا التصور عمليات التحليل للواقع وللظروف ، وبذلك يفتقد التصور قدرته على التجذر والاستمرارية ، ويغلب عليه الانفعال والذاتية .
لا يوجد في المجتمع حسب تصور الزائد قوى حية تواصل رسالة الزياني (الوطنية) ، إلا (صحبة حاذقون وآل) ، وهذه الصحبة الحاذقة الحية هي الوحيدة الخارجة من تلك الصفات المذكورة أعلاه.
إن (الصحبة الحاذقة) تشير إلى وجود نواة وطنية مستعدة لمشوار الكفاح ، وليست قصيدة الزائد إلا بيانها السياسي يدبجهُ الناظمُ كمنشور مستغلاً أدوات الشعر لنشره ، مع غياب الصحافة . وسيغدو الشعر للزائد نظماً بيانياً سياسياً للمهمات المطلوبة وطنياً . وهو ليس شعراً في حد ذاته ، حيث تسودُ الخطابية والنثرية والصرامة العقلية .
وكما قرأنا كلمة (عدو) ، حيث تتحول السلطة البريطانية إلى احتلال معادٍ ، فإننا نقرأ كلمة (الشعب)(12) ، ونقرأ كلمات (الثورة) وكل ظلالها . ونجد الدعوة القومية ، واعتبار ثورة البحرين جزءً من ثورات العرب ضد الاستعمار .
وقد اختار الزائد في منشوره الشعري ثورتي السوريين والمغاربة ضد الفرنسيين كمثال للثورة المطلوبة محلياً ، سواء كانت بشكل هبة شعبية كما فعل السوريون ، أو بشكل نضالٍ مسلح كما فعل المغاربة ، وعدم التطرق إلى الدول التي يحتلها الإنكليز هو إشارة واضحة لما ينبغي فعله وضد من .
لقد اختار الزائد مناسبة وفاة الزياني المؤثرة لينشر بياناً فيه نقد شديد للمتقاعسين عن النضال ، ثم فيه برنامج محدد للثورة التي ينبغي أن يقوموا بها فوراً !
وإذا كان الغرب صديقاً محتملاً فإنه الآن شيءٌ آخر ، والمطلوب إزالة سيطرته .
والغرب أغدر خائنٍ وقعت به رغم التجارب والعظات رجالُ
والمطلوب هو:
إن الشعوب مصيرها في كفها تسدي النفوسُ وتبذلُ الأموالُ
إذن قرر الزائد المهمة الأساسية وهي: الثورة !
هذا القرارُ الذي أتخذه ونشره في الوطن والعالم العربي أيضاً ، قد يكون قراره الشخصي ، أو قرار (الصحبة الحاذقة) ، لكنه بكل تأكيد كان يمثل فعل النخبة الوطنية السنية في ذلك الوقت ، وحراكها المستمر نحو الوعي الديمقراطي العام ، أي بدء انتقالها الملموس من التعبير عن الطائفة إلى التعبير الوطني الشعبي العام .
ولكنه أيضاً وبكل تأكيد ، يمثل هذا القرار قفزة في الهواء ، فهو فعل سياسي لنخبةٍ صغيرة جداً ، لا توجد لها علاقات عميقة وواسعة بالناس ، الذين لا يزالون مقسمين ، ولم يتبلور لديهم رأي وطني عام يجمعهم لرفض التدخل والاحتلال .
أي أن اندفاع هذه النخبة لخلق ثورة ، في سنة 1925 حيث الثورتان السورية والمغربية مشتعلتان ، لا يمتلك أية أسس موضوعية وذاتية ، ولا يؤدي سوى إلى انكسارات واحباطات لدى تلك النخبة ، وخاصةً لدى الناطق الشعري ــ النثري ــ البياني باسمها وهو الزائد .
و لا يزال النهج الفكري العام للزائد متواجداً تحت ثنايا كلماته ، فالغرب يغدو خائناً ، لأنه كان صديقاً ، مما يعبرُ عن استمرارية النهج ، وانقلاباته النفسية ، دون المراجعة الفكرية العميقة .
فهذه الطريقة شخصنةٌ للقوى الموضوعية ، وتذويب للواقع بطبقاته وقواه ، مما يؤدي إلى ذبذبة الموقف وقابليته للانكفاء ، وهذه الشخصنة للتطور والموقف ستكون مسئولةً كذلك عن الانقلاب المضاد للزائد بعد سنوات .
【بعض ركائز إيديولوجية الزائد التنويرية】
في سنوات العقدين الأول والثاني من القرن العشرين كان الفكر الديني المحافظ هو المسيطر الكلي على الوعي ، وشعاراته الأساسية تجسدت لدى الشيخ قاسم المهزع في عدم الخروج على (الشرع) وبرفض البدع والانضواء تحت لواء (الملة) الإسلامية ، أي عدم القبول بفكرة القومية العربية وبالآراء الحديثة المختلفة ، المعبرة عن تنامي دور الطبقة الوسطى الفكري والسياسي،(14) .
ورغم السيطرة الشديدة للوعي المحافظ ، إلا أن صلات المجتمع البحريني بالدول الأكثر تطوراً في المنـــــــطقة ، والتوغل البريطاني و(بدعه) المختلفة ، كانت قد بدأت تخلخل هذا الوعي الذي رافق البحرين في القرون السابقة ، على مستوى البلدة البحرية ، وعلى مستوى القرية ، أي على مستوى النظام الاجتماعي ككل .
وفي قصيدة رثاء الشيخ عبدالوهاب الزياني لا يذكر الزائد (الأديان) ، بل يركز إلى الدعوة للعمل ، ويرى تطور الماضي مرتبطاً به ، ومن هنا يطالب بإعادة نشره ، ويدعو الشباب إلى السيطرة على الحاضر وتحويل الواقع ، من خلاله .
في هذه القصيدة يرى العالم العربي من خلال بعض المشكلات المحددة الخاصة ، فهو ينقد الأغنياء البخلاء ، وأطباء العلاج الاجتماعي المرضى ، ولا ندري من هؤلاء ، فهل هم رجال الدين ؟ إن الزائد لا يفصح عن ذلك ، ولكن سنرى إن ذلك يتضمنهم بكل تأكيد .
لقد حوّل تاريخ الماضي العربي إلى تاريخِ عزٍ وعدالة مطلقة تشعُ على العالم ، إنها النظرة التجريدية المثالية إلى الماضي ، والتي تحولهُ إلى شعارٍ مشعٍ ، وتحاول استعادته حاضراً ، دون أن تتمكن من الدخولِ إلى سيرورته العميقة والحقيقية ، مثلما هي لا تقومُ بالدخول إلى تضادات الحاضر البعيدة .
لكن هذه الدعوة التعميمية تبتعدُ ، بشكلٍ واضحٍ ، عن التفكير الديني المحافظ ، ودون أ، تعاديه أيضاً ، وهي تركزُ حول دور العلم في الماضي ، وأهمية انتشاره في الحاضر :
(يعوزُ رقينا أبناء علم ـــ إذا ما فكروا أتضح المعمى) ، (يعوزُ رقينا تعميم علم ـــ وتشييد المدارس حافلات) ، (فيا شرق انتصر بالعلم) الخ . .
هذا الإلحاح على العلم ، وربطه بالشباب ، ودعوة الشباب لامساك اللحظة الحاضرة ، تتوافق مع طبيعة الزائد الشابة عام 1922 ، المتجهة إلى تكوين غضبة مناوئة للاستعمار ، والتي كان الشيخ عبدالوهاب الزياني قائدها السياسي ، ولكن الزائد يتقدمُ على الجميع بهذه الإيديولوجية التنويرية ، وهذا التوجيه الشبابي ، الذي يعني ابعاد القوى المحافظة عن توجيه الرأي العام ، فهؤلاء المحافظون يسجنون الوعي الوطني في مسارات طائفية ، ومن هنا كان لا بد من تغيير هذه المسارات المتوازية ، في تيار وطني عريض .
فإذا أخذنا المنظومة المتناثرة من التعبيرات الزائدية المستخدمة وهي:
العلم ــ الشباب ــ العدو الأجنبي ــ الشعب . .
فسوف ندرك أن ثمة لغة إيديولوجية جديدة تنبثق من خلال وعي الزائد ، وتتحركُ في الحياة ، جامعةً الشباب في طليعة حديثة ، تتجاوزُ ثنائية المذهبين ، متجاوزةً القوى العتيقة غير القادرة على فهم الوضع وتوجيهه ، ورغم إنها لغةٌ إيديولوجية عامة ، مجردة ، ليست ذات تحليل موسع للواقع ، ماضياً وحاضراً ، وإنها لغةٌ انفعالية ، صاخبة ، ذاتية ، إلا أنها الإيديولوجية الجديدة الخطيرة وهي تنبثق من القديم ، معبرةً عن الجديد المتشكل والصاعد لتجاوز نظام التبعية .
【الزائد عند وفاة الشيخ عيسى بن علي】
كان وضع البحرين في نهاية العقد الثالث هو الاحتضار الواضح للمنظومة الاجتماعية القديمة ، وبدء تشكل البنية الجديدة ، أي بنية البحرين التابعة ، المسيطر عليها سياسياً واقتصادياً وثقافياً حتى سنة الاستقلال 1971 .
في سنوات 1925 ــ 1928 ، حاول الزائد أن يدعو للثورة دون أن تتشكل شروطها الموضعية والفكرية ، مما جعلهُ هدفاً واضحاً للسلطة البريطانية ، فحدثت له قضية مفتعلة هي قضية اللؤلؤة الزائفة ، وتم نفيه عن البحرين لمدة سنتين من 28 إلى 1932 .
كانت البلد في ذروة الأزمة: انهيار أسعار اللؤلؤ وتفجر الأزمة الاقتصادية العالمية وعدم وجود مورد اقتصادي جديد للبلد ، ولعدة سنوات تالية لم يتحسن الوضع إلا عندما بدأ استخراج وتصدير النفط .
لقد بدأ مسارٌ آخر ، لم تعد فيه قوى الغوص ــ الزراعة مؤثرة في التشكيلة الانتاجية ، وقد كانت هي الأساسُ الموضوعي لثنائية الطائفتين ، وبدأت طبقات جديدةٌ في التبلور وهي طبقات العمال والتجار المستوردين والشرائح البرجوازية الصغيرة والطلبة والموظفين الخ . .
حينئذٍ بدأت المراكزُ الدينية تــُنافسُ من قبل المؤسسات الحديثة ، وهي المدارس والأندية والجمعيات الثقافية ، التي تهيأت لها الفرص لزرع أيديولوجية عامة في الشعب لتوحيده في مواجهة الهيمنة الأجنبية .
وكان الزائد قد بدأ يلقي بذور هذه الأفكار في التربة المهيأة والمستعدة للتحول الجديد .
في سنة 1932 ، وبعد سنوات من الغربة والتشرد والترحال والاكتشاف ، فإن الزائد لم يفقد إيمانه بالتحرر والشعب وقضية التقدم . وواصل إنتاجه ونشره لتلك الإيديولوجية التنويرية التي كان الواقع في أمس الحاجة إليها .
في هذه السنة المضطربة التي حدثت فيها انتفاضة الغواصين وهدمت فيها دور الغناء البري ، توفى الشيخ عيسى بن علي ، رمز السلطة الوطنية لدى الجيل السابق ، فرثاه الزائد في بيان نظمي آخر ، لكنه أقل حدةً ومباشرةً من بيانه في رثاء الشيخ الزياني ، فقد علمته الغربةُ والتجربة . وكن إلى أي حد تطور خطابه السياسي التحويلي للحياة ؟
لم يزل الزائد في منظومته مؤيداً للحكم الوطني السابق في شخص الشيخ عيسى بن علي ، الذي أبكاه فقده ، وتخيله محاكماً للذين خذلوه وداعياً الناس للوحدة . يقول:
إن انقسام الرأي أقوى هادمٍ أبداً عدواً للشعوب لدودُ(15)
إن وحدة الناس ، في الطبقات العليا والدنيا ، صارت ضرورةً لمقاومة الاستعمار ، وهذا الوعي الذي توصل إليه الزائد ، سوف يــُرجم إلى شعار وطني أساسي ، ستنبثق عبره كافةُ الحركات الفكرية والاجتماعية الوطنية .
هنا تم تجاوز الثنائية المذهبية ، و الابتعاد عن الطرح الديني / المذهبي ، ومن خلال تشكيل إيديولوجية تنويرية ، ولم يبق إلا انتشار الدعوة وتجذرها .
إذن استطاع الزائد أ، يبلور خطاً فكرياً جديداً ، معتمداً على مقولات النهضة العربية وحركة التحرر العربية المتنامية ، وهو خطٌ فكري شامل ، لكنه يعتبر نقلة كبيرة وهامة في مسار الوعي البحريني .
لقد بدأت هذه الأفكار الوطنية تتعزز مع تطور البنية الاجتماعية الجديدة ، ذات العلاقات الرأسمالية ، والتي أوجدت طبقات وفئات تمازجت فيها الطائفتان ، وتداخلت فها المدينة والقرية ، سواء كان ذلك في الأوساق ، أم مدينة المنامة ، التي غدت عاصمة البحرين (الرأسمالية) ، خلافاً للمحرق عاصمة الغوص والبنية القديمة ، أو في الدواوين الحكومية وأمكنة الإنتاج المختلفة.(16)
إن تعزز الأفكار الوطنية غذاه التطور الموضوعي للحياة، وكذلك أنشطة النخبة المثقفة في الأندية والتي بدأت منذ العشرينيات مستوحيةً شعارات النهضة العربية: النادي الأدبي ــ النهضة ــ العروبة الخ . .
وكذلك غذاه التبادل الثقافي والشخصي مع البلدان العربية والأجنبية كالهند .
【تحول الزائد】
لكن الزائد الذي لعب دور البلورة الفكرية لخط الوحدة الوطنية والمواجهة ، هو الذي راح يتعاون مع النظام الاجتماعي في سنوات الثلاثينيات وما تلاها .
فما الذي حدث بين سنوات 1932 إلى سنة 1939 والتي افتتح فيها جريدة البحرين؟
ما الذي دعاهُ إلى هذا الانقلاب في توجهه السياسي؟
هل يعودُ ذلك إلى انهيار عمله كتاجر لؤلؤ والانهيار العام للغوص؟
هل يعودُ ذلك إلى صلاته الحميمة ببعض الشيوخ الذين هم أنفسهم راحوا يتعاونون ويساهمون في النظام الاجتماعي؟
هل يعود ذلك لتوجهه لآمال تجارية مختلفة كالاشتراك في ملكية صالة سينما البحرين ، التي كانت أول سينما وإلى بدئه التعامل التجاري مع الشركات البريطانية الأمريكية؟
إن الأمر يعودُ إلى كل ذلك ، وهناك قرار ــ على ما يبدو ــ أتخذه الزائد للتعامل بإيجابية مع النظام الاجتماعي الجديد ، والذي ترسخ ، فراح يتخذ مسلكاً سياسياً جديداً ، كان من شأنه ، تبدل حياته الشخصية الصعبة المنهكة ، واستمراره في نشر أفكاره وبطريقة مختلفة وواسعة الانتشار والتأثير بالتالي في مجرى الحياة .
إن النظام فتح أبواباً اقتصادية جديدة ، ولعب استخراج النفط وتصديره دوراً ضخماً في أبعاد شبح الأزمة الاقتصادية وتغيير حياة الناس المعيشية إلى حدٍ ما .
من هنا دخلت شعاراتُ الزائد المحرضة ضد الاستعمار ، في منطقة انعدام الوزن السياسي ، وأدت الصداقات المهمة دورها في التعجيل بهذا التحول ، خصوصاً إن أصحابها كانوا متفقين سابقاً مع الزائد في رفض التدخل الأنكليزي في الشؤون الداخلية ، والآن عادوا للتعامل مع السلطة الجديدة التي ثبتت أقدامها في الواقع والتحق الأهالي في مشروعاتها المختلفة .
لم يعد للمقاومة من قاعدةٍ ، تلك المقاومة المتجهة لتحويل النظام بالقوة .
لكن المقاومة انتقلت إلى ميادين أخرى . ميادين تثبيت المشروعات النهضوية ، خاصةً عبر المؤسسات الصناعية والاقتصادية والمدارس العامة والخاصة والمسارح والمطابع والجرائد والأندية وترقية أحوال الناس المعيشية ونشر الخدمات المختلفة .
هذه البنية الجديدة التي أندمج بها الشعب ، المتحول من طائفيتين إلى نسيج وطني واحد ، لعبت فيها (الطبقة)* الوسطى دوراً سياسياً مركزياً ، دافعةً الأمور نحو التصادم الكبير مع الاستعمار ، خاصةً في سنوات 1954 ــ 1956 .
ولكن عملية التصادم الكبيرة والشاملة احتاجت إلى عدةِ عقود لكي تبرز بتلك الصورة القوية الواسعة ، فكانت هناك عدة حلقات تطورية قادت إليها ، وحتمت الانفجار فيها .
ويأتي دور الزائد في الحلقة الأولى ، حيث راح ينشر فكرَ النهضة والإصلاح ويستقطب قوى التنوير في مشرعاته الثقافية .
https://abdullakhalifa.blogspot.com/2...
عبـــــــدالله خلــــــــيفة عرض ونقد عن أعماله
【ظهوره وجذوره وتحولاته】
يعتبر عبدالله الزائد من العلامات الفكرية البارزة في تاريخ البحرين خلال النصف الأول من القرن العشرين ، حيث عاش بين سنتي (1899 ــ 1945) ، وقد استطاع أن يُعبر عن هذه المرحلة بشكل نموذجي وبارز ، وانعكست على حياته وأفكاره تحولاتها وصدماتها ، بشكلٍ ساطع ، وقد حاول أن يؤثر تأثيراً بارزاً في أحداثها السياسية والفكرية ، فإذا كان هو ابن مرحلة بداية القرن ، فإنه قد صدم بتحولات العشرينيات السياسية الحادة ، وبتحولات الثلاثينيات الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة ، التي انعطفت بالنظام الاجتماعي المحلي ، وقد حاول هو أن يكافح هذه الانعطافة الاقتحامية الأجنبية ، إلا أن مجريات التطور الموضوعي والذاتي ، فاقت قدراته الفردية بطبيعة الحال ، فقام بإجراء تغيير انقلابي في خطابه السياسي والفكري في الثلاثينيات وأواخرها تحديداً .
إنا لا بد أن نضع خطابه في مجريات التطور ، منقبين عن أبعاد اجتماعية وإيديولوجية جديدة هي التي كونت وحولت الخطاب .
إننا نرى الشخصية ــ وهي الزائد هنا ــ باعتبارها جزءاً من نسيج اجتماعي وإيديولوجي متحول ، ووضعها في هذا النسيج يكشف طبيعة هذا الوعي وتحولاته التي لم ترصد بهذا الشكل ، ويحدد مفاهيمه وقدراته المعرفية ، وإمكانياته في تحويل هذا الواقع كذلك .
فعبدالله الزائد كان مناضلاً ، ومتوجهاً لتغيير الحياة من منطلقاته الخاصة ، وبحدود وعيه في الفترات المختلفة ، الذي هو أيضاً ثمرة لمستوى كفاح طبقته وشعبه .
【بين بنيتين】
وقعت حياة عبدالله بن علي بن جبر الزائد القصيرة الحافلة ، في لحظةِ تغير بنيوية اقتصادية ــ سياسية ــ ثقافية واسعة ، حيث كان نمط الإنتاج والحكم والوعي ينتقل من بنية إلى أخرى ، وقد وجد الزائد نفسه في حضن البنية الاجتماعية القديمة مدافعاً عنها ، وعن امتيازاتها وعالمها السياسي ، في حين كانت هي تتجه إلى الهزيمة والأفول ، ثم وجد نفسه مكافحاً من أجل تصعيد ونمو البنية الجديدة بحيث تغدو حديثة ديمقراطية دون أن يتحقق ذلك .
ولا بد من التغلغل في اللوحة القديمة أولاً وبشكل موسع ومتعدد المستويات ، لكي نضع الشخصية في نسيجها العام .
لقد كانت بُنية مجتمع الغوص في عز ازدهارها لحظة مولده وشبابه ، ففي سنة 1900 بلغ قيمة المصدر من اللؤلؤ 000 ، 500 جنيهاً استرلينياً ، ووصل بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى إلى 323 ، 701 ، وفي نهاية عقد العشرينيات كان الخط التنازلي لتصدير اللؤلؤ (1).
كانت علاقات البنية الاجتماعية المشكلة لإنتاج الغوص والزراعة ، تعتمدُ على سيطرة كبار الملاك والطواشين والنواخذة لنتاج الغوص والزراعة ، وإبقاء العاملين والنساء في حالة استغلال عتيقة ، تسودها السخرةُ والديون وبقايا الأشكال العبودية، والأمية، وتخلف المرأة ، وفقدان التعليم والحقوق.
هذه الشبكةُ العتيقةُ من العلاقات الإنتاجية والفكرية ، وجد الشاب عبدالله الزائد نفسه ، مدافعاً عن استمرارها واستقلالها ، في مواجهة طوفان انجليزي ورأسمالي توغلي واسع النطاق .
ولكن مهما كانت هذه الشبكة متخلفة وارستقراطية ، فهي الإنتاج الوطني بكل مؤسساته الاقتصادية المستقلة ، من غوص بحري مزدهر ، ذي فائض مالي كبير ، إلى أراضٍ زراعيةٍ خصبة ، وإلى سلسلةٍ من الحرف والصناعات اليدوية المكملة لذلك الإنتاج ، وإلى تجارةٍ خارجية مغذية لإنتاج واستهلاك هذه الشبكة ، وكذلك وجود مستوى ثقافي وطني بتوجهه الإسلامي ــ الثنائي الطائفة ، وفلكلوره وتراثه الشعبي ، وفوق هذا كله سلطة بحرينية تمثل هذا الاستقلال .
إن السيطرة الاستعمارية الأجنبية كانت تتجه إلى تدمير كل هذه البنية القديمة ، وقد دمرت جزءاً كبيراً منها ، وراحت تحل بنية اقتصادية ــ ثقافية ــ سياسية جديدة ، من أشكال تجلياتها البنك الانجليزي وشركة التلغراف والبوارج الحربية وتدمير الأسطول البحريني وقطه شرايين السياسة الخارجية ، والبوليس الهندي والمحاكم الجديدة والقوانين الجديدة ، تتويجاً على هذا كله بوضع مسئول بريطاني مطلق التصرف .
وظهرت التجلياتُ الثقافيةُ لهذه السيطرة ، بتواجد جمعيات التبشير المسيحية ، وبإعطاء الأراضي لبناء الكنائس ، وجلب الصحافة المؤيدة للانجليز ، والسيطرة على التعليم الأهلي الخ. .
وكان على البنية الاجتماعية الوطنية القديمة أن تدافع عن وجودها على مختلف المستويات السياسية والفكرية والاقتصادية .
وقد نشأ عبدالله الزائد في حضن هذه البنية السابقة الآفلة ، فأساتذته وأصدقاؤه هم أركان هذه البنية ، أمثال الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة ، وعبدالوهاب حجي الزياني والشيخ محمد بن عيسى آل خليفة .
وكانت (المحرق) هي عاصمة الغوص ، والعاصمة السياسية والإيديولوجية لهذا العالم الاجتماعي الوطني الغارب ، ومن هنا عملت هذه الطبقة على خلق أشكال المقاومة المتعددة لمنع السيطرة الأجنبية ، وهي أشكال مقاومة رقيقة ، هينة ، وليست عنيفة أو شعبية واسعة ، فهي حوارات وتساؤلات مع السلطة الجديدة ، ورسائل إلى عاصمة الإمبراطورية البريطانية وسفر إليها ، ونقد لرموزها المحلية ، ودفاع أدبي وأخلاقي عن السلطة الوطنية واستقلالها، ولكن كل هذه الأشكال لا تؤثر بشيءٍ ، كما أن هذه الوسائل لا تصل إلى تكوين قاعدة محلية واسعة مناوئة للتدخل الأجنبي، تقومُ بإجراءات عملية لتكوين مثل هذه القاعدة ، أو للجبهة الوطنية العريضة بتعبيرنا المعاصر ، كالتخفيف عن الغواصين والمزارعين ، وإلغاء المظاهر الحادة للاستغلال ، مما جعل السلطة البريطانية المتشكلة محلياً ن تخترقُ الإجماعَ الوطني ، وتحيله إلى جزرٍ متنابذة ، عن طريق تقديم بعض (الإصلاحات) للفئات الأشد تضرراً ، وإحداث الشقاق بين المثقفين وقوى الإنتاج الفكري المؤثر .
وقد لعب عبدالله الزائد الدور التعبوي والفكري ضد هذه التدخلات الاستعمارية الحادة ، وعبرت كتاباته عن الموقف الأكثر وضوحاً ودقةً وعلانيةً في هذه المواجهة ، وكانت رسالته إلى المندوب البريطاني في الخليج ، تعليقاً ساخناً ومباشراً على هذه الأحداث(2) .
إن وعي الزائد في هذه المرحلة ، الذي برز بقوة ، خلافاً لعشرات الشخصيات البحرينية الأخرى ، يؤكد الدور المحوري والمؤثر لشخصه .
وفي هذا الجيشان السياسي والاجتماعي ، وفي ذروة الصراع بني بنيتين وطنية مهزومة واستعمارية مقتحمة ، وفي سنة 1922 ، نقر هذه المقتطفات الشهيرة من خطبة الزائد في الترحيب بأمين الريحاني ، الذي حلَّ ضيفاً على المثقفين .
يسوق الزائد خطابه بشكلٍ عاطفي ، محولاً الريحاني إلى قوة سحرية قادرة على أن تفعل فعلها في الغرب ومؤسساته . فهو يجرد ذلك العالم الغربي من قواه الاقتصادية والعسكرية ، ويحوله إلى كتلةٍ مجردةٍ مستعدةٍ للإصغاء إلى الريحاني ووعظه الأخلاقي الرفيع ، مثلما الزائد يقوم بذات التأثير الوعظي في الريحاني ، فيقول له:
(أيها السيد/ إن في ذمتك للشرق عامةً ، وللعالم العربي خاصةً أمانة يجب أداؤها ، وأمنية لا أخالك تغفلها ونصيحة غايتك بذلها . أجل ستؤدي الأمانة ، وتحقق الأمنية ، وتبذل النصيحة .)،(3) .
ويضيفُ بعدئذٍ:
(قلْ لهم بربك ، قل لهم إني زرت (. . .) فرأيتُ شعوباً تتوقُ إلى مصافحتكم كأصدقاء وإلى مصادقتكم كزملاء . ولكنها لا ترضى بحالٍ من الأحوال أن تكونوا لها بمثابة الأسياد مطوقة برقبة الاستعباد ) ، (4) .
إن الزائد يريدُ إقامةَ صداقةٍ نزيهةٍ بين الغرب الاستعماري والشرق التابع ، وهو وعيٌ يعبر عن تلك القوى الاجتماعية التي رغبت في تعايشٍ مشترك بين الطرفين المتضادين ، عبر خلق مناطق نفوذ مستقلة لكلٍ منها ، وهذا الوعي الوهمي كان لا بد أن يتشكل بأدواتِ الفكرِ المجرد والعاطفي الرومانتيكي ، فالزائدُ لا يدرك ما هو الغرب ، وتطوره الاقتصادي التاريخي عبر انتقاله إلى منظومة الاستعمار ، التي بدأت تتشكلُ منذ أواخر القرن التاسع عشر ، وهي التي تؤدي إلى احتواء المنظومات الوطنية ذات القواعد الزراعية ــ الحرفي ، وإلحاقها باقتصاده وتحويلها إلى أسواق لصادراته ولإنتاج مواده الرخيصة .
كما أن الزائد لا يلتفتُ ، هنا ، إلى الشرق الذي يريد التعبير عنه ، حيث يصفهُ بالراغب في علاقة صداقة نزيهةٍ مع الغرب ، وإنه قادرٌ على رفض الاستعباد إذا لم تتشكل هذه الصداقة ، حيث إن هذا التجريد ، هو ابتعادٌ عن التحليل الملموس والحقيقي للشرق ، أي للعالم العربي ، المفتت ، المتخلف ، الذي يُلحق بقوة ، وقسوة بالعالم الغربي الاستعماري .
ومن هنا يطالبُ الزائد الغربَ بأن يكون هو الناصح المحرر ، لا الجبار المسيطر ، للبلدان العربية التابعة ، أي أن يتخلى عن مناطق نفوذه ، وأسواقه التي تمدُ مصانعه بالمواد ، وهي مناطق النفوذ التي استعرت عليها حربٌ عالميةٌ أولى كلفت الملايين من البشر ، لكي يتحول الغرب إلى الأستاذ الحضاري لها ، ويرفعها إلى مستواه ويجعلها تزيحه اقتصادياً وسياسياً .
وهو يقولُ هنا (دعوا الزمان الذي كيفكم يكيفهم) ، حيث يقومُ بتجريد الزمان التاريخي من ملموسيته المحددة ، فهذا الزمان الذي كيفهم هو عدة قرون تمتدُ من عصر النهضة مروراً بعصر الثورة الصناعية حتى عصر التوسعات والنهب الإمبريالي للكرة الأرضية .
وإشارة الزائد التجريدية هذه ، ورغم ذلك الشكل الطوباوي ، هي أيضاً علامة على إدراكه لتطور العلاقات الموضوعية وأثرها في تشكيل البشر ، وهو إدراك مبهم ، مثالي وأخلاقي ، لم يتغلغل إلى ما وراء الزمن المجرد ، أي إلى شبكة العلاقات الاقتصادية السياسية والصراعات الاجتماعية . .
ورغم هذا الوعي الطوباوي الرومانسي للزائد ، فإنه يستدرك في ختام خطابه قائلاً (أدرسوا نفسيته وساعدوه على تحقيق أمنيته ، وإلا فإن التطور العالمي كفيل بتحقيقِ مطالبه) ، وهذا الاستدراك هو عودةٌ إلى الحقائق الموضوعية ، وإلغاء للطريقة الوعظية في التحليل السياسي ، وتبدو كلمة (التطور العالمي) كلمة مبطنة مبهمة تحتوي إشارات كثيرة .
والتطور العالمي هو الذي تحقق فعلاً ، بنشوءِ حركاتِ التحرر الوطني ، وحدوث ذلك التفاعل الصدامي ، بين المنظومة الرأسمالية الغربية المتحكمة ، والعالم الثالث ، والذي نتج فيه (زمانٌ) تكيفي مختلفٌ عما تخيله الزائد ، وهو زمانٌ تداخلت فيه الصدامات والثورات وتبادل المعرفة والتأثير .
إن الوعي الخيالي الذي جسدهُ الزائدُ في تلك اللحظةِ التاريخية من بداية العشرينيات ، لا ينطبقُ على المسار العربي المجرد ، بل كذلك لا ينطبق على المسار البحريني الملموس .
فهو أيضاً إشارة إلى ضرورةِ علاقةِ صداقةٍ بين الشعب البحريني والاستعمار البريطاني ، وقد جاءت الدعوةُ قبيل الانقلاب البريطاني في سنة 1923 ، حيث سيعي الزائد حينها استحالة تلك الصداقة ، وإلى سنوات قليلةٍ تالية .
فهذا الانقلاب لم يُشر إلى تحكمهم في شئون السلطة فحب بل إلى إعادة تحويلهم للمجتمع ككل ، وإخضاعه لسيطرتهم الاقتصادية والفكرية أيضاً . فهو سيقول بعد عدةِ سنوات في قصيدة رثاء الشيخ عيسى بن علي آل خليفة :
يا للشهامة نجدة عربية الناسُ أحرارٌ ، ونحن عبيدُ(5)
أو قوله :
قل للبغاةِ تفننوا في بغيكم فكل شي آخر وحدود(6)
فتلك الصداقة المقترحة لم تتشكل ، وبدأ التغلغل البريطاني يصير أنساناً حديدية تشقُ اللحمَ الوطني ، وتدمر إنتاجه الحرفي ــ الزراعي وتحيله إلى سوق .
【جذور الزائد الاجتماعية】
لكن موقف الزائد الطوباوي السابق له جذورٌ اجتماعية ، فالزائد ابن تاجر اللؤلؤ ، وتاجر اللؤلؤ(7) ، والذي يقيم مصاهرة وصداقة مع الطبقة العربية الحاكمة ، ليس هو في حالة تضاد اقتصادي حاد مع المستعمر ، فتجارة اللؤلؤ كانت تأخذ بضاعتها من سفن الغوص ، دون أن تتدخل بعمقٍ في عمليات الإنتاج ، بل هي تدع لــ(النواخذة) ــ ربابنة السفن ــ طريقة تشكيل الإنتاج وأدائه .
فرغم إن علاقات إنتاج الغوص كانت إقطاعية ، وذات ذيول عبودية كذلك ، إلا أن تجار الغوص (الطواشون) لم يكونوا على صلةٍ مباشرةٍ بالإنتاج ، بل كانوا يشترون المنتوج النهائي ويبيعونه في الأسواق ، مما جعلهم فئة محافظة ومجددة في ذات الوقت .
فهم فئةٌ محافظةٌ ، نظراً لكونهم مؤازرون لعملية الإنتاج الإقطاعية تلك ، حيث يشتركون في استغلال الغواصين مع النواخذة ، ويعيشون على قوة عمل ذلك الغوص الصعب والمُدمِّر ، محافظين على شروطِ عيشةِ البحارة بكل بؤسها ، فأي تطور في وضع المنتجين البحريين سيكون على حساب مداخيلهم .
من هنا ، لم يساهم الطواشون في تغيير أوضاع البحارة ، لا بتحسين مداخيلهم ولا بفتح المدارس ونشر التعليم وتغيير الأوضاع الاجتماعية .
ولكنهم ، من جهةٍ أخرى ، كان الطواشون منفتحين على الأسواق والدول والتطورات الحديثة فيها ، فكانوا شريحةً برجوازية حديثة داخل نسيج إقطاعي ، وفئة رحالة ومطلعة داخل مجتمع راكد . وليس غريباً أن يكون مثقف كبير آخر ، كإبراهيم العريض ، نتاج هذه الشريحة الاجتماعية .
والواقع إن الحدود كانت متداخلةً بين النواخذة والطواشين وملاك الأرض والعقار ، فقد ظهرت جماعةٌ مهيمنةٌ من كبار التجار في يدها تجارة اللؤلؤ والأملاك ، وهي لم تخاطر كثيراً بملكية السفن وتحمل مخاطر الخسائر فيها ، تاركةً للنواخذة ذلك الأمر ، ولكنها راحت تسيطرُ على تسويق اللؤلؤ ، حيث نبعت أكثر الأرباح وأقل الخسائر .
من هنا دعمت هذه الطبقة ، بشرائحها المتعددة ، الوعي المحافظ ، وبررت الرق شرعياً ، مؤكدةً على تشريع إسلامي قديم ، مكيفةً إياه حسب مصالحها ، راغبةً في عالم اجتماعي قروسطي كما كان في الماضي ، ولكن النذر الخطيرة الحاصلة ، وخاصةً بدء تدخل الاستعمار الإنكليزي في الحياة الاجتماعية المباشرة ، جعلتها تتجه إلى دعم موقفها بتشكيل المؤسسات التعليمية والفكرية.(8) .
فكان التجديدُ محدوداً في عالمها ، مقتصراً على تعلم بعض الذكور م أنباء هذه الطبقة واطلاعهم على ما يجري في العالم العربي ، ونقل الإيديولوجية الإسلامية كما تشكلت لدى محمد رشيد رضا ، وهي الإيديولوجية السنية المناوئة للاستعمار .
ولكن ظروف الطبقة وممارستها الاجتماعية والسياسية ، لا تجعلها منطبقةً تمام الانطباق على الذات الشخصية التي ندرسها ، وه يهنا عبدالله الزائد ، فرغم إن الزائد هو ابن هذه الطبقة ، ولكنه أيضاً ذا حراك خاص ، وسيرورة تاريخية شخصية مميزة ، ستجعله أكثر المعبرين عن صدامها السياسي المحدود ، وتحولها الاقتصادي المتجه للتجارة الحديثة .
إن هذه الجماعة سوف تتعرضُ شرائحها المتعددة ؛ النواخذة ، والطواشون ، والملاك ، إلى زلزال عنيف ، مع بدء المسار النازل لإنتاج الغوص ، والزراعة ، فسوف نرى انهياراً لتلك الفئات وسقوطاً اجتماعياً ، هدمها ، وبعثر أغلبها نحو القاع الاجتماعي ، ونحو الطبقات الجديدة الناتجة من البنيةِ الجديدة الرأسمالية التابعة الصاعدة .
ولهذا ستغدو هذه الشرائح من قوى المعارضة المهمة للتدخل الأجنبي ، مؤكدة على تمسك قوي بــ(الشرع والإسلام والعروبة) .
ولكن مسألة الشرع والإسلام ستكون هنا مرتبطةً بسيطرتها الاقتصادية - السياسية ، حيث يغدو المذهب السني ، هو هذا الإسلام الرسمي .
وقد كان عبدالله الزائد متحمساً لهذا المذهب ، كجزءٍ من تلك السيطرة السياسية والإيديولوجية .
أي أن الوعي الديني ــ المذهبي هنا قد حجب الوعي الوطني ، وعرقل ظهوره لسنوات قليلة . وقد حاول هذا الوعي الديني ــ المذهبي أن يتصدى للاستعمار البريطاني في تلك السنوات الأخيرة من العقد الثاني والسنوات الأولى من العقد الثالث ، عبر تحركه التعليمي والحديث المحدود ، وعبر توجهه للحوار مع المذهب الديني الآخر(الشيعة) ، لتشكيل قوة موحدة ضد التدخل الأجنبي ، إلا أن زمان هذا التوحيد لم يكن هو بين ذينك العقدين .
فقد عمل الاستعمار بقوة للدخول في ذلك الشرخ الاجتماعي الموضوعي ، واستغلال التضادات المتشكلة عبر عشرات السنين ، خاصةً إنها مقامة فوق تباين طبقي كبير ، فقاموا بتأجيج الصراع الاجتماعي – المذهبي ، ففي المدن ألبوا الغواصين ضد الشرائح الدنيا من الطبقة المسيطرة التقليدية ، أي ضد النواخذة ، وفي القرى ألبوا الفلاحين ضد الملاك ، وبالعكس ، أي استطاعوا أن يؤججوا مختلف الصراعات ثم قاموا بالسيطرة عليها ، مظهرين إدارتهم السياسية الجديدة باعتبارها التوجه الحضاري والإصلاحي والقانوني الوحيد .
لقد جعلتهم هذه السياسة المخادعة يسيطرون على مختلف القوى الاجتماعية والمسرح السياسي الوطني .
وكما قلنا ، فإن الطبقةَ ذاتها بأسلوبها الإنتاجي القديم ، لم تستطع أن تشكلَ قيادات قادرةً على فهم التطور واللحظة الوطنية المعقدة ، فوعيها يرتكزُ على مذهب ديني بعينه* ، ولم يتشكل بعد كوعي وطني فهو يعجزُ عن تكوين تحالف وطني .
وعي الزائد في هذه المرحلة هو وعي طبقته القديمة ، الارستقراطية ، ذات المذهب الديني الخاص ، والتي تتعرض لانهيار سياسي واقتصادي متداخل ومعقد ، فهي على المستوى السياسي تفقدُ الحكم وعلى المستوى الاقتصادي تفقد إنتاجها البحري .
وكان على الزائد أ ينتجَ ركائز الوعي الوطني النهضوي القادر على لم الشعب ، وتجاوز ثنائيته الطائفية ، وأن يطرح خطاباً موحِّداً . ولكنه في تلك الفترة ،وفي سنة الانقلاب البريطاني سنة 1923 ، كان في وعيه السابق .
إنه يوجهُ خطاباً سبق ذكره إلى المندوب البريطاني في الخليج ، يكتبه بصورة حوارية انفعالية قوية ، موضحاً طبيعته ككاتب نثر جيد وبارز بالدرجة الأولى ، ومحاولاً التأثير في الشخصية المستعمرة الكبيرة وتحويلها عن موقفها ، فهو يقول:
(يا صاحب الفخامة: يدلُ هذا الإعلان على أنكم فهتم من العرائض ، إن أهالي البحرين يمقتون الإصلاحات ويرغبون في التوحش والهمجية؟
لا يا صاحب الفخامة ، إننا متمدينون لا متوحشون ، ولا نسعى إلا إلى الإصلاح ، إننا من أمةٍ كانت متمدينة قبل التاريخ ، ولكن لا نقبل أن يسمى الشيء بغير اسمه . أيستطيع أحدٌ أن يقولَ أن ما جرى ويجري في البحرين إصلاح؟ أمن الإصلاح استبدال شرطة المنامة بشرطةٍ أجنبية مسلحة كانت ولا تزال السبب المهم في الفتن (. . .) أمن الإصلاح تحويل واردات البلاد إلى البنك الإنجليزي بدون رأي الأمة (وهو مالها دفعته من جيبها ؟ الخ . .)،(9).
إن الزائد يحول الصراع التاريخي بين شعب صغير واستعمار عالمي إلى حوار بين شخصين يمكن لأحدهما أن يقوم بإقناع الآخر منطقياً ، كأن المسئول البريطاني ليس أداةً لإمبراطورية عالمية تلتهم الشعوب .
إن الزائد يستمر في منهج الوعظ الأخلاقي كما عبر حينها لأمين الريحاني ، مجرداً الصراعات الاجتماعية الكبرى من تضاداتها الحادة ، مستمراً في الدعوة لمنهج التعاون الخلاق بين العرب والغرب الاستعماري ، هادفاً إلى إبقاء البنية الوطنية القديمة ، بركائزها السياسية والعسكرية والمالية خاصةً ، في حين كان التطور الموضوعي وانقلاب ميزان القوى بدأ يعصفُ بتلك البنية ويدمرها .
إن الزائد يدركُ إن سياسة (الإصلاحات) البريطانية شكل من أشكال المناورة قــُصد بها اختراق الصفوف والسيطرة على الجميع ، ولكنه لا يقدم برنامجاً إصلاحياً مضاداً لتخفيف الاستغلال البشع للبحارة والغواصين وأعمال السخرة والإفقار ضد المزارعين ، وهو سكوتٌ يعبر عن استمرارية البنية الاجتماعية العتيقة بكل رواسبها القروسطية .
【الزائد وعبدالوهاب الزياني】
مثّل الشيخ عبدالوهاب بن حجي الزياني وأحمد بن لاحج البوفلاسة الدينامو الثنائي لقلب الحركة السياسية (الوطنية) ، فالأول خاصةً هو المتواجد عبر العرائض المختلفة لتشكيل المجلس التشريعي المنتخب ، المقدمة إلى شيخ البحرين عيسى بن علي آل خليفة ، وهو المتحرك ضد استيلاء الإنكليز على السلطة في سنة 1923 .
إن عبدالوهاب الزياني كان من كبار ملاك زمن الغوص ، والشخصية النموذجية على المستوى الاقتصادي ــ السياسي ــ الإيديولوجي للطبقة المسيطرة ، ومثــّل مصيره ومصير رفيقه في رحلة النفي أحمد بن لاحج مصير ملاك الغوص وعالمهم الآفل .
وكما ربط عبدالله الزائد نفسه بالطبقة المهيمنة ككل ، فقط ربط نفسه بهذين الزعيمين في الوطن ، والمنفيين بعدئذٍ إلى الهند ، حيث كان معهما أثناء الكفاح في الداخل ، كما كان معهما في المنفى زائراً ومحاوراً .
أي أن الزائد حاول أن يلعب دور الرابط السياسي والفكري بين القيادة المنفية وجسمها الاجتماعي المبعثر بعد ضربات الإدارة البريطانية المتتالية .
زيارات المتكررة لهما في الهند(10) توضح هذه العلاقة السياسية الخفية التي حاول الزائد القيام بها ، رابطاً حلقات العمل الوطني المتعددة مع بعضها البعض ، فهو إذ يقابل الزعيمين المبتعدين ، فإنه ذو صلات جيدة مع الشيخين محمد وعبدالله ابني عيسى بن علي ، وهما كانا المؤيدين للتحرك الوطني ، كما له صلاته بالمثقفين . .
من هنا كان الزائد هو القائد السياسي الصغير الطالع من خلال الحطام لتحول سنة 1923 ، ولنرى بعض أفكار منظومته في رثاء الشيخ عبدالوهاب الزياني المتوفى سنة 1925 ، حيث هي ذات دلالة دقيقة على موقفه وتطوره .
ويبدو عبدالوهاب الزياني في هذه المنظومة وكأنه كل (الحركة الوطنية) ، فهو الوحيد الذي ملأ خشبة المسرح السياسي ، وبدونه ليس ثمة سوى الموت والانهيار .
كنتَ الغياثَ وكنتَ نبراس الهدي غبشت بفقدكَ ظلمة وضلال
أو قوله :
والقوم في نومٍ وجــــــهل وفي صف العــــــــدو أمالهم فأمالوا
ماتت نفوسهمُ ووهت عزماتهمُ فمصيرهم بعد الخمول زوالُ(11)
ليست هذه اللغة انفعالية فحسب ، ولكنه تقرير حاد لتحول جذري في الحياة السياسية ، حيث تلاشت المقاومة ، وقبل الجميع بالسيطرة الأجنبية ، التي لم تعد شخصاً قابلاً للحوار ، بل (عدواً).
إن الزائد يقيمُ تضاداً حاداً ، هو جزءٌ من منهجه العاطفي الساخن ، بين قسمين في المجتمع: الأول هو عبدالوهاب الزياني: فهنا العلم والكفاح والتضحية والهدى والمطر والمكرومات و(قمر الحياة) والدين والإخلاص والأفضال والفعل والذكاء ، وهناك في القسم الثاني نقائض ذلك ، أي الجهل والأنانية والتأخر والهوى والنوم والخمول وغيرها .
في هذا المنهج التعميمي التجريدي ، تحويلُ الواقع إلى فردٍ ذي صفاتٍ عظيمة أو رديئة ، وتتلاشى ن هذا التصور عمليات التحليل للواقع وللظروف ، وبذلك يفتقد التصور قدرته على التجذر والاستمرارية ، ويغلب عليه الانفعال والذاتية .
لا يوجد في المجتمع حسب تصور الزائد قوى حية تواصل رسالة الزياني (الوطنية) ، إلا (صحبة حاذقون وآل) ، وهذه الصحبة الحاذقة الحية هي الوحيدة الخارجة من تلك الصفات المذكورة أعلاه.
إن (الصحبة الحاذقة) تشير إلى وجود نواة وطنية مستعدة لمشوار الكفاح ، وليست قصيدة الزائد إلا بيانها السياسي يدبجهُ الناظمُ كمنشور مستغلاً أدوات الشعر لنشره ، مع غياب الصحافة . وسيغدو الشعر للزائد نظماً بيانياً سياسياً للمهمات المطلوبة وطنياً . وهو ليس شعراً في حد ذاته ، حيث تسودُ الخطابية والنثرية والصرامة العقلية .
وكما قرأنا كلمة (عدو) ، حيث تتحول السلطة البريطانية إلى احتلال معادٍ ، فإننا نقرأ كلمة (الشعب)(12) ، ونقرأ كلمات (الثورة) وكل ظلالها . ونجد الدعوة القومية ، واعتبار ثورة البحرين جزءً من ثورات العرب ضد الاستعمار .
وقد اختار الزائد في منشوره الشعري ثورتي السوريين والمغاربة ضد الفرنسيين كمثال للثورة المطلوبة محلياً ، سواء كانت بشكل هبة شعبية كما فعل السوريون ، أو بشكل نضالٍ مسلح كما فعل المغاربة ، وعدم التطرق إلى الدول التي يحتلها الإنكليز هو إشارة واضحة لما ينبغي فعله وضد من .
لقد اختار الزائد مناسبة وفاة الزياني المؤثرة لينشر بياناً فيه نقد شديد للمتقاعسين عن النضال ، ثم فيه برنامج محدد للثورة التي ينبغي أن يقوموا بها فوراً !
وإذا كان الغرب صديقاً محتملاً فإنه الآن شيءٌ آخر ، والمطلوب إزالة سيطرته .
والغرب أغدر خائنٍ وقعت به رغم التجارب والعظات رجالُ
والمطلوب هو:
إن الشعوب مصيرها في كفها تسدي النفوسُ وتبذلُ الأموالُ
إذن قرر الزائد المهمة الأساسية وهي: الثورة !
هذا القرارُ الذي أتخذه ونشره في الوطن والعالم العربي أيضاً ، قد يكون قراره الشخصي ، أو قرار (الصحبة الحاذقة) ، لكنه بكل تأكيد كان يمثل فعل النخبة الوطنية السنية في ذلك الوقت ، وحراكها المستمر نحو الوعي الديمقراطي العام ، أي بدء انتقالها الملموس من التعبير عن الطائفة إلى التعبير الوطني الشعبي العام .
ولكنه أيضاً وبكل تأكيد ، يمثل هذا القرار قفزة في الهواء ، فهو فعل سياسي لنخبةٍ صغيرة جداً ، لا توجد لها علاقات عميقة وواسعة بالناس ، الذين لا يزالون مقسمين ، ولم يتبلور لديهم رأي وطني عام يجمعهم لرفض التدخل والاحتلال .
أي أن اندفاع هذه النخبة لخلق ثورة ، في سنة 1925 حيث الثورتان السورية والمغربية مشتعلتان ، لا يمتلك أية أسس موضوعية وذاتية ، ولا يؤدي سوى إلى انكسارات واحباطات لدى تلك النخبة ، وخاصةً لدى الناطق الشعري ــ النثري ــ البياني باسمها وهو الزائد .
و لا يزال النهج الفكري العام للزائد متواجداً تحت ثنايا كلماته ، فالغرب يغدو خائناً ، لأنه كان صديقاً ، مما يعبرُ عن استمرارية النهج ، وانقلاباته النفسية ، دون المراجعة الفكرية العميقة .
فهذه الطريقة شخصنةٌ للقوى الموضوعية ، وتذويب للواقع بطبقاته وقواه ، مما يؤدي إلى ذبذبة الموقف وقابليته للانكفاء ، وهذه الشخصنة للتطور والموقف ستكون مسئولةً كذلك عن الانقلاب المضاد للزائد بعد سنوات .
【بعض ركائز إيديولوجية الزائد التنويرية】
في سنوات العقدين الأول والثاني من القرن العشرين كان الفكر الديني المحافظ هو المسيطر الكلي على الوعي ، وشعاراته الأساسية تجسدت لدى الشيخ قاسم المهزع في عدم الخروج على (الشرع) وبرفض البدع والانضواء تحت لواء (الملة) الإسلامية ، أي عدم القبول بفكرة القومية العربية وبالآراء الحديثة المختلفة ، المعبرة عن تنامي دور الطبقة الوسطى الفكري والسياسي،(14) .
ورغم السيطرة الشديدة للوعي المحافظ ، إلا أن صلات المجتمع البحريني بالدول الأكثر تطوراً في المنـــــــطقة ، والتوغل البريطاني و(بدعه) المختلفة ، كانت قد بدأت تخلخل هذا الوعي الذي رافق البحرين في القرون السابقة ، على مستوى البلدة البحرية ، وعلى مستوى القرية ، أي على مستوى النظام الاجتماعي ككل .
وفي قصيدة رثاء الشيخ عبدالوهاب الزياني لا يذكر الزائد (الأديان) ، بل يركز إلى الدعوة للعمل ، ويرى تطور الماضي مرتبطاً به ، ومن هنا يطالب بإعادة نشره ، ويدعو الشباب إلى السيطرة على الحاضر وتحويل الواقع ، من خلاله .
في هذه القصيدة يرى العالم العربي من خلال بعض المشكلات المحددة الخاصة ، فهو ينقد الأغنياء البخلاء ، وأطباء العلاج الاجتماعي المرضى ، ولا ندري من هؤلاء ، فهل هم رجال الدين ؟ إن الزائد لا يفصح عن ذلك ، ولكن سنرى إن ذلك يتضمنهم بكل تأكيد .
لقد حوّل تاريخ الماضي العربي إلى تاريخِ عزٍ وعدالة مطلقة تشعُ على العالم ، إنها النظرة التجريدية المثالية إلى الماضي ، والتي تحولهُ إلى شعارٍ مشعٍ ، وتحاول استعادته حاضراً ، دون أن تتمكن من الدخولِ إلى سيرورته العميقة والحقيقية ، مثلما هي لا تقومُ بالدخول إلى تضادات الحاضر البعيدة .
لكن هذه الدعوة التعميمية تبتعدُ ، بشكلٍ واضحٍ ، عن التفكير الديني المحافظ ، ودون أ، تعاديه أيضاً ، وهي تركزُ حول دور العلم في الماضي ، وأهمية انتشاره في الحاضر :
(يعوزُ رقينا أبناء علم ـــ إذا ما فكروا أتضح المعمى) ، (يعوزُ رقينا تعميم علم ـــ وتشييد المدارس حافلات) ، (فيا شرق انتصر بالعلم) الخ . .
هذا الإلحاح على العلم ، وربطه بالشباب ، ودعوة الشباب لامساك اللحظة الحاضرة ، تتوافق مع طبيعة الزائد الشابة عام 1922 ، المتجهة إلى تكوين غضبة مناوئة للاستعمار ، والتي كان الشيخ عبدالوهاب الزياني قائدها السياسي ، ولكن الزائد يتقدمُ على الجميع بهذه الإيديولوجية التنويرية ، وهذا التوجيه الشبابي ، الذي يعني ابعاد القوى المحافظة عن توجيه الرأي العام ، فهؤلاء المحافظون يسجنون الوعي الوطني في مسارات طائفية ، ومن هنا كان لا بد من تغيير هذه المسارات المتوازية ، في تيار وطني عريض .
فإذا أخذنا المنظومة المتناثرة من التعبيرات الزائدية المستخدمة وهي:
العلم ــ الشباب ــ العدو الأجنبي ــ الشعب . .
فسوف ندرك أن ثمة لغة إيديولوجية جديدة تنبثق من خلال وعي الزائد ، وتتحركُ في الحياة ، جامعةً الشباب في طليعة حديثة ، تتجاوزُ ثنائية المذهبين ، متجاوزةً القوى العتيقة غير القادرة على فهم الوضع وتوجيهه ، ورغم إنها لغةٌ إيديولوجية عامة ، مجردة ، ليست ذات تحليل موسع للواقع ، ماضياً وحاضراً ، وإنها لغةٌ انفعالية ، صاخبة ، ذاتية ، إلا أنها الإيديولوجية الجديدة الخطيرة وهي تنبثق من القديم ، معبرةً عن الجديد المتشكل والصاعد لتجاوز نظام التبعية .
【الزائد عند وفاة الشيخ عيسى بن علي】
كان وضع البحرين في نهاية العقد الثالث هو الاحتضار الواضح للمنظومة الاجتماعية القديمة ، وبدء تشكل البنية الجديدة ، أي بنية البحرين التابعة ، المسيطر عليها سياسياً واقتصادياً وثقافياً حتى سنة الاستقلال 1971 .
في سنوات 1925 ــ 1928 ، حاول الزائد أن يدعو للثورة دون أن تتشكل شروطها الموضعية والفكرية ، مما جعلهُ هدفاً واضحاً للسلطة البريطانية ، فحدثت له قضية مفتعلة هي قضية اللؤلؤة الزائفة ، وتم نفيه عن البحرين لمدة سنتين من 28 إلى 1932 .
كانت البلد في ذروة الأزمة: انهيار أسعار اللؤلؤ وتفجر الأزمة الاقتصادية العالمية وعدم وجود مورد اقتصادي جديد للبلد ، ولعدة سنوات تالية لم يتحسن الوضع إلا عندما بدأ استخراج وتصدير النفط .
لقد بدأ مسارٌ آخر ، لم تعد فيه قوى الغوص ــ الزراعة مؤثرة في التشكيلة الانتاجية ، وقد كانت هي الأساسُ الموضوعي لثنائية الطائفتين ، وبدأت طبقات جديدةٌ في التبلور وهي طبقات العمال والتجار المستوردين والشرائح البرجوازية الصغيرة والطلبة والموظفين الخ . .
حينئذٍ بدأت المراكزُ الدينية تــُنافسُ من قبل المؤسسات الحديثة ، وهي المدارس والأندية والجمعيات الثقافية ، التي تهيأت لها الفرص لزرع أيديولوجية عامة في الشعب لتوحيده في مواجهة الهيمنة الأجنبية .
وكان الزائد قد بدأ يلقي بذور هذه الأفكار في التربة المهيأة والمستعدة للتحول الجديد .
في سنة 1932 ، وبعد سنوات من الغربة والتشرد والترحال والاكتشاف ، فإن الزائد لم يفقد إيمانه بالتحرر والشعب وقضية التقدم . وواصل إنتاجه ونشره لتلك الإيديولوجية التنويرية التي كان الواقع في أمس الحاجة إليها .
في هذه السنة المضطربة التي حدثت فيها انتفاضة الغواصين وهدمت فيها دور الغناء البري ، توفى الشيخ عيسى بن علي ، رمز السلطة الوطنية لدى الجيل السابق ، فرثاه الزائد في بيان نظمي آخر ، لكنه أقل حدةً ومباشرةً من بيانه في رثاء الشيخ الزياني ، فقد علمته الغربةُ والتجربة . وكن إلى أي حد تطور خطابه السياسي التحويلي للحياة ؟
لم يزل الزائد في منظومته مؤيداً للحكم الوطني السابق في شخص الشيخ عيسى بن علي ، الذي أبكاه فقده ، وتخيله محاكماً للذين خذلوه وداعياً الناس للوحدة . يقول:
إن انقسام الرأي أقوى هادمٍ أبداً عدواً للشعوب لدودُ(15)
إن وحدة الناس ، في الطبقات العليا والدنيا ، صارت ضرورةً لمقاومة الاستعمار ، وهذا الوعي الذي توصل إليه الزائد ، سوف يــُرجم إلى شعار وطني أساسي ، ستنبثق عبره كافةُ الحركات الفكرية والاجتماعية الوطنية .
هنا تم تجاوز الثنائية المذهبية ، و الابتعاد عن الطرح الديني / المذهبي ، ومن خلال تشكيل إيديولوجية تنويرية ، ولم يبق إلا انتشار الدعوة وتجذرها .
إذن استطاع الزائد أ، يبلور خطاً فكرياً جديداً ، معتمداً على مقولات النهضة العربية وحركة التحرر العربية المتنامية ، وهو خطٌ فكري شامل ، لكنه يعتبر نقلة كبيرة وهامة في مسار الوعي البحريني .
لقد بدأت هذه الأفكار الوطنية تتعزز مع تطور البنية الاجتماعية الجديدة ، ذات العلاقات الرأسمالية ، والتي أوجدت طبقات وفئات تمازجت فيها الطائفتان ، وتداخلت فها المدينة والقرية ، سواء كان ذلك في الأوساق ، أم مدينة المنامة ، التي غدت عاصمة البحرين (الرأسمالية) ، خلافاً للمحرق عاصمة الغوص والبنية القديمة ، أو في الدواوين الحكومية وأمكنة الإنتاج المختلفة.(16)
إن تعزز الأفكار الوطنية غذاه التطور الموضوعي للحياة، وكذلك أنشطة النخبة المثقفة في الأندية والتي بدأت منذ العشرينيات مستوحيةً شعارات النهضة العربية: النادي الأدبي ــ النهضة ــ العروبة الخ . .
وكذلك غذاه التبادل الثقافي والشخصي مع البلدان العربية والأجنبية كالهند .
【تحول الزائد】
لكن الزائد الذي لعب دور البلورة الفكرية لخط الوحدة الوطنية والمواجهة ، هو الذي راح يتعاون مع النظام الاجتماعي في سنوات الثلاثينيات وما تلاها .
فما الذي حدث بين سنوات 1932 إلى سنة 1939 والتي افتتح فيها جريدة البحرين؟
ما الذي دعاهُ إلى هذا الانقلاب في توجهه السياسي؟
هل يعودُ ذلك إلى انهيار عمله كتاجر لؤلؤ والانهيار العام للغوص؟
هل يعودُ ذلك إلى صلاته الحميمة ببعض الشيوخ الذين هم أنفسهم راحوا يتعاونون ويساهمون في النظام الاجتماعي؟
هل يعود ذلك لتوجهه لآمال تجارية مختلفة كالاشتراك في ملكية صالة سينما البحرين ، التي كانت أول سينما وإلى بدئه التعامل التجاري مع الشركات البريطانية الأمريكية؟
إن الأمر يعودُ إلى كل ذلك ، وهناك قرار ــ على ما يبدو ــ أتخذه الزائد للتعامل بإيجابية مع النظام الاجتماعي الجديد ، والذي ترسخ ، فراح يتخذ مسلكاً سياسياً جديداً ، كان من شأنه ، تبدل حياته الشخصية الصعبة المنهكة ، واستمراره في نشر أفكاره وبطريقة مختلفة وواسعة الانتشار والتأثير بالتالي في مجرى الحياة .
إن النظام فتح أبواباً اقتصادية جديدة ، ولعب استخراج النفط وتصديره دوراً ضخماً في أبعاد شبح الأزمة الاقتصادية وتغيير حياة الناس المعيشية إلى حدٍ ما .
من هنا دخلت شعاراتُ الزائد المحرضة ضد الاستعمار ، في منطقة انعدام الوزن السياسي ، وأدت الصداقات المهمة دورها في التعجيل بهذا التحول ، خصوصاً إن أصحابها كانوا متفقين سابقاً مع الزائد في رفض التدخل الأنكليزي في الشؤون الداخلية ، والآن عادوا للتعامل مع السلطة الجديدة التي ثبتت أقدامها في الواقع والتحق الأهالي في مشروعاتها المختلفة .
لم يعد للمقاومة من قاعدةٍ ، تلك المقاومة المتجهة لتحويل النظام بالقوة .
لكن المقاومة انتقلت إلى ميادين أخرى . ميادين تثبيت المشروعات النهضوية ، خاصةً عبر المؤسسات الصناعية والاقتصادية والمدارس العامة والخاصة والمسارح والمطابع والجرائد والأندية وترقية أحوال الناس المعيشية ونشر الخدمات المختلفة .
هذه البنية الجديدة التي أندمج بها الشعب ، المتحول من طائفيتين إلى نسيج وطني واحد ، لعبت فيها (الطبقة)* الوسطى دوراً سياسياً مركزياً ، دافعةً الأمور نحو التصادم الكبير مع الاستعمار ، خاصةً في سنوات 1954 ــ 1956 .
ولكن عملية التصادم الكبيرة والشاملة احتاجت إلى عدةِ عقود لكي تبرز بتلك الصورة القوية الواسعة ، فكانت هناك عدة حلقات تطورية قادت إليها ، وحتمت الانفجار فيها .
ويأتي دور الزائد في الحلقة الأولى ، حيث راح ينشر فكرَ النهضة والإصلاح ويستقطب قوى التنوير في مشرعاته الثقافية .
https://abdullakhalifa.blogspot.com/2...
عبـــــــدالله خلــــــــيفة عرض ونقد عن أعماله
Published on July 29, 2019 07:06
•
Tags:
1-عبدالله-الزائد
No comments have been added yet.


