2 ⇦ بلزاك: الروايةُ والثورةُ

في روايته (الثأر) نقرأُ نفس الارتكاز على بؤرة الانقلاب الاجتماعي السياسي، فعودةُ المَلكية فوق جثة الجمهورية تُعطي لوعي بلزاك القومي هزةً نقدية تحليلية لواقع فرنسا.
العتبةُ السرديةُ الروائية ليست منفصلةً عن بؤرة الرواية، فالرجلُ الكورسيكي القادمُ من تلك الجزيرة إلى العاصمة باريس، يحملُ ابنةً صَبيةً منقذة من مجزرة في قريته في تلك الجزيرة حيث الثارات العائلية الريفية تمثل البقايا الاجتماعية لما قبل الرأسمالية، وهو هنا يدخل في قصر الحُكم حيث بونابرت وأخوه ومكتبه القيادي، يقودان مرحلةً مختلفة من الثورة الفرنسية المُجهَّضة.
تمثل النابليونية الإمبراطوريةُ هزيمةً لمُثُل الثورة الديمقراطية حيث كانت تلك المثل في غبش الولادة للنظام الرأسمالي، وكان الصراع بين الشمولية والديمقراطية مُتلبساً، والصراع بين اليعاقبة والجيرونديين مُستقطباً غيرَ منتج لتيار تحولي ثوري ديمقراطي، والذي سوف يتكون عبر عقود القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
إن تحديات الثورة الفرنسية جمعتْ القوى المحافظة في القارة الأوربية، وتوجهتْ للقضاء عليها، ولم يكن سوى جيش نابليون ينهي هذه التناقضات الداخلية والخارجية، لكن عبر إقامة دكتاتورية شخصية فئوية، وكان بطلُها القادم من جزيرة كورسيكا تعبيراً عن القوى العسكرية ذات الجذور الريفية التي ترسملتْ ولكنها ما تزالُ تحتفظُ بأجزاء من بناءٍ فوقي إقطاعي مضادٍ للبناء التحتي الرأسمالي المتغلغل عبر العقود.
يغدو النظامُ الإمبراطوري النابليوني معبراً عن القومية الفرنسية في صعودِها وغزوها للبلدان الأوربية وفي حفاظها على إستقلال فرنسا المُنتهك من قبل الغزاة الذين تمكنوا من كسر الإرادة الفرنسية الحرة.
فليس تكرار البؤرة هو عمل عفوي، إنها وطنية بلزاك الأبية وقد وجدتْ في نابليون رمزاً، وهنا يقوم الرجلُ الكورسيكي ذو الشيم الريفية المتعصبة بالدخول في عالم الطبقة المسيطرة المترجرجة عبر هذا التاريخ المضطرب.
إنه يطلبُ الحمايةَ من صديقه نابليون حيث كانا من منطقة واحدة، ومطالبه الانتقامية تُرفض من قبل بونابرت زعيم الدولة، لكنه لا يمانع من التستر على جريمته في قتل خصومه في عملية الثأر الفظيعة التي جرت، والتي لم ينجُ منها من العائلة الأخرى سوى ولد سيكون له شأن في هذه الرواية المُقامة على الصراع القَبلي والصدف الاستثنائية.
بقرارت ذاتية تمكن من نقل (بارتولوميو) العامي إلى طبقة النبلاء، وعاش هو وعائلته في أصيصٍّ زجاجي خارجَ التاريخ السياسي لحين دخوله في التاريخ العائلي المتصادم مرة أخرى.
فلم تؤد الإطاحة بنابليون في تغيير موقع هذا النبيل، ولم يشارك في عمل تاريخي أو سياسي، ليكون تحت خدمة بلزاك في حفرياته الروائية.
العتبة السردية في الرواية كانت تُدخلُ إلى البؤرة المأساةَ العائلية الثأرية المستمرة عبر الأنماط الفردية.
عتبةٌ أخرى تنشأُ في المرسم حيث مجموعات من البنات يشتغلنَّ في لوحاتٍ وتدريبات فنية على يد أستاذ هو الآخر نابليوني الهوى.
بدت هذه العتبةُ منقطعةً عن العتبة السابقة لكنهما إتصلتا عبر تنبيهات الراوي وتنامي الحلقات التي يشيدها، فالصراعُ بين الفتيات الارستقراطيات والبرجوازيات يشيرُ إلى مناخ فرنسا المتقلب، حيث المَلكية العائدة والنابليونية المهزومة، وتظهر ابنة الكورسيكي صاحب القضية الثأرية النبيل حالياً، ذات حضور آخاذ في المرسم، وحيث مهارة الراوي تندغم بالتشكيل.
لكن هذه الحلقة تتضاءل مع ظهور بؤرة الرواية وهي العلاقة العاطفية بين هذه الابنة وضابط شاب من جيش نابليون المهزوم يعاني جراحه، ويقعُ تحت عيني هذه الفتاة!
وسرعان ما تشتعلُ هذه العلاقة وتتعملق فوق جزئيات الرواية الأخرى.
حبكةٌ بدأت من جزيرة في البحر الأبيض المتوسط وتناسجت مع صراعات سياسية تاريخية وإنفصلت عن الشبكة هذه كلها، لتتعقد داخلياً وتتفجر مأساة.
وطنيةُ بلزاك الرومانسية تجمع هنا شخصيات الحلم القومي البونابرتي في بنيةٍ تتشكل عبرَ الصدف، ولكن الحلم القومي الثوري مات في الواقع، وقد أنجبَ أسرةَ حب في مرسم فن، بين ضابط جريح شجاع، وفتاة عاطفية وطنية، وتتمكن بقايا عالم الإقطاع وعادات الثار وعدم التطور الديمقراطي في الريف عامة، من هزيمة الحب وعدم نجاح الشابين في البقاء زوجين ثم حيين وقد إنقطع الأهلُ عنهما وعاشا في ضنك عنيف.
تمكن زمن ما قبل الرأسمالية من هزيمة الوطنية، ويشير هذا إلى ضعف الُبنية الرأسمالية الوليدة وضعف تطور القوى الفلاحية المؤيدة للدكتاتورية البونابرتية، وهذه الشموليةُ مُصعّدةٌ في وعي بلزاك الروائي على شكلِ مأساةٍ في عائلة فردية.
ما هي علاقةُ مأساة العوائل المتقاتلة في الجزيرة بنابليون والصراع مع المَلكية العائدة؟
إن التطور الجمهوري الديمقراطي الذي أطلقته الثورة لم يستمر لضعف الطبقة المنتجة له، وكان نابليون الذي قفزَ عن هذا التطور وغمر الفلاحين العسكريين بخيرات البلدان المغزوة، وطورَ من البنية الرأسمالية عبر هذه الهيمنة الشمولية فهو أعادَ المَلكية بشكل متطور، فكان لا بد أن يغدو رمزاً لها، وهكذا غدتْ العوائلُ الريفية تعيشُ مأساةَ ما قبل الرأسمالية وعجز الرأسمالية عن التطور الشامل معاً.
وبطبيعة الحال كان لا بد أن يكون (الأبطال) البارزون هم من (الوطنيين)، وهنا فإن بلزاك يتعاطف مع هذه القوى الفلاحية والوطنية، لكنه يرفض عدم تطورها الاجتماعي لكنه لا يغوص لمجمل تناقضات البُنية التي خلقتها بهذا المستوى.
غياب التحليل على المستوى الروائي بعدم تطور الشخصيات وعدم قيام علاقات واسعة في الرواية، يواكبه تحول البؤرة الروائية إلى قصة عائلية، فالأبطال الوطنيون لم يتطوراً نضالياً، ولم يتخلصوا من تخلفهم الاجتماعي، ولم يجعلوا الحب مزيلاً لعادات الثأر.
وأمام الحيثيثات الواقعية الجزئية المرصودة والمتنامية روائياً، والمأخوذة من عيناتٍ حقيقية جرت في التاريخ الحقيقي، فجثمتْ الشخوصُ والحبكة في مستوى الانعكاس الجزئي، ولم تقرأ التحولات الراهنةَ والمنتظرة في بنية رأسمالية جنينية.
لهذا فإن الفلاحين هم أكثر حضوراً هنا وفي أعمال أخرى، لكنها كطبقةٍ تتعرض للانهيار والتحول، ولا تستطيع سوى أن تكون ضحيةً وليس قوة تغيير وطنية في النمط الرأسمالي الوليد، الأمر الذي يؤهل العمال لذلك، عبر تحولات متصاعدة تاريخياً.
في روايته (سرفيتا) ينعطف بلزاك نحو جنس روائي يسميه (قصة من الدراسات الفلسفية) وهو جزءٌ من الملهاة الانسانية، وتمثل طبيعة مختلفة عن الأجزاء الأخرى من الملهاة، فالمكانُ الذي يغدو مكاناً للسرد ليس من تلك الأمكنة التي إختبرها بلزاك الممثلة لتطور البنية الاجتماعية الحديثة، فهنا ليس ثمة مدينة ولا ريف، بل صقيع، وجزءٌ ناء من شمال أوربا حيث النرويج لا تزال في ضباب التطور الحديث.
فهو كما ينعطف نحو جنس روائي مختلف ينعطف نحو بُنية مختلفة، بُنية ما قبل الرأسمالية الحديثة.
الافتتاحيةُ وعتبةُ الروايةِ المتوجهة نحو البؤرة تصورُ بشكلٍ آخاذ طبيعة النرويج:
(فالبحر يتغلغل في كل مكان، لكن الصخور تتشقق فيها بشكل مغاير وجروفها الصاخبة تتحدى التعابير الغريبة للهندسة، هنا صخر قد تسنن لمنشار، وهناك موائدٌ كثيرةُ الاستقامة لم تعان من إقامة الثلوج فوقها ولا من ذوائب شجرات التنوب الشمالية المهيبة)، ص 6، سرفيتا، وزارة الثقافة السورية 2001.
هذا الوصفُ المطول لمشهد الطبيعة ينزلُ إلى السكان:
(في أسفل جبال جرافيس تقبعُ القريةُ المؤلفة من نحو مئتي بيت من الخشب، حيث يعيش سكان ضائعون، كما تضيعُ قفائرُ نحل في غابة، وهم يواصلون العيش دون أن يتزايدوا أو يتناقصوا ساعين وراء تحصيل معيشتهم من قلب تلك الطبيعة المتوحشة)، السابق ص9.
هو إختيار لمشهد مجّمد عن حراك التاريخ الاجتماعي، كعتبةٍ نحو البؤرة الروائية، التي تظهر فجأة على قمة هذا الجبل الذي لم يصل أحدٌ إليها!
التكوين الطبيعي الساحر يقود للتكوين البشري السحري، والساردُ المؤلفُ الدائمُ الحضور سابقاً في العروض الاجتماعية يتحولُ لعرضٍ فكري:
(إن كل مبدأ متطرف يحملُ في ذاته مظهرَ النفي وعلائم الموت: أليست الحياة صراعاً بين قوتين: فليس هناك ما يغدر بالحياة. قدرة واحدة تسود دون معارضة هي قوة الجليد غير المنتجة)، ص 14.
هذا التحليلُ غيرُ التاريخي المجردِ سيحوله المؤلفُ لطبيعةٍ إجتماعية مجردةٍ غيرِ قابلةٍ لنفاذِ التناقضات الاجتماعية.
شخصيتان تظهران فجأة في تلك القمة الجبلية الصقيعية، وهو ظهورٌ غير موضوعي فنياً، بل من قبلِ الإرادةِ الحرةِ للسارد، المتداخلة مع الإرادة الحرة المُتخليَّة للإله:
(في صبيحة يوم كانت الشمس تلتمع فيه.. مر شخصان على الخليج وعبراه وطارا.. فارتفعا نحو القمة وقفزا من إفريز إلى إفريز).
نرى المنزلقين الاثنين اللذين يصعدان الجبال: سرافيتوس وسرفيتا. كائنان كما أنهما يخرقان نواميسَ الطبيعة الجبلية كذلك يخترقان نواميسَ الجنس والعيش العادي.
(قالت وقد بدرت منها حركةٌ ميكانيكية لترمي بنفسها: إنني أموت يا حبيبي سرافيتوس.. فنفخَ سرافيتوس برفق على جبينها وعينها؛ فبدت فجأة كمسافر تمتعَ بحمامٍ منعش). ص 17 .
سرافيتوس حين نفخَ فجأةً غيّرَ شعور سرفيتا. (تقول من أنت لتكون لك هذه القوة فوق قوة البشر وأنت في هذا العمر؟) ص 19.
كأن القوة الخارقة له هي من خرق ناموس العمر وليس خرق ناموس الطبيعة عامة.
الصوفيةُ تتدفقُ في كلام سرفيتوس:
(إن أردتِ أن تكوني نقيةً فضعي دائماً فكرة العلي القدير في عواطف الأرض) ص24 .
يُبنى السردُ على تجريدٍ غرائبي يعطي لشخصياتِ السماويين إمكانيات عجائبية: عبور الجبال، والقيام بمعجزات، والعيش بين الأرض بتضاريسها القاسية والسماء بغموضها السرمدي المكتمل غيباً.
ويعتمدُ تصوير المعجزة السردية على تغلغل السماويين في البشر العاديين وجلبهم للخوارق التي يصنعونها.
لهذ فإن ولفرد الرجل المتغرب العائش في النرويج سيكون هو محطة التجريب العجائبي هذه.
فمينا التي بدأت بالالتحاق بالمعجزة الربانية المتجسدة في شخصية سرفيتوس عبر التأثير الخارق غير المرئي لنا،
(إنت مثل الكمال المثبط للهمة). (لماذا تبعدني عنك، أريد أن تكون ثرواتي الأرضية لك، كما أن لك ثروة قلبي، ولا أرى النور إلا من خلال عينيك، كما يشتق فكري من فكرك)، ص 24.
لكن سرفيتوس لا يمكنه العيش على الأرض حيث الوضع متقلقل، فيريدُ السماء، ويعد مينا للالتقاء بها هناك!
يقول: (لا يمكننا أن نقيس المدى الواسع للفكر الإلهي فلسنا فيه سوى قسمة صغيرة بقدر ما الله كبير)، ص 25.
ويضيف (إن الإنسان ذاته ليس خلقاً نهائياً، وإلا ما كان الله موجوداً).
يقوم سرفيتوس بتنظيرِ صوفيةٍ تقيم تضادات كلية بين الإنسان والإله، بين العالم الموضوعي والعالم المتخيّل الغيبي. الإنسان يغدو عابراً، والمجردات أبدية. في حين إن الإنسان من نمط سرفيتوس يصنعونها في شروط مجردة، في عالم الثلج النرويجي، حيث الرأسمالية نائمة.
تسأله مينا: كيف وجدتَ الوقت لتتعلم كل هذه الأشياء؟ يقول إنه لا يتعلم بل يتذكر، يعيدُ إتصالَه بالغيب، بالفيضِ الإلهي فينزلُ في رأسه، في تضاريسِ المادة الخشنة.
الصوفيةُ التقليديةُ خاصة في العالم الشرقي هائلة ويعيدها بلزاك إلينا:
(إننا أحد أكبر منجزات الله. ألم يمنحنا القدرة على أن نعكس الطبيعة وأن نركزها فينا بالفكر، وأن نجعل منها مرقاة نحوه؟ إننا نتحاب بقدر ما تحويه أرواحنا من السماء قليلاً أو كثيراً.).
أنعطف بلزاك من كونه روائي قريب للمادية والواقعية وتحليل الصراعات الاجتماعية إلى كونه متصوفاً، يصورُ كائناتٍ خارقةً، وهذا التذبذبُ من الماديةِ بدون التوغل العميق فيها ثم القفز للمثالية غيرِ الموضوعية، وتلك العروض الفاحصة للكائنات الاجتماعية المخبرية ثم هذه القفزة للمطلق في زمنيةِ ما قبل الرأسمالية، تعبرُ عن أدوات وعي البرجوازي الصغير في جمعهِ بين المثالية والمادية، بين اللاواقعية والواقعية، بين الإقطاع والرأسمالية.
في رواية (سرفيتا) السابقة الذكر تعودُ عملياتِ التحول والنشؤ الأرضية لمصدرٍ سماوي، وحتى عمليات الفعل الإرادي من حبٍ وكره وأعمال أخرى تكون صدىً للسماء. وهي مثاليةٌ ذاتية، لا موضوعية، تعودُ بالفكر لما قبل التنوير وهيجل.
يدعو سرفيتوس (مينا) لتحبَ (ولفرد) القوي الإنساني، وحتى هذه الرغبة فهي جزءٌ من جدول السماء المُنزل (وُجدَ لكِ).
يقول: أطيعي الحواسَ وأشحبي مع الرجال الشاحبين.
تغدو القيثاراتُ وكلماتُ الشعراء والوجوه والأزهار كلها صدى للسماء. ويتحول سرفيتوس لضبابٍ إلهي. وهو يستطيع أن يخضع المادةَ ويسيطر عليها ويتجاوزها كما يفعل في قمة الجبل العالية الثلجية!
ينزلان إلى الأرض، فيصير سرفيتوس سرفيتا، وتبقى مينا فتاة، وتدخلان بيت الكاهن بيكر، حيث النص الديني المتوارث، الذي يحاول بيكر إنتصاره في هذه البيئة الصوفية الغامرة بدون نجاح.
يتحول سرفيتوس إلى سرفيتا وتعبر الأرض وتجثم في مرقدها قرب خادمها ديفيد العجوز.
هو سرفيتوس والخادم يراه فتاةً اسمها سرفيتا، حيث الروح العليا تحول الكائنات برهافةٍ شعرية.
حين تظهر سرفيتا بشكل مكتمل، وتستعيدُ طابعَها الأنثوي، يظهر ولفريد الرجل السائح المتغرب، والذي لا يريد أن يكّونَ علاقةً مع مينا بل مع سرفيتا، التي تروي له كيف ذهبتا للقمة الجبلية وقد كانت بشخص سرافيتوس. هذه التناسخية الفنية البلزاكية تجعل الشخوص من عجينةٍ مطاوعةٍ بيد السارد.
يلخص ولفرد الطريقة البلزاكية الخالقة هنا المتداخلة مع الخلق الميتافيزيقي:
(أنت لا تقبلين شيئاً من العالم، وتحطمين التسميات فيه، وتفجرين القوانين، والتقاليد، والعواطف والعلوم)، وكان يمكن أن يوجز: أنكِ تدمرين الواقعَ الموضوعي عبر الوهم.
وترد: (إنني لستُ امرأة، فأنت على خطأ بحبي).
وهي تتكلم بقدرة إلهية ثم تعود لتتكلم بصيغ أنثوية ممزقة تابعة للرجال، فتقيم تضاداً كلياً كذلك بين الرجال والنساء:
(يا للنساء المسكينات! إنني أرثي لهن) ولكن القدرات السحرية لا تفعل هنا شيئاً في تغيير الواقع.
عبر هذا السرد الحدثي الشخوصي التجريدي يتوجه بلزاك للصوفية ويقيم تشكيلةً بشريةً وجودية من ثنائيات:
(فلسفتُهُ: ثنائيةُ الروحِ والجسم تصيرُ واحدةً مشتقة من فعل الصاعقة غير المرئي، بينما تتقاسمُ الأخرى مع الطبيعة الحساسة تلك الطبيعةَ الرخوة التي تتحدى الفناءَ مؤقتاً..). والتكويناتُ الميتافيزيقية تلجأُ للتعبير من خلال المادة الشعرية هنا.
يدخل بلزاك في نشوةٍ صوفية سردية محولاً النماذج إلى طيوف، والأرض الصلبة إلى بخار، فيذكر أن الأعراض:
(تشبه غالباً الحلم الذي يشغف به الترياقيون حيث تغدو كل حليمة مركز نشوة مشعة). ص 44.
إنتقال بلزاك لهذا الجو الصوفي المضاد لواقعيته إستقاه من قراءته لأعمال سويدنبرغ الصوفية:
يعيش سويدنبرغ عالماً سماوياً وأرضياً، حيث يتكلم مع الملائكة ويعيش مع الناس في حياته اليومية!
الإعجاز ناتج حسب التفسير الرائج الديني عنه من ضخامةِ مؤلفاته وأعدادها الكثيرة وهو أمر يبرر طابعها السماوي المساعد!
وقد قام بلزاك بإدغام تصورات سويدنبرغ وعمل تحويرات في تصوراته مكيفاً إياها لرؤيته ولطبيعة النص الروائي، راجع الهامش في ص 67.
(والاتحاد الذي يتم بين روح الحب وروح الحكمة يضعُ المخلوقَ في الحالة الإلهية حيث تكون روحُهُ امرأة وجسمُهُ رجلاً).
هذه خلاصةٌ لفلسفته التي سوف يجسدها بلزاك روائياً.
القدرات الخارقة لهفليتوس وسرفيتا الكائنين المختلفين المتوحدين العائدين للسماء، يدفعان المادي ولفرد للاقتناع العاطفي المتحمس للصوفية والاتحاد مع مينا.
يتكون هذا العمل من أثر المناطق التي تعيش ما قبل الرأسمالية، ما قبل الحداثة، حيث تلعب الأرياف الفرنسية كذلك دوراً مؤثراً في هذا، كذلك يظهر أثر التباين بين وعي الناس المختلف، حيث يعود الوعي الديني بعد فورة التنوير الملحدة الفرنسية، ولهذا يعود السارد لمرحلة الديانات الأولى وكيف هي باقية حتى الآن، وللمعجزات الخرافية وحادثة السِن الذهبية التي طلعت لصبي بشكل إعجازي، تبين بعد ذلك كما يقول الشارح في الهامش أنها سِنٌ ذهبية مُركبة، ويذكر الشارح إهتمامات بلزاك المبكرة بالتنجيم،(ص 83).
لكن المسألة تعود للوعي الديني المحافظ لبلزاك، الذي يساير الكاثوليكية وبالتالي الوعي الشائع، ويردد عبارات المدح للكتاب المحافظين في فترة الردة عن زمنية التنوير. (كما في رواية: آمال خائبة).
إن بقاء الأفكار الدينية ومُثـُلها الأخلاقية يؤسسُّ أوضاعاً مستقرة للبشر لم تنجح الأفكارُ الثورية في تشكيل بناء إجتماعي علماني وعلمي قوي وثابت، ويغدو الكاتبُ البرجوازي الصغير في حالاتِ تذبذبٍ دائمة بين اليسار واليمين، بين مُثُل الثورة ومثل الثورة المضادة، بين الجمهورية والمَلكية، بين المادية والمثالية.
إن النصَ الروائي يخضع لهذا التذبذب الذي تحددُهُ لحظة الموقف والبنية الاجتماعية الثقافية المتأسسة في حينه، فهنا تحدد اللحظةُ والبُنية الاجتماعية ما قبل الرأسمالية وجود وحراك الشخصيات والأحداث، فالبناءُ التقليدي الديني والوعي الصوفي المستثمر من خلال سويدنبرغ الذي عبرَ عن ذلك المجتمع وكل التاريخ القروسطي والقديم تعاونا في خلق الموقف والشخوص، فبلزاك قارب سويدنبرغ، وهنا الحداثي البرجوازي الصغير يمضي لأقصى اليمين الروحي، وإستعانَ بأدواتِ فكرهِ الملغية للموضوعية والمادية المخترقة لها عبر الروح، ولهذا تم تكييف الأحداث والشخوص بمنهجها.
كما بقيت الأدواتُ المنهجيةُ التعبيرية بمستوى المادة الاجتماعية اليومية الفرنسية التحديثية بصراعها الليبرالي والمَلكي، أو الثوري والتقليدي، المترددة في بناء إجتماعي سياسي قلق لبرجوازية حديثة في طور التكون ما تزال، تعودُ هنا في النرويج لما قبل الحداثة، وتلغي تناقضات المرحلة الفرنسية البرجوازية الملكية، لتحيا على مفردات الإقطاع الثقافي الدينية.
الروايةُ تغدو ملحمةً برجوازية (شعبية) بقدرِ ما هي سردٌ يعبر عن صراع وتعاون الطبقتين الرئيسيتين في التاريخ الرأسمالي وهما البرجوازية والعمال.
إنها لا تغدو (ملحمةً) إذا كانت برجوازية صرفةً بخلاف ما يقول المنظر جورج لوكاش، فملحميتها تتطلب نقيضها الاجتماعي، تتطلب حضور الطبقة العاملة، وحين لا تحضر ولا يتوسع الرصد الفني للكل الاجتماعي تخفت الملحميةُ كما هو شأن روايات بلزاك الأخيرة حيث أن رصده للفئات البرجوازية والارستقراطية يغدو هو الشامل، ولم يقم برصدها في فترة ثورتها الشعبية، بشكل موسع سوى عبر رواية وحيدة تم رصدها في هذا التحليل وهي عن صراعات المَلكيين والجمهوريين على الحدود، أو برصدها عبر الصراع مع العمال.
إن عناوينه الجانبية للروايات مثل (دراسات فسلفية) و(مشاهد من حياة الريف) ومشاهد من الحياة الخاصة ودراسات طبائع ، تعطي جانبين متضادين، الأول هو قصص ذات رؤى مثالية مسبقة، ليس هي دراسات فلسفية، أما رواياتُ المشاهد فهي تصويرٌ واسع أو ضيق لشخوص وأحداث في ظرفٍ إقتصادي مدروس ومحلل ومسرود معاً.
هذه الثنائية الفكرية التعبيرية تجسد غياب رؤية البنية الاجتماعية بشكل مادي تاريخي، وإعتمادها على الملاحظات الاجتماعية والاقتصادية الشخصية، وهي التي تصلً حينا لسببياتٍ عميقة في البنية الاجتماعية في لحظة تاريخية محددة، وحيناً تسقطُ عليها رؤاها المثالية، فلا تصلُ لشيء من ذلك.
وهذا التباين يتواصل مع تطور كتابة المؤلف حيث لا ينتهي برؤية تحليلية تاريخية نموذجية، بفضل إعتماده على النماذج الجزئية المنسوخة من الواقع، فلا تغدو ثمة عملياتٌ فنية تعميمية، فيما الروايات المثالية تعتمد على البناء المثالي التجريدي أو الرومانسي الفردي.
وهذه الثنائيةُ ودلالاتها تعكس غياب الرؤية الفلسفية التحليلية لظاهرات المجتمع، وكما أن إلتصاق بلزاك بالقوى الإقطاعية البرجوازية المتداخلة، يبعده عن رؤية دور الطبقة العاملة فهو كذلك لا يقترب من المادية التاريخية التي كانت بعد مثل العمال في الممكن القادم بإنتظار التراكمات الفكرية الاجتماعية.
إن الرؤية التي يكونها وينتمي لها الروائي تتشكل في خلال تطوره الكتابي الشخصي، وفي البنية الاجتماعية في لحظتها التاريخية، وملحميتها وغناها يعتمد على ذلك.
إن الروائي لا يستمر في تلحليل المجتمع مثل عودته للاسطورة، وهنا في الرواية التالية نجد عودته للرومانسية.
في رواية (الولد الملعون) التي تدور في الزمن الإقطاعي الصرف هيمنة النبيل المطلقة وهو النبيل المتوحش الذي لا ينتجُ حركةً حية إلا بشكل مرضي بولادة الابن المشوه والذي هام في الطبيعة، فيما لا تظهر الفئة المتوسطة جنين البرجوازية في إلا في الطبيب الفرد ذي الوعي الشامل.
في هذه الرواية والتي تُرجمتْ عَربياً عبر وزارة الثقافة السورية، (دمشق 1992)، نقرأ هذه اللغةَ التفصيليةَ النحتيةَ في تكوينِ وحفر المشاهد، المقدمات التعبيرية التي تؤهلُ بلزاك للتغلغلِ في الُبنى الاجتماعية. إن لقطات الأم المقبلة على ولادة متعسرة مضنية والعائشة مع زوج إقطاعي متوحش، لتتواصل ببطءٍ شديدٍ عنيف، والمؤلفُ يرسمُ بدقةٍ بالغةٍ جسدَ الأم وصراخَها العنيف المكتوم داخلها، وتقلبها الهادئ الرزين في السرير، حيث يجثمُ الزوجُ الوحش، وكيف يستمر الطلقُ رهيباً، وكيف تكونُ الولادةُ في الشهر السابعِ جريمةً بالنسبة للزوج، حيث لن يجدَ سوى طفلٍ خديج.
الولادةُ المتعسرةُ توقظُ الأبَ، وشكلهُ البشعُ يقوم برسمه المؤلفُ بشكلٍ دقيق تفصيلي، ولكن الأبَ يطلبُ مجيء طبيب في المنطقة ليسرع بالتوليد في تحولٍ مفاجئ.
اللقطات تحفر تاريخ الشخصيتين الزوجة والزوج بشكل منفصل عن العالم، مثلما نسمعُ البحرَ وهو يدقُ جدران هذا القصر والصخور التي تحمله، ونتابعُ قصةَ المرأة التي تكاثرت أملاكُها الوراثية بسبب موتِ أقربائها في الحرب الدينية المشتعلة بين الكاثوليك والكلفانية البروتستانتية، مثلما نتابعَ إهتمامَ الزوج بهذه المرأة والسيطرة عليها وإبعاد صديقها والقضاء عليه، وحصر هذه المرأة في عالمه، وإنتظار خليفته وهو ابنه الوريث، لكن خليفته يظهر بهذا الشكل المشوه، وكأن الأمَ تريدُ القضاءَ على الصلة بالزوج.
هنا ثنائية تناقضية تصادمية في الجنس، فليس ثمة علاقة أخرى تجمع هذين الكائنين المتباعدين روحاً.
زمن الحياة هو زمن ما قبل الثورة الفرنسية، هو زمن الإقطاع، وهوهنا في هذه الرواية هو مجردُ إمتيازاتٍ إقطاعية، فالثروةُ لا تأتي للمرأة سوى عبر الحروب وبموتِ أهلِها، وبقيام الزوج بالاستيلاء عليها، لكن الروائي لا يقوم بتحليل المجتمع بل يركز على هذه الكائنات النادرة المفصولة.
وحتى تلك الحرب التي تحضرُ كخلفيةٍ تاريخيةٍ سلبية لا صلةَ إجتماعية لها في تلافيفِ العلاقاتِ الشخوصية والحدثيةِ الروائية، فهي حربٌ دينية، لكن فرنسا الكاثوليكية تحسمُ خيارها الديني وتلقي عملية الإصلاح الديني جانباً فيما قبل الثورة بسنوات طويلة.
إن عدمَ حضور السيرورة الطبقية التاريخية لفرنسا هنا في الرواية هو نتاجُ أسلوبِ المؤلفِ بلزاك، فهو يعرضُ الشخوصَ والأحداثَ في وحدةٍ تركيبيةٍ مشهدية دقيقة متصاعدة، إنه يحفرُ في الشخصيتين الأب والأم بشكل عابر نحو ولادة الابن الأول فالثاني، ويقومُ الطبيبُ الخبير في كل شيء بذلك الزمان بدور الخيط الرابط والسببية الخالقة، بإعتبار أن الثقافةَ هي الخلاقةُ الفعليةُ للنمو النبيل، وقد كان الطبيب في زمنية إنهيار العصور الوسطى ما يزال مجموعةً من العلوم والمهن، حيث أن الطب هو موسوعة الثقافة كابن سينا في عصره، وفيه نجدُ الرياضياتَ والسحرَ والفلك، فيقومُ الطبيبُ بدور التوليد للأجساد وللعالم الرومانسي معاً، من حيث ولادة الابنين ومن حيث العلاج للأمراض الجسدية بل وحتى الاجتماعية حين يجعل الابن الأول المريض يتزوج من فتاةً أعدها له، وبهذا فهو ينقذُ العائلةَ من غياب وريثها ومن موت الابن الثاني القوي والذي وُلد طبيعياً في تسعة أشهر.
وفي حين إن العلاقات الإقطاعية من حروب تقضي على الابن الأصغر، تقوم الثقافة والحب بمعالجة أخطاءها، في رومانسية بلزاكية لإستمرارية الإقطاع العتيق غير المحلل.
إنها بنية فنية منغلقة في العائلة المعزولة عن الصراع الاجتماعي.
فنحن نرى الابنَ الأول المريض الهزيل يعيش طويلاً خارج القصر وقرب الطبيعة، ويغرق في الثقافة والموسيقى وحب الكائنات، مما يشكلُ وجهاً رومانسياً، مضاداً للعلاقات الاجتماعية الشريرة القبيحة في تهافت الأب على الأملاك والحروب، في حين يقع القبح في العلاقات الاجتماعية السائدة، في القصر والحروب وحكم الكنسية والملك هنري الرابع، وهي تعميمات لا نراها مجسدة إلا في سلوك الأب الإقطاعي القبيح الشرس، والذي يتفتقُ عن شراراتٍ إنسانية في ختام حياته.
تتوسع رواياتُ بلزاك في الفترة الأخيرة من حياته كرواية (النسيبة بت)، لكن هل غادر المنطلقات العامة التي تشبثَّ فيها؟
إن بؤرةَ الصدام بين مرحلةِ الثورةِ الفرنسية وعودةِ المَلكية لم تعد قادرةً على تغذيةِ التناقض الصراعي المتوتر، فالماضي الثوري غدا متجَّاوزاً، وبين بدايةِ العشرينيات ومنتصف الثلاثينيات من القرن التاسع عشر حدثت تطوراتٌ كبيرةٌ في البُنيةِ الاجتماعية الفرنسية، فلم تثمرْ عودةُ المَلكية في تصعيدِ الارستقراطية التي ذُبلتْ مواردُها وتحول بعضُها للرأسمالية وأنهارَ بعضُها الآخرُ للحضيض الاجتماعي كما رأينا في نماذج عدة، وراحت رواياتُ بلزاك تعرضُ هذه الأحداثَ والتطورات في مشهدياتٍ كثيرة راصدةٍ وجودَها الراهن، مبتعدةً عن الجذور والتوسع في طبقات أخرى.
لهذا فإن بؤرةَ التناقض زالت، والطبقتان المتعاديتان تداخلتا في بعض، فبعضُ قوى الماضي بقي في الإداراتِ الجديدة، وبعض قوى الحاضر الرأسمالي صعدَ للقمة، فالتناقضُ بين الطبقتين لم يعد قادراً على إشعال موقد التوتر الصراعي السردي، فالنماذجُ القديمة المضادةُ للارستقراطية ذابتْ وترسملت، وهي تلك النماذج الاستثنائية كالوكونيل شابير التي لم تعدْ تطفح على سطح الواقع لتثيرَ نيران التناقض. أن الطبقتين المتصارعتين طويلاً غدتا طبقة واحدة.
ولم يجد بلزاك تناقضاً إجتماعياً كبيراً في الحقل الاجتماعي يشتغل عليه بإتساع كما هو حال التناقض السابق، ولهذا نقرأُ روايةَ (النسيبة بت) في هذا الضوء.
إن ثمة شخصيات محورية من الزمن النابليوني لا تزالُ تتنفس ولكن في عالم مختلف.
أهمها البارون هيلو والسيد كروفيل، اللذان مثلا تلك الجماعة البونابراتية التي تغيرت سبلُها في العيش، ففيما صعد هيلو في الإدارة إلى مرتبة الوزارة وصار (نبيلاً) أعتمد كروفيل على التجارة الشعبية المذمومة في عرف الارستقراطيين لكنه حقق نجاحاً كبيراً.
لقد إصطدم نموذجا عهد الثورة الآفلة هيلو وكروفيل لكنهما إصطدما حول الاستئثار بعشيقات، وطوال أحداثِ روايةٍ كبيرة بحجم (سبعمائة صفحة من القطع الصغير في الترجمة العربية، عن دار عويدات ببيروت) وهو أمرٌ يعبر عن تحلل هذه الفئة، وتقوقعها حول ذواتها وبدون أن تخوض معارك تحولية جديدة في المجتمع، فيما تبقت نماذج نادرةٌ من العهد السابق منقذةً ومُحتفظةً بشرفها الجمهوري.
إن العتبات الأولى في الرواية البلزاكية المعتادة الموجهة نحو بؤرة الرواية تختفي في رواية (النسيبة بت)، فالبؤرةُ الروائية تظهرُ منذ البداية حيث نرى زيارة كروفيل لبيت البارون هيلو ولقائه بزوجته البارونة (أدلين) حيث يراودها عن نفسها عارضاً بوقاحة مزايا مادية كبيرة، إنتقاماً من زوجها الذي خطفَ عشيقته المغنية!
أدلين المرأة المتقدمة في السن والمحتفظة بجمالها ترفض ذلك إيماناً منها بالمُثُل المسيحية وحباً في زوجها رغم معرفتها بخيانته.
هذه اللحظة الافتتاحية الواسعة المتحركة بين البيت ذي الأثاث القديم الرثِ والحديقة، تتضافرُ مع حركةِ النسيبة بِت ومراقبتها الفضولية وهي التي تجلسُ مع الابنة أورتنس، ومن هنا تبدأ الخيوطُ في الظهور والانسياح في كافة الاتجاهات الحدثية.
النسيبةُ بِت التي تتخذُ الرواية من اسمها عنواناً، قادمة هي الأخرى من الريف كذات عائلة النبيل فيلو التي لم تكن نبيلة لكن خدماتها للثورة ونابليون صعدتها، لكن بِت لا تزال فقيرةً وهي منمطمةٌ ومعقدةٌ ومليئة بالحقد والتظاهرِ كذلك بفعلِ الخير وخدمة العائلة في الوقت التي تقوم بنخرها، أنها نموذج البرجوازي الصغير المدمر، وهي تعقدُ علاقةً مع مهاجر فنان بولندي هارب من بلده أثر ثورة فاشلة، وهو يقدمُ على الانتحار لكنها تنقذه وتتملكهُ كعبد وتدعي تطويره، وهو يرضخ لارادتها ويتغير، فتسيطرُ عليه مؤقتاً، ريثما يحب بشكل حقيقي ابنة فيلو البارون (اورتنس)، ويفلت من شبكة بِت، ليقعَ في شبكة أخطر هي شبكة الجميلة البغي التي يقع معظم رجال الرواية في حبها، وتصطادهم وتعطيهم مواعيد مختلفة، وتستفيد من أمكنة متعددة، فيما بيتها هو مكان الحفلات والعلاقات.
محور الرواية شخصية فيلو البارون تترابط خيوطُها مع زوجته وابنته وعشيقته الجديدة التي يجمع الأموال من أية جهة وخاصة من مورد عائلته، ومن جهاز الدولة، ومن مساعدة قريب له هو (خاله) الذي يسافر للجزائر التي خضعت للاستعمار الفرنسي حينئذٍ ويضاربُ في قمح الدولة ويتعرض للسجن فينتحر، ينتزع هيلو البارون أي مال لكي يلقيه في حريق شهواته الذي لا ينطفئ حتى آخر سطر من الرواية.
فيما منافسه كروفيل يلاحقه ويكتشف علاقته بـ(السيدة مارنيف) فُيغيرُ على المكان ويلقي شباكه على تلك المرأة الفاتنة التي تصطاده وتسحب جزءً كبيراً من ثروته.
فيما تقوم النسيبة بت بحبك المؤامرات لمن تستفيد منه، وهي تشعر بالغبن حين يتخلى عنها الفنان البولندي ويتزوج أورتنس فتتزعزع العلاقات داخل الأسرة، التي لا تنتبه لهذا وينحدر الأب فيها لمهاوى الأفلاس ويتبرأُ منه أخوه المحتفظ بالمُثُل القديمة ويطرده من الوظيفة، ويعيش متخفياً في أمكنة حقيرة، ويظل يطارد البنات الصغيرات ويموت على هذا.
شبكةٌ كبيرةٌ من الشخصيات والعلاقات وهي كلها تدور في الحاضر، وبالسرد المباشر، المتصاعد، وتغدو الالتفاتات للماضي محدودةً وتجري من قبل الراوي المسيطر المهيمن على السرد، حيث يقدم خلفيات للشخوص والأحداث ويهتم إهتماماً شديداً بكمِ النقود التي يحصلون عليها بدقة شديدة، ووظائف تحصيل هذه الدخول، والبيوت التي يسكنون فيها، والتغييرات المعمارية التي تستجد وفواتيرها، ومن يربح في هذه الدخول ومن يخسر، وكيف تتسبب الميزانيات في الصعود أو الانهيار للشخصيات المختلفة.
يقدم بلزاك الشخصيات والأحداث بإنسيابية عفوية، فليس ثمة عقدة كبيرة، بقدر ما هي شهوات بعض الرجال الحادة التي تعبرُ عن فراغ روحي فكري، وهي كلها ضمن الطبقة السائدة التي بدا أنها تراكمُ الثروةَ من قبل الفرع البرجوازي وتخسر الثروة في الفرع الارستقراطي، الذي لم يستطع إنتاج مهن جديدة.
فيما كانت الشخصيات التي تبيع قوة عملها، كِبت التي تعملُ خادمةً ثم تستغل موهبتها في الخداع والدس في جمع ثروة، فهي أشبه بحشرة سامة متسلقة، فيما الفنان (لونسيسلاس) يبيعُ مادةَ موهبته المحدودة التي لا يثريها بالتواضع والدرس فتذبل.
فيما الغواني يعشنَّ على الجمال الذي يزول بكوارث، فستفيد الشخصيات الحشرات العالقة من هذه الكائنات كزوج ( السيدة مارنيف).
هذا العرض الواسع المتشابك للشخوص وتطورات الأحداث ينمو بصدامات غير جوهرية في البناء الاجتماعي، فالعاشقان الغنيان المتصارعان عبر البيوت والشقق والحفلات والهدايا ونسج العلاقات الجزئية الأخرى لنفس البؤرة يخثران السرد في هذه التطورات غير الدرامية، ولا تضيف الشخصيات الثانوية حطباً لهذه النار الخافتة، والجميع يتحلل ويذوب وتتحول الأمكنة من البيوت والفلل الكبيرة إلى الشقق الصغيرة والحارات الشعبية.
تناقض الطبقتين الارستقراطية والبرجوازية الذي تغذى به روي بلزاك في رواياته الاجتماعية القصيرة المكثفة يُفتقدُ بشكل متواصلٍ مع غيابِ أساسه الاجتماعي، وإندماج الطبقتين اللتين غدتا طبقةً واحدة من أصول مختلفة، ويظل الصراع على طبيعة المَلكية حيث تعبر عن بقايا الارستقراطية التي لم تعد مطلوبة ولكن بلزاك لا يتعرض الصراعات التاريخية بل يدرس مشاهد إجتماعية قاطعاً إياها عن سيرورتها وتطوراتها اللاحقة وهو منهج يحيل الحبكة إلى درس موضعي، ومن هنا يقوم بتهّميش أفرادَ الطبقة العاملة فتظهر على هيئة أفراد تابعين وممسوخين، ولهذا تغدو هي المفقود الاجتماعي في هذا العرض البلزاكي الواسع والتي هي القادرة في حضورها على تأجيج التناقض فنياً كما تفعل ذلك إجتماعياً وسياسياً، ولهذا تغدو رواية بلزاك رواية برجوازية عائلية تفتقد الصدامات الاجتماعية الواسعة.
http://www.ssrcaw.org/ar/show.art.asp...
http://www.alraafed.com/2017/05/19/8751/
http://www.akhbar-alkhaleej.com/12744...
https://isaalbuflasablog.wordpress.co...
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 10, 2019 11:54 Tags: 2-بلزاك-الرواية-والثورة
No comments have been added yet.